مقدمة لفضيلة الأستاذ الدكتور منيع عبد الحليم محمود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أستاذ التفسير وعلوم القرآن وعميد كلية أصول الدين بالقاهرة- جامعة الأزهر الشريف الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأطهار الطيبين أفضل الصلاة وأتم التسليم وبعد..
يقول الله تعالى معبرا عن الحكمة فى إرسال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» .
ومن دعاء سيدنا إبراهيم، وسيدنا إسماعيل، وهما يرفعان القواعد من البيت: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» .
من هذه الآيات ومن غيرها: نعلم أن الحكمة فى إرسال الرسل، إنما هى تبليغ آيات الله، أى تعاليمه وأحكامه وتكاليفه إلى بنى البشر، إن الله تعالى: لم يرد أن يترك البشر دون هداية فى الأمور الأساسية لبناء المجتمع وهى: العقيدة، والأخلاق والتشريع، فأرسل لأهل الأرض الدستور السماوى الذى يؤدى اتباعه والعمل به، إلى تزكية النفس وتطهيرها وصفائها.
فالأديان والرسل إنما كانوا لبيان الأسس والقواعد التى لا يقوم المجتمع الصالح بدونها، وكانوا أيضا لمصلحة الفرد التى تتمثل فى الارتفاع به إلى مستوى التزكية والطهر والصفاء وهو مستوى يجد فيه من يحققه السعادة كل السعادة والبهجة كل البهجة، ويشعر كل من يرتقى فى معارجه منغمسا فى نور هداية الله سبحانه بالسكينة تحيط به وبالطمأنينة تملأ جميع أقطاره ويشعر فوق كل ذلك رضوان من الله أكبر، حكمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إذن إنما هى إسعاد المجتمع وإسعاد الفرد والرقى بالجميع وبالإنسانية إلى المستوى الذى يرضاه الله لهما وهو المستوى الربانى.
يقول الله تعالى فى حديث قدسى: «من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضت عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» .
__________
(1) سورة الجمعة: 2.
(2) سورة البقرة: 129.(المقدمة/1)
وفى هذا الحديث الشريف يبدأ الله سبحانه بالتوجيه فى قوة إلى صفاء القلب وطهارة النية لأوليائه وأولياوه هم:
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ومن عاداهم فإنما يعادى المؤمن التقى ونتيجة هذه العداوة ما يقوله الله تعالى: «آذنته بالحرب» .
ثم يرسم الله تعالى الطريق إلى حبه: وأول خطوة فى هذا الطريق أداء ما فرضته عليه، ولن يتأتى حبه تعالى دون الشرط الأول شرط القرب منه سبحانه، وهو أداء الفرائض.
والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب، بل إن أداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله.
لقد ترك قوم العمل وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» . لابد من أداء الفرائض وإلا لما كان لمهملها إلى القرب من الله تعالى من سبيل ومع أداء الفرائض فى جو القرب- الإكثار من النوافل، فإذا أكثر من النوافل أحبه الله تعالى. ويترتب على حب الله تعالى للعبد هذا الخير الكثير الذى ذكره الله سبحانه فى الحديث القدسى.
ويربط أسلافنا- رضوان الله عليهم- ربطا محكما بين محبة الله تعالى واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم متناسقين فى ذلك مع توجيه الله سبحانه قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» .
وهذا الربط معناه الربط بين محبة الله تعالى والعمل.
ومقدمات محبة الله تعالى هى العمل. ونتيجة محبة الله هى العمل، يقول الإمام أبو سعيد الخراز: وبلغنا عن الحسن البصرى رضى الله عنهما أن أناسا قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبّا شديدا فجعل الله تعالى لمحبته علما وأنزل عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» .
فمن صدق المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فى هديه وزهده وأخلاقه، والتأسى به فى الأمور كلها والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها، فإن الله عز وجل جعل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم علما ودليلا وحجة على أمته.
ومن صدق المحبة لله تعالى إيثار محبته تعالى فى جميع الأمور على نفسك، وهواك، وأن تبدأ فى الأمور كلها بأمره قبل أمر نفسك ويقول: فعلامة الحب الموافقة للمحبوب، والتجارى مع طرقاته فى كل الأمور والتقرب إليه بكل حيلة، والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه، أما عن صلة المحبة بالإيمان فإن الإمام الغزالى يقول: وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان فى أخبار كثيرة، إذ قال أبو رزين العقيلى: يا رسول الله، ما الإيمان؟
قال: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» .
وفى حديث آخر: «لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين» ، وفى رواية: «ومن نفسه» . كيف وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَ
__________
(1) سورة آل عمران: 31.
(2) سورة آل عمران: 31.(المقدمة/2)
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «1» ، وإنما أجرى ذلك فى معرض التهديد والإنكار.
وهى أيضا أن يجد حلاوة الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: 1- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. 2- وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
3- وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يلقى فى النار» .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة فى أقواله وأفعاله وأحواله.
يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً «2» .
ويقول الشيخ الصاوى فى شرحه على تفسير الجلالين (الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب فى الأقوال والأفعال والأحوال لأنه لا ينطق عن هوى، ولا يفعل عن هوى بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه) .
لذا قال العارف:
وحصل بالهدى فى كل أمر ... فليس تشاء إلا ما يشاء
والله سبحانه وتعالى يقول فى سورة النجم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3» وإذا كان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجبا فإن له شروطا لا يتأتى الاقتداء الصحيح إلا بتحقيقها، وقد ذكرت الآية الكريمة هذه الشروط. والشرط الأول منها:
أن يرجو الإنسان الله تعالى: ورجاء الله تعالى قد حذده الله سبحانه فى القرآن الكريم بقوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «4» فالعمل الصالح وعدم الشرك فى العبادة أمران لا زمان لمن كان يرجو لقاء الله فى صدق.
ويقول الإمام ابن كثير فى ذلك:
وهذا ركنا العمل المتقبل: لابد أن يكون خالصا لله، صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله إنى أقف الموقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطنى. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «5» .
رجاء اليوم الآخر هو الشرط الثانى والتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يتمثل فى العمل لهذا اليوم حتى يلقى الله فيه وهو عنه راض.
ويصف الله سبحانه الذين لا يرجون لقاءه، ولا يرجون اليوم الآخر فيقول: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «6» .
والشرط الأخير فى الوصول إلى التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذكر الكثير. ولقد سأل
__________
(1) سورة التوبة: 24.
(2) سورة الأحزاب: 21.
(3) سورة النجم: 3، 4.
(4) سورة الكهف: 110.
(5) سورة الكهف: 110.
(6) سورة يونس: 7، 8.(المقدمة/3)
رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: إن شرائع الإسلام كثرت على، فأخبرنى بشىء أتشبث به، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا يزال فوك رطبا من ذكر» .
والله سبحانه وتعالى يقول: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1» .
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدون به فى كل شىء ...
أخرج البخارى ومسلم ومالك والترمذى والنسائى وابن ماجه عن سعيد بن يسار قال:
كنت مع ابن عمر رضى الله عنهما فى طريق مكة فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: أليس لك فى رسول الله أسوة حسنة؟ قلت: بلى. قال: فإنه كان يوتر على البعير.
وأخرج البخارى ومسلم والنسائى وغيرهم عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة، ثم قرأ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «2» .
أخرج أحمد عن ابن عباس رضى الله عنهما أن عمر رضى الله عنه أكب على الركن فقال: إنى لأعلم أنك حجر ولو لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما استلمتك وما قبلتك لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» .
من أجل هذه الأسس الأصيلة فى الإسلام منهج الحب والاتباع أو منهج العبودية كان كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للشيخ أحمد بن محمد القسطلانى المتوفى سنة 923 هـ وهو حلقة هامة فى سلسلة طويلة من الكتب المباركة التى تناولت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن هو المصدر الأول الذى تستمد منه صفات الرسول وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، سئلت السيدة عائشة- رضوان الله عليها- عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن» . والقرآن كان يتحدث عن الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- حديثا مباشرا يرسم القواعد فى العقيدة والأخلاق ويصور فى الوقت نفسه الطريق الذى كان يسير عليه السراج المنير الرؤف الرحيم- صلوات الله وسلامه عليه-، فالقرآن إذن المصدر الأول الذى تستمد منه صفات الرسول وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
والمصدر الثانى هى كتب الأحاديث الصحيحة وخيرها صحيح البخارى يليه صحيح مسلم وكل كتاب من كتب الأحاديث على وجه العموم يخصص قسما منه لصفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، ثم يأتى فى المرتبة الثالثة كتب السيرة القديم منها والحديث.
ومن خير كتب السيرة سيرة ابن هشام والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلانى وكتاب الأنوار المحمدية للعارف بالله يوسف النبهانى.
والإمام أحمد بن محمد القسطلانى مؤلف المواهب اللدنية بالمنح المحمدية من قمم علماء عصره، فكان إماما حافظا متقنا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة حسن الجمع والتأليف لطيف الترتيب والترصيف زينة أهل عصره ونقاوة ذوى دهره، ولا يقدح فيه، تحامل معاصروه عليه فلا زالت الأكابر على هذا فى كل عصر.
هكذا وصفه علماء التراجم وذكر صاحب كشف الظنون مؤلفات عديدة له نذكر منها:
1- إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى.
__________
(1) سورة الجمعة: 10.
(2) سورة الأحزاب: 21.
(3) سورة الأحزاب: 21.(المقدمة/4)
2- الإسعاد فى تلخيص الإرشاد.
3- اللآلئ السنية.
4- مراصد الصلات فى مقاصد الصلاة.
5- النور الساطع فى مختصر الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع.
6- يقظة ذوى الاعتبار فى موعظة أهل الاغترار.
ويوضح الإمام القسطلانى فى مقدمة كتابه الذى بين أيدينا المنهج العلمى الذى اتبعه فى تكوينه حتى أصبح من أهم المراجع فى السيرة النبوية المشرفة والتى نعتبرها أيضا أهم تفسير للقرآن الكريم فى كل العصور وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ونعتبرها أيضا الرد السليم على الإلحاد ومهاجمة دين الإسلام فى عصرنا الراهن ويعبر بحق عن الفهم العميق لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكره الإمام الأكبر عبد الحليم محمود شيخ الإسلام- تقدس سره- مما يجعلنا ندرك قيمة هذا المصدر يقول:
يتحدث القرآن الكريم عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-، فى كثير من سوره، يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «1» .
ويقول سبحانه:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «2» .
ويقول سبحانه:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» .
ومن أجل هذه الصلة الإلهية برسول الله صلى الله عليه وسلم، أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى اتخاذ الرسول أسوة، فقال سبحانه:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً «4» .
بل أمرنا سبحانه أن نأخذ ما آتانا، وأن ننتهى عما نهانا عنه، وهددنا إذا لم نلتزم ذلك، فقال سبحانه:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «5» .
أما السر فى ذلك فهو:
1- أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: لا ينطق عن الهوى ولا ينحرف عن صراط الله المستقيم، ولقد أقسم الله تعالى على ذلك فقال سبحانه:
__________
(1) سورة الأحزاب: 45، 46.
(2) سورة النساء: 80.
(3) سورة آل عمران: 31.
(4) سورة الأحزاب: 21.
(5) سورة الحشر: 7.(المقدمة/5)
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» .
2- كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- فى جميع أحواله حركة وسكونا، إشارة ونطقا، قلبا وقالبا، يمثل القرآن الكريم، وقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- تطبيقا للقرآن، لقد لبس القرآن ظاهرا وباطنا، لقد كان قرآنا.
ولقد وصفته السيدة عائشة رضى الله عنها وصفا دقيقا حينما سئلت عن خلقه، فقالت: «كان خلقه القرآن» .
ومن كان خلقه القرآن كان أسوة، وكان قدوة، وكان على خلق عظيم، ومن هنا وصف الله سبحانه وتعالى له إذ يقول:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «2»
والحق، أننا حينما نريد أن نكون صورة واضحة تامة عن رسول الله، - صلوات الله وسلامه عليه-، فإن الطريق الوحيد لذلك: إنما هو الإحاطة بالقرآن إحاطة واضحة تامة، والإحاطة بالقرآن على هذا النسق ليست من السهولة بمكان، بل ليست بممكنة: فالقرآن فى كل يوم يتفتح عن معان جديدة للإنسانية، ويتفتح عن معان جديدة للشخص المتأمل المتدبر: وهذه المعانى الجديدة: - إنسانية عامة، أو فردية شخصية- إنما هى إيضاح وتفسير للصورة النبوية الكريمة.
والعكس أيضا صحيح، فإن المتدبر المتأمل فى الصورة النبوية الكريمة عن طريق السيرة الصحيحة، والأحاديث المعتمدة، يفهم عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كل يوم جديدا، وهذا الفهم إنما هو تفسير وإيضاح لجوانب من القرآن الكريم.
لقد امتزج الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالقرآن- كما قدمنا- روحا وقلبا وجسما، وامتزج القرآن به عقيدة وأخلاقا وتشريعا: فكان، - صلوات الله وسلامه عليه-، قرآنا يسير فى الناس، وكان القرآن روحا ينتقل، وكان قلبا ينبض، وكان لسانا ينطق بالهداية والإرشاد.
ولقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- حريصا كل الحرص على أن يكون خلق الأمة الإسلامية القرآن، لقد عمل على ذلك طيلة بعثته.
ويحدثنا القرآن الكريم عن موقف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من الأمة فيقول سبحانه:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» .
صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله.
ويتحدث- صلوات الله وسلامه عليه- عن حرصه الشديد على هداية أمته فيقول:
__________
(1) سورة النجم: 1- 4.
(2) سورة القلم: 4.
(3) سورة التوبة: 128.(المقدمة/6)
«مثلى ومثلكم: كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذهبن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدى» .
هذه هى صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه، وهذه هى صلته بأمته.
لقد ارتفع- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء بل وتجاوزها إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، لقد ارتفع إلى الأفق الأعلى فانغمس فى الأفق الأعلى وتلقى عن الله مباشرة كيفية الصلة به وهى الصلاة، ثم ... ثم انبسط إلى الأرض سراجا منيرا، رؤفا رحيما، هاديا، يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه.
يقول أحد الصالحين: «صعد رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء وتجاوز بذلك النهايات الكونية ثم عاد إلى الأرض لقد كان فعلا أدنى من قاب قوسين، أقسم بالله لو صعدت إلى السماء لما حاولت العودة إلى الأرض مرة أخرى» .
بيد أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- نبى ورسول فهو متصل بالله دائما: إنه فى السماء على الدوام، وهو متصل بالبشر، يؤدى رسالة السماء كاملة غير منقوصة. إنه كان على حد تعبير القرآن: بَشَراً رَسُولًا فهو ببشريته مع الناس، وهو بسره مع الله: إنه مع الناس بإرادة الله وتوجيهه وأمره، إنه مع الناس بكلمة الله ورسالته، إنه مع الناس رسول من قبل الله.
وبهذه المعانى كلها يمكننا أن نقول: إنه دائما مع الله ويمكننا أن نقول: إنه- منذ اللحظة الأولى للبعثة- لم ينزل إلى الأرض قط، وإنما كان دائما مع الله سبحانه وتعالى، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- يبيت عند ربه، يقول صلى الله عليه وسلم:
«لست كهيئتكم، أبيت عند ربى ... » .
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «1» .
إنه- صلوات الله وسلامه عليه-: «بشر» وما يجول فى خلد مسلم قط أن يخرجه عن البشرية، ولكنه- صلوات الله وسلامه عليه- «بشر يوحى إليه» .
وما يتأتى قط أن يوحى الله إلى بشر إلا إذا أصبح وكأنه قطعة من النور: صفاء نفس، وطهارة قلب، وتزكية روح.
فمنتهى القول فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
وبعض الناس حينما يقرأ القرآن الكريم، فتمر عليه الآية الكريمة: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «2» .
يقف عند كلمة: (بشر) فيحاول التركيز عليها وتوجيه الانتباه كله إليها، وتحويل الأنظار كلها نحوها، فيتحدث عن خصائص البشرية العادية ويبرزها، ويندفع فى هذا الاتجاه المنحرف اندفاعا لا يتناسب قط مع قوله تعالى: يُوحى إِلَيَّ* بل إنه فى اندفاعته الهوجاء ينسى يُوحى إِلَيَّ* ويهملها إهمالا.
__________
(1) سورة الكهف: 110.
(2) سورة الكهف: 110.(المقدمة/7)
إنه ليس بنادر فى هذا العصر الحاضر أن يجرؤ بعض الناس فيتحدث عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، وعن خطئه- معاذ الله- فى الرأى، وعن إصابته فيه، ويسير هذا البعض فى حديثه أو فى كتابته مستنتجا ومستنبطا وحاكما، وينسى فى كل ذلك:
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «1» ، وينسى فى كل ذلك:
يُوحى إِلَيَّ، وينسى: «لست كهيئتكم» ، وينسى:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «2» .
وينسى أن بعض المسائل يمكن أن تكون لها حلول مختلفة، كلها صحيحة: بعضها رفيق رحيم، وبعضها عادل حاسم، وأن الله سبحانه وتعالى قد بيّن للأمة الإسلامية أن رسوله- صلوات الله وسلامه عليه- وهو على صواب دائما- إنما يتخذ الحل الذى يتناسب مع ما حلاه الله به من الرأفة، وما فطره عليه سبحانه من الرحمة، وهو الحل الذى يتناسب مع طابع الرسالة الإسلامية العام:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «3» .
والله سبحانه ببيانه ذلك فى هذه المواضع التى كان من الممكن أن يقف فيها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مع العدالة الحاسمة، فعدل عن ذلك إلى الرأفة الرحيمة ... أن الله سبحانه وتعالى ببيانه ذلك، إنما يمدح الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، ويبين أن منزع الرحمة إنما هو الغالب عليه، - صلوات الله وسلامه عليه-.
ولم يلغ الله سبحانه اتجاها عاما سار فيه الرسول، ولم ينقض قضية كلية أقرها، - صلوات الله وسلامه عليه-، ولم ينف مبدأ أثبته رسوله، فما كان- صلوات الله وسلامه عليه- يسير إلا على هدى من ربه، وعلى بصيرة من أمره، وقد شهد الله له بذلك حيث قال:
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ.. «4» .
وما فعل الله فى كل ما تمسك به المنحرفون، وتمحك فيه المتمحكون إلا بيان رحمة الرسول، - صلوات الله وسلامه عليه-، ورأفته: أى أنه سبحانه كان يبين فى هذه المواطن فضله- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه- كما وصفه سبحانه-: على خلق عظيم، والبون شاسع بين هذه الوجهة الربانية، وبين التحدث عن خطأ وصواب، وأوضاع بشرية يركز عليها ولا يلتفت لسواها.
ولنضرب لذلك مثلا: أن الذين ديدنهم الجدل يتحدثون كثيرا عن قوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «5» .
ويقذفون مباشرة بقولهم: أن العفو لا يكون إلا عن خطأ.
ولهؤلاء نقول: أن الأساليب العربية فيها من أمثال هذا لكثير، ومنها قولهم مثلا: غفر الله لك، لم تشق على نفسك كل هذه المشقة؟
__________
(1) سورة النجم: 3.
(2) سورة النور: 63.
(3) سورة الأنبياء: 107.
(4) سورة الشورى: 52، 53.
(5) سورة التوبة: 43.(المقدمة/8)
عفا الله عنك، لم تعنّى نفسك فى سبيل هؤلاء؟ وكأن القائل يقول:
رضى الله عنك، لم ترهق نفسك كل هذا الإرهاق؟
أن الآية القرآنية من هذا الوادى.
وضم هذه الآية الكريمة إلى أختها التى فى سورة النور:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «1» .
تجد المعنى واضحا جليا، وهو أن الله سبحانه، فوض الأمر لنبيه، - صلوات الله وسلامه عليه-، فى أن يأذن لهم أو لا يأذن.
ليس النبى إذن معاتبا بهذه الآية- وحاشاه- بل كان صلى الله عليه وسلم مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، ولتخلفوا بسبب نفاقهم، وأنه مع ذلك لا حرج عليه فى الإذن لهم، إنها آية مدح للرسول غاية فى الرقة ... ومن غير شك قد صدر الإذن لهم عن قلب رحيم، وعن هذا القلب الرحيم، وعن هذه الرحمة الفياضة، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصدر فى أحكامه، وما كان فى ذلك إلا متبعا لقوله تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» .
وهكذا الأمر فى كل ما يمارى فيه الممارون.
ومع ذلك فإننا نريد أن نزيد الأمر وضوحا فى الفرق بين من يركز على «بشر» ومن يركز على «يوحى إلى» لأهميته الكبرى، فنقص القصة التالية، ذات المغزى العميق، والقصة يرويها ابن عطاء الله السكندرى رضى الله عنه فى شرحه لقصيدة ولى الله: (أبو مدين) رضى الله عنه، يقول:
زار بعض السلاطين ضريح أبى يزيد رضى الله عنه وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبى يزيد؟
فأشير إلى شيخ كبير فى السن كان حاضرا هناك.
فقال له: هل سمعت شيئا من كلام أبى يزيد؟
فقال: نعم سمعته قال: «من زارنى لا تحرقه النار» .
فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبى صلى الله عليه وسلم وتحرقه النار؟
فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم ير النبى صلى الله عليه وسلم، إنما رأى (يتيم أبى طالب) ، ولو رآه صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار.
ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه، أى أنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة، واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار، لكنه رآه باحتقار، واعتقاد أنه (يتيم أبى طالب) ، فلم تنفعه تلك الرؤية.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن أبى يزيد رضى الله عنه، وإنما نريد أن نتحدث عن كلمة الشيخ للسلطان من أن أبا جهل لم ير النبى صلى الله عليه وسلم وإنما رأى (يتيم أبى طالب) .
هذه النظرة لأبى جهل هى التى نريد أن يتنزه المؤمنون عنها.
__________
(1) سورة النور: 62.
(2) سورة الأنبياء: 107.(المقدمة/9)
والمؤمنون- بحمد الله- لا يقعون فى هذا الإثم متعمدين، وإنما يتسلل هذا الإثم إلى بعض النفوس فى صورة لا شعورية، عندما يركز بعضهم على بشرية الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وكأنه لا شىء فيه غير البشرية.
ومن الغريب أنهم حينما يتحدثون عن البشرية، ويركزون عليها يعتبرون أنفسهم تقدميين متطورين، وفاتهم أن هذه النظرة لأبى جهل إنما هى النظرة التى يتبناها المستشرقون والمبشرون فى العصر الحاضر، ليقللوا من شأن الرسول فى نظر مواطنيهم.
وما كان المستشرقون فى تركيزهم على بشرية الرسول إلا متابعين فى ذلك زعيمهم الأكبر فى هذه النزعة- وهو أبو جهل. وكل من يركز على بشرية الرسول من الكتاب المسلمين إنما هو بذلك يتابع المستشرقين والمبشرين فى هذه النزعة، أو يتابع أبا جهل وهم فى ذلك ليسوا تقدميين ولا متطورين، وإنما هم من الرجعيين حيث ترجع فكرتهم إلى ما قبل ثلاثة عشر قرنا مضت، يتزعمهم فيها أبو الجهل كله، وأبو الظلمة القلبية كلها!!.
ليس هناك إذن اجتهاد وخطأ وصواب، وإنما هناك تصرفات تصدر عن الكرم والرحمة، فيتحدث الله مبينا طبيعة رسوله الكريمة، وفطرته الرحيمة ورأفته الواضحة، ويبين فى الوقت نفسه: أن بعض هؤلاء الذين فاضت عليهم هذه الرحمة ليسوا جديرين بها وليسوا أهلا لها لفساد فطرهم وسوء نواياهم.
من الحقائق المعروفة أن الإنسان يميل إلى التركيز على: «بشر» أو على: «يوحى إلى» حسب قوة شعوره الدينى وضعفه، فالذى لا إيمان له لا يرى إلا البشرية، ومن ضعف إيمانه يركز على البشرية. ويخفف التركيز على البشرية كلما قوى الإيمان، ويزداد التركيز على:
«يوحى إلى» كلما ازداد الإيمان، حتى يصل الإنسان إلى ألا يرى أو لا يكاد يرى إلا «يوحى إلى» .
صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله.
وهناك إذن طرفان يمثلان فريقين من الناس. طرف: «بشرا» أو، «قل: إنما أنا بشر مثلكم» .
وطرف: «يوحى إلى» أو «رسولا» ، وبين الطرفين يتأرجح عدد لا يحصى من المسلمين نزولا وارتفاعا، انخفاضا وسموّا.
وأن مقياس الإيمان قوة وضعفا، مقياس درجة الإيمان الذى لا يخطئ، إنما هو ما وقر فى القلب أو غلب عليه، من البشرية أو من: «يوحى إلى» إنهما يمثلان ما يوضع فى كفتى ميزان.
دع ما ادعته النصارى فى نبيهمو ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ولعلك تتساءل الآن عن هذا الذى لا يرى أو لا يكاد يرى، إلا: «يوحى إلى» ماذا يرى؟ وكيف يرى؟.
ما هى النظرة التى تنأى بنا عن: «يتيم أبى طالب» لتقربنا من «الأسوة» ؟ كيف ينبغى أن تكون نظرة المؤمن لرسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-؟.(المقدمة/10)
والواقع أن الصورة الكاملة عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- يلزم لها أن يصل الإنسان إلى مستواه- صلوات الله وسلامه عليه- أو إلى ما يقرب من مستواه وذلك لا يتأتى.
بيد أنه إذا استحال ذلك فإنه من الميسور أن نورد صورتين، إحداهما: جاهلية، والآخرى إسلامية. والصورتان لسيدنا عمر رضى الله عنه.
أما الصورة الأولى: فإنها «يتيم أبى طالب» كان سيدنا عمر يراها قبل أن يهديه الله للإسلام، وأراد سيدنا عمر أن يقتل «يتيم أبى طالب» حتى لا تتفرق كلمة القرشيين بسببه.
ولكن دعاء رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بعمرو بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» كانت قد استجيبت لخير سيدنا عمر فهداه الله للإسلام، ولازم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فناله من بركاته ومن خيره ما هيأه لأن يكون الخليفة الثانى للأمة الإسلامية أجمع، وأن يعز الله الإسلام به فى حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه-، وبعد وفاته.
إن سيدنا عمر هذا الذى لم يكن للشيطان عليه من سبيل، والذى كان إذا سلك طريقا سلك الشيطان طريقا آخر: خشية منه ورهبة، والذى نزل القرآن أحيانا مصدقا لما رآه، إن سيدنا عمر صاحب: «يا سارية الجبل» يرسم لنا صورة إسلامية لسيده وحبيبه وصديقه ونبيه ورسوله- صلوات الله وسلامه عليه-.
ولكن هذه الصورة: هى صورة سيدنا عمر، إنها تتناسب مع مستوى سيدنا عمر وهو من غير شك عظيم.
ماذا كان يمكن أن يقول سيدنا أبو بكر- رضوان الله عليه-؟ وماذا كان يمكن أن يقول سيدنا على رضى الله عنه؟ وماذا كان يمكن أن يكون وصف سيدنا جبريل لو وصفه؟.
إن الله سبحانه وتعالى يقول عنه- صلوات الله وسلامه عليه-:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» .
وما كانت كلمة السيدة عائشة- رضوان الله عليها-: «كان خلقه القرآن» إلا تفسيرا لما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة، أيمكنك أن تتصور المدى الذى تبلغه الآية الكريمة، وتفسير السيدة عائشة لها؟ أيتأتى لك أن تحيط بالقرآن، أستغفر الله وأتوب إليه.
ولنعد إلى الصورة التى حاول رسمها صاحب: «يا سارية الجبل» ، لنعد إليها لنثبتها شارحين لبعض حوادثها، موضحين لبعض أنبائها، وسنجعل الإيضاح بين أقواس.
بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع سيدنا عمر يبكى ويقول:
«بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد كان جذع تخطب الناس عليه، فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتها» . يروى البخارى ومسلم، وكتب السنة كلها تقريبا وكتب السيرة (حادث حنين الجذع) بعدة روايات، وننقل هنا إحدى روايات البخارى:
__________
(1) سورة القلم: 4.(المقدمة/11)
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «كان النبى صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن جعل طاعتك طاعته، فقال عز وجل:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن بعثك آخر الآنبياء، وذكرك فى أولهم، فقال عز وجل:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ «2» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله. لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون:
يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا «3» .
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار فماذا (فليس ذلك) بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك يا سيدى يا رسول الله.
إن نبع الماء من بين أصابعه الشريفة- صلوات الله وسلامه عليه-، لم يحدث مرة واحدة وإنما حدث عدة مرات، رواه البخارى ومسلم وغيرهما من كتب السنة، وروته كتب السيرة بروايات عدة، فى ظروف مختلفة، مما يدل على كثرة حدوثه، وننقل هنا إحدى روايات الإمام البخارى:
عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية، والنبى صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ فجهش الناس، فأسرعوا وتكاثروا نحوه فقال: «ما لكم؟» قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا من بين يديك. فوضع يده فى الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا.
قلت: كم كنتم؟.
قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر، ورواحها شهر، فماذا بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح، صلى الله عليك.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله! لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله إحياء الموتى، فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهى مشوية فقالت لك الذراع: لا تأكلنى فإنى مسمومة.
يروى ابن سعد فى طبقاته:
أخبرنا سعيد بن محمد الثقفى، عن محمد بن عمر، عن أبى سلمة قال: كان رسول الله
__________
(1) سورة النساء: 80.
(2) سورة الأحزاب: 7.
(3) سورة الأحزاب: 66.(المقدمة/12)
صلى الله عليه وسلم، لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، فأهدت إليه يهودية شاة مصلية، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هو وأصحابه، فقالت: إنى مسمومة، فقال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم، فإنها قد أخبرتنى أنها مسمومة» قال: فرفعوا أيديهم، قال: فمات بشر بن البراء، فأرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حملك على ما صنعت» فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيّا لم يضرك وإن كنت ملكا أرحت الناس منك، قال: فأمر بها فقتلت. اه.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:
رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» .
ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا كلنا، فلقد وطىء ظهرك- تروى كتب السيرة أن عقبة بن أبى معيط وطأ على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة، حتى كادت عيناه تبرزان- وأدمى وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .
لقد دمى وجهه- صلوات الله وسلامه عليه- وكسرت رباعيته فى غزوة أحد. روى ذلك البخارى ومسلم. أما حديث:
«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» فقد رواه البيهقى فى دلائل النبوة.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد اتبعك فى قلة سنك، وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه، وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل.
بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لو لم تجالس إلا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تواكل إلا كفؤا لك ما واكلتنا، فقد والله جالستنا، ونكحت إلينا، وواكلتنا، ولبست الصوف، وركبت الحمار، وأردفت خلفك، ووضعت طعامك على الأرض تواضعا منك صلى الله عليك وسلم.
هذه صورة.
ومن الطريف أن نذكر صورة أخرى استنتاجية، استنتجها رجل لم يكن يعرف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، ولكنه رجل واسع الأفق رحب الخيال دقيق التفكير.
وقد اتخذ الاحتياط اللازم حتى لا يشوب الصورة أى مطعن، هذا الرجل هو: (هرقل) .
أتاه كتاب رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-، يدعوه إلى الإسلام فلم يهمل الكتاب ولم يمزقه، وإنما قرأه فى عناية وانتباه، ثم أراد أن يكون صورة صحيحة عن صاحب الخطاب، فسأل عما إذا كان بالمدينة بعض العرب الذين يعرفون الرسول فقيل له: إن بالمدينة تجارا من مكة يعرفون محمدا باعتباره من مواطنيهم فأمر بإحضارهم وكان منهم أبو سفيان.
وسأل هرقل عن أقربهم نسبا إلى الرسول، فكان أبا سفيان فقربه منه وأدناه وقال لهم:
إنى سائله عن أمور فإن كذبنى فكذبوه.
يقول أبو سفيان، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عليه.
وسنترك المقدمات والأسئلة الأولى: لأنها واضحة من النتائج التى انتهى إليها هرقل:
__________
(1) سورة نوح: 26.(المقدمة/13)
إن هرقل بعد أن انتهى من الأسئلة: بدأ- عن طريق الترجمان- يقول لأبى سفيان، على مشهد من الملأ الحاضر من أصحاب هرقل، ومن أصحاب أبى سفيان: سألتك عن نسبه:
فذكرت أنه فيكم ذو نسب.
فكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟
فذكرت: أن لا.
فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟
فذكرت: أن لا.
قلت: لو كان من آبائه من ملك، لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فذكرت: أن لا.
فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
فذكرت: أن ضعفاؤهم اتبعوه.
وهم: أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟
فذكرت: أنهم يزيدون.
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
فذكرت: أن لا.
وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟
فذكرت: أن لا.
وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم؟
فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقّا فسيملك موضع قدمى هاتين.
وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم: فلو أنى أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
هذه الصورة التى كونها هرقل بمنطقه، ويمكن أن يكونها أو يكون مثيلات لها كل إنسان اتسع أفقه، ورحب تفكيره، وكل إنسان يصدق الله والحق: لابد أن ينتهى بما انتهى إليه هرقل(المقدمة/14)
من قوله: «لو كنت عنده لغسلت عن قدميه» وإنما يغسل عن قدميه، من أجل: «يوحى إلى» إذ إن من اصطفاه الله لرسالته جدير بأن يكون أهلا لذلك.
بيد أن هذه النهاية التى انتهى إليها هرقل، إنما هى الشعار الدائم الذى لا ينتهى بانتقال الرسول إلى الملأ الأعلى، فالرسول حى بيننا الآن برسالته وهديه وتعاليمه والغسل عن قدميه الآن أو بتعبير آخر احترامه: إنما هو باتباع هديه، والتزام رسالته، وتقديره تقديرا يتناسب مع اصطفاء الله له صلى الله عليه وسلم.
ولقد ركز هرقل نوعا ما على الصدق والإخلاص، والواقع أن صورة الصدق والإخلاص كان يراهما كل من عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تعمه عصبية، أو حسد أو هوى.
على أن صورة الصدق والإخلاص: كانت سمة من السمات التى اتصف بها الرسول قبل بعثته، وبعد بعثته- صلوات الله وسلامه عليه-، لقد لازمته طيلة حياته، لقد كان مجرد الخبر يلقيه- صلوات الله وسلامه عليه-، يأخذه أعدى أعدائه على أنه واقع لا محالة. فهذا أمية بن خلف- عدو لدود- يتلاحى مع سعد بن معاذ رضى الله عنه، يريد أن يمنعه من الطواف بالكعبة، فيقول له سعد بن معاذ فى حدة المناقشة: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه قاتلك» ويضطرب قلب أمية بن خلف ويسأل فى لهفة وضعف وتخاذل: أو قال ذلك حقّا؟ فلما أكد له سعد بن معاذ الخبر أسقط فى يده وقال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، وقتل أمية بن خلف يوم بدر.
على أن هذه الصورة تتمثل فى وضوح بيّن حينما أعلن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قريش نبوته، فقال لهم:
«أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونى؟» .
لقد كانت إجابتهم عن هذا السؤال تعبر عن الحقيقة التى لمسوها فيه لقد قالوا:
«نعم أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذبا قط» .
وصورة أخرى، صورة لم يرتب لها ترتيب مروى ولم يؤد إليها منطق محكم، صورة لم تكن نتيجة عشرة طويلة، ورفقة قريبة، وإنما جاءت على البديهة، وأوحت بها الملاحظة السليمة.
إنها الصورة التى كونتها عنه- صلوات الله وسلامه عليه- أم معبد الخزاعية، وهى صورة لا تخص الجانب المعنوى منه وإنما تتصل على الأخص بالجانب الظاهر، وأردنا أن نثبتها هنا لنثبت بها (هيئة) وظاهرا بعد أن أثبتنا زوايا من المعنويات، وجوانب من التقدير والإجلال، إن الصورة التى نثبتها الآن مجرد وصف، إنها تعبير عن ملاحظة.
هاجر رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة يرافقه أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط.
مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة قوية الأخلاق عفيفة تقابل الرجال، فتتحدث إليهم وتستضيفهم، وسألها الركب عن تمر أو لحم يشترونه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، فقد كانت سنة من السنين العجاف، فقالت لهم:(المقدمة/15)
والله لو كان عندنا شىء ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى ركن الخيمة فقال:
«ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت:
هذه شاة خلفها التعب عن الغنم.
فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: هل بها من لبن؟ فقالت:
هى أجهد من ذلك.
قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» .
قالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: «اللهم بارك لها فى شاتها» .
فامتلأ ضرع الشاة ودر لبنها: فدعا بإناء لها كبير، فحلب فيه حتى ملأه فسقى أم معبد فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم وقال:
«ساقى القوم آخرهم» .
فشربوا جميعا مرة بعد مرة.
ثم حلب فيه ثانية عودا على بدء، فغادروه عندها، ثم ارتحلوا عنها، فما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنزا عجافا هزلى فلما رأى اللبن عجب واستغرب وقال:
«من أين لكم هذا ولا حلوبة فى البيت» ؟.
قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
قال: والله إنى لأراه صاحب قريش الذى يطلب، صفيه لى يا أم معبد؟
قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج (مشرق) الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة (ضخامة البطن) ولم تزر به صعلة (لم يشنه صغر الرأس) وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف (طويل شعر الأجفان) ، وفى صوته صحل (رخيم الصوت) أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، فى عنقه سطح (ارتفاع وطول) وفى لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقة خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر (لا عى فيه ولا ثرثرة فى كلامه) أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، ربعة (وسط ما بين الطول والقصر) لا تشنؤه (تبغضه) من طول ولا تقتحمه عين (تحتقره) من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا له رفقاء يخصون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود (يسرع أصحابه فى طاعته) ، محشود (يحتشد الناس حوله) ، لا عابث ولا منفذ (غير مخرف فى الكلام) .
قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته يا أم معبد لتلمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلا.
هذه هى الصورة التى حاولت أم معبد رسمها.(المقدمة/16)
أما سيدنا عمرو بن العاص فإنه يقول فى صراحة وصدق- عندما حضرته الوفاة وعندما تذكر الماضى فخنقته العبرات، وتحدث مع ابنه عن أشياء عدة فى صورة مؤثرة-: (ما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل فى عينى منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينى منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت: لأنى لم أكن أملأ عينى منه) .
هذا وبالله التوفيق.
أ. د/ منيع عبد الحليم محمود أستاذ التفسير وعلوم القرآن وعميد كلية أصول الدين بالقاهرة جامعة الأزهر(المقدمة/17)
الجزء الأول(1/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستهديه ونسعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد ...
إننا أمام كتاب يتحدث عن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولدراسة سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكانة خاصة، لا أقول فى نفوس متبعيه فقط، بل فى نفوس معاديه أيضا! وذلك يرجع إلى مكانة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى لم ينلها أحد قبله، ولن ينالها أحد بعده. فهو صفوة خلقه ورسوله إليهم جميعا عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كما ورد فى حديث فضلت على الأنبياء بست فذكر منهم فكان النبى قبلى يرسل إلى قومه خاصة، وأرسلت إلى الناس عامة أبيضهم وأسودهم.
ومن رحمة الله عز وجل بخلقه أنه عندما يختار لهم رسولا يجعله قدوة وأسوة فى حياته لما يدعو إليه، لا كلاما نظريّا فحسب، بل ترجمة عملية واقعية لما يدعو إليه، لأن الله عز وجل يعلم أن ذلك أبلغ وأوقع فى نفوس المتبعين، ولعل ذلك من أسباب كون الرسل من البشر لا من الملائكة؛ لأن طبيعة الملائكة تختلف عن طبيعة البشر، فلن تكون حياتهم أسوة لنا بخلاف الرسل من البشر.(1/3)
ولأن حياة الرسل، وبخاصة رسولنا- صلى الله عليه وسلم- أسوة لنا اهتم العلماء قديما وحديثا بالتصنيف فى سيرة حياته- صلى الله عليه وسلم-، لنعرف عنه كل كبيرة وصغيرة، بل لم نجد أتباع رسل اهتموا بكل تفاصيل حياته خاصها وعامها كما اهتم علماؤنا بسيرة سيد الخلق أجمعين، محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولذلك حظيت حياته عن غيره من الأنبياء بمصنفات شتى لا تعد ولا تحصى ليجد كل واحد منا بغيته فى معرفة حياة رسولنا- صلى الله عليه وسلم-.
ثم إن دراسة سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا تقف عند حد معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم- فقط، بل معرفة شرعه- صلى الله عليه وسلم-، حيث إن فى سلوكه مع ربه نعرف هديه فى العبادات، ثم سلوكه مع من حوله نعرف هديه فى معاملة الخلق، فإذا كان مع زوجه عرفنا هديه فى معاملة الأزواج، وإن كان مع صاحب أو جار عرفنا هديه فى معاملة الأصحاب والجيران، ثم مع أعدائه عرفنا هديه فى السلم والحرب، وكيف نعامل أعداءنا!!، كل ذلك بضوابطه الشرعية التى بينتها سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
ومن هؤلاء صاحب كتابنا شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلانى، وهو كتاب يتضمن السيرة والمغازى والخصائص والشمائل وأعلام النبوة، وسيرته- صلى الله عليه وسلم- فى العبادة، ولعله بذلك قد استوعب كل جوانب حياته صلى الله عليه وسلم- سواء كانت علاقته بربه، أو مع خلقه كأزواجه وأصحابه، حيث كان نعم الأب ونعم الأخ ونعم الزوج.
إلا أنا نجد أنا صاحبنا قد غالى بعض الشىء فى مناقبه- صلى الله عليه وسلم-، قد بينا ذلك فى موضعه، ولا ننكر أنها قليلة بالنسبة إلى الكتاب عامة ولكن الأدب مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نضعه فى المكانة التى أراد الله عز وجل أن يضعه فيها، بل هو أيضا قد أمرنا بذلك، حيث قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» ، وليس فى ذلك نقص من مكانته- صلى الله عليه وسلم-، بل هذا رفعة له أن نصفه بأنه عبد ورسول، بل إن الله عز وجل حينما أراد أن يصفه فى أعظم رحلة على وجه الأرض(1/4)
وهى رحلة الإسراء والمعراج لم يختر له إلا هذا اللقب فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ.. الآية. والخير كل الخير فى أن نقف عند ما وصفه به ربه، دون مغالاة أو تقصير حيث إن كلاهما مرفوض.
ثم إن لنا كلمة أخيرة حول هذا العنوان وهو «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» حيث إن كلمة «اللدنية» تعطى انطباعا على أن «لدنه» غير «لدنى» مع العلم بأن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معلومة للجميع، لا لدنّ فيها، كما أن هذه الكلمة وردت على لسان الخضر- عليه السّلام- مما أوحاه الله إليه، مما يدل على أنه رسول على الصحيح بوحى الله له، لأنه لا يحق لأحد مخالفة ظاهر الشريعة بحجة أى تأويل، إلا عن وحى أوحاه الله له، وهذا لا يكون إلا للأنبياء، أما غيرهم، فلا يصح لهم إلا ظاهر الشريعة، وإلا اتهمناه.
ولذلك كان الأولى والأجدر بمصنفنا أن يختار اسما آخر غير هذا العنوان حتى لا يلتبس مع من يخالفون ظاهر النصوص بتأويلات مرفوضة بحجة العلم اللدنى الذى ما أنزل الله به من سلطان.(1/5)
كلمة عن مصادر السيرة النبوية
إن المتتبع لما ألف فى السيرة النبوية، وما يلحقه من الخصائص النبوية، والشمائل المحمدية، وأعلام النبوة ودلائلها، يرى حشدا هائلا من المصادر والمراجع مما لا يكاد يحصيه مؤلف. وقد ذكر طرفا منهم العلامة السفاوى- رحمه الله- فى «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» (ص 146- 160) ومما قاله بهذا الصدد فى آخر حديثه عنها «إلى غيرها مما لو حصل التصدى لجمعه كله فى كتاب لكان من عشرين مجلدا فأكثر» (ص 160) ، وكذلك ذكر بعضها العلامة الكتانى فى «الرسالة المستطرقة لبيان كتب السنة المشرفة» (ص 105- 110 و 197- 203) ، والمحاولة القيامة من الدكتور صلاح الدين المنجد فى كتابه: «معجم ما ألف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» . ناهيك عن الكتب المؤلفة فى الكتب والفنون والمؤلفين والعلوم الإسلامية مثل كتاب الدكتور فؤاد سزكين «تاريخ التراث العربى» مما يجعلنا نكاد نجزم بأنه ما من شاردة ولا واردة فى حياته- صلى الله عليه وسلم- إلا وذكرت ورويت عنه- بطريقة الإسناد- مما لم يتوفر لأحد فى القديم ولا الحديث ولا فيما سيأتى، والله أعلم.
وقد كانت بداية التدوين فى السيرة أو فى المغازى والسير فى عصر التابعين ومن تلاهم أى فى النصف الثانى من القرن الأول الهجرى وأولى من عرف بذلك جماعة منهم:
1- سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجى.
2- سعيد بن المسيب بن حزن المخزومى.
3- عبد الله بن كعب بن مالك الأنصارى المتوفى سنة 97 هـ.
4- سهل بن أبى حثمة المدنى الأنصارى.
5- أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبى المتوفى سنة 103 هـ. وقد ذكرت المصادر أن له كتابا فى «المغازى» .(1/6)
6- أبان بن عثمان بن عفان المتوفى سنة 96 أو 105 هـ.
7- عروة بن الزبير بن العوام الأسدى، المتوفى سنة 92 أو 93 أو 95 هـ.
8- شرحبيل بن سعد.
9- عاصم بن عمر بن قتادة المدنى، أبو عمرو المتوفى سنة 120 هـ.
10- أبو محمد القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق المتوفى سنة 107 هـ.
11- الزهرى، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب (50- 101) ، قيل إنه أول من أسند الحديث، وأول من دون السيرة، وعليه مدار سلاسل كثيرة من الأسانيد فى السيرة النبوية (انظر الروض الأنف 1/ 122، وحلية الأولياء 1/ 2) .
وقد جمعت سيرته تحت اسم «المغازى» (بتحقيق سهيل زكار) .
12- السبيعى، أبو إسحاق عمرو عبد الله الهمدانى (المتوفى سنة 127) .
13- يعقوب بن عتبة بن المغيرة الثقفى المدنى (المتوفى سنة 123) .
14- عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المدنى. وقد دون الحديث بأمر من عمر بن عبد العزيز وقيل هو من أوائل من دون فيه.
(توفى سنة 130/ أو 135 هـ) .
15- يزيد بن رومان الأسدى المدنى، مولى آل الزبير (توفى سنة 130 هـ) .
16- أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدى ربيب عروة بن الزبير (توفى سنة 131 هـ) .
17- داود بن الحسين الأموى تلميذ عكرمة ونافع وشيخ ابن إسحاق ومالك (توفى سنة 135 هـ) .(1/7)
18- أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمى (توفى سنة 143 هـ) .
وغالب من ذكرنا من أعلام هذه الطبقات لم تصلنا مؤلفاتهم بل وصلنا شذرات من مروياتهم فى كتب المغازى والتاريخ كمغازى ابن إسحاق والواقدى وتاريخ الطبرى.
19- موسى بن عقبة بن أبى عياش أبو محمد الأسدى (المتوفى سنة 141 هـ) ، روى عن مالك قوله «عليكم بمغازى ابن عقبة فهى أصح المغازى» وقد وصلنا قسم من مروياته فى ابن سعد والطبرى.
20- محمد بن إسحاق بن يسار (85- 151 أو 152 هـ) قال ابن سيد الناس: «وعمدتنا فيما نورده من ذلك على محمد بن إسحاق، إذ هو العمدة فى هذا الباب لنا ولغيرنا» «1» . وقال الزهرى: لا يزال بالمدينة علم ما بقى هذا، يعنى ابن إسحاق. وقال شعبة: «محمد بن إسحاق أمير المحدثين» ، وقال ابن المدينى: مدار حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ستة فذكرهم، ثم قال: وصار علم الستة عن اثنى عشر أحدهم ابن إسحاق. وسئل ابن شهاب الزهرى عن المغازى فقال: هذا أعلم الناس بها، يعنى ابن إسحاق. وقال الشافعى «من أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن إسحاق» ، وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصرى: محمد بن إسحاق قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه منهم سفيان وشعبة وابن عيينة والحمادان وابن المبارك وإبراهيم بن سعد، وقال عباس الدورى، سمعت أحمد بن حنبل وذكر محمد بن إسحاق فقال: أما فى المغازى وأشباهه فيكتب، وأما فى الحلال والحرام فيحتاج إلى مثل هذا ومد يده وضم أصابعه ... إلخ. ولابن إسحاق كتاب المغازى معروف وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام: المبتدأ والمبعث والمغازى وقد طبع «المغازى والسير» بتحقيق سهيل زكار ...
21- معمر بن واقد مولى بنى حدان من بطون الأزد (توفى سنة
__________
(1) راجع كلام ابن سيد الناس، وردّه على من طعن فى ابن إسحاق فى مقدمة عيون الأثر (1/ 12 وما بعدها) .(1/8)
154 هـ) ألف أيضا «المغازى» وكان عبد الرزاق بن همام راوية كتبه. وروى الطبرى معظم روايته للمغازى.
22- الحنيفى: أبو محمد بن عبد الرحمن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان (توفى سنة 162 هـ) كتابه «السيرة» أحد المصادر الأساسية لمغازى الواقدى.
23- أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندى، معاصر لابن إسحاق وأحدث منه سنّا. (توفى سنة 170 هـ) ، له أيضا «المغازى» حصل الخطيب على إجازة روايته فى دمشق. وقد وصل إلينا قسم منه فى كتاب الواقدى.
24- إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزارى (توفى سنة 188 هـ) له كتاب «السير فى الأخبار» .
25- أبو إسماعيل محمد بن عبد الله الأزدى البصرى (توفى فى الربع الأخير من القرن الثانى الهجرى) .
26- يحيى بن سعيد بن أبان الأموى الكوفى (توفى سنة 194 هـ) له «المغازى» وقد وصلت إلينا قطع منه عند البخارى وذكر طرفا من أخباره ابن كثير فى قسم السيرة من البداية والنهاية.
27- أبو العباس الوليد بن مسلم الأموى الدمشقى (توفى سنة 195 هـ) .
28- أبو حذيفة إسحاق بن مبشر بن محمد البخارى (المتوفى سنة 206 هـ) .
29- الواقدى: أبو عبد الله محمد بن عمر (130- 207 هـ) كان الثانى بعد ابن إسحاق فى العلم بالمغازى والسير والتواريخ، قال أحمد: «هو بصير بالمغازى» وقال فيه أيضا «الواقدى يركب الأسانيد» وللعلماء فى قبول حديثه بين معدّل ومجرح «1» . وللواقدى كتاب «المغازى» مطبوع ومحقق وله كتب أخرى غيره مطبوعة أيضا. كفتوح الشام.
__________
(1) عيون الأثر (1/ 23- 28) وانظر أيضا كتب الرجال والتعديل والتجريح.(1/9)
30- أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميرى المعافرى (توفى سنة 218 أو 213 هـ) اشتهر بالسيرة وهو مختصر لابن إسحاق. مع بعض الزيادات أو التعقيبات والتصحيحات. وهى روايته عن البكائى عن ابن إسحاق. كما اشتهر شرحها للسهيلى المعروف بالروض الأنف، ولسيرته شروح واختصارات كثيرة. وقد طغت شهرة سيرته على مغازى ابن إسحاق نفسه حتى إنها لا تكاد تذكر إلا قليلا بجانبها. وقد طبعت السيرة النبوية لابن هشام طبعات عدة بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد مرة، وبتحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبيارى وعبد الحفيظ شلبى مرة ثانية، وللأستاذ عبد السلام هارون تهذيب لها مشهور، وقام أخيرا بتحقيقها الدكتور عمر عبد السلام تدمرى وطبعتها دار الكتاب العربى فى بيروت فى أربعة مجلدات.
وابن هشام هو الذى أطلق على كتابه اسم «السيرة» فقال فى مستهله «هذا كتاب سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» .
31- ابن سعد، وهو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصرى الزهرى المعروف بكاتب الواقدى. وقد اعتمد عليه فى كثير من مروياته. (ولد سنة 168 هـ وتوفى سنة 230 هـ ببغداد) وهو صاحب «الطبقات» المعروفة باسمه وقد تضمن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونبذا من أخبار الصحابة والتابعين وسيرهم. قال الخطيب: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى فى كثير من رواياته وهو أحد شيوخ البلاذرى المؤرخ الكبير، أجل كتبه «الطبقات الكبير» . والكتاب له مخطوطات كثيرة وهو مطبوع.
32- ابن عائذ، أبو عبد الله محمد بن عائذ بن أحمد الدمشقى القرشى (المتوفى سنة 233 هـ فى دمشق) له المغازى، نقل عنه ابن سيد الناس فى «عيون الأثر» .
33- حماد بن إسحاق بن إسماعيل الأزدى (المتوفى سنة 267 هـ) .
34- أبو زرعة عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقى (المتوفى سنة 280 هـ فى دمشق) .(1/10)
35- أبو على محمد بن هارون بن شعيب الأنصارى (المتوفى سنة 353) ثم تتابعت بعد هؤلاء كتب كثيرة فى السيرة النبوية نذكر من أبرزها:
1- جوامع السيرة لأبى محمد على بن أحمد بن حزم الأندلسى المتوفى سنة 456 هـ.
2- السيرة للحافظ الكبير عبد المؤمن بن خلف الدمياطى المصرى (توفى 705 هـ) .
3- «عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير» ، لابن سيد الناس أبو الفتح محمد بن محمد الأندلسى (توفى 734 هـ) ولبرهان الدين إبراهيم ابن محمد الحلبى (توفى 1044 هـ) شرح مشتهر عليه معروف «بإحسان العيون فى سيرة الأمين المأمون أو السيرة الحلبية» ...
4- مختصر السيرة لابن حجر العسقلانى (توفى سنة 852 هـ) .
5- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية لشهاب الدين أحمد بن محمد العسقلانى (توفى سنة 923 هـ) وهو كتابنا هذا ويتضمن السيرة والخصائص والشمائل وأعلام النبوة وسيرته- صلى الله عليه وسلم- فى العبادة، ومن أفضل شروحها شرح العلامة الزرقانى.
6- سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد «السيرة الشامية» لمحمد بن يوسف الصالح (توفى سنة 942 هـ) .
7- إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع للمقريزى أحمد بن على (توفى 845 هـ) .
8- بهجة المحافل وبغية الأماثل فى تلخيص المعجزات والسير والشمائل ليحيى بن أبى بكر العامرى (توفى 893 هـ) .
9- الدرر فى اختصار المغازى والسير لابن عبد البر القرطبى يوسف بن عبد الله (توفى سنة 463 هـ) .
10- الوفا فى سيرة المصطفى لعبد الرحمن بن على بن الجوزى (توفى 597 هـ) .(1/11)
11- الاكتفا فى مغازى المصطفى والثلاثة الخلفا للكلاعى (توفى سنة 634 هـ) .
12- تاريخ الخميس فى أحوال أنفس النفيس للديار بكرى (المتوفى سنة 966 هـ) «1» وهناك كتب ألفت فى التاريخ العام، عرجت على السيرة النبوية والمغازى وكتبت فيها بإطناب أو بإسهاب أشهرها:
1- طبقات ابن سعد المتقدم الذكر- قسم السيرة.
2- تاريخ الإمام الطبرى (تاريخ الأمم والملوك) محمد بن جرير (توفى سنة 310 هـ) .
3- المنتظم لابن الجوزى (توفى سنة 597) .
4- الكامل فى التاريخ لابن الأثير عز الدين على بن محمد بن الأثير (توفى سنة 630 هـ) .
5- تاريخ الإسلام للذهبى محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقى (توفى سنة 748 هـ) . وقد طبع منه قسما السيرة والمغازى فى مجلدين بتحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمرى.
6- البداية والنهاية لابن كثير (774 هـ) .
7- تاريخ دمشق لابن عساكر هبة الله على بن الحسين (توفى سنة 571 هـ) .
وهناك مؤلفات فى السيرة تعدت السيرة إلى الحديث عن أمور أخرى من حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من زاوية فقهية وحديثية من أمثال ما كتبه «ابن القيم الجوزية فى زاد المعاد فى هدى خير العباد» فضلا عن المنظومات فى السيرة والمغازى «2» كنظم مسيرة ابن هشام للقصرى، وللديرينى وللعراقى والدميرى وابن الشهبة والبقاعى ... إلخ.
جزى الله هؤلاء العلماء خير ما جزى عباده، ببركة كتابتهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحبهم له. ولله المنة والفضل يؤتيه من يشاء من عباده.
__________
(1) راجع كتاب معجم ما ألف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للدكتور صلاح الدين المنجد (ص 101 وما بعدها) .
(2) راجع المصدر السابق ص 130.(1/12)
عملى فى الكتاب
1- ضبط الآيات القرآنية مع عزوها إلى اسم السورة ورقم الآية.
2- تخريج الأحاديث النبوية مع بيان درجة صحتها من حيث القبول أو الرد مستفيدين فى ذلك من أقوال أهل هذا الشأن قديما وحديثا.
3- ضبط النص ومراجعته ومقابلته مع بعض المصادر التى كان يعزو إليها لتصويب ما قد رأيناه من خطأ أو زلل.
4- شرح غريب بعض الكلمات.
5- عزو القارئ إلى كتب أخرى شاركت المصنف فى بعض المواضع للاستزادة والاستفادة.
6- عمل ترجمة موجزة للمصنف للتعريف به.
وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا هذا العمل، وأن يجعله فى ميزان حسناتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وكتبه أبو عمرو عماد زكى البارودى 21 ذو القعدة سنة 1421 هـ الموافق 15 فبراير سنة 2001 م(1/13)
ترجمة المؤلف «1»
نسبه:
هو أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك بن أحمد المعروف بالقسطلانى الإمام العلامة المسند المحدث أبو العباس شهاب الدين القتيبى المصرى ثم القاهرى، صاحب المؤلفات الحافلة والفضائل الكاملة.
ولادته ونشأته:
ولد الإمام فى ثانى عشر ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بمصر ونشأ بها، فحفظ القرآن والشاطبية والجزرية والوردية فى النحو وغير ذلك.
مشايخه:
أخذ عن ابن حجر العسقلانى وعدة مشايخ منهم: عمر بن قاسم الأنصارى النشار وعبد الغنى الهيثمى والشهاب بن أسد وخالد الأزهرى النحوى، والفخر المقسمى والسخاوى، والبرهان العجلونى وشيخ الإسلام زكريا الأنصارى وقرأ صحيح البخارى فى خمسة مجالس على العلوى النشاوى وتتلمذ له. وأخذ بمكة أيضا عن جماعة منهم: النجم بن فهد وزينب ابنة الشوبكى.
صفاته:
لقد كان من أزهد الناس كثير الأسقام قانعا متعفف، وكان منقادا إلى
__________
(1) انظر ترجمته فى: الضوء اللامع (2/ 103) ، شذرات الذهب (8/ 121) ، الكواكب السائرة (1/ 126) ، معجم المؤلفين (2/ 85) ، والنور المسافر (113) ، وخطط مبارك (6/ 11) ، والأعلام (1/ 232) ، ومعجم المطبوعات (1511) .(1/14)
الحق من رد له سهوا أو غلطا، جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة شجى الصوت، مشارك فى الفضائل، متواضع متودد لطيف العشرة.
وكان يجلس للوعظ بالجامع الغمرى فيجتمع عنده الجم الغفير ليس له نظير فى الوعظ، وكان له اعتقاد تام فى الصوفية.
ولى مشيخة مقام أحمد بن أبى العباس الحرار بالقرافة الصغرى، وأقرأ الطلبة وكتب بخطه لنفسه ولغيره. ويحكى أن جلال الدين السيوطى كان ينقصه ويزعم أنه يسرق من كتبه ويستمد منها ولم ينسب النقل إليها وأدعى عليه بذلك بين يدى شيخ الإسلام زكريا الأنصارى فألزمه ببيان مدعاه فقال:
إنه نقل عن البيهقى وله عدة مؤلفات فليذكر لنا أنه ذكره فى أى من مؤلفاته لنعلم أنه نقله عنه، ولكنه رأى ذلك فى مؤلفاتى فنقله، وكان الواجب عليه أن يقول: نقل السيوطى عنه.
ثم إن الشيخ القسطلانى قصد إزالة ما فى خاطره فمشى من القاهرة حافى مكشوف الرأس إلى الروضة وكان السيوطى معتزلا عن الناس بها.
فوصل إلى بابه ودقه فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلانى جئت إليك حافيا مكشوف الرأس ليطيب خاطرك علىّ. فقال له: قد طاب ولم يفتح له الباب ولم يقابله.
وحج غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين وأربع وتسعين وستين قبلها، وبالجملة فإنه كان إماما حافظا متقنا جليل القدر حسن التقرير والتحرير لطيف الإشارة بليغ العبارة حسن الجمع والتأليف لطيف الترتيب والترصيف زينة أهل عصره ونقاوة ذوى دهره ولا يقدح فيه، تحامل معاصريه عليه فلا زالت الأكابر على هذا فى كل عصر.
قال عنه الشعراوى: كان من أحسن الناس وجها طويل القامة حسن الشيب يقرأ بالأربع عشرة رواية: وكان صوته بالقرآن يبكى القاسى إذا قرأ فى المحراب تساقط الناس من الخشوع والبكاء وقال: أقام عند النبى- صلى الله عليه وسلم- فحصل له جذب فصنف المواهب اللدنية لما صحا، وقد أكثر فيه من(1/15)
الاستشهاد بكلام سيد وفا وكان يميل إلى الغلو فى رفعة قدر النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى أنه اختار مذهب مالك فى تفضيل المدينة على مكة «1» .
وفاته:
وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن المحرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة لعروض فالج له، نشأ من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاء الله المكى صديق السلطان الغورى، بحيث سقط عن دابته وأغمى عليه فحمل إلى منزله ثم مات بعد أيام، وصلى عليه بالأزهر عقب صلاة الجمعة ودفن بقبة قاضى القضاة بدر الدين العينى من مدرسته بقرب جامع الأزهر. وتأثر كثير من الناس لموته لحسن معاشرته وتواضعه، وصلى عليه غائبة بدمشق مع جماعة منهم: البرهان ابن أبى شريف. وقال ابن أياس: وافق يوم وفاته دخول السلطان سليم عنوة إلى مصر وتملكه بها.
مصنفاته:
قال فى النور: ولقد ارتفع شأنه فأعطى السعادة فى قلمه وكلمه وصنف التصانيف المقبولة التى سارت بها الركبان فى حياته، وأول دليل على قبول أعماله وإخلاصه فى تأليفه عناية الناس بكتابه المواهب اللدنية ومغالاتهم فى ثمنه، ومن تصانيفه:
1- إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى «2» : وهو فى عشرة مجلدات.
2- الإسعاد فى تلخيص الإرشاد «3» : من فروع الشافعية لشرف الدين المقرى.
3- إمتاع الأسماع والأبصار «4» .
__________
(1) انظر «الكواكب» السائرة (1/ 127) .
(2) انظر: كشف الظنون (1/ 552) ، ومعجم المطبوعات (1511) .
(3) انظر: كشف الظنون (1/ 69) .
(4) المصدر السابق (1/ 166) .(1/16)
4- الأنوار المضية فى شرح البردة «1» .
5- تحفة السامع والقارى بختم صحيح البخارى «2» .
6- رسالة فى الربع المجيب «3» .
7- الروض الزاهر فى مناقب الشيخ عبد القادر «4» .
8- زهر الرياض «5» .
9- العقود السنية فى شرح المقدمة الجزرية «6» : فى القراآت.
10- فتح الدانى فى شرح حرز الأمانى «7» : للشاطبى. زاد فيه زيادات ابن الجزرى مع فوائد غريبة لا توجد فى غيره.
11- فتح المواهبى فى مناقب الشاطبى «8» .
12- الكنز فى حمزة وهشام على الهمز «9» .
13- اللآلئ السنية «10» .
14- لطائف الإشارات لفنون القراآت «11» .
15- لوامع الأنوار فى الأوعية والأذكار «12» .
16- مدارك المرام فى مسالك الصيام «13» .
__________
(1) المصدر السابق (1/ 1335) .
(2) المصدر السابق (1/ 266) .
(3) انظر: كشف الظنون (1/ 867) .
(4) المصدر السابق (1/ 919) .
(5) المصدر السابق (2/ 970) .
(6) المصدر السابق (2/ 1799) .
(7) المصدر السابق (1/ 647 و 2/ 1232) .
(8) المصدر السابق (2/ 1225) .
(9) المصدر السابق (2/ 1519) .
(10) انظر: كشف الظنون (2/ 1534) .
(11) المصدر السابق (2/ 1551) .
(12) المصدر السابق (2/ 1562) .
(13) المصدر السابق (2/ 1641) .(1/17)
17- مراصد الصلات فى مقاصد الصلاة «1» .
18- مسالك الخفا إلى مشارع الصلاة على النبى المصطفى «2» .
19- مشارق الأنوار المضية فى شرح الكواكب الدرية «3» .
20- منهاج الابتهاج فى شرح الجامع الصحيح لمسلم بن الحجاج «4» : وهو إلى نحو نصفه فى ثمان مجلدات.
21- منهاج الهداية «5» .
22- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: فى السيرة النبوية «6» .
23- نزهة الأبرار فى مناقب الشيخ أبى العباس أحمد الحرار «7» .
24- نفائس الأنفاس فى الصحبة واللباس «8» .
25- النور الساطع فى مختصر الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع «9» :
للسخاوى.
26- يقظة ذوى الاعتبار فى موعظة أهل الاغترار «10» .
كلمة عن كتاب المواهب اللدنية
إن كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية جامع للسيرة النبوية المطهرة حسب تسلسلها الزمنى ابتداء من المولد وانتهاء بالوفاة، ويتضمن المغازى
__________
(1) المصدر السابق (2/ 1652) .
(2) المصدر السابق (2/ 1662) .
(3) المصدر السابق (2/ 1335 و 1688) .
(4) المصدر السابق (2/ 558) .
(5) انظر: كشف الظنون (2/ 1847) .
(6) المصدر السابق (2/ 1896) ، ومعجم المطبوعات (1512) .
(7) المصدر السابق (2/ 1938) .
(8) المصدر السابق (2/ 1965) .
(9) المصدر السابق (2/ 1090) .
(10) المصدر السابق (2/ 2050) .(1/18)
والسرايا والبعوث والوفود والغزوات ثم الحديث عن صفات النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وخصائصه وجمال خلقه وخلقه ومواليه وأزواجه وسراريه وخدمه وركوبه وسلاحه وأصناف ثيابه ومعجزاته وغير ذلك.
وقد قال ابن العماد الحنبلى عنه: «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع ليس له نظير فى بابه» «1» .
وقال صاحب كتاب كشف الظنون: «وقد شرح كتاب المواهب المولى العلامة خاتمة المحدثين محمد بن عبد الباقى بن يوسف الزرقانى المصرى المالكى المتوفى سنة (1122 هـ) ؛ شرحا حافلا فى أربع مجلدات جمع فيه أكثر الأحاديث المروية فى شمائل المصطفى وسيرته وصفاته الشريفة» «2» .
وقال الزرقانى شارح الكتاب: «وله- أى القسطلانى- عدة مؤلفات أعظمها هذه المواهب اللدنية التى أشرقت من سطورها أنوار الأبهة والجلالة وقطرت من أديمها ألفاظ النبوة والرسالة أحسن فيها ترتيبا وضعا وأحكمها ترصيعا ووضعا وكساه الله فيها رداء القبول ففاقت على كثير مما سواها عند ذوى العقول» .
وللشيخ أبى الضياء على بن على الشبراملسى سنة (1087 هـ) . حاشية على المواهب فى خمس مجلدات ضخام نقلها الأمينى فى خلاصة السير، وقد لخصه يوسف النبهانى فى كتاب سماه «الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية» . طبع فى بيروت سنة (1310 هـ) .
وقد اعتمد مصنف كتاب المواهب اعتمادا كبيرا على كتاب الشفا للقاضى عياض.
وقال الزرقانى شارحه: «لقد صدق المصنف- رحمه الله- فإنه فى هذا الكتاب اقتبس من أنوار الشفا وتعلق بأذياله فى غالب التقسيم والأبواب حتى أنه اقتفى أثره فى صدر الخطبة ... » .
__________
(1) انظر: شذرات الذهب (8/ 122) .
(2) انظر: كشف الظنون (2/ 1897) .(1/19)
كما كان لكتاب فتح البارى للعسقلانى أثره أيضا وقد ذكر ذلك فى المقدمة فقال: «مستمدا من فتح البارى فيض فضله السارى» . وفى خاتمة الكتاب أيضا إشارة إلى ذلك قوله: «واستفتحت مغاليق المعانى بمغاشيح فتح البارى ... » .
وقوله أيضا: «وقد انتهت كتابة النسخة المنقولة منها النسخة المباركة النافعة- إن شاء الله تعالى- فى خامس عشر شعبان المكرم سنة تسع وتسعين وثمانمائة وكان الابتداء فى المسودة المذكورة ثانى يوم قدومى من مكة المشرفة صحبة الحاج فى شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة» .
فيكون على ذلك أنه قضى فى تأليفه مدة سنة وثمانية أشهر تقريبا.(1/20)
صورة بداية الجزء الأول من المخطوط(1/21)
صورة نهاية الجزء الأول من المخطوط(1/22)
صورة الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من المخطوط(1/23)
صورة بداية الجزء الثانى من المخطوط(1/24)
صورة الصفحة قبل الأخيرة من الجزء الثانى من المخطوط(1/25)
صورة آخر المخطوط(1/26)
المواهب اللّدنيّة بالمنح المحمّديّة تأليف الشيخ أحمد بن محمد القسطلانى المتوفى سنة 923 هـ(1/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذى أطلع فى سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة المحمدية، وأشرق من أفق أسرار الرسالة مظاهر تجلى الصفات الأحمدية، أحمده على أن وضع أساس نبوته على سوابق أزليته، ورفع دعائم رسالته على لواحق أبديته.
وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، الفرد المنفرد فى فردانيته بالعظمة والجلال، الواحد المتوحد فى وحدانيته باستحقاق الكمال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله أشرف نوع الإنسان، وإنسان عيون الأعيان، المستخلص من خالص خلاصة ولد عدنان، الممنوح ببدائع الآيات، المخصوص بعموم الرسالة وغرائب المعجزات، السر الجامع الفرقانى، والمخصص بمواهب القرب من النوع الإنسانى، مورد الحقائق الأزلية ومصدرها، وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها، وخطيبها إذا حضر فى حظائر قدسها ومحضرها، بيت الله المعمور الذى اتخذه لنفسه، وجعله ناظما لحقائق أنسه، مدة مداد نقطة الأكوان، ومنبع ينابيع الحكم والعرفان، المفيض من بحر مدد الوفا، على القائل من أهل المعارف والاصطفا، حيث خاطب ذاته الأقدسية «1» ، بالمنح الأنفسية، فقال:
فأنت رسول الله أعظم كائن ... وأنت لكل الخلق بالحق مرسل
عليك مدار الخلق إذ أنت قطبه ... وأنت منار الحق تعلو وتعدل
فؤادك بيت الله دار علومه ... وباب عليه منه للحق يدخل
__________
(1) الأقدسية: نسبة إلى القدس والقدس، هو الطهر. أى: ذاته المطهرة.(1/29)
ينابيع علم الله منه تفجرت ... ففى كل حى منه لله منهل
منحت بفيض الفضل كل مفضل ... فكل له فضل به منك يفضل
نظمت نثار الأنبياء فتاجهم ... لديك بأنواع الكمال مكلل
فيا مدة الإمداد نقطة خطه ... ويا ذروة الإطلاق إذ يتسلل
محال يحول القلب عنك وإننى ... وحقك لا أسلو ولا أتحول
عليك صلاة الله منه تواصلت ... صلاة اتصال عنك لا تتنصل
شخصت أبصار بصائر سكان سدرة المنتهى لجلال جماله، وحنت أرواح رؤساء الأنبياء إلى مشاهدة كماله، وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى إلى نفائس نفحاته، وتطاولت أعناق العقول إلى أعين لمحاته ولحظاته، فعرج به إلى المستوى الأقدس، وأطلعه على السر الأنفس، فى إحاطته الجامعة، وحضرات حظيرة قدسه الواسعة، فوقفت أشخاص الأنبياء فى حرم الحرمة، على أقدام الخدمة، وقامت أشباح الملائكة فى معراج الجلال، على أرجل الإجلال، وهامت أرواح العشاق فى مقامات الأشواق:
كل إليك بكله مشتاق ... وعليه من رقبائه أحداق
يهواك ما ناح الحمام بأيكة ... أو لاح برق فى الدجى «1» خفاق
شوق إليه لا يزال يديره ... فجميعه لجميعه عشاق
اشتاق القمر لمشاهدته فانشق، فشق مرائر الأشقياء المشاققين، وحن لمفارقته الجذع فتصدع فانصدعت قلوب الأغبياء المنافقين «2» .
وبرقت من مشكاة بعثته بوارق طلائع الحقائق، وانقادت لدعوته العامة خاصة خلاصة الخلائق، ولم يزل يجاهد فى الله بصادق عزماته، وينظم أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته، حتى كملت كمالات دينه وحججه البالغة، وتمت على سائر أمته الأمية نعمته السابغة، وخيّر فاختار الرفيق الأعلى، وآثر الآخرة على الأولى، فنقله الله قائما على قدم السلامة، إلى دار
__________
(1) الدجى: سواد الليل مع غيم، حتى لا يرى فيه نجم ولا قمر.
(2) ستأتى أدلة هذه المعجزات فى موضعها من الكتاب.(1/30)
السلام وفردوس الكرامة، وبوأه أسنى مراقى التكريم فى دار المقامة، ومنحه أعلى مواهب الشرف فى اليوم المشهود، فهو الشاهد والمشهود «1» ، والمحمود بالمحامد التى يلهمها للحامد المحمود، ذو المنزلة العلية، والدرجة السنية، فى حظائر القدس الأقدسية، والمشاهد الأنفسية، واصل الله عليه فضائل الصلوات، وشرائف التسليم، ونوامى البركات، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، وصلاة وسلاما لا ينقطع عنهما أمد الأمد، ولا يحصرهما العدد أبد الأبد.
وبعد:
فهذه لطيفة من لطائف نفحات العواطف الرحمانية، ومنحة من منح مواهب العطايا الربانية، تنبىء عن نبذة من كمال شرف نبينا محمد- عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى الصلات- وسبق نوبته فى الأزمان الأزلية، وثبوت رسالته فى الغايات الأحدية، والتبشير بأحمديته فى الأعصر الخالية، والتذكير بمحمديته فى الأمم الماضية، وإشراق بوارق لوامع أنوار آيات ولادته التى سار ضوء فجرها فى سائر بريته، ودار بدر فجرها فى أقطار ملته، وعواطف لطائف رضاعه وحضانته، وينابيع أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته، وعوارف معارف عبوديته السارى عرف شذاها فى آفاق قلوب أهل ولايته، ونفائس أنفاس أحواله الزكية، ودقائق حقائق سيرته العلية، إلى حين نقلته لروضة قدسه الأحدية، وتشريفه بشرائف الآيات، وتكريمه بكرائم المعجزات، وترفيعه فى آى التنزيل برفعة ذكره، وعلو خطره، وتعظيم محاسن شمائله وخلائقه، وتخصيصه بعموم رسالته، ووجوب محبته واتباع طرائقه وسيادته الجامعة لجوامع السؤدد فى مشهد مشاهد المرسلين، وتفضيله بالشفاعة العظمى، العامة لعموم الأولين والآخرين، إلى غير ذلك من عجائب آياته ومنحه، وغرائب أعلام نبوته وحججه.
أوردتها حججا قاهرة على الملحدين، وذكرى نافعة للموحدين، وتنبيها
__________
(1) من معانى الشاهد والمشهود، معان غير ذلك.(1/31)
لعزائم المهتدين، ولم أكن- والله- أهلا لذلك، ولم أر نفسى فيما هنالك، لصعوبة هذا المسلك، ومشقة السير فى طريق لم يكن لمثلى يسلك، وإنما هو نكتة سر قراءتى كتاب الشفا «1» بحضرة التخصيص والاصطفا، فى مكتب التأديب والتعليم فى مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم، مستجليا فى مجالى تجليات الأنوار الأحمدية، محاسن صفات خلقته، وعظيم أخلاقه الزكية، ساريا بسر سيرته فى منهاج ملته إلى سماء هديه الأسنى، راتعا فى رياض روضة سنته النزيهة الحسنا، مستمدا من فتح البارى «2» ، فيض فضله السارى، فمنحنى صاحب هذه المنح من مصون حقائقه، وأبرز لى مما أكنّه من مكنون رقائقه، فانفتحت بالفتح المحمدى عين بصيرة الاستبصار وتنزه الناظر فى رياض ارتياض رقائق الأسرار، فاستجليت من أبكار مخدرات السنة النبوية من كل صورة معناها، واقتبست من تلألؤ مصباح مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها، وانتشقت من كل عبقة صوفية شذاها، واجتنيت من أفنان لطائف تأويل آى الكتاب العزيز من كل ثمرة مشتهاها، ولا زلت فى جنات لطائف هذه المنح أغدو وأروح، فى غبوق وصبوح، حتى انهلت غمائم المعانى على أرض رياض المبانى، فأينعت أزهارها، وتكللت بنفائس جواهر العلوم أوراقها، وطابت لمجتنى رقائق الحقائق ثمارها، وتدفقت حياض بدائع ألفاظها، بزلال جوامع كلماتها، وخطب خطيب قلوب أبناء الهوى، على منبر الغرام الأقدس، يدعو لكمال محاسن الحبيب الأرأس، فترنحت بسلاف راح الارتياح نفائس الأرواح، وتمايلت بمطربات ألحان الحنين إلى جمال المحبوب كرائم الأشباح، وزمزم مزمزم الصفا، بحضرة خلاصة أولى الوفا، منشدا مرددا:
حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه ... حسبى نعيم زال عنه حسيبه
داوى فؤادى الوصل من أدوائه «3» ... طوبى لقلبى والحبيب طبيبه
__________
(1) هو: كتاب «الشفا فى حقوق المصطفى» للقاضى عياض.
(2) يشير إلى كتاب «فتح البارى» للحافظ ابن حجر، وهو كتاب مشهور.
(3) أدواء: جمع داء، بخلاف أدوية جمع دواء.(1/32)
صدق المحب حبيبه فى حبه ... فحباه صدق الحب منه حبيبه
لباه لب فؤاده فأجابه ... لما دعاه إلى الغرام وجيبه
ولجامع الأهواء حيعل حبه ... ولحسنه خطب القلوب خطيبه
فلما سمعت هذه المواهب آذان قلوب أولى الألباب، تلفتت عيون أعيانهم لتلخيص خلاصة جوهر هذا الخطاب، فى سفر يسفر عن وجه المنح النبوية منيع النقاب، فثنيت عنان القلم إلى تحصيل ماربهم، وتسطير مطالبهم، جانحا صوب الصواب، مودعا ما كان مستودعا لى فى غيابات الغيب فى هذا الكتاب، مستعينا فى ذلك بالقوى الوهاب، حتى أتاح الله لى ذلك، وتمم ما هنا لك، فأوضحت ما خفى من الدليل، ومهدت ما توعر من السبيل.
وسميته: «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» ورتبته على عشرة مقاصد تسهيلا للسالك والقاصد:
المقصد الأول: فى تشريف الله تعالى له- عليه السّلام- بسبق نبوته فى سابق أزليته، ونشره منشور رسالته فى مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته فى حظائر قدس كرامته، وطهارة نسبه وبراهين أعلام آيات حمله وولادته ورضاعه وحضانته، ودقائق حقائق بعثته وهجرته، ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته، مرتبا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته.
المقصد الثانى: فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال أخلاقه المنيفة، وأولاده الكرام الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وإخوته من الرضاعة، وجداته وخدمه ومواليه وحرسه، وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع(1/33)
والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام، ومؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه، وآلات حروبه، ودوابه، والوافدين إليه- صلى الله عليه وسلم- وفيه عشرة فصول.
المقصد الثالث: فيما فضله الله سبحانه وتعالى به من كمال خلقته، وجمال صورته، وما كرمه به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية، وما تدعو ضرورة حياته إليه- صلى الله عليه وسلم-، وفيه ثلاثة فصول.
المقصد الرابع: فى معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته وما اختص به من خصائص آياته وبدائع كراماته. وفيه فصلان.
المقصد الخامس: فى تخصيصه- عليه السّلام- بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم فى حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.
المقصد السادس: فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره، ورفعة ذكره، وشهادته له تعالى بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنّة إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه، والتنويه به فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، بأنه صاحب الرسالة والتبجيل. وفيه عشرة أنواع.
المقصد السابع: فى وجوب محبته واتباع سنته، والاهتداء بهديه وطريقته، وفرض محبة(1/34)
آله وأصحابه، وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه.
وفيه ثلاثة فصول.
المقصد الثامن: فى طبه- صلى الله عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات، وتعبيره الرؤيا، وإنبائه بالأنباء المغيبات.
وفيه ثلاثة فصول.
المقصد التاسع: فى لطيفة من حقائق عباداته، ويشتمل على سبعة أنواع.
المقصد العاشر: فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إليه، وزيارة قبره الشريف، ومسجده المنيف، وتفضيله فى الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم، والدرجات العليات، وتشريفه بخصائص الزلفى فى مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، وانفراده بالسؤدد فى مجمع مجامع الأولين والآخرين، وترقيه فى جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه فى يوم المزيد أعلى معالى الحسنى وزيادة. وفيه ثلاثة فصول.
والله تعالى جل جده وعز مجده أسأل بوجاهة وجهه الوجيه ونبيه النبيه أن يمدنى فى هذا الكتاب العزيز بمدد الإقبال والقبول، وينيلنى ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين من العواطف النبوية لطائف السؤل، ونهاية المأمول، وعلى الله قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/35)
المقصد الأول
* فى تشريف الله تعالى له- عليه السّلام- بسبق نبوته فى سابق أزليته، ونشره منشور رسالته فى مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته فى حظائر قدس كرامته.
* وطهارة نسبه صلى الله عليه وسلم.
* وبراهين أعلام آيات حمله وولادته.
* ورضاعه وحضانته.
* ودقائق حقائق بعثته.
* وهجرته.
* ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه.
* وسيرته.
مرتبا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته.(1/37)
[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم]
اعلم يا ذا العقل السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم- وفقنى الله وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم- أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه، أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية «1» فى الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق فى سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه تعالى بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا- كما قال، بين الروح والجسد «2» ، ثم انبجست منه- صلى الله عليه وسلم- عيون الأرواح، فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالمنظر الأجلى، فكان لهم المورد الأحلى، فهو- صلى الله عليه وسلم- الجنس العالى على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس «3» .
ولما انتهى الزمان باسم الباطن فى حقه- صلى الله عليه وسلم- إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم- بكليته جسما وروحا، فهو- صلى الله عليه وسلم- وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه:
ألا بأبى من كان ملكا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحى محمد ... له فى العلا مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد فى آخر المدى ... وكان له فى كل عصر مواقف
__________
(1) عبارة غامضة، تكلفها الخلف، ولم ترد عن السلف.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3609) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 665) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(3) قلت كما تقدم، عبارات تكلفها الخلف، ولم ترد عن السلف.(1/39)
أتى لانكسار الدهر بجبر صدعه ... فأثنت عليه ألسن وعوارف
إذا رام أمرا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر فى الكون صارف «1»
أخرج مسلم فى صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» «2» .
ومن جملة ما كتب فى الذكر- وهو أم الكتاب- أن محمدا خاتم النبيين الأحزاب: 40.
وعن العرباض بن سارية عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل فى طينته» «3» رواه أحمد والبيهقى، والحاكم، وقال:
صحيح الإسناد.
وقوله: لمنجدل، يعنى: طريحا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
وعن ميسرة الضبى «4» قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيّا؟ قال:
«وآدم بين الروح والجسد» «5» هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخارى فى تاريخه وأبو نعيم فى الحلية وصححه الحاكم.
__________
(1) قلت: الذى إذا أراد شيئا فلا يكون خلافه، هو الله عز وجل، أما غيره، فبالتبع لا بالأصل، ولولا أمر الله للشىء بذلك ما استطاع، وانظر إلى رغبته فى إسلام عمه أبى طالب، ولم يسلم، ويقول الله عز وجل له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ سورة القصص: 56، ولو كان الأمر كما قال الشاعر، لأسلم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ولا نقصد بهذا الكلام الانتقاص من شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولكن المقصد أن مشيئته- صلى الله عليه وسلم- تابعة لا أصلية، فالمشيئة الأصلية لله عز وجل، والتابعة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- ولغيره، وكانت لنبينا- صلى الله عليه وسلم- منه الأكبر.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2653) فى القدر، باب: حجاج آدم وموسى- عليهما السلام-.
(3) ضعيف: أخرجه أحمد فى المسند» (4/ 127 و 128) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6404) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 453 و 656) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 83) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2091) .
(4) فى «المسند» (5/ 59) : ميسرة الفجر، وكذا فى «الإصابة» (6/ 239) لابن حجر، ولعل الضبى تصحيف، حديث لم أجد أحدا نسبه بهذه النسبة.
(5) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 59) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 665) ، والطبرانى فى «الكبير» (20/ 353) .(1/40)
وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين «1» .
فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوى- نفع الله بعلومه- فى كتابه «المقاصد الحسنة» : لم نقف عليه بهذا اللفظ. انتهى.
وقال الحافظ ابن رجب، فى اللطائف: وبعضهم يرويه: «متى كتبت» من الكتابة، انتهى.
قلت: وكذا رويناه فى جزء من حديث أبى عمرو، إسماعيل بن نجيد، ولفظه:
متى كتبت نبيّا؟ قال: «كتبت وآدم بين الروح والجسد» «2» .
فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض بن سارية على وجوب نبوته وثبوتها، وظهورها فى الخارج، فإن الكتابة تستعمل فيما هو واجب. قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «3» . وكَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ «4» .
وعن أبى هريرة أنهم قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة قال:
«وآدم بين الروح والجسد» «5» رواه الترمذى وقال: حديث حسن.
وروينا فى جزء من أمالى أبى سهل القطان عن سهل بن صالح الهمدانى، قال:
سألت أبا جعفر، محمد بن على، كيف صار محمد- صلى الله عليه وسلم- يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: إن الله تعالى لما أخذ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «6» . كان محمد- صلى الله عليه وسلم- أول من قال بلى، ولذلك صار يتقدم الأنبياء، وهو آخر من بعث.
__________
(1) ليس له أصل، وانظر «كشف الخفاء» للعجلونى (2007 و 2017) .
(2) تقدم من حديث أبى هريرة، وميسرة الفجر- رضى الله عنهما-.
(3) سورة البقرة: 183.
(4) سورة المجادلة: 21.
(5) صحيح: وقد تقدم قبل قليل.
(6) سورة الأعراف: 172.(1/41)
فإن قلت: إن النبوة وصف لابد أن يكون الموصوف به موجودا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضا، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟
أجاب العلامة الغزالى فى كتاب «النفخ والتسوية» عن هذا، وعن قوله:
«كنت أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا» «1» : «بأن المراد ب «الخلق» هنا: التقدير دون الإيجاد، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودا مخلوقا، ولكن الغايات والكمالات سابقة فى التقدير لاحقة فى الوجود» .
«قال: وهو معنى قولهم: «أول الفكرة آخر العمل، وآخر العمل أول الفكرة»
وبيانه: أن المهندس المقدر للدار، أول ما يمثل فى نفسه صورة الدار، فتحصل فى تقديره دار كاملة، وآخر ما يوجد من أعماله هى الدار الكاملة، فالدار الكاملة هى أول الأشياء فى حقه تقديرا، وآخرها وجودا، لأن ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان، وتركيب الجذوع، وسيلة إلى غاية وكمال وهى الدار، فالغاية هى الدار ولأجلها تقوم الآلات والأعمال» .
«ثم قال: وأما قوله- عليه السّلام-: (كنت نبيّا) فإشارة إلى ما ذكرناه، وأنه كان نبيّا فى التقدير قبل تمام خلقة آدم- عليه السّلام-، لأنه لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد- صلى الله عليه وسلم- ويستصفى تدريجا إلى أن يبلغ كمال الصفا» .
«قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودا فى ذهن المهندس ودماغه، والوجود الثانى أنه ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن فى الأعيان، والوجود الذهنى سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة، وكذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا، انتهى.
وهو متعقب بقول الشيخ تقى الدين السبكى: «إنه قد جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: (كنت نبيّا) إلى روحه
__________
(1) ضعيف جدّا: أخرجه أبو نعيم فى «الدلائل» (ص 42) .(1/42)
الشريفة، أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهى، ثم إن تلك الحقائق يؤتى الله كل حقيقة منها ما يشاء فى الوقت الذى يشاء، فحقيقة النبى- صلى الله عليه وسلم- قد تكون من حين خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيّا، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده «1» .
«فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية حاصل من ذلك الوقت، وإنما يتأخر البعث والتبليغ، وكل ما له من جهة الله ومن جهة تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه. وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم-» .
«وقد علم من هذا: أن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبيّا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء. ووصف النبى- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة فى ذلك الوقت ينبغى أن يفهم منه أنه أمر ثابت له فى ذلك الوقت.
ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير فى المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبى وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم الله تعالى نبوتهم فى ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية للنبى- صلى الله عليه وسلم- لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاما لأمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى» .
وعن الشعبى «2» : قال رجل يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ منى الميثاق» «3» رواه ابن سعد، من رواية جابر الجعفى، فيما ذكره ابن رجب.
__________
(1) لعله يشير إلى حديث شفاعة آدم حينما أذنب فذهب إلى ربه فاستشفع بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، فسأله الله عز وجل، وما أعلمك به؟ فقال: وجدت اسمه مكتوب على عرشك، فعرفت أنه أحب الخلق إليك ... إلى آخره، فهو ضعيف جدّا، ولا حجة فيه، وسيأتى بعد قليل.
(2) هو: عامر بن شراحيل الشعبى، من أئمة التابعين، وعلى ذلك فحديثه مرسل.
(3) مرسل: أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (7/ 42) .(1/43)
فهذا يدل على أنه من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد- صلى الله عليه وسلم- ونبىء وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذى قدر الله خروجه فيه فهو أولهم خلقا.
لا يقال: يلزم خلق آدم قبله، لأن آدم كان حينئذ مواتا لا روح فيه، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- كان حيّا حين استخرج ونبىء وأخذ منه الميثاق، فهو أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا.
فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه، كما دل عليه أكثر الأحاديث، والذى تقرر هنا: أنه استخرج ونبىء قبل نفخ الروح فى آدم- عليه السّلام-.
أجاب بعضهم: بأنه- صلى الله عليه وسلم- خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح. فإن محمدا- صلى الله عليه وسلم- هو المقصود من خلق النوع الإنسانى، وهو عينه وخلاصته وواسطة عقده.
والأحاديث السابقة صريحة فى ذلك، والله أعلم «1» .
وروى عن على بن أبى طالب- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيّا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد فى محمد- صلى الله عليه وسلم- لئن بعث، وهو حى، ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه.
وهو مروى عن ابن عباس أيضا ذكرهما العماد بن كثير فى تفسيره «2» .
وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم السلام، فغشيهم من نوره ما أنطقهم الله به فقالوا: يا ربنا، من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته فقال الله تعالى: أشهد عليكم؟
قالوا: نعم. فذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
__________
(1) قلت: إلا أنه لا توجد أحاديث صحيحة على ما يقول، ولا حجة فيها.
(2) قلت: انظر تفسير ابن كثير عند تفسيره لسورة آل عمران، الآية: 81.(1/44)
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ إلى قوله:
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1»
«2» .
قال الشيخ تقى الدين السبكى: «فى هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبى صلى الله عليه وسلم- وتعظيم قدره العلى ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنه على تقدير مجيئه فى زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون رسالته ونبوته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: «وبعثت إلى الناس كافة» «3»
لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا. ويتبين بذلك معنى قوله- صلى الله عليه وسلم-:
«كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «4» .
«ثم قال: فإذا عرف هذا فالنبى- صلى الله عليه وسلم- نبى الأنبياء، ولهذا ظهر فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم.
ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى- صلوات الله وسلامه عليهم- وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته. وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم» . انتهى وسيأتى- إن شاء الله تعالى- مزيد لذلك فى المقصد السادس.
وذكر العارف الربانى عبد الله بن أبى جمرة فى كتابه «بهجة النفوس» ، ومن قبله ابن سبع فى «شفاء الصدور» عن كعب الأحبار، قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التى هى قلب الأرض وبهاؤها ونورها، قال: فهبط جبريل فى ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع الأعلى، فقبض قبضة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من موضع قبره الشريف، وهى
__________
(1) سورة آل عمران: 81.
(2) قلت: وهل يستدل على مثل هذه الأمور بأخبار لا أسانيد لها.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، ومسلم (521) فى المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث جابر رضى الله عنه-.
(4) صحيح: وقد تقدم.(1/45)
بيضاء منيرة، فعجنت بماء التسنيم فى معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء، لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسى، وفى السماوات والأرض والجبال والبحار، فعرفت الملائكة وجميع الخلق سيدنا محمدا وفضله قبل أن تعرف آدم- عليهما السلام- «1» .
وقيل: لما خاطب الله تعالى السماء والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» .
أجاب موضع الكعبة الشريفة. ومن السماء ما يحاذيها. وقد قال ابن عباس: أصل طينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من سرة الأرض بمكة. فقال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم-، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض فصار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الأصل فى التكوين، والكائنات تبع له. وقيل: لذلك سمى أميّا لأن مكة أم القرى، ودرته أم الخليقة «3» .
فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام- بمكة، حيث كانت تربته منها.
فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف- أفاض الله علينا من عوارفه، وتعطف علينا بعواطفه- بأنه قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحى، فوقعت جوهرة النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى ما يجاذى تربته بالمدينة، فكان- صلى الله عليه وسلم- مكيّا مدنيّا، حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة انتهى «4» .
وفى «المولد الشريف» لابن طغر بك «5»
: ويروى أنه لما خلق الله تعالى
__________
(1) قلت: راوى هذا الأثر، هو كعب الأحبار، وهو أكثر الرواية عن أهل الكتاب، ومن الواضح أن ذلك منها.
(2) سورة فصلت: 11.
(3) قلت: وهذا كلام لا دليل عليه، ولا حجة فيه.
(4) قلت: وهذا على صحة المقولة السابقة، وهى لم تصح أصلا.
(5) هو: عمر بن أيوب بن أرسلان سيف الدين، أبو جعفر، المعروف بابن طغر بك الدمشقى التركى، توفى سنة (670 هـ) ، وكتابه اسمه «الدر النظيم فى مولد النبى الكريم» .(1/46)
آدم، ألهمه أن قال: يا رب، لم كنيتنى أبا محمد، قال الله تعالى: يا آدم ارفع رأسك، فرفع رأسه فرأى نور محمد- صلى الله عليه وسلم- فى سرادق العرش، فقال: يا رب، ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبى من ذريتك اسمه فى السماء أحمد، وفى الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضا.
ويشهد لهذا، ما رواه الحاكم فى صحيحه أن آدم- عليه السّلام- رأى اسم محمد- صلى الله عليه وسلم- مكتوبا على العرش، وأن الله تعالى قال لآدم لولا محمد ما خلقتك «1» .
ولله در القائل:
وكان لدى الفردوس فى زمن الرضا ... وأثواب شمل الأنس محكمة السدى
يشاهد فى عدن ضياء مشعشعا ... يزيد على الأنوار فى الضوء والهدى
فقال إلهى ما الضياء الذى أرى ... جنود السما تعشو إليه ترددا
فقال نبى خير من وطىء الثرى ... وأفضل من فى الخير راح أو اغتدى
تخيرته من قبل خلقك سيدا ... وألبسته قبل النبيين سؤددا
فإن قلت: إن مذهب الأشاعرة «2»
: أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض، فكيف تكون خلقة محمد علة فى خلق آدم- صلى الله عليهما وسلم-؟
أجيب: بأن الظاهرة من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التى هى غايات ومنافع لأفعاله تعالى، لا بواعث على إقدامه، ولا علل مقتضية لفاعليته، لأن ذلك محال فى حقه تعالى، لما فيه من استكماله بغيره.
والنصوص شاهدة بذلك، كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3»
. أى: قرنت الخلق بالعبادة، أى خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، فالتعليل لفظى لا حقيقى، لأن الله تعالى مستغن عن المنافع، فلا
__________
(1) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- بسند ضعيف جدّا.
(2) هى: إحدى الفرق الإسلامية، التى تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، فى بعض الأمور، وإمامهم فى ذلك، أبو الحسن الأشعرى وإليه ينسبوا، توفى سنة (424 هـ) .
(3) سورة الذاريات: 56.(1/47)
يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره، لأن الله قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل.
وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: قلت يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، أخبرنى عن أول شىء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال: يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن فى ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جنى ولا أنسى، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثانى اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثانى الكرسى، ومن الثالث باقى الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثانى الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثانى نور قلوبهم- وهى المعرفة بالله- ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله «1»
..
وقد اختلف: هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدى؟
فقال الحافظ أبو يعلى الهمدانى: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت فى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» «2»
، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش. والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة بن الصامت، مرفوعا: «أول ما خلق الله القلم قال له اكتب، قال: رب، وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شىء» «3»
رواه أحمد، والترمذى وصححه.
__________
(1) موضوع: والحديث ليس له وجود فى «مصنف عبد الرزاق» .
(2) صحيح: وقد تقدم.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (2155) فى القدر، باب: ما جاء فى الرضا بالقضاء، و (3319) فى كتاب التفسير، باب: ومن سورة ن والقلم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2017) .(1/48)
ورويا أيضا من حديث أبى رزين العقيلى «1»
مرفوعا: «إن الماء خلق قبل العرش» «2» .
وروى السدى «3»
بأسانيد متعددة: «أن الله تعالى لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء» «4»
فيجمع بينه وبين ما قبله، بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوى المحمدى والماء والعرش، انتهى. وقيل: الأولية فى كل بالإضافة إلى جنسه، أى أول ما خلق الله من الأنوار نورى، وكذا فى باقيها.
وفى أحكام ابن القطان، مما ذكره ابن مرزوق، عن على بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «كنت نورا بين يدى ربى قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام» «5» .
وفى الخبر: لما خلق الله آدم جعل ذلك النور فى ظهره فكان يلمع فى جبينه، فيغلب على سائر نوره، ثم رفعه الله على سرير مملكته وحمله على أكتاف ملائكته وأمرهم فطافوا به فى السماوات ليرى عجائب ملكوته.
__________
(1) هو: الصحابى الجليل، لقيط بن عامر بن صبرة بن المنتفق، وكان وافد قومه.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3109) فى التفسير، باب: ومن سورة هود، والترمذى (182) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد فى «مسنده» (4/ 11 و 12) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(3) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة، أبو محمد القرشى، وهو السدى الكبير، كان يقعد فى سدة باب الجامع فسمى السدى، عرف بالتفسير، وهو صدوق إلا أنه يهم، مات سنة (127 هـ) ، وهناك سدى آخر، وهو محمد بن مروان، ويعرف بالسدى الأصغر، صاحب السائب الكلبى، صاحب التفسير، إلا أنه متهم بالكذب.
(4) قلت: لا يوجد حديث بهذا اللفظ، إلا أن معناه صحيح، حديث ورد فى «صحيح البخارى» من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كان الله ولم يكن شىء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض» ، الحديث (7418) فى التوحيد، باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، وقال الحافظ فى «الفتح» (6/ 289) : معناه: أنه خلق الماء سابقا، ثم خلق العرش على الماء، وقد وقع فى قصة نافع بن زيد الحميرى بلفظ: «كان عرشه على الماء ثم خلق القلم، فقال: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن، فصرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش» .
(5) انظر «كشف الخفاء» للعجلونى (827 و 2007) .(1/49)
قال جعفر بن محمد: مكثت الروح فى رأس آدم مائة عام، وفى صدره مائة عام وفى ساقيه وقدميه مائة عام، ثم علمه الله تعالى أسماء جميع المخلوقات، ثم أمر الملائكة بالسجود فسجدوا إلا إبليس، فطرده الله تعالى وخزاه.
وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة، كسجود أخوة يوسف له، فالمسجود له فى الحقيقة هو الله تعالى، وآدم كالقبلة.
وروى عن جعفر الصادق أنه قال: كان أول من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون.
وعن أبى الحسن النقاش: أول من سجد إسرافيل، قال ولذا جوزى بتولية اللوح المحفوظ «1» .
وعن ابن عباس: كان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر.
ثم خلق الله تعالى له حواء زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسميت حواء لأنها خلقت من حى، فلما استيقظ ورآها سكن إليها، فقالت الملائكة مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها الله لى؟ فقالوا: حتى تؤدى مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: تصلى على محمد- صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات «2» .
وذكر ابن الجوزى فى كتابه «سلوة الأحزان» : أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر، فقال: يا رب، وماذا أعطيها، فقال: يا آدم صل على حبيبى محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل «3» .
ثم إن الله تعالى أباح لهما نعيم الجنة، ونهاهما عن شجرة الحنطة، وقيل: شجرة العنب، وقيل: شجرة التين «4»
، فحسدهما إبليس، فهو أول
__________
(1) قلت: لم يرد فى ذلك خبر صحيح، والأولى الوقوف عما ذكر، وترك ما ترك.
(2) لا أصل له.
(3) لا أصل له.
(4) لا يوجد دليل صحيح على تعيين لك الشجرة.(1/50)
من حسد وتكبر، فأتى إلى باب الجنة فاحتال حتى دخل الجنة «1»
، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف وناح نياحة أحزنتهما، فهو أول من ناح، فقالا: ما يبكيك؟ قال: عليكما، تموتان وتفقدان النعيم، ألا أدلكما على شجرة الخلد، فكلا منها، وحلف لهما أنه ناصح، فهو أول من حلف كاذبا، وأول من غش.
فأكلت حواء منها، ثم زينت لآدم حتى أكل «2»
، وظنا أن أحدا لا يتجاسر أن يحلف بالله كاذبا، فقال الله تعالى: يا آدم، ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟! قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدا لا يحلف بك كاذبا، قال الله تعالى: وعزتى وجلالى، لأهبطنك إلى الأرض، لا تنال العيش إلا كدّا، فأهبط من الجنة.
وعن ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم، ما حملك على ما صنعت؟
قال: زينته لى حواء، قال: فإنى أعقبها ألاتحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها، ولأدمينها فى الشهر مرتين «3» .
وقال وهب بن منبه «4»
: لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكى ثلاثمائة سنة لا يرقأ له دمع.
وقال المسعودى «5»
: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حين أخرجه الله من الجنة.
__________
(1) قلت: لا أعلم كيف احتال حتى دخل الجنة، والله قد حرمها عليه، وعلى من احتال.
(2) قلت: ذكر الله أنهما أكلا منها بصيغة التثنية، وكذلك فوسوس لهما، بصيغة التثنية أى هما الفاعلان معا، والموسوس لهما الشيطان، وليست حواء، كما يزعم البعض.
(3) لم أجده، ولا أظنه بحديث صحيح.
(4) هو: وهب بن منبه، عالم أهل اليمن، ولد بصنعاء سنة (34 هـ) ، من خيار التابعين، ولذلك فحديثه مرسل.
(5) لعله يقصد صاحب كتاب: «مروج الذهب» وغيره من التواريخ، أبو الحسن، على بن الحسين بن على من ذرية ابن مسعود، كان إخباريّا، مات سنة (345 هـ) .(1/51)
وقال مجاهد «1»
: بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء، وأنبت الله من دموعه العود الرطب والزنجبيل والصندل وأنواع الطيب، وبكت حواء حتى أنبت الله من دموعها القرنفل والأفاوى.
يا بنى آدم، انظروا كيف بكى أبوكم آدم على فعلة واحدة ثلاثمائة سنة، فكيف بكم يا أرباب الكبائر العظيمة؟ فاعتبروا يا أولى الأبصار، كان كلما رأى الملائكة تصعد وتهبط ازداد شوقا إلى الأوطان، وتذكر العهد والجيران، يا أصحاب الذنوب احذروا زلة يقول فيها الحبيب: هذا فراق بينى وبينك، فيا ذا العقل السليم، انظر كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة، فمد يده إلى لقمة نهى عنها فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصى فإنها من نزلت به نزلت به وحطته عن مرتبته.
فإن قلت: هذه الفعلة التى أهبط بها آدم من الجنة، إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة فلم جرى عليه ما جرى بسببها، من نزع اللباس والإخراج من الجنة وغير ذلك؟
أجاب الزمخشرى «2» : بأنها ما كانت إلا صغيرة، مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التى هى أجل الطاعات، وأعظم الأعمال، وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما للخطيئة، وتفظيعا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفا له ولذريته فى اجتناب الخطايا، واتقاء الماثم.
يا هذا، انظر كم لله من لطف وحكمة فى إهباط آدم من الجنة إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين، واجتهاد العابدين المجتهدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين، يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب فإنى قريب، أجيب دعوة الداع، إن كان
__________
(1) هو: مجاهد بن جبير، شيخ القراء والمفسرين، روى عن ابن عباس، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، مات وهو ساجد سنة (102 هـ) .
(2) هو: كبير المعتزلة، أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى النحوى، صاحب «الكشاف» و «المفضل» ، كان رأسا فى البلاغة والعربية والمعانى والبيان، كما كان داعيا إلى الاعتزال، مات سنة (538 هـ) .(1/52)
حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى، وإن كان فاتك فى السماء زجل المسبحين فقد تعوضت فى الأرض أنين المذنبين، أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم، زجل المسبحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار، «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم» «1» .
سبحان من إذا لطف بعبده فى المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده وكان عليه وبالا، لقن الله آدم حجته، وألقى عليه ما تقبل به توبته، وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته، فصار عمله هباء منثورا قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ «2» إذا وضع عدله على عبد لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم يبق له سيئة.
انظر لما ظهرت فضائل آدم- عليه الصلاة والسلام- على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه، والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، إنما هى دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد، وكأنك بالعيش الماضى وقد عاد على أكمل من ذلك المعتاد.
ولما أظهر إبليس- عليه اللعنة- الحسد، سعى فى الأذى، حتى كان سببا فى إخراج السيد آدم من الجنة، وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول.
قالوا: وفيه إشارة، كأنه تعالى يقول: لو غفرت فى الجنة لما تبين كرمى، بأنى أغفر لنفس واحدة، بل أخرجه إلى الدنيا، وآتى بألوف من العصاة حتى أغفر له ولهم ليتبين جودى وكرمى. وأيضا: علم الله تعالى أن
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2749) فى التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) سورة الحجر: 34، 35.(1/53)
فى صلبه الأولاد، والجنة ليست دار توالد، وأيضا: ليخرج من ظهره فى الدنيا من لا نصيب له فى الجنة.
يا هذا، الجنة إن شاء الله إقطاعنا. وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل عليه الصلاة والسلام- إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم- وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «1» ، إنما يخرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة، نسأل الله التوفيق.
وقد اختلف فى الجنة التى سكنها آدم.
فقيل: هى جنة الخلد.
وقيل غيرها، جعلها الله دار ابتلاء، لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة، ولأنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وأمر ونهى، ودار سلامة لا دار ابتلاء، وامتحان، ودار قرار لا دار انتقال.
واحتج القائلون بأنها جنة الخلد، بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة، وقد دخلها نبينا- عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء، وبأن ما ذكروه من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن والنصب فإنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفى ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها، والله أعلم، انتهى.
وروى أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوبا على ساق العرش وعلى كل موضع فى الجنة اسم محمد- صلى الله عليه وسلم- مقرونا باسم الله تعالى، فقال يا رب هذا محمد من هو؟ فقال الله: هذا ولدك الذى لولاه ما خلقتك. فقال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد، فنودى: يا آدم، لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك «2» .
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما اقترف آدم
__________
(1) سورة البقرة: 25.
(2) ضعيف: لا أصل له.(1/54)
الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتنى بيدك، ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلىّ، وإذ سألتنى بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» «1» . رواه البيهقى فى دلائله من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال تفرد به عبد الرحمن ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبرانى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك.
وفى حديث سلمان عند ابن عساكر قال: «هبط جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم- فقال: إن ربك يقول: إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا، فقد اتخذتك حبيبا، وما خلقت خلقا أكرم على منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندى، ولو لاك ما خلقت الدنيا» «2» .
ولله در سيدى على وفا «3» حيث قال فى قصيدته التى أولها:
سكن الفؤاد فعش هنيئا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد
روح الوجود حياة من هو واجد ... لولاه ما تم الوجود لمن وجد
عيسى وآدم والصدور جميعهم ... هم أعين هو نورها لما ورد
لو أبصر الشيطان طلعة نوره ... فى وجه آدم كان أول من سجد
أو لو رأى النمروذ نور جماله ... عبد الجليل مع الخليل ولا عند «4»
لكن جمال الله جل فلا يرى ... إلا بتخصيص من الله الصمد
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 489) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) بسند ضعيف.
(2) ضعيف: وانظر «تهذيب تاريخ دمشق» لابن عساكر (1/ 323) .
(3) هو: على بن محمد بن محمد بن وفا، أبو الحسن القرشى الأنصارى الشاذلى، أحد المتصوفة، مات سنة (87 هـ) .
(4) قلت: صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «فإن لو تفتح عمل الشيطان» صحيح: أخرجه مسلم (2664) فى القدر، وأراه قد عمل فعلته مع هذا القائل.(1/55)
طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم
ولما خلق الله تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين صار لديها فاضت بركاته عليها، فولدت له فى تلك الأعوام الحسناء أربعين ولدا فى عشرين بطنا، ووضعت شيئا وحده، كرامة لمن أطلع الله تعالى بالنبوة سعده.
ولما توفى آدم، كان شيث- عليه الصلاة والسلام- وصيّا على ولده، ثم أوصى شيث ولده بوصية آدم: ألايضع هذا النور إلا فى المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية، تنقل من قرن إلى قرن، إلى أن أدى الله النور إلى عبد المطلب وولده عبد الله، وطهر الله سبحانه هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية، كما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- فى الأحاديث المرضية.
قال ابن عباس- فيما رواه البيهقى فى سننه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«ما ولدنى من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدنى إلا نكاح الإسلام» «1» .
والسفاح- بكسر السين المهملة-: الزنا، والمراد به هاهنا: أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم يتزوجها بعد ذلك.
وروى ابن سعد وابن عساكر عن هشام بن محمد بن السائب الكلبى، عن أبيه «2» . قال: كتبت للنبى- صلى الله عليه وسلم- خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان فى أمر الجاهلية.
وعن على بن أبى طالب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «خرجت من نكاح،
__________
(1) حسن: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (7/ 190) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3223) .
(2) قلت: هو محمد بن السائب الكلبى، الكوفى، مفسر، إلا أنه متهم بالكذب، مطروح الحديث.(1/56)
ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدنى أبى وأمى، لم يصبنى من نكاح أهل الجاهلية شىء» «1» . رواه الطبرانى فى الأوسط، وأبو نعيم وابن عساكر.
وروى أبو نعيم، عن ابن عباس، مرفوعا: «لم يلتق أبواى قط على سفاح، لم يزل الله ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما» «2» .
وعنه فى قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «3» . قال: من نبى إلى نبى حتى أخرجتك نبيّا «4» . رواه البزار.
وعنه أيضا فى الآية قال: ما زال النبى- صلى الله عليه وسلم- يتقلب فى أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه. رواه أبو نعيم.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه، فى قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» قال: لم يصبه شىء من ولادة الجاهلية، قال: وقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «خرجت من نكاح غير سفاح» «6» .
وعن أنس قال: قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ- بفتح الفاء- وقال: أنا أنفسكم نسبا وطهرا وحسبا، ليس فى آبائى من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح «7» . رواه ابن مردويه.
__________
(1) حسن: أخرجه العدنى، وابن عدى، والطبرانى فى «الأوسط» ، كما فى «صحيح الجامع» (3225) .
(2) أخرجه بنحوه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 118) عن أنس، وأورده ابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 255) وقال: هذا حديث غريب جدّا من حديث مالك تفرد به ا. هـ. وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1320) : ضعيف جدّا.
(3) سورة الشعراء: 219.
(4) أخرجه أبو عمر العدنى فى مسنده والبزار وابن أبى حاتم والطبرانى وابن بردويه وأبو نعيم فى «دلائل النبوة» عن ابن عباس، كما فى «فتح القدير» (4/ 122) .
(5) سورة التوبة: 128.
(6) حسن: وقد تقدم قريبا.
(7) أخرجه ابن مردويه، كما فى «فتح القدير» (2/ 420) .(1/57)
وفى الدلائل لأبى نعيم، عن عائشة عنه- صلى الله عليه وسلم- عن جبريل قال:
«قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد، ولم أر بنى أب أفضل من بنى هاشم» «1» كذا أخرجه الطبرانى فى الأوسط. قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن.
وفى البخارى عن أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذى كنت منه» «2» .
وفى مسلم عن واثلة بن الأسقع قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم» «3» . رواه الترمذى.
وعن العباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله خلق الخلق، فجعلنى فى خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلنى فى خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلنى فى خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» «4» رواه الترمذى هكذا منفردا به وقال: حديث حسن. أى خيرهم روحا وذاتا، وخيرهم بيتا أى أصلا.
وفى حديث رواه الطبرانى عن ابن عمر قال: «إن الله اختار خلقه فاختار منهم بنى آدم، ثم اختار بنى آدم فاختار منهم العرب، ثم اختارنى من العرب، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحب العرب فبحبى أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضى أبغضهم» «5» .
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 217) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه موسى بن عبيدة الربذى، وهو ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3557) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عينه ولا ينام قلبه.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2276) فى الفضائل، باب: فضل نسب النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (3605 و 3606) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(4) ضعيف: أخرجه الترمذى (3607) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(5) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (7/ 134) عن محمد بن على مرسلا، وعزاه-(1/58)
ثم اعلم أنه- عليه الصلاة والسلام- لم يشركه فى ولادته من أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصّا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية، ولتمام الشرف نهاية، وأنت إذا اختبرت حال نسبه، وعلمت طهارة مولده تيقنت أنه سلالة آباء كرام.
فهو- صلى الله عليه وسلم- النبى العربى الأمى الأبطحى الحرمى الهاشمى القرشى، نخبة بنى هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب وأعرقها فى النسب، وأشرفها فى الحسب، وأنضرها عودا، وأطولها عمودا، وأطيبها أرومة «1» ، وأعزها جرثومة «2» ، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأرجحها ميزانا، وأصحها إيمانا، وأعزها نفرا، وأكرمها معشرا، من قبل أبيه وأمه، ومن أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده.
* فهو محمد بن عبد الله، الذبيح.
* ابن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، فى قول ابن إسحاق، وهو الصحيح، وقيل سمى به لأنه ولد وفى رأسه شيبة.
وقيل: اسمه عامر، وهو قول ابن قتيبة، وتابعه عليه المجد الشيرازى «3» ، وكنيته أبو الحارث، بابن له أكبر ولده.
قيل: وإنما قيل له عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب، وهو بمكة، حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فمن ثم سمى عبد المطلب، وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه- وهو بهيئة بزة- فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدى، حياء أن يقول: هو ابن أخى، فلما أدخله وأحسن من حاله، أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك قيل له: عبد المطلب.
__________
صاحب «الجمع الصغير» للحاكم عن ابن عمرو وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1534) : ضعيف.
(1) الأرومة: الأصل.
(2) جرثومة الشىء: أصله، أو هى التراب المجتمع فى أصول الشجر، والذى تسفيه الريح.
(3) هو: الفيروز أبادى، صاحب «القاموس المحيط» ، محمد بن يعقوب بن محمد، أبو طاهر مجد الدين، توفى سنة (817 هـ) .(1/59)
وهو أول من خضب بالسواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة.
* ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له هاشم لأنه كان يهشم الثريد لقومه فى الجدب.
* ابن عبد مناف، واسمه المغيرة.
* ابن قصى- بفتح الصاد- تصغير قصى، أى بعيد، لأنه بعد عن عشيرته فى بلاد قضاعة، حين احتملته أمه فاطمة، واسمه مجمع، قال الشاعر:
أبوكم قصى كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
وقيل زيد، وقال الشافعى، كما حكاه عنه الحاكم أبو أحمد: يزيد.
* ابن كلاب، وهو إما منقول من المصدر الذى فى معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب: جمع كلب، لأنهم يريدون الكثرة، كما تسموا بسباع.
وسئل أعرابى: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو: مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمى أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. يريدون أن الأبناء عدة للأعداء، وسهام فى نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء.
واسم كلاب: حكيم، وقيل: عروة.
* ابن مرة.
* ابن كعب، وهو أول من جمع يوم العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش فى هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبى- صلى الله عليه وسلم- ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد فى ذلك أبياتا منها:
يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغى الحق خذلانا
* ابن لؤى تصغير اللّاى بوزن العصا، وهو الثور.(1/60)
* ابن غالب.
* ابن فهر، واسمه قريش، وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه فكنانى لا قرشى على الصحيح.
* ابن مالك.
* ابن النضر، واسمه قيس.
* ابن كنانة.
* ابن خزيمة، تصغير خزمة.
* ابن مدرة.
* ابن إلياس، بكسر الهمزة فى قول ابن الأنبارى، وبفتحها فى قول قاسم بن ثابت، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة للوصل، قال السهيلى: وهذا أصح. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام، ويذكر أنه كان يسمع فى صلبه تلبية النبى- صلى الله عليه وسلم- بالحج؟!
* ابن مضر، وهو أول من سن الحداء للإبل، وكان من أحسن الناس صوتا.
* ابن نزار- بكسر النون- من النزر، وهو القليل، قيل لأنه لما ولد، ونظر أبوه إلى نور محمد- صلى الله عليه وسلم- بين عينيه فرح فرحا شديدا، وأطعم وقال:
إن هذا كله نزر، أى قليل لحق هذا المولود، فسمى نزارا لذلك.
* ابن معد.
* ابن عدنان.
قال ابن دحية «1» : أجمع العلماء- والإجماع حجة- على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه. انتهى.
__________
(1) هو: مجد الدين، أبو الخطاب، عمر بن حسن بن على الكلبى، كان يذكر أنه من ولد دحية- رضى الله عنه-، كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وله فراسة بالحديث، فقيها على مذهب مالك، تكلم فيه، توفى سنة (663 هـ) .(1/61)
ولله در القائل:
ونسبة عز هاشم من أصولها ... ومحتدها المرضى أكرم محتد
سمت رتبة علياء أعظم بقدرها ... ولم تسم إلا بالنبى محمد
ويرحم الله القائل:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
وعن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان، ثم يمسك ويقول: «كذب النسابون- مرتين أو ثلاثا-» «1» رواه فى مسند الفردوس. لكن قال السهيلى: الأصح فى هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود.
وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ «2» قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدعون علم الأنساب ونفى الله علمها عن العباد.
وروى عن عمر أنه قال: إنما ينتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندرى ما هو.
وعن ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.
وعن عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدا يعرف بعد معد بن عدنان.
وسئل مالك- رحمه الله- عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك، وقال من أخبره بذلك؟ وكذا روى عنه فى رفع نسب الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
فالذى ينبغى لنا: الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ، وعواصة تلك الأسماء، مع قلة الفائدة.
__________
(1) موضوع: أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» عن ابن عباس، كما فى «ضعيف الجامع» (4351) .
(2) سورة إبراهيم: 9.(1/62)
وقد ذكر الحافظ أبو سعد النيسايورى عن أبى بكر بن أبى مريم عن سعيد بن عمرو الأنصارى عن أبيه عن كعب الأحبار: أن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما صار إلى عبد المطلب وأدرك، نام يوما فى الحجر فانتبه مكحولا مدهونا، قد كسى حلة البهاء والجمال، فبقى متحيرا لا يدرى من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده ثم انطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة فولدت له الحارث ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو، وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك الإذفر، ونور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يضىء فى غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير «1» فيتقربون به إلى الله تعالى، ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور محمد- صلى الله عليه وسلم- غيثا عظيما.
ولما قدم أبرهة ملك اليمن- من قبل أصحمة النجاشى- لهدم بيت الله الحرام، وبلغ عبد المطلب ذلك، قال: يا معشر قريش، لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربّا يحميه ويحفظه.
ثم جاء أبرهة فاستاق إبل قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستدارت دائرة غرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جبينه كالهلال واشتد شعاعها على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش: ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر، فو الله ما استدار هذا النور منى إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين.
ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش، فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيّا عليه، فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب، وقال: أشهد أنك سيد قريش حقّا.
وروى: أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سايس فيله الأبيض
__________
(1) ثبير: اسم جبل بمنى.(1/63)
العظيم الذى كان لا يسجد للملك أبرهة كما تسجد سائر الفيلة أن يحضره بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب، برك كما يبرك البعير، وخر ساجدا، وأنطق الله تعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذى فى ظهرك يا عبد المطلب، كذا فى النطق المفهوم.
ولما دخل جيش أبرهة ومعهم الفيل لهدم الكعبة الشريفة برك الفيل، فضربوه فى رأسه ضربا شديدا ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام.
ثم أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر فى منقاره وحجران فى رجليه كأمثال العدس، لا تصيب أحدا منهم إلا أهلكته، فخرجوا هاربين يتساقطون بكل طريق.
وأصيب أبرهة فى جسده بداء، فتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى انصدع قلبه.
وإلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ «1» السورة إلى آخرها.
فإن قلت: لم قال الله تعالى له- عليه الصلاة والسلام-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ.. «2» مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل؟
فالجواب أن المراد من الرؤية هنا: العلم والتذكرة، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر، فكأن العلم الحاصل به ضرورى مساو فى القوة للرؤية.
وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وتأسيسا لنبوته وإرهاصا لها، وإعزازا لقومه بما ظهر عليهم من الاعتناء حتى دانت لهم العرب، واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس، بحماية الله عز وجل لهم، ودفعه عنهم مكر أبرهة، الذى لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وكان ذلك كله إرهاصا لنبوته- عليه الصلاة والسلام-.
__________
(1) سورة الفيل: 1- 5.
(2) سورة الفيل: 1.(1/64)
قال الرازى «1» : ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله- عليه الصلاة والسلام-، يعنى قبل بعثته.
وخالفه العلامة السيد «2» فى شرح المواقف- تبعا لغيره- فاشترط فى المعجز ألايتقدم على الدعوى، بل يكون مقارنا لها. كما سيأتى إن شاء الله فى المقصد الرابع.
فإن قلت: إن الحجاج «3» خرب الكعبة ولم يحدث شىء من ذلك!!
فالجواب: أن ذلك إرهاصا لأمر نبينا- صلى الله عليه وسلم-، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه، فلما ظهر- عليه الصلاة والسلام-، وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية فلا حاجة إلى شىء من ذلك، والله أعلم.
ولما فرج الله عن عبد المطلب، ورجع أبرهة خائبا، فبينما هو يوما نائم فى الحجر، إذ رأى مناما عظيما، فانتبه فزعا مرعوبا، وأتى كهنة قريش، وقص عليهم رؤياه، فقالت له الكهنة: إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض وليكونن فى الناس علما مبينا. فتزوج فاطمة. وحملت فى ذلك الوقت بعبد الله الذبيح، وقصته فى ذبحه مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة «4» .
وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم، لأن الجرهمى عمرو بن الحارث لما أحدث قومه بحرم الله الحوادث، وقيض الله لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو بن الحارث إلى نفائس فجعلها فى زمزم وبالغ فى طمها، وفر
__________
(1) هو: الإمام كبير المتكلمين، فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشى البكرى الطبرستانى الأصولى المفسر، فى تواليفه بلايا وعظائم وانحرافات عن السنة، إلا أنه توفى على طريقة حميدة، مات بهراة، سنة (606 هـ) .
(2) هو: أبو الحسن، على بن محمد بن على بن السيد الزين، الحسينى، المعروف بالجرجانى، ويعرف بالسيد الشريف، من علماء اللغة العربية، توفى بشيراز سنة (816 هـ) .
(3) هو: حجاج بن يوسف الثقفى، أمير العراق، الوالى الظالم الغشوم، توفى سنة (95 هـ) .
(4) انظر ما فى «البداية والنهاية» (1/ 147) .(1/65)
إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رفعت عنها الحجب برؤيا منام رآها عبد المطلب، دلته على حفرها بأمارات عليها.
فمنعته قريش من ذلك، ثم آذاه من السفهاء من آذاه، فاشتد بذلك بلواه، ومعه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه فنذر لئن جاءه عشرة بنين وصاروا له أعوانا ليذبحن أحدهم لله قربانا. ثم احتفر عبد المطلب زمزم فكانت له فخرا وعزّا.
فلما تكامل بنوه عشرة وهم: الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، وقر الله عينه بهم، نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى فى المنام قائلا يقول: يا عبد المطلب: أوف بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ فزعا مرعوبا، وأمر بذبح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين. ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورا، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا، وأطعمه للمساكين، ثم نام: فنودى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فقال: ما أكبر من ذلك فقال: قرب أحد أولادك الذى نذرته.
فاغتم غمّا شديدا، وجمع أولاده، وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ فقال: ليأخذ كل واحد منكم قدحا- والقدح: سهم بغير نصل- ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا، وأخذوا أقداحهم ودخلوا على هبل «1» .
وكان فى جوف الكعبة، وكانوا يعظمونه، ويضربون بالقداح عنده، فيستقسمون بها، أى يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذى لها- قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح وقام يدعو الله تعالى، فخرج على عبد الله، وكان أحب ولده إليه.
فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد الله، وأخذ الشفرة ثم أقبل إلى إساف ونائلة- صنمين عند الكعبة ينحر ويذبح عندهما النسائك- فقام إليه
__________
(1) اسم صنم من أصنامهم.(1/66)
سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفى بنذرى، فقالوا: لا ندعك أن تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه وتكون سنة. وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة- قلت: قيل اسمها:
قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغنى فى كتاب المبهمات، وذكر ابن إسحاق أن اسمها: سجاح- فلعلها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك.
فانطلقوا حتى أتوها بخيبر «1» ، فقص عليها عبد المطلب القصة، فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل ثم اضربوا أيضا، هكذا حتى يرضى ربكم. فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربكم وتخلص صاحبكم.
فرجع القوم إلى مكة، وقربوا عبد الله، وقربوا عشرة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو، فخرجت القداح على ولده، ولم يزل يزيد عشرا عشرا حتى بلغت مائة فخرجت القداح على الإبل. فنحرت الإبل وتركت، لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع.
ولهذا روى- كما عند الزمخشرى فى الكشاف- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا ابن الذبيحين» «2» .
وعند الحاكم فى المستدرك، عن معاوية بن أبى سفيان: كنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأتاه أعرابى، فقال: يا رسول الله، خلقت البلاد يابسة، والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد علىّ مما أفاء الله عليك يابن الذبيحين.
__________
(1) اسم حصن مشهور لليهود قرب المدينة.
(2) لا يوجد بهذا اللفظ، إلا أنه عند الحاكم فى «مستدركه» (2/ 604) من حديث معاوية رضى الله عنه- أن أعرابيّا قام يشكو جدب أرضه يا رسول الله خلقت البلاد يابسة، والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد على بما أفاد الله عليك يابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكر عليه. إلا أن إسناده واه.(1/67)
قال: فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه. الحديث «1» ، وتأتى تتمته قريبا إن شاء الله تعالى-.
ويعنى بالذبيحين: عبد الله وإسماعيل بن إبراهيم.
وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق.
فإن صح هذا، فالعرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى إخبارا عن بنى يعقوب- عليه السّلام-: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «2» .
وفى حديث معاوية- الموعود بتتمته قريبا- قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بنى مخزوم، وقالوا أرض ربك، وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول وإسماعيل الذبيح الثانى.
قال ابن القيم: «ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب أن الذبح كان بمكة، ولذلك جعل القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمرات تذكيرا بشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه» .
ثم قال: «ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب، ومن تلقى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة» .
«وأيضا فإن الله سمى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه: عليما» .
«وأيضا: فإن الله أجرى العادة البشرية: أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم لما سأل ربه الولد، ووهبه له تعلقت شعبة من
__________
(1) إسناده واه، وقد تقدم فيما قبله.
(2) سورة البقرة: 133.(1/68)
قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذ إبراهيم خليلا، والخلة منصب يقتضى توحيد المحبوب بالمحبة، وألايشارك فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما قدم على ذبحه، كانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق فى الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هى فى العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدى الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا» . انتهى.
وقد أنشد بعضهم فقال:
إن الذبيح- هديت- إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا ... وأبانه التفسير والتأويل
وروى مما ذكره المعافى بن زكريا، أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود: أى ابنى إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم، للفضل الذى ذكره الله عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم. انتهى.
فانظر أيها الخليل ما فى هذه القصة من السر الجليل، وهو أن الله تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم لذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم الدين، وهذه سنة الله تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره، وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه، قال الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «1» ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «2» .
__________
(1) سورة القصص: 5، 6.
(2) سورة الجمعة: 4.(1/69)
وقد استشكل بعض الناس: أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه بهالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة بهما.
قال السهيلى: ولا إشكال فى هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه السلام اثنى عشر، فإن صح هذا، فلا إشكال فى الخبر، وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون، فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازا، فكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره.
ويقع فى بعض السير أن عبد الله كان أصغر بنى أبيه عبد المطلب. وهو غير معروف. ولعل الرواية أصغر بنى أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس أصغر من حمزة.
وروى عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجىء به حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لى: قبّل أخاك، فقبلته.
فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر؟!
ولكن رواه البكائى»
، ولروايته وجه: وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد بعد ذلك حمزة والعباس.
__________
(1) هو: الشيخ الحافظ المحدث، أبو محمد، زياد بن عبد الله بن الطفيل العامرى، البكائى الكوفى، راوى السيرة النبوية عن ابن إسحاق، توفى سنة (183 هـ) .(1/70)
[آيات حمله صلى الله عليه وسلم]
ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر الإبل، مرّ على أمرأة من بنى أسد ابن عبد العزى، وهى عند الكعبة، واسمها قتيلة- بضم القاف وفتح المثناة الفوقية- ويقال رقية بنت نوفل، فقالت له حين نظرت إلى وجهه، وكان أحسن رجل رؤى فى قريش: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع على الآن، لما رأت فى وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبى الكريم صلى الله عليه وسلم-، فقال لها: أنا مع أبى، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه «1» ، وقيل:
أجابها بقوله:
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذى تبغينه ... يحمى الكريم عرضه ودينه
وعند أبى نعيم والخرائطى وابن عساكر، من طريق عطاء عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من تبالة «2» متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة فى وجه عبد الله فقالت له ... وذكر نحوه.
ثم خرج به عبد المطلب، حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا وشرفا- فزوجه ابنته آمنة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا.
فزعموا: أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين أيام منى، فى شعب أبى طالب عند الجمرة، فحملت برسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا
__________
(1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/ 164) .
(2) تبالة: بفتح التاء وتخفيف الباء، اسم بلد باليمن معروف.(1/71)
تعرضين على اليوم ما عرضت بالأمس، فقالت: فارقك النور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فى فأبى الله، إلا أن يجعله حيث شاء.
ولما حملت آمنه برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ظهر لحمله عجائب، ووجد لإيجاده غرائب.
فذكروا أنه لما استقرت نطفته الزكية، ودرته المحمدية فى صدفة آمنة القرشية نودى فى الملكوت ومعالم الجبروت، أن عطروا جوامع القدس الأسنى، وبخروا جهات الشرف الأعلى، وافرشوا سجادات العبادات فى صفف الصفا لصوفية الملائكة المقربين، أهل الصدق والوفا، فقد انتقل النور المكنون إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر، والفخر المصون، قد خصها الله تعالى القريب المجيب بهذا السيد المصطفى الحبيب، لأنها أفضل قومها حسبا وأنجب، وأزكاهم أصلا وفرعا وأطيب.
وقال سهل بن عبد الله التسترى فيما رواه الخطيب البغدادى الحافظ: لما أراد الله تعالى خلق محمد- صلى الله عليه وسلم- فى بطن أمه آمنة، ليلة رجب، وكانت ليلة جمعة، أمر الله تعالى فى تلك الليلة رضوان خازن الجنان، أن يفتح الفردوس، وينادى مناد فى السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون الذى يكون منه النبى الهادى، فى هذه الليلة يستقر فى بطن أمه الذى فيه يتم خلقه ويخرج إلى الناس بشيرا ونذيرا.
وفى رواية كعب الأحبار: أنه نودى تلك الليلة فى السماء وصفاحها، والأرض وبقاعها، أن النور المكنون الذى منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستقر الليلة فى بطن آمنة، فيا طوبى لها ثم يا طوبى، وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا منكوسة، وكانت قريش فى جدب شديد، وضيق عظيم، فاخضرت الأرض وحملت الأشجار، وأتاهم الرفد من كل جانب، فسميت تلك السنة التى حمل فيها برسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة الفتح والابتهاج.
وطوبى: الطيب والحسنى والخير والخيرة. قاله فى القاموس. وقال(1/72)
غيره: فرح وقرة عين. وقال الضحاك: عطية. وقال عكرمة: نعم. وفى الحديث: «طوبى للشام فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها» «1» فالمراد بها هنا:
«فعلى» من الطيب وغيره مما ذكر، لا الجنة ولا الشجرة.
وفى حديث ابن إسحاق: أن آمنة كانت تحدث: أنها أتيت حين حملت به- صلى الله عليه وسلم- فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وقالت: ما شعرت بأنى حملت به، ولا وجدت له ثقلا، ولا وحما، كما تجد النساء إلا أنى أنكرت رفع حيضتى، وأتانى آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال: هل شعرت بأنك حملت بسيد الأنام، ثم أمهلنى حتى إذا دنت ولادتى أتانى فقال لى:
قولى:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
ثم سميه محمدا «2» .
وفى رواية غير ابن إسحاق: وعلقى عليه هذه التميمة، قالت فانتبهت وعند رأسى صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه الأبيات:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد
عن السبيل حائد ... على الفساد جاهد
من نافث أو عاقد ... وكل خلق مارد
يأخذ بالمراصد ... فى طرق الموارد
قال الحافظ عبد الرحيم العراقى. هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس ولا أصل لها. انتهى.
وعن شداد بن أوس أن رجلا من بنى عامر سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما حقيقة أمرك، قال: «بدو شأنى أنى دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخى عيسى،
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3954) فى المناقب، باب: فى فضل الشام واليمن، وأحمد فى «مسنده» (5/ 184) ، وابن حبان فى «صحيحه» (114 و 7304) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3920) .
(2) أخرجه ابن إسحاق فى «السيرة» (1/ 166) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 82) .(1/73)
وأنى كنت بكر أبى وأمى، وأنها حملت بى كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكى إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمى رأت فى منامها أن الذى فى بطنها نور» «1» . الحديث.
ففيه: أن أمه- عليه السّلام- وجدت الثقل فى حمله، وفى سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا؟!
وجمع أبو نعيم الحافظ بينهما: بأن الثقل كان فى ابتداء علوقها به، والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون على الحالين خارجا عن المعتاد المعروف، انتهى.
وخرج أبو نعيم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة، وقالت:
حمل برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورب الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، لم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا، وله فى كل شهر من كل شهور حمله نداء فى الأرض ونداء فى السماء: أن أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم- صلى الله عليه وسلم- ميمونا مباركا.. الحديث. وهو شديد الضعف.
وعن غيره: لم يبق فى تلك الليلة دار إلا أشرقت ولا مكان إلا دخله النور، ولا دابة إلا نطقت.
وعن أبى زكريا يحيى بن عائذ «2» : بقى- صلى الله عليه وسلم- فى بطن أمه تسعة أشهر كملا، لا تشكو وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: والله ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة منه.
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 127 و 128) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6404) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 453 و 656) ، من حديث العرباض بن سارية رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2091) .
(2) هو: يحيى بن مالك بن عائذ، الإمام المجود، الحافظ المحقق، أبو زكريا الأندلسى، سمع من ابن عبد ربه صاحب «العقد الفريد» ، مات بالأندلس سنة (376 هـ) .(1/74)
ولما تم لها من حملها شهران توفى عبد الله، وقيل: توفى وهو فى المهد، قاله الدولابى «1» .
وعن ابن أبى خيثمة: وهو ابن شهرين.
وقيل: وهو ابن سبعة. وقيل: وهو ابن ثمانية وعشرين شهرا.
والراجح المشهور: الأول.
وكان عبد الله قد رجع ضعيفا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم، ومروا بالمدينة يثرب، فتخلف عند أخواله بنى عدى بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه فقالوا: خلفناه مريضا، فبعث إليه أخاه الحارث فوجده قد توفى، ودفن فى دار التابعة، وقيل دفن بالأبواء.
وقالت آمنة زوجته ترثيه:
عفا جانب البطحاء من آل هاشم ... وجاور لحدا خارجا فى الغمائم
دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت فى الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه فى التزاحم
فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم
ويذكر عن ابن عباس، أنه لما توفى عبد الله قالت الملائكة إلهنا وسيدنا، بقى نبيك يتيما، فقال الله تعالى: أنا له حافظ ونصير.
وقيل لجعفر الصادق «2» : لم يتم النبى- صلى الله عليه وسلم- من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق. نقله عنه أبو حيان فى البحر.
__________
(1) هو: الإمام الحافظ البارع، أبو بشر، محمد بن حماد بن سعيد، الأنصارى الدولابى الرازى، ودولاب قرية من قرى الرّى، مات سنة (310 هـ) .
(2) هو: جعفر بن محمد بن على، من نسل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وأمه من أحفاد أبى بكر الصديق، كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبى بكر ظاهرا وباطنا، وكان يقول: برئ الله ممن تبرأ من أبى بكر وعمر، مات سنة (148 هـ) .(1/75)
آيات ولادته صلى الله عليه وسلم
وروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبى- وكان من أوعية العلم- قال: لما حضرت ولادة آمنة قال الله تعالى لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها، وأبواب الجنان، وألبست الشمس يومئذ نورا عظيما، وكان قد أذن الله تعالى تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لمحمد- صلى الله عليه وسلم-.. الحديث وهو مطعون فيه.
وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابورى فى كتابه الكبير كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة والبشرى عن كعب فى حديثه الطويل، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عباس قال: كانت آمنة تحدث وتقول: أتانى آتانى أت حين مربى من حملى ستة أشهر فى المنام وقال لى يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمى شأنك قالت ثم لما أخذنى ما يأخذ النساء ولم يعلم بى أحد لا ذكر ولا أنثى، وإنى لوحيدة فى المنزل وعبد المطلب فى طوافه، فسمعت وجبة عظيمة وأمرا عظيما هالنى، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادى فذهب عنى الرعب وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابنى نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف، يحدقن بى فبينا أنا أتعجب وأنا أقول واغوثاه من أين علمن بى. قال فى غير هذه الرواية فقلن لى نحن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين واشتد بى الأمر وأنا أسمع الوجبة فى كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم فبينا أنا كذلك إذا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول خذاه عن أعين الناس، قالت ورأيت رجالا قد وقفوا فى الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتى، مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف الله عن بصرى فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة(1/76)
أعلام مضروبات، علما بالمشرق وعلما بالمغرب وعلما على ظهر الكعبة فأخذنى المخاض فوضعت محمدا- صلى الله عليه وسلم- فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عنى، فسمعت مناديا ينادى طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمى فيها الماحى، لا يبقى شىء من الشرك إلا محى فى زمنه، ثم انجلت عنه فى أسرع وقت.. الحديث. وهو مما تكلم فيه.
وروى الخطيب البغدادى بسنده كما ذكره صاحب السعادة والبشرى أيضا أن آمنة قالت لما وضعته- عليه السّلام- رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال، حتى غشيته وغيب عنى فسمعت مناديا ينادى طوفوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- جميع الأرض وأعرضوه على كل روحانى من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وزهد عيسى، واغمسوه فى أخلاق النبيين قالت: ثم انجلت عنى فإذا به قد قبض على حريرة بيضاء خضراء مطوية طيّا شديدا ينبع من تلك الحريرة ماء وإذا قائل يقول بخ بخ قبض محمد- صلى الله عليه وسلم- على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعا فى قبضته، قالت ثم نظرت إليه فإذا به كالقمر ليلة البدر وريحه يسطع كالمسك الإذفر، وإذا بثلاثة نفر فى يد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمرد أخضر وفى يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه فى الحريرة ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ساعة ثم رده إلى ورواه أبو نعيم عن ابن عباس وفيه نكارة.(1/77)
وروى الحافظ أبو بكر بن عائذ فى كتابة المولد- كما نقله عنه الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرح بردة المديح- عن ابن عباس: لما ولد- صلى الله عليه وسلم- قال فى أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقى لنبى علم إلا وقد أعطيته، فأنت أكثرهم علما، وأشجعهم قلبا.
وروى محمد بن سعد من حديث جماعة منهم عطاء وابن عباس: أن آمنة بنت وهب قالت: لما فصل منى- تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء «1» .
وروى الطبرانى: أنه لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يده مشيرا بالسبابة كالمسبح بها.
وروى عن عثمان بن أبى العاصى عن أمه أم عثمان الثقفية- واسمها فاطمة بنت عبد الله- قالت: لما حضرت ولادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيت البيت حين وقع قد امتلأ نورا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع على «2» . رواه البيهقى.
وأخرج أحمد والبزار والطبرانى والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية. أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، إنى دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى التى رأت، وكذلك أمهات الأنبياء يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- رأت حين وضعته نورا أضاء له قصور الشام» «3» قال الحافظ ابن حجر: صححه ابن حبان والحاكم.
وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة: قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها. وأخرج أيضا،
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 101) .
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 111) باختلاف يسير.
(3) ضعيف: وقد تقدم قريبا.(1/78)
عن بريدة عن مرضعته فى بنى سعد أن آمنة قالت: رأيت كأنه خرج من فرجى شهاب أضاءت له الأرض حتى رأيت قصور الشام.
وعن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله أن أم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: لما ولدته خرج من فرجى نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا ما به قذر «1» ، رواه ابن سعد وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب فى شعره، حيث قال:
وأنت لما ولدت أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن فى ذاك الضياء وفى النو ... ر وسبل الرشاد نخترق
قال فى اللطائف: «وخروج هذا النور عند وضعه، وإشارة إلى ما يجىء به من النور الذى اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك. قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ «2» الآية، وأما إضاءة قصور بصرى بالنور الذى خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته، فإنها دار ملكه- كما ذكر كعب: أن فى الكتب السالفة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- مولده بمكة ومهاجره بيثرب وملكه بالشام- فمن مكة بدت نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام-، وإلى الشام انتهى ملكه، ولهذا أسرى به- صلى الله عليه وسلم- إلى الشام، إلى بيت المقدس، كما هاجر قبله إبراهيم- عليه السّلام- إلى الشام، وبها ينزل عيسى ابن مريم- عليه السّلام-، وهى أرض المحشر والمنشر. وخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عليكم بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده» «3» ، انتهى ملخصا.
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 101) باختلاف يسير.
(2) سورة المائدة: 15، 16.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود (2483) فى الجهاد، باب: فى سكنى الشام، وأحمد فى «مسنده» (4/ 110، 5/ 33 و 288) وابن حبان فى «صحيحه» (7306) ، والحاكم فى «مستدركه» (4/ 555) ، من حديث عبد الله بن حوالة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/79)
وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء قالت: لما ولدت آمنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقع على يدى فاستهل، فسمعت قائلا يقول:
رحمك الله، قالت الشفاء: وأضاء لى ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض قصور الروم، قالت: ثم ألبنته وأضجعته، فسمعت قائلا يقول: أى ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث منى على بال حتى بعثه الله فكنت فى أول الناس إسلاما.
ومن عجائب ولادته- عليه السّلام- ما خرجه البيهقى وأبو نعيم عن حسان ابن ثابت قال: إنى لغلام ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا يهودى يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع، قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذى ولد به هذه الليلة «1» .
وعن عائشة قالت: كان يهودى قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: يا معشر قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود، قالوا: لا نعلم، قال: انظروا، فإنه ولد فى هذه الليلة نبى هذه الأمة. بين كتفيه علامة. فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فذهب اليهودى معهم إلى أمه، فأخرجته لهم، فلما رأى اليهودى العلامة خر مغشيّا عليه، وقال: ذهبت النبوة من بنى إسرائيل، يا معشر قريش: أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب «2» . رواه يعقوب بن سفيان بإسناد حسن كما قاله فى فتح البارى.
ومن عجائب ولادته أيضا: ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس. وكان لها ألف عام لم تخمد «3» ، كما رواه البيهقى وأبو نعيم والخرائطى فى «الهواتف» وابن عساكر.
__________
(1) أخرجه ابن هشام فى «السيرة» (1/ 171) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 486) ، والبيهقى فى «الدلائل» (1/ 110) .
(2) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 601- 602) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 108، 109) .
(3) ذكره البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 18، 19، 49) .(1/80)
وفى سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات، وقد ملك منهم فى أربع سنين عشرة، ذكره ابن ظفر وزاد ابن سيد الناس: وملك الباقون إلى خلافة عثمان- رضى الله عنه-.
ومن ذلك أيضا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب، وقطع رصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع.
ولقد أحسن الشقراطيسى حيث قال:
ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف فى الإشراق والطفل
وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل
ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجن بالشعل
وولد- صلى الله عليه وسلم- معذورا أى مختونا مسرورا- أى مقطوع السرة- كما روى من حديث أبى هريرة عند ابن عساكر.
وروى الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق، عن أنس: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من كرامتى على ربى أنى ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتى» «1» وصحّحه الضياء فى المختارة.
وعن ابن عمر قال: ولد النبى- صلى الله عليه وسلم- مسرورا مختونا. رواه ابن عساكر.
قال الحاكم فى المستدرك: تواترت الأخبار أنه- عليه السّلام- ولد مختونا «2» .
انتهى.
وتعقبه الحافظ الذهبى فقال: ما أعلم صحة ذلك؟! فكيف يكون متواترا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها فى السير، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «ضعيف الجامع» (5310) .
(2) قاله الحاكم فى «مستدركه» (2/ 601، 602) .(1/81)
وقد حكى الحافظ زين الدين العراقى، أن الكمال بن العديم ضعف أحاديث كونه ولد مختونا، وقال: إنه لا يثبت فى هذا شىء من ذلك.
وأقره عليه، وبه صرح ابن القيم ثم قال: ليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم-، فإن كثيرا من الناس ولد مختونا.
وحكى الحافظ ابن حجر: أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد فى القمر فسخت قلفته- أى اتسعت- فيصير كالمختون «1» .
وفى «الوشاح» لابن دريد: قال ابن الكلبى: بلغنى أن آدم خلق مختونا واثنى عشر نبيّا من بعده خلقوا مختونين آخرهم محمد- صلى الله عليه وسلم-: شيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وسليمان وشعيب ويحيى وهود وصالح- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
وفى هذه العبارة تجوز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن الله تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتبار أنه على صفة المقطوع.
وقد حصل من الاختلاف فى ختانه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ولد مختونا كما تقدم.
الثانى: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا. رواه الوليد بن مسلم «2» بسنده إلى ابن عباس وحكاه ابن عبد البر فى التمهيد «3» .
والثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم والدمياطى ومغلطاى وقالوا: إن جبريل- عليه السّلام- ختنه حين طهر قلبه.
وكذا أخرجه الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم من حديث أبى بكرة.
قال الذهبى: وهذا منكر.
واعلم أن الختان: هو قطع القلفة التى تغطى الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التى فى أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل:
__________
(1) قاله فى «فتح البارى» (10/ 340) .
(2) قلت: هو مدلس، وأكثر أخباره ضعيفة.
(3) قلت: انظر «فتح البارى» (10/ 570) .(1/82)
إعذارا- بالعين المهملة والذال المعجمة والراء- وختان المرأة خفاضا- بالخاء المعجمة والفاء والضاد المعجمة أيضا-.
واختلف العلماء: هل هو واجب؟.
* فذهب أكثرهم إلى أنه سنّة وليس بواجب، وهو قول مالك وأبى حنيفة وبعض أصحاب الشافعى.
* وذهب الشافعى إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية.
* وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى أنه واجب فى حق الرجال، سنة فى حق النساء.
واحتج من قال إنه سنة، بحديث أبى المليح بن أسامة عن أبيه: أن النبى صلى الله عليه وسلم- قال: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء» «1» رواه أحمد فى مسنده والبيهقى.
وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة هنا خلاف الواجب، بل المراد الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» ، وثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «اختتن إبراهيم النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم» «3» وبما روى أبو داود من قوله- صلى الله عليه وسلم- للرجل الذى أسلم: «ألق عنك شعر الكفر واختتن» «4» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 75) ، والبيهقى فى «الكبرى» (8/ 325) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2938) .
(2) سورة النحل: 123.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2356) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، ومسلم (2370) فى الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم-.
(4) حسن: أخرجه أبو داود (356) فى الطهارة، باب: فى الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، وأحمد فى «مسنده» (3/ 415) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 659) ، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 172) ، (8/ 323) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 395) ، من حديث عثيم ابن كليب عن أبيه عن جده- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1251) .(1/83)
واحتج القفال لوجوبه: بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة، ويمنع صحة الصلاة، فيجب إزالتها.
وقال الفخر الرازى: «الحكمة من الختان، أن الحشفة قوية الحس، فما دامت مستورة تقوى اللذة عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة، وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعا لها، كما تفعل المانوية، فذلك إفراط وإبقاء القلفة تفريط، فالعدل الختان» . انتهى.
وإذا قلنا بوجوب الختان، فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا، لما روى البخارى فى صحيحه عن ابن عباس أنه سئل: مثل من أنت حين قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «وأنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك» «1» . وقال بعض أصحابنا: يجب على الوالى أن يختن الصبى قبل البلوغ، والله أعلم.
وقد اختلف فى عام ولادته- صلى الله عليه وسلم-:
فالأكثرون على أنه عام الفيل، وبه قال ابن عباس، ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه، وقال: كل قول يخالفه وهم.
والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يوما، وإليه ذهب السهيلى فى جماعة.
وقيل: بعده بخمسة وخمسين يوما، وحكاه الدمياطى فى آخرين وقيل:
بشهر، وقيل بأربعين يوما.
وقيل: بعد الفيل بعشر سنين وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: غير ذلك.
والمشهور أنه بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته، وتقدمة لظهوره وبعثته، وإلا فأصحاب الفيل- كما قاله ابن القيم- كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه، إرهاصا وتقدمة للنبى الذى خرج من مكة، وتعظيما للبلد الحرام.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6299) فى الاستئذان، باب: الختان بعد الكبر ونتف الإبط.(1/84)
واختلف أيضا فى الشهر الذى ولد فيه.
والمشهور: أنه ولد فى شهر ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء.
ونقل ابن الجوزى الاتفاق عليه.
وفيه نظر: فقد قيل فى صفر، وقيل فى ربيع الآخر. وقيل فى رجب، ولا يصح.
وقيل: فى رمضان، وروى عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به فى أيام التشريق.
وأغرب من قال: ولد فى عاشوراء.
وكذا اختلف أيضا فى أى يوم من الشهر:
فقيل إنه غير معين، إنما ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين، والجمهور على أنه يوم معين منه.
فقيل: لليلتين خلتا منه.
وقيل: لثمان خلت منه، قال الشيخ قطب الدين القسطلانى: وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم، وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن، واختاره الحميدى، وشيخه ابن حزم، وحكى القضاعى فى «عيون المعارف» إجماع أهل الزيج عليه، ورواه الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم، وكان عارفا بالنسب وأيام العرب، أخذ ذلك عن أبيه جبير.
وقيل لعشر، وقيل لاثنى عشر، وعليه عمل أهل مكة فى زيارتهم موضع مولده فى هذا الوقت، وقيل لسبع عشرة وقيل لثمان عشرة، وقيل لثمان بقين منه. وقيل: إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية.
والمشهور: أنه ولد [يوم الاثنين] ثانى عشر شهر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره.(1/85)
وإنما كان فى شهر ربيع على الصحيح ولم يكن فى المحرم، ولا فى رجب، ولا فى رمضان، ولا فى غيرها من الأشهر ذوات الشرف، لأنه عليه السّلام- لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به كالأماكن، فلو ولد فى شهر من الشهور المذكورة، لتوهم أنه تشرف بها، فجعل الله تعالى مولده صلى الله عليه وسلم- فى غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه.
وإذا كان يوم الجمعة الذى خلق فيه آدم- عليه السّلام- خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، فما بالك بالساعة التى ولد فيها سيد المرسلين.
ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين- يوم مولده- صلى الله عليه وسلم- من التكليف بالعبادات ما جعل فى يوم الجمعة- المخلوق فيه آدم- من الجمعة والخطبة وغير ذلك، إكراما لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالتخفيف عن أمته، بسبب عناية وجوده قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» ، ومن جملة ذلك: عدم التكليف.
واختلف أيضا فى الوقت الذى ولد فيه.
والمشهور أنه يوم الاثنين. فعن. أبى قتادة الأنصارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- سئل عن صيام يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت على فيه النبوة» «2» رواه مسلم، وهذا يدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- ولد نهارا.
وفى المسند، عن ابن عباس قال: ولد- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين،. ورفع الحجر يوم الاثنين «3» . انتهى.
وكذا فتح مكة ونزول سورة المائدة يوم الاثنين.
__________
(1) سورة الأنبياء: 107.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1162) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 277) ، والطبرانى فى «الكبير» (11/ 85) مختصرا.(1/86)
وقد روى أنه ولد [يوم الاثنين] عند طلوع الفجر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاصى قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصى، من أهل الشام، وكان يقول: يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه، فلما كان صبيحة اليوم الذى ولد فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج عبد المطلب حتى أتى عيصى فناداه، فأشرف عليه، فقال له عيصى: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذى كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين.
قال: ولد لى الليلة مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدا، قال: والله لقد كنت أشتهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل هذا البيت، بثلاث خصال تعرّفه: فقد أتى عليهن منها: أنه طلع نجمه البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد. رواه أبو جعفر بن أبى شيبة، وخرجه أبو نعيم فى الدلائل بسند فيه ضعف.
وقيل: كان مولده- صلى الله عليه وسلم- عند طلوع الغفر، وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين، ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان «1» ، وهو برج الحمل، وكان لعشرين مضت منه.
وقيل ولد ليلا فعن عائشة قالت: كان بمكة يهودى يتجر فيها، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلم قال ولد الليلة نبى هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودى حتى أدخلوه على أمه فقالوا: أخرجى لنا ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودى مغشيّا عليه فلما أفاق قالوا مالك ويلك قال:
ذهبت والله النبوة من بنى إسرائيل»
، رواه الحاكم.
قال الشيخ بدر الدين الزركشى: «والصحيح أن ولادته- صلى الله عليه وسلم- كانت
__________
(1) وهو ما يعرف فى بعض الدول الآن بأبريل.
(2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 601، 602) ، وقد تقدم.(1/87)
نهارا، قال: وأما ما روى من تدلى النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا. قال: وهذا لا يصلح أن يكون تعليلا، فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارا» انتهى.
فإن قلت: إذا قلنا بأنه- عليه الصلاة والسلام- ولد ليلا، فأيما أفضل:
ليلة القدر أو ليلة مولده- صلى الله عليه وسلم-؟
أجيب: بأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة:
أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره- صلى الله عليه وسلم-، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع فى ذلك، فكانت ليلة المولد- بهذا الاعتبار- أفضل.
الثانى: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره- صلى الله عليه وسلم- فيها. ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر، على الأصح المرتضى، فتكون ليلة المولد أفضل.
الثالث: أن ليلة القدر وقع التفضل فيها على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-، وليلة المولد الشريف وقع التفضل فيها على سائر الموجودات، فهو الذى بعثه الله عز وجل- رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعا، فكانت أفضل.
فيا شهرا ما أشرفه وأوفر حرمة لياليه، كأنها لآلىء فى العقود ويا وجها ما أشرفه من مولود، فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعا وحسنه بديعا.
يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للسميع
فوجهى والزمان وشهر وضعى ... ربيع فى ربيع فى ربيع
واختلف أيضا فى مدة الحمل به، فقيل: تسعة أشهر، وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة.
وولد- عليه السّلام- فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجاج ويقال بالشعب، ويقال بالردم ويقال بعسفان.(1/88)
[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]
وأرضعته- صلى الله عليه وسلم- ثويبة، عتيقة أبى لهب، أعتقها حين بشرته بولادته عليه السّلام-.
وقد رؤى أبو لهب بعد موته فى النوم فقيل له ما حالك؟ فقال: فى النار، إلا أنه خفف عنى كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعى هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك بإعتاقى لثويبة عندما بشرتنى بولادة النبى صلى الله عليه وسلم- وبإرضاعها له «1» .
قال ابن الجزرى: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر، الذى نزل القرآن بذمه جوزى فى النار بفرحه ليلة مولد النبى- صلى الله عليه وسلم- به، فما حال المسلم الموحد من أمته- عليه السّلام- الذى يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته فى محبته صلى الله عليه وسلم-، لعمرى إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم.
ولا زال أهل السلام يحتفلون بشهر مولده- عليه السّلام-، ويعملون الولائم، ويتصدقون فى لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون فى المبرات. ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
ومما جرب من خواصه أنه أمان فى ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل
__________
(1) جاء فى البخارى (9/ 124) فى النكاح، باب: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ قال عروة: وثويبة مولاة أبى لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبه (أى حالة) ، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم راحة غير أنى سقيت فى هذه (وأشار إلى النقرة التى بين الإبهام والمسبحة) بعتاقتى ثويبة.(1/89)
البغية والمرام، فرحم الله امرآ اتخذ ليالى شهر مولده المبارك أعيادا، ليكون أشد علة على من فى قلبه مرض وأعيا داء «1» .
ولقد أطنب ابن الحاج «2» فى «المدخل» فى الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله يثيبه على قصده الجليل، ويسلك بنا سبيل السنة، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.
وقد ذكروا أنه لما ولد- صلى الله عليه وسلم-، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة، التى لا يوجد لمثلها قيمة؟ قالت الطيور: نحن نكفله ونغنم خدمته العظيمة، قالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه، فنادى لسان القدرة: أن يا جميع المخلوقات: إن الله تعالى قد كتب فى سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعا لحليمة الحليمة.
قالت حليمة: فيما رواه ابن إسحاق وابن راهواه وأبو يعلى والطبرانى والبيهقى وأبو نعيم: قدمت مكة فى نسوة من بنى سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء «3» فى سنة شهباء «4» ، فقدمت على أتان «5» لى ومعى صبى لنا وشارف لنا «6» ، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، لا يجد فى ثديى ما يغنيه، ولا فى شارفنا ما يغذيه.
فقدمنا مكة، فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله
__________
(1) قلت: لو كان هذا خيرا كما يقول لسبقنا إليه خير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ومن اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين كانوا يسارعون فى الخيرات، ثم إن إثبات هذا الفعل يكون بدليل ولا يوجد، وعامة انظر ما كتبه ابن الحاج فى «المدخل» (2/ 3- 33) الذى أشار إليه المصنف بعد قليل.
(2) هو: الإمام العالم العامل، أبو عبد الله، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، فقيه، له تاليف نافعة من أجلها كتابه المعروف «بالمدخل» توفى بالقاهرة سنة (737 هـ) .
(3) الرضعاء: جمع رضيع، وهو الطفل فى سن الرضاعة.
(4) سنة شهباء: يعنى سنة القحط والجدب، لأن الأرض تكون فيها بيضاء.
(5) الأتان: الأنثى من الحمير.
(6) الشارف: الناقة المسنة.(1/90)
- صلى الله عليه وسلم- فتأباه، إذا قيل لها يتيم «1» ، فو الله ما بقى من صواحبى امرأة إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ليس معى رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فإذا به مدرج فى ثوب أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حريرة خضراء، راقدا على قفاه، يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدا فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا، وفتح عينيه لينظر إلىّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديى الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد- قال أهل العلم: أعلمه الله تعالى أن له شريكا فألهمه العدل- قالت: فروى وروى أخوه.
ثم أخذته، فما هو إلا أن جئت به رحلى، فأقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى [وشرب أخوه حتى روى] ، فقام صاحبى- تعنى زوجها- إلى شارفنا «2» تلك، فإذا إنها لحافل «3» ، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبى: يا حليمة، والله إنى لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه، فلم يزل الله يزيدنا خيرا.
قال فى رواية ذكرها ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» : فلما نظر صاحبى إلى هذا قال لى: اسكتى واكتمى أمرك، فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار قواما على أقدامها، لا يهنؤها عيش النهار ولا نوم الليل.
قالت حليمة: فودعت النساء بعضهن بعضا وودعت أنا أم النبى صلى الله عليه وسلم-، ثم ركبت أتانى وأخذت محمدا بين يدى، قالت: فنظرت إلى الأتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معى، وصار الناس يتعجبون منى
__________
(1) المقصد من قولها (يتيم) أنها لن تأخذ طبيبا ممن سوف يكفله ليتمه ووفاة والده.
(2) تقدم أن الشارف هى الناقة المسنة.
(3) الحافل: الممتلئة الضرع من اللبن، حيث إن الحفل، هو اجتماع اللبن فى الضرع.(1/91)
ويقلن النساء لى وهن ورائى: يا بنت أبى ذؤيب أهذه أتانك التى كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول: تالله إنها هى فيتعجبن منها ويقلن إن لها لشأنا عظيما. قالت: فكنت أسمع أتانى تنطق وتقول والله إن لى لشأنا ثم شأنا بعثنى الله بعد موتى ورد لى سمنى بعد هزالى، ويحكن يا نساء بنى سعد إنكن لفى غفلة وهل تدرين من على ظهرى، على ظهرى خيار النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين.
قالت حليمة- فيما ذكره ابن إسحاق وغيره-: ثم قدمنا منازل بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب- بالدال المهملة- منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعاتهم: اسرحوا حيث يسرح راعى غنم بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح أغنامى شباعا لبنا «1» .
فلله درها من بركة كثرت بها مواشى حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت ولم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة.
لقد بلغت بالها شمى حليمة ... مقاما علا فى ذروة العز والمجد
وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عم هذا السعد كل بنى سعد
قال ابن الطراح رأيت فى كتاب الترقيص لأبى عبد الله محمد بن المعلى الأزدى أن من شعر حليمة ما كانت ترقص به النبى- صلى الله عليه وسلم-:
يا رب إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه
وأدحض أباطيل العدا بحقه
وعند غيره كانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول:
هذا أخ لم تلده أمى ... وليس من نسل أبى وعمى
فديته من مخول معمى ... فأنمه اللهم فيما تنمى
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 133- 134) .(1/92)
وأخرج البيهقى والصابونى «1» فى المائتين والخطيب وابن عساكر فى تاريخهما وابن طغربك السياف فى النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله دعانى للدخول فى دينك أمارة لنبوتك رأيتك فى المهد تناغى القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال: «إنى كنت أحدثه ويحدثنى ويلهينى عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش» «2» قال البيهقى تفرد به أحمد بن إبراهيم الجيلى وهو مجهول وقال الصابونى: هذا حديث غريب الإسناد والمتن وهو فى المعجزات حسن.
والمناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة.
وفى فتح البارى عن سيرة الواقدى «3» : أنه- صلى الله عليه وسلم- تكلم فى أوائل ما ولد «4» . وذكر ابن سبع فى الخصائص: أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة.
وأخرج البيهقى وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تكلم فقال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» ، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فبجتنبهم «5» . الحديث.
وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، فغافلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء فى
__________
(1) هو: الإمام العلامة، أبو عثمان، إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابورى الصابونى، كان من حفاظ الحديث، كما كان يحفظ التفسير من كتب كثيرة، توفى سنة (449 هـ) .
(2) ذكره المتقى الهندى فى «كنز العمال» (31828) وعزاه لمن ذكرهم المصنف.
(3) هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمى، صاحب التصانيف والمغازى، كان ممن جمع فأوعى، إلا أنه خلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فضعف لذلك، إلا أنه مع هذا فلا يستغنى عنه فى المغازى وأيام الصحابة وأخبارهم، أما فى الفرائض فلا، مات سنة (207 هـ) .
(4) قاله الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» (6/ 480) .
(5) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 140) فى أثناء حديث طويل.(1/93)
الظهيرة إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه، حتى تجده مع أخته فقالت: فى هذا الحر؟ قالت أخته: يا أمه ما وجد أخى حرّا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع الحديث.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يشب شبابا لا يشبه الغلمان.
قالت حليمة: فلما فصلته قدمنا به على أمه، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة، ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به.
فو الله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة، لفى بهم لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتد، فقال: ذاك أخى القرشى، قد جاء رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما منتقعا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: أى بنى، ما شأنك، فقال:
جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى، ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه، ثم رداه كما كان. فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب، فانطلقى بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف، قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به مكة إلى أمه، فقالت: ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا نخشى عليه الإتلاف والأحداث، فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقانى شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، قالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما لشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابنى هذا شأن عظيم فدعاه عنكما.
وفى حديث شداد بن أوس عن رجل من بنى عامر، عند أبى يعلى وأبى نعيم وابن عساكر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كنت مسترضعا فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم فى بطن واد، مع أتراب لى من الصبيان، إذا أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب، ملىء ثلجا، فأخذونى من بين أصحابى، وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحى، فعمد أحدهم فأضجعنى على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق ما بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى وأنا(1/94)
أنظر إليه، لم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطنى ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قال الثانى فقال لصاحبه تنح، ثم أدخل يده فى جوفى فأخرج قلبى وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئا فإذا بخاتم فى يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح، فأمرّ يده بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدى فأنهضنى من مكانى إنهاضا لطيفا ثم قال للأول: زنه بعشرة من أمته فوزنونى بهم فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فرجحتهم ثم قال زنه بألف فرجحتهم فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضمونى إلى صدورهم وقبلوا رأسى وما بين عينى ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك» الحديث «1» .
وفى رواية ابن عباس، عند البيهقى، قالت حليمة: إذا أنا بابنى ضمرة يعدو فزعا، وجبينه يرشح باكيا ينادى: يا أبت، يا أماه، ألحقا محمدا فما تلحقاه إلا ميتا. أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه: أنه- عليه السّلام- قال: «أتانى رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمردة خضراء» الحديث «2» .
فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف فى الطست خاص به، أو فعل بغيره من الأنبياء- عليهم السلام-؟
أجيب: بأنه ورد فى خبر التابوت والسكينة: أنه كان فيه الطست الذى غسلت فيه قلوب الأنبياء، ذكره الطبرى، وعزاه العماد ابن كثير فى تفسيره لرواية السدى عن أبى مالك عن ابن عباس.
فإن قلت: ما الحكمة فى ختم قلبه المقدس؟
__________
(1) ذكره المتقى الهندى فى «كنز العمال» (35559) وعزاه لمن ذكرهم المصنف، إلا أنه زاد قائلا: ومكحول لم يدرك شداد.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 140- 141) ضمن حديث طويل.(1/95)
أجيب: بأنه إشارة إلى ختم الرسالة به، وهذا مسلم، إن كان الختم خاصّا به، أما إذا ورد أنه ليس خاصّا به بل بكل نبى- وسيأتى إن شاء الله تعالى قريبا ما فى الخاتم الشريف من المباحث- فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها عن غيره ممن ليس بنبى.
والمراد بالوزن: فى قوله «زنه بعشرة إلخ» الوزن الاعتبارى، فيكون المراد الرجحان فى الفضل، وهو كذلك.
وفائدة فعل الملكين، ذلك، ليعلم الرسول ذلك، حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية.
وقد وقع شق صدره الشريف [واستخراج قلبه] مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء. ومرة أخرى عند الإسراء به، وسيأتى كل فى موضعه- إن شاء الله تعالى-.
وروى الشق أيضا، وهو ابن عشر أو نحوها، مع قصة له مع عبد المطلب، أبو نعيم فى الدلائل.
وروى خامسة، ولا تثبت.
والحكمة فى شق صدره الشريف فى حال صباه، واستخراج العلقة منه، تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف فى سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ- عليه السّلام- على أكمل الأحوال من العصمة.
وقد روى أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وكان ينم مسكا، وأنه مثل زر الحجلة «1» ، ذكره البخارى.
وفى مسلم: جمع عليه خيلان، كأنها الثاليل السود عند نغض كتفه «2» ، ويروى: غضروف كتفه اليسرى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (190) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم (2345) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله، والترمذى (3643) فى المناقب، باب: ما جاء فى خاتم النبوة، من حديث السائب بن يزيد رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2346) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة، وصفته، من حديث عبد الله بن سرجس- رضى الله عنه-.(1/96)
وفى كتاب أبى نعيم: الأيمن.
وفى مسلم أيضا: كبيضة الحمام «1» .
وفى صحيح الحاكم: شعر مجتمع «2» .
وفى البيهقى: مثل السلعة.
وفى الشمائل: بضعة ناشزة.
وفى حديث عمرو بن أخطب: كشىء يختم به.
وفى تاريخ ابن عساكر: مثل البندقة.
وفى الترمذى ودلائل البيهقى: كالتفاحة «3» .
وفى الروض: كأثر المحجمة القابضة على اللحم.
وفى تاريخ ابن أبى خيثمة: شامة خضراء محتفرة فى اللحم.
وفيه أيضا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات كأنها عرف الفرس.
وفى تاريخ القضاعى: ثلاث شعرات مجتمعات.
وفى كتاب الترمذى الحكيم «4» : كبيضة حمام، مكتوب فى باطنها: الله وحده لا شريك له، وفى ظاهرها: توجه حيث كنت فإنك المنصور.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 341) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6300) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 663) ، من حديث أبى زيد- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3620) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) ، من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى.
(4) هو: أبو عبد الله، محمد بن على بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذى، وهو غير الترمذى، صاحب السنن، كان ذا رحلة ومعرفة، وله مصنفات وفضائل، لولا هفوة بدت منه، مات سنة (285 هـ) على اختلاف فى ذلك.(1/97)
وفى كتاب المولد لابن عائذ: كان نورا يتلألأ.
وفى سيرة ابن أبى عاصم: عذرة كعذرة الحمام، قال أبو أيوب: يعنى قرطمة الحمامة.
وفى تاريخ نيسابور: مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله.
وعن عائشة: كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكان مما يلى الفقار قالت: فلمسته حين توفى فوجدته قد رفع.
حكى هذا كله الحافظ مغلطاى لكن قال فى فتح البارى: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، مكتوب عليها:
محمد رسول الله، أو: سر فإنك المنصور. لم يثبت منها شىء «1» . قال: ولا يغتر بما وقع فى صحيح ابن حبان، فإنه غفل حيث صحح ذلك.
وقال الهيثمى فى «موارد الظمان» بعد أن أورد الحديث ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه: محمد رسول الله «2» . اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذى كان يختم به.
وبخط الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضى سمرقند وهو ضعيف.
وقوله: زر الحجلة- بالزاى والراء- والحجلة- بالحاء المهملة والجيم- قال النووى: هى واحدة الحجال، وهى بيت كالقبة، لها أزرار كبار وعرى، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف. وزرها: بيضها، وأشار إليه الترمذى وأنكره عليه العلماء.
وقوله: جمع- بضم الجيم وإسكان الميم- أى كجمع الكف، وصورته:
أن تجمع الأصابع وتضمها.
__________
(1) قاله الحافظ فى «الفتح» (6/ 563) .
(2) ضعيف: والحديث عند ابن حبان فى «صحيحه» (6302) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بسند ضعيف.(1/98)
وقوله: خيلان: - بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية- جمع خال، وهو الشامة على الجسد.
وقوله: نغض: - بالنون والغين والضاد، المعجمتين- قال النووى:
النغض والنّغض والناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذى على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك، سمى ناغضا لتحركه.
وقوله: بضعة ناشزة- بالمعجمة والزاى- أى قطعة لحم مرتفعة على جسده.
وبيضة الحمامة: معروفة. انتهى.
والثاليل: - بالمثلاثة- جمع ثؤلول: وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها.
وفى القاموس: وقرطمتا الحمام- أى بكسر القاف- نقطتان على أصل منقاره.
وقال بعض العلماء: اختلف أقوال الرواة فى خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كل شبه بما سنح له، وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو: قطعة لحم، ومن قال: شعر فلأن الشعر حوله متراكم عليه، كما فى الرواية الآخرى.
وقال القرطبى: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل، قدر ببيضة الحمامة، وإذا كبر: جمع اليد.
وقال القاضى عياض: وهذه الروايات متقاربة متفرقة، متفقة على أنه شاخص فى جسده، قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناه: على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه فى قدر بيضة الحمامة. قال: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه.
قال النووى: هذا الذى قال ضعيف، بل باطل، لأن شق الملكين إنما كان فى صدره وبطنه. انتهى.(1/99)
ويشهد له قول أنس فى حديث عند مسلم- يأتى فى ذكر قلبه الشريف، من المقصد الثالث، إن شاء الله تعالى-: فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره «1» .
لكن أجيب: بأن فى حديث عتبة بن عبد السلمى «2» - عند أحمد والطبرانى- أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه حمل القاضى عياض ذلك على أن الشق لما وقع فى صدره، ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الختم. وفهم النووى وغيره منه: أن قوله بين كتفيه متعلق بالشق وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، وحينئذ فليس ما قاله القاضى عياض بباطل، انتهى «3» .
وقال السهيلى: والصحيح أنه- يعنى خاتم النبوة- كان عند نغض كتفه الأيسر.
واختلف هل ولد به؟ أو وضع بعد ولادته؟ على قولين.
وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه، فى حديث أبى ذر عند البزار وغيره قال: قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبى، وبم علمت أنك نبى حتى استيقنت؟ قال: «أتانى آتيان، وفى رواية ملكان، وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل» الحديث «4» . وفيه: ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطنى فأخرج
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات.
(2) هو: الصحابى الجليل، عتبة بن عبد، السّلمى، أبو الوليد، صاحب النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان اسمه عتلة، فسماه النبى- صلى الله عليه وسلم- عتبة، مات سنة (87 هـ) ، وحديثه فى المسند والطبرانى لم أقف عليه.
(3) انظر «فتح البارى» (6/ 561) حيث إن الكلام منقول منه.
(4) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 255- 256) وقال: رواه البزار، وفيه جعفر بن عبد الله عثمان بن كبير، وثقه أبو حاتم الرازى وابن حبان، وتكلم فيه العقيلى، وبقية رجاله رجال الصحيح.(1/100)
قلبى فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه:
اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه:
خط بطنه، فخاط بطنى وجعل الخاتم بين كتفى كما هو الآن، ووليا عنى، وكأنى أرى الأمر معاينة «1» .
وعند أبى نعيم فى الدلائل: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما ولد، ذكرت أمه أن الملك غمسه فى الماء الذى أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، تضىء كالزهرة.
وقيل: ولد به، فالله أعلم.
وأخرج الحاكم فى المستدرك عن وهب بن منبه قال: لم يبعث الله نبيّا إلا وقد كان عليه شامات النبوة فى يده اليمنى، إلا أن يكون نبينا- صلى الله عليه وسلم- فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» .
وعلى هذا: فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به عن سائر الأنبياء والله أعلم.
ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- أربع سنين- وقيل خمسا، وقيل ستّا، وقيل سبعا، وقيل تسعا، وقيل اثنتى عشرة سنة وشهرا وعشرة أيام- ماتت أمه بالأبواء «3» وقيل بشعب أبى ذئب بالحجون «4» . وفى القاموس: ودار رائعة بمكة فيها مدفن آمنة أم النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهرى، وعن عاصم بن عمرو ابن قتادة دخل حديث بعضهم فى حديث بعض قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم- ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بنى عدى بن النجار بالمدينة،
__________
(1) انظر ما قبله.
(2) مرسل: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 631) عن وهب بن منبه مرسلا.
(3) الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء، جبل بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه.
(4) الحجون: الجبل المشرف مما يلى شعب الجزارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج، والمشهور الأول.(1/101)
تزورهم، ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التابعة. فأقامت به عندهم شهرا، فكان صلى الله عليه وسلم- يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك، ونظرا إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بى أمى، وأحسنت العوم فى بئر بنى عدى بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إلى. قالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبى هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت «1» .
وروى أبو نعيم من طريق الزهرى عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت:
شهدت آمنة أم النبى- صلى الله عليه وسلم- فى علتها التى ماتت بها، ومحمد- عليه السّلام- غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه ثم قالت:
بارك الله فيك من غلام ... يابن الذى من حومة الحمام
نجا بعون الملك المنعام ... فودى غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت فى المنام
فأنت مبعوث إلى الأنام ... من عند ذى الجلال والإكرام
تبعث فى الحل وفى الحرام ... تبعث فى التحقيق والإسلام
دين أبيك البر إبراهام ... فالله أنهاك عن الأصنام
ألاتواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حى ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكرى باق، وقد تركت خيرا، وولدت طهرا، ثم ماتت. فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك هذه الأبيات:
نبكى الفتاة البرة الأمينة ... ذات الجمال العفة الرزينة
زوجة عبد الله والقرينة ... أم نبى الله ذى السكينة
وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة
وقد روى أن آمنة آمنت به- صلى الله عليه وسلم- بعد موتها.
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 115) .(1/102)
فروى الطبرى بسنده عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نزل الحجون كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورا، قال: «سألت ربى فأحيا لى أمى، فامنت بى ثم ردها» «1» .
ورواه أبو حفص بن شاهين فى كتاب: «الناسخ والمنسوخ» له، بلفظ، قالت عائشة: حج بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فمر بى على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه نزل فقال: «يا حميراء استمسكى» فاستندت إلى جنب البعير، فمكثت مليّا، ثم عاد إلى وهو فرح متبسم فقال: «ذهبت لقبر أمى فسألت ربى أن يحييها، فأحياها فامنت بى» «2» .
وكذا روى من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه- صلى الله عليه وسلم- حتى آمنا به.
أورده السهيلى، وكذا الخطيب فى السابق واللاحق.
وقال السهيلى: إن فى إسناده مجاهيل.
وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدّا، وسنده مجهول.
وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع. انتهى.
وقد جزم بعض العلماء: أن أبويه- صلى الله عليه وسلم- ناجيان، وليسا فى النار، متمسكا بهذا الحديث وغيره.
وتعقبه عالم آخر: بأنه لم ير أحدا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل. انتهى.
وقد سبقه لذلك، أبو الخطاب بن دحية، وعبارته: من مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة. انتهى.
وتعقبه القرطبى فى «التذكرة» : بأن فضائله- صلى الله عليه وسلم- وخصائصه لم تزل
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» إنه منكر جدّا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، ولكن ثبت فى الصحيح ما يعارضه. انظر «كشف الخفاء» (150) .
(2) منكر: ذكره السيوطى فى «اللآلئ المصنوعة» (1/ 138) .(1/103)
تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، قال:
وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعا، فقد ورد فى الكتاب العزيز إحياء قتيل بنى إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى- عليه السّلام- يحيى الموتى، وكذلك نبينا- صلى الله عليه وسلم- أحيا الله على يده جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فلا يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة فى كرامته وفضيلته.
ثم قال: وقوله: من مات كافرا إلى آخر كلامه، مردود بما روى فى الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه- صلى الله عليه وسلم- بعد مغيبها. ذكره الطحاوى وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا، وأنه لا يتجدد به الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوى النبى- صلى الله عليه وسلم- نافعا لإيمانهما وتصديقهما بالنبى- صلى الله عليه وسلم- انتهى «1» .
وقد طعن بعضهم فى حديث رد الشمس. كما سيأتى- إن شاء الله- فى مقصد المعجزات.
وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضا بأنهما ماتا قبل البعثة، فى زمن الفترة، ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» قال:
وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا «3» .
قال: وقال الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه «أسرار التنزيل» ما نصه:
«قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا، ويدل عليه وجوه منها: قوله تعالى:
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
«4» قيل معناه: أنه كان ينتقل نوره من ساجد إلى ساجد، ففيه دلالة على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين» .
__________
(1) قلت: هذا متوقف على صحة الأحاديث المثبتة لذلك، ولا مانع منها، إلا أنها لم تصح.
(2) سورة الإسراء: 15.
(3) قلت: بل يختبرون فى عرصات يوم القيامة، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولكن لا يدخلون النار ابتداء، وسيأتى تفضيل المسألة بعد قليل.
(4) سورة الشعراء: 218، 219.(1/104)
ثم قال: ومما يدل على أن آباء محمد- صلى الله عليه وسلم- ما كانوا مشركين. قوله عليه السّلام-: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» «1» وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «2» فوجب ألايكون أحد من أجداده مشركا» . كذا قال.
وهو متعقب:
* بأنه لا دلالة فى قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «3» . على ما ادعاه، فقد ذكر البيضاوى- فى تفسيره- وغيره، أن معنى الآية: وترددك فى تصفح أحوال المتهجدين، كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف- عليه السّلام- تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى.
* وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- مات على الكفر، كما صرح به البيضاوى وغيره، قال تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» .
وأما قوله إنه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. انتهى.
ونقل الإمام أبو حيان فى «البحر» عند تفسير قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «5» . أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبى- صلى الله عليه وسلم- كانوا مؤمنين، مستدلين بقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «6» . وبقوله- عليه السّلام-: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين» الحديث «7» . انتهى.
* وروى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه:
__________
(1) تقدم.
(2) سورة التوبة: 28.
(3) سورة الشعراء: 219.
(4) سورة التوبة: 114.
(5) سورة الشعراء: 219.
(6) سورة الشعراء: 219.
(7) تقدم.(1/105)
أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما قدم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال: «إنى استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى، واستأذننه فى الاستغفار لها فلم يأذن لى» . فما رؤى باكيا أكثر من يومئذ «1» .
* وروى ابن أبى حاتم فى تفسيره عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أومأ إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذى جلست عنده قبر آمنة، وإنى استأذنت ربى فى زيارتها فأذن لى، وإنى استأذنته فى الدعاء لها فلم يأذن لى، وأنزل الله على: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى «2» فأخذنى ما يأخذ الولد للوالد «3» . ورواه الطبرانى من حديث ابن عباس.
* وفى مسلم: «استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة» «4» .
قال القاضى عياض: بكاؤه- عليه السّلام- على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به.
* وفى مسلم أيضا: «أن رجلا قال: يا رسول الله: أين أبى، قال:
«فى النار» فلما قفا دعاه، قال: «إن أبى وأباك فى النار» «5» .
قال النووى: فيه أن من مات على الكفر فهو فى النار، ولا ينفعه قرابة المقربين.
__________
(1) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (11/ 42) .
(2) سورة التوبة: 113.
(3) ذكره ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 394) ، وعزاه لابن أبى حاتم.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (976) فى الجنائز، باب: استئذان النبى- صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل فى زيارة قبر أمه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه مسلم (203) فى الإيمان، باب: بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/106)
وفيه: أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو فى النار، وليس فى هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء.
وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركا فهو فى النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، قبح الشرك والوعيد عليه فى النار، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين، فى كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته، وأنه يستحيل فى كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد فى الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك مستحق للعذاب فى النار لمخالفته دعوة الرسل، وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة فى الجنة.
انتهى.
وقد تعقب العلامة أبو عبد الله الأبى من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووى الماضى وفيه «أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فى النار، إلى آخره» بما معناه:
تأمل ما فى كلامه من التنافى، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، لأن أهل الفترة هم: الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثانى، كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبى- صلى الله عليه وسلم-. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين، كالفترة بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا فى الفترة فإنهم يعنون التى بين عيسى ونبينا- عليهما الصلاة والسلام-. وذكر البخارى عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة.(1/107)
ولما دلت القواطع على ألاتعذيب حتى تقوم الحجة أى قوله تعالى:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» ، علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة، كحديث «رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه فى النار» «2» و «رأيت صاحب المحجن فى النار، وهو الذى يسرق الحاج بمحجنه، فإذا بصر به، قال: إنما تعلق بمحجنى» «3» .
أجيب بأجوبة:
* أحدها: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القطع.
* الثانى: قصر التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب.
* الثالث: قصر التعذيب المذكور فى هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة، بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع. فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام:
* الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء من لم يدخل فى شريعة، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل فى شريعة حق قائمة الرسم، كتبع «4» وقومه من حمير وأهل نجران، وورقة بن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث.
* القسم الثانى من أهل الفترة: وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد، وشرع لنفسه فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحى، أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام، فبحر البحيرة، وسيب السائبة،
__________
(1) سورة الإسراء: 15.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3521) فى المناقب، باب: قصة خزاعة، ومسلم (2856) فى الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (904) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(4) هو: تبع بن حسان بن تبان، قيل: اسمه مرثد، وهو أحد ملوك حمير فى اليمن.(1/108)
ووصل الوصيلة وحمى الحام «1» ، وتبعته العرب فى ذلك وغيره مما يطول ذكره.
* القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل فى شريعة نبى، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دينا، بل بقى عمره على حين غفلة من هذا كله. وفى الجاهلية من كان على ذلك.
__________
(1) البحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، وفى الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هى التى يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وأما السائبة: فهى التى كانوا يسيبونها لآلهتهم، وقيل: البحيرة لغة: هى الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة، أى شققتها شقّا واسعا، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة: هى التى خليت بلا راع، وقال ابن إسحاق: البحيرة، هى ابنة السائبة، والسائبة هى الناقة إذا تابعت بين عشر إناث وليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهى البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعى: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت. وقال ابن عزيز: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أى شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها، وقاله عكرمة، فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة: البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تحبس عن رعى ولا ماء، ولا يركبها أحد، وقيل السائبة، هى المحلاة التى لا قيد عليها، ولا راعى لها، فاعل بمعنى مفعول. وأما الوصيلة والحام. قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها، فأما الحام فمن الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه، وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة فى الغنم، قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت فى الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شىء فيأكله الرجال والنساء، والحامى: الفحل إذا ركب ولد ولده، ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات فى خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شىء منها فيشترك فى أكله ذكورهم وإناثهم.(1/109)
وإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثانى لكفرهم بما تعدوا به من الخبائث، والله سبحانه وتعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارا ومشركين، فإنا نجد القرآن كلما حكى حال أحد سجل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ثم قال: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية «1» .
والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين.
وأما أهل القسم الأول: كقس وزيد بن عمرو، فقد قال- عليه السّلام- فى كل منهما «أنه يبعث أمة وحده» «2» .
وأما عثمان بن الحويرث، وتبّع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحد منهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى ملخصا وسيأتى ما قيل فى ورقة فى حديث المبعث- إن شاء الله تعالى-.
فهذا ما تيسر فى مسألة والديه- صلى الله عليه وسلم-، وقد كان الأولى ترك ذلك، وإنما جرّنا إليه ما وقع من المباحثة فيه بين علماء العصر.
ولقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى حيث قال:
حبا الله النبى مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤوفا
فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم «3» بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا «4»
__________
(1) سورة المائدة: 103.
(2) قلت: ورد فى زيد بن عمرو أحاديث منها ما أخرجه النسائى فى «الكبرى» (8187) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 82) ، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما.
(3) من الأخطاء الشائعة إطلاق اسم القديم على الله عز وجل، والأولى إطلاق اسم (الأول) كما ورد فى الكتاب والسنة، والله عز وجل أعلم بنفسه من غيره، فهو الذى سمى نفسه الأول وأوحى إلى رسوله بذلك، ولكن من الذى سماه بالقديم؟! وأيهما أولى بالاعتبار.
(4) قلت: لو ثبت ذلك لكان على العين والرأس، ولكن الأحاديث بذلك ضعيفة، كما صرح هو بنفسه، فما بالك والأحاديث الصحيحة بخلاف ذلك، ولكن على العموم أدبا مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر حكمهما إلا عند الضرورة، من باب بيان الحق لا غير، لا شماتة والعياذ بالله.(1/110)
فالحذر الحذر، من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذى النبى صلى الله عليه وسلم-، فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة.
وقد قال- عليه السّلام-: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» «1» رواه الطبرانى فى الصغير، ولا ريب أن أذاه- عليه السّلام- كفر يقتل فاعله- إن لم يتب- عندنا.
وستأتى مباحث ذلك- إن شاء الله تعالى- فى الخصائص من مقصد المعجزات.
وقد أطنب بعض العلماء فى الاستدلال لإيمانهما، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل.
قال الحافظ ابن حجر فى بعض كتبه: والظن باله- يعنى الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له- صلى الله عليه وسلم- لتقر عينه.
وقال فى الأحكام: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة فى جملة من يدخلها طائعا فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (1982) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى الشتم، وأحمد فى «مسنده» (4/ 252) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3022) ، من حديث المغيرة بن شعبة رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7312) .(1/111)
[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم]
وقد كانت أم أيمن، بركة، دايته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السّلام- يقول لها: أنت أمى بعد أمى.
ومات جده عبد المطلب كافله، وله ثمان سنين- وقيل ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل ست، وقيل ثلاث وفيه نظر- وله عشر ومائة سنة، وقيل مائة وأربعون سنة.
وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك لكونه شقيق عبد الله.
وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب، ومعه غلام كأنه شمس دجن»
، تجلت عنه سحابة قتماء «2» ، حوله أغيلمة فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه، وما فى السماء قزعة «3» ، فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادى، وأخصب النادى والبادى. وفى ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل
والثمال- بكسر المثلاثة-: الملجأ والغياث، وقيل: المطعم فى الشدة.
__________
(1) شمس دجن: يقصد شمس يوم دجن، والدجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، أى يقصد شمس غير شديدة الحرارة لحجب السماء لحرارتها.
(2) القتماء: أى غبراء، والقتمة، لون فيه غبرة وحمرة، والأقتم: الذى تعلوه القتمة.
(3) القزعة: أى قطعة سحاب.(1/112)
وعصمة للأرامل: أى يمنعهم من الضياع والحاجة. والأرامل: المساكين من رجال ونساء، ويقال لكل واحد من الفريقين على انفراده: أرامل، وهو بالنساء أخص، وأكثر استعمالا، والواحد أرمل وأرملة.
وهذا البيت من أبيات فى قصيدة لأبى طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهى أكثر من ثمانين بيتا. قالها لما تمالأت قريش على النبى صلى الله عليه وسلم-، ونفروا عنه من يريد الإسلام، وأولها:
لما رأيت القوم لا ود عندهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا فى أمركم كل واغل
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق لبر فى حراء ونازل
وبالبيت حق البيت فى بطن مكة ... وتالله إن الله ليس بغافل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ومعنى نناضل: نجادل ونخاصم وندافع.
ونبزى: - بضم النون وسكون الموحدة آخره زاى- أى نقهر ونغلب عليه.
قال ابن التين: إن فى شعر أبى طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث، لما أخبره به بحيرى وغيره من شأنه.
وتعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر: بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبى طالب لهذا الشعر كان بعد البعثة، ومعرفة أبى طالب بنبوته- عليه السّلام- جاءت فى كثير من الأخبار وتمسك بها الشيعة فى أنه كان مسلما.(1/113)
قال: ورأيت لعلى بن حمزة البصرى جزآ جمع فى شعر أبى طالب، وزعم أنه كان مسلما، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية «1» تزعم أنه مات كافرا، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه. انتهى «2» .
ولما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اثنتى عشرة سنة خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام، حتى بلغ بصرى، فرآه بحيرى الراهب، واسمه جرجيس، فعرفه بصفته فقال، وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه رحمة للعالمين.
فقيل له: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم به من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة، فى أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة، وإنا نجده فى كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود.
والحديث رواه ابن أبى شيبة، وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل وعليه غمامة تظله.
و «بحيرى» - بفتح الموحدة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة- قال الذهبى- فى تجريد الصحابة-: رأى رسول- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وآمن به، وذكره ابن منده، وأبو نعيم فى الصحابة. وهذا ينبنى على تعريفهم الصحابى: بمن رآه- صلى الله عليه وسلم-، هل المراد حال النبوة، أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبلها على دين الحنيفية. وهو محل نظر، وسيأتى البحث فيه- إن شاء الله- فى المقصد السابع.
وخرج الترمذى وحسنه، - والحاكم وصححه- أن فى هذه السفرة أقبل
__________
(1) الحشوية: هو المتبعون لظاهر النصوص، وقيل: سموا بذلك لقول الحسن البصرى لما رأى سقوط كلامهم وكانوا يجلسون فى حلقته، ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أى جانبها، إلا أنها غالبا ما تطلق عند أهل البدع على أهل السنة والجماعة، نظرا لأنهم لا يصرفون الأدلة عن ظاهرها لتأويلات ضعيفة غير سائغة، فلما رأى مخالفوهم تمسكهم بالسنة وعدم إعراضهم عنها إلى أهوائهم أطلقوا عليهم هذا الاسم.
(2) قلت: الثابت فى الصحيح أنه مات على ملة عبد المطلب، حيث إنه قد أخذته الحمية لقومه أن يتبع دين محمد- صلى الله عليه وسلم-، فيعير بذلك!.(1/114)
سبعة من الروم يقصدون قتله- عليه السّلام-، فاستقبلهم بحيرى، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: إن هذا النبى خارج فى هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها بأناس، فقال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا قال: فبايعوه وأقاموا معه، ورده أبو طالب. وبعث معه أبو بكر بلالا «1» .
قال البيهقى: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازى. انتهى.
وضعف الذهبى الحديث لقوله فى آخره: «وبعث معه أبو بكر بلالا» فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا، ولا اشترى بلالا.
قال الحافظ ابن حجر فى الإصابة: الحديث رجاله ثقات، وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته.
وفى حديث عند البيهقى وأبى نعيم: أن بحيرى رآه- وهو فى صومعته- فى الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى استظل تحتها الحديث.
وفيه: أن بحيرى قام فاحتضنه وأنه جعل يسأله عن أشياء حاله: من نومه وهيئته وأموره. ويخبره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده.
وتقدم أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته فى الظهيرة، وغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر. ولله در القائل:
إن قال يوما ظللته غمامة ... هى فى الحقيقة تحت ظل القائل
ونقل الشيخ بدر الدين الزركشى عن بعض أهل المعرفة: أنه- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح لكن ذكر بلال فيه منكر: أخرجه الترمذى (3620) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 672) ، من حديث أبى موسى رضى الله عنه-، وقد تقدم.(1/115)
كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس بالحر ولا بالبرد، وأنه كان فى ظل غمامة من اعتداله. كذا نقل رحمه الله.
وأخرج ابن منده، بسند ضعيف عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه- صحب النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان عشرة، والنبى- صلى الله عليه وسلم- ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، حتى نزل منزلا فيه سدرة، فقعد فى ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى، يسأله عن شىء، فقال له: من الرجل الذى فى ظل الشجرة، فقال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبى، ما استظل تحتها بعد عيسى- عليه السّلام- إلا محمد. ووقع فى قلب أبى بكر التصديق، فلما بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- اتبعه.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر فى الإصابة: إن صحت هذه القصة فهى سفرة أخرى بعد سفرة أبى طالب. انتهى.
ثم خرج- صلى الله عليه وسلم- أيضا ومعه ميسرة غلام خديجة ابنة خويلد بن أسد، فى تجارة لها حتى بلغ سوق بصرى، وقيل سوق حباشة بتهامة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة إلا نبى، وفى رواية بعد عيسى. وكان ميسرة يرى فى الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس، ولما رجعوا إلى مكة فى ساعة الظهيرة، وخديجة فى علية لها، فرأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على بعيره وملكان يظلان عليه. رواه أبو نعيم.
وتزوج- صلى الله عليه وسلم- خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما وقيل: كان سنه إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين- وكانت تدعى فى الجاهلية بالطاهرة، وكانت تحت أبى هالة بن زرارة التميمى فولدت له هندا وهالة، وهما ذكران، ثم تزوجها عتيق بن عابد المخزومى فولدت له هندا.
وكان لها- حين تزويجها بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من العمر أربعون سنة وبعض أخرى.
وكانت عرضت نفسها عليه، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه.(1/116)
فتزوجها- عليه السّلام-، وأصدقها عشرين بكرة «1» ، وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال:
الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا، محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا رجح به، فإن كان فى المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو- والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، فزوجها.
والضئضىء: الأصل.
وحضنة بيته: أى الكافلين له والقائمين بخدمته.
وسواس حرمه: أى: متولى أمره.
قال: ابن إسحاق: وزوجه إياها خويلد.
وقد ذكر الدولابى وغيره: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أصدق خديجة اثنتى عشرة أوقية ذهبا ونشا.
قالوا: وكل أوقية أربعون درهما. والنش: نصف أوقية.
ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة، خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا باقوم- بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم- النجار النبطى مولى سعيد بن العاصى، وصانع المنبر الشريف، بأن يا بنى الكعبة المعظمة.
وحضر- صلى الله عليه وسلم- وكان ينقل معهم الحجارة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك- صلى الله عليه وسلم- فلبط به- بالموحدة، كعنى أى سقط من قيامه كما فى القاموس- ونودى: عورتك، فكان ذلك أول ما نودى. فقال له أبو طالب أو العباس: يابن أخى اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابنى إلا من التعرى.
__________
(1) انظر القصة فى «السيرة» لابن هشام (1/ 201) ، والبكرة: الفتية من الإبل.(1/117)
[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]
ولما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة وقيل: وأربعين يوما، وقيل:
وعشرة أيام وقيل: وشهرين، يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة-.
وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: فى أول ربيع:
بعثه الله رحمة للعالمين، ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين.
ويشهد لبعثه يوم الاثنين ما رواه مسلم عن أبى قتادة أنه- صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل على» «1» .
وقال ابن القيم فى «الهدى النبوى» : واحتج القائلون بأنه كان فى رمضان بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» قالوا: أول ما أكرمه الله بنبوته أنزل عليه القرآن.
وقال الآخرون: إنما نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجوما بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة.
وقيل: كان ابتداء المبعث فى رجب.
وروى البخارى فى «التعبير» من حديث عائشة: «أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح «3» وكان يأتى حراء «4» فيتحنث «5» فيه- وهو
__________
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2) سورة البقرة: 185.
(3) فلق الصبح: أى ضياؤه، وإنما يقال هذا فى الشىء الواضح البين.
(4) حراء: اسم جبل به غار، بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى.
(5) التحنث: فسره بالتعبد، وهو تفسير صحيح، وأصل الحنث: الإثم، فمعنى يتحنث، أى يجتنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث وهو الإثم، أى يتجنب الحرج والإثم.(1/118)
التعبد- الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء.
فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، «فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد «1» ، ثم أرسلنى «2» » ، فقال: اقرأ، «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى» ، فقال: اقرأ، «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى» فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى- بلغ- ما لَمْ يَعْلَمْ «3» «4» .
فرجع بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده «5» ، حتى دخل على خديجة، فقال: «زملونى زملونى» «6» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال:
«يا خديجة، ما لى؟» وأخبرها الخبر، ثم قال: «قد خشيت على نفسى» .
فقالت له: كلا أبشر، فو الله لا يخزيك «7» الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل «8» ، وتقرى الضيف «9» ، وتعين على نوائب الحق «10» .
__________
(1) غطنى: أى ضمنى وعصرنى، أما الجهد: فيجوز فيها فتح الجيم وضمها، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب: بلغ جبريل منى الجهد، وعلى الرفع: بلغ الجهد منى مبلغه وغايته.
(2) أرسلنى: أى أطلقنى.
(3) سورة العلق: 1- 5.
(4) قلت: فى هذا الحديث دلالة صريحة على أن أول ما نزل من القرآن: اقرأ، خلافا لمن يقول بغير ذلك كسورة الفاتحة مثلا.
(5) يرجف فؤاده: أى يرتعد ويضطرب.
(6) زملونى: أى غطونى بالثياب ولفونى بها.
(7) الخزى: هو الفضيحة والهوان.
(8) الكلّ: أصل الكل الثقل، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، ويدخل فى حمل الكل، الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكلال، وهو الإعياء.
(9) تقرى الضيف: أى تطعم الضيف، حيث يقال للطعام الذى يضيف به قرى، ويقال لفاعله: قار.
(10) النوائب: جمع نائبة، وهى الحادثة، وإنما قالت: نوائب الحق، لأن النائبة قد تكون فى الخير، وقد تكون فى الشر.(1/119)
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى، وهو ابن عم خديجة أخى أبيها- وكان امرأ تنصر «1» فى الجاهلية «2» ، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب- وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: أى ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبى- صلى الله عليه وسلم- ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس «3» الذى أنزل على موسى، يا ليتنى فيها جذعا «4» ، ليتنى أكون حيّا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
أو مخرجى هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم لم ينشب «5» ورقة أن توفى، وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقّا، فيسكن لذلك جأشه «6» ، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك» «7» .
* وقد تكلم العلماء فى معنى قوله- صلى الله عليه وسلم- لخديجة: «قد خشيت
__________
(1) تنصر: أى صار نصرانيّا.
(2) الجاهلية: معناها هنا: الفترة الزمنية التى كانت قبل بعثته- صلى الله عليه وسلم-.
(3) الناموس: هو جبريل- عليه السّلام-، وقال أهل اللغة وغريب الحديث: الناموس فى اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب الشر، ويقال: نمست السر، إذا كتمته.
(4) أى: شابّا قويّا، حتى أبالغ فى نصرك، وأصل الجذع فى الدواب.
(5) أى: لم يلبث بعده فترة طويلة، بل فترة قليلة.
(6) جأشه: أى قلبه.
(7) صحيح: أخرجه البخارى (6982) فى التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصالحة، ومسلم (160) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-.(1/120)
على نفسى» فذهب الإسماعيلى «1» إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضرورى بأن الذى جاءه ملك من عند الله. وكان أشق شىء عليه أن يقال عليه مجنون.
وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والأذية، كما يخشى البشر.
* وقوله: «ما أنا بقارئ» أى: أنا أمى فلا أقرأ الكتب.
* وقال القاضى عياض: إنما بيتدئ- صلى الله عليه وسلم- بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر، فبدىء بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة. انتهى.
فإن قلت: فلم كرر قوله «ما أنا بقارئ» ثلاثا؟
أجاب أبو شامة «2» كما فى فتح البارى: بأن يحمل قوله أولا «ما أنا بقارئ» على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام.
* والحكمة من الغط ثلاثا، شغله عن الالتفات لشىء آخر، وإظهارا للشدة والجد فى الأمر، تنبيها على ثقل القول الذى سيلقى عليه.
وقيل: إبعادا لظن التخيل والوسوسة، لأنهما ليسا من صفات الجسم، فلما وقع ذلك بجسمه علم أنه من أمر الله.
* فإن قلت: من أين عرف- صلى الله عليه وسلم- أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن؟
فالجواب من وجهين:
__________
(1) هو: الحافظ الحجة، أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجانى الشافعى، صاحب «المستخرج على صحة البخارى» ، كما أن له تصانيف تشهد له بالإمامة فى الفقه والحديث، توفى سنة (371 هـ) .
(2) هو: أبو القاسم، شهاب الدين، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسى الدمشقى، أحد الأعلام، مؤرخ باحث محدث، توفى سنة (665 هـ) .(1/121)
أحدهما: أن الله تعالى أظهر على يدى جبريل- عليه السّلام- معجزات عرفه بها. كما أظهر الله تعالى على يد محمد- صلى الله عليه وسلم- معجزات عرفناه بها.
وثانيهما: أن الله تعالى خلق فى محمد- صلى الله عليه وسلم- علما ضروريّا بأن جبريل من عند الله ملك لا جنى ولا شيطان، كما أن الله تعالى خلق فى جبريل علما ضروريّا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غير.
* وقول ورقة: يا ليتنى فيها جذعا. الضمير للنبوة، أى: ليتنى كنت شابّا عند ظهورها حتى أبالغ فى نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع: من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابّا فتيّا.
وأخرج البيهقى من طريق العلاء بن جارية الثقفى عن بعض أهل العلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة. وهى تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله الحديث «1» .
وعن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى هبطت، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا، ونظرت خلفى فلم أر شيئا، فرفعت رأسى فرأيت شيئا فلم أثبت له، فأتيت خديجة فقلت: دثرونى دثرونى»
وصبوا على ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ «3» الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة» «4» رواه البخارى ومسلم والترمذى.
ولم يكن جواره- صلى الله عليه وسلم- لطلب النبوة، لأنها أجل من أن تنال بالطلب
__________
(1) سيأتى بتمامه فى موضعه.
(2) الدثار: الثوب فوق غيره من الثوب.
(3) سورة المدثر: 1- 3.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4922) فى التفسير، باب: سورة المدثر، ومسلم (161) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.(1/122)
أو الاكتساب، وإنما هى موهبة من الله، وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ولم تكن الرجفة المذكورة خوفا من جبريل- عليه السّلام-، فإنه- صلى الله عليه وسلم- أجل من ذلك، وأثبت جنانا، وإنما رجف غبطة بحاله وإقباله على الله عز وجل، فخشى أن يشغل بغير الله عن الله.
وقيل: خاف من ثقل أعباء النبوة.
وفى رواية البيهقى فى الدلائل: أن خديجة قالت لأبى بكر: يا عتيق اذهب به إلى ورقة بن نوفل، فأخذه أبو بكر، فقص عليه ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم-: «إذا خلوت وحدى سمعت نداء: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا» .. فقال: لا تفعل إذا قال، فاثبت حتى تسمع، ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه يا محمد فثبت فقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. إلى آخرها. ثم قال: قل لا إله إلا الله «1» . الحديث.
واحتج به من قال بأولية نزول الفاتحة.
والصحيح أن أول ما نزل عليه- صلى الله عليه وسلم- من القرآن «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة، وروى ذلك عن أبى موسى الأشعرى وعبيد بن عمير.
قال النووى: وهو الصواب الذى عليه الجماهير من السلف والخلف.
وأما ما روى عن جابر وغيره: أن أول ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «2» .
فقال النووى: ضعيف، بل باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحى.
وأما حديث البيهقى أنه الفاتحة- كقول بعض المفسرين- فقال البيهقى:
هذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3» ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «4» .
وقال النووى- بعد ذكر هذا القول- بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 158) .
(2) سورة المدثر: 1.
(3) سورة العلق: 1.
(4) سورة المدثر: 1.(1/123)
وقد روى أن جبريل- عليه السّلام- أول ما نزل بالقرآن على النبى- صلى الله عليه وسلم- أمره بالاستعاذه، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال:
«أول ما نزل جبريل على محمد- صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد، استعذ، قال:
أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقرأ باسم ربك الذى خلق. قال عبد الله: وهى أول سورة أنزلها الله على محمد- صلى الله عليه وسلم-» «1» .
قال الحافظ عماد الدين بن كثير، بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن فى إسناده ضعفا وانقطاعا، والله أعلم «2» .
وقد أورد ابن أبى جمرة سؤالا، وهو أنه: لم اختص- صلى الله عليه وسلم- بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع.
وأجاب: بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره: من جهة أنه منزو ومجموع لتحنثه وهو يبصر بيت ربه، والنظر إلى البيت عبادة، فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. وغيره ليس فيه هذه الثلاث.
ولله در المرجانى حيث قال فى فضائل حراء وما اختص به:
تأمل حراء فى جمال محياه ... فكم من أناس من حلا حسنه تاهوا
فمما حوى من جا لعلياه زائرا ... يفرج عنه الهم فى حال مرقاه
به خلوة الهادى الشفيع محمد ... وفيه له غار له كان يرقاه
وقبلته للقدس كانت بغاره ... وفيه أتاه الوحى فى حال مبداه
وفيه تجلى الروح بالموقف الذى ... به الله فى وقت البداءة سواه
وتحت تخوم الأرض فى السبع أصله ... ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه
ولما تجلى الله قدس ذكره ... لطور تشظى فهو إحدى شظاياه
ومنها ثبير ثم ثور بمكة ... كذا قد أتى فى نقل تاريخ مبداه
وفى طيبة أيضا ثلاث فعدها ... فعيرا وورقانا وأحدا رويناه
__________
(1) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (1/ 51) .
(2) قاله ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 51) .(1/124)
ويقبل فى ساعة الظهر من دعا ... به ينادى من دعانا أجبناه
وفى أحد الأقوال فى عقبة حرا ... أتى ثم قابيل لهابيل غشاه
ومما حوى سرّا حوته صخوره ... من التبر إكسيرا يقام سمعناه
سمعت به تسبيحها غير مرة ... وأسمعته جمعا فقالوا سمعناه
به مركز النور الإلهى مثبتا ... فلله ما أحلى مقاما بأعلاه
وروى أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «1» . الآيات، الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل «2» .
وكذا روى شق صدره الشريف هنا أيضا الطيالسى والحارث فى مسنديهما.
والحكمة فيه: ليتلقى النبى- صلى الله عليه وسلم- ما يوحى إليه بقلب قوى، فى أكمل الأحوال من التطهير.
قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له- عليه السّلام- من الوحى مراتب عديدة:
* أحدها: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
* الثانية: ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن روح القدس نفث فى روعى، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب» «3» الحديث رواه ابن أبى الدنيا فى القناعة، وصححه الحاكم.
والروع- بضم الراء- أى نفسى، وروح القدس: جبريل- عليه السّلام-.
__________
(1) سورة العلق: 1- 5.
(2) أشار إلى ذلك الحافظ فى «الفتح» (6/ 562) وعزاه لأبى داود الطيالسى فى مسنده والحارث بن أبى أسامة والدلائل لأبى نعيم من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن أبى أمامة، كما فى «صحيح الجامع» (2085) .(1/125)
* الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى «1» . رواه النسائى بسند صحيح من حديث ابن عمر.
قلت: وكان دحية جميلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه.
فإن قلت: إذا لقى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كانت فى الجسد الذى له ستمائة جناح، فالذى أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت فى هذا الذى هو فى صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية.
أجيب- كما ذكره العينى «2» - بأنه لا يبعد ألايكون انتقالها موجب موته، فيبقى الجسد حيّا، لا ينقص من معارفه شىء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثانى كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر، وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى فى بنى آدم، فلا تلزم فى غيرهم. انتهى.
* الرابعة: كأن يأتيه فى مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به فى
__________
(1) قلت: أخرجه بنحوه البخارى (2) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2333) فى الفضائل، باب: عرق النبى- صلى الله عليه وسلم- فى البرد وحين يأتيه الوحى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وبخصوص تشبيهه بصورة دحية الكلبى فقد ورد ذلك أثناء حديث أخرجه مسلم (167) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث جابر، ولم أقف على لفظ المصنف من النسائى كما ذكر.
(2) هو: أبو محمد، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، بدر الدين العينى، فقيه حافظ مؤرخ، توفى بالقاهرة سنة (855 هـ) ، وكان من أقران الحافظ ابن حجر العالم المشهور، إلا أنه كان حنفى المذهب.(1/126)
الأرض، ولقد جاءه الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها «1» .
قلت: وروى الطبرانى عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سرى عنه.
وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تكسر من ثقل الوحى، حتى أقول: لا أمشى على رجلى أبدا «2» .
ولما نزلت عليه سورة المائدة، كادت أن تنكسر عضد ناقته من ثقل السورة «3» ، ورواه أحمد والبيهقى فى الشعب.
* الخامسة: أن يرى الملك فى صورته التى خلق عليها له ستمائة جناح، فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما فى سورة النجم.
* السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها.
* السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى.
قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب. انتهى.
قال شيخ الإسلام الولى ابن العراقى: وكان ابن القيم أخذ ذلك من
__________
(1) قلت: طرفه الأول هو حديث لفظ عائشة المتقدم قبل حديث، أما قصة نزوله وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فبرواية أخرى أخرجها النسائى (6/ 9) فى الجهاد، باب: فضل المجاهدين على القاعدين، بسند صحيح.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الأوسط» (1934) ، وفى «الكبير» (5/ 142) .
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 455 و 458) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 178) ، من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية، وفى إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف سيئ الحفظ.(1/127)
روض السهيلى لكنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحى قبل جبريل.
فقد ثبت فى الطرق الصحاح عن عامر الشعبى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحى، والشىء، ثم وكل به جبريل فجاء بالقرآن «1» .
وأما قوله- أعنى ابن القيم-: السادسة، ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعنى ليلة المعراج، السابعة كلام الله بلا واسطة. فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل فهو داخل فيما تقدم، لأنه إما أن يكون جبريل فى تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمى، وكلاهما قد تقدم ذكره، وإن أراد وحى الله بلا واسطة- وهو الظاهر- فهى الصورة التى بعدها.
وأما قوله: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة: وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب، فهذا على مذهب من يقول إنه- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه تعالى، وهى مسألة خلاف يأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
ويحتمل أن ابن القيم- رحمه الله تعالى- أراد بالمرتبة السادسة وحى جبريل، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الإيحاء، أى كونه فوق السماوات، بخلاف ما تقدم، فإنه كان فى الأرض، ولا يقال، يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحى باعتبار البقعة التى جاء فيها جبريل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو غير ممكن، لأنا نقول: الوحى الحاصل فى السماء باعتبار ما فى تلك المشاهد من الغيب نوع غير نوع الأرض على اختلاف بقاعها. انتهى.
قلت: ويزاد أيضا:
* كلامه تعالى له فى المنام، كما فى حديث الزهرى «أتانى ربى فى أحسن صورة فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى..» «2» الحديث.
__________
(1) قلت: عامر بن شراحيل الشعبى، من خيار التابعين، إلا أن حديثه مرسل.
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (3233 و 3234) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، وأحمد فى «مسنده» (1/ 368) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2608) ، من حديث ابن عباس رضى الله عنهما-، وليس للزهرى فيه ذكر.(1/128)
* ثم مرتبة أخرى، وهى العلم الذى يلقيه الله تعالى فى قلبه، وعلى لسانه عند الاجتهاد فى الأحكام، لأنه اتفق على أنه- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد أصاب قطعا، وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة فى حقه دون سائر الأمة، وهو يفارق النفث فى الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه.
* ومرتبة أخرى: وهى مجىء جبريل فى صورة رجل غير دحية، لأن دحية كان معروفا عندهم، ذكره ابن المنير، وإن كانت داخلة فى المرتبة الثالثة التى ذكرها ابن القيم.
وذكر الحليمى أن الوحى كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها- كما قال فى فتح البارى- من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر والله أعلم.
وذكر ابن المنير أن الحال كان يختلف فى الوحى باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك بصورة الآدمى، وخاطبه من غير كدّ، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس. انتهى.
وقد ذكر ابن عادل، فى تفسيره: أن جبريل- عليه السّلام- نزل على النبى صلى الله عليه وسلم- أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتى عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات. كذا قال- رحمه الله-.
وقد روى: أن جبريل تبدى له- صلى الله عليه وسلم- فى أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولى إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشى عليها من الفرح ثم أمرها فتوضأت وصلى بها(1/129)
كما صلى به جبريل فكان ذلك أول فرضها ركعتين ثم إن الله أقرها فى السفر كذلك وأتمها فى الحضر «1» .
وقال مقاتل: كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى، لقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ «2» .
قال فى فتح البارى: كان- صلى الله عليه وسلم- قبل الإسراء يصلى قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل افترض قبل الخمس شىء من الصلاة أم لا؟
فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها «3» .
انتهى «4» .
قال النووى: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله من قيام الليل ما ذكره فى أول سورة المزمل، ثم نسخه بما فى آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأما ما ذكره فى هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به فيدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء.
ثم فتر الوحى فترة شق عليه وأحزنه.
وفترة الوحى: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده- عليه السّلام- من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود.
وكانت مدة فترة الوحى ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق.
وفى تاريخ الإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن الشعبى: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشىء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وكذا رواه ابن سعد والبيهقى.
__________
(1) طرفه الأخير صحيح أخرجه مسلم (985) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) .
(2) سورة غافر: 55.
(3) سورة طه: 130.
(4) قاله الحافظ فى «الفتح» (8/ 671) .(1/130)
فقد تبين أن نبوته- صلى الله عليه وسلم- كانت متقدمة على إرساله، كما قال أبو عمر وغيره، وكما حكاه أبو أمامة بن النقاش. فكان فى نزول سورة «اقرأ» نبوته، وفى نزول سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعا متأخر عن الأول، لأنه لما كانت سورة «اقرأ» متضمنة لذكر أطوار الآدمى: من الخلق والتعليم والإفهام، ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعى، وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه- عليه السّلام- من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك فى معرض تعريف عباده بما أسداه إليهم من نعمة البيان الفهمى والنطقى والخطى، ثم يأمره سبحانه وتعالى بأن يقوم فينذر عباده.
وكان أول من آمن بالله وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية.
قال لها- صلى الله عليه وسلم-: خشيت على نفسى، فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا.
وكان أول ذكر آمن من بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فازره فى الله. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلاما، واستشهد له بقول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوى من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبى وأوفاها بما حملا
والثانى التالى المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا
رواه أبو عمر.
وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلاما، أسماء بنت أبى بكر، والنخعى وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس.
وقيل: إن على بن أبى طالب أسلم بعد خديجة، وكان فى حجر النبى(1/131)
- صلى الله عليه وسلم-. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون على أول صبى أسلم، لأنه كان صبيّا لم يدرك، ولذا قال:
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمى
وكان سن على إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبرى.
وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليّا أول من أسلم من الرجال:
سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدرى، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم.
قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقا.
وقيل: أول رجل أسلم، ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته- عليه السّلام- لا رسالته. لكن جاء فى السير، وهو فى رواية أبى نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك. فهذا صريح بتصديقه برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم-.
قال البلقينى: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقى فى نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده فى الصحابة.
وحكى العراقى: كون على أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.
وادعى الثعلبى اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فى أول من أسلم بعدها.
قال ابن الصلاح: والأورع أن يقال:
أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر.
ومن الصبيان أو الأحداث على.
ومن النساء خديجة.
ومن الموالى زيد.
ومن العبيد بلال. والله أعلم، انتهى.(1/132)
وقال الطبرى: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال:
أول من أسلم مطلقا خديجة.
وأول من أسلم على بن أبى طالب، وهو صبى لم يبلغ، وكان مستخفيا بإسلامه وأول رجل عربى بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبى قحافة.
وأول من أسلم من الموالى زيد.
قال: وهذا متفق عليه لا خلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، أى الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روى عن الحسن أن على بن أبى طالب قال: إن أبا بكر سبقنى إلى أربع لم أوتهن: سبقنى إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة، ومصاحبته فى الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه. الحديث، خرجه صاحب فضائل أبى بكر وخيثمة بمعناه.
وأما ما روى: من صحبة الصديق للنبى- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمانى عشرة سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع فى قلب أبى بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: والله لقد آمن أبو بكر بالنبى- صلى الله عليه وسلم- زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر فى قلبه، وإلا فالنبى- صلى الله عليه وسلم- تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث.
ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، بدعاء أبى بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبى الأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجمحى.
وأخواه: قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة بنت الخطاب.(1/133)
وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبى بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأن عائشة لم تكن ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاى وغيره.
ودخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.
[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]
ثم إن الله تعالى أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- بأن يصدع بما جاء به، أى يواجه المشركين به.
وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن فى الصلاة.
وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما زال النبى- صلى الله عليه وسلم- مستخفيا حتى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1» . فجهر هو وأصحابه.
وقال البيضاوى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو فرق به بين الحق والباطل. وأصله: الإبانة والتمييز. و «ما» مصدرية أو موصولة، و «الراجع» محذوف، أى بما تؤمر به من الشرائع انتهى.
قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهى المدة التى أخفى فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمره إلى الله تعالى بإظهاره.
فبادى قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله تعالى.
ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع كما قاله العتقى. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وحدب عليه «3» عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.
__________
(1) سورة الحجر: 94.
(2) سورة الحجر: 94.
(3) حدب عليه: أى تعطف عليه، وأصل الحدب: خروج الظهر ودخول الظهر والبطن.(1/134)
فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
ومنع رسول الله بعمه أبى طالب وبنى هاشم- غير أبى لهب- وبنى المطلب.
وقال مقاتل: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند أبى طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبى طالب يريدون بالنبى- صلى الله عليه وسلم- سوآ، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم.
وقال:
والله لن يصلوا إليك يجمعهم ... حتى أوسد فى التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارى سبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
وقد كفى الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- المستهزئين. كما قال تعالى:
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» أى لا تلتفت إلى ما يقولون: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «2» . يعنى بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش:
الوليد بن المغيرة.
والعاصى بن وائل.
والحارث بن قيس.
والأسود بن عبد يغوث.
والأسود بن المطلب.
__________
(1) سورة الحجر: 94.
(2) سورة الحجر: 95.(1/135)
وكانوا يبالغون فى إذائه- صلى الله عليه وسلم- والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم-: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيما لأخذه، فأصاب عرقا فى عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصى فدخلت فيها شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عينى الأسود بن عبد المطلب فعمى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يطوف على الناس فى منازلهم يقول: «يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا» ، وأبو لهب وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم «1» .
ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه على ذلك.
وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون.
ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه.
ووطىء عقبه بن أبى معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقا شديدا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته- صلى الله عليه وسلم- حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول:
أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله.
وقال ابن عمرو- كما فى البخارى-: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلف ثوبه فى عنقه فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ «2» «3» .
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 492، 4/ 341) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 61) ، والطبرانى فى «الأوسط» (1510) ، وفى «الكبير» (5/ 61 و 62) ، من حديث عباد الديلى رضى الله عنه-.
(2) سورة غافر: 28.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3856) فى المناقب، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة.(1/136)
وقد ذكر العلماء، أن أبا بكر- رضى الله عنه- أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر فأتبع اللسان يدا، ونصر بالقول والفعل محمدا- صلى الله عليه وسلم-.
وأخرج مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر «1» محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص»
على عقبيه، ويتقى بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، وأنزل الله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «3» إلى آخر السورة «4» .
ولما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «5» جاءت امرأة أبى لهب، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو تنحيت عنها فإنها امرأة بذية، قال: «سيحال بينى وبينها» فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك، قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، فاندفعت راجعة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما رأتك، قال: «كان بينى وبينها ملك سترنى بجناحه حتى ذهبت» . رواه ابن أبى شيبة وأبو نعيم.
وفى رواية البيهقى فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قل لها: ترين عندى أحدا؟ فإنها لن ترانى» .
وفى رواية أيضا: «كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى عند الكعبة، وجمع من قريش فى مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائى، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجىء به ثم يمهله حتى
__________
(1) أى: يسجد ويلصق وجهه بالتراب.
(2) أى: يرجع ماشيا إلى الوراء.
(3) سورة العلق: 6- 19.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2797) فى صفة القيامة، باب: قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
(5) سورة المسد: 1.(1/137)
إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد- صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه، وثبت النبى- صلى الله عليه وسلم- ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهى جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبى- صلى الله عليه وسلم- ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: «اللهم عليك بقريش ثم سمى فقال: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعمارة بن الوليد» .
قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» «1» .
واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له فى صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها فى الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقا.
واستدل به أيضا: على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف.
وأجاب النووى: بأنه- عليه السّلام- لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر فى سجوده، استصحابا لأصل الطهارة.
وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة فى مثل هذه الصورة.
وأجيب عنه: بأن الإعادة إنما تجب فى الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد.
وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (520) فى الصلاة، باب: المرأة تطرح عن المصلى شيئا من الأذى، ومسلم (1794) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين.(1/138)
وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد فى المذكورين، لأنه لم يقتل فى بدر، بل ذكر أصحاب المغازى: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشى، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشى ساحرا فنفخ فى إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم إلى أن مات فى خلافة عمر.
وأجيب: بأن كلام ابن مسعود- أنه رآهم صرعى فى القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبى معيط لم يطرح فى القليب، وإنما قتل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح فى القليب، كما سيأتى إن شاء الله تعالى.
وقوله: ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضى، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن ألقوا فى القليب.
ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أعز فتى فى قريش، وأشده شكيمة، وكان إسلامه- فيما قاله العتقى- سنة ست، فعزّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم:
حمدت الله حين هدى فؤادى ... إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذى اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بايات مبينة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف
وعند مغلطاى: وسألوه- يعنى: النبى- صلى الله عليه وسلم- إن كنت تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا قد غلب عليك بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه فيك.
فقال لهم- عليه السّلام-: «ما بى ما تقولون، لكن الله بعثنى رسولا، وأنزل(1/139)
على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى، ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بينى وبينكم» «1» .
والرئى- بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة- جنى يرى فيحب، أو المكسورة للمحبوب منها، قاله فى القاموس.
ثم إن النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط ذهبا إلى أحبار اليهود، فسألاهم عنه- صلى الله عليه وسلم- فقالوا لهما: سلاه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو متقول. سلاه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟
فقال لهم- عليه السّلام-: «أخبركم غدا» ، ولم يقل إن شاء الله تعالى، فلبث الوحى أياما، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» وأنزل الله تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا، وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين. وقال فيما سألوه عن الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «3» الآية.
وفى البخارى من حديث عبد الله بن مسعود قال: «بينا أنا مع النبى صلى الله عليه وسلم- فى حرث، وهو متكىء على عسيب، إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، قالوا: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشىء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى فلما نزل الوحى قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «4» «5» .
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 313) .
(2) سورة الكهف: 23، 24.
(3) سورة الإسراء: 85.
(4) سورة الإسراء: 85.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (125) فى العلم، باب: قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ومسلم (2794) فى صفة القيامة، باب: سؤال اليهود النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الروح.(1/140)
قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضى- فيما يظهر من بادىء الرأى- أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سألت اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة [الإسراء] كلها مكية.
وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. ومما يدل على نزولها بمكة ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت الحديث «1» . انتهى.
وهذا الحديث رواه الترمذى أيضا بإسناد رجاله رجال مسلم.
فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير، ويحمل سكوته فى المرة الثانية على توقع مزيد بيان فى ذلك.
وقد اختلف فى المراد بالروح المسئول عنه فى هذا الخبر:
فقيل: روح الإنسان.
وقيل: جبريل.
وقيل: عيسى.
وقيل: ملك يقوم وحده صفّا يوم القيامة.
وقيل: غير ذلك.
وقال القرطبى: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.
وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذى هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هى متحيزة أم لا؟ وهل هى حالة فى متحيز أم لا؟
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3140) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل (الإسراء) ، وأحمد فى «مسنده» (1/ 255) ، وابن حبان فى «صحيحه» (99) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 579) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/141)
وهل هى قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها.
قال: وليس فى السؤال ما يخصص أحد هذه المعانى، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شىء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهى جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: «كن» ، فكأنه قال: هى موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير فى إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه.
قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر فى قوله تعالى: مِنْ أَمْرِ رَبِّي «1» الفعل، كقوله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ «2» . أى فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة.
ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث فى هذه الأشياء والتعمق فيها.
انتهى.
وقال فى فتح البارى: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم:
فقيل: هى النفس الداخل الخارج.
وقيل: جسم لطيف، يحل فى جميع البدن.
وقيل: هى الدم.
وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة.
ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبى خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة، ولكل حى واحدة.
وقال ابن العربى: اختلفوا فى الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شىء واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس «3» .
__________
(1) سورة الإسراء: 85.
(2) سورة هود: 97.
(3) قاله الحافظ فى «الفتح» (8/ 403) .(1/142)
وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر.
قال: والحكمة فى إبهامه: اختبار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه.
وقال القرطبى: الحكمة فى ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى.
وقال بعضهم: ليس فى الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه- صلى الله عليه وسلم- على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه الله ولم يأمره أن يطلعهم. وقد قالوا فى علم الساعة نحو هذا والله أعلم. انتهى.
ولما كثر المسلمون، وظهر الإيمان، أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم.
حتى إنه مر عدو الله، أبو جهل، بسمية أم عمار بن ياسر، وهى تعذب فطعنها بحربة فى فرجها فقتلها.
وكان أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه، منهم بلال وعامر بن فهيرة.
وعن أبى ذر: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم فى الشمس، وإن بلالا هانت عليه نفسه فى الله عز وجل، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به فى شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد «1» . رواه أحمد فى مسنده.
__________
(1) حسن: أخرجه ابن ماجه (150) فى المقدمة، باب: فضل سلمان وأبى ذر والمقداد، وأحمد فى «مسنده» (1/ 404) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7083) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 320) ، من حديث ابن سعد- رضى الله عنه-، وليس أبو ذر كما ذكر المصنف، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .(1/143)
وعن مجاهد مثله، وزاد فى قصة بلال: وجعلوا فى عنقه حبلا ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل فى عنقه.
فانظر كيف فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وهذا كما وقع له أيضا عند موته، كانت امرأته تقول: واحزناه وهو يقول: واطرباه. غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. ولله در أبى محمد الشقراطسى حيث قال:
لاقى بلال بلاء من أمية قد ... أحله الصبر فيه أكرم النزل
إذ أجهدوه بضنك الأسر وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل
ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد ... عالوا عليه صخور جمة الثقل
فوحد الله إخلاصا وقد ظهرت ... بظهره كندوب الطل فى الطلل
إن قدّ ظهر ولى الله من دبر ... قد قدّ قلب عدو الله من قبل
يعنى إن كان ظهر ولى الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده، فقد جوزى عدو الله أمية وقد قلبه ببدر، لأنه قتل يومئذ، وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاءه لأخوة كانت بينهما فى الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا فنهشوه بأسيافهم حتى قتلوه.
وأخرج البيهقى عن عروة أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب فى الله سبعة منهم، الزنيرة، فذهب بصرها، وكانت ممن تعذب فى الله، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون:
ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله ما هو كذلك فرد الله عليها بصرها.
والزنيرة: بكسر الزاى وتشديد النون المكسورة. كسكينة: كذا فى القاموس.(1/144)
[هجرته صلى الله عليه وسلم]
ثم أذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه فى الهجرة إلى الحبشة، وذلك فى رجب سنة خمس من النبوة.
فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا- وقيل اثنى عشر رجلا- وأربع نسوة- وقيل:
وخمس نسوة، وقيل وامرأتين-.
وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهرى وقال: لم يكن لهم أمير. وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط.
فلما رأت قريش استقرارهم فى الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصى، وعبد الله بن أبى ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشى واسمه أصحمة- وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين بهديتهما.
وأسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم بدعوته صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أعز الإسلام بأبى جهل أو بعمر بن الخطاب» «1» وكان المسلمون إذ ذاك بضعة وأربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3681) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (2/ 95) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6881) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 89) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/145)
وكان سبب إسلامه- فيما ذكره أسامة بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر- أنه قال:
بلغنى إسلام أختى فدخلت عليها، فقلت يا عدوة نفسها، قد بلغنى عنك أنك صبوت «1» ، ثم ضربتها، فسال الدم فلما رأت الدم بكت وقالت:
يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت.
قال: فدخلت وأنا مغضب فإذا كتاب فى ناحية البيت، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدى، قال: ثم رجعت إليها فإذا فيها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى بلغت آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «2» فقلت: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى، فجئت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت فى أسفل الصفا، فدخلت وأخذ رجلان بعضدى حتى دنوت من النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أرسلوه» فأرسلونى فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع ثيابى فجذبنى إليه ثم قال: «أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه» فقلت: أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة «3» .
وكان الرجل إذا أسلم استخفى ثم خرجت إلى رجل لم يكن يكتم السر، فقلت له إنى صبوت، قال فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربونى وأضربهم، فقال خالى: ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب، فقام على الحجر وأشار بكمه فقال: ألا إنى قد أجرت ابن اختى، فانكشف الناس عنى، قال: فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.
__________
(1) أى: خرجتى عن دينك إلى دين آخر.
(2) سورة الحديد: 1- 7.
(3) انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 366) .(1/146)
قال ابن عباس: لما أسلم عمر قال جبريل للنبى- صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر «1» . رواه ابن ماجه.
ولما رأت قريش عزة النبى- صلى الله عليه وسلم- بمن معه، وإسلام عمر، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشو الإسلام فى القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم-، فبلغ أبا طالب، فجمع بنى هاشم وبنى المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية.
فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب: ألاينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للقتل.
وكتبوه فى صحيفة بخط منصور بن عكرمة- وقيل بغيض بن عامر- فشلت يده، وعلقوا الصحيفة فى جوف الكعبة، هلال المحرم سنة سبع من النبوة.
فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه، إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وقال ابن سعد:
سنتين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شىء إلا سرّا.
وقدم نفر من مهاجرة الحبشة، حين قرأ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّجْمِ إِذا هَوى حتى بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» ألقى الشيطان فى أمنيته أى فى تلاوته: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فلما
__________
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1030) فى المقدمة، باب فضل عمر- رضى الله عنه-، والحاكم فى مستدركه (3/ 90) ، والطبرانى فى الكبير (11/ 80) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4765) .
(2) سورة النجم: 1- 20.(1/147)
ختم السورة «سجد- صلى الله عليه وسلم- وسجد معه المشركون» «1» لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، وفشا ذلك فى الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه.
وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا معه- صلى الله عليه وسلم-، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعا من الحبشة.
والغرانيق فى الأصل: الذكور من طير الماء واحدها: غرنوق وغرنيق، سمى به لبياضه. وقيل: هو الكركى.
والغرنوق أيضا: الشاب الأبيض الناعم.
وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التى تعلوا فى السماء وترتفع.
ولما تبين للمشركين عدم ذلك، رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه.
وقد تكلم القاضى عياض- رحمه الله- فى «الشفاء» على هذه القصة وتوهين أصلها بما يشفى ويكفى، لكن تعقب فى بعضه كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
وقال الإمام فخر الدين الرازى- مما لخصته من تفسيره- هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2» . وقال الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «3» .
وقال البيهقى: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعونون.
__________
(1) ضعيف جدّا: وقد قال الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (3/ 230) : طرقه كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم، ا. هـ. وكذا انظر كلام الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (8/ 439) ، وقد ذكره المصنف بعد قليل على طوله.
(2) سورة النجم: 3، 4.
(3) سورة الأعلى: 6.(1/148)
وأيضا: فقد روى البخارى فى صحيحه أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة النجم وسجد، وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق، بل روى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان فى نفى الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا فى كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك. ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «1» . فإنه لا فرق فى الفعل بين النقصان فى الوحى وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه، عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. وقد قيل: إن هذه القصة من وضع الزنادقة لا أصل لها. انتهى.
وليس كذلك. بل لها أصل.
فقد خرجها: ابن أبى حاتم، والطبرى، وابن المنذر، من طرق عن شعبة، عن ابن بشر، عن سعيد بن جبير.
وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق فى السيرة، وموسى بن عقبة فى المغازى، وأبو معشر فى السيرة.
كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة وأنه لم يرها مسندة من وجه صحيح «2» . وهذا متعقب بما سيأتى:
وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل العسقلانى فقال: أخرج ابن أبى حاتم والطبرى وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبى
__________
(1) سورة المائدة: 67.
(2) قاله فى «تفسيره» (3/ 230) .(1/149)
بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، بمكة والنجم، فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «2» الآية.
وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال: فى إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث.
وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد. وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور «3» .
قال، وإنما يروى هذا من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس.
انتهى، والكلبى متروك لا يعتمد عليه.
وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدى.
وذكرها ابن إسحاق فى السيرة مطولا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك عن موسى بن عقبة فى المغازى عن ابن شهاب الزهرى.
وكذا أبو معشر فى السيرة له عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس وأورده من طريق الطبرى.
وأورده ابن أبى حاتم من طريق أسباط عن السدى.
ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبى عن أبى صالح، وعن أبى بكر الهذلى، وأيوب عن عكرمة، وعن سليمان التيمى عمن حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس.
وأوردها الطبرى أيضا من طريق العوفى عن ابن عباس. ومعناهم كلهم فى ذلك واحد.
__________
(1) سورة النجم: 19، 20.
(2) سورة الحج: 52.
(3) انظر «مجمع الزوائد» للهيثمى (7/ 71، 115) .(1/150)
وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع. لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا.
مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح.
أحدهما: ما أخرجه الطبرى من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب:
حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه.
والثانى: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبى هند، عن أبى العالية.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تجرأ ابن العربى- كعادته- فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه.
وكذا قول القاضى عياض:
«هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته وانقطاع إسناده» .
وكذا قوله: «ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فى ذلك ضعيفة واهية» .
قال: «وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، إلا طريق أبى بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذى وقع فى وصله وأما الكلبى فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه» .
«ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم. قال:
ولم ينقل ذلك» . انتهى.
وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد:
فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا.
وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل(1/151)
يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض.
وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يزيد فى القرآن عمدا ما ليس فيه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته.
وقد سلك العلماء فى ذلك مسالك:
فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته، وهذا أخرجه الطبرى عن قتادة.
ورده القاضى: عياض: بأنه لا يصح، لكونه لا يجوز على النبى صلى الله عليه وسلم- ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه فى النوم.
وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره. ورده ابن العربى بقوله تعالى، حكاية عن الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «1» الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقى لأحد قوة على طاعة.
وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك، فعلق بحفظه صلى الله عليه وسلم- فجرى ذلك على لسانه لما ذكرهم سهوا.
وقد رد ذلك القاضى عياض فأجاد.
وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار.
قال القاضى عياض: وهذا جائز إذا كانت قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام فى ذلك الوقت جائزا فى الصلاة.
وإلى هذا نحا الباقلانى.
__________
(1) سورة إبراهيم: 22.(1/152)
وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» . خشى المشركون أن يأتى بعدها بشىء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه فى تلاوة النبى- صلى الله عليه وسلم- على عادتهم فى قوله: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ونسب ذلك إلى الشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك. أو المراد بالشيطان شيطان الإنس.
وقيل المراد بالغرانيق العلى، الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «2» فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: إنه عظم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تينك الكلمتين وأحكم آياته.
وقيل: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يرتل القرآن، فارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة النبى- صلى الله عليه وسلم- بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله، وأشاعها.
قال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيد ما ورد عن ابن عباس فى تفسير «تمنى» ب «تلا» .
وكذا استحسن ابن العربى هذا التأويل وقال: معنى قوله: فى أمنيته، أى فى تلاوته، فأخبر الله تعالى فى هذه الآية أن سنة الله فى رسله، إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص فى أن الشيطان زاد فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-، لا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قاله.
وقد سبق إلى ذلك الطبرى، مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده فى النظر، فصوب هذا المعنى. انتهى» .
ثم هاجر المسلمون الثانية إلى أرض الحبشة. وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، وثمانى عشرة امرأة.
__________
(1) سورة النجم: 20.
(2) سورة النجم: 21.
(3) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (8/ 439- 440) .(1/153)
وكان معهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان، فتنصر هناك ثم توفى على دين النصرانية. وتزوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبى سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهى بالحبشة كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى المقصد الثانى عند ذكر أزواجه- صلى الله عليه وسلم-.
وخرج أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- مهاجرا إلى الحبشة حتى بلغ برك الغماد «1» ورجع فى جوار سيد القارة، مالك بن الدغنة- بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال والغين وتشديد النون- يعبد ربه فى داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا لابن الدغنة: إنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه فى داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك.
فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإنى أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله «2» . الحديث رواه البخارى.
ثم قام رجال فى نقض الصحيفة، فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على أن الأرضة «3» أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا اسم الله تعالى فقط، فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال- صلى الله عليه وسلم- وذلك فى السنة العاشرة.
__________
(1) موضع بين مكة وزبيد، وقيل غير ذلك.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2298) فى الكفالة، باب: جوار أبى بكر فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم- وعقده، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) الأرضة: دودة بيضاء شبه النمل تأكل الخشب خاصة، ومنها نوع مثل كبار النمل ذوات أجنحة، تأكل الخشب وغيره، غير أنها لا تعرض للرطب، وهى ذات قوائم.(1/154)
ولما أتت عليه- صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب، وله سبع وثمانون سنة.
وقيل فى النصف من شوال من السنة العاشرة.
وقال ابن الجزار: قبل هجرته- عليه الصلاة والسلام- بثلاث سنين.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول له عند موته: يا عم قل لا إله إلا الله.
كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة.
فلما رأى أبو طالب حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم- قال له: والله يابن أخى، لولا مخافة قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه فقال: يابن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بها فقال صلى الله عليه وسلم-: لم أسمعه. كذا رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت.
ورواه البيهقى فى الدلائل من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثنا العباس عن عبد الله بن معبد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس فذكره «1» ، وقال البيهقى: إنه منقطع.
وأجيب عنه: بأن شهادة العباس لأبى طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله- صلى الله عليه وسلم- لم أسمع، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع. ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم.
مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبى طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما روينا فى صحيح البخارى من حديث سعيد بن المسيب. حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 346) بسند ضعيف للجهالة فيه.(1/155)
أُولِي قُرْبى «1» . وأنزل الله فى أبى طالب، فقال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «2» .
وأجيب أيضا بأن أبا طالب لو قال كلمة التوحيد، ما نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم- عن الاستغفار له.
وفى الصحيح عن العباس أنه قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح «3» .
وفى رواية الصحيح أيضا أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه «4» .
وفى رواية يونس عن ابن إسحاق زيادة فقال: يغلى منه دماغه حتى يسيل على قدميه.
قال السهيلى: من باب النظر فى حكمة الله، ومشاكلة الجزاء للعمل، أن أبا طالب كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بجملته متحزبا له، إلا أنه كان متثبتا بقدميه على ملة عبد المطلب، حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه. ثبتنا الله على الصراط المستقيم.
وفى شرح التنقيح للقرافى: الكفار أربعة أقسام، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكى عن أبى طالب أنه كان
__________
(1) سورة التوبة: 113.
(2) سورة القصص: 56.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3883) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (209) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى الله عليه وسلم- لأبى طالب والتخفيف عنه بسببه.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3885) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (21) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى الله عليه وسلم- لأبى طالب، والتخفيف عنه بسببه، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.(1/156)
يقول: إنى لأعلم أن ما يقوله ابن أخى لحق، ولولا أنى أخاف أن تعيرنى نساء قريش لاتبعته. وفى شعره يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل
فإن هذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن. انتهى.
وحكى عن هشام بن السائب الكلبى، أو أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جمع إليه وجوه قريش، فأوصاهم فقال:
يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه. إلى أن قال: وإنى أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين فى قريش، والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنان «1» ، وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهى. ثم هلك.
ثم بعد ذلك بثلاثة أيام- وقيل: بخمسة- فى رمضان بعد البعثة بعشر سنين، على الصحيح، ماتت خديجة- رضى الله عنها-.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يسمى ذلك العام عام الحزن، فيما ذكر صاعد وكانت مدة إقامتها معه- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين سنة على الصحيح. ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج- عليه السّلام- سودة بنت زمعة.
ثم خرج- عليه السّلام- إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، فى ليال
__________
(1) الشنان: البغض.(1/157)
بقين من شوال، سنة عشر من النبوة. لما ناله من قريش بعد موت أبى طالب. وكان معه زيد بن حارثة.
فأقام به شهرا، يدعو ثقيف إلى الله تعالى فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه.
قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه «1» بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره: وكان إذا أزلفته الحجارة قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج فى رأسه شجاجا.
وفى البخارى ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبى- صلى الله عليه وسلم-، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل- عليه السّلام-، فنادانى» . فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فنادانى ملك الجبال، فسلم علىّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين «2» قال- صلى الله عليه وسلم-: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «3» .
وعبد ياليل- بالتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم
__________
(1) العرقوب: ما فويق العقب من قدم الإنسان.
(2) الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل شرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3231) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (1795) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين.(1/158)
لام- ابن عبد كلال- بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام- وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف.
وقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل.
وأفاد ابن سعد: أن مدة إقامته- صلى الله عليه وسلم- بالطائف كانت عشرة أيام.
ولما انصرف- صلى الله عليه وسلم- عن أهل الطائف، مر فى طريقه بعتبة وشيبة ابنى ربيعة وهما فى حائط لهما، فلما رأيا ما لقى تحركت له رحمهما، فبعثا له مع عداس النصرانى- غلامهما- قطف عنب، فلما وضع- صلى الله عليه وسلم- يده فى القطف قال: بسم الله، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أى البلاد أنت.
وما دينك؟» قال نصرانى من نينوى. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» قال: وما يدريك؟ قال: «ذاك أخى، وهو نبى مثلى» . فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم.
ولما نزل نخلة- وهو موضع على ليلة من مكة- صرف الله إليه سبعة من جن نصيبين- مدينة بالشام- وكان- صلى الله عليه وسلم- قد قام فى جوف الليل يصلى فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن.
وفى الصحيح أن الذى آذنه- صلى الله عليه وسلم- بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما، وكل بعر علف لدوابكم «1» .
وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب.
وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه- صلى الله عليه وسلم-، عن ابن دريد: منشى وناشى وشاصر وماضر والأحقب. لم يزد تسمية على هؤلاء.
قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه- عليه السّلام- إلى أهل
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (450) فى الصلاة، باب: الجهر بالقراءة فى الصبح، والقراءة على الجن، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.(1/159)
الطائف ودعاءه إياهم، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن من أهل نصيبين.
قال: وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم فى ابتداء الإيحاء، ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون الوحى فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوه حقّا وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتى مقعده إلا رمى بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبعث جنوده فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى بين جبلى نخلة فأخبروه فقال: «هذا الحدث الذى حدث فى الأرض» «1» .
ورواه النسائى وصححه الترمذى.
قال: وخروجه- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف كان بعد موت عمه.
وروى ابن أبى شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «2» .
فهذا مع رواية ابن عباس تقتضى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم فى هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما وفوجا بعد فوج. انتهى.
وفى طريقه- عليه السّلام- هذه، دعا بالدعاء المشهور:
«اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3324) فى التفسير، من سورة الجن وأحمد فى «مسنده» (1/ 274) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 46) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) سورة الأحقاف: 29.(1/160)
تكلنى إلى عدو بعيد يتجهمنى أم إلى صديق قريب ملكته أمرى، إن لم تكن غضبان على فلا أبالى، غير أن عافيتك أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بى غضبك، أو يحل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» «1» .
أورده ابن إسحاق، ورواه الطبرانى فى كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفى أبو طالب، خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- ماشيا إلى الطائف، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال:
اللهم إليك أشكو. فذكره.
وقوله: يتجهمنى- بتقديم الجيم على الهاء- أى يلقانى بالغلظة والوجه الكريه.
ثم دخل- صلى الله عليه وسلم- مكة فى جوار المطعم بن عدى.
ولما كان فى شهر ربيع الأول أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعينى رأسه «2» ، وأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلوات الخمس، ثم انصرف فى ليلته إلى مكة.
فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن بالله.
وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله الله له، فجعل ينظر إليه ويصفه «3» .
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، كما فى «المجمع» (6/ 35) .
(2) قلت: جمهور السلف، على أن رؤية الله عز وجل مستحيلة فى الحياة الدنيا، لقوله عز وجل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الآية، ولحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى رواه مسلم (291) عن أبى ذر: قلت هل رأيت ربك يا رسول الله؟ قال: نور أنى أراه؟ وهو تصريح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينفى إمكانية الرؤية فى الحياة الدنيا، ولكن إشكال هذا الأمر هو ما ورد عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، فالراجح من قوله أنه لعله يقصد رؤية القلب، لا رؤية العين، وهذا جائز عندنا.
(3) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 36) .(1/161)
قال الزهرى: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضى عياض، ورجحه القرطبى والنووى. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.
وتعقب: بأن موت خديجة بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فى رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما التردد فى سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر.
وقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن حزم، وادعى فيه الإجماع.
وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدى وأخرجه من طريقه الطبرى والبيهقى، فعلى هذا كان فى شوال.
وقيل: كان فى رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووى فى الروضة.
وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون فى ذى الحجة، وبه جزم ابن فارس.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكره ابن الأثير.
وقال الحربى: إنه كان فى سابع عشرى ربيع الآخر، وكذا قال النووى فى فتاويه، لكن قال فى شرح مسلم: فى ربيع الأول.
وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغنى ابن سرور المقدسى.
وأما اليوم الذى يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت وعن ابن دحية: يكون إن شاء الله يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة.(1/162)
وسيأتى- إن شاء الله تعالى- فى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث والله الموفق والمعين.
ولما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج صلى الله عليه وسلم- فى الموسم الذى لقى فيه الأنصار- الأوس والخزرج-.
فعرض نفسه- صلى الله عليه وسلم- على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة، لقى رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فقال لهم:
«من أنتم» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أفلا تجلسون أكلمكم» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن «1» .
وكان من صنع الله، أن اليهود كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا:
إن نبيّا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبى صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا اليهود إليه.
فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم:
أبو أمامة، أسعد بن زرارة.
وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء.
ورافع بن مالك بن العجلان.
وقطبة بن عامر بن حديدة.
وعقبة بن عامر بن نابى.
وجابر بن عبد الله بن رئاب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام.
__________
(1) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 63) .(1/163)
ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت ويسقط جابر ابن رئاب.
فقال لهم النبى- صلى الله عليه وسلم-: «تمنعون ظهرى حتى أبلغ رسالة ربى» .
فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث عام الأول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به، فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل.
وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا- وفى الإكليل: أحد عشر- وهى العقبة الثانية، فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابى، ولم يكن فيهم جابر بن عبد الله بن رئاب لم يحضرها.
والسبعة تتمة الاثنى عشر هم:
معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور.
وذكوان بن عبد قيس الزرقى، وقيل إنه رحل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجرى أنصارى قتل يوم أحد.
وعبادة بن الصامت بن قيس.
وأبو عبد الرحمن، ويزيد بن ثعلبة البلوى.
والعباس بن عبادة بن نضلة.
وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان:
أبو الهيثم بن التيهان، من بنى عبد الأشهل.
وعويم بن ساعدة.(1/164)
فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أى وفق بيعتهم التى نزلت بعد ذلك عند فتح مكة وهى: ألانشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفترينه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، والسمع والطاعة فى العسر واليسر، والمنشط والمكره وأثره علينا، وألاننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم. قال صلى الله عليه وسلم-: «فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشى من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه» «1» ولم يفرض يومئذ القتال.
ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام.
وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم.
وكتبت الأوس والخزرج إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير.
وروى الدار قطنى عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا.
فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم فى جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وأسلم بإسلامهما جميع بنى عبد الأشهل فى يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر بإسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة واحدة، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة. ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين- رضى الله عنهم-.
ثم قدم على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى العقبة الثالثة فى العام المقبل فى ذى الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا- وقال ابن سعد: يزيدون رجلا أو رجلين- وامرأتان.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى بنحوه (18) فى الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم (1709) فى الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها، من حديث عبادة بن الصامت- رضى الله عنه-.(1/165)
وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان.
وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا.
فكان أول من ضرب على يده الشريفة- عليه السّلام- البراء بن معرور.
ويقال: أبو الهيثم، ويقال أسعد بن زرارة، على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود.
وكانت أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ «1» الآية، وفى الإكليل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» الآية.
ونقب عليهم اثنى عشر نقيبا.
وفى حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان:
مكث- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين يتتبع الناس فى منازلهم فى المواسم بمنى وغيرها، يقول: من يؤوينى؟ من ينصرنى حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة؟ حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فذكر الحديث. وفيه: وعلى أن تنصرونى إذا قدمت عليكم بيثرب، فتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة «3» الحديث.
وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه.
قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرّا عن كفار قريش، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من كان معه بالهجرة إلى المدينة. فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له فى الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة،
__________
(1) سورة الحج: 39.
(2) سورة التوبة: 111.
(3) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 322) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7012) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 681) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال.(1/166)
قدم من الحبشة لمكة، فاذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم.
ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش. ثم المسلمون أرسالا، ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا فى العوالى.
ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه- صلى الله عليه وسلم- إلا على بن أبى طالب وأبو بكر.
كذا قاله ابن إسحاق، قال مغلطاى وفيه نظر لما يأتى بعده.
وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة فيقول: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو.
ثم اجتمعت قريش ومعهم إبليس، فى صورة شيخ نجدى فى دار الندوة، دار قصى بن كلاب، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون فى أمره- عليه الصلاة والسلام-، فاجتمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك.
فإن قيل: لم تمثل الشيطان فى صورة نجدى؟
فالجواب: لأنهم قالوا- كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم فى المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل فى صورة نجدى. انتهى.
ثم أتى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر- صلى الله عليه وسلم- عليّا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه فى الله ووقى بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفى ذلك يقول على:
وقيت بنفسى خير من وطىء الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر(1/167)
ثم خرج- صلى الله عليه وسلم-، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رؤسهم كلهم ترابا كان فى يده، وهو يتلو قوله تعالى: يس إلى قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» . ثم انصرف- عليه السّلام- حيث أراد.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا:
محمدا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب.
وفى رواية أبى حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.
وفى هذه نزل قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ «2» الآية.
ثم أذن الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً «3» «4» . أخرجه الترمذى وصححه الحاكم.
فإن قلت ما الحكمة فى هجرته- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟
أجيب: بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه- عليه السّلام- تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقى- عليه السّلام- فى مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بمكة، إذ أن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل،
__________
(1) سورة يس: 1- 9.
(2) سورة الأنفال: 30.
(3) سورة الإسراء: 80.
(4) أخرجه الترمذى (2139) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى «مسنده» (1/ 223) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 4) ، وصححه الحاكم والترمذى.(1/168)
فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه- عليه السّلام- فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذى ضم أعضاءه الكريمة- صلوات الله وسلامه عليه-.
وذكر الحاكم أن خروجه- عليه السّلام- كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها.
وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموى- فى المغازى- عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. قال:
وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
قال فى فتح البارى: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم:
تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمى قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس.
ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين.
وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة، ويدل عليه قول صرمة:
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وقيل غير ذلك.
وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر.
وأخبر- عليه السّلام- عليّا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عنده للناس.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-(1/169)
متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبى وأمى، والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر: «أخرج من عندك» ، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى وأمى يا رسول الله.
قال السهيلى: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه- صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنه قد أذن لى فى الخروج» .
فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله.
قال- صلى الله عليه وسلم-: «نعم» .
فقال أبو بكر: فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بل بالثمن «1» .
فإن قلت: لم لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل؟
أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السّلام- فى استكمال فضل الهجرة إلى الله، وأن يكون على أتم الأحوال.
انتهى.
قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور- جبل بأسفل مكة-.
__________
(1) أخرجه بنحوه البخارى (2138) فى البيوع، باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض.(1/170)
وكان من قوله- صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت فقال: «والله إنك لأحب أرض الله إلى، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» «1» .
وهذا من أصح ما يحتج به فى تفضيل مكة على المدينة.
ولم يعلم بخروجه- عليه السّلام- إلا على وآل أبى بكر.
وروى أنهما خرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ليلا إلى الغار.
ولما فقدت قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هنا لك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور.
وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده.
ولله در الشيخ شرف الدين البوصيرى حيث قال:
ويح قوم جفوا نبيّا بأرض ... ألفته ضبابها والظباء
وسلوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء
أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء
يقال شجرة حصداء: أى كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها.
وفى حديث مروى فى الهجرة أنه- عليه السّلام- ناداه ثبير: اهبط عنى، فإنى أخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب، فناداه حراء: إلىّ يا رسول الله.
وذكر قاسم بن ثابت فى الدلائل أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما دخل الغار
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3925) فى المناقب، باب: فى فضل مكة، وابن ماجه (3108) فى المناسك، باب: فضل مكة، وأحمد فى «مسنده» (4/ 305) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3708) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 8 و 315) ، من حديث عدى بن حمراء الزهرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/171)
وأبو بكر معه، أنبت الله على بابه الراءة. قال قاسم: وهى شجرة معروفة، وهى أم غيلان. وعن أبى حنيفة «1» : تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه، لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار.
وفى مسند البزار: أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين «2» .
ثم أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر فى الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك؟
قال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر:
ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: ما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد» .
وقد روى أن الحمامتين باضتا فى أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا: لو دخلا لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت. وهذا أبلغ فى الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود.
فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سترا حتى عمى على القائف الطلب ولله در القائل:
والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل
__________
(1) هو: أحمد بن داود الدينورى النحوى، تلميذ ابن السكيت، ألف فى اللغة والنحو والهندسة، مات سنة (282 هـ) وهو غير الإمام أبى حنيفة صاحب المذهب المشهور.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 231) بنحوه وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، ومصعب المكى، والذى روى عنه، وهو عوين بن عمرو القيسى لم أجد من ترجمهما، وبقية رجاله ثقات.
(3) انظر ما قبله.(1/172)
ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب:
ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه فى كل شى
فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبى
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم أعم أبصارهم» «1» ، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة:
أقسمت بالقمر المنشق «2» إن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عم
فالصدق فى الغار والصديق لم ير ما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
أى عموا عما فى الغار مع خلق الله ذلك فيهم، لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله- صلى الله عليه وسلم- وأن العنكبوت لا تنسج عليه لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهما أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن الله تعالى يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من عباده، وأن وقاية عبده بما شاء تغنى عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالى من الأطم، وهى الحصون، فلله در الأبوصيرى شاعرا، وما أحسن قوله فى قصيدته اللامية حيث قال:
واغيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبى معمور ومأهول
كأنما المصطفى فيه وصاحبه ال ... صديق ليثان قد آواهما غيل
وجلل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبذا نسج وتجليل
__________
(1) أخرجه ابن حجر فى «تخريج أحاديث الكشاف» (ص 76) .
(2) الذى يقسم بالمخلوقات، هو الله عز وجل، أما نحن فلا يجوز لنا أن نقسم إلا به سبحانه، أو بأحد أسمائه أو صفاته، لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تحلف إلا بالله» الحديث.(1/173)
عناية ضل كيد المشركين بها ... وما مكائدهم إلا الأضاليل
إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما ... كأن أبصارهم من زيغها حول
وفى الصحيح عن أنس قال أبو بكر: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» «1» .
وروى أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الغار وقد تفترتا دما فاستبكيت وعلمت أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن تعود الحفا والجفوة.
وروى أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعلت الحيات والأفاعى تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفى رواية: فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه فى حجر أبى بكر فنام، فلدغ أبو بكر فى رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: مالك يا أبا بكر؟ فقال لدغت فداك أبى وأمى، فتفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده. رواه رزين.
وروى أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» . يعنى بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته- وهى أمنة تسكن عندها القلوب- على أبى بكر لأنه كان منزعجا، وأيده- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- بجنود لم تروها من الملائكة ليحرسوه فى الغار، أو ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته «3» .
انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3653) فى المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر عبد الله بن أبى قحافة التيمى- رضى الله عنه-، ومسلم (2381) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-.
(2) سورة التوبة: 40.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 2) بنحوه، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-.(1/174)
قلبه ببشارة لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «1» وكانت تحفة «ثانى اثنين» مدخرة له دون الجميع، فهو الثانى فى الإسلام والثانى فى بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بماله ونفسه وجوزى بمواراته معه فى رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادى على منائر الأمصار «ثانى اثنين إذ هما فى الغار» ولقد أحسن حسان حيث قال:
وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من الخلائق لم يعدل له بدلا
وتأمل قول موسى- عليه السّلام- لبنى إسرائيل: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» . وقول نبينا- صلى الله عليه وسلم- للصديق: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «3» فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد منه إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل «معى» لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة على أبى بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلى والشهود، وأين معية الربوبية فى قصة موسى- عليه السّلام- من معية الإلهية فى قصة نبينا صلى الله عليه وسلم-. قاله العارف شمس الدين بن اللبان.
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه، ومرة على النبى صلى الله عليه وسلم- فى الغار «4» .
وكذا نسجت على الغار الذى دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه- صلى الله عليه وسلم- لقتل خالد بن نبيح الهذلى بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل فى غار فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين.
وفى تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن
__________
(1) سورة التوبة: 40.
(2) سورة الشعراء: 62.
(3) سورة التوبة: 40.
(4) أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (5/ 197) .(1/175)
على بن الحسين بن على بن أبى طالب لما صلب عريانا فى سنة إحدى وعشرين ومائة.
وكان مكثه- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فى الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور.
وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر، وهو غلام شاب ثقف- أى ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبى بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث.
واستأجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، عبد الله بن الأريقط دليلا- وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.
فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم على طريق السواحل، فمروا بقديد على أم معبد- عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبى بفناء القبة، ثم تسقى وتطعم.
وكان القوم مرملين مسنتين «1» ، فطلبوا لبنا ولحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى شاة فى كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هل بها من لبن» فقالت: لهى أجهد من ذلك، فقال: «أتأذنين لى أن أحلبها» فقالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى الله، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط- أى يشبع الجماعة حتى يربضوا-
__________
(1) شرح المصنف معانى هذه الكلمات بعد سرده للحديث، فانظرها هناك.(1/176)
فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندها وذهبوا.
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد- قال السهيلى: لا يعرف اسمه، وقال العسكرى: أكثم بن أبى الجون، ويقال: ابن الجون- يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزالا، مخهن قليل.
فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاء عازب حيال، ولا حلوب فى البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مربنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. فقال: صفيه يا أم معبد.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مليح الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، فى عنقه سطع، وفى لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لا تبعته «1» .
قالت أسماء بنت أبى بكر: ولما خفى علينا أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدرى أين أبى، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدى لطمة خرج منها قرطى، قالت: ثم انصرفوا.
ولما لم ندر أين توجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات:
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 178) .(1/177)
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها فى مصدر ثم مورد «1»
فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه- صلى الله عليه وسلم-.
وقوله: مرملين: أى نفدت أزوادهم. ومسنتين: أى مجدبين، ويروى:
مشتين: دخلوا الشتاء. وكسر الخيمة: - بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين- جانبها.
وتفاجت: بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها. ويربض الرهط: - بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أى يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من أربض فى المكان يربض: إذا لصق به وأقام. والثج:
السيلان. وفى رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال- بضم المثلاثة- الرغوة واحدة: ثمالة. والبهاء أى بهاء اللبن: وهو وبيص رغوته. وتساوكن هزالا:
أى تمايلن، ويروى: تشاركن من المشاركة، أى تساوين فى الهزال. وغادره:
بالغين المعجمة- أبقاه والشاء عازب، أى بعيدة المرعى.
والأبلج: - بالجيم- المشرق الوجه المضيئة. والحيال: - بكسر الحاء المهملة- جمع حائل، وهى التى ليس بها حمل. والوضاءة: الحسن.
والثجلة: - بفتح الثاء المثلاثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أى نحول ودقة. والصعلة: - بفتح الصاد- صغر الرأس، وهى أيضا
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 179) .(1/178)
الدقة والنحول فى البدن. والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم. وفى عينيه دعج: أى سواد. والوطف: قال فى القاموس: محركة، كثرة شعر الحاجبين والعينين. وفى صوته صحل: - بالتحريك- وهو كالبحة- بضم الموحدة- أن لا يكون حاد الصوت. وأحور: قال فى القاموس: الحور- بالتحريك- أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها. والكحل: - بفتحتين- سواد فى أجفان العين خلقه، والرجل: أكحل وكحيل. والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفى القاموس: والزجج- محركة- دقة الحاجبين فى طول. والأقرن: المقرون الحاجبين. وفى عنقه سطع: - بفتحتين- أى ارتفاع وطول. وفى لحيته كثاثة:
الكثاثة فى اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية- بالفتح- وقوم كث- بالضم-. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أى ارتفع وعلا على جلسائه. وفصل- بالصاد المهملة- ولا نزر- بسكون المعجمة- ولا هذر- بفتحها-: أى بيّن ظاهر، يفصل بين الحق والباطل. ولا تشنؤه من طول: كذا جاء فى رواية، أى لا يبغض لفرط طوله، ويروى: ولا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، يقال: شنيته أشنؤه شنأ وشنانا، قاله ابن الأثير. ولا تقتحمه عين من قصر: أى لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا، وكل شىء ازدريته فقد اقتحمته.
ومحفود: أى مخدوم. والمحشود: الذى عنده حشد وهم الجماعة. ولا عابس: من عبوس الوجه. والمفتد: الذى يكثر اللوم وهو التفنيد. والضرة:
لحمة الضرع. وغادرها: أى خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدى: حدثنى حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التى لمس- عليه السّلام- ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما فى الأرض قليل ولا كثير.
ثم تعرض لهما بقديد سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال: «كلا» ودعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-،(1/179)
بدعوات، فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتما على، فادعوا لى ولكما أن أراد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لى، فركبت فرسى حتى جئتهما، قال: ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآنى «1» .
واجتاز- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقى بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبى صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندى شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت عام أول، فما بقى بها لبن، فقال: ادع بها، فاعتقلها- صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب، فقال الراعى: بالله من أنت، فو الله ما رأيت مثلك. فقال: أو تراك تكتم على حتى أخبرك؟ قال نعم، قال: فإنى رسول الله، فقال أنت الذى تزعم قريش أنك صابىء؟ قال: إنهم ليقولون ذلك، قال: فأشهد أنك نبى، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك، قال:
إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أنى قد ظهرت فائتنا.
قال الحافظ مغلطاى- بعد ذكره لقصة أم معبد-: وفى الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدرى أهى هى، أم غيرها.
ولما سمع المسلمون بالمدينة خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى نفسه فنادى بأعلى صوته يا بنى قيلة هذا
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3906) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(1/180)
جدكم- أى حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة- وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم فتلقوه، فنزل بقباء على بنى عمرو بن عوف..
الحديث رواه البخارى «1» .
وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك.
وظاهر هذا أنه- عليه السّلام- كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته، كما هو صريح فى موضعه.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه- عليه السّلام- لهلال ربيع الأول، أى أول يوم منه.
وفى رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبى معشر، لكن قال: ليلة الاثنين.
وعن ابن سعد: قدمها لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وفى «شرف المصطفى» من طريق أبى بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول.
وهذا يجمع بينه وبين الذى قبله بالحمل على الاختلاف فى رؤية الهلال.
وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة منه وبه جزم النووى فى كتاب السير من الروضة.
وقال ابن الكلبى: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه، وقيل لليلتين منه.
__________
(1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.(1/181)
وعند البيهقى: لثنتين وعشرين ليلة.
وقال ابن حزم: خرجا من مكة وقد بقى من صفر ثلاث ليال.
وأقام على بمكة بعد مخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع- وقيل: ثامن- عشر ربيع، وكانت مدة مقامه مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلة أو ليلتين.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- بالتاريخ فكتب من حين الهجرة.
وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم «1» .
وأقام- صلى الله عليه وسلم- بقباء فى بنى عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة.
وفى صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة «2» .
ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
وأسس مسجد قباء الذى أسس على التقوى «3» ، على الصحيح، وهو أول مسجد بنى فى الإسلام وأول مسجد صلى فيه- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه.
ثم خرج- صلى الله عليه وسلم- من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، فى بطن وادى رانوناء- براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد «الغبيب» - بضم الغين المعجمة، تصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة، والوادى: ذى صلب- ولذا سمى مسجد الجمعة، وهو مسجد
__________
(1) قاله ابن الجوزى فى «المنتظم» (4/ 226) .
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (428) فى الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (524) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) قلت: الذى فى صحيح مسلم (1398) أن المسجد الذى أسس على التقوى هو مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وليس مسجد قباء، وإن كان فيه خير كثير.(1/182)
صغير مبنى بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء.
وركب- صلى الله عليه وسلم- على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة.
وروى أنس بن مالك أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبى- صلى الله عليه وسلم- شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك، قال: فيقول: هذا الرجل يهديناى السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعنى الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير «1» ، الحديث رواه البخارى.
وقد روى ابن سعد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لأبى بكر: أله عنى الناس، فكان إذا سئل من أنت قال: باغى حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديناى السبيل.
وفى حديث الطبرانى: من رواية أسماء: فكان أبو بكر رجلا معروفا فى الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبى بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهدينا [السبيل] يريد الهداية فى الدين، ويحسبه الآخر دليلا «2» .
وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه كان يمر عليهم فى سفره للتجارة، وكان- صلى الله عليه وسلم- لم يشب، وكان- صلى الله عليه وسلم- أسن من أبى بكر. وفى حديث أنس: لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر «3» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- كلما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: «خلوا سبيلها- يعنى ناقته- فإنها مأمورة» «4» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3911) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 106) .
(3) صحيح: وهو عند البخارى (3911) المتقدم قبل حديث.
(4) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 183) .(1/183)
وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد لسهل وسهيل ابنى رافع بن عمرو، وهما يتيمان فى حجر معاذ بن عفراء- ويقال أسعد بن زرارة وهو المرجح- ثم ثارت، وهو- صلى الله عليه وسلم- عليها حتى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى، ثم ثارت منه وبركت فى مبركها الأول، وألقت جرانها بالأرض- يعنى باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأزرمت- يعنى صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها- صلى الله عليه وسلم- وقال: «هذا المنزل إن شاء الله» .
واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله فى بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده- عليه السّلام-.
وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند أبى يوسف يعقوب فى كتاب الذكر والدعاء له قال: نزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة فكنت فى العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحى، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال: «لم يا أبا أيوب» قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحى، لا والذى بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا.
الحديث. ورواه الحاكم أيضا.
وقد ذكر أن هذا البيت الذى لأبى أيوب، بناه له- عليه السّلام- تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبى- صلى الله عليه وسلم- ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبى أيوب، وهو من ولد ذلك العالم. قال: وأهل المدينة الذين نصروه صلى الله عليه وسلم- من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل فى منزل نفسه، لا فى منزل غيره. كذا حكاه فى تحقيق النصرة.
وفرح أهل المدينة بقدومه- صلى الله عليه وسلم-، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول(1/184)
الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شىء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع «1»
قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه- صلى الله عليه وسلم- المدينة رواه البيهقى فى الدلائل «2» ، وأبو الحسن بن المقرى فى كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبرى فى الرياض عن أبى الفضل بن الجمحى قال: سمعت ابن عائشة يقول- أراه عن أبيه- فذكره. وقال خرجه الحلوانى على شرط الشيخين. انتهى.
وسميت ثنية الوداع لأنه- صلى الله عليه وسلم- ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة فى بعض أسفاره.
وقيل: لأنه- عليه السّلام- شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها.
وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما.
وصحح القاضى عياض هذا الأخير، واستدل بقول نساء الأنصار حين مقدمه- صلى الله عليه وسلم-:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
فدل على أنه اسم قديم.
وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقى. انتهى.
قال شيخ الإسلام الولى العراقى: وهذا كله مردود، ففى صحيح البخارى وسنن أبى داود والترمذى عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول
__________
(1) زاد رزين:
أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 507) .(1/185)
الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع «1» . قال: وهذا صريح فى أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدى- رحمه الله- فى شرح الترمذى كلام ابن بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى.
وسبقه إلى ذلك ابن القيم فى الهدى النبوى فقال: هذا وهم من بعض الرواة، لأن ثنية الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك. انتهى.
لكن قال ابن العراقى أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التى من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع. انتهى.
وفى «شرف المصطفى» وأخرجه البيهقى عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى النجار بالدفوف يقلن:
نحن جوار من بنى النجار ... يا حبذا محمد من جار
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتحببننى» ، قلن: نعم يا رسول الله. وفى رواية الطبرانى فى الصغير فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الله يعلم قلبى يحبكم» «2» .
وقال الطبرى: وتفرق الغلمان والخدم فى الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول الله.
ووعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولى إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3083) فى الجهاد والسير، باب: استقبال الغزاة، وأبو داود (2779) فى الجهاد، باب: فى التلقى، والترمذى (1718) فى الجهاد، باب: ما جاء فى تلقى الغائب إذا قدم.
(2) أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (780) وقال: لم يروه عن عوف إلا عيسى بن يونس، تفرد به مصعب بن سعيد.(1/186)
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدنا، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة» .
قالت- يعنى عائشة-: وقدمنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، فكان بطحان يجرى نجلا. تعنى: ماء آجنا «1» .
وقال عمر: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك واجعل موتى فى بلد رسولك «2» . رواه البخارى.
وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته، لأن العقيرة الساق، كأن الذى قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهرى. وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادى وادى مكة.
وجليل: نبت ضعيف.
وأقام- صلى الله عليه وسلم- عند أبى أيوب سبعة أشهر. وقيل: إلى صفر من السنة الثانية وقال الدولابى: شهرا.
وكان يصلى حيث أدركته الصلاة، ولما أراد- صلى الله عليه وسلم- بناء المسجد الشريف، قال: «يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم» قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله «3» ، فأبى ذلك- صلى الله عليه وسلم- وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبى بكر رضى الله عنه-، وكان قد خرج من مكة بماله كله.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1889) فى الحج، باب: رقم (12) ، ومسلم (1376) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة، والصبر على لأوائها، من حديث عائشة رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1890) فيما تقدم.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (428) فى المساجد، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (524) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/187)
قال أنس: وكان فى موضع المسجد نخل وخرب ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ، وبنى المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل، وعمل فيه المسلمون، وكان عمار بن ياسر ينقل لبنتين لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبى صلى الله عليه وسلم- فقال له- عليه الصلاة والسلام-: «للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية» «1» .
وروينا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ينقل معهم اللبن ويقول وهو ينقل [اللبن] :
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنه- صلى الله عليه وسلم- تمثل ببيت شعر تام غير هذا.
انتهى.
وقد قيل: إن الممتنع عليه- صلى الله عليه وسلم- إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا.
وقوله: هذا الحمال: - بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- أى المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أى: التى تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك.
وفى رواية المستملى بالجيم. انتهى.
وفى كتاب «تحقيق النصرة» قيل: ووضع- عليه السّلام- رداءه فوضع الناس أرديتهم وهم يقولون:
لئن قعدنا والنبى يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل
وآخرون يقولون:
لا يستوى من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
__________
(1) تقدم.(1/188)
وجعلت قبلة المسجد للقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب فى مؤخره، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه.
وجعل طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفى الجانبين مثل ذلك أو دونه.
وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة فى البيت الذى يليه شارعا إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة فى البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلى آل عثمان.
ثم تحول- عليه السّلام- من دار أبى أيوب إلى مساكنه التى بناها.
وكان قد أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن، وخرج عبد الله بن أبى بكر معهم بعيال أبيه.
وكان فى المسجد موضع مظلل، تأوى إليه المساكين، يسمى الصفة، وكان أهله يسمون: أهل الصفة، وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه- عليه السّلام-.
وفى البخارى من حديث أبى هريرة: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا فى أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته «1» .
وهذا يشعر بأنهن كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم فى غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبى هريرة.
وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابى والسلمى. والحاكم وأبو
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (442) فى المساجد، باب: نوم الرجل فى المسجد.(1/189)
نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشة، قاله فى فتح البارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق علىّ، فصنع له المنبر.
وكان عمله وحنين الجذع فى السنة الثامنة- بالميم- من الهجرة، وبه جزم ابن النجار وعورض: بما فى حديث الإفك فى الصحيحين، قالت عائشة: فثار الحيان- الأوس والخزرج- حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم- على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا «1» .
وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان فى السنة السابعة. وعورض: بذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح فى آخر سنة ثمان، وقدوم سنة تسع.
وعن بعض أهل السير: أنه- عليه السّلام- كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذى من خشب. وعورض: بأن الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
وستأتى قصة حنين الجذع- إن شاء الله تعالى- فى مقصد المعجزات.
ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى- عليه السّلام- بين المهاجرين والأنصار»
وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون، على الحق والمواساة والتوارث.
وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «3» الآية.
وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر. وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا فى شوال.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4141) فى المغازى، باب: حديث الإفك، ومسلم (2770) فى التوبة، باب: فى حديث الإفك.
(2) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 150) .
(3) سورة الأنفال: 75.(1/190)
[رؤيا الأذان]
وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها، من غير دعوة.
وأخرج ابن سعد فى الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادى للصلاة بقوله: الصلاة جامعة الحديث.
وشاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة- وكان ذلك فيما قيل فى السنة الثانية- فقال بعضهم: ناقوس كناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود «1» ، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة.
فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه فى منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما رأى، وفى رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم- ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت- رأيت: شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان. الحديث، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» . قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه ويؤذن.
قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وهو فى بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذى بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (604) فى الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (377) فى الصلاة، باب: بدء الأذان، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (499) فى الصلاة، باب: كيف الأذان، وأحمد فى «مسنده» (4/ 42 و 43) ، وابن حبان فى «صحيحه» (1679) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (371) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/191)
ووقع فى الأوسط للطبرانى: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان.
وفى الوسيط للغزالى: أنه رآه بضعة عشر رجلا.
وعبارة الجيلى فى شرح التنبيه: أربعة عشر.
وأنكره ابن الصلاح ثم النووى، وفى سيرة مغلطاى: أنه رآه سبعة من الأنصار.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله-: ولا يثبت شىء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت فى بعض الطرق: انتهى. قال السهيلى: فإن قلت: ما الحكمة التى خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين فى نومه. ولم يكن عن وحى من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية، وفى قوله- صلى الله عليه وسلم- له: «إنها لرؤيا حق» . ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحى من الله له أم لا؟
وأجاب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن على قال:
لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل- عليه السّلام- بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى بها الحجاب الذى يلى عرش الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: والذى بعثك بالحق، إنى لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه. فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب:
صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان.
قال السهيلى: وهذا أقوى من الوحى، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحى حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى- صلى الله عليه وسلم- فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، وعلم حينئذ أن مراد الله بما رآه فى السماء أن يكون سنة فى الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصارى. انتهى.(1/192)
وتعقب: بأن حديث البزار فى إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك «1» .
وقال فى فتح البارى: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله ابن زيد، فإن رؤيا غير الأنبياء لا يا بنى عليها حكم شرعى:
وأجيب: باحتمال مقارنة الوحى لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود فى المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثى- أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فوجد الوحى قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «سبقك بذلك الوحى» «2» .
وهذا أصح مما حكى الداودى عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم- بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.
وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره: وذلك أنه قال:
«طاف بى- وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا فى يده، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟
قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت [له] «3» بلى، قال: تقول الله أكبر، الله أكبر وذكر بقية كلمات الأذان.
قال: ثم استأخر عنى غير بعيد ثم قال [ثم تقول] إذا أقمت ... الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة» «4» . ورواه أبو داود بإسناد صحيح.
__________
(1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (2/ 78) .
(2) أخرجه أبو داود فى «مراسيله» (21) .
(3) زيادة من سنن أبى داود.
(4) صحيح: وقد تقدم قريبا.(1/193)
ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذى رأى.
وفى مسند الحارث: أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن فى سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بها، فقال- عليه السّلام- لبلال «سبقك بها عمر» «1» وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا ذلك فى اليقظة.
وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبرانى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- أوحى الله إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا.
وفى إسناده طلحة بن زيد وهو متروك.
ومنها: للدار قطنى فى «الأفراد» من حديث أنس أن جبريل أمر النبى صلى الله عليه وسلم- بالأذان حين فرضت الصلاة. وإسناده ضعيف.
ومنها: حديث البزار عن على، المتقدم.
قال فى فتح البارى: والحق أنه لا يصح شىء من هذه الأحاديث وقد جزم ابن المنذر بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور فى ذلك «2» . والله سبحانه أعلم.
فإن قلت: هل أذن- صلى الله عليه وسلم- بنفسه قط؟
أجاب السهيلى: بأنه قد روى الترمذى من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضى بلخ يرفعه إلى أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن فى سفر وصلى وهم على رواحلهم «3» . الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن بنفسه. انتهى.
__________
(1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (2/ 78) وعزاه للحارث بن أبى أسامة فى «مسنده» بسند واه.
(2) انظر «الفتح» (2/ 79) .
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .(1/194)
وليس هذا الحديث من حديث أبى هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة.
وكذا جزم النووى بأنه- عليه الصلاة والسلام- أذن مرة فى السفر، وعزاه للترمذى وقواه.
ولكن روى الحديث الدار قطنى وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن.
قال السهيلى: والمفصل يقضى على المجمل المحتمل.
وفى مسند أحمد من الوجه الذى أخرج منه الترمذى هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن «1» ، قال فى فتح البارى فعرف أن فى رواية الترمذى اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر «2» . انتهى.
فإن قلت هل صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- خلف أحد من أصحابه؟ قلت:
نعم، ثبت فى صحيح مسلم وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- تبوك، فتبرز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل الغائط، فحمل معه إداوة قبل صلاة الفجر ... الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاته أقبل عليهم ثم قال، أحسنتم، أو قال:
أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها «3» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 173) ، وانظر ما قبله.
(2) قاله الحافظ فى «الفتح» (2/ 79) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (274) (81) فى الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، و (274) (105) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، وأبو داود (149 و 152) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.(1/195)
ورواه أبو داود فى السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى صلاته «1» الحديث.
قال النووى: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز اقتداء النبى صلى الله عليه وسلم- خلف بعض أمته.
قال: وأما بقاء عبد الرحمن فى صلاته وتأخر أبى بكر- رضى الله عنه- ليتقدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبى صلى الله عليه وسلم- التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف صلاة أبى بكر.
نعم فى السيرة الهشامية: أن أبا بكر كان الإمام وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يأتم به.
لكنه- كما قال السهيلى- حديث مرسل فى السيرة، والمعروف فى الصحاح أن أبا بكر كان يصلى بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبى بكر «2» .
لكن قد روى عن أنس من طريق متصل: أن أبا بكر كان الإمام يومئذ، واختلف فيه خبر عائشة- رضى الله عنها-. انتهى.
وفى الترمذى مصححا من حديث جابر: أن آخر صلاة صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ثوب واحد متوشحا به خلف أبى بكر «3» .
قال ابن الملقن: وقد نصر هذا القول غير واحد من الحفاظ: منهم الضياء، وابن ناصر، وقال: صح وثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبى بكر
__________
(1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (683) فى الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) إسناده صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (363) فى الصلاة، باب: منه، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : إسناده صحيح.(1/196)
مقتديا به فى مرضه الذى مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية.
وقيل: إنه كان مرتين، جمعا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان.
وروى الدار قطنى من طريق المغيرة بن شعبة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مات نبى حتى يؤمه رجل من أمته» «1» .
ولما كان بعد شهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام- لاثنتى عشرة خلت من ربيع الآخر- قال الدولابى يوم الثلاثاء، وقال السهيلى بعد الهجرة بعام أو نحوه- زيد فى صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر.
وفى البخارى عن عائشة (فرضت الصلاة ركعتين [ركعتين] ) ثم هاجر النبى- صلى الله عليه وسلم-[إلى المدينة] ففرضت أربعا. وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر) «2» .
وفى البخارى عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبى ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» .
وقيل إنما فرضت أربعا، ثم خفف عن المسافر. ويدل له حديث: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة) «4» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 13) ، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 370) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 282) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1803 و 4764) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى المناقب، باب: التاريخ من أين أرخوا التاريخ، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وهو ليس فيها بهذا اللفظ، بل بلفظ الحديث الآتى.
(3) صحيح: وانظر ما قبله.
(4) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (2408) فى الصوم، باب: اختيار الفطر، والترمذى (715) فى الصوم، باب: ما جاء فى الرخصة فى الإفطار للحبلى والمرضع، وأحمد فى «مسنده» (5/ 29) ، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/197)
وقيل: إنما فرضت فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس، قال- رضى الله عنه-: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم- صلى الله عليه وسلم- فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين) «1» رواه مسلم وغيره.
وسيأتى مزيد لذلك إن شاء الله تعالى فى أول الصلاة من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام-.
قال ابن إسحاق وغيره: ونصبت أحبار يهود العداوة للنبى- صلى الله عليه وسلم- بغيا وحسدا، وسحره لبيد بن الأعصم، وهو من يهود بنى زريق، فكان يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله، وجعل سحره فى مشط ومشاطة، ودفنه فى بئر ذى أروان- وأكثر أهل الحديث يقول: ذروان- تحت راعوفة البئر «2» ، كما ثبت فى الصحيح.
وليس هذا بقادح فى النبوة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يبتلون فى أبدانهم بالجراحات والسموم والقتل وغير ذلك مما جوّزه العلماء عليهم.
وانضاف إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج، منافقون، على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أنهم قهروا بظهور الإسلام، فأظهروه واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر، منهم عبد الله بن أبى ابن سلول، وكان رأس المنافقين، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «3» . كما سيأتى- إن شاء الله- فى غزوة بنى المصطلق.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) .
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5763) فى الطب، باب: السحر، ومسلم (2189) فى السلام، باب: السحر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) سورة المنافقون: 8.(1/198)
مغازيه وسراياه وبعوثه «1» صلى الله عليه وسلم
وأذن الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم- بالقتال. قال الزهرى: أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2» . أخرجه النسائى بإسناد صحيح «3» .
قال فى البحر: والمأذون فيه- أى فى الآية- محذوف، أى: فى القتال، لدلالة «يقاتلون» عليه، وعلل الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم- من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية.
انتهى.
وقال غيره: وإنما شرع الله تعالى الجهاد فى الوقت اللائق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم قليلون- بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون، وأخرجوه- صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر- عليه الصلاة والسلام- بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله تعالى جهاد الأعداء، فبعث- صلى الله عليه وسلم- البعوث والسرايا وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس فى دين الله أفواجا أفواجا.
وكان عدد مغازيه- صلى الله عليه وسلم- التى خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين. قاتل فى تسع منها بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم-: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق،
__________
(1) جرى أهل السير والمغازى على تسمية كل حرب حضرها النبى- صلى الله عليه وسلم- بغزوة، وما لم يحضرها بسرية أو بعثا.
(2) سورة الحج: 39.
(3) قلت: هو عند النسائى (6/ 2) فى الجهاد، باب: وجوب الجهاد، من قول ابن عباس رضى الله عنهما-.(1/199)
وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال:
فتحت مكة عنوة.
وكانت سراياه التى بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل فى بنى النضير.
وأفاد فى فتح البارى: أن السرية- بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هى التى تخرج بالليل- والسارية: التى تخرج بالنهار.
قال: وقيل سميت بذلك- يعنى السرية- لأنه يحفى ذهابها. وهذا يقتضى أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة.
وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهى من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له منسر- بالنون ثم المهملة- فإن زاد على الثمانمائة سمى جيشا، [وما بينهما يسمى هبطة] «1» ، فإن زاد على أربعة آلاف سمى جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا.
وكان أول بعوثه- صلى الله عليه وسلم- على رأس سبعة أشهر، فى رمضان، وقيل فى ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين.
وقيل من الأنصار، وفيه نظر، لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه فى دارهم.
فخرجوا يعترضون عيرا لقريش، فيها أبو جهل اللعين، فلقيه فى ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى، وكان- عليه السّلام- قد عقد له لواء أبيض.
«واللواء هو العلم الذى يحمل فى الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم المعسكر» .
وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى
__________
(1) ليست فى الأصل، وهى زياة من «الفتح» (8/ 70) للحافظ ابن حجر.(1/200)
أحمد والترمذى عن ابن عباس: كانت راية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سوداء، ولواؤه أبيض «1» ، ومثله عند الطبرانى عن بريدة، وعند ابن عدى عن أبى هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهو ظاهر فى التغاير، لعل التفرقة بينهما عرفية.
وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية. انتهى.
ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، فى شوال، على رأس ثمانية أشهر، فى ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب.
وكان على المشركين- وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبى جهل- فى مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبى وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمى فى الإسلام «2» .
وقال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة- فيما بلغنا- أول راية عقدت فى الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه الصلاة والسلام- بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى.
وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، والله أعلم.
ثم سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار- بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد بالحجاز يصب فى الجحفة- وكان ذلك فى ذى القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو، فى
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (1681) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الرايات، وابن ماجه (2818) فى الجهاد، باب: الرايات والألوية، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 595 و 596) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 338 و 339) .(1/201)
عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس «1» .
ثم غزوة ودان، وهى الأبواء «2» ، وهى أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وفى البخارى: أن أولها الأبواء.
خرج- صلى الله عليه وسلم- فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة، يريد قريشا، فى ستين رجلا، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة- أى المصالحة- على أن بنى ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوّا.
واستعمل على المدينة سعد بن عبادة» .
وليس بين ما وقع فى سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخارى اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية.
ثم غزوة بواط- بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- وهى الثانية، غزاها- صلى الله عليه وسلم- فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى- بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- فى مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحى واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
فرجع ولم يلق كيدا، أى حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا «4» .
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، والخرار: من أودية المدينة، وقيل: إنه آبار عن يسار المحجة قريب من خم.
(2) الأبواء: قرية من عمل القرح، بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا.
(3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 591) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 259) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 352) .
(4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8 و 9) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .(1/202)
ثم غزوة العشيرة- بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازى فى ذلك، وفى البخارى: العشيراء، أو: العسيرة، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء- وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغير تصغير- فهى غزوة تبوك، وستأتى إن شاء الله تعالى.
ونسبت هذه إلى المكان الذى وصلوا إليه، وهو موضع لبنى مدلج بينبع «1» .
وخرج إليها- صلى الله عليه وسلم- فى جمادى الأولى- وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة، فى خمسين ومائة رجل- وقيل فى مائتى رجل- ومعهم ثلاثون بعيرا يتعقبونها، وحمل اللواء- وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التى صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت.
ووداع بنى مدلج من كنانة «2» .
وكانت نسخة الموادعة فيما ذكره غير ابن إسحاق.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا فى دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبى إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد.
ثم غزوة بدر الأولى. قال ابن إسحاق: ولما رجع- عليه الصلاة والسلام- أى: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالى، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة،
__________
(1) ينبع: قرية كبيرة بها حصن على بعد سبع مراحل من المدينة.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598 و 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9 و 10) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .(1/203)
فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فى طلبه حتى بلغ سفوان- بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى «1» .
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء على ابن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه-.
ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية- وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، فى رجب يترصد قريشا، فمرت بهم عيرهم تحمل زبيبا وأدما من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمى، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن فى آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة فى الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها.
فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام» فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائمها.
وتكلمات قريش: إن محمدا سفك الدماء، وأخذ المال فى الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.. «2» الآية.
وفى ذلك يقول عبد الله بن جحش:
تعدون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى ذاك راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد
سقينا من ابن الحضرمى رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد
وبعثت قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى فداء الأسيرين، وهما: عثمان
__________
(1) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9) .
(2) سورة البقرة 217.(1/204)
ابن عبد الله والحكم بن كيسان، ففاداهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا «1» .
ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشر شهرا «2» .
وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر شهرا.
وقال الحربى: قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة فى ربيع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنين ستة أشهر. ثم حولت القبلة.
وقيل: كان تحويلها فى جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء فى نصف شعبان، وقيل يوم الإثنين نصف رجب.
وظاهر حديث البراء فى البخارى: أنها كانت صلاة العصر «3» .
ووقع عند النسائى من رواية سعيد بن المعلى: أنها الظهر.
وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى، كما فى الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة «4» .
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 601 و 604) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 10 و 11) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 364 و 371) .
(2) صحيح: وانظر الخبر فى صحيح البخارى (41) فى الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، ومسلم (525) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: انظر ما قبله.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (403) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، ومسلم (526) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.(1/205)
وفى هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم.
وروى الطبرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما هاجر- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان- صلى الله عليه وسلم- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية «1» .
قال فى فتح البارى وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه «2» ، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.
وأخرج الطبرى أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة «3» .
وقوله فى حديث ابن عباس الأول: «أمره الله تعالى» يرد قول من قال:
إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.
وعن أبى العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفى أن يكون بتوقيف.
واختلفوا فى المسجد الذى كان يصلى فيه:
فعند ابن سعد فى الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر فى مسجده
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبرى فى «تفسيره» (1/ 502) ، (2/ 5 و 20) .
(2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 325) .
(3) مرسل: أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (2/ 5) عن ابن جريج مرسلا.(1/206)
بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون.
ويقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- زار أم بشر بن البراء بن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى- عليه الصلاة والسلام- بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار، إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمى مسجد القبلتين. قال ابن سعد قال الواقدى: هذا عندنا أثبت «1» .
ولما حول الله تعالى القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، أى: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم فى قوله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «2» . أى الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما توجهنا فالطاعة فى امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفى تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا.
ولله تعالى بنبينا- عليه السّلام- وبأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة خليله، قال- عليه السّلام- فيما رواه أحمد من حديث عائشة- رضى الله عنها-: إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التى هدانا الله إليها وضلوا عنها. وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين «3» .
وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التى صليناها نحو بيت المقدس؟
وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «4» .
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 186) .
(2) سورة البقرة: 142.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 134) .
(4) سورة البقرة: 143.(1/207)
وقيل قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى. فأنزل الله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ «1» . يعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم.
ثم فرض صيام شهر رمضان، بعد ما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه- صلى الله عليه وسلم-.
وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال.
وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم.
ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال.
وهى قرية مشهورة، نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التى بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها.
وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، والذى أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والخيلاء الزائدة، فأعز الله تعالى رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبى صلى الله عليه وسلم- وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنّا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «2» . أى قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد.
انتهى.
__________
(1) سورة البقرة: 144.
(2) سورة آل عمران: 123.(1/208)
فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار.
وكان خروجهم يوم السبت لثنتى عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام.
واستخلف أبا لبابة الأنصارى.
وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها.
وكان معهم ثلاثة أفراس: «بعزجة» فرس المقداد، و «العيسوب» فرس الزبير وفرس لمرثد الغنوى، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا.
وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير.
وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الإثنين وقيل غير ذلك.
وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال الله تعالى:
وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «1» .
وإنما قصد- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون التعرض لعير قريش. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام فى ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصى، فأقبلوا فى قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال: «هذه عير لقريش فيها أموال فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها» .
__________
(1) سورة الأنفال: 42.(1/209)
فلما سمع أبو سفيان بسيره- عليه السّلام-، استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى أن يأتى قريشا بمكة، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم فى أصحابه.
فنهضوا فى قريب من ألف ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة.
وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس فى طلب العير، أو حرب النفير، وقال: «إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش» وكانت العير أحب إليهم.
فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إناها هنا قاعدون «1» .
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد- يعنى مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «خيرا» ودعا له بخير. ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس أشيروا على» وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان- صلى الله عليه وسلم- يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك- صلى الله عليه وسلم-:
قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: «أجل» .
__________
(1) إشارة إلى الآية (24) ، من سورة المائدة.(1/210)
قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى.
فسر- صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر الآن إلى مصارع القوم» قال ثابت عن أنس- رضى الله عنه- قال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا. قال فما ماط أحدهم- أى ما تنحى- عن موضع يده- عليه الصلاة والسلام- «1» .
تنبيه: قال ابن سيد الناس فى «عيون الأثر» : روينا من طريق مسلم أن
__________
(1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 289- 290) ، وفى «البداية والنهاية» (2/ 395) من طريق ابن إسحاق وأخرج البخارى (3952) منه من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- عنه يقول: شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم- أشرق وجهه وسره يعنى قوله. وأخرجه مسلم (1779) منه من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا ... إلى آخر الحديث، إلا أن هناك إشكالا فى قول المتكلم سعد بن عبادة، وهو ممن لم يشهد بدرا وإن كان ممن ضرب له بسهم فيهم، وهنا يقول الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 288) : ويمكن الجمع بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- استشارهم فى غزوة بدر مرتين، الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبى سفيان وذلك بين فى رواية مسلم، ولفظه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان والثانية: كانت بعد أن فرج كما فى حديث الباب، ووقع عند الطبرانى أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب.(1/211)
الذى قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه ابن إسحاق وغيره.
واختلف فى شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق فى البدريين، وذكره الواقدى والمدائنى وابن الكلبى منهم. انتهى.
ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم- قريبا من بدر، ونزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادى، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم.
وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبى الله. وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤا.
فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادى، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام.
وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى:
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» . أى من الأحداث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ «2» أى وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ «3» .
بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «4» . حتى لا تسوخ فى الرمل، بتلبيد الأرض.
وبنى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عريش فكان فيه.
ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث
__________
(1) سورة الأنفال: 11.
(2) سورة الأنفال: 11.
(3) سورة الأنفال: 11.
(4) سورة الأنفال: 11.(1/212)
- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. فقال- صلى الله عليه وسلم- قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على.
فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، فقالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز على الوليد بن عتبة.
فقتل على الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق.
وعند موسى بن عقبة- كما نقله فى فتح البارى- برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة وعلى للوليد.
ثم اتفقا: فقتل على الوليد، وقتل حمزة الذى بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة فى ركبة عبيدة ومال على وحمزة على الذى بارزه عبيدة فأعاناه على قتله.
وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن على: مثل قول موسى بن عقبة.
وعند أبى الأسود عن عروة مثله.
وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلمانى: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليّا للوليد، ثم قال: الثابت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة.
وأخرج أبو داود عن على قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى:
من يبارز فانتدب له شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بنى عمنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قم يا حمزة، قم يا على، قم يا عبيدة» فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2665) فى الجهاد، وباب: فى المبارزة، والبيهقى فى «الكبرى» (3/ 376) (9/ 131) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/213)
قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذى فى السير من أن الذى بارزه على هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام، لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف على والوليد فكانا شابين.
وقد روى الطبرانى بإسناد حسن عن على قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة ابن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبى- صلى الله عليه وسلم- علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبى داود. والله أعلم. انتهى.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى العريش ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو- صلى الله عليه وسلم- يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد فى الأرض أبدا» . وأبو بكر يقول: يا رسول الله، خل بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك «1» .
وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال:
لما كان يوم بدر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال- عليه السّلام- وهو فى صلاته: «اللهم لا تخذلنى، اللهم أنشدك ما وعدتنى» «2» .
وروى النسائى والحاكم عن على قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول فى سجوده: «يا حى، يا قيوم» فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك «3» .
وفى الصحيح: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما كان يوم بدر فى العريش مع الصديق، أخذت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة من النوم ثم استيقظ متبسما، فقال:
__________
(1) صحيح: والحديث: أخرجه مسلم (1763) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، والترمذى (3081) فى التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، وأحمد فى «مسنده» (1/ 30 و 32) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
(2) ذكره الحافظ فى «الفتح» (7/ 288، 289) وعزاه لسعيد بن منصور.
(3) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10447) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 344) .(1/214)
«أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» ثم خرج من باب العريش وهو يتلو سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» «2» .
فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره- عليه الصلاة والسلام- بالكف عن الاجتهاد فى الدعاء ويقوى رجاءه ويثبته، ومقام الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟
أجاب السهيلى نقلا عن شيخه: بأن الصديق فى تلك الساعة كان فى مقام الرجاء، والنبى- صلى الله عليه وسلم- فى مقام الخوف، لأن لله تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف ألايعبد الله فى الأرض، فخوفه ذلك عبادة. انتهى.
وقال الخطابى: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبى صلى الله عليه وسلم- فى تلك الحالة، بل الحامل للنبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ فى التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر فى نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .
وقال غيره: وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تلك الحالة فى مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده ألايقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذى يظهر من بادىء الرأى.
وإنما قال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم» «4» لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان.
__________
(1) سورة القمر: 45.
(2) صحيح: وهو عند البخارى (2915) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، إلا أنه فيه بلفظ غريب من ذلك
(3) سورة القمر: 45.
(4) صحيح: وقد تقدم قريبا.(1/215)
وأما شدة اجتهاده- عليه الصلاة والسلام- ونصبه فى الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب فى القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل فى جهاد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار الله وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون. انتهى.
وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش، فاستقبل القبلة ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه:
«اللهم أنجز لى ما وعدتنى» ... فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ «1» . مرسل إليكم مدادا لكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «2» «3» . أى متتابعين بعضهم فى إثر بعض.
وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف الله المسلمين وجاءهم بهم مدادا.
وفى الآية الآخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ «4» . فقيل معناه:
إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مدادا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا «5» . وكانوا فى صور الرجال، ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن الله معكم.
وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف.
__________
(1) سورة الأنفال: 9.
(2) سورة الأنفال: 9.
(3) صحيح: والخبر عند مسلم (1763) وقد تقدم قريبا.
(4) سورة آل عمران: 124.
(5) سورة الأنفال: 12.(1/216)
وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف.
وعن عامر الشعبى: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل الله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إلى قوله: مُسَوِّمِينَ «1» ، قال: فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة.
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما-: جاء إبليس يوم بدر فى جند من الشياطين، معه رايته، فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين:
لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم، فلما أقبل جبريل والملائكة كانت يده فى يد رجل من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقبيه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك جار؟
فقال إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب «2» .
وروى أن جبريل نزل فى خمسمائة وميكائيل فى خمسمائة فى صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رؤسهم عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.
وقال ابن عباس: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر «3» .
وعن على: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا فى نواصى خيلهم «4» . رواه ابن أبى حاتم.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس رفعه، فى قوله تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران: 124، 125.
(2) ذكر هذه القصة أيضا الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 318) .
(3) انظر: المصدر السابق (1/ 403) .
(4) انظر المصدر السابق (1/ 402) .(1/217)
مُسَوِّمِينَ «1» . قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر «2» .
وروى ابن أبى حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر.
قيل: ولم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير فى تفسيره فقال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر «3» .
وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل فى غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم.
وفى نهاية البيان فى تفسير القرآن عند تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ «4» . وهل قاتلت الملائكة يومئذ أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها لم تقاتل، انتهى.
وهذا يرده حديث مسلم فى صحيحه عن سعد بن أبى وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد- يعنى جبريل وميكائيل- عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال «5» .
قال النووى: فيه بيان إكرامه- صلى الله عليه وسلم- بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم
__________
(1) سورة آل عمران: 125.
(2) انظر المصدر السابق (1/ 402) .
(3) انظر المصدر السابق (1/ 403) .
(4) سورة التوبة: 25.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (5826) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، واللفظ لمسلم.(1/218)
اختصاصه، فهذا صريح فى الرد عليه. وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى.
قال ابن الأنبارى: وكانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميون، فعلمهم الله تعالى بقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «1» . أى الرؤس وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «2» . قال ابن عطية: كل مفصل.
قال السهيلى: جاء فى التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا فى رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم باثار سود فى الأعناق والبنان.
وعن ابن عباس قال: حدثنى رجل من بنى غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لى حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر- ونحن مشركان- ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه فمات مكانه فى الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقى وأبو نعيم.
والدبرة: - بسكون الموحدة- الهزيمة فى القتال.
وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله فى القاموس.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف «3» .. رواه الحاكم وصححه والبيهقى وأبو نعيم.
قال الشيخ تقى الدين السبكى: سئلت عن الحكمة فى قتال الملائكة مع النبى- صلى الله عليه وسلم- مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.
__________
(1) سورة الأنفال: 12.
(2) سورة الأنفال: 12.
(3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 463) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/219)
فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصور الأسباب وسنتها التى أجراها الله تعالى فى عباده، والله فاعل الجميع انتهى.
ولما التقى الجمعان، تناول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّا من الحصباء، فرمى به فى وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» . فلم يبق مشرك إلا دخل فى عينيه ومنخريه منها شىء فانهزموا وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» . قال: هذا يوم بدر، أخذ- صلى الله عليه وسلم- ثلاث حصيات، فرمى بحصاة فى ميمنة القوم وبحصاة فى ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، وقال: «شاهدت الوجوه» فانهزموا «2» .
وقد روى عن غير واحد: أن هذه الآية نزلت فى رميه- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى: وجعلوا ذلك أصلا فى الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده.
وهذا غلط منهم فى فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال:
ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا ذلك لزمهم فى أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
__________
(1) سورة الأنفال: 17.
(2) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 296) وقال: وقد روى فى هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، وإن كان قد دخل ذلك يوم حنين أيضا.(1/220)
ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه- صلى الله عليه وسلم- مبدأ الرمى، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمى الحذف الذى هو مبدؤه ونفى عنه رمى الإيصال الذى هو نهايته.
ونظير هذا فى الآية نفسها قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ «1» . ثم قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» . فأخبر أنه تعالى وحده هو الذى انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم-، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه خير الناصرين.
قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدى يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعطاه جذلا من حطب فقال له قاتل به، فهزه فعاد فى يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل وهو عنده «3» .
وجاءه- عليه الصلاة والسلام- يومئذ- فيما ذكره القاضى عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عكرمة عليها فتعلقت بجلدة، فبصق- صلى الله عليه وسلم- عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان.
وعن عروة بن الزبير، عن عائشة: لما أمر- صلى الله عليه وسلم- بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، فطرحوا فيه. إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وإنما ألقوا فى القليب ولم يدفنوا، لأنه- عليه الصلاة والسلام- كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم.
__________
(1) سورة الأنفال: 17.
(2) سورة الأنفال: 17.
(3) ذكره ابن هشام فى «سيرته» (1/ 637) عن ابن إسحاق بغير إسناد.(1/221)
وفى الطبرانى عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله» قال عمر: فو الذى بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التى حدها- صلى الله عليه وسلم-، حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقّا؟! فإنى وجدت ما وعدنى الله حقّا «1» .
وفى رواية فنادى: يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام..، وفى بعضه نظر، لأن أمية بن خلف لم يكن فى القليب لأنه كان- كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودى فيمن نودى لكونه كان من جملة رؤسائهم.
وقال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أهل القليب، بئس العشيرة كنتم، كذبتمونى وصدقنى الناس» «2» .
فقال عمر- رضى الله عنه-: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا روح فيها، فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا» «3» .
وتأولت عائشة ذلك فقالت: إنما أراد النبى- صلى الله عليه وسلم-: إنهم الآن ليعلمون
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2681) فى الجهاد، باب: فى الأسير ينال منه ويضرب، والنسائى (4/ 108) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وأحمد فى «مسنده» (1/ 26) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6498) ، والطبرانى فى «الصغير» (1085) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) أخرجه ابن هشام فى «السيرة» له (1/ 639) عن ابن إسحاق، قال: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكره، وهو مفصل، وأخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 170) من حديث عائشة بنحوه، إلا أن فيه انقطاعا.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2874) فى الجنة، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.(1/222)
أن الذى أقول لهم حق. ثم قرأت إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «1» الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون.
وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة.
وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روى عن عائشة- رضى الله عنها-.
ومن الغريب، أن فى المغازى- لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» .
وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة.
وقال الإسماعيلى: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذى أنكرته وأثبته غيرها ممكن، لأن قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «2» . لا ينافى قوله- عليه السّلام-: «إنهم الآن ليسمعون» لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع فى أذن السامع، فالله تعالى هو الذى أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال: إنهم ليعلمون، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافى رواية يسمعون بل يؤيدها.
وقال السهيلى ما محصله: إن فى نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه- صلى الله عليه وسلم- لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا فى تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما باذان رؤسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإما باذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه.
__________
(1) سورة النمل: 80.
(2) سورة النمل: 80.(1/223)
قال: وقد روى عن عائشة أنها احتجت بقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ «1» . وهذه الآية كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ «2» . أى إن الله هو الذى يهدى ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصمّا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذى يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذا لا تعلق بالآية من وجهين:
أحدهما: أنها إنما نزلت فى دعاء الكفار إلى الإيمان.
الثانى: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شىء قدير. انتهى ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال:
بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله ... كواكب فى أفق الكواكب تنجلى
وجبريل فى جند الملائك دونه ... فلم تغن أعداد العدو المخذل
رمى بالحصى فى أوجه القوم رمية ... فشردهم مثل النعام المجفل
وجاد لهم بالمشرفى فسلموا ... فجاد له بالنفس كل مجندل
عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع ... حديثهم فى ذلك اليوم من على
فهم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا ... فذاق الوليد الموت ليس له ولى
وشيبة لما شاب خوفا تبادرت ... إليه العوالى بالخضاب المعجل
وجال أبو جهل فحقق جهله ... غداة تردى بالردى عن تذلل
فأضحى قليبا فى القليب وقومه ... يؤمونه فيها إلى شر منهل
وجاء لهم خير الأنام موبخا ... ففتح من أسماعهم كل مقفل
وأخبر ما أنتم بأسمع منهم ... ولكنهم لا يهتدون لمقول
سلا عنهم يوم السلا إذ تضاحكوا ... فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل
ألم يعلموا علم اليقين بصدقه ... ولكنهم لا يرجعون لمعقل
__________
(1) سورة فاطر: 22، 23.
(2) سورة الزخرف: 40.(1/224)
فيا خير خلق الله جاهك ملجئى ... وحبك ذخرى فى الحساب وموئلى
عليك صلاة يشمل الآل عرفها ... وأصحابك الأخيار أهل التفضل
وحكى العلامة ابن مرزوق: أن ابن عمر- رضى الله عنهما- مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد الله، قال ابن عمر، - رضى الله عنهما-: فلا أدرى أعرف اسمى أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله، فالتفت إليه، فقال: اسقنى، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببدر «1» .
ورواه الطبرانى فى الأوسط.
قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، فكان يقال لى: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت فى الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما منّ الله عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشى وبيدى عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان، وقد نسيت ذلك الخبر الذى كنت أسمع، فما راعنى وأنا أسير فى الهاجرة إلا وواحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتنى- لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان فى الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابنى من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت فى هذا العود الذى فى يدى وحدث مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدى، وجلست على الأرض، أو ثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا،
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 57) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن المغيرة وهو ضعيف.(1/225)
أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومى أجمع المرة بعد المرة.
قال: لقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس اه.
وروى الطبرانى من حديث أبى اليسر»
، أنه أسر العباس، وقيل للعباس- وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته فى كفك، فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر فى عينى كالخندمة- وهى بالخاء المعجمة- جبل من جبال مكة، قاله فى القاموس.
ولما ولى عمر بن الخطاب وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبى صلى الله عليه وسلم- وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم.
وفى حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار- صلى الله عليه وسلم- الناس فى الأسرى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» . فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السّلام-، ثم عاد- صلى الله عليه وسلم- فقال:
«يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم» .
فقال عمر: يا رسول الله، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السّلام-، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال يا رسول الله، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2» «3» الآية. ويأتى
__________
(1) صحابى جليل، شهد بدرا والشاهد، مشهور بكنيته، كان قصيرا دحداحا عظيم البطن، مات بالمدينة سنة (55 هـ) .
(2) سورة الأنفال: 68، 69.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 243) .(1/226)
الكلام عليها فى النوع العاشر فى إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس- إن شاء الله تعالى-.
وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عباس، افد نفسك وابنى أخيك، عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو» . قال إنى كنت مسلما ولكن القوم استكرهونى. قال: «الله تعالى أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقّا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا» «1» .
وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا.
وعند أبى نعيم فى الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ «2» . فقال العباس: وددت لو أخذ منى أضعافها لقوله تعالى يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ «3» .
وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس «4» .
تنبيه: لا يقدح فى وعد الله أن استشهد هؤلاء الصحابة- رضى الله عنهم-، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «5» . فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد الله مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 353) ، وفى أوله قصة أبى اليسر المذكورة قبل قليل، إلا أنها فيه بلفظ آخر.
(2) سورة الأنفال: 70.
(3) سورة الأنفال: 70.
(4) انظر غزوة بدر فى «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 606 و 715) و (2/ 43) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 11 و 27) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 265) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 380 و 515) .
(5) سورة التوبة: 29.(1/227)
وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، وكان من أفضلهم العباس ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم.
وكان العباس- رضى الله عنه- فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من لقى العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها، ففادى نفسه ورجع إلى مكة» .
وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة.
وقيل أسلم يوم فتح خيبر.
وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان يحب القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فكتب إليه- عليه الصلاة والسلام-: «إن مقامك بمكة خير لك» .
وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، فأخذت منه فى الحرب، فكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: «أما شىء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» ، فقال العباس تركتنى أتكفف قريشا، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «فأين الذهب الذى دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة» فقال العباس: وما يدريك؟ فقال: «أخبرنى ربى» فقال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه أحد إلا الله، وأنا أشهد ألاإله إلا الله وأنك عبده ورسوله «1» .
ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من بدر فى آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الصحيح فى وفاة رقية.
__________
(1) ذكره البغوى فى «تفسيره» (2/ 221) .(1/228)
وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال «أيكم لم يقارف الليلة» فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها «1» .
وأنكر البخارى هذه الرواية، وخرج الحديث فى الصحيح فقال فيه: عن أنس. شهدنا دفن بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها.
وذكر الطبرانى أنها أم كلثوم فحصل فى حديث الطبرانى التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم.
وكان عثمان قد تخلف لأجل رقية وزوجته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم- بسهمه وأجره.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- عند انصرافه عاصم بن ثابت- وهو جد عاصم بن عمر ابن الخطاب- بقتل عقبة بن أبى معيط، فقتله صبرا.
ثم أقبل- عليه السّلام- قافلا إلى المدينة ومعه الأسرى من المشركين، واحتمل النفل الذى أصيب منهم، وجعل عليه عبد الله بن كعب من بنى مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين على السواء.
وأمر عليّا بالصفراء بقتل النضر بن الحارث.
ثم مضى- صلى الله عليه وسلم- حتى قدم المدينة قبل الأسرى بيوم. فلما قدموا فرقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيرا.
وقد استقر الحكم فى الأسرى عند الجمهور من العلماء: أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل- صلى الله عليه وسلم- ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعى وطائفة من العلماء، وفى المسألة خلاف مقرر فى كتب الفقه والله أعلم.
__________
(1) قلت: الخبر عند البخارى (1285) فى الجنائز، باب: وما يرخص من البكاء من غير نوح، من حديث أنس- رضى الله عنه-، ولم يسم فيه رقية ولا غيرها، إلا أن شراح الحديث ذهبوا إلى أنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان- رضى الله عنهما-.(1/229)
ولما قدم أبو سفيان بن الحارث من بدر لمكة، سأله أبو لهب عن خبر قريش.
فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وايم الله- مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق «1» بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شىء.
قال أبو رافع- مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا- فقلت: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربنى فى وجهى ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به فى رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده.
قال: فو الله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة، وهى قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدى أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله، وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.
وقال ابن عقبة: أقام النوح على قتلى قريش شهرا.
ثم سرية عمير بن عدى الخطمى، وكانت لخمس ليال بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة، إلى عصماء بنت مروان- زوج يزيد ابن زيد الخطمى- وكانت تعيب الإسلام، وتؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاءها ليلا، وكان أعمى، فدخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها بيده، ونحى الصبى عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها. ثم صلى الصبح معه- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وأخبره بذلك، فقال:
«لا ينتطح فيها عنزان» «2» أى لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر.
__________
(1) البلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين.
(2) أخرج القصة ابن عساكر بنحوه، كما فى «كنز العمال» (25491) .(1/230)
قالوا: وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ، الذى لم يسبق إليه صلى الله عليه وسلم-، وسيأتى لذلك نظائر- إن شاء الله تعالى-.
[غزوة قرقرة الكدر]
وفى أول شوال صلى صلاة الفطر.
وفى أول شوال أيضا- وقيل بعد بدر بسبعة أيام، وقيل فى نصف المحرم سنة ثلاث- خرح النبى- صلى الله عليه وسلم- يريد بنى سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة قرقرة، وهى أرض ملساء.
والكدر: طير فى ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع.
فأقام بها- عليه السّلام- ثلاثا، وقيل عشرا، فلم يلق أحدا. وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وقيل ابن أم مكتوم، وحمل اللواء على بن أبى طالب.
وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق.
ثم سرية سالم بن عمير إلى أبى عفك اليهودى- وكان شيخا كبيرا، قد بلغ عشرين ومائة سنة- وكان يحرض على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويقول فيه الشعر، فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش فى الفراش، فصاح عدو الله أبو عفك.
فثار إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله فقتل.
وكانت هذه السرية فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
ثم غزوة بنى قينقاع- بتثليث النون، والضم أشهر- بطن من يهود المدينة، لهم شجاعة وصبر.
وكانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
وقد كانت الكفار بعد الهجرة مع النبى- صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أقسام:(1/231)
* قسم وادعهم- صلى الله عليه وسلم- على ألايحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبنو قينقاع.
* وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش.
* وقسم تركوه، وانتظروا ما يئول إليه أمره، كطوائف من العرب.
فمنهم من كان يحب ظهوره فى الباطن كخزاعة. وبالعكس كبنى بكر.
ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون.
وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم- صلى الله عليه وسلم- فى شوال بعد وقعة بدر. قال الواقدى بشهر.
وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بنى قينقاع وإجلاء بنى النضير كان فى زمن واحد، ولم يوافق على ذلك، لأن إجلاء بنى النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق.
وكان من أمر بنى قينقاع، أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودى، فراودها على كشف وجهها، فأبت فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، ووقع الشر بين المسلمين وبين بنى قينقاع.
فسار إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن استخلف أبا لبابة بن عبد المنذر.
فحاصرهم أشد الحصار، خمس عشرة ليلة إلى هلال ذى العقدة، وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، على أن لهم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية.
فأمر- عليه الصلاة والسلام- المنذر بن قدامة بتكتيفهم.
وكلم عبد الله بن أبى ابن سلول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيهم، وألح عليه من أجلهم. فأمر- صلى الله عليه وسلم- أن يجلوا، وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من(1/232)
المدينة، فلحقوا بأذرعات. فما كان أقل بقاءهم فيها. وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة.
وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبى، وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم، فقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم.
ففيه وفى عبد الله أنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. إلى قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» «2» .
ثم غزوة السويق «3» فى ذى الحجة، يوم الأحد لخمس خلون منها، على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة، وقال ابن إسحاق فى صفر.
وسميت: غزوة السويق، لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون.
واستخلف أبا لبابة.
وكان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان حين رجع بالعير من بدر إلى مكة نذر لا يمس النساء والدهن حتى يغزو محمدا- عليه السّلام- فخرج فى مائتى راكب من قريش ليبر يمينه، حتى أتوا العريض- ناحية من المدينة على ثلاثة أميال- فحرقوا نخلا وقتلوا رجلا من الأنصار، فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه، فانصرف بقومه راجعين.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- فى طلبهم، فى مائتين من المهاجرين والأنصار، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق- وهى عامة أزوادهم- يتخففون للهرب، فيأخذها المسلمون، ولم يلحقهم- عليه الصلاة والسلام-، فرجع إلى المدينة.
__________
(1) سورة المائدة: 51- 56.
(2) انظر غزوة بنى قينقاع فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 17) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 28) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 5) .
(3) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 44 و 45) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 30) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 520) إلا أن بعض المؤرخين جعلها قبل غزوة بنى النضير.(1/233)
وكانت غيبته خمسة أيام.
وفى ذى الحجة صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العيد وأمر بالأضحية.
وفيه مات عثمان بن مظعون.
وفى شوال ولد عبد الله بن الزبير.
وفى هذه السنة تزوج علىّ فاطمة- رضى الله عنهما-، كما قاله الحافظ مغلطاى.
وقال الطبرى فى كتابه «ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى» : تزوجها فى صفر فى السنة الثانية، وبنى بها فى ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ.
وقال أبو عمر بعد وقعة أحد.
وقال غيره: بعد بنائه- صلى الله عليه وسلم- بعائشة- رضى الله عنها- بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف.
وتزوجها وهى ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر- أو ستة ونصف- وسنه يومئذ إحدى وعشرون سنه وخمسة أشهر. ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فسكت ولم يرجع إليهما شيئا، فانطلقا إلى على يأمرانه بطلب ذلك. قال على: فنبهانى لأمر، فقمت أجر ردائى حتى أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم-. فقلت:
تزوجنى فاطمة؟ قال: «وعندك شىء» قلت: فرسى وبدنى «1» ، فقال: «أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها» ، فبعتها بأربعمائة درهم وثمانين، فجئته بها، فوضعها فى حجره، فقبض منها قبضة وقال: «أى بلال: ابتع لنا بها طيبا» . وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سرير مشرّط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وقال لعلى: «إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك» .
__________
(1) أى: ناقتى.(1/234)
فجاءت أم أيمن حتى قعدت فى جانب البيت وأنا فى جانب، وجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هاهنا أخى» ، قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: «نعم» . ودخل- صلى الله عليه وسلم- فقال لفاطمة: «ائتنى بماء» ، فقامت إلى قعب فى البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه ثم قال لها: «تقدمى» فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: «اللهم إنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» . ثم قال لها: «أدبرى» فأدبرت فصب بين كتفيها. ثم فعل مثل ذلك بعلى. ثم قال: «ادخل بأهلك بسم الله والبركة» «1» . أخرجه أبو حاتم، وأحمد فى المناقب بنحوه.
وفى حديث أنس عند أبى الخير القزوينى الحاكمى: خطبها على بعد أن خطبها أبو بكر ثم عمر فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قد أمرنى ربى بذلك» .
قال أنس: ثم دعانى- عليه السّلام- بعد أيام فقال لى يا أنس: «ادع لى أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وعدة من الأنصار» ، فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم وكان على غائبا فقال- صلى الله عليه وسلم-:
«الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره فى سمائه وأرضه، الذى خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-. إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لا حقا، وأمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام، فقال عز من قائل وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً «2» . فأمر الله تعالى يجرى إلى قضائه، وقضاؤه يجرى إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ثم إن الله عزّ وجل أمرنى أن أزواج فاطمة من على بن أبى طالب، فاشهدوا أنى قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضى بذلك على» .
__________
(1) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 205) وقال: رواه الطبرانى، وفيه يحيى ابن يعلى الأسلمى، وهو ضعيف.
(2) سورة الفرقان: 54.(1/235)
ثم دعا- صلى الله عليه وسلم- بطبق من بسر ثم قال: انتهبوا فانتهبنا.
ودخل على فتبسم النبى- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه ثم قال: «إن الله عزّ وجل أمرنى أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك؟» ، فقال قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال- عليه السّلام-: «جمع الله شملكما وأعز جدكما، وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا» .
قال أنس: فو الله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب.
والعقد لعلى وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر، أو على تخصيصه بذلك، جمعا بينه وبين ما ورد، مما يدل على شرط القبول على الفور.
وأخرج الدولابى، عن أسماء قالت: لقد أولم على على فاطمة، فما كان وليمة فى ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودى بشطر شعير، وكانت وليمته آصعا من شعير وتمر وحيس. والحيس: التمر والأقط.
وأخرج أحمد فى المناقب عن على: كان جهاز فاطمة خميلة وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف.
ثم سرية محمد بن مسلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودى، لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة.
روى أبو داود والترمذى من طريق الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحرض عليه كفار قريش. وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالصبر.(1/236)
فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه «1» .
وفى رواية قال- صلى الله عليه وسلم-: «من لنا بابن الأشرف؟» - وفى أخرى: «من لكعب بن الأشرف» أى من ينتدب لقتله- «فقد استعلن بعداوتنا وهجانا، وقد خرج إلى قريش فجمعهم إلى قتالنا. وقد أخبرنى الله بذلك» . ثم قرأ على المسلمين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ «2» .
وفى الإكليل: فقد آذانا بشعره، وقوى المشركين.
وفى رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة، أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك» . قال: يا رسول الله إنه لابد لنا أن نقول، قال: «قولوا ما بدا لكم فأنتم فى حل من ذلك» .
فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة وأبو نائلة- بنون وبعد الألف تحتانية- سلكان بن سلامة- وكان أخا كعب من الرضاعة- وعبادة بن بشر، والحارث ابن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وهؤلاء الخمسة من الأوس.
وفى رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام عليه السّلام- تلك الليلة يصلى، فلما سمع تكبيرهم كبر وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: «أفلحت الوجوه» . قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3000) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» ، وانظر أيضا صحيح البخارى (2510 و 3031 و 3033 و 4037) ، ومسلم (1801) ، وأبو داود (2768) .
(2) سورة النساء: 51، 52.
(3) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 198) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وهو ضعيف.(1/237)
وفى كتاب «شرف المصطفى» أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه فى مخلاة إلى المدينة، فقيل إنه أول رأس حمل فى الإسلام.
وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس فجرح ونزف الدم فتفل عليه على جرحه فلم يؤذه بعد.
غزوة غطفان: وهى غزوة ذى أمر- بفتح الهمزة والميم- وسماها الحاكم غزوة أنمار. وهى بناحية نجد.
وكانت لثنتى عشرة مضت من ربيع الأول على رأس خمس وعشرين شهرا من الهجرة.
وسببها: أن جمعا من بنى ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربى- وسماه الخطيب: غورث، وغيره:
غورك- وكان شجاعا.
فندب- صلى الله عليه وسلم- المسلمين وخرج فى أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. فلما سمعوا بمهبطه- صلى الله عليه وسلم- عليهم هربوا فى رؤس الجبال، فأصابوا رجلا منهم يقال له: حبان من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وضمه إلى بلال.
وأصاب النبى- صلى الله عليه وسلم- مطر فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتها، وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه- صلى الله عليه وسلم- فقال: من يمنعك منى اليوم؟
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الله» فدفع جبريل فى صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يمنعك منى؟» فقال: لا أحد، وأنا أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام. وأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «1» الآية «2» .
__________
(1) سورة المائدة: 11.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2910) فى الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر عند القائلة، ومسلم (843) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، وفى الفضائل، باب: -(1/238)
ويقال كان ذلك فى ذات الرقاع «1» .
ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.
غزوة بحران: «2» وتسمى غزوة بنى سليم، من ناحية الفرع- بفتح الفاء والراء- كما قيده السهيلى، وقال فى القاموس: وبحران موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير.
وسببها: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعا كبيرا من بنى سليم، فخرج فى ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم، فرجع ولم يلق كيدا.
وكان قد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم، كما قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال.
سرية زيد بن حارثة إلى القردة: - بالقاف المفتوحة وسكون الراء، وقيل بالفاء وكسر الراء، كما ضبطه ابن الفرات- اسم ماء من مياه نجد.
وسببها: - كما قال ابن إسحاق- أن قريشا خافوا من طرقهم التى يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعهم فضة كثيرة.
وعند ابن سعد: بعثه- صلى الله عليه وسلم- لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، فى مائة راكب يعترض عيرا لقريش فيها صفوان ابن أميه وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية فضة. فأصابوها وقدموا بالعير على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وخمسها فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم.
__________
- توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس، وأحمد فى «مسنده» (3/ 311) من حديث جابر- رضى الله عنه-، ولكن بدون ذكر اسم الرجل.
(1) قلت: وهو الصحيح، حديث ذكره البخارى فى أحداث تلك الغزوة.
(2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 43 و 46) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 34 و 36) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 5539) (3/ 4، 5) .(1/239)
وعند مغلطاى: خمسة وعشرين ألف درهم.
وذكرها ابن إسحاق قبل قتل ابن الأشرف.
ثم غزوة أحد
وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها.
وسمى بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، ويقال له: ذو عينين، قال فى القاموس: بكسر العين وبفتحها مثنى، جبل بأحد. انتهى.
وهو الذى قال فيه- صلى الله عليه وسلم-: «أحد جبل يحبنا ونحبه» «1» .
وقيل: وفيه قبر هارون، أخى موسى، - عليهما السلام-.
وكانت عنده الوقعة المشهورة، فى شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه- وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل فى نصفه.
وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة.
وكان سببها: كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة وابن سعد، قالوا- أو من قال منهم- ما حاصله.
إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد الله بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، فى جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه- يعنون عير أبى سفيان، ومن كانت له فى تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا.
فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1482) فى الزكاة، باب: خرص التمر، ومسلم (1392) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وفى الفضائل، باب: فى معجزات النبى صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين أيضا من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/240)
وفيهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل الله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ «1» .
واجتمعت قريش لحرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادى من قبل أحد مقابل المدينة.
وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر.
وأرى- صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: «إنى والله قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة، فأما البقر فناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى رأيت فى سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل» «2» .
وقال ابن عقبة، ويقول رجال: كان الذى بسيفه ما قد أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف- صلى الله عليه وسلم- يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته.
وفى رواية قال- عليه الصلاة والسلام-: «وأولت الدرع الحصينة بالمدينة فامكثوا فإن دخل القوم الأزفة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت» «3» .
فقال أولئك القوم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم.
فصلى- صلى الله عليه وسلم- بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.
__________
(1) سورة الأنفال: 36.
(2) أخرجه ابن هشام فى «سيرته» (2/ 63 و 66) عن ابن إسحاق عن الزهرى وغيره مرسلا، وبنحوه أخرجه أحمد (3/ 351) ، والدارمى فى «سننه» (2159) من حديث جابر رضى الله عنه-.
(3) انظر ما قبله.(1/241)
ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل صلى الله عليه وسلم- بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما-، فعمماه وألبساه.
وصف الناس ينتظرون خروجه- عليه السّلام-، فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخروج، فردوا الأمر إليه، فخرج صلى الله عليه وسلم- وقد لبس لأمته- وهى بالهمزة وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا، فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. فقال: «ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» «1» .
وفى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبى- صلى الله عليه وسلم- إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه للأمته، وندامتهم على ذلك وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» وفيه: «إنى رأيت أنى فى درع حصينة» الحديث «2» .
وعقد- عليه السّلام- ثلاثة ألوية:
لواء بيد أسيد بن حضير.
ولواء للمهاجرين بيد على بن أبى طالب وقيل بيد مصعب بن عمير.
ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة.
وفى المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين «3» .
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة.
__________
(1) هو قطعة من حديث جابر المتقدم.
(2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 271) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 141) ، والبيهقى فى «الكبرى» (7/ 41) ، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.
(3) أى: مرتدين دروعهم.(1/242)
وأدلج- عليه السّلام- فى السحر، وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر، وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدرى.
والنعمان بن بشير. قال مغلطاى: وفيه نظر.
وكان المسلمون ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة.
ونزل- عليه السّلام- بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبى فى ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق. ويقال: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالانصراف لكفرهم بمكان يقال له الشوط، وقيل بأحد.
ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة.
قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل.
وجعل- صلى الله عليه وسلم- على الرماة- وهم خمسون رجلا- عبد الله بن جبير، وقال: «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» «1» . كذا فى البخارى من حديث البراء.
وفى حديث ابن عباس عند أحمد والطبرانى والحاكم: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقامه فى موضع ثم قال: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» «2» .
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من يأخذ هذا السيف بحقه» . فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3039) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب.
(2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 287) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 324) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 301) .(1/243)
قال: «أن تضرب به فى وجه العدو حتى ينحنى» ، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه- صلى الله عليه وسلم- يتبختر قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن» .
قال الزبير بن العوام- فيما قاله ابن هشام- فقلت والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة.
فاتبعته فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار:
أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول:
أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر فى الكيّول ... أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله «1» .
وقوله: فى الكيول- بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا فى هذا الحديث. وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف.
والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى الله عليه وسلم-: «إن حنظلة لتغسله الملائكة» ، فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله ابن أبى فقالت: خرج وهو جنب فقال- عليه السّلام-: «لذلك غسلته الملائكة» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2470) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى دجانة سماك ابن خرشة- رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (3/ 123) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 255) ، من حديث أنس- رضى الله عنه- مختصرا، وهو عند الحاكم (3/ 256) مطولا من حديث الزبير بن العوام- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 225) ، والبيهقى فى «الكبرى» (4/ 15) ، وفى «الدلائل» (3/ 246) من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه-.(1/244)
وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا.
وقتل على طلحة بن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان بن أبى طلحة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه.
ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينهبون العسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم.
وفى البخارى: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أى قوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين «1» .
وفى حديث عائشة عند البخارى أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أى عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم «2» .
وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل فى المسلمين بعضهم فى بعض «3» .
وفى رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل فحملوا على من بقى من النفر الرماة فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير.
وفى البخارى: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من
__________
(1) هو الذى عند البخارى برقم (3039) وقد تقدم قريبا.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3290) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 287) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 324) ، وقد تقدم قريبا.(1/245)
مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشى كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحربته حتى خرجت من بين وركيه فكان آخر العهد به «1» . انتهى.
وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل، وكان الذى قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصاح ابن قمئة إن محمدا قتل. ويقال كان ذلك إزب العقبة، ويقال: بل هو إبليس- لعنه الله- تصور فى صورة جعال.
وقال قائل: أى عباد الله أخراكم، أى: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل. قال موسى بن عقبة: ولما فقد- عليه السّلام-، قال رجل منهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلوا البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ.
قال فى «عيون الأثر» : كذا وقع فى هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى.
وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى انكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، وسبعة من الأنصار.
وفى البخارى: لم يبق معه- عليه الصلاة والسلام- إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4072) فى المغازى، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه-.(1/246)
فقال أبو سفيان: أفى القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وبقى لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال «1» .
وتوجه- صلى الله عليه وسلم- يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته «2» ، والذى جرح وجهه عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبى وقاص أخو سعد هو الذى كسر رباعيته، ومن ثم لم يولد من نسله ولد يبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم- أى مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك فى عقبة.
وقال ابن هشام، فى حديث أبى سعيد الخدرى: إن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن هشام الزهرى شجه فى جبهته وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر فى وجنته، ووقع- صلى الله عليه وسلم- فى حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين.
وفى رواية: وهشموا البيضة على رأسه «3» - أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه فى حفرة من الحفر التى حفرها أبو عامر، فأخذ على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ونشبت حلقتان من المغفر فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما فى وجهه.
وامتص مالك بن سنان- والد أبى سعيد الخدرى- الدم من وجنته ثم
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3039) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-.
(2) الرباعية: هى السن التى بين مقدم الأسنان والناب، والحديث أخرجه مسلم (1790) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.
(3) انظر الحديث السابق.(1/247)
ازدرده، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: من مس دمى دمه لم تصبه النار، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- حكم دمه- عليه السّلام-.
وفى الطبرانى من حديث أبى أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يمسح الدم عن وجهه: «أقمأك الله» فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة «1» .
وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسحه ويقول «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم» فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» «3» . ورواه أحمد والترمذى والنسائى من طريق حميد به.
وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعى: بلغنا أنه لما خرج- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئا فجعل ينشف دمه وقال: لو وقع منه شىء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء، ثم قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «4» .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى قال: ضرب وجه النبى صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها. قال فى فتح البارى: وهذا مرسل قوى، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة، انتهى.
وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد- فيما قاله ابن
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (8/ 130) ، وفى «مسند الشاميين» (453) وانظر «الفتح» للحافظ ابن حجر (7/ 366- 367) .
(2) سورة آل عمران: 128.
(3) صحيح: وهو عند البخارى (7/ 422) تعليقا فى المغازى، باب: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ..، ووصله مسلم (1791) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
(4) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 120) ، من حديث سهل بن سعد الساعدى.(1/248)
هشام- فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى رسول الله قالت: فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراحة إلى، أصابنى ابن قمئة- أقمأه الله تعالى- لما ولى الناس عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت فاعترضت له، فضربنى هذه الضربة، ولكن ضربته ضربات على ذلك، ولكن عدو الله عليه درعان.
قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور.
وتترس دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك.
ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمى، حتى إنه ليناولنى السهم ماله نصل فيقول: ارم به.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذها رسول الله بيده وردها إلى موضعها وقال:
«اللهم اكسه جمالا» فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا «1» . ورواه الدارقطنى بنحوه، ويأتى لفظه- إن شاء الله تعالى- فى مقصد المعجزات.
ورمى أبو رهم كلثوم بن الحصين بسهم فوقع فى نحره فبصق عليه صلى الله عليه وسلم- فبرىء.
وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه- صلى الله عليه وسلم- عرجونا فعاد فى يده سيفا، فقاتل به وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركى من أمراء المعتصم بالله فى بغداد بمائتى دينار.
وهذا نحو حديث عكاشة السابق فى غزوة بدر إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العون، وهذا يسمى العرجون.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 252) .(1/249)
واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأشراف أصحابه.
وكان أول من عرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك، قال عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر وعمر وعلى ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منا؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: دعوه، فلما دنا تناول- صلى الله عليه وسلم- الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه- عليه السّلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله عليه الصلاة والسلام-، فطعنه طعنة وقع بها عن فرسه ولم يخرج له دم فكسر ضلعا من أضلاعه.
فلما رجع إلى قريش قال: قتلنى والله محمد، أليس قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك، فو الله لو بصق على لقتلنى. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة «1» . رواه البيهقى وأبو نعيم ولم يذكر: فكسر ضلعا من أضلاعه.
قال الواقدى: وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لى لهبها فهبتها، وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول:
لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، هذا أبى بن خلف، ورواه البيهقى.
ولما انتهى- صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشعب ملأ على بن أبى طالب درقته من
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (3/ 258) .(1/250)
المهراس- وهو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد فجاء به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من رمى وجه نبيه «1» .
وصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجد عن الأذان والأنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل «2» .
وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد، فلما قال: أعل هبل، أى زد علوّا.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر أجبه فقل: «الله أعلى وأجل» «3» .
فقال أبو سفيان: أنعمت فعال، أى اترك ذكرها فقد صدقت فى فتواها وأنعمت، أى أجابت بنعم.
فقال عمر: لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار.
فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم.
__________
(1) صحيح: أخرجه بنحوه البخارى (4073) فى المغازى، باب: ما أصاب النبى- صلى الله عليه وسلم- من الجراح يوم أحد، ومسلم (1793) فى الجهاد والسير، باب: اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4043) فى المغازى، باب: غزوة أحد، من حديث البراء رضى الله عنه-.
(3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.(1/251)
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» «3» .
ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لرجل من أصحابه: «قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد» «1» .
وذكر الطبرانى: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنهم فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبى- صلى الله عليه وسلم- اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير أحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم «2» .
ثم أرسل- عليه الصلاة والسلام- محمد بن مسلمة- كما ذكره الواقدى- فنادى فى القتلى: يا سعد بن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسلنى إليك، فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق فقال: أبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنى السلام، وقل له: يقول لك، جزاك الله عنا خير ما جزى به نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم (عين) تطرف، ثم مات «3» .
وقتل أبو جابر، فما عرف إلا ببنانه «4» - أى أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها. بنانه.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى، قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر- عليه السّلام- إلى شىء لم ينظر إلى شىء أوجع لقلبه منه فقال: «رحمة الله عليك، لقد كنت فعولا للخير، وصولا للرحم، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك» قال: فنزلت عليه خواتيم سورة
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (3/ 100) .
(2) قلت: هو عند مسلم (1790) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 221) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه- وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(4) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4048) فى المغازى، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903) فى الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن المقتول عمه أنس بن النضر- رضى الله عنه-، ولم أقف على رواية أبى جابر.(1/252)
النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «1» الآية، فصبر وكفر عن يمينه وأمسك عما أراد «2» .
وممن مثل به كما مثل بحمزة عبد الله بن جحش، ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدع فى الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة فى قبر واحد.
ولما أشرف- صلى الله عليه وسلم- على القتلى قال: «أنا شهيد على هؤلاء وما من جريح يجرح فى الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح المسك» «3» .
وفى رواية عبد الله بن ثعلبة قال- صلى الله عليه وسلم- لقتلى أحد: «زملوهم بجراحهم» .
وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا جابر ألا أخبرك: ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا، فقال سلنى أعطك، فقال أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق منى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قال: أى رب فأبلغ من ورائى، فأنزل الله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «4» » «5» الآية.
__________
(1) سورة النحل: 126.
(2) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 119) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- وقال: رواه البزار والطبرانى وفيه صالح بن بشير المزنى، وهو ضعيف، ا. هـ. قلت: وكذا ضعفه الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 371) .
(3) صحيح بنحوه: أخرجه البخارى (237) فى الوضوء، باب: ما يقع من النجاسات فى السمن والماء، ومسلم (1876) فى الإمارة باب: فضل الجهاد والخروج فى سبيل الله، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بنحوه، وهو عند البيهقى فى «الدلائل» (3/ 290) بهذا اللفظ، ولكن من طريق آخر.
(4) سورة آل عمران: 169.
(5) حسن: أخرجه الترمذى (3010) فى التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجه (190) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، و (2800) فى الجهاد، باب: فضل الشهادة فى سبيل الله، وأحمد فى «مسنده» (3/ 361) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/253)
وعن ابن عباس قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل هذه الآيات وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا «1» » «2» .
قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوى إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ «3» وإنما تأوى إلى تلك القناديل ليلا وتسرح نهارا، وبعد دخول الجنة فى الآخرة لا تأوى إلى تلك القناديل، وإنما ذلك فى البرزخ.
وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها.
وقد رد هذا القول، ويشهد له ما وقع فى مسند ابن أبى شيبة وغيره:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة، فى قباب خضر يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيّا» «4» .
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم فى الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح.
قال: وقد روينا فى مسند الإمام أحمد حديثا فيه بشرى لكل مؤمن بأن
__________
(1) سورة آل عمران: 169.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (2520) فى الجهاد، باب: فى فضل الشهادة، وأحمد فى «مسنده» (1/ 265) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) سورة الحديد: 19.
(4) حسن: أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 266) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4658) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 84) ، والطبرانى فى «الأوسط» (123) ، وفى «الكبير» (10/ 333) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بسند حسن.(1/254)
روحه تكون فى الجنة أيضا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة.
قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعى عن مالك بن أنس عن الزهرى عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: «نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» «1» .
وقوله يعلق، أى يأكل، وفى هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر فى الجنة، وأما أرواح الشهداء ففى حواصل طير خضر، فهى كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
وقد استشهد يوم أحد من المسلمين سبعون- فيما قاله مغلطاى. وغيره- وقيل خمسة وستون وأربعة من المهاجرين.
وروى ابن منده من حديث أبى بن كعب قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين ستة وصححه ابن حبان من هذا الوجه.
وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلا، وقتل- صلى الله عليه وسلم- بيده أبى بن خلف.
وحضرت الملائكة يومئذ، ففى حديث سعد بن أبى وقاص عند مسلم فى صحيحه: «أنه رأى عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعنى جبريل وميكائيل يقاتلان كأشد القتال» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 455) ، وهو عند النسائى (4/ 108) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وابن ماجة (4271) فى الزهد، باب: ذكر القبر والبلى، ومالك فى «موطئه» (1/ 240) ، وأحمد فى «مسنده» (3/ 455 و 456 و 460) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4054) فى المغازى، باب: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما..، ومسلم (2306) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، واللفظ له.(1/255)
وفيه- كما قدمناه فى غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه- صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافا لمن زعمه، كما نص عليه النووى فى شرح مسلم كما قدمته والله أعلم.
ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون وظهر غش اليهود.
ذكر القاضى عياض فى الشفاء عن القاضى أبى عبد الله بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لأنه تنقص، إذ لا يجوز ذلك عليه فى خاصته، إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته. انتهى.
وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطى من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة، أعنى حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل انتهى.
وقد كان فى قصة أحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة.
منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهى، لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذى أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألايبرحوا منه.
ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العافية، والحكمة فى ذلك أن لو انتصروا دائما لدخل المسلمين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب. وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيّا عن المسلمين فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول حتى عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوّا فى دارهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها: أن فى تأخير النصر فى بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها فلما ابتلى المسلمون صبروا وجزع المنافقون.(1/256)
ومنها: أن الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.
ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها.
ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم فى إيذاء أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين.
غزوة حمراء الأسد «1» :
وهى على ثمانية أميال من المدينة على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة.
وكانت صبيحة يوم الأحد لست عشرة، أو لثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس، ونادى مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألايخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، أى من شهد أحدا.
وإنا خرج- عليه الصلاة والسلام- مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج فى طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
وأقام- صلى الله عليه وسلم- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمسا.
وظفر- صلى الله عليه وسلم- فى مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبى العاص فأمر بضرب عنقه صبرا.
قال الحافظ مغلطاى: وحرمت الخمر فى شوال، ويقال فى سنة أربع.
انتهى.
__________
(1) حمراء الأسد: اسم موضع على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة، وانظر أخبار الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 121) ، وابن كثير فى «تفسيره» (1/ 428 و 429) ، وفى «البداية والنهاية» (3/ 97) .(1/257)
قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- عنهما فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «1» إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: فيهما إثم كبير.
وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه فى المغرب خلط فى قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «2» .
وكان الناس يشربون ثم نزلت آية أغلظ منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «3» قال: انتهينا ربنا «4» .
والميسر: القمار وقيل غيره.
وولد الحسن بن على فى هذه السنة.
ثم سرية عبد الله بن عبد الأسد، هلال المحرم على رأس خمس وثلاثين شهرا من الهجرة، إلى قطن- جبل بناحية فيد- ومعه مائة وخمسون رجلا من الأنصار والمهاجرين، لطلب طليحة وسلمة ابنى خويلد، فلم يجدهما، ووجد إبلا وشاء فأغار عليهما ولم يلق كيدا.
ثم سرية عبد الله بن أنيس وحده، يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة، إلى سفيان بن خالد الهذلى بعرنة- وادى عرفة- لأنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه.
فلما وصل إليه قال له ممن الرجل؟ قال: من بنى خزاعة، سمعت
__________
(1) سورة البقرة: 219.
(2) سورة النساء: 43.
(3) سورة المائدة: 90.
(4) أخرجه أحمد فى «مسنده» (2/ 351) .(1/258)
بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك، قال: أجل. فمشى معه ساعة، ثم اغتره وقتله، وأخذ رأسه، فكان يسير الليل ويتوارى النهار، حتى قدم المدينة، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أفلح الوجه» قال: أفلح وجهك يا رسول الله، ووضع رأسه بين يديه «1» .
وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من محرم.
ثم سرية عاصم بن ثابت، فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة إلى الرجيع- بفتح الراء وكسر الجيم، اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان- بناحية الحجاز، وكانت الوقعة بالقرب منه فسميت به.
وحديث عضل والقارة- بفتح الضاد المعجمة بعدها لام- بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش.
وأما القارة، فبالقاف وتخفيف الراء، بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، قال ابن دريد: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها.
وقصة عضل القارة كانت فى بعث الرجيع، لا فى سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق، فذكر بعث الرجيع فى أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة أوائل سنة أربع.
وذكر الواقدى أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاآ إلى النبى صلى الله عليه وسلم- فى ليلة واحدة.
وسياق ترجمة البخارى يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شىء واحد، وليس كذلك، لأن بعث الرجيع كان سرية عاصم وخبيب وأصحابهما، وهى مع عضل والقارة.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 496) ، وانظر «سنن أبى داود (1249) فى الصلاة، باب: صلاة الطالب.(1/259)
وبئر معونة كانت سرية القراء، وهى مع رعل وذكوان، وكأن البخارى أدمجها معها لقربها منها.
ويدل على قربها منها ما فى حديث أنس من تشريك النبى- صلى الله عليه وسلم- بين بنى لحيان وبين عصية وغيرهم فى الدعاء.
ولم يرد البخارى- رحمه الله- أنهما قصة واحدة، ولم يقع ذكر عضل والقارة عنده صريحا.
وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق. فإنه بعد أن استوفى قصة أحد قال:
ذكر يوم الرجيع: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه وأمر- صلى الله عليه وسلم- على القوم مرثد بن أبى مرثد الغنوى.
كذا فى السيرة له- وفى الصحيح: وأمر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتى، وهو أصح- فخرجوا مع القوم حتى أتوا على الرجيع- ماء لهذيل- غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم، وهم فى رحالهم، إلا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألانقتلكم، فأبوا، فأما مرثد وخالد وعاصم، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا وقاتلوا حتى قتلوا.
وفى البخارى: وأمر عليهم عاصم بن ثابت، حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة- ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم فى مائتى رجل. وعند بعضهم فتبعوهم بقريب من مائة رام «1» .
والجمع بينهما واضح، بأن تكون المائة الآخرى غير رماة.
__________
(1) انظر القصة فى «صحيح البخارى» (3045) فى الجهاد والسير، باب: هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(1/260)
وفى رواية أبى مشعر فى مغازيه: فنزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة، فسقط نواه بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون بالنهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما، فرأت النواآت وأنكرت صغرهن، وقالت هذا تمر يثرب فصاحت فى قومها قد أتيتم، فجاؤا فى طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا فى الجبل، وتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
وفى رواية ابن سعد: فلم يرع القوم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم.
فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد- بفاءين مفتوحتين، ومهملتين، الأولى ساكنة- وهى الرابية المشرفة، فأحاط بهم القوم، فقالوا:
لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألانقتل منكم رجلا، فقال عاصم بن ثابت أيها القوم: أما أنا فلا أنزل فى ذمة كافر، ثم قال اللهم أخبر عنا رسولك، فاستجاب الله لعاصم فأخبر رسول الله خبرهم يوم أصيبوا.
فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصما، ونزل إليهم على العهد والميثاق: خبيب ابن عدى وزيد بن الدثنة- بفتح الدال المهملة، وكسر المثلاثة، والنون المفتوحة المشددة- وعبد الله بن طارق.
فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة، فابتاع بنو الحارث ابن عامر خبيبا، فلبث خبيب عندهم أسيرا، حتى إذا أجمعوا على قتله استعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها- يعنى يحلق عانته- فغافلت عن ابن لها صغير فأقبل إليه الصبى فأجلسه عنده فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت، فقال خبيب: ما كنت لأغدر.
قال قالت: والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يأكل قطفا من عنب مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وما كان إلا رزقا رزقه الله «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4086) فى المغازى باب غزوة الرجيع.(1/261)
وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب، آية على الكفار، وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته.
والكرامة للأولياء ثابتة مطلقا عند أهل السنة. لكن استثنى بعض المحققين منهم كالعلامة الربانى أبى القاسم القشيرى ما وقع به التحدى لبعض الأنبياء فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب فى ذلك.
وإن إجابة الدعوة فى الحال، وتكثير الطعام والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتى ونحو ذلك قد كثر جدّا، حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة.
فانحصر الخارق الآن فى نحو ما قاله القشيرى، وتعين تقييد من أطلق، بأن كل معجزة لنبى يجوز أن تقع كرامة لولى.
ووراء ذلك: أن الذى استقر عند العامة، أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء الله، وهو غلط. فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله إلى فارق، وأولى ما ذكروه: أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهى، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا. والله أعلم انتهى ملخصا من الفتح «1» .
ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: دعونى أصلى ركعتين- وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما فى موضع مسجد التنعيم- وقال: اللهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا، واقتلهم بددا- يعنى متفرقين- فلم يحل الحول ومنهم أحد حى. وفى رواية بريدة بن سفيان، فقال خبيب: اللهم إنى لا أجد من يبلغ رسولك منى السلام فبلغه.
وفى رواية أبى الأسود عن عروة، جاء جبريل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك.. الحديث.
__________
(1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (7/ 383 و 10/ 223) .(1/262)
ثم أنشأ يقول:
فلست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى شق كان لله مصرعى
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع «1»
والأوصال جمع: وصل، وهو العضو. والشلو- بكسر المعجمة- الجسد ويطلق على العضو. لكن المراد به هنا الجسد. والممزع- بالزاى، ثم المهملة- القطع ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع.
وعند أبى الأسود عن عروة زيادة فى هذا الشعر:
لقد أجمع الأحزاب فى وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وفيه أيضا:
إلى الله أشكو غربتى بعد كربتى ... وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى
وساق ابن إسحاق هذه الأبيات ثلاثة عشر بيتا، قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب.
وكان خبيب أول من سن الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرا، كذا قال ابن إسحاق، وقوله هذا يدل على أنها سنة جارية.
وإنما صار فعل خبيب سنة- والسنة إنما هى أقوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره- لأنه فعله فى حياته- صلى الله عليه وسلم-، فاستحسن ذلك من فعله واستحسنها المسلمون. والصلاة خير ما ختم به عمل العبد.
وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وذلك فى حياته- عليه الصلاة والسلام-، كما رويناه من طريق السهيلى بسنده إلى الليث بن سعد قال: بلغنى أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فاشترط عليه المكرى أن ينزله حيث شاء. قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل فنزل، فإذا فى الخربة قتلى كثيرة، قال فلما أراد أن يقتله قال له
__________
(1) صحيح: وهو عند البخارى (3045) فيما تقدم.(1/263)
دعنى أصلى ركعتين، قال: صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، فلما صليت أتانى ليقتلنى فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه فلم ير شيئا، فرجع إلى، فناديت: يا أرحم الراحمين فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس فى يده حربة حديد فى رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين كنت فى السماء السابعة، فلما دعوت المرة الثانية يا أرحم الراحمين كنت فى سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك. انتهى.
ووقع فى رواية أبى الأسود عن عروة: فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب- يعنى خبيبا- نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفدينى بشوكة فى قدمه «1» .
ويقال: إن الذى قال ذلك زيد بن الدثنة، وأن أبا سفيان قال له: يا زيد، أنشدك الله أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى لجالس فى أهلى. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب كحب أصحاب محمد محمدا.
ثم قتله نسطاس- بكسر النون-.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشىء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظامائهم يوم بدر، ولعل العظيم المذكور: عقبة بن أبى معيط، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق وكذا فى رواية بريدة بن سفيان: أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وهى أم مسافح وجلاس ابنى طلحة
__________
(1) ذكره ابن الجوزى فى «المنتظم» (3/ 201) .(1/264)
العبدرى، وكان عاصم قتلهما يوم أحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر فى قحفه- بكسر القاف، وهو ما انفلق من الجمجمة فبان-.
قال الطبرى: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة.
فمنعهم منه الدبر- بفتح المهملة وسكون الموحدة: الزنابير- فلم يقدروا منه على شىء «1» .
وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدا ألايمسه مشرك ولا يمس مشركا.
فكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه فى حياته.
وإنما استجاب الله تعالى له فى حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه.
سرية المنذر بن عمرو- بفتح العين المهملة- إلى بئر معونة- بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون- موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان.
فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد.
بعث معه المطلب السلمى ليدلهم على الطريق.
وكانت مع رعل- بكسر الراء وسكون العين المهملة- بطن من بنى سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك. وذكوان بطن من بنى سليم أيضا ينسون إلى ذكوان بن ثعلبة. فنسبت الغزوة إليها.
وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكان من أمرها- كما قاله ابن إسحاق- أنه قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة
__________
(1) انظر حديث البخارى (3045 و 4086) .(1/265)
على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام. وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى أخشى أهل نجد عليهم» قال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم.
فبعث- عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء وهم سبعون- وقيل أربعون وقيل: ثلاثون-.
وقد بين قتادة فى روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، وفى رواية ثابت: يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل.
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بعثوا حرام بن ملحان بكتابه- صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل العامرى، ومات كافرا- وليس هو عامر بن الطفيل الأسلمى الصحابى- فلما أتاه لم ينظر فى كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فلم يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية ورعلا فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم فى رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا «1» .
وأسر عمرو بن أمية الضمرى، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فلما بلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- خبرهم، قال «هذا عمل أبى براء قد كنت لهذا كارها متخوفا» ، فبلغ ذلك أبا براء فمات أسفا على ما صنع عامر بن الطفيل «2» .
وقتل عامر بن فهيرة يومئذ فلم يوجد جسده، دفنته الملائكة.
__________
(1) انظر القصة فى «دلائل النبوة» للبيقهى (3/ 338- 340) .
(2) انظر المصدر السابق (3/ 341) .(1/266)
قال ابن سعد عن أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة.
وفى صحيح مسلم عن أنس أيضا: (دعا- صلى الله عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: أنزل الله فى الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنا ثم نسخ بعد أى نسخت تلاوته- أن بلغوا قومنا أنا قد لقينا بنا، فرضى عنا ورضينا عنه «1» .
كذا وقع فى هذه الرواية، وهو يوهم أن بنى لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة، وليس كذلك. وإنما أصاب رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع. وإنما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- عنهم كلهم فى وقت واحد، فدعا على الذين أصابوا أصحابه فى الموضعين دعاء واحدا والله أعلم.
[غزوة بنى النضير] «2» :
ثم غزوة بنى النضير- بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- قبيلة كبيرة من اليهود، فى ربيع الأول سنة أربع. وذكرها ابن إسحاق هنا.
قال السهيلى: وكان ينبغى أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل بن خالد وغيره عن الزهرى قال: كانت غزوة بنى النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد.
ورجح الداودى ما قاله ابن إسحاق من أن غزوة بنى النضير بعد بئر
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4089) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، ومسلم (677) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 190- 195) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 57) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 145- 154) ، و «دلائل النبوة» (3/ 176) .(1/267)
معونة، مستدلا بقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ «1» .
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واه، فإن الآية نزلت فى شأن بنى قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير فلم يكن لهم فى الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب فى جمع الأحزاب ما وقع من إجلائهم، فإنه كان من رؤسهم حيى بن أخطب، وهو الذى حسن لبنى قريظة الغدر، وموافقة الأحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان فكيف يصير السابق لاحقا. انتهى.
وقد تقدم قريبا أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة عن أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بنى عامر معهما عقد وعهد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بنى عامر، فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو، وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «لقد قتلت قتيلين لأدينهما» «2» .
قال ابن إسحاق وغيره: ثم خرج- صلى الله عليه وسلم- إلى بنى النضير ليستعين بهم فى دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للجوار الذى كان- صلى الله عليه وسلم- عقده لهما، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عقد وحلف.
فلما أتاهم- صلى الله عليه وسلم- يستعينهم فى ديتهما قالوا: يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. وكان- صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار من بيوتهم.
وقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت فيلقى هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه الصخرة ورسول الله فى نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى- رضى الله عنهم-.
__________
(1) سورة الأحزاب: 26.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 129) وقال: رواه الطبرانى ورجاله ثقات.(1/268)
قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام- صلى الله عليه وسلم- مظهرا أنه يقضى حاجته، وترك أصحابه فى مجلسهم، ورجع مسرعا إلى المدينة.
واستبطأ النبى- صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقاموا فى طلبه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما أرادت يهود من الغدر به.
قال ابن عقبة: ونزل فى ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «1» الآية.
قال ابن إسحاق: فأمر- صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال. قال ابن إسحاق:
فتحصنوا منه فى الحصون فقطع النخل وحرقها وخرب.
فنادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها.
قال السهيلى: قال أهل التأويل: وقع فى نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شىء حتى أنزل الله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلى قوله: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «2» واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرنى. ففى هذه الآية أنه صلى الله عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلا ما ليس بقوت الناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وفى الحديث «العجوة من الجنة وتمرها يغذو أحسن غذاء» «3» ، والبرنى أيضا كذلك. ففى قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ «4» . ولم يقل
__________
(1) سورة المائدة: 11.
(2) سورة الحشر: 5.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2066) فى الطب، باب: ما جاء فى الكمأة والعجوة، وابن ماجه (3455) فى الطب، باب: الكمأة والعجوة، وأحمد فى «مسنده» (2/ 301 و 325 و 356 و 488 و 490) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) سورة الحشر: 5.(1/269)
من نخلة على العموم، تنبيه على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو إذا رجى أن يصل إلى المسلمين.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج منهم عبد الله ابن أبى ابن سلول بعثوا إلى بنى النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. فتربصوا، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم فسألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم عن أرضهم ويكف عن دمائهم.
وعند ابن سعد: أنهم حين هموا بغدره- صلى الله عليه وسلم- وأعلمه الله بذلك، بعث إليهم محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا، فمن رؤى منكم بعد ذلك ضربت عنقه.
فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلا، فأرسل إليهم عبد الله بن أبى: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا فى حصونكم فإن معى ألفين من قومى من العرب يدخلون حصونكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيى فيما قاله ابن أبى، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
فأظهر- صلى الله عليه وسلم- التكبير، وكبر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، وعلى يحمل رايته، فلما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبى ولم يمنعهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم- صلى الله عليه وسلم- وقطع نخلهم، وقال لهم- عليه الصلاة والسلام-:
«اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة» - وهى بإسكان اللام قال فى القاموس، الدرع- فنزلت يهود على ذلك فحاصرهم خمسة عشر يوما، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم «1» .
__________
(1) انظر الطبقات الكبرى، لابن سعد (2/ 57) .(1/270)
ثم أجلاهم عن المدينة وولى إخراجهم محمد بن مسلمة. وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير فلحقوا بخيبر. وحزن عليهم المنافقون حزنا شديدا.
وقبض- صلى الله عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعا وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا.
وكانت بنو النضير صفيّا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حبسا لنوائبه، ولم يسهم منه لأحد، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قذف فى قلوبهم الرعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم، فقسمها- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، إذ كانوا قد قاسموهم فى الأموال والديار، غير أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما. وفى الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبى الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم.
[غزوة ذات الرقاع] «1» :
واختلف فيها متى كانت:
فعند ابن إسحاق: بعد بنى النضير سنة أربع، فى شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى.
وعند ابن سعد وابن حبان: فى المحرم سنة خمس.
وجزم أبو معشر: بأنها بعد بنى قريظة فى ذى القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع فى آخر السنة الخامسة وأول التى تليها.
__________
(1) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 203- 209) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 61- 62) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 369) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 160- 168) ، أما عن سبب تسميتها بذات الرقاع فسيعلله المصنف بعد قليل.(1/271)
قال فى فتح البارى: قد جنح البخارى إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدرى: هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازى أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار إليها البيهقى. على أن أصحاب المغازى مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون فى زمانها. انتهى.
والذى جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردد فى وقتها: لا ندرى كانت قبل بدر أو بعدها؟ أو قبل أحد أو بعدها؟
قال الحافظ ابن حجر: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذى ينبغى الجزم به أنها بعد غزوة بنى قريظة، لأن صلاة الخوف فى غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع. فدل على تأخرها بعد الخندق.
ثم قال عند قول البخارى: «وهى بعد خيبر» لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذا كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع لزم أنها كانت بعد خيبر.
قال: وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخارى حديث أبى موسى هذا حجة فى أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. قال: وليس فى خبر أبى موسى ما يدل على شىء من ذلك، انتهى كلام ابن سيد الناس.
قال: وهذا النفى مردود، والدلالة على ذلك واضحة كما قررته.
قال: وأما الدمياطى: فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه. وقد تقدم أنهم مختلفون فى زمانها. فالأولى الاعتماد على ما ثبت فى الصحيح.
وأما قول الغزالى: إنها آخر الغزوات. فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح فى إنكاره.(1/272)
وقال بعض من انتصر للغزالى: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف.
وهو انتصار مردود، بما أخرجه أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان من حديث أبى بكرة: أنه صلى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف «1» . وإنما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى.
وأما تسميتها بذات الرقاع:
فلأنهم رقعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام.
وقيل: لشجرة فى ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع.
وقيل: الأرض التى نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك.
وقيل: إن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبان.
وقال الواقدى: سميت بجبل هناك فيه بقع. قال الحافظ ابن حجر:
وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه بخيل.
قال: وأغرب الداودى فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. انتهى.
قال السهيلى: وأصح من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخارى عن أبى موسى الأشعرى قال: (خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماى، وسقطت أظفارى، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا) «2» .
وكان من خبر هذه الغزوة، كما قاله ابن إسحاق: أنه- صلى الله عليه وسلم- غزا نجدا
__________
(1) قلت: حديث أبى بكرة فى صلاة الخوف عند أبى داود (1248) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعتين، والنسائى (3/ 178) فى صلاة الخوف، باب: رقم (1) ، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4128) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع.(1/273)
يريد بنى محارب وبنى ثعلبة- بالمثلاثة- من غطفان- بفتح الغين المعجمة والمهملة- لأنه- صلى الله عليه وسلم- بلغه أنهم جمعوا الجموع: فخرج فى أربعمائة من أصحابه- وقيل: سبعمائة- واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل أبا ذر. حتى نزل نخلا- بالخاء المعجمة- موضعا من نجد من أراضى غطفان.
قال ابن سعد: فلم يجد فى محالهم إلا نسوة فأخذهن.
وقال ابن إسحاق: فلقى جمعا منهم فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.
قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها.
وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة وسيأتى إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسر منها فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-.
وكانت غيبته- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الغزوة خمس عشرة ليلة.
وفى البخارى عن جابر قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف النبى- صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة فاخترطه- يعنى سلة من غمده- فقال تخافنى قال: لا، قال: فمن يمنعك منى؟ قال: «الله» «1» .
وعند أبى عوانة: فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يمنعك منى؟» قال: كن خير آخذ. قال: «تشهد ألاإله إلا الله وأنى رسول الله؟» ، قال الأعرابى: أعاهدك أنى لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
وفى رواية عند البخارى: ولم يعاقبه «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4136 و 4137) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (843) فى الفضائل، باب: توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس.
(2) قلت: هو عند البخارى برقم (2913 و 4135 و 4137 و 4139) .(1/274)
وإنما لم يؤاخذه- صلى الله عليه وسلم- بما صنع، وعفا عنه، لشدة رغبته- عليه الصلاة والسلام- فى استئلاف الكفار ليدخلوا فى الإسلام.
وفى رواية أبى اليمان عند البخارى- فى الجهاد- قال: من يمنعك منى ثلاث مرات «1» . وهو استفهام إنكارى، أى لا يمنعك منى أحد.
وقد كان الأعرابى قائما على رأسه والسيف فى يده والنبى- صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه.
ويؤخذ من مراجعة الأعرابى له فى الكلام أن الله سبحانه منع نبيه، وإلا فما الذى أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الخطوة عند قومه بقتله.
وفى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى جوابه: الله، أى يمنعنى منك، إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابى فلم يزده على ذلك الجواب، وفى ذلك غاية التهكم وعدم المبالاة به.
وذكر الواقدى فى نحو هذه القصة أنه أسلم، ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمى بالزلخة حين هم بقتله- صلى الله عليه وسلم-، فندر السيف من يده وسقط إلى الأرض. والزلخة- بضم الزاى وتشديد اللام- وجع يأخذ فى الصلب.
وقال البخارى: قال مسدد عن أبى عوانة عن أبى بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، أى على وزن جعفر.
وحكى الخطابى فيه: غويرث، بالتصغير. وقد تقدم فى غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه- صلى الله عليه وسلم-، بالسيف فقال: من يمنعك منى؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم-: الله، ودفع جبريل فى صدره فوقع السيف من يده وأنه أسلم.
قال فى عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2910) فى الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر فى السفر عند القائلة.(1/275)
وقال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان فى غزوتين.
وفى هذه القصة: فرط شجاعته، وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال- صلى الله عليه وسلم-.
وفى انصرافه- صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة، أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه- صلى الله عليه وسلم- فانطلق متقدما بين يدى الركاب، ثم قال: «أتبيعينيه؟» فابتاعه منه وقال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصلها أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل «1» . والحديث أصله فى البخارى.
ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط، لما وقع فيه من الاضطراب. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم.
[غزوة بدر] «2» :
وهى الصغرى، وتسمى: بدر الموعد.
وكانت فى شعبان، بعد ذات الرقاع. قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان. ويقال: كانت فى هلال ذى القعدة.
وميعاد أبى سفيان: هو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لرجل من أصحابه: قل: «نعم هو بيننا وبينكم موعد» .
فخرج- صلى الله عليه وسلم- ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس،
__________
(1) انظر الحديث فى «صحيح البخارى» (2097) فى البيوع، باب: شراء الدواب والحمر، ومسلم (715) فى الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر.
(2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 209- 213) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 59 و 60) ، والطبرانى فى «تاريخه» (3/ 41) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 169- 172) .(1/276)
واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان.
وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران، ويقال:
عسفان، ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا، فرجع الناس.
فسماهم أهل مكة: جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام- صلى الله عليه وسلم- ببدر ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين.
وأنزل الله فى المؤمنين: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. إلى قوله:
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1» الآية.
والصحيح أن هذه الآية نزلت فى شأن حمراء الأسد، كما نص عليه العماد بن كثير.
غزوة دومة الجندل «2» :
وهى بضم الدال من «دومة» هى مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. قال أبو عبيد البكرى:
سميت بدومى بن إسماعيل، كان نزلها.
وكانت فى شهر ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة، وكان سببها أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم،
__________
(1) سورة آل عمران: 172- 174.
(2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 213) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 62 و 63) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 43) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 177 و 178) .(1/277)
فخرج- عليه الصلاة والسلام- لخمس ليال بقين من شهر ربيع، فى ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة.
فلما دنا منهم، لم يجد إلا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب، وهرب من هرب فى كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل- صلى الله عليه وسلم- بساحتهم فلم يلق بها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا وفرقها، فرجعوا، ولم يصب منهم أحد. ودخل المدينة فى العشرين من ربيع الآخر.
غزوة بنى المصطلق «1» :
غزوة المريسيع: - بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة- وهو ماء لبنى خزاعة، بينه وبين الفرع يومان.
وتسمى غزوة بنى المصطلق- بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المهملة، وكسر اللام بعدها قاف- وهو لقب واسمه: جذيمة بن سعد بن عمرو، بطن من خزاعة.
وكانت لليلتين خلتا من شعبان، سنة خمس، وفى البخارى، قال ابن إسحاق سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع انتهى.
قالوا: وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذى فى مغازى موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابورى والبيهقى فى الدلائل وغيرهم سنة خمس.
وسببها أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن رئيسهم الحارث بن أبى ضرار سار فى قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأجابوه، وتهيئوا للمسير معه إليه.
__________
(1) هو: لقب لجذيمة بن سعد بن عمرو بطن من بنى خزاعة، وتسمى أيضا غزوة المريسيع، كما ذكر المصنف، وهو ماء لبنى خزاعة بينه وبين الفرع (موضع من ناحية المدينة) مسيرة يوم أو يومين.(1/278)
فبعث- صلى الله عليه وسلم- بريدة بن الحصيب الأسلمى يعلم علم ذلك، فأتاهم ولقى الحارث بن أبى ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- مسرعا فى بشر كثير من المنافقين، لم يخرجوا فى غزاة قط مثلها.
واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرسا وخرجت عائشة وأم سلمة.
وبلغ الحارث ومن معه مسيره- عليه السّلام- فسىء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب.
وبلغ- عليه السّلام- المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبى بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر- عليه السّلام- أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم، وسبوا النساء والرجال والذرية والنعم والشاء. ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، كذا ذكره ابن إسحاق.
والذى فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم فأوقع بهم ولفظه: «أغار على بنى المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تستقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وهم على الماء» «1» .
فيحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكونوا لما دهمهم وهم على الماء وتصافوا وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم.
قيل وفى هذه الغزوة نزلت آية التيمم. وفى الصحيحين من حديث
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2541) فى العتق، باب: من ملك من العرب رقيقا، ومسلم (1730) فى الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة.(1/279)
عائشة: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره، فذكر حديث التيمم «1» .
قال فى فتح البارى: «قوله فى بعض أسفاره» قال ابن عبد البر فى التمهيد: يقال إنه كان فى غزوة بنى المصطلق. وجزم بذلك فى الاستذكار.
وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزوة بنى المصطلق هى غزوة المريسيع.
وفيها كانت قصة الإفك لعائشة «2» ، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا.
فإن كان ما جزموا به ثابتا، حمل على أنه سقط منها فى تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما «3» .
قال: واستبعد بعض شيوخنا ذلك، لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها فى الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، وهما بين مكة وخيبر كما جزم به النووى.
قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين فإنه قال البيداء هى ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذى الحليفة.
وقال أبو عبيد البكرى فى معجمه: البيداء أدنى إلى مكة من ذى الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد. قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال. والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين.
وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد، ومنهم محمد بن حبيب الأخبارى فقال: سقط عقد عائشة فى غزوة ذات الرقاع وفى غزوة بنى المصطلق.
__________
(1) قلت: الحديث أخرجه البخارى (334) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، ومسلم (367) فى الحيض، باب: التيمم.
(2) حديث قصة الإفك تقدم.
(3) قاله الحافظ فى «الفتح» (1/ 432) وكذلك ما بعده.(1/280)
وقد اختلف أهل المغازى فى أى هاتين الغزوتين كانت أولا.
وقال الداودى: كانت قصة التيمم فى غزوة الفتح ثم تردد فى ذلك.
وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بنى المصطلق، لأن إسلام أبى هريرة كان فى السنة السابعة، وهى بعدها بلا خلاف.
وكان البخارى يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبى موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبى هريرة.
ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبرانى من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدى ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فى غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدى حتى حبس الناس على التماسه، فقال أبو بكر: يا بنية فى كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة فى التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة «1» .
وفى إسناده محمد بن حميد الرازى. وفيه مقال.
وفى سياقه من الفوائد: بيان عتاب أبى بكر الذى أبهم فى حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين فى غزوتين. انتهى.
وفى هذه الغزوة قال ابن أبى: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم، ذو الأذن الواعية، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم- بذلك فأرسل إلى ابن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ «2» فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد صدقك يا زيد» «3» . رواه البخارى.
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (23/ 121) بسند فيه محمد بن حميد الرازى، وفيه مقال.
(2) سورة المنافقون: 1.
(3) صحيح: والحديث آخرجه البخارى (4900) فى التفسير، باب: قوله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إلى لَكاذِبُونَ، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-.(1/281)
وكانت غيبته- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما.
غزوة الخندق:
وهى الأحزاب: جمع حزب، أى طائفة.
فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذى حفر حول المدينة بأمره صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس.
وكان الذى أشار بذلك سلمان، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين.
وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن معهم. وقد أنزل الله تعالى فى هذه القصة صدرا من سورة الأحزاب.
واختلف فى تاريخها:
فقال موسى بن عقبة: كانت فى شوال سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: كانت فى شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازى.
ومال البخارى إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه «1» . فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فتكون الخندق سنة أربع.
ولا حجة فيه إذا ثبت لنا أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر. فى أحد كان أول ما طعن فى الرابعة عشر، وكان فى الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقى.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2664) فى الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم (1868) فى الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.(1/282)
وقال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والمشهور أنها فى السنة الرابعة.
وكان من حديث هذه الغزوة: أن نفرا من يهود قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك اليهود حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه- عليه الصلاة والسلام-، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى فزارة، والحارث بن عوف المرى فى مرة.
وكان عدتهم- فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة آلاف. والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.
وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا.
ولما سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأحزاب، وبما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه- صلى الله عليه وسلم- ترغيبا للمسلمين فى الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا.
وأبطأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين فى عملهم ذاك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل.
وفى البخارى: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار» «1» .
والأكتاد: - بالمثناة الفوقية- جمع كتد- بفتح أوله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفى بعض نسخ البخارى: أكبادنا بالموحدة، وهو موجه على أن يكون المراد به مما يلى الكبد من الجنب.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3797) فى المناقب، باب: دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- أصلح الأنصار والمهاجرة، ومسلم (1804) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق.(1/283)
وفى البخارى أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون فى غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «1»
قال ابن بطال: وقوله اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة تمثل به- صلى الله عليه وسلم-. وعند الحارث بن أبى أسامة من مرسل طاووس زيادة فى آخر الرجز:
والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا نقل الحجارة
وفى البخارى من حديث البراء قال: (لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
قال: يمد بها صوته..) وفى رواية له أيضا:
إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا «2»
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2834) فى الجهاد والسير، باب: التحريض على القتال، ومسلم (1805) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3034) فى الجهاد والسير، باب: الرجز فى الحرب، ومسلم (1803) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق.(1/284)
وفى حديث سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أنه- صلى الله عليه وسلم- حين ضرب فى الخندق قال:
بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
فحبذا ربا وحب دينا
قال فى النهاية: يقال بديت بالشىء- بكسر الدال- أى بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء.
انتهى.
وقد وقع فى حفر الخندق آيات من أعلام نبوته- صلى الله عليه وسلم-. منها ما فى الصحيح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة- وهى بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتانية، وهى القطعة الصلبة- فجاؤا النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبى- صلى الله عليه وسلم- المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم «1» .
كذا بالشك من الراوى، وفى رواية الإسماعيلى باللام من غير شك، والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك.
وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل فى قوله تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «2» . المراد: الرمال التى لا يرويها الماء.
وقد وقع عند أحمد والنسائى فى هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، عرضت لنا فى بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاء وأخذ المعول فقال: «بسم الله» ، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصار قصورها
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4101) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب.
(2) سورة الواقعة: 55.(1/285)
الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وإنى والله لأبصار قصر المدائن الأبيض الآن» ، ثم ضرب الثالثة فقال: «بسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصار أبواب صنعاء من مكانى الساعة» «1» .
ومن أعلام نبوته ما ثبت فى الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام القليل يوم حفر الخندق «2» ، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- مستوفى فى مقصد المعجزات مع غيره.
وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا فى عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة.
وعند الواقدى: أربعا وعشرين.
وفى الروضة للنووى: خمسة عشر يوما.
وفى الهدى النبوى لابن القيم: أقاموا شهرا.
ولما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وتهامة.
ونزل عيينة بن حصن فى غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل. فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم. وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد ابن عبادة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذرارى من بنى قريظة.
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 303) ، بسند فيه ميمون، أبو عبد الله، لم يوثقه غير ابن حبان، وقد روى له الترمذى والنسائى وابن ماجه.
(2) قلت: هو تتمة حديث البخارى (4101) المتقدم قبل حديث.(1/286)
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم- على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيى، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، فإنى لم أر منه إلا وفاء وصدقا.
فقال: ويلك افتح، ولم يزل به حتى فتح له، فقال: ويلك يا كعب، جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدونى على ألايبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبى سلمة مع النساء فى أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بنى قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال:
رأيتنى يا بنى؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من يأت بنى قريظة فيأتينى بخبرهم» فانطلقت، فلما رجعت جمع لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبويه فقال: فداك أبى وأمى «1» . أخرجه الشيخان والترمذى وقال: حديث حسن.
وفى رواية أصحاب المغازى: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر، فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم- وتبرؤا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: عضل والقارة، أى كغدرهما بأصحاب الرجيع.
فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3720) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام رضى الله عنه-، ومسلم (2416) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير رضى الله عنهما-.(1/287)
ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «1» الآيات.
وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس ابن قيظى: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة.
وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى على فرس له ليوثبه الخندق فوقع فى الخندق فقتله الله. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنا نعطيك الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبى صلى الله عليه وسلم-: «إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب لنا فى ديته» «2» .
قال ابن إسحاق: وأقام- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبد ود العامرى اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه على فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله على، ورجعت بقية الخيول منهزمة.
ورمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل- وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق فى وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن كل عضو منه شعبة فهو فى اليد الأكحل وفى الظهر الأبهر وفى الفخذ النسا، إذا قطع لم يرفأ الدم.
وكان الذى رمى سعدا، ابن عرقة، أحد بنى عامر بن لؤى، قال:
خذها منى وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك فى النار. ثم قال
__________
(1) سورة الأحزاب: 12.
(2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 248) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بذكر ذكر اسم الرجل، وذكره التقى الهندى فى «كنز العمال» (30102) عن عكرمة- رضى الله عنه- وعزاه لابن أبى شيبة.(1/288)
سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إلىّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه.
وأقام- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم ابن مسعود الأشجعى- وهو مخف إسلامه- فثبط قومه عن قوم وأوقع بينهم شرّا لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الحرب خدعة» «1» فاختلفت كلمتهم.
وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنا جاث على ركبتى، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال:
اذهب فائتنى بخبر القوم، ودعا لى، فأذهب الله عنى القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس فى طريقى فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم.
وفى رواية: أن حذيفة لما أرسله- صلى الله عليه وسلم- ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإنى مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم.
ووقع فى البخارى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: «من يأتينا بخبر القوم» فقال الزبير: أنا، فقال: «من يأتينا بخبر القوم» ، فقال الزبير: أنا، فقال: «من يأتينا بخبر القوم؟» قالها ثلاثا «2» .
وقد استشكل ذكر الزبير فى هذه.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3030) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (1739) فى الجهاد والسير، باب: جواز الخداع فى الحرب، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وفى الباب من حديث أبى هريرة فى الصحيحين أيضا.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2846) فى الجهاد والسير، باب: فضل الطليعة، ومسلم (2415) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير- رضى الله عنهما-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.(1/289)
فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذى ذهب والمشهور أنه حذيفة ابن اليمان.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التى ذهب لكشفها غير القصة التى ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بنى قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الآخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه السّلام- من يأتيه بخبر قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته فى ذلك مشهورة لما دخل بين قريش فى الليل وعرف قصتهم «1» .
وفى البخارى من حديث عبد الله بن أبى أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» «2» .
وروى أحمد عن أبى سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شىء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال: نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح «3» .
وفى «ينبوع الحياة» لابن ظفر: قيل إنه- صلى الله عليه وسلم- دعا فقال: يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همى وغمى وكربى فإنك ترى ما نزل بى وبأصحابى. فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا: شكرا شكرا، وهبت ريح الصبا
__________
(1) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 407) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2933) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (1742) فى الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 3) .(1/290)
ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفأت القدور وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصي، وسمعوا فى أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا فى ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها «1» .
وفى البخارى عن على أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الخندق: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» «2» ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين حتى غابت الشمس.
ويعارضه ما فى صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «شغلونا عن الصلاة الوسطى» «3» الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية.
قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أى الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب انتهى.
وفى البخارى عن عمر بن الخطاب: أنه جاء يوم الخندق وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، ما كدت أصلى حتى كادت الشمس أن تغرب فقال- صلى الله عليه وسلم-: «والله ما صليتها» ، فنزلنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب «4» .
__________
(1) سورة الأحزاب: 9.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2931) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (627) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (628) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (596) فى المواقيت، باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، ومسلم (631) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر، من حديث جابر- رضى الله عنه-.(1/291)
وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر.
وفى الموطأ: الظهر والعصر.
وفى الترمذى عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أربع صلوات يوم الخندق «1» . وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فمال ابن العربى إلى الترجيح وقال: الصحيح أن التى اشتغل عنها- صلى الله عليه وسلم- واحدة وهى العصر.
وقال النووى: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا فى بعض الأيام وهذا فى بعضها. قال: وأما تأخيره- صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف.
قال العلماء: يحتمل أن يكون أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب فى النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل يصلى صلاة الخوف على حسب الحال.
وقد اختلف فى المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطى فى ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهى: الصبح أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو جميع الصلاة وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضى حسين فى صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر فى الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرآن الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (179) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الرجل تفوته الصلاة بأيتهن يبدأ، والنسائى (2/ 17) فى الآذان، باب: الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد والإقامة لكل منهما، وأحمد فى «مسنده» (1/ 375) بسند منقطع.(1/292)
الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف انتهى.
وانصرف- صلى الله عليه وسلم- من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذى القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا» «1» .
وفى ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر فى السنة التى صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال- عليه الصلاة والسلام-. وسيأتى ذلك إن شاء الله تعالى-.
وقد أخرج البراز من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا ولفظه: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: «لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم» «2» .
[غزوة بنى قريظة] :
ولما دخل- صلى الله عليه وسلم- المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه ووضعوا السلاح جاء جبريل- عليه السّلام- معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج.
وفى رواية البخارى من حديث عائشة أنه لما رجع- صلى الله عليه وسلم- ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال له: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه.
فاخرج إليهم.. وأشار إلى بنى قريظة «3» .
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (3/ 458) ، وابن هشام فى «السيرة» (3/ 206) ، وهو عند البخارى (4109 و 4110) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب بلفظ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 139) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2813) فى الجهاد والسير، باب: الغسل بعد الحرب والغبار، ومسلم (1769) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد.(1/293)
وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببنى قريظة.
وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فو الله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث يومئذ مناديا ينادى يا خيل الله اركبى «1» .
وعند الحاكم والبيهقى: وبعث عليّا على المقدمة، وخرج- صلى الله عليه وسلم- فى أثره.
وعند ابن سعد: ثم سار إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى القعدة.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قاله ابن هشام.
ونزل- صلى الله عليه وسلم- على بئر من آبار بنى قريظة وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة» «2» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وفى البخارى عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر فى الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلى، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدا منهم «3» .
كذا وقع فى جميع النسخ من البخارى: أنها العصر. واتفق عليه جميع أهل المغازى.
__________
(1) ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (3170) وعزاه لابن عائذ فى المغازى عن قتادة مرسلا.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (946) فى الجمعة، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، ومسلم (1770) فى الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.(1/294)
ووقع فى مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخارى ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون.
وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم- قبل الأمر- كان يصلي الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.
وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التى بعدها العصر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحاصرهم- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار.
وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة.
وقذف الله فى قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هى:
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
فأبوا.
فقال: إذا أبيتم علىّ هذه، فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه.
فقالوا: أى عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا.
فقال: إن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.(1/295)
وأرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن ابعث إلينا أبا لبابة- وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره فى أمرنا.
فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم، وقالوا يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت وعاهد الله ألايطأ بنى قريظة أبدا، ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبره، وكان قد استبطأه قال: «أما لو جاءنى لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» «1» .
قال: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته فى وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم تعود فتربطه بالجذع.
وقال أبو عمر: روى وهب عن مالك عن عبد الله بن أبى بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته.
وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبى لبابة نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو فى بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله
__________
(1) انظر القصة فى «دلائل النبوة» للبيهقى (4/ 16) ، وابن هشام فى «سيرته» (3/ 188- 190) .(1/296)
- صلى الله عليه وسلم- من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت مم تضحك، أضحك الله سنك. قال: «تيب على أبى لبابة» . قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال: «بلى إن شئت» . قال: فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. قالت:
فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذى يطلقنى بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه «1» .
وروى البيهقى فى دلائله بسنده عن مجاهد فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ «2» . قال: هو أبو لبابة إذ قال لبنى قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقى وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ.
وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان لتخلفه عن غزوة تبوك، كما قال ابن المسيب قال: وفى ذلك نزلت هذه الآية.
ولما اشتد الحصار ببنى قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله فى خيمة فى المسجد الشريف لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة وكانت تداوى الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم- وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، قال- عليه الصلاة والسلام-: «قوموا إلى سيدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم- المسلمين.
فقالوا: إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 17) ، وابن هشام فى «سيرته» (3/ 191) .
(2) سورة التوبة: 102.(1/297)
فقال سعد: فإنى أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» والرقيع: السماء سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
ووقع فى البخارى: قال: قضيت فيهم بحكم الله، وربما قال: «بحكم الملك» - بكسر اللام-.
وفى رواية محمد بن صالح: «لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذى حكم به من فوق سبع سموات» «1» .
وفى حديث جابر- عند ابن عائذ- فقال: «احكم فيهم يا سعد» ، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: «قد أمرك الله أن تحكم فيهم» «2» .
وفى هذه القصة: جواز الاجتهاد فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- وهى مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان فى حضرته- صلى الله عليه وسلم- أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيّا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته- صلى الله عليه وسلم- كما فى هذه القصة وغيرها. انتهى.
وانصرف- صلى الله عليه وسلم- يوم الخميس لسبع ليال- كما قال الدمياطى، أو لخمس كما قاله مغلطاى- خلون من ذى الحجة.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- ببنى قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود فى السوق، وجلس- صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلى: المكثر يقول إنهم ما بين
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3043) فى الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل، ومسلم (1768) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) ذكره الحافظ فى «الفتح» (7/ 412) وعزاه لابن عائذ.(1/298)
الثمانمائة إلى التسعمائة، وفى حديث جابر عند الترمذى والنسائى وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل «1» .
فيحتمل فى طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعا.
واصطفى- صلى الله عليه وسلم- لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها.، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبى ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاث آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدى، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة- وهو السقط من المتاع-.
وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا.
وفى البخارى أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلىّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك [وأخرجوه] ، اللهم إنى أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتى فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفى المسجد خيمة لامرأة من بنى غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذى يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها «2» .
وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه فى هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (1582) فى السير، باب: ما جاء فى النزول على الحكم، والنسائى فى «الكبرى» (8679) ، وأحمد فى «مسنده» (3/ 350) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4784) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4122) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، ومسلم (1769) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(1/299)
فيه من المشركين، فإنه- صلى الله عليه وسلم- تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ «1» . ثم وقعت الهدنة واعتمر- عليه السّلام- من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أى: أن يقصدونا محاربين. وهو كقوله- صلى الله عليه وسلم- «نغزوهم ولا يغزونا» كما تقدم-.
وقد بين سبب انفجار جرح سعد فى مرسل حميد بن هلال- عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات.
وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن «2» رواه الشيخان.
قال النووى: اختلف العلماء فى تأويله:
فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل الله تعالى فى العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «3» . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازرى: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل، لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته.
وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول. ومنه قول العرب:
__________
(1) سورة الفتح: 24.
(2) حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ أخرجه البخارى (3803) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، ومسلم (2466) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(3) سورة البقرة: 74.(1/300)
فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها.
وقال الحربى: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشىء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.
وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة. وهو النعش. وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التى ذكرها مسلم «اهتز لموته عرش الرحمن» وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم الروايات التى ذكرها مسلم والله أعلم. انتهى.
وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش، وصحح الترمذى من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أخف جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أخف جنازته، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الملائكة كانت تحمله» «1» .
وعن البراء قال: أهديت للنبى- صلى الله عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها وألين» «2» هذا لفظ رواية أبى نعيم فى مستخرجه على مسلم.
والمناديل: جمع منديل- بكسر الميم فى المفرد- وهو معروف.
قال العلماء: وهذا إشارة إلى أعظم منزلة سعد فى الجنة، وأن أدنى
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3849) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 228) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (3034) ، والطبرانى فى «الكبير» (6/ 12) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3802) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، ومسلم (2468) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى الله عنه-.(1/301)
ثيابه فيها خير من هذه، لأن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. انتهى.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال: قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هى مسك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«سبحان الله، سبحان الله» ، حتى عرف ذلك فى وجهه، فقال: «الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج الله عنه» «1» .
وأخرج ابن سعد عن أبى سعيد الخدرى قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرناه «2» .
قال الحافظ مغلطاى وغيره: وفى هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور.
وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء.
وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى ذكر وفد عبد القيس فى المقصد الثانى، وفى ذكر حجه- عليه الصلاة والسلام- من مقصد عباداته.
ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، بطن من بنى بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضربة بالبكرات، وبين ضربة والمدينة سبع ليال. لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة.
بعثه فى ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم.
وعند الدمياطى: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم. واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة بن أثال الحنفى أسيرا.
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (3/ 428) ، وهو عند أحمد (6/ 55، 98) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (3/ 128) .(1/302)
فربط بأمره- صلى الله عليه وسلم- بسارية من سوارى المسجد، ثم انطلق بأمره صلى الله عليه وسلم-، فاغتسل وأسلم وقال: يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلى.
وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر.
فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبى- صلى الله عليه وسلم- «1» . ذكر قصته البخارى.
غزوة بنى لحيان «2» :
ثم غزوة بنى لحيان- بكسر اللام وفتحها، لغتان- فى ربيع الأول سنة ست من الهجرة. وذكرها ابن إسحاق فى جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة. قال ابن حزم: الصحيح أنها فى الخامسة.
قالوا: وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر فى مائتى رجل ومعهم عشرون فرسا.
واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.
ثم أسرع السير حتى انتهى إلى غران- واد بين أمج وعسفان، وبينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4372) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، ومسلم (1764) فى الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 281 و 289) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 80- 84) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 286- 296) .(1/303)
فسمعت به بنو لحيان فهربوا فى رؤس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا فى كل ناحية. ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر فى عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ثم رجعوا ولم يلقوا أحدا.
وانصرف- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ولم يلق كيدا وهو يقول: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «1» وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.
غزوة الغابة «2» :
وتعرف بذى قرد- بفتح القاف والراء وبالدال المهملة- وهو ماء على بريد من المدينة. فى ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية.
وعند البخارى أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفى مسلم نحوه.
قال مغلطاى: وفى ذلك نظر لإجماع أهل السير على خلافهما. انتهى.
قال القرطبى شارح مسلم: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذى قرد كانت قبل الحديبية.
وقال الحافظ ابن حجر: ما فى الصحيح من التاريخ لغزوة ذى قرد أصح مما ذكر أهل السير «3» . انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3085 و 3086) فى الجهاد والسير، باب: ما يقول إذا رجع من الغزو، ومسلم (1345) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لهم.
(3) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 406) وتتمة قوله: ويحتمل فى طريق الجمع أن تكون إغارة عينية بن حصن على اللقاح وقعت مرتين الأولى التى ذكرها ابن إسحاق وهى قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة كما فى سياق سلمة عند مسلم ويؤيده أن الحاكم ذكر فى «الإكليل» أن الخروج إلى ذى قرد تكرر، ففى الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفى الثانية خرج إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها. انتهى، فإذا ثبت هذا قوى هذا الجمع الذى ذكرته، والله أعلم.(1/304)
وسببها: أنه كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشرون لقحة- وهى ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة- ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة ابن حصن الفزارى ليلة الأربعاء، فى أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبى ذر.
وقال ابن إسحاق: وكان فيها رجل من بنى غفار وامرأة، فقتلوا الرجل وسبوا المرأة، فركبت ناقة للنبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا حين غفلتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- أخبرته بذلك فقال: «لا نذر فى معصية، ولا لأحد فيما لا يملك» «1» .
ونودى: يا خيل الله اركبى، وكان أول ما نودى بها.
وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة.
وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء فى رمحه وقال له امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. فأدرك أخريات العدو. وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرسه وسلاحه. وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو. وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة.
وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
يعنى هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أى راضع اللؤم فى بطن أمه، وقيل معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1641) فى النذر، باب: لا وفاء لنذر فى معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.(1/305)
ولحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس والخيول عشاء، قال سلمة: فقلت يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ملكت فأسجح» - وهى بهمزة قطع ثم سين مهملة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة- أى فارفق وأحسن، والسجاحة: السهولة، أى لا تأخذ بالشدة بل ارفق. فقد حصلت النكاية فى العدو ولله الحمد. ثم قال: «إنهم ليقرون فى غطفان» «1» .
وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذى قرد فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى وهى عشر.
وصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع. وقد غاب خمس ليال، وقسم فى كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها.
سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى غمر مرزوق- بالغين المعجمة المفتوحة- وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر به القوم- بكسر الذال المعجمة كفرح- فهربوا فنزلوا علياء بلادهم. فاستاقوا مائتى بعير وقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يلقوا كيدا.
ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذى القصة «2» - بالقاف والصاد المهملة المشددة المفتوحتين- موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة. ومعه عشرة إلى بنى ثعلبة.
فورد عليهم ليلا فأحدق به القوم، وهم مائة رجل فتراموا ساعة من
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3041) فى الجهاد والسير، باب: من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صبحاه، حتى يسمع الناس، ومسلم (1806) فى الجهاد والسير، باب: غزوة ذى قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.
(2) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 85- 86) ، و «شرح المواهب» ، للزرقانى (2/ 154) .(1/306)
الليل ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة فوقع جريحا، وجردوهم من ثيابهم. فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة.
فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح فى ربيع الآخر فى أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه، ورثة من متاعهم وقدم به المدينة فخمسه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقسم ما بقى عليهم.
قال فى القاموس: الرث: السقط من متاع البيت، كالرثة بالكسر.
ثم سرية زيد بن حارثة «1» إلى بنى سليم بالجموم- ويقال: الجموح- ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال. فى شهر ربيع الآخر سنة ست، فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بنى سليم، فأصابوا نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للمزينة نفسها وزوجها.
ثم سرية زيد بن حارثة «2» أيضا إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة، فى جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاصى بن الربيع، وقدم بهم إلى المدينة، فأجارته زوجته زينب ابنة النبى- صلى الله عليه وسلم- ونادت فى الناس- حين صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفجر- إنى قد أجرت أبا العاصى.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما علمت بشىء من هذا، وقد أجرنا من أجرت» «3» ورد عليه ما أخذ منه.
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 86) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 155) .
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 87) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 155- 158) .
(3) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 87) .(1/307)
وذكر ابن عقبة: أن أسره كان على يد أبى بصير بعد الحديبية.
وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبى- صلى الله عليه وسلم- بالنكاح الأول، قيل بعد سنتين وقيل بعد ست سنين، وقيل قبل انقضاء العدة.
وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «ردها له بنكاح جديد سنة سبع» «1» .
ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف، وهو ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فى جمادى الآخرة سنة ست.
فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال.
ثم سرية زيد إلى حسمى «2» - بكسر المهملة- وهى وراء وادى القرى، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست.
وسببها: أنه أقبل دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهنيد فى ناس من جذام بحسمى فقطعوا عليه الطريق، فسمع بذلك نفر من بنى الضبيب فنفروا إليهم فاستنقذوا لدحية متاعه.
وقدم دحية على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك فبعث زيد بن حارثة وخمسمائة رجل، ورد معه دحية. فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، فأقبل بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم.
فأخذوا من النعم ألف شاة، ومائة من النساء والصبيان.
فرحل زيد بن رفاعة الجذامى فى نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم.
__________
(1) انظر المصدر السابق (2/ 87) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89، 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 162، 163) .(1/308)
وبعث- صلى الله عليه وسلم- عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فرد عليهم.
ثم سرية زيد أيضا إلى وادى القرى أيضا، فى رجب سنة ست، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد، أى حمل من المعركة رثيثا، أى جريحا وبه رمق- وهو مبنى للمجهول، قاله فى القاموس.
ثم سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل «1» ، فى شعبان سنة ست.
قالوا: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه، وعممه بيده، وقال: «اغز، باسم الله، وفى سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا» ، وبعثه إلى كلب بدومة الجندل، وقال: «إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم» «2» .
فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبى، وكان نصرانيّا، وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية.
وتزوج عبد الرحمن تماضر- بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة- بنت الأصبغ، وقدم بها المدينة فولدت له أبا سلمة.
ثم سرية على بن أبى طالب «3» فى شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بنى سعد بن بكر، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر.
فأغاروا عليهم بالغمج بين فدك وخيبر، فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد، وقدم علىّ ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا.
__________
(1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 160 162) .
(2) أخرجه ابن سعد فى الموضع السابق.
(3) انظر هذه السرية فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89 و 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 162 و 163) .(1/309)
ثم سرية زيد بن حارثة «1» إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، بناحية وادى القرى، على سبع ليال من المدينة فى رمضان سنة ست من الهجرة.
وكان سببها: أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام. ومعه بضائع لأصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بوادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم.
وقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فبعثه- عليه السّلام- إليهم، فكمن هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل، ثم صبحهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا بالحاضر، وأخذوا أم قرفة- وكانت ملكة رئيسة- وأخذوا ابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر.
وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة- وهى عجوز كبيرة- فقتلها قتلا عنيفا، وربط بين رجليها حبلا ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطعاها.
وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما أظفره الله به.
ثم سرية عبد الله بن عتيك «2» لقتل أبى رافع، عبد الله- ويقال سلام- ابن أبى الحقيق اليهودى، وهو الذى حزب الأحزاب يوم الخندق.
وكانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست، كذا ذكره ابن سعد هاهنا وذكر فى ترجمة عبد الله بن عتيك: أنه بعثه فى ذى الحجة إلى أبى رافع سنة خمس بعد وقعة بنى قريظة. وقيل فى جمادى الآخرة سنة ثلاث.
وفى البخارى: قال الزهرى: بعد قتل كعب بن الأشرف.
__________
(1) انظر هذه السرية فى «الطبقات الكبرى» (2/ 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 163) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 91) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 164) .(1/310)
وأرسل معه أربعة: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة والأسود بن خزاعى، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله.
فذهبوا إلى خيبر، فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصبح فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه، فعلوه بأسيافهم.
وفى البخارى: وكان أبو رافع يؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويعين عليه، وكان فى حصن له.. فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق ومتلطف للبواب لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها ففتحت الباب.
وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، فانتهيت إليه فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا فى البيت ضربنى قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف فى بطنه، حتى أخذ فى ظهره، فعرفت أنى قتلته.
وفى رواية له: ثم جئت كأنى أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ - وغيرت الصوت- فقال: لأمك الويل، دخل على رجل فضربنى، قال: فعمدت له(1/311)
أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتى، كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف فى بطنه، ثم أنكفىء عليه، فسمعت صوت العظم.
فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت فى ليلة مقمرة فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، فلما صاح الديك قام الناعى على السور، فانطلقت إلى أصحابى فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.
فانتهيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: «ابسط رجلك» ، فمسحها النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكأنما لم أشتكها قط «1» . هذا لفظ رواية البخارى.
وفى رواية محمد بن سعد: أن الذى قتله عبد الله بن أنيس.
والصواب: أن الذى دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما فى البخارى.
[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام] «2» :
وكان سببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن أبى الحقيق، أمرت يهود عليها أسيرا، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحربه- صلى الله عليه وسلم-.
وبلغه ذلك فوجه عبد الله بن رواحة فى ثلاثة نفر، فى شهر رمضان سرّا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره.
فندب- عليه السّلام- الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله ابن رواحة، فقدموا عليه وقالوا: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعثنا إليك لتخرج إليه، يستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع فى ذلك فخرج وخرج معه
__________
(1) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4039 و 4040) فى المغازى، باب: قتل أبى رافع، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-.
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 170) .(1/312)
ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة ضربه عبد الله بن أنيس- وكان فى السرية- بالسيف فسقط عن بعيره ومالوا على أصحابه فقتلوهم غير رجل، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «قد نجاكم الله من القوم الظالمين» «1» .
سرية كرز «2» - بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاى- ابن جابر الفهرى، إلى العرنيين- بضم العين وفتح الراء المهملتين- حى من قضاعة، وحى من بجيلة، والمراد هذا الثانى، كذا ذكره ابن عقبة فى المغازى.
وذكر ابن إسحاق: أن قدومهم كان بعد غزوة ذى قرد، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست.
وذكرها البخارى بعد الحديبية، وكانت فى ذى القعدة منها.
وعند الواقدى: فى شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان.
وفى البخارى- فى كتاب المغازى- عن أنس أن ناسا من عكل- يعنى بضم العين وسكون الكاف- وعرينة قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبى الله، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها.
فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبى- صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود. فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فبعث الطلب فى آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم «3» .
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 91) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 93) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 171 و 177) .
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (233) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، وأطرافه (1501 و 3018، 4192 و 4193 و 4610 و 5685 و 5689 و 5727 و 6802 و 6803 و 6804 و 6805 و 6899) ، ومسلم (1671) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/313)
وفى لفظ: وسمر أعينهم، ثم نبذوا فى الشمس حتى ماتوا.
وفى لفظ: ولم يحسمهم، أى لم يكو مواضع القطع فينحسم الدم.
وقال أنس: إنما سمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة. رواه مسلم فيكون ما فعل بهم قصاصا.
وفى رواية أنهم كانوا ثمانية.
وعند البخارى أيضا- فى المحاربين- أنهم كانوا فى الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل.
وفى رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه حتى مات «1» .
وعند الدمياطى- كابن سعد- أن اللقاح كانت خمسة عشر لقحة- بكسر اللام وسكون القاف- ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر.
وفى صحيح مسلم: أن السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار «2» .
وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- مولى يقال له: يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه فى لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤا- وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم- وعدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك فى عينيه، ثم طردوا الإبل، فبعث النبى- صلى الله عليه وسلم- فى آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهرى، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال ابن كثير: غريب جدّا «3» .
__________
(1) صحيح: وهى رواية البخارى (5685) فى الطب، باب: الدواء بألبان الإبل، وأبو داود (4367) فى الحدود، باب: ما جاء فى المحاربة، والترمذى (72) فى الطهارة، باب: ما جاء فى بول ما يؤكل لحمه.
(2) تقدم فيما قبله.
(3) قاله الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 51) .(1/314)
وروى ابن جرير عن محمد بن إبراهيم عن جرير بن عبد الله البجلى قال: قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوم من عرينة الحديث.. وفيه قال جرير:
فبعثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونفرا من المسلمين حتى أدركناهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «النار» ، حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» .
إلى آخر الآية «2» . وهو حديث غريب ضعيف. وفيه أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلى. قال مغلطاى: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه بنحو أربع سنين.
وفى مغازى ابن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء- وعند غيره: أنه سعد- بسكون العين- ابن زيد الأشهلى، وهذا أنصارى، فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة.
وأما قوله: فكره الله سمل الأعين فأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر. فقد تقدم أن فى صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاة، فكان ما فعل بهم قصاصا والله أعلم.
تنبيه: قال فى فتح البارى: وزعم ابن التين تبعا للداودى أن عرينة هم عكل وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان «3» .
ثم سرية عمرو بن أمية الضمرى «4» إلى أبى سفيان بن حرب بمكة، لأنه أرسل للنبى- صلى الله عليه وسلم- من يقتله غدرا، فأقبل الرجل ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن هذا يريد غدرا» . فجذبه أسيد بن حضير بداخلة
__________
(1) سورة المائدة: 33.
(2) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (6/ 207) .
(3) قاله الحافظ فى «الفتح» (1/ 337) .
(4) انظرها فى «دلائل النبوة» للبيهقى (3/ 333- 337) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 542- 545) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (4/ 69- 71) .(1/315)
إزاره فإذا بالخنجر، فسقط فى يده. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أصدقنى ما أنت؟» قال:
وأنا آمن؟ قال: «نعم» ، فأخبره بخبره فخلى عنه- صلى الله عليه وسلم-.
وبعث عمرو بن أمية الضمرى ومعه سلمة بن أسلم، ويقال: جبار بن صخر إلى أبى سفيان وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه.
ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبى سفيان، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا فى الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا له.
فهرب عمرو وسلمة، فلقى عمرو عبيد الله بن مالك التيمى فقتله، وقتل آخر، ولقى رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة. فجعل عمرو يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبره، وهو- عليه السّلام- يضحك.
صلح الحديبية «1» :
ثم الحديبية- بتخفيف الياء وتشديدها- وهى بئر سمى المكان بها، وقيل شجرة وقال المحب الطبرى قريبة من مكة أكثرها فى الحرم، وهى على تسعة أميال من مكة.
خرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين هلال ذى القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، فى ألف وأربعمائة. ويقال ألف وخمسمائة وقيل ألف وثلاثمائة.
واجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر.
__________
(1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 308- 323) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 95- 105) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 71) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 312- 337) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 286- 316) ، والزرقانى فى «شرح المواهب» (2/ 179- 217) .(1/316)
واعتمد على هذا الجمع النووى. وأما رواية ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا.
وجزم موسى بن عقبة: بأنهم كانوا ألفا وستمائة.
وعند ابن أبى شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة.
وحكى ابن سعد: ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف فى القرب.
وفى البخارى- فى المغازى- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية فى بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذى الحليفة قلد الهدى، وأشعر وأحرم منها- وفى رواية: أحرم منها بعمرة- وبعث عينا له من خزاعة. وسار النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك.
فقال: «أشيروا علىّ أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم وذرارى هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت..» .
وفيه: قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله» «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4178 و 4179) فى المغازى، باب: غزوة الحديبية.(1/317)
وزاد أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» .
وفى رواية للبخارى: (حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبى- صلى الله عليه وسلم-:
«إن خالد بن الوليد بالغميم فى خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين» ، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش) «2» .
(وسار النبى- صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت- يعنى تمادت على عدم القيام- فقالوا:
خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» «3» .
أى حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضى إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق فى علم الله أنه سيدخل فى الإسلام منهم خلق، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. انتهى.
ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «والذى نفسى بيده، لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» .
(ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء- يعنى حفرة فيها ماء قليل- يتبرضه الناس تبرضا- أى يأخذونه قليلا قليلا- فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه) .
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 328) ضمن حديث طويل.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2731 و 2734) فى الشروط، باب: الشروط فى الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.
(3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق الذى فى البخارى.(1/318)
(فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أهل تهامة- فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر بن لؤى نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت) .
والعوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ- وهى الناقة ذات اللبن.
والمطافيل: الأمهات اللاتى معها أطفالها.
يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. والمراد، أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار.
(فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤا ماددتهم مدة ويخلوا بينى وبين الناس إن شاؤا، فإن أظهر فإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا» . يعنى استراحوا- «وإن هم أبوا، فو الذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى» - أى صفحة العنق، كنى بذلك عن القتل- «ولينفذن الله أمره» «1» ) .
(فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه شىء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبى- صلى الله عليه وسلم-) .
(فقام عروة بن مسعود، فقال: أى قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونى؟ قالوا: لا، قال:
ألستم تعلمون أنى استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا على- وهو بالحاء المهملة،
__________
(1) صحيح: انظر ما قبله.(1/319)
أى تمنعوا عن الإجابة- جئتكم بأهلى وولدى ومن أطاعنى؟ قالوا بلى قال:
فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد- أى خصلة خير وصلاح- اقبلوها، ودعونى آته، قالوا ائته) .
(فأتاه، فجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أى محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الآخرى، فإنى والله لا أرى وجوها، وإنى لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك) .
(فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟) .
قال العلماء: وهذا مبالغة من أبى بكر فى سب عروة، فإنه أقام معبود عروة، وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار.
والبظر: - بالباء الموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة- قطعة تبقى بعد الختان فى فرج المرأة. واللات: اسم صنم. والعرب تطلق هذا اللفظ فى معرض الذم. انتهى.
(فقال- أى عروة-: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذى نفسى بيده لولا يد كانت لك عندى لم أجزك بها لأجبتك) .
(قال: وجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة ابن شعبة قائم على رأس النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبى- صلى الله عليه وسلم- ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-) .
قال العلماء: وقد كانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لا سيما عند الملاطفة، وفى الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان صلى الله عليه وسلم- يغضى لعروة استمالة له وتأليفا. والمغيرة يمنعه إجلالا للنبى- صلى الله عليه وسلم- وتعظيما. انتهى.
قال (فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال:(1/320)
أي غدر، ألست أسعى فى غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما فى الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه فى شىء» .
(ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- بعينيه، قال: فو الله ما تنخم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له) .
قال فى فتح البارى: فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التى تراعى بعضها بمجرد الرحم والله أعلم. انتهى.
قال: (فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) .
فقال رجل من بنى كنانة: دعونى آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له» ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغى لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
(فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال دعونى آته.. فلما(1/321)
أشرف عليهم قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: هذا مكرز، وهو رجل فاجر. فجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم-) .
فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر فأخبر أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد سهل لكم من أمركم» .
وفى رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: قد أرادت قريش الصلح حيث بعثت هذا، فلما انتهى إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين وأن يأمن بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا.
(وقال معمر قال الزهرى فى حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبى- صلى الله عليه وسلم- الكاتب. فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» .
فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اكتب باسمك اللهم» . ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله- وفى حديث عبد الله بن مغافل عند الحاكم:
هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة. الحديث- فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «والله إنى لرسول الله وإن كذبتمونى» «1» .
وفى رواية له- يعنى البخارى- ولمسلم: فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- لعلى:
«امحه» ، فقال ما أنا بالذى أمحاه «2» ، وهى لغة فى أمحوه.
قال العلماء: وهذا الذى فعله على من باب الأدب المستحب، لأنه لم
__________
(1) صحيح: انظر ما قبله، وهو حديث طويل فانظره فى المصدر السابق.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2698 و 2699) فى الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته، ومسلم (1783) فى الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-.(1/322)
يفهم من النبى- صلى الله عليه وسلم- تحتم محو علىّ نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو حتم محوه لنفسه لم يجز لعلى تركه انتهى.
ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «أرنى مكانها» فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله.
وفى رواية البخارى- فى المغازى- فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله «1» .
وكذا أخرجه النسائى وأحمد ولفظه: فأخذ الكتاب- وليس يحسن أن يكتب- فكتب مكان رسول الله: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
قال فى فتح البارى: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجى.
فادعى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب.
فشنع عليه علماء الأندلس فى زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذى قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا باخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير فاستظهر الباجى عليهم بما لديه من المعرفة وقال الأمير:
فهذا لا ينافى القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفى بما قبل ورود القرآن، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «2» وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب فى ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى.
وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجى على ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروى وأبو الفتح النيسابورى وآخرون من علماء إفريقية.
واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبى شيبة وعمر بن شبة من طريق
__________
(1) صحيح: وهى رواية البخارى (2699) فيما تقدم.
(2) سورة العنكبوت: 48.(1/323)
مجالد عن عون بن عبد الله قال: ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ.
قال مجالد: فذكرته للشعبى فقال صدق، قد سمعت من يذكر ذلك.
وقال القاضى عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه: ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك، وقوله لمعاوية:
ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تعور الميم إلى غير ذلك. قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، إنه أوتى علم كل شىء.
وأجاب الجمهور. بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية: بأن القصة واحدة، والكتاب فيها على بن أبى طالب، وقد صرح فى حديث المسور بن مخرمة بأن عليّا هو الذى كتب فيحمل على أن النكتة فى قوله «فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب» لبيان أن قوله «أرنى إياها» أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التى امتنع على من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة.
وعلى أن قوله بعد ذلك «فكتب» فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلى فكتب: أو أطلق «كتب» بمعنى: أمر بالكتابة، وهو كثير، كقوله: كتب إلى كسرى وقيصر.
وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف فى ذلك اليوم- وهو لا يحسن الكتابة- أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج عن كونه أميّا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا ككثير من الملوك.
ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى فى ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمنانى أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزى.(1/324)
وتعقب ذلك السهيلى وغيره:
بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميّا لا يكتب، وهى الآية التى قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك.
قال السهيلى: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق: أن معنى قوله «فكتب» أمر عليّا أن يكتب انتهى.
قال: وفى دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمى نظر كبير، والله أعلم، انتهى «1» .
وأما قول: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وقوله: أما الرحمن فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم. إلخ.
فقال العلماء: وافقهم- صلى الله عليه وسلم- فى ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم فى محمد بن عبد الله، وترك كتابة رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح.
مع أنه لا مفسدة فى هذه الأمور: أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضا رسوله، وليس فى ترك وصف الله تعالى فى هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفى ذلك، ولا فى ترك وصفه- صلى الله عليه وسلم- عنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
انتهى.
(قال فى رواية البخارى: فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به» .
__________
(1) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 503- 504) .(1/325)
فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. ولكن ذلك فى العام المقبل، فكتب.
فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟) «1» .
والضغطة: بالضم، قال فى القاموس: الضيق والإكراه والشدة.
انتهى.
فإن قلت: ما الحكمة فى كونه- صلى الله عليه وسلم- وافق سهيلا على أنه لا يأتيه منهم رجل وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين.
فالجواب: أن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التى كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس فى دين الله أفواجا.
وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبى- صلى الله عليه وسلم- كما هى، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاؤا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام، قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام.
فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل.
وكانت العرب من غير قريش فى البوادى ينتظرون بإسلامهم إسلام
__________
(1) صحيح: وهى عند البخارى برقم (2371) وقد تقدم.(1/326)
قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب فى البوادى. قال الله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «1» . فالله ورسوله أعلم. انتهى.
قال فى رواية البخارى: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف فى قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.
فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلىّ.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نقض الكتاب بعد» .
قال: فو الله إذا لا أصالحك على شىء أبدا.
قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فأجزه لى» ، قال ما أنا بمجيز ذلك.
قال: «بلى فافعل» . قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أى معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب فى الله عذابا شديدا) «2» .
زاد ابن إسحاق: فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا» . ووثب عمر يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر إنما هم المشركون، وإن دم أحدهم كدم كلب.
قال الخطابى: تأول العلماء ما وقع فى قصة أبى جندل على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التوراة، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبى جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.
__________
(1) سورة النصر: 1، 2.
(2) انظر المصدر السابق.(1/327)
والوجه الثانى: إنما رده لأبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك.
وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا.
وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله تعالى يبتلى به صبر عبادة المؤمنين.
واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا؟.
فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبى جندل وأبى بصير.
وقيل: لا، وإن الذى وقع فى القصة منسوخ. وإن ناسخه حديث «أنا برىء من مسلم بين مشركين» «1» وهو قول الحنفية.
وعند الشافعية: تفصيل بين العاقل والمجنون والصبى، فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم. قاله فى فتح البارى.
قال فى رواية البخارى: (فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبى الله حقّا؟ قال: «بلى» ، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى» ، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: «إنى رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصرى» . قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: «بلى» ، «أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت:
لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به» .
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبى الله حقّا؟ قال:
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2645) فى الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، والترمذى (1604) فى السير، باب: ما جاء فى كراهية المقام بين أظهر المشركين، من حديث جرير بن عبد الله- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/328)
بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟
قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به) «1» .
قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضى الله عنه- وكلامه المذكور شكّا، بل طلبا لكشف ما خفى عليه، وحثّا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عرف فى خلقه وقوته فى نصرة الدين، وإذلال المبطلين.
وأما جواب أبى بكر لعمر- رضى الله عنهما- بمثل جواب النبى- صلى الله عليه وسلم- فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته فى ذلك على غيره.
وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما فى السير، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر.
ولأبى نعيم فى مسند عبيد الله بن دينار كانت أربع سنين. وكذا أخرجه الحاكم فى البيوع من المستدرك. والأول أشهر.
وكان الصلح على وضع الحرب، بحيث يأمن الناس فيها، ويكف بعضهم عن بعض، وألايدخل البيت إلا العام القابل ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو القراب بما فيه. والجلبان- بضم الجيم وسكون اللام- شبه الجراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودا. ورواه القتيبى: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هو أوعية السلاح بما فيها.
وفى بعض الروايات: لا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف والقوس.
وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم، إذ كان دخولهم صلحا.
وقال مكى بن أبى طالب القيروانى فى تفسيره:
__________
(1) قلت: هو طرف من حديث البخارى المتقدم قبل قليل.(1/329)
وبعث- عليه الصلاة والسلام- بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان.
وأمسك سهيل بن عمرو عنده، فأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون.
وقال مغلطاى فاحتبسته قريش عندها. فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وقيل على أن لا يفروا، انتهى.
ووضع النبى- صلى الله عليه وسلم- شماله فى يمينه وقال: هذه عن عثمان. وفى البخارى: فقال- صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى: «هذه بيعة عثمان، فضرب بها على يده اليسرى» «1» .
ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين.
وفى هذه البيعة نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «2» .
وحلق الناس مع النبى- صلى الله عليه وسلم-، ونحروا هداياهم بالحديبية، قال مغلطاى: وأرسل الله ريحا حملت شعورهم فألقتها فى الحرم.
وأقام- صلى الله عليه وسلم- بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل عشرين يوما، ثم قفل وفى نفوس بعضهم شىء، فأنزل الله سورة الفتح يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «3» .
قال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لم ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أى حسبوا أنهم لا يرجعون بل يقتلون كلهم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3698) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان أبو عمرو القرشى- رضى الله عنه-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) سورة الفتح: 10.
(3) سورة الفتح: 1.(1/330)
وأما قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً «1» . فالمراد فتح خيبر على الصحيح، لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.
وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال:
(شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا وجدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس فقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «2» . فقال رجل: يا رسول الله، أو فتح هو؟ فقال: «إى والذى نفسى بيده إنه لفتح» «3» .
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الحديبية، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله.
وأما قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «4» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح) «5» فالمراد فتح مكة باتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال والله أعلم.
ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
وفى هذه السنة كسفت الشمس.
وظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة.
__________
(1) سورة الفتح: 18.
(2) سورة الفتح: 1.
(3) أخرجه أبو داود (2736) فى الجهاد، فيمن أسهم له سهما، وأحمد فى «مسنده» (3/ 420) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 143 و 498) بسند فيه يعقوب بن مجمع، لم يعرف إلا بهذا الحديث.
(4) سورة النصر: 1.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (2783) فى الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير، ومسلم (1353) فى الحج، باب: تحريم مكة، وفى الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(1/331)
وفى هذه السنة أيضا استسقى فى رمضان ومطر الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «أصبح الناس مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب» «1» .
قال مغلطاى: وجزم الدمياطى فى سيرته: بأن تحريم الخمر كان فى سنة الحديبية.
وذكر ابن إسحاق: أنه كان فى وقعة بنى النضير، وهى بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح.
وفيه نظر: لأن أنسا كان الساقى يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادى بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك.
وأخرج النسائى والبيهقى بسند صحيح عن ابن عباس: إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى فى وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخى فلان- وكانوا أخوة ليس فى قلوبهم ضغائن- فيقول: والله لو كان بى رحيما ما صنع بى هذا حتى وقعت فى قلوبهم الضغائن، فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «2» إلى مُنْتَهُونَ فقال ناس من المتكلفين: هى رجس، وهى فى بطن فلان وفلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى الْمُحْسِنِينَ «3» «4» .
وآية تحريم الخمر نزلت فى عام الفتح قبل الفتح.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1038) في الجمعة، باب: قول الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، ومسلم (71) في الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، من حديث زيد بن خالد الجهنى- رضى الله عنه-.
(2) سورة المائدة: 90، 91.
(3) سورة المائدة: 93.
(4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (11151) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 158) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (8/ 285) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 56) .(1/332)
والخمر فى الأصل مصدر خمره: إذا ستره، سمى به عصير العنب إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما يسمى مسكرا لأنه يسكره، أى يحجره.
وهى حرام مطلقا، وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر انتهى.
وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندى والحيدرية والقلندرية فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف، لأنها لم تكن فى زمنهم، وإنما ظهرت فى أواخر المائة السادسة وأول السابعة.
واختلف هل هى مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير، والذى أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء وصرح به الشيخ أبو إسحاق الشيرازى فى كتاب التذكرة فى الخلاف، والنووى فى شرح المهذب، ولا نعرف فيه خلافا عندنا.
ونقل عن ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها ولذلك يتناولونها بخلاف البنج وغيره فإنه لا ينشى ولا يشتهى.
قال الزركشى: ولم أر من خالف فى هذا إلا القرافى فى قواعده فقال:
نص العلماء بالنبات فى كتبهم أنها مسكرة، والذى يظهر لى أنها مفسدة. فى كلام تعقبه الزركشى يطول ذكره.
وقد تضافرت الأدلة على حرمتها: ففى صحيح مسلم «كل مسكر حرام» «1» وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «2» . وأى خبيث أعظم مما يفسد العقول التى اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها. ولا ريب أن متناول الحشيشة يظهر به أثر التغير فى انتظام الفعل والقول المستمد كماله من
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6124) فى الأدب، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يسروا ولا تعسروا» ، ومسلم (1733) فى الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.
(2) سورة الأعراف: 157.(1/333)
نور العقل. وقد روى أبو داود- بإسناد حسن- عن ديلم الحميرى قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: فهل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم) «1» .
وهذا منه- صلى الله عليه وسلم- تنبيه على العلة التى لأجلها حرم المزر. فوجب أن كل شىء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه.
وروى أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر) «2» .
قال العلماء: المفتر كل ما يورق الفتور والخدر فى الأطراف. وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن، مسكرة كانت مفترة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رؤسهم بواسطة تبخيرها فى الدماغ.
وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد، منهم القرافى وابن تيمية وقال: إن من استحلها فقد كفر.
وتعقبه الزركشى: بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة، سلمنا ذلك، لكن لا بد أن يكون دليل الإجماع قطعيّا على أحد الوجهين، وقد ذكر أصحابنا أن المسكر من غير عصير العنب، كعصير العنب فى وجوب الحد، لكن لا يكفر مستحله لاختلاف العلماء فيه.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3683) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، وأحمد فى «مسنده» (4/ 231 و 232) ، والبيهقى فى الكبرى (8/ 292) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3686) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، وأحمد فى «مسنده» (6/ 309) ، والبيهقى فى «الكبرى» (8/ 296) ، بسند فيه شهر بن حوشب، وهو مختلف فيه.(1/334)
واختلف: هل يحرم تعاطى اليسير الذى لا يسكر؟
فقال النووى فى شرح المهذب إنه لا يحرم أكل القليل الذى لا يسكر من الحشيش، بخلاف الخمر، حيث حرم قليلها الذى لا يسكر. والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة.
وتعقبه الزركشى بأنه صح فى الحديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» «1» ، قال: والمتجه أنه لا يجوز من الحشيش لا قليل ولا كثير.
وأما قول النووى: إنها طاهرة وليست بنجسه، فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه. قال: والأفيون وهو لبن الخشخاش، أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدّا، وكذلك السيكران وجوز الطيب مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى.
وقد جمع بعضهم فى الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية، حتى قال بعضهم كل ما فى الخمر من المذمومات موجود فى الحشيش وزيادة. فإن أكثر ضرر الخمر فى الدين لا فى البدن. وضررها فيهما.
فمن ذلك: فساد العقل، وعدم المروءة، وكشف العورة، وترك الصلوات، والوقوع فى المحرمات، وقطع النسل، والبرص والجذام والأسقام والرعشة والأبنة، ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان، وحفر الأسنان وتسويدها، وتضييق النفس وتصفير الألوان، وتنقيب الكبد، وتجعل الأسد كالجعل، وتورث الكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما، والصحيح أبلما، وتذهب السعادة وتنسى الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من الله باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنه ويحسن بالله ظنه. ولقد أحسن القائل:
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3681) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، والترمذى (1865) فى الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وابن ماجه (3393) فى الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وأحمد فى «مسنده» (3/ 343) ، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/335)
قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة
دية العقل بدرة فلماذا ... ياسفيها قد بعتها بحشيشة
[غزوة خيبر] :
وهى مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد «1» من المدينة إلى جهة الشام.
قال ابن إسحاق: خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فى بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.
وقيل: كانت فى آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناء على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقى وهو ربيع الأول «2» .
وأغرب ابن سعد وابن أبى شيبة فرويا من حديث أبى سعيد الخدرى:
خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج فيها- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان جزما.
قال: وذكر الشيخ أبو حامد فى التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعلها انتقال من الخندق إلى خيبر.
وكان معه- صلى الله عليه وسلم- ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.
__________
(1) البرد: جمع بريد، وهى وحدة قياسية معروفة عندهم كانت تطلق على ما بين كل منزلين، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع تقريبا.
(2) وذلك على اعتبار أن الهجرة، كانت في ربيع الأول على الراجح، وليست فى محرم أول الأشهر العربية كما يظن كثير من الناس.(1/336)
وفى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبى إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصباح عولوا علينا
وفى رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد فى هذا الرجز من الزيادة:
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية البخارى- «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع، قال: «يرحمه الله» . قال رجل من القوم: وجبت يا نبى الله، لولا أمتعتنا به «1» . الحديث.
وفى رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل فى السير ينزل بعضهم فيسوقها، ويحدو فى تلك الحال.
وقوله: «اللهم لولا أنت ما اهتدينا» كذا الرواية، قالوا: وصوابه فى الوزن: لا هم، أو: تالله، كما فى الحديث الآخر.
وقوله: «فداء لك» قال المازرى «2» : هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4196) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802) فى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر.
(2) هو: العلامة الشيخ، أبو عبد الله، محمد بن على بن عمر التميمى المازرى المالكى، مصنف كتاب «العلم بفوائد شرح مسلم» ، كما أن له تواليف فى الأدب، وله شرح كتاب «التلقين» لعبد الوهاب المالكى، وهو من أنفس الكتب، وكان بصيرا بعلم الحديث، ولد بمدينة المهدية من إفريقية، وبها مات سنة (530 هـ) ومازر: بليدة من جزيرة صقلية بفتح الزاى وقد تكسر.(1/337)
للبارى سبحانه: فديتك، لأن ذلك إنما يستعمل فى مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاتله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله- عليه السّلام-: تربت يداك، وتربت يمينك، وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادى مبالغ فى طلب رضا المفدى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أى أبذل نفسى فى رضاك. وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.
قال: وقد يكون المراد بقوله: «فداء لك» رجلا يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى.
وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبى- صلى الله عليه وسلم-. والمعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا فى حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: «اللهم» لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام.
والمخاطب بقول الشاعر: «لولا أنت» ، النبى، لكن يعكر عليه بعد ذلك:
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فإنه دعاء لله تعالى.
ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت والله أعلم.
وقوله: «إذا صيح بنا أتينا» أى إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفى رواية أيضا بالموحدة بدل المثناة، أى أبينا الفرار.
وقوله: «وبالصياح عولوا علينا» أى استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشىء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.(1/338)
وقوله: «من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم وجبت» : أى ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، وكان معلوما عندهم أن من دعا له النبى- صلى الله عليه وسلم- هذا الدعاء فى هذا الموطن استشهد، فقالوا: هلا أمتعتنا به؟ أى: وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.
وفى البخارى من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى خيبر ليلا- وكان إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «1» .
وفى رواية: فرفع يديه وقال الله أكبر خربت خيبر.
والخميس: الجيش: سمى به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب.
ومحمد: خبر مبتدأ، أى هذا محمد.
قال السهيلى: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى آلة الهدم عرف أن مدينتهم ستخرب، انتهى.
ويحتمل- كما قاله فى فتح البارى- أن يكون قال: «خربت خيبر» بطريق الوحى، ويؤيده قوله بعد ذلك: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» .
وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
وقال مغلطاى وغيره: وفرق- صلى الله عليه وسلم- الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (371) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ، وأطرافه (610 و 947 و 3647 و 3944 و 3945 و 4197 و 4198 و 4200) ، ومسلم (1365) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق الأمة ثم يتزوجها، وفى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر.(1/339)
وقال الدمياطى: وكانت راية النبى- صلى الله عليه وسلم- السوداء من برد لعائشة.
وفى البخارى: وكان على بن أبى طالب تخلف عن النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان رمدا.. فلحق فلما بتنا الليلة التى فتحت قال: لأعطين الراية غدا- أو ليأخذن الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله يفتح الله عليه.
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين على بن أبى طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه ودعا له فبرىء، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
فقال على: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم. الحديث «1» .
ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودى ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه. فلما قفلوا، قال سلمة:
قلت يا رسول الله، فداك أبى وأمى، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال النبى صلى الله عليه وسلم- «كذب من قال، وإن له أجرين» ، وجمع بين إصبعيه، «إنه لجاهد مجاهد» «2» . رواه البخارى أيضا.
وعن يزيد بن أبى عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر ... فأتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة «3» . أخرجه البخارى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2942) فى الجهاد والسير، باب: دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، ومسلم (2406) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (4196) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4206) فى المغازى، باب: غزوة خيبر.(1/340)
وعنده أيضا عن أبى هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لرجل ممن معه يدعى الإسلام: «هذا من أهل النار» ، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: «قم يا فلان فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» «1» .
وفى رواية: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة- فيما يبدو للناس- وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار- فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة» . الحديث.
وقاتل النبى- صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون.
وفتحها الله حصنا حصنا، وهى: النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبى، وحصن البرىء، والقموس والوطيح والسلالم، وهو حصن بنى أبى الحقيق.
وأخذ كنز آل أبى الحقيق الذى كان فى مسك الحمار،، وكانوا قد غيبوه فى خربة، فدل الله ورسوله عليه فاستخرجه.
وقلع علىّ باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد.
وفى رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقى فى الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقى من جهة ليث بن أبى سليم عن أبى جعفر محمد بن على بن حسين عن جابر: أن عليّا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. وليث ضعيف.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3062) فى الجهاد والسير، باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، ومسلم (111) فى الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشىء عذب به فى النار.(1/341)
وفى رواية البيهقى: أن عليّا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه.
قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى.
وفى البخارى: وتزوج- صلى الله عليه وسلم- بصفية بنت حيى بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وكانت عروسا، فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له- يعنى طهرت من الحيض- فبنى بها- صلى الله عليه وسلم- فصنع حيسا فى نطع صغير، ثم قال لأنس:
«آذن من حولك» ، فكانت تلك وليمته على صفية. قال: خرجنا إلى المدينة فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يحوى لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب «1» .
وفى رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهى إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهى مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب «2» .
وفى رواية أنه- صلى الله عليه وسلم- قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان فى السبى صفية فصارت إلى دحية الكلبى ثم صارت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فجعل عتقها صداقها «3» .
وفى رواية: فأعتقها وتزوجها.
وفى رواية: قال- صلى الله عليه وسلم- لدحية: «خذ جارية من السبى غيرها» «4» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2235) فى البيوع، باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها.
(2) صحيح: وهى عند البخارى برقم (4213) فى المغازى، باب: غزوة خيبر.
(3) صحيح: وهى عند البخارى برقم (947) فى الجمعة، باب: التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب.
(4) صحيح: وهى عند البخارى (371) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ.(1/342)
وفى رواية لمسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- اشترى صفية منه بسبعة أرؤس «1» .
وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس فى قوله سبعة أرؤس ما ينافى قوله فى رواية البخارى: خذ جارية من السبى غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفى الزيادة والله أعلم.
وإنما أخذ- صلى الله عليه وسلم- صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم، وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان من الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان فى السبى مثل صفية فى نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بها، فإن فى ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع فى الهبة فى شىء. انتهى.
قال مغلطاى وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط فى حجرها، فتؤول بذلك. قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية.
وفى هذه الغزوة حرم- صلى الله عليه وسلم- لحوم الحمر الأهلية. كما فى البخارى ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذى فتحت عليهم- يعنى خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذه النيران، على أى شىء توقدون؟» قالوا: على لحم، قال: «على أى لحم؟» قالوا: لحم الحمر الإنسية، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أهريقوها واكسروها» . فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال: «أو ذاك» «2» .
والمشهور فى الإنسية: كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم.
وحكى: ضم الهمزة، ضد الوحشية، ويجوز فتحها والنون أيضا، مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1365) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4196) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802) فى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، وفى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.(1/343)
وفى رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية «1» .
وفى رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص فى الخيل «2» .
قال ابن أبى أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة.
قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمناه.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اكسروها» فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال:
«أو ذاك» . فهذا محمول على أنه- صلى الله عليه وسلم- اجتهد فى ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحى إليه بغسلها.
وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء فى إباحتها:
فمذهب الشافعى والجمهور من السلف والخلف: أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبى بكر. وفى صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكلناه ونحن بالمدينة «3» ، وفى رواية الدارقطنى: فأكلناه نحن وأهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم-.
قال فى فتح البارى: ويستفاد من قولها: «ونحن بالمدينة» أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4215) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (561) فى المساجد، باب: نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا ونحوها، وفى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه المغازى (4219) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1941) فى الصيد والذبائح، باب: فى أكل لحم الخيل، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5510- 5512) فى الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، ومسلم (1942) فى الصيد والذبائح، باب: فى أكل لحوم الخيل، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما-.(1/344)
وفى قولها: «وأهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-» الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بال أبى بكر أنهم يقدمون على فعل شىء فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به- صلى الله عليه وسلم- وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله- عليه السّلام- عن الأحكام.
ومن ثم كان الراجح أن الصحابى إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى الله عليه وسلم- كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك فى مطلق الصحابة فكيف بال أبى بكر.
وقال الطحاوى: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما.
واحتجوا بالأخبار المتواترة فى حلها. انتهى.
وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبى شيبة بسند صحيح- على شرط الشيخين- عن عطاء قال: لم يزل سلفك يأكلونه.
قال ابن جريح: قلت له أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: نعم.
وأما ما نقل فى ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين «1» .
وقال أبو حنيفة فى الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازى على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلى، وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم.
وقال القرطبى فى شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهانى:
المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.
__________
(1) ذكر هذه الروايات الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (9/ 650) .(1/345)
وقال ابن أبى جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا فى الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر استعماله لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذى وقع الأمر به فى قوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «1» . فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضى أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى.
وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها.
فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به. وأما حديث خالد ابن الوليد عند أبى داود والنسائى: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الخيل والبغال والحمير «2» ، فضعيف، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد ابن الوليد أحمد والبخارى والدار قطنى والخطابى وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون.
وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله «رخص» لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التى أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق.
وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفى رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحمار الأهلى وعند الدار قطنى من حديث ابن عباس: نهانا- صلى الله عليه وسلم- عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل «3» فدل على أن المراد بقوله: «رخص» أذن.
__________
(1) سورة الأنفال: 60.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3790) فى الأطعمة، باب: فى أكل لحوم الخيل، والنسائى (7/ 202) فى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الخيل، وابن ماجه (3198) فى الذبائح، باب: لحوم البغال، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(3) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (4/ 290) .(1/346)
ونوقض أيضا بالإذن فى أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن فى أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة.
وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «1» . وقرروا ذلك بأوجه:
أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضى خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما فى حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليها إلى دليل.
ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها فى الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل فى المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة.
وأجيب: بأن آية النحل [8] مكية اتفاقا، والإذن فى أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبى- صلى الله عليه وسلم- من الآية المنع لما أذن فى الأكل.
وأيضا: فاية النحل [8] ليست نصّا فى منع الأكل والحديث صريح فى جوازه.
وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر فى الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل فى غيرهما، وفى غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة
__________
(1) سورة النحل: 8.(1/347)
المذكورة فى الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث «1» ، فإنه مع كونه أصرح فى الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهى تؤكد وينتفع بها فى أشياء غير الحرث اتفاقا.
وقال البيضاوى: واستدل بها أى باية النحل [8]- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا ألايقصد منه غيره أصلا. انتهى.
وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به. وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هى دلالة اقتران وهى ضعيفة.
وأما أنها سيقت مساق الامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتهم فى بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها أكثر لحمل الأثقال والأكل، فاقتصر فى كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر فى هذا الشق لأضر.
وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها إلخ.
فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن فى أكلها أن تفنى، للزم مثله فى البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به.
وإنما أطلت فى ذلك لأمر اقتضاه، والله أعلم.
وفى هذه الغزوة أيضا نهى- صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاتوطأ جارية حتى تستبرأ.
وفى هذه الغزوة أيضا سمت النبى- صلى الله عليه وسلم- زينب بنت الحارث، امرأة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2324) فى المزارعة، باب: استعمال البقرة للحراثة، ومسلم (2388) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(1/348)
سلام بن مشكم، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة ولفظه: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«اجمعوا لى من كان هاهنا من اليهود» ، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إنى سائلكم عن شىء، فهل أنتم صادقونى عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كذبتم، بل أبوكم فلان» ، فقالوا: صدقت وبررت، فقال: «هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته فى أبينا. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أهل النار؟» فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اخسئوا فيها. والله لا نخلفكم فيها أبدا» ، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟» قالوا:
نعم. فقال: «هل جعلتم فى هذه الشاة سمّا؟» فقالوا: نعم، فقال: «ما حملكم على ذلك؟» فقالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيّا لم يضرك «1» .
وفى حديث جابر عند أبى داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ارفعوا أيديكم» ، وأرسل إلى اليهود فقال: «سممت هذه الشاة؟» فقالت: من أخبرك؟ قال: «أخبرتنى هذه فى يدى» ، للذراع. قالت: نعم، قلت: إن كان نبيّا فلن يضره، وإن لم يكن نبيّا استرحنا منه. فعفا عنها- صلى الله عليه وسلم- ولم يعاقبها، وتوفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على كاهله من أجل الذى أكل من الشاة «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3169) فى الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) مرسل: أخرجه أبو داود (4510) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ عن ابن شهاب عن جابر مرسلا، كما فى «جامع التحصيل فى أحكام المراسيل» (2695) .(1/349)
وفى رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أى الشاة أحب إلى محمد فيقولون الذراع فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يبطىء- يعنى لا يلبث أن يقتل من ساعته- وقد شاورت يهود فى سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت فى الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول- صلى الله عليه وسلم- الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظاما آخر، فلما ازدرد- صلى الله عليه وسلم- لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما فى يده وأكل القوم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرنى أنها مسمومة» . وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه أنه دفعها- صلى الله عليه وسلم- إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطى.
وقد اختلف هل عاقبها- صلى الله عليه وسلم-؟:
فعند البيهقى من حديث أبى هريرة: فأعرض عنها، ومن طريق أبى نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهرى: أسلمت فتركها «1» .
قال البيهقى: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلى وزاد: أنه تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر قصاصا.
ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت. وإنما أخر قتلها حتى مات بشر، لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.
وفى مغازى سليمان التيمى: أنها قالت: إن كنت كذابا أرحت الناس منك. وقد استبان لى الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أنى على دينك وألاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهرى على إسلامها، فالله أعلم.
وفى هذه الغزوة أيضا: نام- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا
__________
(1) قلت: فى الصحيحين أنه قيل له: ألا نقتلها؟ قال: لا. أخرجه البخارى (2617) فى الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2190) فى السلام، باب: السم، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/350)
كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلته حتى أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: «اكلأ لنا الليل» ، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحته، فلم يستيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أولهم استيقاظا، فقال: «أى بلال!» فقال بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ- بأبى أنت وأمى يا رسول الله- بنفسك. قال: «اقتادوا» فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: «من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: أقم الصلاة لذكرى» «1» .
وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.
واختلف فى فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟
وفى حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال.
انتهى.
ثم فتح وادى القرى، فى جمادى الآخرة بعد ما أقام أربعا يحاصرهم، ويقال: أكثر من ذلك.
وأصاب «مدعما» مولاه سهم فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشملة التى غلها من خيبر لتشتعل عليه نارا» «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (680) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6707) فى الأيمان والنذور، باب: هل تدخل فى الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة؟ ومسلم (115) فى الأيمان، باب: غلظ تحريم الغلول.(1/351)
وصالحه أهل تيماء على الجزية، قاله الحافظ مغلطاى.
ثم سرية عمر بن الخطاب «1» - رضى الله عنه- إلى تربة فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا فخرج معه دليل من بنى هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا وجاء عمر بن الخطاب، إلى محالهم فلم يلق منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة.
ثم سرية أبى بكر الصديق، - رضى الله عنه- إلى بنى كلاب بنجد ناحية ضربة، سنة سبع، ويقال إلى فزارة، فسبى منهم جماعة وقتل آخرين «2» .
وفى صحيح مسلم: فزارة وهو الصواب.
ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مرة بفدك، فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا، وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، وقيل قد مات.
وقدم علبة بن زيد الحارثى بخبرهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قدم بعده بشير بن سعد.
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة بناحية نجد من المدينة، على ثمانية برد، فى شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، فى مائتين وثلاثين رجلا، فهجموا عليهم فى وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة.
قالوا: وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فقال أسامة: لا أقاتل أحدا يشهد ألاإله إلا الله «3» .
__________
(1) انظر شرح المواهب، للزرقانى (2/ 249) .
(2) انظر ما فى «صحيح مسلم» (1755) فى الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4269) فى المغازى، باب: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحرقات، ومسلم (96) فى الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-، إلا أنه ليس فيها ذكر اسم المقتول.(1/352)
وفى الإكليل: فعل ذلك أسامة فى سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان.
وفى البخارى: (عن أبى ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصارى عنه، وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟» قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) «1» .
ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى أيضا إلى يمن وجبار- بفتح الجيم- وهى أرض لغطفان، ويقال لفزارة وعذرة، فى شوال سنة سبع من الهجرة، وبعث معه ثلاثمائة رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا.
وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما إلى المدينة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلما.
عمرة القضاء:
ثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء، لأنه قاضى فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التى صد عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبى- صلى الله عليه وسلم- أربعا، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية فى العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت.
وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف فى وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.
__________
(1) صحيح: وهو لفظ الحديث السابق تخريجه.(1/353)
فقال الجمهور: يجب عليه الهدى ولا قضاء عليه.
وعند أبى حنيفة: عكسه.
وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدى ولا قضاء. وأخرى: يلزمه القضاء والهدى.
فحجة الجمهور: قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «1» .
وحجة أبى حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.
وحجة من أوجبها: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدى حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدى.
وحجة من لم يوجبها: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدى، بل أمر من معه هدى أن ينحر، ومن ليس معه هدى أن يحلق.
قال الحاكم فى الإكليل: تواترت الأخبار أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هلّ ذو القعدة يعنى سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألايتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا.
وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفارى، وساق- صلى الله عليه وسلم- ستين بدنة، وحمل السلاح والبيض والدرع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد.
وأحرم- صلى الله عليه وسلم- ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا
__________
(1) سورة البقرة: 196.(1/354)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصبح هذا المنزل غدا- إن شاء الله تعالى-. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.
ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصارى فى مائتى رجل.
وخرجت قريش من مكة إلى رؤس الجبال.
وقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبون، فدخل من الثنية التى تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته.
وفى رواية الترمذى فى الشمائل، من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة فى عمرة القضاء وابن رواحة يمشى بين يديه وهو يقول:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا بن رواحة بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقول شعرا؟
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خل عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل» «1» .
ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن فى تنزيله
بأن خير القتل فى سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2847) فى الأدب، باب: ما جاء فى إنشاد الشعر، والنسائى (5/ 202) فى المناسك، باب: إنشاد الشعر فى الحرم، وابن حبان فى «صحيحه» (5788) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (2680) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .(1/355)
وأخرجه الطبرانى والبيهقى فى الدلائل وفيه:
اليوم نضربكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ... يا رب إنى مؤمن بقيله «1»
وعن ابن عقبة فى المغازى بعد قوله:
قد أنزل الرحمن فى تنزيله ... فى صحف تتلى على رسوله
لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله:
يا رب إنى مؤمن بقيله ... إنى رأيت الحق فى قبوله
وقال ابن هشام: إن قوله:
نحن ضربناكم على تأويله
إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله يوم صفين.
قالوا: ولم يزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم.
وفى البخارى، عن ابن عباس ( ... قال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) «2» .
وفى رواية: (قال: ارملوا ليرى المشركون قوتكم) «3» (والمشركون من قبل قعيقعان) «4» .
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (10/ 228) ، وفى «الدلائل» (4/ 315) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1602) فى الحج، باب: كيف كان بدء الرمل، ومسلم (1266) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة وفى الطواف الأول من الحج.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 373) بسند صحيح.
(4) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (3811) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وانظر ما قبله.(1/356)
ومعنى قوله: «إلا الإبقاء عليهم» أى لم يمنعه من أمرهم بالرمل فى جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم.
ثم طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه- وقد وقف الهدى عند المروة- قال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر «1» .
فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون.
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا.
وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة ثلاثا.
وفى البخارى من حديث البراء (.. فلما دخلها- يعنى مكة- ومضى الأجل، أتوا عليّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل) «2» .
(فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فتبعته ابنة حمزة تنادى: يا عم يا عم، فتناولها على فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها على وزيد وجعفر، قال على: أنا أخذتها وهى بنت عمى. وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى، وقال زيد ابنة أخى فقضى بها النبى- صلى الله عليه وسلم- لخالتها وقال:
«الخالة بمنزلة الأم» «3» الحديث.
وإنما أقرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- على أخذها مع اشتراط المشركين ألايخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1937) فى المناسك، باب: الصلاة بجمع، وابن ماجه (3048) فى المناسك، باب: الذبح، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وأخرجه أبو داود (2324) فى الصيام، باب: إذا أخطأ القوم الهلال من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) صحيح: والحديث عند البخارى (2700) فى الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، ومسلم (1783) فى الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية فى الحديبية.
(3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.(1/357)
وقوله: «الخالة بمنزلة الأم» أى فى هذا الحكم الخاص، لأنها تقرب منها فى الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة فى الحضانة مقدمة على العمة، لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهى مقدمة على غيرها. ويؤخذ منها تقديم أقارب الأم على أقارب الأب انتهى.
قال ابن عباس: وتزوج- صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال «1» .
وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها- صلى الله عليه وسلم- إلا بعد ما حل «2» . ذكره البخارى.
و «وهم» بكسر الهاء أى غلط.
وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن حلالان بسرف «3» . رواه مسلم.
وسيأتى فى الخصائص من مقصد معجزاته- إن شاء الله تعالى-: أن له- صلى الله عليه وسلم- النكاح فى حال الإحرام على أصح الوجهين عند الشافعية.
ثم سرية ابن أبى العوجاء السلمى «4» إلى بنى سليم، فى ذى الحجة سنة سبع، فى خمسين رجلا، فأحدق بهم الكفار من كل ناحية، وقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أول صفر سنة ثمان.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4259) فى المغازى، باب: عمرة القضاء، ومسلم (1410) فى النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم.
(2) قلت: أثر سعيد بن المسيب ليس عند البخارى، بل عند أبى داود (1845) فى المناسك، باب: المحرم يتزوج، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1411) فى النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم، وأبو داود (1843) فى المناسك، باب: المحرم يتزوج، واللفظ له.
(4) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 94) ، والمنتظم لابن الجوزى (3/ 306) .(1/358)
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثى «1» إلى بنى الملوح- بالحاء المهملة- بالكديد- بفتح الكاف- قال فى القاموس: الكديد بفتح الكاف ماء بين الحرمين شرفهما الله تعالى.
والبطن الواسع من الأرض الغليظة، كالكدة بالكسر، ويوم الكديد معروف.
فى صفر سنة ثمان من مهاجره، فغنم.
وفى هذا الشهر قدم خالد بن الوليد وعثمان بن أبى طلحة وعمرو بن العاصى المدينة فأسلموا. وقال ابن أبى خيثمة: كان ذلك سنة خمس، وقال الحاكم: سنة سبع.
ثم سرية غالب «2» أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك فى صفر سنة ثمان، ومعه مائتا رجل، فأغاروا عليهم مع الصبح وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما.
ثم سرية شجاع بن وهب الأسدى «3» إلى بنى عامر، بالسىء، ماء من ذات عرق إلى وجرة على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس مراحل من المدينة.
فى شهر ربيع الأول سنة ثمان، ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم، فأصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم.
ثم سرية كعب بن عمير الغفارى «4» إلى ذات أطلاح، وراء ذات
__________
(1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 94) ، والمنتظم لابن الجوزى (3/ 314) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 96) ، و «المنتظم» لابن الجوزى (3/ 315) .
(3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 96) ، و «المنتظم» لابن الجوزى (3/ 316) .
(4) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 97) ، و «المنتظم» لابن الجوزى (3/ 316) .(1/359)
القرى، فى ربيع الأول سنة ثمان، فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح فى القتلى.
قال مغلطاى: قيل هو الأمير. فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فشق ذلك عليه، وهم بالبعث إليه فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
غزوة مؤتة «1»
ثم سرية مؤتة- بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهرى وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين.
وهى من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق. فى جمادى الأولى سنة ثمان.
وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أرسل الحارث بن عمير الأزدى بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى فقتله، ولم يقتل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول غيره.
فأمر- صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف وقال: إن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم «2» .
__________
(1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 373- 389) ، وابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (2/ 128) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 107) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 455- 493) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 381- 385) .
(2) انظر صحيح البخارى (4261) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-.(1/360)
وفى حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائى. بإسناد صحيح «إن قتل زيد فأميركم جعفر» «1» الحديث.
قالوا: وعقد لهم- صلى الله عليه وسلم- لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم.
وخرج مشيعا لهم، حتى إذا بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم، فلما ساروا نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال ابن رواحة.
لكننى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
وقد نزل المسلمون معان- بفتح الميم- موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء فى مائة ألف من المشركين. فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضى، فمضوا إلى مؤتة.
ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والعدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.
والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 204) ، من حديث عبد الله بن جعفر- رضى الله عنهما-، وهو عند النسائى فى «الكبرى» (8249) ، وأحمد فى «مسنده» (5/ 300- 301) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7048) من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.(1/361)
ثم أخذ اللواء جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح.
قال فى رواية البخارى: ووجدنا ما فى جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية «1» .
وفى رواية: أن ابن عمر وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل قال:
فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شىء فى دبره «2» .
وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبى داود من طريقه عن رجل من مرة قال: والله لكأنى أنظر إلى جعفر بن أبى طالب، حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل «3» .
قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل.
فأخذ اللواء ابن أقرم العجلانى، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين.
وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.
وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين.
وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة «4» .
ورفعت الأرض لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نظر إلى معترك القوم.
__________
(1) هى عند البخارى (4261) وقد تقدم قبل حديث.
(2) هى عند البخارى (4260) فيما سبق.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (2573) فى الجهاد، باب: فى الدابة تعرقب فى الحرب والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 373- 389) .(1/362)
وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنى أبى الذى أرضعنى- وكان أحد بنى مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، خرجه البغوى فى معجمه.
وقطعت فى تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما فى الجنة حيث شاء» «1» ، أخرجه أبو عمر.
وفى البخارى عن عائشة- رضى الله عنها-: لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبى طالب جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف فيه الحزن «2» .
وأخرج الطبرانى بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة فى السماء» «3» .
وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة» «4» ، أخرجه الترمذى والحاكم وفى إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث على عند ابن سعد.
وعن أبى هريرة أيضا عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «مر بى جعفر الليلة فى ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم» «5» ، أخرجه الترمذى والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وأخرج أيضا هو والطبرانى عن ابن عباس مرفوعا: دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة «6» .
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 273) وقال: رواه الطبرانى بإسنادين أحدهما حسن.
(2) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4263) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة.
(3) إسناده حسن: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 273) وقال: رواه الطبرانى وإسناده حسن.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3763) فى المناقب، باب: مناقب جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه-، وابن حبان فى «صحيحه» (7047) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 231) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال.
(5) صحيح: انظر ما قبله.
(6) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 217 و 231) ، والطبرانى فى «الكبير» (2/ 107 و 3/ 146) بسند حسن.(1/363)
وفى طريق أخرى عنه: إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه الله من يديه «1» . وإسناد هذا جيد.
فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه فى هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل.
قال السهيلى: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحى الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا فى قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ «2» . وقال العلماء فى أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر فى بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذى جزم به فى مقام المنع، والذى حكاه عن العلماء ليس صريحا فى الدلالة لما ادعاه.
ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف.
وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقى فى الدلائل من مرسل عاصم ابن عمر بن قتادة: أن جناحى جعفر من ياقوت. وجاء فى جناحى جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده فى ترجمة ورقة.
وذكر موسى بن عقبة فى المغازى، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» قال: أخبرنى، فأخبره خبرهم فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره.
__________
(1) انظر ما قبله.
(2) سورة طه: 22.(1/364)
وعند الطبرانى من حديث أبى اليسر الأنصارى: أن أبا عامر الأشعرى هو الذى أخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بمصابهم «1» .
ثم سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل «2» . وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام.
وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبى خالد فى كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة. إلا أن ابن إسحاق قال قبلها.
وسببها: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا للإغارة، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا.
فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث- بفتح الميم- الجهنى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء، وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر- رضى الله عنهم-، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا.
فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلى بالناس.
وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرقوا.
ثم سرية أبى عبيدة بن الجراح. وسماها البخارى: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط.
__________
(1) قاله الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 513) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 131) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 386 387) .(1/365)
وبعث معه- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة، كما فى الصحيحين وغيرهما «1» وهو المشهور، لكن فى رواية النسائى: وبضع عشرة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر فى الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب.
وكان فيهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
يتلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة.
ولا منافاة بينهما: فالجهة أرض جهينة، والقصد تلقى عير قريش- وهى الإبل المحملة للطعام وغيره-.
لكن فى كتب السير: أن البعث إلى حى من جهينة بالقبلية- بفتح القاف والموحدة- مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال.
ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حى من جهينة.
وقال ابن سعد: وكانت فى رجب سنة ثمان.
وفيه نظر: فإن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون فى هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا فى الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية.
نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع فى شىء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر فى مكان واحد. فالله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر.
لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان فى رمضان من السنة المذكورة انتهى.
__________
(1) انظر القصة فى صحيح البخارى (4360- 4362) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، والنسائى (7/ 207) فى الصيد والذبائح، باب: ميتة البحر من حديث جابر- رضى الله عنه-.(1/366)
قالوا وزودهم- صلى الله عليه وسلم- جرابا من التمر، فلما فنى أكلوا الخبط- وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفى رواية أبى الزبير:
وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا.
وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوى، ويدل عليه حديث البخارى فى الجهاد- خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا حتى فنى زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة «1» .
وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم «2» .
وأخرج الله لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا.
وفى رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فنى زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صلحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته «3» الحديث.
زاد الشيخان فى رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شىء من لحمه فتطعمونا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه فأكل «4» .
ثم سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة وهى أرض محارب
__________
(1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(2) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5493 و 5494) فى الذبائح والصيد، باب: قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، ومسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4362) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) فيما تقدم.(1/367)
بنجد، فى شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، وكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
ثم سرية أبى قتادة أيضا إلى بطن أضم- فيما بين ذى خشب وذى المروة- على ثلاثة برد من المدينة، فى أول شهر رمضان سنة ثمان.
وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر، سرية إلى بطن أضم، ليظن ظان أنه- صلى الله عليه وسلم- توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً «1» إلى آخر الآية «2» رواه أحمد، وهو عند ابن جرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة فى بردين فجلس بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليستغفر له، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا غفر الله لك، فقام يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه.
وفى رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يريد أن يعظكم «3» .
ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبى حدرد ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاى والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء: 94.
(2) انظر القصة بنحوها فى «صحيح البخارى» (4591) فى التفسير، باب: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، ومسلم (3025) فى التفسير، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (5/ 222) ، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 540) .(1/368)
ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال فى زاد المعاد:
«الفتح الأعظم، الذى أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذى جعله هدى للعاملين من أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتح الذى استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا» «1» .
خرج له- صلى الله عليه وسلم- بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذى وقع بالحديبية. فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده.
وكان بين بنى بكر وخزاعة حروب وقتلى فى الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلى من بنى بكر فى بنى الديل حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال.
وأمدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا فى خفية.
وخرج عمرو بن سالم الخزاعى فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخبرونه بالذى أصابهم ويستنصرونه. فقام وهو يجر رداءه وهو يقول: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسى» «2» .
وفى المعجم الصغير للطبرانى، من حديث ميمونة أنها سمعته- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) قاله ابن القيم فى «الهدى» (3/ 394) .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 161- 162) بنحوه عن عائشة وقال: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.(1/369)
يقول فى متوضئه ليلا: «لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا» ، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول فى متوضئك: لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا، كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم-:
«هذا راجز بنى كعب يستصرخنى ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بنى بكر» .
ثم خرج- عليه السّلام- فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدرى، فقال:
والله ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت:
والله لا علم لى. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده:
يا رب إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
أن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا ... فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
قال فى القاموس: وتربد- يعنى بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق:
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نصرت يا عمرو بن سالم» «1» .
فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبى هريرة بعض الأبيات المذكورة.
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد فى المدة. فأبى عليه، فانصرف إلى مكة.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 234) وفى «الدلائل» (5/ 5- 7) .(1/370)
فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غير إعلام أحد بذلك.
فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك.
فقال- عليه السّلام- لعلى بن أبى طالب والزبير والمقداد: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها» . قال فانطلقنا.. حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجى الكتاب، قالت: ما معى كتاب. قلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فقال: «يا حاطب، ما هذا؟» . قال: يا رسول الله لا تعجل على، إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش- يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن ذنبى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق، فقال:
«إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «1» «2» . رواه البخارى.
قال فى فتح البارى: وإنما قال عمر- رضى الله عنه-: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة فى الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما
__________
(1) سورة الممتحنة: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3007) فى الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم- وقصة حاطب بن أبى بلتعة- رضى الله عنه-.(1/371)
أمر به النبى- صلى الله عليه وسلم- استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن فى قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر.
وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا ألاضرر فيه.
وعند الطبرى أيضا: عن عروة: فإنى غافر لكم. وهذا يدل على أن المراد: ب «غفرت» أغفر، على طريق التعبير عن الآتى بالواقع مبالغة فى تحققه.
قال: والذى يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله فى كل من أخبر عنه بشىء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شىء من أحدهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم قاله القرطبى.
وذكر بعض أهل المغازى- وهو فى تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذى كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلى.
وروى الواقدى بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أذن فى الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لى عندكم يد. انتهى.
وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق.
فكان المسلمون فى غزوة الفتح: عشرة آلاف.
وفى «الإكليل» و «شرف المصطفى» اثنى عشر ألفا.(1/372)
ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل أبا رهم الغفارى.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قاله الواقدى.
وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان «1» .
فما قاله الواقدى ليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه. وفى تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة «2» ، ولأحمد: ثمانى عشرة «3» ، وفى أخرى: لثنتى عشرة «4» ، والذى فى المغازى: لتسع عشرة مضت. وهو محمول على الاختلاف فى أول الشهر، وفى أخرى: تسع عشرة أو سبع عشرة «5» على الشك.
ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الكديد- بفتح الكاف- الماء الذى بين قديد وعسفان أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر «6» . رواه البخارى، وفى أخرى: أفطر وأفطروا، الحديث.
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنه راض.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 87) ، وأصله فى الصحيح.
(2) هى عند مسلم (1116) فى الصيام، باب: جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر فى غير معصية.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 92) .
(4) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 45) .
(5) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 71) .
(6) صحيح: أخرجه البخارى (4275 و 4276) فى المغازى، باب: غزوة الفتح فى رمضان، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(1/373)
وكان ممن لقيه فى الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبى سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له- عليه السّلام- بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة.
وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبى أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض- صلى الله عليه وسلم- عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال على لأبى سفيان- فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى-: ائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «1» فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم-: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «2» «3» .
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلم حياء منه.
قالوا: ثم سار- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.
ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان ابن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.
وفى البخارى: (فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما
__________
(1) سورة يوسف: 91.
(2) سورة يوسف: 92.
(3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 46- 48) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بسند جيد.(1/374)
هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلم أبو سفيان.
فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبى- صلى الله عليه وسلم-: تمر كتيبة كتيبة على أبى سفيان. فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: مالى ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار) «1» .
بالمعجمة المكسورة: الهلاك.
قال الخطابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظى وحمايتى من أن ينالنى مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله، ما آمن أن يكون لسعد فى قريش صولة. فقال لعلى: «أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها» .
وقد روى الأموى فى المغازى: أن أبا سفيان قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: «لا» ، فذكر له ما قال سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال: «يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا» ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4280) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح.(1/375)
وعند ابن عساكر من طريق أبى الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت:
يا نبى الهدى إليك لجا ... حى قريش ولات حين لجائى
حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء
إن سعدا يريد قاصمة الظه ... ر بأهل الحجون والبطحاء
فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس.
وعند أبى يعلى من حديث الزبير أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناده ضعيف جدّا. لكن جزم موسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التى نزعت من سعد.
والذى يظهر فى الجمع أن عليّا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشى تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شىء يكرهه النبى- صلى الله عليه وسلم- فسأل النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير.
قال فى رواية البخارى (.. ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وراية النبى- صلى الله عليه وسلم- مع الزبير، فلما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبى سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا فقال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. قال وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز رايته بالحجون.
قال: وقال عروة أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز الراية؟ قال: نعم.(1/376)
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء- أى بالفتح والمد- ودخل النبى- صلى الله عليه وسلم- من كدى- أى بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: جيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهرى) «1» .
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية فى البخارى أيضا أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلاها.
يعنى حديث ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد «2» ، وحديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة وغيرهما «3» .
قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال:
وبعث- صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه.
وبعث خالد بن الوليد فى قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت.
وبعث سعد بن عبادة فى كتيبة الأنصار فى مقدمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بنى بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال.
__________
(1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2988) فى الجهاد والسير، باب: الردف على الحمار.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4290) فى المغازى، باب: دخول النبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلى مكة.(1/377)
وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
قال: ونظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى البارقة فقال: «ما هذا؟ وقد نهيت عن القتال» .
فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم.
قال: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: «لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟» فقال هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدى ما استطعت، قال: «قضاء الله خير» .
وعند ابن إسحاق: فلما نزل- صلى الله عليه وسلم- مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة النبى- صلى الله عليه وسلم- لكى يجد أحدا فيعلم أهل مكة بمجىء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليستأمنوه، فسمع صوت أبى سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم- فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة.
ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس.
وروى أن عمر- رضى الله عنه- لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، دعنى أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إنى قد أجرته. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ، فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا الله؟» فقال: بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنى شيئا. ثم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففى النفس منها شىء.
فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس:(1/378)
يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: «نعم» .
وأمر- صلى الله عليه وسلم- فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين «1» .
وهم كما قال مغلطاى: عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم. وابن خطل: قتله أبو برزة. وقينتاه وهما: فرتنى- بالفاء المفتوحة، والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون- وقريبة- بالقاف والراء والموحدة مصغرا- أسلمت إحداهما وقتلت الآخرى.
وذكر غير ابن إسحاق أن التى أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت. وسارة:
مولاة لبنى المطلب، أسلمت، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفى بن هشام.
وأرنب- علم امرأة- وقريبة: قتلت وعكرمة بن أبى جهل: أسلم. والحويرث ابن نقيد قتله على. ومقيس بن صبابة- بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثى. وهبار بن الأسود: أسلم وهو الذى عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين هاجرت فنخس بها بعيرها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها. وكعب بن زهير: أسلم. وهند بنت عتبة: أسلمت. ووحشى بن حرب: أسلم انتهى. وابن خطل: بفتح الخاء والطاء المهملة. وابن نقيد:
بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا.
ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة. وقد جمع الواقدى عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة.
وروى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى هريرة قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر. بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أى الذين بغير سلاح- فقال لى يا أبا هريرة، اهتف لى بالأنصار، فهتف بهم فجاؤا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (3021) فى الخراج والفىء، باب: ما جاء فى خبر مكة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث له شواهد عند مسلم (1780) وسيأتى فى الحديث الآتى.(1/379)
بإحدى يديه على الآخرى: احصدوهم حصدا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم-: «من أغلق بابه فهو آمن» «1» .
قال فى فتح البارى: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعى، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه- صلى الله عليه وسلم- بأنها أحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسى به فى ذلك.
وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها، ويترك لهم دورهم.
وأما قول النووى: واحتج الشافعى بالأحاديث المشهورة بأن النبى صلى الله عليه وسلم- صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذى أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» كما تقدم وكذا من دخل المسجد- كما عند ابن إسحاق- فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذى ورد فى الأحاديث الصحيحة ظاهر فى أن قريشا لم يلتزموا بذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1780) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، والنسائى فى «الكبرى» (11298) ، وأحمد فى «مسنده» (2/ 538) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(1/380)
ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فى كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبى بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة، قال: «نعم» «1» .
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وفى البخارى من حديث أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر- وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفى المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتله «2» .
وفى حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطنى والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعة لا أؤمنهم فى حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبى سرح. قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير» «3» . الحديث.
وفى حديث سعد بن أبى وقاص عند البزار والحاكم والبيهقى فى الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 164) عن ميمونة بنت الحارث زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير وفيه يحيى بن سليمان بن فضلة وهو ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4286) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح.
(3) لم أقف عليه، وانظر ما بعده.(1/381)
وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله «1» . الحديث.
وروى ابن أبى شيبة من طريق أبى عثمان النهدى: أن أبا برزة الأسلمى قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله.
ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد فى تعيين قاتله، وبه جرم البلاذرى وغيره من أهل الأخبار.
وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام فى السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمى اشتركا فى قتله.
وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه- صلى الله عليه وسلم- مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه- وكان مسلما- ونزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويضع له طعاما ونام، قاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد الله. وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال.
وفى رواية أبى داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبى سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فلما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآنى كففت
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 62) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (757) ، والدار قطنى فى «سننه» (3/ 59 و 4/ 167) بسند صحيح.(1/382)
يدى عن بيعته فيقتله؟» فقالوا: يا رسول الله ما ندرى ما فى نفسك، ألا أومأت إلينا؟ فقال: «إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» «1» .
الحديث.
قال مالك- كما فى رواية البخارى-: ولم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما نرى يومئذ محرما «2» . انتهى. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدى عن مالك جازما به. أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح مكة عليه عمامة سوداء بغير إحرام «3» . وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبى- صلى الله عليه وسلم- مكة إلا محرما إلا يوم الفتح. وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟ فالمشهور من مذهب الشافعى عدم الوجوب مطلقا.
وفى قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب.
والمشهور عن الأئمة الثلاثة: وفى رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوى الحاجات المتكررة، واستثنى الحنيفة من كان داخل الميقات والله أعلم.
وقد زعم الحاكم فى الإكليل: أن بين حديث أنس فى المغفر وبين حديث جابر فى العمامة السوداء معارضة.
وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2683) فى الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، والنسائى (7/ 105) فى تحريم الدم، باب: الحكم فى المرتد، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2) ذكره البخارى عقب الحديث (4286) وقد تقدم تقريبا.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (1358) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.(1/383)
ويؤيده: أن فى حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء «1» . أخرجه مسلم أيضا. وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضى عياض.
وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وفى البخارى: عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل غدا، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «وهل ترك لنا عقيل من منزل؟» وفى رواية: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» . وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا على شيئا لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. فكان عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر «2» .
وفى رواية أخرى له قال- صلى الله عليه وسلم- منزلنا إن شاء الله- إذا فتح الله- الخيف، حيث تقاسموا على الكفر. يعنى به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى عبد المطلب: ألايناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- «3» ، كما تقدم.
وفى رواية أخرى له: أنه يوم فتح مكة اغتسل فى بيت أم هانىء، ثم صلى الضحى ثمانى ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود «4» .
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1588) فى الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها.
(3) صحيح: أخرجه البخارى برقم (3058) فى الجهاد والسير، باب: إذا أسلم قوم فى دار الحرب ولهم مال وأرضون فهى لهم.
(4) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (1104) فى الجمعة، باب: من تطوع فى السفر، ومسلم (336) فى الصلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، من حديث أم هانىء- رضى الله عنها-.(1/384)
وأجارت أم هانىء حموين لها، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» «1» ، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة، كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها على بن أبى طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-.
ولما كان الغد من يوم الفتح قام- صلى الله عليه وسلم- خطيبا فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» «2» .
ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل بكم؟» . قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، أى: الذين أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التى أحلت له- عليه السّلام- ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله فى فتح البارى.
ولقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسى حيث يقول فى قصيدته المشهورة:
ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم ... تضيق عنها فجاج الوعث والسهل
خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... فى قاتم من عجاج الخيل والإبل
وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسحل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (357) فى الصلاة، باب: الصلاة فى الثوب الواحد ملتحفا به، ومسلم (336) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، من حديث أم هانىء- رضى الله عنها-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (104) فى العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (1354) فى الحج، باب: تحريم مكة، من حديث أبى شريح- رضى الله عنه-.(1/385)
وأنت صلى عليك الله تقدمهم ... فى بهو إشراق نور منك مكتمل
ينير فوق أغر الوجه منتجب ... متوج بعزيز النصر مقتبل
يسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل
خشعت تحت بهاء العز حين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل
وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملكت إذ نلت منه غاية الأمل
والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجو يزهر إشراقا من الجذل
والخيل تختال زهوا فى أعنتها ... والعيس تنثال رهوا فى ثنى الجدل
لولا الذى خطت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذى حول
أهل ثهلان بالتهليل من طرب ... وذاب يذبل تهليلا من الذبل
الملك لله هذا عز من عقدت ... له النبوة فوق العرش فى الأزل
شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السهل والقلل
قالوا محمد قد زادت كتائبه ... كالأسد تزأر فى أنيابها العصل
فويل مكة من آثار وطأته ... وويل أم قريش من جوى الهبل
فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللوم والعذل
أضربت بالصفح صفحا عن غوائلهم ... طولا أطال مقيل النوم فى المقل
رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الروع والوجل
عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل
أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها ... وأكرم الناس صفحا عن ذوى الزلل
وطفت بالبيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح فى شغل
والجحفل: الجيش العظيم. وقذف الأرجاء: أى متباعدها. واللجب:
بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات. والعرمرم: الضخم الكثير العدد. وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل فى سده الأفق، واسوداده بالسلاح.
والمنسحل: - بالحاء المهملة- الماضى فى سيره يتبع بعضه بعضا. وقوله: فى بهو إشراق: شبه النور الذى يغشاه- عليه السّلام- ببهو أحاط به. والبهو: البناء العالى كالإيوان ونحوه. والمنتجب: المتخير أصل نجيب، أى كريم، والمقتبل:
المستقبل الخير. وترتجف: تهتز. والزهور: الخفة من الطرب، يعنى: أن(1/386)
الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أى كادت تهتز، قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «1» . والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المصفور. وثنى الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أى انعطف. وثهلان:
اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا. والذبل:
الرماح الذوابل وهى التى لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست.
وتهليلا: أى صياحا، جبنا وفزعا. يعنى: لولا ما سبق من تقدير الله أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق. وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب. وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أى فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب: الطرق فى الجبال. والسهل:
خلاف الجبل. والقلل: رؤس الجبال. يعنى أنه- صلى الله عليه وسلم- عفا عنهم بعد ما تصدعوا، أى تفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل.
وقوله: كالأسد تزأر فى أنيابها العصل: أى المعوجة. والله أعلم.
ولما فتح الله مكة على رسوله- صلى الله عليه وسلم- قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟
وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال:
«ماذا قلتم؟» قالوا: لا شىء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم-: «معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم» «2» .
وهم فضالة بن عمير أن يقتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفضالة» ، قال: نعم يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شىء، كنت أذكر الله، فضحك صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «استغفر الله» ، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه،
__________
(1) سورة الأحزاب: 10.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1780) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(1/387)
وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدرى حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه «1» .
وطاف- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا» ، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقى «2» .
وفى رواية أبى نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.
وفى تفسير العلامة ابن النقيب المقدسى «3» : إن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم- بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتح مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول: وقل جاء الحق وزهق الباطل، فصار صلى الله عليه وسلم- يطعن الأصنام التى حول الكعبة بمحجنة ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة.
قال: وفى معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال:
قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريح: جاء الجهاد وذهب الشرك، وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان.
وقال ابن عباس: وجد- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، ويخرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى فقال: «أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولى دونك» فأوحى الله
__________
(1) انظره فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 417) .
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 72) وذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 176) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفيه عاصم بن عمر العمرى، وهو متروك، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطىء ويخالف، وبقية رجاله ثقات.
(3) هو: أبو عبد الله، جمال الدين، محمد بن سليمان بن الحسن البلخى المقدسى، المعروف بابن النقيب المقدسى، مفسر من فقهاء الحنفية، توفى سنة 698 هـ.(1/388)
تعالى إليه إنى سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل- عليه الصلاة والسلام- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما ويطعن فى عينه أو بطنه بمخصرته ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل» ، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا. وبقى صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر «1» . فقال يا على: ارم به، فحمله- عليه السّلام- حتى صعد ورمى به وكسره. فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى.
وعن ابن عباس قال: لما قدم- صلى الله عليه وسلم- أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل فى أيديهما الأزلام، يعنى: القداح التى كانوا يستقسمون بها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط» . فدخل البيت وكبر فى نواحيه ولم يصل فيه «2» . رواه الترمذى.
وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: «ائتنى بالمفتاح» ، فذهب إلى أمة فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبى، فأعطته إياه، فجاء به النبى- صلى الله عليه وسلم- فدفعه إليه، ففتح الباب «3» رواه مسلم.
وروى الفاكهى من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبى طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله المفتاح ففتحها بيده.
__________
(1) الصفر: هنا هو الذهب.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1601) فى الحج، باب: من كبر فى نواحى الكعبة، وأبو داود (2027) فى المناسك، باب: الصلاة فى الكعبة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4400) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (1329) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، إلا أنه فيها بلفظ قريب من لفظ المصنف.(1/389)
وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبى طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبى، بفتح المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبى طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية.
واسم أم عثمان: سلافة- بضم السين المهملة والتخفيف والفاء-.
وفى الطبقات لابن سعد عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الإثنين والخميس. فأقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عنى ثم قال: «يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت» ، فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال: «بل عمرت وعزت يومئذ» ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منى موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: «يا عثمان ائتنى بالمفتاح» فأتيته به فأخذه منى، ثم دفعه إلى وقال: «خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» . قال:
فلما وليت نادانى، فرجعت إليه فقال: «ألم يكن الذى قلت لك؟!» قال:
فذكرت قوله لى بمكة قبل الهجرة: «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى حيث شئت» . قلت: بلى أشهد أنك رسول الله «1» .
وفى التفسير: أن هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «2» نزلت فى عثمان بن طلحة الحجبى. أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى على يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى الله عليه وسلم- البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية. وأمر- صلى الله عليه وسلم- عليّا أن يرد المفتاح إلى
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (2/ 137) .
(2) سورة النساء: 58.(1/390)
عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك على، فقال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟!
فقال على: لقد أنزل الله فى شأنك قرآنا. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. فجاء جبريل- عليه السّلام- فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة فى أولاد عثمان. فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة فى أولاده! إلى يوم القيامة «1» .
قال ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» : قوله: «لو اعلم أنه رسول الله لم أمنعه» هذا وهم، لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا.
وعن الكلبى: لما طلب- صلى الله عليه وسلم- المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال:
هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه ونزلت الآية. قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقول.
وفى رواية لمسلم: دخل- صلى الله عليه وسلم- هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان ابن طلحة الحجبى فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانين، وذهب عنى أسأله: كم صلى «2» .
وفى إحدى روايات البخارى: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه «3» .
وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله فى الرواية الآخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان
__________
(1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 517) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (468) فى الصلاة، باب: الأبواب والغلق للكعبة والمساجد، ومسلم (1329) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره.
(3) هذه الرواية عند البخارى برقم (505) فى الصلاة، باب: الصلاة بين السوارى فى غير جماعة.(1/391)
اثنين، ولهذا عقبه البخارى برواية إسماعيل بن أبى أويس التى قال فيها:
عمودين عن يمينه «1» .
ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى قوله: وكان البيت يومئذ.
لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى.
ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما، ولفظ «المتقدمين» فى إحدى روايات البخارى مشعر به.
وفى رواية لمسلم جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعى، وبشر بن عمر فى إحدى الروايتين عنهما.
وقد جمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث.
وجزم البيهقى بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبى وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعى وابن مهدى وفى إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح البارى «2» .
وقد بين موسى بن عقبة فى روايته عن نافع أن بين موقفه- صلى الله عليه وسلم- وبين الجدار الذى استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وفى كتاب مكة للأزرقى، والفاكهى: أن معاوية سأل ابن عمر: أين
__________
(1) هى تتمة الرواية السابقة.
(2) انظر «فتح البارى» (1/ 579) .(1/392)
صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغى لمن أراد الاتباع فى ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه فى مكان قدميه- صلى الله عليه وسلم- إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من من ثلاثة أذرع والله أعلم.
وفى رواية عن ابن عباس قال: أخبرنى أسامة أنه- صلى الله عليه وسلم- لما دخل البيت دعا فى نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع فى قبل البيت ركعتين وقال: «هذه القبلة» «1» رواه مسلم.
والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى فى الكعبة كما رواه أحمد والطبرانى: بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد فى ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما فى علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسوال ثم أراد زيادة الاستثبات فى مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا.
قال النووى: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. قال: وأما نفى أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعو ثم اشتغل أسامة فى ناحية من نواحى البيت والنبى- صلى الله عليه وسلم- فى ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته- عليه السّلام- خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى.
وتعقبوه بما يطول ذكره. وأقرب ما قيل فى الجمع: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتى بماء يمحو به الصور التى كانت فى الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (398) فى الصلاة، باب: قول الله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، ومسلم (1330) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره.(1/393)
أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسى عن أسامة بن زيد قال:
دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به فجعل- صلى الله عليه وسلم- يمحوها ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» «1» ورجاله ثقات.
وأفاد الأزرقى- فى تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه- صلى الله عليه وسلم- الناس.
وفى البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام خمس عشرة ليلة، وفى رواية: تسع عشرة «2» . وفى رواية أبى داود: سبع عشرة «3» .
وعند الترمذى: ثمانى عشرة «4» .
وفى الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة.
وقال الفاسى فى تاريخ مكة: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان.
ثم سرية خالد بن الوليد «5» عقب فتح مكة إلى العزى بنخلة، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم. لخمس ليال بقين من رمضان، وسنة ثمان، ومعه ثلاثون ليهدمها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 173) عن أسامة بن زيد وقال: رواه الطبرانى، وفيه خالد ابن زيد العمرى، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، ا. هـ. وانظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (8/ 17) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4298) فى المغازى، باب: مقام النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة زمن الفتح، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، أما رواية خمسة عشر فهى عند النسائى (3/ 121) فى تقصير الصلاة، باب: المقام الذى يقصر بمثله الصلاة.
(3) أخرجه أبو داود (1230) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر.
(4) قلت الذى فى الترمذى (549) رواه تسعة عشر كرواية الصحيح، إلا أنه فى الحديث الذى يليه (550) عن البراء بن عازب قال: «صحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر شهرا فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر، فلعله سبق قلم أن أفضل رواية ثمانية عشر تلك عن التى قبلها.
(5) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 145- 146) .(1/394)
فأخبره. فقال: «هل رأيت شيئا» قال: لا، قال «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» ، فرجع فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره فقال: «نعم، تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» «1» .
ثم سرية عمرو بن العاصى «2» إلى سواع صنم هذيل على ثلاثة أميال من مكة. فى شهر رمضان سنة ثمان- حين فتح مكة-.
قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت أمرنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟ قال:
تمنع، فقلت: ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته ثم قلت للسادن كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
ثم سرية سعد بن زيد الأشهلى «3» إلى مناة، صنم للأوس والخزرج بالمشلل، فى شهر رمضان، حين فتح مكة، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها، قال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك.
فأقبل سعد يمشى إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه وانصرف راجعا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك لست بقين من رمضان.
ثم سرية خالد بن الوليد «4» إلى بنى جذيمة، قبيلة من عبد القيس، أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، فى شوال سنة ثمان. وهو يوم الغميصاء.
__________
(1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى، (5/ 77) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 111) .
(3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 111) .
(4) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 428 و 431) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 147- 148) .(1/395)
بعثه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من هدم العزى، وهو- صلى الله عليه وسلم- مقيم بمكة، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا، داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا، فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا.
وفى البخارى: لم يحسنوا أن يقولوا ذلك فقالوا صبأنا فقال لهم:
استأسروا فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا، وفرقهم فى أصحابه، فلما كان السحر، نادى منادى خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم.
فبلغ ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك من فعل خالد» «1» . وبعث عليّا فودى قتلاهم.
قال الخطابى: يحتمل أن يكون نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا، وأنكر- صلى الله عليه وسلم- العجلة وترك التثبت فى أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا.
ثم غزا- صلى الله عليه وسلم- حنينا «2» - بالتصغير- وهو واد قرب ذى المجاز، وقيل:
ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن.
وذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصرى «3» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4229) فى المغازى، باب: بعث النبى- رضى الله عنه- خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 437- 500) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 149- 158) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 125) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 610- 651) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 465- 476) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (3/ 5- 28) .
(3) بالصاد المهملة، نسبة إلى جده الأعلى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، أما مالك نفسه فقد أسلم، وكان من المؤلفة، وصحب ثم شهد القادسية وفتح دمشق.(1/396)
فخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال، فى اثنى عشر ألفا من المسلمين. عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعنى: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، وأحدهم طليق- فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله.
واستعمل- صلى الله عليه وسلم- على مكة عتاب بن أسيد. وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان- صلى الله عليه وسلم- استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.
فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب.
ووجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم.
وفى حديث سهل بن الحنظلية- عند أبى داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: إنى انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله تعالى» .. «1» .
وقوله عن بكرة أبيهم: كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة فى الحقيقة، وهى التى يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا.
وقوله: بظعنهم: أى نسائهم، واحدتها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التى يرحل ويظعن عليها، أى يسار، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501) فى الجهاد، باب: فى فضل الحرس فى سبيل الله تعالى، والنسائى فى «الكبرى» (8870) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 93) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 149) ، وفى «الدلائل» (5/ 125- 126) ، والطبرانى فى «الكبير» (6/ 96) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/397)
زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة:
المرأة فى الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة ظعينة.
انتهى.
وروى يونس بن بكير، فى زيادة المغازى عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبى- صلى الله عليه وسلم-.
ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- بغلته البيضاء «دلدل» ولبس درعين والمغفر والبيضة.
فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك فى غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادى، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بنى سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس.
ولم يثبت معه- صلى الله عليه وسلم- يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، فى أناس من أهل بيته وأصحابه.
قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتقدم فى نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل- عليه السّلام- يقول للعباس: «ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» يعنى شجرة بيعة الرضوان- التى بايعوه تحتها، ألايفروا عنه.
فجعل ينادى تارة يا أصحاب السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة وكان العباس رجلا صيتا- فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها.
وفى رواية لمسلم: قال العباس: فو الله لكأن عطفتهم- حين سمعوا صوتى- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، يا لبيك. فتراجعوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
فأمرهم- صلى الله عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول(1/398)
الله- صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى قتالهم فقال: الآن حمى الوطيس، وهو التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذى يشبه حرها حره. وهذه من فصيح الكلام الذى لم يسمع من أحد قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وتناول- صلى الله عليه وسلم- حصيات من الأرض ثم قال: «شاهت الوجوه» - أى قبحت- ورمى بها فى وجوه المشركين، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة «1» .
وفى رواية لمسلم: قبضة من تراب الأرض «2» . فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب.
ولأحمد وأبى داود والدارمى، من حديث أبى عبد الرحمن الفهرى فى قصة حنين قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «أنا عبد الله ورسوله» ، ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفّا من تراب.
قال: فأخبرنى الذى كان أدنى إليه منى أنه ضرب وجوههم وقال: «شاهدت الوجوه فهزمهم الله» . قال يعلى بن عطاء راوية عن أبى همام عن أبى عبد الرحمن الفهرى فحدثنى أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد «3» - بالجيم-.
قال فى النهاية: وصف الطست وهى مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقى فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما يوصف به المذكر، نحو امرأة قتيل. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1775) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، وأحمد فى «مسنده» (1/ 207) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7049) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1777) فى الجهاد، باب: فى غزوة حنين، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (5233) فى الأدب، باب: فى الرجل ينادى الرجل فيقول لبيك، والدارمى فى «سننه» (2452) ، وأحمد فى «مسنده» (5/ 286) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/399)
ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به- صلى الله عليه وسلم- بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله، فقال: «ناولنى كفّا من تراب» ، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بإيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار «1» .
وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم فى آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال:
فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا.
قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا «2» .
وفى سيرة الدمياطى: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم.
وفى حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوى من السماء.
والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم الله بهم، قاله ابن الأثير.
وفى البخارى: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» «3» .
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 453) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 128) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 169) .
(2) أخرجه ابن جرير الطبرى فى «تفسيره» (10/ 103) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين.(1/400)
وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال:
أنا النبى، والنبى لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذى وعدنى الله به من النصر حق، فلا يجوز علىّ الفرار.
وأما ما فى مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: «فأرجع منهزما» إلى قوله: «مررت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهزما» فقال: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا» «1» فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع- لا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبى- صلى الله عليه وسلم- انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه- عليه السّلام- ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم فى موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه- صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو.
وقد تقدم فى غزوة أحد ما نسب لابن المرابط، من المالكية، مما حكاه القاضى عياض فى الشفاء: أن من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطى تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة يعنى: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى.
قال بعضهم: وقد كان ركوبه- صلى الله عليه وسلم- البغلة فى هذا المحل الذى هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا لنبوته، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام النبوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب فى العادة إلا الخيل فبين- صلى الله عليه وسلم- أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة فى الحرب معه- صلى الله عليه وسلم- على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم فى الحرب إلا للخيل، والسر فى ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1777) فى «الجهاد والسير» ، باب: فى غزوة حنين.(1/401)
وعند ابن أبى شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة: لم يبق- عليه الصلاة والسلام- إلا أربعة نفر، ثلاثة من بنى هاشم ورجل من غيرهم: على العباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وفى الترمذى بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأينا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مائة رجل «1» .
وفى شرح مسلم للنووى: أنه ثبت معه- صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر رجلا وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق.
ووقع فى شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله:
نصرنا رسول الله فى الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسّه فى الله لا يتوج
وقد قال الطبرى: الانهزام المنهى عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة، انتهى.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر، لأن الشاعر إنما سمى شاعرا لوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا.
والنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا.
وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: ابن عبد الله، فأجيب: بأن شهرته بجده كانت أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفى فى حياة
__________
(1) صحيح الإسناد: أخرجه الترمذى (1689) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الثبات عند القتال، والحديث صحح إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/402)
أبيه عبد المطلب قبل مولده- صلى الله عليه وسلم-، وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبى- صلى الله عليه وسلم- ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة فى قوله:
أيكم ابن عبد المطلب «1» . وقيل غير ذلك.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- أن يقتل من قدر عليه، وأفضى المسلمون فى القتل إلى الذرية، فنهاهم- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
وقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة وحده ذلك اليوم عشرين رجلا.
وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان الله تعالى وعد رسوله أنه إذا فتح مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحربه- صلى الله عليه وسلم-، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التى لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ولم يدخل بلده وحرمه كما دخل- عليه الصلاة والسلام- واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال:
لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذى تولى نصر رسوله ودينه، لاكثرتكم التى أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد: أنزل الله سكينته
__________
(1) صحيح: وحديث ضمام أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/403)
على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض.
قال: وبهاتين الغزوتين- أعنى حنينا وبدرا- قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجوه المشركين بالحصباء فيهما. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. انتهى «1» .
وأمر- صلى الله عليه وسلم- بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس.
واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن.
وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا.
ثم سرية أبى عامر الأشعر، وهو عم أبى موسى الأشعرى، وقال ابن إسحاق: ابن عمه والأول أشهد.
بعثه- صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من حنين، فى طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس- وهو واد فى ديار هوازن- وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إليهم، فإذا هم ممتنعون فقتل منهم أبو عامر تسعة أخوة مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، ثم برز له العاشر فدعاه إلى الإسلام وقال اللهم اشهد عليه، فقال اللهم لا تشهد على فكف عنه أبو عامر فأفلت. ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا رآه قال: هذا شريد أبى عامر.
ورمى أبا عامر ابنا الحارث- العلاء وأوفى- فقتلاه، فخلفه أبو موسى الأشعرى فقاتلهم حتى فتح الله عليه.
وكان فى السبى الشيماء- أخته- عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة-.
وقتل قاتل أبى عامر. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنة» .
__________
(1) انظره فى «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 477- 478) .(1/404)
وفى رواية البخارى قال- يعنى أبا عامر لأبى موسى الأشعرى، لما رمى بالسهم-: يا ابن أخى: أقرىء النبى- صلى الله عليه وسلم- السلام، وقل له: يستغفر لى ثم مات. فرجعت فدخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بخبرنا وخبر أبى عامر، وقال قل له: استغفر لى، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: «اللهم اغفر لعبيدك أبى عامر» - ورأيت بياض إبطيه- ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» ... فقلت: ولى ... فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» . قال أبو بردة: إحداهما لأبى عامر والآخرى لأبى موسى «1» .
ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسى «2» إلى ذى الكفين، صنم من خشب، كان لعمرو بن حممة، فى شوال- لما أراد- صلى الله عليه وسلم- السير إلى الطائف- ليهدمه ويوافيه بالطائف.
فخرج سريعا فهدمه وجعل يحش النار فى وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إنى حشوت النار فى فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا النبى- صلى الله عليه وسلم- بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام. وعند مغلطاى: وقدم معه أربعة مسلمون.
غزوة الطائف «3» :
ثم غزوة الطائف، وهى بلد كبير، على ثلاث مراحل أو اثنين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب والفواكه. وقيل: إن أصلها أن جبريل- عليه
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4323) فى المغازى، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى موسى وأبى عامر الأشعريين.
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 119) .
(3) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 537- 543) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 140) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 652- 666) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 495- 502) .(1/405)
الصلاة والسلام- اقتلع الجنة التى كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمى الموضع بها.
وكانت أولا بنواحى صنعاء. واسم الأرض: وج، بتشديد الجيم المضمومة.
وسار إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين وحبس الغنائم بالجعرانة.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم بالطائف، وأغلقوه عليهم بعد أن دخلوا فيه ما يصلحهم لسنة. وتهيئوا للقتال.
وسار- صلى الله عليه وسلم- فمر بطريقة بقبر أبى رغال، وهو أبو ثقيف- فيما يقال- فاستخرج منه غصنا من ذهب «1» .
ونزل قريبا من الحصن وعسكر هناك. فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد «2» ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم: عبد الله بن أبى أمية. ورمى عبد الله بن أبى بكر الصديق يومئذ بجرح فاندمل ثم نقض بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه.
وارتفع- صلى الله عليه وسلم- إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين. وكان يصلى بين القبتين حصار الطائف كله.
فحاصرهم ثمانية عشر يوما، ويقال خمسة عشر يوما. ونصب عليهم المنجنيق وهو أول منجنيق رمى به فى الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسى معه لما رجع من سرية ذى الكفين، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال، فأمر- صلى الله عليه وسلم- بقطع أعنابهم وتحريقها. فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لله وللرحم» «3» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (3088) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: نبش القبور العادية يكون فيها المال، من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) الرّجل: بالكسر، الجراد الكثير.
(3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 120) .(1/406)
ثم نادى مناديه- صلى الله عليه وسلم-: أيما عبد نزل من الحصين وخرج إلينا فهو حر.
قال الدمياطى: فخرج منهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، وعند مغلطاى: ثلاثة وعشرون عبدا.
وفى البخارى عن أبى عثمان النهدى قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ... قال عاصم: «لقد شهد عندك رجلان ... أما أحدهما فأول من رمى بسهم فى سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف» «1» الحديث.
وأعتق- صلى الله عليه وسلم- من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة.
ولم يؤذن له- صلى الله عليه وسلم- فى فتح الطائف. وأمر عمر بن الخطاب فأذن فى الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: فاغدوا على القتال، فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: إنا قافلون إن شاء الله تعالى فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يضحك.
قال النووى: قصد- صلى الله عليه وسلم- الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه- صلى الله عليه وسلم- علم أولا، أو رجا أنه سيفتحه بعد ذلك بلا مشقة. فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد أقام، وجد فيه القتال حتى أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا ممن المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك- صلى الله عليه وسلم- تعجبا من تغير رأيهم.
وفقئت عين أبى سفيان صخر بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم- قال له وهى فى يده: «أيما أحب إليك عين فى الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك» قال: بل عين فى الجنة ورمى بها.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4327) فى المغازى، باب: غزوة الطائف.(1/407)
وشهد اليرموك فقاتل وفقئت عينه الآخرى يومئذ. ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح التقريب.
وقال- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: قولوا: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» .
فلما ارتحلوا قال: «آيبون، تائبون عابدون، لربنا حامدون» «1» .
فانظر كيف كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع يتعرى من ذلك ويرد الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره بقوله: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» «2» .
وانظر إلى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وهزم الأحزاب وحده» فنفى- صلى الله عليه وسلم- ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة، لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل، فهو لله سبحانه وتعالى الذى خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل، قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ «3» فيثبت سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «4» .
فعلى المكلف الامتثال فى الحالتين، أى: امتثال تعاطى الأسباب،
__________
(1) أخرجه بنحوه البخارى (1797) فى العمرة، باب: ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، ومسلم (1344) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: انظر ما قبله.
(3) سورة محمد: 4.
(4) سورة محمد: 31.(1/408)
والرجوع إلى المولى والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان- صلى الله عليه وسلم- يأتى الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية وتشريعا لأمته، ثم يظهر الله تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التى ادخرها له- عليه الصلاة والسلام-.
قال ابن الحاج فى المدخل: ولما قيل له: يا رسول الله، ادع على ثقيف.
فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أن يجمع السبى والغنائم مما أفاء الله على رسوله يوم حنين فجمع ذلك كله إلى الجعرانة، فكان بها إلى أن انصرف- عليه السّلام- من الطائف.
وكان السبى ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة.
واستأنى- صلى الله عليه وسلم-- أى انتظر وتربص- بهوازن أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة. ثم بدأ يقسم الأموال، فقسمها.
وفى البخارى: وطفق- صلى الله عليه وسلم- يعطى رجالا المائة من الإبل. فقال ناس من الأنصار يغفر الله لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطى قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟!
قال أنس: فحدث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم فى قبة من آدم، ثم قال لهم: «أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبى إلى رحالكم؟! فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» ، قالوا: يا رسول الله قد رضينا «2» .
وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه الناس مقفله
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3942) فى المناقب، باب: فى ثقيف وبنى حنيفة من حديث أبى الزبير عن جابر- رضى الله عنه-، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3147) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1059) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه.(1/409)
من حنين، علقت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعطونى ردائى، فلو كان لى عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونى بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا» «1» .
ورواه مسلم.
وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدى عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال.
قال ابن سيد الناس وهذا ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبى صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة ليلا، فأحرم بعمرة ودخل مكة.
وفى تاريخ الأزرفى أنه- صلى الله عليه وسلم- أحرم من وراء الوادى، حيث الحجارة المنصوبة.
وعند الواقدى: من المسجد الأقصى الذى تحت الوادى بالعدوة القصوى من الجعرانة. وكانت صلاته- عليه الصلاة والسلام- إذ كان الجعرانة به.
والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد، كما قاله الفاكهى. وقال الباجى:
ثمانية عشر ميلا، وسمى بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلى.
قالوا: وقدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوما.
وبعث- صلى الله عليه وسلم- قيس بن سعد بن عبادة «2» إلى ناحية اليمن فى أربعمائة فارس، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء، حين مروره عليهم فى الطرق.
فقدم زياد بن الحارث الصدائى، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، فقال:
__________
(1) قلت: بل هو عند البخارى برقم (3148) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 247) .(1/410)
يا رسول الله أنا ولفدهم، فاردد الجيش، وأنا لك بقومى، فردهم النبى صلى الله عليه وسلم- من قناة.
وقدم الصدائيون بعد خمسة عشر يوما فأسلموا. وتأتى قصة وفدهم فى الفصل العاشر من المقصد الثانى- إن شاء الله تعالى-.
وبعث عيينة بن حصن الفزارى «1» إلى بنى تميم بالسقيا- وهى أرض بنى تميم- فى المحرم سنة تسع فى خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى.
فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولّوا، فأخذوا منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا.
فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، منهم: عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، فجاؤا إلى باب النبى- صلى الله عليه وسلم- فنادوا: يا محمد اخرج إلينا فخرج- صلى الله عليه وسلم- وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر. ثم جلس فى صحن المسجد.
فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم.
ونزل فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ «2» . ورد عليهم صلى الله عليه وسلم- الأسرى والسبى «3» .
وفى البخارى: عن عبد الله بن الزبير: أنه قدم ركب من بنى تميم على النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافى. قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل فى ذلك: يا أَيُّهَا
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 121) .
(2) سورة الحجرات: 4.
(3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 313- 314) .(1/411)
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.... «1» حتى انقضت «2» . أى لا تقدموا القضاء فى أمر قبل أن يحكم الله ورسوله فيه.
ولما نزل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ «3» أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدى رسول الله إلا كمن يسارر صاحبه، فنزل فيه وفى أمثاله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ «4» الآية.
ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق من خزاعة يصدقهم، وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية. وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزر والغنم، فرحا به وتعظيما لله ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله.
فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- أنهم لقوة بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة.
فهمّ- صلى الله عليه وسلم- أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبى- صلى الله عليه وسلم- الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... «5» . إلى آخر الآية، فقرأ عليهم- صلى الله عليه وسلم- القرآن. وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن.
وفى «شرف المصطفى» للنيسابورى، مما ذكره مغلطاى أنه- عليه الصلاة والسلام- بعث عبد الله بن عوسجة إلى بنى عمرو بن حارثة، وقيل حارثة بن عمر- قال: وهو الأصح- فى مستهل صفر يدعوهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا بالصحيفة فدعا عليهم- صلى الله عليه وسلم- بذهاب العقل، فهم إلى أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط.
__________
(1) سورة الحجرات: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4367) فى المغازى، باب: رقم (68) .
(3) سورة الحجرات: 2.
(4) سورة الحجرات: 3.
(5) سورة الحجرات: 6.(1/412)
ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم «1» ، من تربة- بفتح الراء- من أعمال مكة سنة تسع، وبعث معه عشرين رجلا، وأمره أن يشن الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى فى الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة. وكانت سهمانهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس.
ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب «2» ، فى ربيع الأول سنة تسع، إلى القرطاء، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم وغنموهم.
ثم سرية علقمة بن مجرز المدلجى إلى طائفة من الحبشة «3» فى ربيع الآخر، وقال الحاكم فى صفر سنة تسع.
وذكر ابن سعد أن سبب ذلك: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة، فبعث إليهم بن مجزز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا.
فلما رجع، بعض القوم ألى أهليهم، فأمر عبد الله بن حداقة على من تعجل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال عزمت عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فلما همّ بعضهم بذلك قال:
اجلسوا، إنما كنت أمزح.
فذكروا ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه. ورواه الحاكم وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبى سعيد الخدرى.
وبوب عليه البخارى فقال: سرية عبد الله بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزز المدلجى، ويقال: إنها سرية الأنصارى. ثم روى حديثا عن على قال:
__________
(1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 122) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 123) .
(3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 123) .(1/413)
بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار. وأمرهم أن يطيعوه، فغضب فقال: أليس قد أمركم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن تطيعونى؟ قالوا: بلى، قال:
فاجمعوا حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوا، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا يقولون: فررنا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال:
«لو دخلوها ما خرجوا منها» «1» .
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: فى قوله: «ويقال إنها سرية الأنصارى» إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما واسم أميرهما. ويحتمل الجمع بينها بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمى القريشى المهاجرى بكونه أنصاريّا. ويحتمل أن يكون الحمل على المعنى الأعم، أى أنه نصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الجملة. وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزى فقال: قوله «من الأنصار» وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمى.
قال فى فتح البارى: ويؤيد حديث ابن عباس عند أحمد، فى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2» .
نزلت فى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سرية. انتهى.
وقال النووى: وهذا الذى فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم، وقيل: كان مازحا، وقيل: إن هذا الرجل عبد الله بن حذافة السهمى، قال:
وهذا ضعيف: لأنه قال فى الرواية التى بعدها إنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. انتهى.
ثم سرية على بن أبى طالب إلى الفلس «3» - بضم الفاء وسكون اللام-
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4340) فى المغازى، باب: سرية عبد الله بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزر المدلجى، ومسلم (1840) فى الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى المعصية.
(2) سورة النساء: 59.
(3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 124) .(1/414)
وهو صنم طيىء ليهدمه، فى ربيع الآخر سنة تسع، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا- وعند ابن سعد: مائتى رجل- فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء.
وكان فى السبى سفانة بنت حاتم، أخت عدى بن حاتم، فأطلقها النبى صلى الله عليه وسلم-، فكان ذلك سبب إسلام عدى.
وعند ابن سعد أيضا: أن الذى كان سباها خالد بن الوليد- رضى الله عنه-.
ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب «1» - موضع بالحجاز- أرض عذرة وبلى، وقيل أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة.
قصة كعب بن زهير مع النبى- صلى الله عليه وسلم- «2» ، وكانت فيما بين رجوعه صلى الله عليه وسلم- من الطائف وغزوة تبوك.
وكان من خبر كعب وأخيه بجير ما ذكره ابن إسحاق وعبد الملك بن هشام وأبو بكر محمد بن القاسم بن يسار بن الأنبارى، دخل حديث بعضهم فى حديث البعض: أن بجيرا قال لكعب: اثبت حتى آتى هذا الرجل- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجيرا، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسمع كلامه فامن به..
وذلك أن زهيرا فيما زعموا كان يجالس أهل الكتاب فسمع منهم أنه قد آن مبعثه- صلى الله عليه وسلم-، ورأى زهير فى منامه أنه قد مد سبب من السماء، وأنه قد مد يده ليتناوله، ففاته فأوله بالنبى الذى يبعث فى آخر الزمان، وأنه لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك، وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا.
قال ابن إسحاق: ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- من الطائف، كتب بجيرا بن زهير إلى أخيه كعب: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، وإن من بقى من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل
__________
(1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 124) .
(2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 501- 515) .(1/415)
وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن كنت لم تفعل فانج إلى نجائك.
وكان كعب قد قال:
ألا بلغا عنى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أى شىء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولا تلقى عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست باسف ... ولا قائل إما عثرت لعا لكا
سقاك بها المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا «1»
قال السهيلى: «لعا» كلمة تقال للعاثر دعاء له. انتهى.
قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنشده إياها. فقال- صلى الله عليه وسلم-: سقاك بها المأمون. صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون.. ولما سمع: على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. ثم قال- عليه الصلاة والسلام-: من لقى منكم بن زهير فليقتله.. فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات:
من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى على محرم
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه فقال: هو مقتول. فلما لم يجد من شىء بدا، قال قصيدته التى يمدح بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه.
__________
(1) كأسا روية: أى مروية، والنّهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثانى، والمأمون: يقصد النبى- صلى الله عليه وسلم- لما كانت تسميه به قريش الصادق الأمين.(1/416)
ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوضع يده فى يده- وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يعرفه- فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (نعم) قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الأنصار وقال: يا رسول الله دعنى وعدو الله أضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم-: «دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا» «1» . قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. ثم قال قصيدته اللامية التى أولها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
ومنها:
أنبئت أن رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن ولو كثرت فى الأقاويل
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
وفى رواية أبى بكر بن الأنبارى أنه لما وصل إلى قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
رمى- عليه الصلاة والسلام- إليه بردة كانت عليه. وأن معاوية بذل
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 674) ، والطبرانى فى «الكبير» (19/ 176) ، وهو منقول هذا الكلام بتمامه من «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 520- 526) .(1/417)
فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم. قال: وهى البردة التى عند السلاطين إلى اليوم.
قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: «إذا عرد السود التنابيل» وإنما عنى معشر الأنصار، لما كان صاحبهم صنع به، وخص المهاجرين بمدحته فغضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم- يمدح الأنصار- قصيدته التى يقول فيها:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالحى الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيارهم بنو الأخيار
المكرهين السمهرى بأدرع ... كسوالف الهندى غير قصار
والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى
وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وأبوه وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة.
غزوة تبوك «1» :
مكان معروف، وهى نصف طريق المدينة إلى دمشق.
وهى غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها.
وكانت يوم الخميس فى رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكر البخارى لها بعد حجّة الوداع لعله خطأ من النساخ.
وكان حرّا شديدا، وجدبا كثيرا، فلذلك لم يور عنها كعادته فى سائر الغزوات.
__________
(1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 515- 537) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 165- 168) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 142) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (4/ 3- 68) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 526- 537) .(1/418)
وفى تفسير عبد الرزاق، عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا فى قلة من الظهر وفى حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما فى كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة فى الماء وفى الظهر وفى النفقة، فسميت غزوة العسرة.
وسببها أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل. فندب- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الخروج وأعلمهم بالمكان الذى يريد، ليتأهبوا لذلك.
وروى الطبرانى من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذى خرج يدعى النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم.
فبعث رجلا من عظامائهم وجهز معه أربعين ألفا. فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم- ولم يكن للناس قوة.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية- يعنى من ذهب- قال: فسمعته يقول:
«لا يضر عثمان ما عمل بعدها» «1» .
وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا.
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار فى كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها فى حجره- صلى الله عليه وسلم-، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقلبها فى حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» «2» خرجه الترمذى وقال: حسن غريب.
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (18/ 231- 232) من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 191) وقال: رواه الطبرانى، وفيه العباس بن الفضل الأنصارى وهو ضعيف.
(2) حسن: أخرجه الترمذى (3701) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (5/ 63) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 110) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/419)
وعند الفضائلى والملاء فى سيرته، كما ذكره الطبرى فى الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان- يعنى فى جيش العسرة- بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصبت بين يديه، فجعل- صلى الله عليه وسلم- يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن يقول: «غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالى ما عمل بعدها» «1» .
ولما تأهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للخروج، قال قوم المنافقين: لا تنفروا فى الحر، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ «2» .
وأرسل- عليه السّلام- إلى مكة وقبائل العرب يستنفرهم.
وجاء البكاؤن يستحملونه، فقال- عليه السّلام-: لا أجد ما أحملكم عليه.
وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنى، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عنمة، وعبد الله بن مغافل، وعبد الله بن عمرو المزنى، وعمرو بن الحمام، ومعقل المزنى، وحرمى بن مازن، والنعمان وسويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن وهند بنو مقرن. وهم الذين قال الله فيهم: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ «3» قاله مغلطاى.
وفى البخارى عن أبى موسى قال: أرسلنى أصحابى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، أسأله الحملان لهم، يا نبى الله، إن أصحابى أرسلونى إليك لتحملهم، فقال «والله لا أحملكم على شىء» فرجعت حزينا من منع النبى
__________
(1) أخرجه أبو نعيم عن حسان بن عطية عن أبى موسى الأشعرى كما فى «كنز العمال» (32847) ، وابن عدى فى الكامل والدار قطنى، وأبو نعيم فى «فضائل الصحابة» ، وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان كما فى «كنز العمال» (36189) ، وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو نعيم فى «فضائل الصحابة» وابن عساكر عن حسان بن عطية كما فى «المصدر السابق» (36245) .
(2) سورة التوبة: 81.
(3) سورة التوبة: 92.(1/420)
- صلى الله عليه وسلم-، ومن مخافة أن يكون النبى- صلى الله عليه وسلم- وجد فى نفسه على فرجعت إلى أصحابى فأخبرتهم الذى قال النبى- صلى الله عليه وسلم-. فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادى: أين عبد الله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعوك. فلما أتيته قال: «خذ هاتين القرينتين وهاتين القرينتين لستة أبعرة ابتاعهم حينئذ من سعد، فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله، أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن» «1» الحديث.
وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل وبكى وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها، مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال النبى:
«أين المتصدق بهذه الليلة» فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدق بهذه الليلة؟» فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق فليقم، فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم-: «أبشر فو الذى نفس محمد بيده لقد كتبت فى الزكاة المقبلة» «2» رواه يونس والبيهقى فى الدلائل، كما ذكره السهيلى فى الروض له.
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فى التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا.
وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جرأة على الله ورسوله وهو قوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «3» .
واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطى: وهو عندنا أثبت ممن قال استخلق غيره. انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقى، فى ترجمة على بن أبى طالب من
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4415) فى المغازى، باب: غزوة تبوك وهى غزوة العسرة، ومسلم (1649) فى الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتى الذى هو خير ويكفر عن يمينه.
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 218، 219) .
(3) سورة التوبة: 91.(1/421)
شرح التقريب: لم يتخلف عن المشاهد إلا تبوك، فإن النبى- صلى الله عليه وسلم- خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال له يومئذ: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» «1» وهو فى الصحيحين من حديث سعد بن أبى وقاص.
انتهى. ورجحه ابن عبد البر.
وقيل: استخلف سباع بن عرفطة.
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وفيهم نزل وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «2» . وأبو ذر، وأبو خثيمة، ثم لحقاه بعد ذلك.
ولما رأى- صلى الله عليه وسلم- أبا ذر الغفارى- وكان- صلى الله عليه وسلم- نزل فى بعض الطريق- فقال: «يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده» «3» . فكان كذلك.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية.
وكان معه- صلى الله عليه وسلم- ثلاثون ألفا. وعند أبى زرعة سبعون ألفا، وفى رواية عنه أيضا أربعون ألفا. وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.
ولما مر- صلى الله عليه وسلم- بالحجر- بكسر الحاء وسكون الجيم- بديار ثمود قال:
«لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له» ففعل الناس، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعيره، فأما الذى خرج لحاجته فخنق على مذهبه وأما الذى خرج فى طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلى طيىء. فأخبر بذلك رسول
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4416) فى المغازى، باب: غزوة تبوك، ومسلم (2404) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-.
(2) سورة التوبة: 118.
(3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 52) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبى قائلا: إنه مرسل، وذلك لأن الراوى عن ابن مسعود، محمد بن كعب القرظى، لم تثبت له رواية عنه بلا واسطة.(1/422)
الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ألم أنهكم» ثم دعا للذى خنق على مذهبه فشفى، وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله حين قدم المدينة «1» .
وفى صحيح مسلم من حديث أبى حميد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله» فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلى طيىء «2» .
وروى الزهرى: لما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» «3» رواه الشيخان.
ولما كان- صلى الله عليه وسلم- ببعض الطريق ضلت ناقته.. فقال زيد بن اللصيت وكان منافقا-: أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن رجلا يقول» ... وذكر مقالته، «وإنى لا أعلم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى عليها، وهى فى الوادى فى شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها. فانطلقوا حتى تأتونى بها» «4» فانطلقوا فجاؤا بها. رواه البيهقى وأبو نعيم.
وفى مسلم من حديث معاذ بن جبل: أنهم وردوا عين تبوك، وهى تبض بشىء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا حتى اجتمع فى شن ثم
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 240) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1482) فى الزكاة، باب: خرص التمر، ومسلم (1392) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4419 و 4420) فى المغازى، باب: نزول النبى- صلى الله عليه وسلم- الحجر، ومسلم (2980) فى الزهد والرقائق، باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-.
(4) أخرجه ابن هشام فى «السيرة النبوية» (2/ 523) عن محمود بن لبيد عن رجال من بنى عبد الأشهل بسند رجاله ثقات.(1/423)
غسل- صلى الله عليه وسلم- به وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس «1» . الحديث. ويأتى- إن شاء الله- فى مقصد المعجزات.
ولما انتهى- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية.
وأتاه أهل جرباء- بالجيم- واذرح- بالذال المعجمة والراء والحاء المهملتين- بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال، فأعطوه الجزية، وكتب لهم- صلى الله عليه وسلم- كتابا.
ووجد هرقل بحمص، فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصرانى، وكان ملكا عظيما بدومة الجندل، فى أربعمائه وعشرين فارسا فى رجب سرية، وقال له- عليه الصلاة والسلام-: «إنك ستجده ليلا يصيد البقر» ، فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه فى ليلة مقمرة، إلى بقر يطاردها، هو وأخوة حسان، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد أكيدر من القتل، حتى يأتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل وصالحه على ألفى بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح «2» .
وفى هذه الغزوة كتب- صلى الله عليه وسلم- كتابا فى تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب. رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث أنس.
وفى مسند أحمد أن هرقل كتب من تبوك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-: أنى مسلم فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «كذب هو على نصرانيته» «3» .
وفى كتاب الأموال لأبى عبيد، بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله نحوه ولفظه: فقال: «كذب عدو الله ليس بمسلم» .
ثم انصرف- صلى الله عليه وسلم- من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة. وقال
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (706) (10) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 526) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير (4/ 30 و 31) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 538) .
(3) لم أجده فى المسند.(1/424)
الدمياطى- ومن قبله ابن سعد- عشرين ليلة، يصلى ركعتين، ولم يلق كيدا، وبنى فى طريقه مساجد.
وأقبل- صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بذى أوان- بفتح الهمزة بلفظ الأوان: الحين- وبينهما وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء.
فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدى العجلانى فقال: انطلقا إلى مسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه. فخرجا فحرقاه وهدماه.
وذلك بعد أن أنزل الله فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً «1» .
قال الواحدى: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير:
الذين اتخذوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر رجلا، يضارون به مسجد قباء، وذلك أنهم قالوا فى طائفة من المنافقين: نبنى مسجدا فنقيل فيه فلا نحضر خلف محمد.
قال المفسرون: ولما بنوا ذلك لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك، ونحن نحب أن تصلى فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال عليه الصلاة والسلام-: «إنى على جناح سفر، وإذا قدمن إن شاء الله تعالى صلينا فيه» «2» . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت هذه الآية.
ولما دنا- صلى الله عليه وسلم- من المدينة خرج الناس لتلقيه. وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
__________
(1) سورة التوبة: 107.
(2) الخبر أورده ابن هشام فى «السيرة النبوية» (2/ 529- 530) ، والبيهقى فى «الدلائل» (5/ 259- 260) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 549) .(1/425)
وقد وهم بعض الرواة- كما قدمته- وقال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام- كما قدمت ذلك-.
وفى البخارى: لما رجع- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك فدنا من المدينة، قال:
«إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر» «1» وهذا يؤيد معنى ما ورد: نية المؤمن خير من عمله «2» ، فإن نية هؤلاء أبلغ من أعمالهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم فى بيوتهم. والمسابقة إلى الله تعالى وإلى درجات العلا بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال.
ولما أشرف- صلى الله عليه وسلم- على المدينة قال: «هذه طابة وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه» «3» .
ولما دخل قال العباس يا رسول الله، ائذن لى أمتدحك قال: قل لا يفضض الله فاك، فقال:
من قبلها طبت فى الظلال وفى ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما ... فى صلبه أنت كيف يحترق
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2839) فى الجهاد والسير، باب: من حبسه العذر عن الغزو، وابن ماجه (2764) فى الجهاد، باب: من حبسه العذر عن الجهاد، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2) انظره فى «كشف الخفاء» للعجلونى (2836) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4422) فى المغازى، باب: رقم (81) ، ومسلم (1392) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وفى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-.(1/426)
حتى احتوى بيتك المهمين من ... خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق
فنحن فى ذلك الضياء وفى ال ... نور وسبل الرشاد نخترق
وقوله: من قبلها طبت إلخ: أى ظلال الجنة، أى إنك كنت طيبا فى صلب آدم حيث كان فى الجنة.
وقوله: من قبلها: أى قبل نزولك إلى الأرض فكنى عنها ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى.
وقوله: ثم هبطت البلاد لا بشر، أى لما أهبط الله آدم إلى الدنيا، كنت فى صلبه غير بالغ هذه الأشياء.
وقوله: وقد ألج نسرا وأهله الغرق، يريد الصنم الذى كان يعبده قوم نوح وهو المذكور فى قوله تعالى: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً «1» .
وقوله: حتى احتوى بيتك المهمين إلخ. النطق: جمع نطاق. وهى أعراض من جبال بعضها فوق بعض أى: نواح وأوساط منها شبهت بالنطق التى تشد بها أوساط الناس. ضربه مثلا فى ارتفاعه وتوسطه فى عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال وأراد ببيته: شرفه، والمهمين: نعته، أى احتوى شرفه الشاهد إلى فضلك أعلى مكان من نسب خندف- وهو بكسر الخاء المعجمة والدال المهملة- انتهى.
وجاءه- صلى الله عليه وسلم- من كان تخلف عنه، فحلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب وصاحبيه حتى نزلت توبتهم فى قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «2» .
__________
(1) سورة نوح: 23.
(2) سورة التوبة: 117، 118.(1/427)
والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.
وعند البيهقى فى الدلائل، من مرسل سعيد بن المسيب: أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما أشار لبنى قريظة بيده إلى حلقه: إنه الذبح وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أحسبت أن الله قد غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك» ، فلبث حينا ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاتب عليه، ثم غزا تبوكا فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم- منها جاءه أبو لبابة يسلم عليه فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة سبعا وقال: لا يزال هذا مكانى حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله على «1» . الحديث.
وعنده أيضا من حديث ابن عباس فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً «2» . قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبى صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فلما رجع- صلى الله عليه وسلم- أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد وكان ممر النبى- صلى الله عليه وسلم- إذ رجع فى المسجد عليهم، فقال: «من هؤلاء؟» قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم، فقال: «أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذى يطلقهم، رغبوا عنى وتخلفوا عن الغزو» فأنزل الله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ «3» . فلما نزلت أرسل النبى- صلى الله عليه وسلم- فأطلقهم وعذرهم «4» . الحديث.
قالوا: ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- من تبوك وجد عويمر العجلانى امرأته حبلى، فلاعن- عليه السّلام- بينهما.
__________
(1) انظره فى «دلائل النبوة» للبيهقى، (5/ 270) .
(2) سورة التوبة: 102.
(3) سورة التوبة: 102.
(4) انظره فى المصدر السابق (5/ 271- 272) .(1/428)
حجة أبى بكر «1» :
ثم حجة أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- بالناس، سنة تسع فى ذى القعدة، كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد، فيما أخرجه الحاكم فى الإكليل.
وقال قوم فى ذى الحجة، وبه قال الداودى والثعلبى والماوردى. ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- أقام بعد ما رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر فى أن بعث أبى بكر كان بعد انسلاخ ذى القعدة، فيكون حجه فى ذى الحجة على هذا والله أعلم.
وكان مع أبى بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة.
وفى البخارى ومسلم، عن أبى هريرة: أن أبا بكر بعثه فى الحجة التى أمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل حجة الوداع فى رهط يؤذن فى الناس يوم النحر:
ألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان «2» .
ثم أردف النبى- صلى الله عليه وسلم- بعلى بن أبى طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن معلنا فى أهل منى ببراءة، وألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس فى ذلك العام فلم يحج فى العام القابل الذى حج فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع مشرك. فأنزل الله فى العام
__________
(1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 543- 548) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 168- 169) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (4/ 68- 75) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 593- 595) ، والزرقانى فى «شرح المواهب» (3/ 89- 94) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1622) فى الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، ومسلم (1347) فى الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.(1/429)
الذى نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «1» الآية.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما فى الصحيح «المؤمن لا ينجس» وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا ضعيف، لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا ستوى فى النهى عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد. فالمراد: الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر وخبث الباطن بالعداوة قاله مقاتل.
وروى النسائى عن جابر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب للصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف عن التكبير فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجدعاء، لقد بدا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الحج، فلعله أن يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنصلى معه، فإذا على عليها، فقال له أبو بكر أمير أم رسول، قال: لا بل رسول، أرسلنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببراءة أقرؤها على الناس فى مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر، فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها «2» .
__________
(1) سورة التوبة: 28.
(2) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 247) فى المناسك، باب: الخطبة قبل يوم التروية، وفى «الكبرى» (3984) ، والدارمى فى «سننه» (1915) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6645) ، والحديث ضعف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .(1/430)
وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، أما أبو بكر- رضى الله عنه- فإنما كان سنة تسع.
واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث فى ذلك كثيرة شهيرة.
وذهب جماعة إلى أن حج أبى بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه.
وفى هذه السنة أيضا مات عبد الله بن أبى ابن سلول، فجاء ابنه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلى عليه، فقام ليصلى عليه، فقام عمر- رضى الله عنه- فأخذ بثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله تصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنما خيرنى الله عز وجل» قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1» . وسأزيد على السبعين قال:
إنه منافق.
فصلى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله- عز وجل-: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ «2» «3» . رواه الشيخان والنسائى.
وفى هذه السنة أيضا آلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من نسائه شهرا. وجحش شقه- أى خدش- وجلس فى مشربة له درجها من جذوع، فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع.
__________
(1) سورة التوبة: 80.
(2) سورة التوبة: 84.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1269) فى الجنائز، باب: الكفن فى القميص، ومسلم (2400) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.(1/431)
ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهرا، فقال: «إن الشهر يكون تسعا وعشرين» «1» .
ثم بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قبل حجة الوداع. كل واحد منهما على مخلاف. قالوا: واليمن مخلافان، ثم قالوا: «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا» «2» . وقال لمعاذ: «إنك ستأتى قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» «3» . رواه البخارى.
والمخلاف: - بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق.
وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان من عمله الجند- بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور. وكانت جهة أبى موسى السفلى.
ثم أرسل خالد بن الوليد «4» قبل حجة الوداع أيضا، فى ربيع الأول سنة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1911) فى الصوم، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الهلال فصوموا» ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وهو عند مسلم (1083) فى الصيام، باب: الشهر يكون تسعا وعشرين من حديث عائشة- رضى الله عنهما-، و (1084) من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3038) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب، ومسلم (1733) فى الجهاد والسير، باب: فى الأمر بالتيسير وترك التنفير، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (1496) فى الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء حيث كانوا، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) انظر: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 128) .(1/432)
عشر- وفى الإكليل: فى ربيع الآخر، وقيل: فى جمادى الأولى- إلى بنى عبد المدن بنجران فأسلموا.
ثم أرسل على بن أبى طالب إلى اليمن «1» فى شهر رمضان سنة عشر من الهجرة، وعقد له لواء وعممه بيده.
وأخرج أبو داود وأحمد والترمذى من حديث على قال: بعثنى النبى صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فقلت: يا رسول الله تبعثنى إلى قوم أسن منى وأنا حديث السن لا أبصر القضاء. قال: فوضع يده فى صدرى وقال: «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه» ، وقال: «يا على إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر» «2» . الحديث.
فخرج فى ثلاثمائة، ففرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. ثم لقى جمعهم فدعاهم إلى السلام فأبوا. ورموا بالنبل، ثم حمل عليهم على بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله.
ثم قفل فوافى النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة قد قدمها للحج سنة عشر.
ثم حج- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع «3» ، وتسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وكره ابن عباس أن يقال: حجة الوداع.
وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أقام بالمدينة يضحى كل عام ويغزو المغازى، فلما كان
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 128) .
(2) حسن: أخرجه أبو داود (3582) فى الأقضية، باب: كيف القضاء، والترمذى (1331) فى الأحكام، باب: ما جاء فى القاضى لا يقضى بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، وابن ماجه (2310) فى الأحكام، باب: التغليظ فى الحيف والرشوة، وأحمد فى «مسنده» (1/ 83 و 88 و 111 و 149) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 130) .(1/433)
فى ذى القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج فتجهز وأمر الناس بالجهاز له.
قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى.
وفى البخارى عن زيد بن أرقم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوداع «1» .
قال: وقال ابن إسحاق: وبمكة أخرى، وقيل: حج حجتين. هذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله.
فخرج- صلى الله عليه وسلم- من المدينة يوم السبت لخمس بقين من ذى القعدة وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر. لأن أول ذى الحجة كان يوم الخميس قطعا، لما ثبت وتواتر وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل هو ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة.
لكن ثبت فى الصحيحين عن أنس: صلينا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذى الحليفة ركعتين «2» . فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة ويحمل قول من قال: لخمس بقين، أى إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذى الحجة بعد مضى أربع ليال لا خمس، وبها تتفق الأخبار.
هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذى القعدة أو أربع.
وصرح الواقدى بأن خروجه- صلى الله عليه وسلم- كان يوم السبت لخمس ليال بقين من ذى القعدة.
وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر. وكان دخول مكة صبح
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4404) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (1254) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى- صلى الله عليه وسلم- وزمانهن.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1089) فى الجمعة، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، ومسلم (690) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.(1/434)
رابعة، كما ثبت فى حديث عائشة وذلك يوم الأحد. وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكثه فى الطريق ثمانى ليال، وهى المسافة الوسطى.
وخرج معه- عليه السّلام- تسعون ألفا، ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقى.
ويأتى الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث فى مقصد العبادات إن شاء الله تعالى.
ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة «1» إلى أهل أبنى بالشراة ناحية بالبلقاء، وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة.
وهى آخر سرية جهزها النبى- صلى الله عليه وسلم- وأول شىء جهزه أبو بكر الصديق رضى الله عنه-، لغزو الروم مكان قتل أبيه زيد.
فلما كان يوم الأربعاء بدىء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه، فحمّ وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمى، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب، فيهم أبو بكر وعمر.
فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟ فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد عصب رأسه وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، أيها الناس، ما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأميرى أسامة، ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة فقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلى، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم» «2» . ثم نزل عن المنبر فدخل بيته. وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.
__________
(1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 145) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3730) فى المناقب، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبى صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2426) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد- رضى الله عنهما-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بنحوه.(1/435)
وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويخرجون إلى معسكر بالجرف.
فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبى- صلى الله عليه وسلم- مغمور، وهو اليوم الذى لدوه فيه، فطأطأ أسامة فقبله، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة. قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لى، ورجع أسامة إلى معسكره.
ثم دخل يوم الاثنين وأصبح- صلى الله عليه وسلم- مفيقا، فودعه أسامة وخرج إلى المعسكر، فأمر الناس بالرحيل. فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يموت. فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة.
فتوفى- صلى الله عليه وسلم- حين زاغت الشمس لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
واستشكله السهيلى ومن تبعه، وذلك: أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة: توامّ أو نواقص، أو بعضها، لم يصح.
قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر لمن تأمله.
وأجاب البارزى ثم ابن كثير: باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكه والمدينة اختلفوا فى رؤية هلال ذى الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها. وكان أول ذى الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس، فيكون ثانى عشر الاثنين.
قال: وهذا الجواب بعيد، من حيث إنه يلزم منه توالى أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمى أحد الثقات: بأن ابتداء مرضه كان يوم السبت الثانى والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع(1/436)
الأول. فعلى هذا يكون صفر ناقصا ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين. فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية.
قال: والمعتمد ما قاله أبو مخنف: أنه توفى فى ثانى ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات فى ثانى شهر ربيع الأول، فغيرت فصار:
ثانى عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل. انتهى.
ثم إن وفاته- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين من ربيع الأول بلا خلاف. بل كاد يكون إجماعا لكن فى حديث ابن مسعود: فى حادى عشر رمضان رواه البزار. والمعتمد ما تقدم. والله أعلم. انتهى.
وسيأتى- إن شاء الله تعالى- حديث الوفاة الشريفة فى المقصد الأخير.
ولما توفى- صلى الله عليه وسلم- دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فغرزه عند بابه.
فلما بويع أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضى لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول، وخرج أسامة هلال ربيع الآخر سنة إحدى عشرة إلى أهل أبنى، فشن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه، وحرق منازلهم ونخلهم، وقتل قاتل أبيه فى الغارة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يصب أحد من المسلمين.
وخرج أبو بكر فى المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا، والله أعلم.
فجميع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه نحو سبع وعشرين.(1/437)
المقصد الثانى
وفيه عشرة فصول:
* فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة.
* وذكر أولاده الكرام الطاهرين.
* وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين.
* وأعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته.
* وخدمه ومواليه وحرسه.
* وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام بالشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام.
* ومؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه.
* وآلات حروبه.
* ودوابه.
* والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم.(1/439)
الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة
اعلم أن الأسماء جمع اسم، وهو كلمة وضعتها العرب بإزاء مسمى، متى أطلقت فهم منها ذلك المسمى، فعلى هذا لابد من مراعاة أربعة أشياء:
الاسم والمسمى- بفتح الميم- المسمى- بكسرها- والتسمية. فالاسم: هو اللفظ الموضوع على الذات لتعريفها أو تخصيصها عن غيرها كلفظ: زيد.
والمسمّى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم، كشخص زيد. والمسمّى: هو الواضع لذلك اللفظ. والتسمية: هى اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات.
والوضع: تخصيص لفظ بمعنى إذا أطلق أو أحسّ فهم ذلك المعنى.
واختلفوا، هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وهى مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا. فذهب قوم إلى أن الاسم عين المسمى. واستدلوا عليه بقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» والتسبيح إنما هو للرب جل وعلا، فدل على أن اسمه هو هو.
وأجيب، بأنه أشرب معنى سبح «اذكر» فكأنه قال: اذكر اسم ربك الأعلى، كقوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «2» وقد أشرب معنى اذكر «سبح» ، عكس الأول. قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ «3» أى سبح ربك.
والإشراب جار فى لغتهم، يشربون معنى فعل فعلا.
واستشكل على معنى كونه هو المسمى إضافته إليه، فإنه يلزم منه إضافة الشىء إلى نفسه. وأجيب: بأن الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسمية غير الاسم، لأن التسمية هى اللفظ بالاسم، والاسم هو اللازم للمسمى فتغايرا.
__________
(1) سورة الأعلى: 1.
(2) سورة الإنسان: 25.
(3) سورة آل عمران: 41.(1/441)
واحتج من قال بأن الاسم عين المسمى أيضا بقوله تعالى: بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى «1» ثم قال: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ «2» فنادى الاسم فدل على أنه المسمى.
وجوابه: أن المعنى: يا أيها الغلام الذى اسمه يحيى، ولو كان الاسم عين المسمى لكان من قال: النار، احترق لسانه، ومن قال: العسل، ذاق حلاوته.
وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وقد سمى الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم- بأسماء كثيرة فى القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام-.
ثم إن أشهر أسمائه- صلى الله عليه وسلم-: محمد، وبه سماه جده عبد المطلب وذلك أنه لما قيل له: ما سميت ولدك؟ فقال: محمدا، فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال: لأنى أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب- كما ذكر حديثها على القيروانى العابر فى كتابه «البستان» - قال: كان عبد المطلب قد رأى فى المنام كأن سلسلة من فضة قد خرجت من ظهره، لها طرف فى السماء، وطرف فى الأرض، وطرف فى المشرق وطرف فى المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها.
فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب، ويحمده أهل السماء وأهل الأرض، فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته به أمه آمنة حين قال لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمدا.
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما ولد النبى- صلى الله عليه وسلم- عق عنه عبد المطلب وسماه محمدا فقيل له: يا أبا الحارث، ما حملك على أن سميته محمدا،
__________
(1) سورة مريم: 7.
(2) سورة مريم: 12.(1/442)
ولم تسمه باسم آبائه؟ قال: أردت أن يحمده الله فى السماء، ويحمده الناس فى الأرض.
وعن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«إن لى أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى، وأنا العاقب» «1» رواه الشيخان.
وقد روى: (على قدمى) بتخفيف الياء وبالإفراد، وبالتشديد على التثنية. قال النووى فى شرح مسلم: معنى الروايتين: يحشرون على أثرى وزمانى ورسالتى.
وفى رواية نافع بن جبير عند البخارى فى تاريخه الصغير والأوسط، والحاكم فى مستدركه وصححه، وأبى نعيم فى الدلائل وابن سعد: أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال: أتحصى أسماء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى كان جبير بن مطعم يعدها؟ قال: نعم، هى ستة، فذكر الخمسة التى ذكرها محمد ابن جبير، وزاد: الخاتم «2» .
وفى حديث حذيفة (أحمد، ومحمد، والحاشر، والمقفى، ونبى الرحمة) «3» .
ولفظ رواية أبى نعيم (هى ستة: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح، فأما الحاشر، فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدى عذاب شديد، وأما العاقب: فإنه أعقب الأنبياء، وأما ماح: فإن الله عز وجل محا به سيئات من اتبعه) .
وذكر بعضهم: أن العدد ليس من قول النبى- صلى الله عليه وسلم-، وإنما ذكره الراوى بالمعنى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2532) فى المناقب، باب: ما جاء فى أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2354) فى الفضائل، باب: فى أسمائه- صلى الله عليه وسلم-.
(2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 81 و 83) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 660) ، والطبرانى فى «الكبير» (2/ 120) .
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 405) .(1/443)
وفيه نظر: لتصريحه فى الحديث: «إن لى خمسة أسماء» «1» . والذى يظهر أنه أراد إن لى خمسة أسماء أختص بها لم يتسم بها أحد قبلى، أو مشهورة فى الأمم الماضية لا أنه أراد الحصر فيها، وبهذا يجاب عن الاستشكال الوارد، وهو أن المقرر فى علم المعانى أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، ولكن ورود الروايات بما هو أكثر يدل على أنه ليس حصرا مطلقا، فالطريق فى ذلك أن يحمل على حصر مقيد كما ذكر والله أعلم.
وروى النقاش «2» عنه- عليه الصلاة والسلام-: لى فى القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويّس، وطّه، والمزمل، والمدثر، وعبد الله «3» .
وقد جاءت من ألقابه- صلى الله عليه وسلم- وسماته فى القرآن عدة كثيرة، و [قد] تعرض جماعة لتعدادها وبلغوا بها عددا مخصوصا. فمنهم من بلغ تسعة وتسعين، موافقة لعدد أسماء الله الحسنى الواردة فى الحديث.
قال القاضى عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى بنحو من ثلاثين اسما.
وقال ابن دحية «4» فى كتابه «المستوفى» : إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن والحديث وفّى الثلاثمائة، انتهى.
__________
(1) هو لفظ حديث البخارى (3532) المتقدم قبل حديثين.
(2) هو: شيخ القراء، أبو بكر، محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلى ثم البغدادى النقاش، كان واسع الرحلة، له مصنفات، إلا أنه يكذب فى الحديث، والغالب عليه القصص، ولذا قال عنه الخطيب، فى حديثه مناكير بأسانيد مشهورة، مات سنة (351 هـ) .
(3) قلت: النقاش ضعيف فى الحديث، وعلى ذلك فلا حجة فى قوله، وبخاصة أنه انفرد ببعض الأسماء كيس وطه والمزمل والمدثر، وإن كان الأخيران صفتين له.
(4) هو: أبو الخطاب، عمر بن الحسن بن على بن محمد، ابن دحية الكلبى، أديب مؤرخ حافظ للحديث من أهل بلنسية بالأندلس، إلا أنه رحل إلى مراكش والشام والعراق وخراسان واستقر بمصر، إلا أنه كان كثير الوقيعة فى العلماء والأئمة فأعرض عنه معاصروه من كلامه، كما كذبوه فى انتسابه إلى دحية، وقالوا: إن دحية الكلبى لم يعقب، توفى بالقاهرة سنة (633 هـ) .(1/444)
ورأيت فى كتاب «أحكام القرآن» للقاضى أبى بكر بن العربى: قال بعض الصوفية: لله تعالى ألف اسم وللنبى- صلى الله عليه وسلم- ألف اسم «1» ، انتهى.
والمراد الأوصاف: فكل الأسماء التى وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك، فله- صلى الله عليه وسلم- من كل وصف اسم، ثم إن منها ما هو مختص به أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك، وكل ذلك بيّن بين بالمشاهدة لا يخفى، وإذا جعلنا له من كل وصف من أوصافه اسما بلغت أوصافه ما ذكر، بل أكثر، والذى رأيته فى كلام شيخنا فى «القول البديع» ، والقاضى عياض فى «الشفا» وابن العربى فى «القبس» ، والأحكام له، وابن سيد الناس، وغيرهم يزيد على الأربعمائة، وقد سردتها مرتبة على حروف المعجم، وهى:
الأبر بالله، الأبطحى، أتقى الناس، الأجود، أجود الناس، الأحد، الأحسن وأحسن الناس، أحمد، أحيد- بضم أوله وكسر المهملة ثم ياء تحتانية-. الآخذ بالحجزات، آخذ الصدقات، الآخر، الأخشى لله، أذن خير، أرجح الناس عقلا، أرحم الناس بالعباد، الأزهر: وهو النير المشرق الوجه، أشجع الناس، الأصدق فى الله، أطيب الناس ريحا، الأعز الأعلى، الأعلم بالله، أكثر الناس تبعا، الأكرم، أكرم الناس، أكرم ولد آدم، المص، إمام الخير، إمام الرسل، إمام المتقين، إمام النبيين، الإمام، الآمر والناهى، الآمن أمنة أصحابه، الأمين، الأمى، أنعم الله، الأول، أول شافع، أول المسلمين، أول المؤمنين، أول من تنشق عنه الأرض.
البر، البارقليط، الباطن، البرهان، بشر، بشرى عيسى، البشير، البصير، البليغ، بالغ البيان، البينة.
التالى، التذكرة، التقى، التنزيل، التهامى.
ثانى اثنين.
الجبار، الجد، الجواد، جامع.
__________
(1) قلت: ولا أعلم مستندا للقائلين بذلك، ولو كان فى ذلك مزية لأخبرنا بها خير الناس.(1/445)
حاتم، حزب الله، الحاشر، الحافظ، الحاكم بما أراه الله، الحامد، حامل لواء الحمد، الحائد لأمته عن النار، الحبيب، حبيب الرحمن، حبيب الله، الحجازى، الحجة البالغة، حجة الله على الخلائق، حرز الأميين، الحرمى، الحريص على الإيمان، الحسيب الحفيظ، الحق، الحكيم، الحليم، حماد، حمطايا أو قال حمياطا، حمعسق، حفى، الحمد، الحنيف، الحى.
الخبير، خاتم النبيين خاتم المرسلين، الخاتم، الخازن لمال الله، الخاشع، الخاضع، الخالص، خطيب الأنبياء، خطيب الأمم، خطيب الوافدين على الله، الخليل، خليل الرحمن، خليل الله، الخليفة، خير الأنبياء، خير البرية، خير خلق الله، خير العالمين طرّا، خير الناس، خير هذه الأمة، خيرة الله.
دار الحكمة، الداعى إلى الله، دعوة إبراهيم، دعوة النبيين، دليل الخيرات.
الذاكر، الذكر، ذكر الله، ذو الحوض المورود، ذو الخلق العظيم، ذو الصراط المستقيم، ذو القوة، ذو مكانة، ذو عزة، ذو فضل، ذو المعجزات، ذو المقام المحمود، ذو الوسيلة.
الراضع، الراضى، الراغب، الرافع، راكب البراق، راكب البعير، راكب الجمل، راكب الناقة، راكب النجيب، الرحمة، رحمة الأمة، رحمة العالمين، رحمة مهداة، الرحيم، الرسول، رسول الراحة، رسول الرحمة، رسول الله، رسول الملاحم، الرشيد.
الرفيع الذكر، رافع الرتب، رفيع الدرجات، الرقيب، روح الحق، روح القدس، الرؤف، ركن المتواضعين.
الزاهد، زعيم الأنبياء، الزكى، الزمزمى، زين من وافى القيامة.
السابق، السابق بالخيرات، سابق العرب، الساجد، سبيل الله، السراج المنير، السراط المستقيم، السعيد، سعد الله، سعد الخلائق، السميع، السلام، السيد، سيد ولد آدم، سيد المرسلين، سيد الناس، سيد الكونين، سيد الثقلين، سيف الله المسلول.(1/446)
الشارع، الشافع، الشاكر، الشاهد، الشكور، الشكار، الشمس، الشهيد.
الصابر، الصاحب، صاحب الآيات، صاحب المعجزات، صاحب البراهين، صاحب البيان، صاحب التاج، صاحب الجهاد، صاحب الحجة، صاحب الحطيم، صاحب الحوض المورود، صاحب الخاتم، صاحب الخير، صاحب الدرجة العالية الرفيعة، صاحب الرداء، صاحب الأزواج الطاهرات، صاحب السجود للرب المحمود، صاحب السرايا، صاحب السلطان، صاحب السيف، صاحب الشرع، صاحب الشفاعة الكبرى، صاحب العطايا، صاحب العلامات الباهرات، صاحب العلو والدرجات، صاحب الفضيلة، صاحب الفرج، صاحب القضيب، صاحب القضيب الأصغر، صاحب قول لا إله إلا الله، صاحب القدم، صاحب الكوثر، صاحب اللواء، صاحب المحشر، صاحب المدينة، صاحب المغفر، صاحب المغنم، صاحب المعراج، صاحب المظهر المشهود، صاحب المقام المحمود، صاحب المنبر، صاحب المئزر، صاحب النعلين، صاحب الهراوة، صاحب الوسيلة، الصادع بما أمر، الصادق، الصبور، الصدق، صراط الله، صراط الذين أنعمت عليهم، الصراط المستقيم، الصفوح، الصفوح عن الزلات، الصفوة، الصفى، الصالح.
الضارب بالحسام المثلوم، الضحاك، الضحوك.
طاب طاب، الطاهر، الطبيب، طسم، طس، طه، الطيب.
الظاهر، الظفور، من الظفر وهو الفوز.
العابد، العادل، العظيم، العافى، العاقب، العالم، علم الإيمان، علم اليقين، العالم بالحق، العامل، عبد الله، العبد، العدل، العربى، العروة الوثقى، العزيز، العفو، العطوف، العليم، العلى، العلامة، عين العز، عبد الكريم، عبد الجبار، عبد الحميد، عبد المجيد، عبد الوهاب،(1/447)
عبد القهار، عبد الرحيم، عبد الخالق، عبد القادر، عبد المهيمن، عبد القدوس، عبد الغياث، عبد الرزاق، عبد السلام، عبد المؤمن، عبد الغفار.
الغالب، الغفور، الغنى، الغنى بالله، الغوث، الغيث، الغياث.
الفاتح، الفارقليط- وقيل بالباء، وتقدم-، الفارق، فاروق، الفتاح.
الفجر، الفرط، الفصيح، فضل الله، فواتح النور.
القاسم، القاضى، القانت، قائد الخير، قائد الغر المحجلين، القائل، القائم، القتال، القتول، قثم، القثوم، قدم صدق، القرشى، القريب، القمر، القيم، ومعناه: الجامع الكامل، وصوابه بالمثلاثة بدل الياء، القوى.
كافة الناس، الكفيل، الكامل فى جميع أموره، الكريم، كهيعص.
اللسان.
الماجد، ماذماذ، المؤمل، الماحى، المأمون، المانع، الماء العين، المبارك، المبتهل، المبرأ، المبشر، مبشر اليائسين، المبعوث بالحق، المبعوث، المبلغ، المبيح، المبين، المتين، المتبتل، المتبسم، المتربص، المتضرع، المتقى، المتلو عليه، المتهجد، المتوسط، المتوكل، المتثبت، مجاب، مجيب، المجتبى، المجبر، المحرض، المحرم، المحفوظ، المحلل، محمد، المحمود، المخبر، المختار، المخصوص بالشرف، المخصوص بالعز، المخصوص بالمجد، المخلص، المدثر، المدنى، مدينة العلم، المذكر، المذكور، المرتضى، المرتل، المرسل، المرتجى، المرحوم، المرتفع الدرجات، المرء- وهو الرجل الكامل المروءة-، المزكى، المزمل، المسبح، المستغفر، المستغنى، المستقيم، المسرى به، المسعود، المسلّم، المسلّم المشاور، المشفع، المشفوع، المشفع، المشهود، المشير، المصباح، المصارع، المصافح، مصحح الحسنات، المصدوق، المصطفى، المصلح، المصلى عليه، المطاع، المطهر، المظهر، المطلع، المطيع، المظفر، المعزز، المعصوم، المعقب، المعلّم، معلم أمته، المعلّم، المعلن، المعلى، المفضال، المفضل، المفتاح، مفتاح الجنة، المقتصد، المقتفى: يعنى قفا النبيين، المقدّس، المقرى، المقسط، المقسم، المقصوص عليه، المقفى، وقيل بزيادة تاء(1/448)
بعد القاف كما تقدم، مقيل العثرات، مقيم السنة بعد الفترة، المكرم، المكتفى، المكين، المكى، الملاحمى، ملقى القرآن، الممنوح، المنادى، المنتظر، المنجى، المنذر، المنزل عليه، المنحمنا، المصنف، المنصور، المنيب، المنير، المهاجر، المهتدى، المهدى، المهداة، المهيمن، المؤتى جوامع الكلم، الموحى إليه، الموصل، الموقر، المولى، المؤمن المؤيّد، الميسّر.
النابذ، الناجز، الناس لقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «1» . المفسر به- عليه السّلام-، الناسخ، الناشر، الناصح، الناضر، الناطق بالحق، الناهى، نبى الأحمر، نبى الأسود، نبى التوبة، نبى الحرمين، نبى الراحة، نبى الرحمة، النبى الصالح، نبى الله نبى المرحمة، نبى الملحمة، نبى الملاحم، النبى، النجم، النجم الثاقب، نجى الله، النذير، النسيب، نصيح، ناصح، النعمة، نعمة الله، النقيب، النقى، النور، نور الأمم أى الهادى لها الذى أوصلها نور الله الذى لا يطفأ.
الهادى، هدى، هدية الله، الهاشمى.
الوجيه، الواسط، الواسع، الواصل الواضح، الواعد، الواعظ، الورع، الوسيلة، الوفى، الوافى، ولى الفضل، الولى.
اليثربى، بس.
وكنيته المشهورة أبو القاسم، كما جاء فى عدة أحاديث صحيحة.
ويكنى بأبى إبراهيم، كما جاء فى حديث أنس فى مجىء جبريل إليه- عليهما الصلاة والسلام-، وقوله السلام عليك يا أبا إبراهيم «2» . وبأبى الأرامل، فيما ذكره ابن دحية.
وبأبى المؤمنين، فيما ذكره غيره.
واعلم أنه لا سبيل لنا أن نستوعب شرح جميع هذه الأسماء الشريفة،
__________
(1) سورة النساء: 54.
(2) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 604) ، وأبو نعيم فى «دلائل النبوة» (1/ 164) .(1/449)
إذ فى ذلك تطويل يفضى بنا إلى العدول عن عرض الاختصار، فلنذكر من ذلك ما يفتح الله تعالى به مما يدل على سواه. وبالله تعالى أستعين.
فأول ذلك ما له- عليه الصلاة والسلام- من معنى الحمد الذى هو اسمه المنبىء عن ذاته، الذى سائر أسماء أوصافه راجعة إليه، وهو فى المعنى واحد، وله فى الاشتقاق صيغتان:
الاسم المبنى صيغته على صيغة «أفعل» المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، وهو اسمه «أحمد» .
والاسم المبنى على صيغة «التفعل» المنبئة عن التضعيف والتكثير إلى عدد لا ينتهى له الإحصاء وهو اسمه «محمد» .
قال السهيلى: «محمد» منقول من الصفة، فالحمد فى اللغة هو الذى يحمد حمدا بعد حمد، ولا يكون «مفعّل» مثل: مضرب، وممدح، إلا لمن تكرر منه الفعل مرة بعد أخرى.
وأما «أحمد» وهو اسمه- عليه الصلاة والسلام- الذى سمى به على لسان عيسى وموسى، فإنه منقول أيضا من الصفة التى معناها التفضيل، فمعنى «أحمد» أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو فى المعنى، لأنه يفتح عليه فى المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله، فيحمد ربه بها، ولذلك يعقد له لواء الحمد.
قال: وأما «محمد» فمنقول من صفة أيضا، وهو فى معنى «محمود» .
ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فالمحمد هو الذى حمد مرة بعد مرة، كما أن المكرّم من أكرم مرة بعد أخرى، وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم «محمد» مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمى به، علم من أعلام نبوته- عليه الصلاة والسلام-، إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم- محمود فى الدنيا بما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة.
وهو محمود فى الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضيه اللفظ.(1/450)
ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذى هو محمد، فذكره عيسى فقال اسْمُهُ أَحْمَدُ «1» وذكره موسى حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلنى من أمة أحمد. فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا أيضا بالفعل. وكذلك فى الشفاعة، يحمد ربه بالمحامد التى يفتحها عليه، فيكون أحمد الحامدين لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته.
فانظر كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر فى الذكر والوجود، وفى الدنيا والآخرة، تلح لك الحكمة الإلهية فى تخصيصه بهذين الاسمين.
انتهى.
وقال القاضى عياض: كان- عليه الصلاة والسلام- أحمد قبل أن يكون محمدا، كما وقع فى الوجود، لأن تسميته أحمد وقعت فى الكتب السالفة، وتسميته محمدا وقعت فى القرآن، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس.
انتهى.
وهذا موافق لما قال السهيلى، وذكره فى فتح البارى وأقره عليه، وهو يقتضى سبقية اسمه أحمد، خلافا لما ادعاه ابن القيم «2» .
وذكر ابن القيم فى اسمه «أحمد» أنه قيل فيه إنه بمعنى «مفعول» ويكون التقدير: أحمد الناس، أى أحق الناس وأولاهم أن يحمد، فيكون محمدا فى المعنى، لكن الفرق بينهما: أن محمدا هو الكثير الخصال التى يحمد عليها، وأحمد: هو الذى يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد فى الكثرة والكمية، وأحمد فى الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره، أى أفضل حمد حمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول.
قال: وهذا أبلغ فى مدحه وأكمل معنى، فلو أريد معنى الفاعل لسمى
__________
(1) سورة الصف: 6.
(2) قاله فى «زاد المعاد» (1/ 89) .(1/451)
«الحماد» أى الكثير الحمد، فإنه- صلى الله عليه وسلم- كان أكثر الناس حمدا لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى به الحماد، كما سميت بذلك أمته. وأيضا فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التى لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد.
وقال القاضى عياض- فى باب تشريفه تعالى له- عليه الصلاة والسلام- بما سماه به من أسمائه الحسنى-: أحمد بمعنى أكبر، من حمد، وأجل: من حمد.
ثم إن فى اسمه «محمد» خصائص:
منها: كونه على أربعة أحرف ليوافق اسم الله تعالى اسم محمد، فإن عدد الجلالة على أربعة أحرف كمحمد.
ومنها: أنه قيل: إن مما أكرم الله به الآدمى أن كانت صورته على شكل كتب هذا اللفظ، فالميم الأول رأسه، والحاء جناحاه، والميم سرته والدال رجلاه. قيل: ولا يدخل النار من يستحق دخولها- أعاذنا الله منها- إلا ممسوخ الصورة إكراما لصورة اللفظ.
حكاهما ابن مرزوق، والأول: ابن العماد فى كتاب كشف الأسرار.
ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه «المحمود» كما قال حسان بن ثابت:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبى إلى اسمه ... إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وأخرج البخارى فى تاريخه الصغير من طريق على بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفى ألف عام، كما ورد من حديث أنس بن مالك، من طريق أبى نعيم فى مناجاة موسى.(1/452)
وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: إن الله أنزل على آدم عصيّا بعدد الأنبياء والمرسلين. ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أى بنى، أنت خليفتى من بعدى، فخذها بعمارة التقوى، والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإنى رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، وأنا بين الروح والطين، ثم إنى طفت السماوات فلم أر فى السماوات موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، وإن ربى أسكننى الجنة فلم أر فى الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره فى كل ساعاتها.
بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فأسماؤه فى العرش من قبل تكتب
وروينا فى جزء الحسن بن عرفة من حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم- قال:
لما عرج بى إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت- أى علمت- اسمى فيها مكتوبا: محمد رسول الله، وأبو بكر خلفى.
ووجد على الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقى مصلح أمين. ذكره فى الشفاء.
وعلى الحجر بالخط العبرانى: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربى مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكتبه موسى بن عمران. وذكره ابن ظفر فى «البشر» عن معمر عن الزهرى.
وشوهد- كما ذكره فى الشفاء- فى بعض بلاد خراسان مولود ولد على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله، وعلى الآخر: محمد رسول الله.
وببلاد الهند ورد أحمر مكتوب عليه بالأبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وذكر العلامة ابن مرزوق عن عبد الله بن صوحان: عصفت بنا ريح،(1/453)
ونحن فى لجج بحر الهند، فأرسينا فى جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر زكى الرائحة طيب الشم وفيه مكتوب بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ووردا أبيض مكتوب عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات نعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وفى تاريخ ابن العديم عن على بن عبد الله الهاشمى الرقى: أنه وجد ببعض قرى الهند وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء، عليها مكتوب بخط أبيض:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق. قال فشككت فى ذلك وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح فكان فيها مثل ذلك، وفى البلد منه شىء كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله تعالى.
وقال عبد الله بن مالك: دخلت بلاد الهند، فسرت إلى مدينة يقال لها: نميلة- أو ثميلة. فرأيت شجرة كبيرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر. فإذا كسرت ثمرته خرج منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأهل الهند يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. حكاه القاضى أبو البقاء بن الضياء فى منسكه.
وفى كتاب روض الرياحين لليافعى عن بعضهم أنه وجد ببلاد الهند شجرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر إذا كسر خرجت منه ورقة خضراء طرية مكتوب فيها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. كتابة جلية وهم يتبركون بها. قال: فحدثت بذلك أبا يعقوب الصباء فقال: ما استعظم هذا، كنت صيادا على نهر الأبلة فاصطدت سمكة، على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله، فلما رأيتها قذفتها فى الماء احتراما لها.
وعن بعضهم- مما ذكره ابن مرزوق فى شرحه لبردة الأبوصيرى- أنه أتى بسمكة فرأى فى إحدى شحمتى أذنها لا إله إلا الله، وفى الآخرى:
محمد رسول الله.(1/454)
وعن جماعة: أنهم وجدوا بطيخة صفراء فيها خطوط شتى بالأبيض خلقة، ومن جملة الخطوط كتب بالعربى فى أحد جنبيها: الله، وفى الآخر:
عز أحمد، بخط بين لا يشك فيه عالم بالخط.
وأنه وجد سنة تسع أو قال: سنة سبع- بالموحدة- وثمانمائة حبة عنب مكتوب فيها بخط بارع بلون أسود: محمد.
وفى كتاب «النطق المفهوم» لابن طغربك السياف، عن بعضهم أنه رأى فى جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب فيه بالحمرة والبياض فى الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله بقدرته، فى الورقة ثلاثة أسطر، الأول: لا إله إلا الله، والثانى: محمد رسول الله، والثالث: إن الدين عند الله الإسلام.
قال ابن قتيبة: ومن أعلام نبوته- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يسم قبله أحد باسمه «محمد» صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى، إذ لم يجعل له من قبل سميا، وذلك أنه تعالى سماه به فى الكتب المتقدمة، وبشر به الأنبياء، فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك رجاء أن يكون هو هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته:
ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد عدهم القاضى عياض: ستة، ثم قال: لا سابع لهم.
وذكر أبو عبيد الله بن خالويه فى كتاب «ليس» ، والسهيلى فى «الروض» : أنه لا يعرف فى العرب من تسمى محمدا قبل النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا ثلاثة.
قال الحافظ ابن حجر: وهو حصر مردود، والعجب أن السهيلى متأخر الطبقة عن عياض، ولعله لم يقف على كلامه.(1/455)
قال: وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك فى جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، مع تكرير فى بعضهم، ووهم فى بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا:
وأشهرهم: محمد بن عدى بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمى السعدى. ومنهم: محمد بن أحيحة- بضم الهمزة وفتح المهملة- ابن الجلاح- بضم الجيم وتخفيف اللام آخره مهملة- الأوسى.
ومحمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر.
ومحمد بن البراء- وقيل: البر- بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكرى العتوارى.
ومحمد بن الحارث بن حديج بن حويص.
ومحمد بن حرماز بن مالك اليعمرى.
ومحمد بن حمران بن أبى حمران، ربيعة بن مالك الجعفى المعروف بالشويعر.
ومحمد بن خزاعى بن علقمة بن حرابة السلمى، من بنى ذكوان.
ومحمد بن خولى الهمدانى.
ومحمد بن سفيان بن مجاشع.
ومحمد بن اليحمد الأزدى.
ومحمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة.
ومحمد بن الأسيدى.
ومحمد الفقيمى. ولم يدركوا الإسلام إلا الأول ففى سياق خبره ما يشعر بذلك، وإلا الرابع فهو صحابى جزما «1» .
__________
(1) الرابع فى ترتيبه هو: محمد بن البراء الكنانى، حيث ذكره الحافظ ابن حجر فى «الإصابة» (6/ 329) .(1/456)
وفيمن ذكره عياض: محمد بن مسلمة الأنصارى. وليس ذكره بجيد، فإنه ولد بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- بأزيد من عشرين سنة، لكنه قد ذكر تلو كلامه المتقدم: محمد بن محمد- الماضى- فصار من عنده ستة لا سابع لهم.
انتهى.
وأما اسمه- عليه الصلاة والسلام- «محمود» فاعلم أن من أسماء الله تعالى الحميد، ومعناه: المحمود، لأنه تعالى حمد نفسه، وحمده عباده، وقد سمى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمحمود، وكذا وقع اسمه فى زبور داود.
وأما «الماحى» ففسر فى الحديث بمحو الكفر، ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محى بالنبى- صلى الله عليه وسلم-، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار، ما بين عابد أوثان ويهود ونصارى ضالين وصابئة ودهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، فمحاها برسوله، حتى أظهر دينه على كل دين، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسير الشمس فى الأقطار، ولما كانت البحار هى الماحية للأدران كان اسمه- عليه الصلاة والسلام- فيها الماحى.
وأما «الحاشر» ففسر أيضا فى الحديث بأنه الذى يحشر الناس على قدمه، أى يقدمهم وهم خلفه، وقيل على سابقته، وقيل: قدامه وحوله، أى يجتمعون إليه فى القيامة. وقد كان حشره لأهل الكتاب: إخراجه لهم من حصونهم وبلادهم. من دار هجرته إلى حيث أذاقهم الله من شدة الحشر ما شاء فى دار الدنيا إلى ما اتصل لهم بذلك فى برزخهم.
وهو أول من تنشق عنه الأرض فيحشر الناس على أثره، وإليه يلجئون فى محشرهم، وقيل: على سببه.
وأما «العاقب» فهو الذى جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبى، لأن العاقب هو الآخر، أى: عقب الأنبياء، وقيل: وهو اسمه- عليه الصلاة والسلام- فى النار، فإذا جاء- لحرمة شفاعته- خمدت النار وسكنت، كما روى أن قوما من حملة القرآن يدخلونها فينسيهم الله تعالى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم- حتى يذكرهم جبريل، فيذكرونه فتخمد النار وتنزوى عنهم.(1/457)
وأما «المقفى» فكذلك، أى: قفا آثار من سبقه من الرسل، وهى لفظة مشتقة من «القفو» يقال: قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفى المقفى: الذى قفا من قبله من الرسل فكان خاتمهم وآخرهم.
وأما «الأول» فلأنه أول النبيين خلقا- كما مر- وكما أنه أول فى البدء فهو أول فى العود، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وهو أول شافع وأول مشفع، كما كان فى أوليات البدء فى عالم الذر أول مجيب، إذ هو أول من قال: بلى، إذ أخذ ربه الميثاق على الذرية الآدمية، فأشهدهم على أنفسهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» فهو- صلى الله عليه وسلم- الأول فى ذلك كله على الإطلاق.
وأما «الآخر» فلأنه آخر الأنبياء فى البعث كما فى الحديث.
وأما «الظاهر» فلأنه ظهر على جميع الظاهرات ظهوره، وظهر على الأديان دينه، فهو الظاهر فى وجوه الظهور كلها.
وأما «الباطن» فهو المطلع على بواطن الأمور بواسطة ما يوحيه الله تعالى إليه.
وأما «الفاتح الخاتم» ففى حديث الإسراء عن أبى هريرة من طريق الربيع ابن أنس قوله تعالى له: «وجعلتك فاتحا وخاتما» . وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه- أيضا وفى الإسراء، قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وجعلنى فاتحا وخاتما» «2» . فهو الذى فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجّا، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، وفتح أمصار الكفر، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح، والدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والإبصار.
__________
(1) سورة الأعراف: 172.
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 69) ضمن حديث طويل جدّا وقال رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعيه مجهول.(1/458)
وقد يكون المراد: المبدأ المقدم فى الأنبياء، والخاتم لهم، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «كنت أول النبيين فى الخلق وآخرهم فى البعث» «1» .
وأما «الرؤف الرحيم» ففى القرآن لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» وهو فعول من الرأفة، وهى أرق من الرحمة، قاله أبو عبيدة، والرحيم فعيل من الرحمة، وقيل رؤف بالمطيعين رحيم بالمذنبين.
وأما «الحق المبين» فقال تعالى: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ «3» .
وقال تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «4» . وقال تعالى: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ «5» . وقال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ «6» .
قيل [المراد] : محمد- عليه السّلام-، وقيل القرآن، ومعناه هنا ضد الباطل، والمتحقق صدقه وأمره، والمبين البين أمره ورسالته، أو المبين عن الله ما بعثه به، كما قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «7» .
وأما «المؤمن» فقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «8» . أى يصدق، وقال- صلى الله عليه وسلم-:
«أنا أمنة لأصحابى» «9» فهذا بمعنى المؤمن.
وأما «المهيمن» فقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
__________
(1) لم أجده.
(2) سورة التوبة: 128.
(3) سورة الزخرف: 29.
(4) سورة الحجر: 89.
(5) سورة يونس: 108.
(6) سورة الأنعام: 5.
(7) سورة النحل: 44.
(8) سورة التوبة: 61.
(9) صحيح: أخرجه مسلم (2531) فى فضائل الصحابة، باب: بيان أن بقاء النبى- صلى الله عليه وسلم- أمان لأصحابه، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.(1/459)
يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «1» . قال ابن الجوزى فى زاد المسير- إن ابن نجيح روى عن مجاهد (ومهيمنا عليه) قال: محمد مؤتمن على القرآن، قال:
فعلى قوله فى الكلام تقدير محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه، وسماه العباس بن عبد المطلب فى شعره مهيمنا فى قوله:
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق
وروى: ثم اغتدى بيتك المهيمن، قيل أراد: يا أيها المهيمن، القتبى والإمام أبو القاسم القشيرى.
وأما «العزيز» فمعناه: جلالة القدر، أو الذى لا نظير له، أو المعز لغيره، وقد استدل القاضى عياض لهذا الاسم بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ «2» . أى فجائز أن يوصف النبى- صلى الله عليه وسلم- بالعزيز والمعز، لحصول العز له. ولقائل أن يقول: هذا اللفظ أيضا للمؤمنين لشمول العطف إياهم، فلا اختصاص للنبى- صلى الله عليه وسلم-، والغرض اختصاصه، قال اليمنى: وعجبت من القاضى كيف خفى عليه مثل هذا: ويجاب: باختصاصه- عليه الصلاة والسلام- برتبة من العزة ليست لغيره والله أعلم.
وأما «العالم» و «العليم» و «العلم» و «معلم أمته» فقد قال تعالى:
وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
«3» . وقال: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ «4» .
وأما «الخبير» فمعناه: المطلع على كنه الشىء، العالم بحقيقته، وقيل:
المخبر، قال الله تعالى: الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «5» . قال القاضى بكر بن العلاء فيما ذكره فى الشفاء-: المأمور بالسؤال غير النبى- صلى الله عليه وسلم-، والمسئول
__________
(1) سورة المائدة: 48.
(2) سورة المنافقون: 8.
(3) سورة النساء: 113.
(4) سورة البقرة: 151.
(5) سورة الفرقان: 59.(1/460)
الخبير هو النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقال غيره: بل السائل النبى- صلى الله عليه وسلم- والمسئول الله عز وجل، فالنبى- صلى الله عليه وسلم- خبير بالوجهين المذكورين، قيل لأنه- عليه الصلاة والسلام- عالم على غاية من العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه، وعظيم معرفته، مخبر لأمته بما أذن فى إعلامهم به. انتهى.
وأما «العظيم» فقال الله تعالى فى شأنه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» .
ووقع فى أول سفر من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمة عظيمة. فهو صلى الله عليه وسلم- عظيم وعلى خلق عظيم.
وأما «الشاكر» و «الشكور» فقد وصف- صلى الله عليه وسلم- نفسه بذلك فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» أى: أأترك تهجدى فلا أكون عبدا شكورا؟! والمعنى: أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟ وعلى هذا فتكون «الفاء» للسببية. وقال القاضى عياض: شكورا أى: معترفا بنعم ربى، عالما بقدر ذلك، مثنيا عليه، مجهدا نفسى فى الزيادة من ذلك، لقوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» .
وأما «الشكار» فهو أبلغ من شاكر، وفى حديث ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- كان من دعائه: «رب اجعلنى لك شكارا» «3» .
وأما «الكريم» و «الأكرام» و «أكرم ولد آدم» فسماه الله تعالى به فى قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «4» . أي محمد- صلى الله عليه وسلم-، وليس المراد به جبريل، لأنه تعالى لما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذكر بعده أنه ليس بقول
__________
(1) سورة القلم: 4.
(2) سورة إبراهيم: 7.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (3551) فى الدعوات، باب: فى دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى فى «الكبرى» (10443) ، وابن ماجه (3830) فى الدعاء، باب: دعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وابن حبان فى «صحيحه» (948) ، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 170) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4) سورة الحاقة: 40.(1/461)
شاعر ولا كاهن، والمشركون لم يكونوا يصفوا جبريل بذلك، فتعين أن يكون المراد بالرسول الكريم هنا محمدا- صلى الله عليه وسلم-، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- بيانه فى مقصد آى التنزيل. وقال- عليه السّلام-: «أنا أكرم ولد آدم» «1» .
وأما «الولى» و «المولى» فقال- عليه الصلاة والسلام-: «أنا ولى كل مؤمن» «2» .
وأما «الأمين» فقد كان- عليه الصلاة والسلام- يعرف به، وشهر به قبل النبوة وبعدها، وهو أحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين على وحيه ودينه، وهو أمين من فى السماء والأرض.
وأما «الصادق» و «المصدوق» فقد ورد فى الحديث تسميته بهما، ومعناهما غير خفى، وكذلك «الأصدق» . وروى أنه- عليه الصلاة والسلام- لما كذبه قومه حزن فقال له جبريل: إنهم يعلمون أنك صادق.
وأما «الطيب» و «ماذ ماذ» - بميم ثم ألف ثم ذال معجمة منونة، ثم ميم ثم ألف ثم ذال معجمة- كذا رأيته لبعض العلماء، ونقل العلامة الحجازى فى حاشيته على الشفاء عن السهيلى: ضم الميم وإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف ممدود، وقال: نقلته عن رجل أسلم من علماء بنى إسرائيل، وقال معناه: طيب طيب، ولا ريب أنه- صلى الله عليه وسلم- أطيب الطيبين، وحسبك أنه كان يؤخذ من عرقه ليتطيب به، فهو- صلى الله عليه وسلم- طيب الله الذى نفحه فى الوجود، فتعطرت به الكائنات وسمت، واغتذت به القلوب فطابت، وتنسمت به الأرواح فنمت.
وأما «الطاهر» و «المطهر» و «المقدس» أى المطهر من الذنوب، كما قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3» . أو الذى يتطهر به من
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3610) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن إسناده ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (5/ 166) من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-.
(3) سورة الفتح: 2.(1/462)
الذنوب، ويتنزه بأتباعه عنها، كما قال الله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ «1» وقال:
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2» أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة والأوصاف الدنية.
وأما «العفو» و «الصفوح» فمعناهما واحد، وقد وصفه الله تعالى بهما فى القرآن والتوراة والإنجيل، كما فى حديث عبد الله بن عمرو بن العاصى عند البخارى (ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح) وأمره تعالى بالعفو فقال: خُذِ الْعَفْوَ «3» وقال: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ «4» .
وأما «العطوف» فهو الشفوق، وسمى به- عليه الصلاة والسلام- لكثرة شفقته على أمته، ورأفته بهم.
وأما «النور» فقال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ «5» قيل: محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل القرآن، فهو نور الله الذى لا يطفأ.
وأما «السراج» فسماه الله تعالى به فى قوله: وَسِراجاً مُنِيراً «6» .
لوضوح أمره، وبيان نبوته، وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به، فهو نيّر فى ذاته منير لغيره، فهو السراج الكامل فى الإضاءة، ولم يوصف بالوهاج كالشمس، لأن المنير الذى ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج.
وأما «الهادى» فبمعنى الدلالة والدعاء، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «7» وقال تعالى فيه: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ «8» .
__________
(1) سورة البقرة: 129.
(2) سورة المائدة: 16.
(3) سورة الأعراف: 199.
(4) سورة المائدة: 13.
(5) سورة المائدة: 15.
(6) سورة الأحزاب: 46.
(7) سورة الشورى: 52.
(8) سورة الأحزاب: 46.(1/463)
وأما «البرهان» فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «1» قيل: هو محمد- صلى الله عليه وسلم-، وقيل معجزاته وقيل القرآن.
وأما «النقيب» فروى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما مات نقيب بنى النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة وجد عليه- صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل عليهم نقيبا بعده، وقال: أنا نقيبكم فكانت من مفاخرهم، والنقيب هو شاهد القوم وناظرهم وضمينهم.
وأما «الجبار» فسمى به فى مزامير داود، فى قوله فى مزمور أربعة وأربعين. تقلد أيها الجبار سيفك، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، لأنه الجبار الذى جبر الخلق بالسيف على الحق، وصرفهم عن الكفر جبرا، قال القاضى عياض: وقد نفى الله تعالى عنه جبرية التكبر التى لا تليق به فقال: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ «2» .
وأما «الشاهد» و «الشهيد» فسماه الله بهما فى قوله: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً «3» أى على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم.
وقوله: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «4» روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالبهم الله ببينة التبليغ- وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فيشهدون، فتقول الأمم:
من أين عرفتهم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله فى كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد- صلى الله عليه وسلم- فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم، وهذه الشهادة وإن كانت لهم لما كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عدى ب «على» وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. قاله البيضاوى.
__________
(1) سورة النساء: 174.
(2) سورة ق: 45.
(3) سورة الأحزاب: 45.
(4) سورة البقرة: 143.(1/464)
وأما «الناشر» فسمى به لأنه نشر الإسلام وأظهر شرائع الأحكام.
وأما «المزمل» فأصله المتزمل، فأدغمت التاء فى الزاى وسمى به، لما روى أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يفرق من جبريل ويتزمل بالثياب أول ما جاءه، وقيل: أتاه وهو فى قطيفة، وقال السدى معناه، يا أيها النائم، قال:
وكان متلفقا فى ثياب نومه، وعن ابن عباس: يعنى المتزمل بالقرآن، وعن عكرمة بالنبوة.
وقيل من الزمل، بمعنى الحمل، ومنه الزاملة، أى: المتحمل بأعباء النبوة، وعلى هذا يكون التزمل مجازا.
وقال السهيلى: ليس «المزمل» باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التى كان التبس بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة، بالمخاطب بترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التى هو عليها، كقول النبى- صلى الله عليه وسلم- لعلى- رضى الله عنه- وقد نام ولصق جنبه بالتراب- قم أبا تراب إشعارا بأنه ملاطف له، فقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» فيه تأنيس وملاطفة.
وأما ما روى عن عائشة أنها قالت: كان متزملا مرطا طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه على وأنا نائمة ونصفه عليه، فكذب صراح، لأن نزول يا أيها المزمل بمكة فى أول مبعثه، ودخوله بعائشة كان بالمدينة.
وأما «المدثر» فأصله: المتدثر، فأدغمت التاء فى الدال. روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يمينى وشمالى. فلم أر شيئا فنظرت فوقى فإذا هو على عرش بين السماء والأرض» - يعنى الملك الذى ناداه- «فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت دثرونى دثرونى» ، فنزل جبريل وقال: يا أيها المدثر «2» . وعن عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها قد تدثرت هذا الأمر فقم به.
__________
(1) سورة المزمل: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4922) فى التفسير، باب: سورة المدثر، ومسلم (161) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.(1/465)
وقيل: ناداه بالمزمل والمدثر فى أول أمره، فلما شرع خاطبه الله تعالى بالنبوة والرسالة.
وأما «طّه» فروى النقاش «1» عنه- عليه الصلاة والسلام-: لى فى القرآن سبعة أسماء فذكر منها طّه. وقيل: هو اسم الله، وقيل معناه: يا رجل، وقيل: يا إنسان. وقيل: يا طاهر يا هادى يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو مروى عن الواسطى، وقيل معناه: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادى الخلق إلى الملة، وقيل: الطاء فى الحساب بتسعة والهاء بخمسة وذلك أربعة عشر فكأنه قال: يا بدر، وهذه من محاسن التأويل، لكن المعتمد أنهما من أسماء الحروف.
وأما «يس» فحكى أبو محمد مكى أنه روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لى عند ربى عشرة أسماء ذكر منها «يس» . وقد قيل معناه: يا إنسان بلغة طىء، وقيل بالحبشية، وقيل بالسريانية، وأصله كما قاله البيضاوى وابن الخطيب وغيرهما: يا أنيسين: فاقتصر على شطره لكثرة النداء به وقيل ياسين. لكن تعقب بأنه لا يعلم أن العرب قالوا فى تصغيره أنيسين، وأن الذى نقل عنهم فى تصغيره أنيسيان، بياء بعدها ألف، وبأن التصغير من التحقير الممتنع فى حق النبوة لنصهم على أن التصغير لا يدخل فى الأسماء المعظمة شرعا.
ويأتى مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى فى الفصل الرابع من النوع الخامس من أنواع المقصد السادس. وعن ابن الحنفية: معناه يا محمد، وعن أبى العالية: يا رجل، وعن أبى بكر الوراق: يا سيد البشر، وعن جعفر الصادق:
يا سيد مخاطبة له- عليه الصلاة والسلام-، وفيه من تعظيمه على تفسير أنه يا سيد ما فيه.
وأما «الفجر» فقال ابن عطاء فى قوله تعالى: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ «2» الفجر محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأن منه تفجر الإيمان.
__________
(1) تقدم القول فيه، أنه ضعيف الحديث، وإن كان إماما فى القراآت.
(2) سورة الفجر: 1، 2.(1/466)
وهو تأويل غريب لم ير لغيره، والصواب أنه الفجر المفسر بالصبح فى قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ «1» .
وأما «القوى» فقال الله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «2» قيل محمد، وقيل جبريل- عليهما الصلاة والسلام-، وسيأتى فى المقصد السادس ما فى ذلك.
وأما ما قاله ابن عطاء فى قوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «3» أقسم بقوة قلب حبيبه محمد- صلى الله عليه وسلم- حيث حمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله، فلا يخفى ما فيه.
وأما «النجم» فعن جعفر بن محمد بن الحسين فى تفسير قوله تعالى:
وَالنَّجْمِ «4» أنه محمد- صلى الله عليه وسلم- إِذا هَوى إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وحكى السلمى فى قوله: تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ «5» أن النجم هنا أيضا محمد- صلى الله عليه وسلم-.
والصحيح: أن المراد به النجم على ظاهره، وسمى به- عليه السّلام- لأنه يهتدى به فى طرق الهدى كما يهتدى بالنجم.
وأما «الشمس» فسمى بها- صلى الله عليه وسلم- لكثرة نفعه، وعلو رفعته، وظهور شريعته، وجلالة قدره وعظم منزلته، لأنه لا يحاط بكماله، حتى لا يسع الرائى له أن ينظر إليه ملء عينيه إجلالا له، كما أن الشمس فى الرتبة أرفع من غالب الكواكب لأنها فى السماء السادسة والانتفاع بها أكثر من غيرها، كما لا يخفى، ولا يدركها البصر لكبر جرمها، وأيضا فلما كان سائر
__________
(1) سورة التكوير: 18.
(2) سورة التكوير: 20.
(3) سورة ق: 1.
(4) سورة النجم: 1.
(5) سورة الطارق: 1- 3.(1/467)
الكواكب تستمد من نورها ناسب تسميته- عليه الصلاة والسلام- بها، لأن نور الأنبياء مستمد من نوره «1» .
وأما «النبى» و «الرسول» فمن خصائصه- عليه الصلاة والسلام- أنه خاطبه تعالى بهما فى القرآن دون سائر أنبيائه.
ثم إن النبوءة بالهمز مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وقد لا يهمز تسهيلا. أى أن الله أطلعه على غيبه وأعلمه أنه نبيه، فيكون نبيّا منبأ، أو يكون مخبرا عما بعثه الله به ومنبئا بما أطلعه الله عليه. وبغير الهمزة يكون مشتقّا من النبوة وهو ما ارتفع من الأرض، أى أن له رتبة شريفة ومكانة عند الله منيفة. قال الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرح البردة. وكان نافع يقرأ:
النبىء- بالهمز- فى جميع القرآن. والاختيار تركه.
وهو لغة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء فى الحديث أن رجلا قال: يا نبىء الله- يعنى بالهمز- فقال له: «لست نبىء الله، ولكنى نبى الله» «2» فأنكر الهمز لأنه لم يكن من لغته- عليه الصلاة والسلام-.
وقال الجوهرى والصاغانى: إنما أنكر لأن الأعرابى أراد: يا من خرج من مكة إلى المدينة، يقال: نبأت من أرض إلى أرض إذا خرجت منها إلى أخرى.
وتكلم جماعة من القراء فى هذا الحديث: وقد رواه الحاكم فى المستدرك عن أبى الأسود عن أبى ذر، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفيما قاله نظر فإن فيه حسينا الجعفى، كذا قاله بعضهم وليس من شرطهما. ورواه أبو عبيد: حدثنا محمد بن سعد عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين أن رجلا ... الحديث، وهذا منقطع. انتهى.
والرسول: إنسان بعثه الله إلى الخلق بشريعة مجددة يدعو الناس إليها.
__________
(1) قلت: فى هذا الكلام نظر، وبخاصة أن هذا الاسم لم يثبت أصلا.
(2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 251) ، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-، وصححه، إلا أن الحافظ الذهبى تعقبه قائلا: بل منكر لم يصح.(1/468)
واختلف هل هما بمعنى أو بمعنيين؟
فقال بالأول قوم مستدلين بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «1» فأثبت لهما معا الإرسال. وعلى هذا فلا يكون النبى إلا رسولا، ولا الرسول إلا نبيّا.
وقال آخرون بالثانى: وأنهما يجتمعان فى النبوة التى هى الاطلاع على الغيب والإعلام بخواص النبوة أو الرفعة بمعرفة ذلك وحوز درجتها، وافترقا فى زيادة الإرسال.
وحجتهم من الآية نفسها: التفريق بين الاسمين، إذ لو كانا شيئا واحدا لما حسن تكرارهما فى الكلام البليغ، ويكون المعنى: وما أرسلنا من نبى إلى أمة، أو نبى ليس بمرسل إلى أحد.
وذهب آخرون: إلى أن الرسول: من جاء بشرع مبتدأ، ومن لم يأت به نبى غير رسول وإن أمر بالإبلاغ والإنذار.
والصحيح: أن كل رسول نبى، وليس كل نبى رسولا.
نعم نوزع فى هذا بأنه كلام يطلقه من لا تحقيق عنده، فإن جبريل عليه الصلاة والسلام- رسول، وغيره من الملائكة المكرمين بالرسالة رسل لا أنبياء. فالانفصال عنه: بأن يقيد الفرق بين الرسول والنبى، بالرسول البشرى.
ثم إن النبوة والرسالة ليستا ذاتا للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا وصف ذات بل تخصيص الله إياه بذلك خلافا للكرامية.
وقال القرافى، كما نقله عنه ابن مرزوق: يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحى، وهو باطل، لحصوله لمن ليس بنبى كمريم وليست نبية على الصحيح، مع أنه تعالى يقول: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
«2» الآية، وأَنَّ اللَّهَ
__________
(1) سورة الحج: 52.
(2) سورة مريم: 17.(1/469)
يُبَشِّرُكَ «1» وفى مسلم: بعث الله تعالى ملكا لرجل على مدرجته وكان خرج فى زيارة أخ له فى الله تعالى، وقال له: إن الله يعلمك أنه يحبك لحبك لأخيك فى الله «2» وليس بنبوة، لأنها عند المحققين: إيحاء الله لبعض بحكم إنسانى يختص به كقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3» فهذا تكليف يختص به فى الوقت، فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل قُمْ فَأَنْذِرْ «4» كانت رسالة لتعلق هذا التكليف بغيره أيضا، فالنبى كلف بما يخص به، والرسول بذلك، وتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقا، انتهى.
وهل نبينا- صلى الله عليه وسلم- رسول الآن؟ قال أبو الحسن الأشعرى «5» : هو صلى الله عليه وسلم- فى حكم الرسالة، وحكم الشىء يقوم مقام أصل الشىء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح، ويأتى لذلك مزيد بيان- إن شاء الله تعالى-.
وأما «المذكر» فقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ «6» .
وأما «البشير» و «المبشر» و «النذير» و «المنذر» فقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «7» أى مبشرا لأهل طاعته بالثواب، وقيل بالمغفرة، ونذيرا لأهل معصيته بالعذاب، وقيل: محذرا من الضلالات.
__________
(1) سورة آل عمران: 45.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2567) فى البر والصلة، باب: فى فضائل الحب فى الله، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) سورة العلق: 1.
(4) سورة المدثر: 2.
(5) هو: إمام المتكلمين، أبو الحسن، على بن إسماعيل بن أبى بشر الأشعرى اليمانى البصرى، كان معتزليّا، فلما برع فيه، كرهه وتبرأ منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة ويهتك عوراتهم، فعرف بمذهبه، ثم كان فى آخر حياته على عقيدة أهل السنة والجماعة حتى مات عليها سنة (324 هـ) .
(6) سورة الغاشية: 21.
(7) سورة الأحزاب: 45.(1/470)
وأما «المبلغ» فقال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «1» .
وأما «الحنيف» فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً «2» كذا قاله بعضهم.
وأما «نبى التوبة» فلأن الأمم رجعت لهدايته- عليه السّلام- بعد ما تفرقت بها الطرق إلى الصراط المستقيم.
وأما «رسول الرحمة» و «نبى الرحمة» و «نبى المرحمة» فقال الله تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «3» وقال تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «4» . فبعثه تعالى رحمة لأمته، ورحمة للعالمين وروى البيهقى مرفوعا «إنما أنا رحمة مهداة» «5» فرحم الله تعالى به الخلق مؤمنهم وكافرهم، وهذا الاسم من أخص أسمائه.
وقد كان حظ آدم من رحمته سجود الملائكة له تعظيما إذ كان فى صلبه، ونوح: خروجه من السفينة سالما، وإبراهيم: كانت النار عليه بردا وسلاما إذ كان فى صلبه، فرحمته- عليه الصلاة والسلام- فى البدء والختام والدوام لما أبقى الله له من دعوة الشفاعة، ولما كانت نبوته رحمة دائمة مكرّرة مضاعفة اشتق له من الرحمة اسم الرحمة.
وأما «نبى الملحمة والملاحم» وهى الحروب، فإشارة إلى ما بعث به من القتال والسيف، ولم يجاهد نبى وأمته قط ما جاهد- صلى الله عليه وسلم- وأمته، والملاحم التى وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقاتلون الكفار فى الأقطار على تعاقب الأعصار حتى يقاتلون الأعور الدجال.
__________
(1) سورة المائدة: 67.
(2) سورة الروم: 30.
(3) سورة الأنبياء: 107.
(4) سورة التوبة: 128.
(5) صحيح: أخرجه ابن سعد، والحكيم عن أبى صالح مرسلا، والحاكم فى المستدرك عنه [أى عن أبى صالح] عن أبى هريرة كما فى «صحيح الجامع» (2345) .(1/471)
وأما «صاحب القضيب» فهو السيف، كما وقع مفسرا به فى الإنجيل فال: معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمته كذلك. وقد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذى كان يمسكه.
وأما «صاحب الهراوة» فهى فى اللغة: العصا، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يمسك فى يده القضيب كثيرا، وكان يمشى بين يديه بالعصا، وتغرز له فى الأرض فيصلى إليها، قال القاضى عياض: وأراها العصا المذكورة فى حديث الحوض: أذود الناس عنه بعصاى لأهل اليمن «1» . أى لأجلهم ليتقدموا، فلما كان- صلى الله عليه وسلم- راعيا للخلق سائقا لجميعهم إلى مواردهم كان صاحب الهراوة يرعى بها أهل الطواعية، وصاحب السيف يقد به من لا تزيده الحياة إلا شرّا.
وأما «الضحاك» - بالمعجمة- فهو الذى يسيل دماء العدو فى الحروب لشجاعته «2» .
وأما «صاحب التاج» فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب، والعمائم تيجانها.
وأما «صاحب المغفر» فهو- بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء- زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، كان- صلى الله عليه وسلم- يلبسه فى حروبه.
وأما «قدم صدق» فقال قتادة والحسن وزيد بن أسلم فى قوله تعالى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ «3» هو محمد- صلى الله عليه وسلم- يشفع لهم، وعن أبى سعيد الخدرى: هى شفاعة نبيهم محمد- صلى الله عليه وسلم- هو شفيع صدق عند ربهم، وعن سهل بن عبد الله: هى سابقة رحمة أودعها فى محمد- صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2301) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى الله عليه وسلم- وصفاته، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-.
(2) قلت: وهو معنى بعيد، ولماذا لا يكون بمعنى الضحك فى وجوه المؤمنين، غير عابس لهم، ولا مقطب ولا غضوب، ولا فظ، كما قال ذلك ابن القيم فى «زاد المعاد» (1/ 96) .
(3) سورة يونس: 2.(1/472)
وأما «نعمة الله» فقال سهل فى قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» قال: نعمته بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، وقال: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها «2» . يعنى يعرفون أن محمدا نبى ثم يكذبونه، وهذا مروى عن مجاهد والسدى وقال به الزجاج «3» .
وأما «الصراط المستقيم» فقال أبو العالية والحسن البصرى فى تفسير سورة الفاتحة: هو رسول الله وخيار أهل بيته وأصحابه. حكى الماوردى ذلك فى تفسير صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «4» عن عبد الرحمن بن زيد.
وأما «العروة الوثقى» فحكى أبو عبد الرحمن السلمى عن بعضهم فى تفسير قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى «5» الآية، أنه محمد- صلى الله عليه وسلم-.
وأما «ركن المتواضعين» فلأنه عمادهم، وقد ظهر عليه- صلى الله عليه وسلم- من التواضع ما لم يظهر على غيره، فكان يرقع القميص، ويخصف النعل، ويقم البيت.
ووقع فيما ترجموه من كتاب شعياء مما يدل صريحا فى البشارة برسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ولا يميل إلى الهوى، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة بل يقوى الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذى لا يطفأ.
وأما «قثم» و «قثوم» - بالقاف والمثلاثة- ففسره القاضى عياض بالجامع للخير، وقال ابن الجوزى مشتق من القثم، وهو الإعطاء يقال: قثم له من العطاء يقثم، إذا أعطاه، وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق ندى وأسخاهم يدا.
__________
(1) سورة النحل: 18.
(2) سورة النحل: 83.
(3) هو: نحوى زمانه، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن السّرى الزجاج البغدادى، له «معانى القرآن» وغير ذلك، مات سنة (311 هـ) .
(4) سورة الفاتحة: 6.
(5) سورة البقرة: 256.(1/473)
وأما «البارقليط» و «الفارقليط» - بالموحدة. وبالفاء بدلها، وفتح الراء والقاف. وبسكون الراء مع فتح القاف. وفتح الراء مع سكون القاف. وبكسر الراء وسكون القاف غير منصرف للعجمة والعلمية- فوقع فى إنجيل يوحنا، ومعناه: روح الحق. وقال ثعلب «1» الذى يفرق بين الحق والباطل، وفى نهاية ابن الأثير، فى صفته- عليه السّلام-، أن اسمه فى الكتب السالفة «فارق ليطا» أى يفرق بين الحق والباطل، قال: ومنه الحديث: محمد فرق بين الناس، أى يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه.
وأما «حمطايا» - فبفتح الحاء المهملة وسكون الميم- قال الهروى:
أى حامى الحرم، وقال ابن الأثير فى حديث كعب أنه قال فى أسماء النبى صلى الله عليه وسلم- فى الكتب السالفة: محمد وأحمد وحمياطا- يعنى بالحاء المهملة ثم ميم ساكنة فمثناة تحتية فألف فطاء مهملة فألف-. قال أبو عمرو: سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال: معناه يحمى الحرم من الحرام، ويوطئ الحلال.
وأما «أحيد» - وهو بهمزة مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم دال مهملة. كذا وجدته فى بعض نسخ الشفاء المعتمدة. والمشهور ضبطه بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبفتح المثناة التحتية، وفى نسخة بفتحها وكسر الحاء وسكون المثناة- فقال النووى فى كتابه تهذيب الأسماء واللغات: عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اسمى فى القرآن محمد، وفى الإنجيل أحمد، وفى التوراة أحيد، وإنما سميت أحيد لأنى أحيد عن أمتى نار جهنم» «2» .
وأما «المنحمنا» وهو بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد النون الثانية المفتوحة، مقصور، وضبطه بعضهم بفتح الميمين، فمعناه بالسريانية محمد.
__________
(1) هو: إمام النحو، أبو العباس، أحمد بن يحيى بن يزيد الشيبانى، مولاهم البغدادى، صاحب «الفصيح والتصانيف» ، مات سنة (291 هـ) .
(2) موضوع: انظر «تذكرة الموضوعات» للفتنى (86) و «الفوائد المجموعة» للشوكانى (359) .(1/474)
وأما «المشفح» - وهو بضم الميم وبالشين المعجمة وبالفاء المشددة المفتوحتين ثم حاء مهملة، وروى بالقاف بدل الفاء- ففى كتاب شعيا فى البشارة به- عليه السّلام-: يفتح العيون العور، والآذان الصم ويحيى القلوب، وما أعطيه لا أعطيه أحدا، مشفع يحمد الله حمدا جديدا، وهو بلغتهم السريانية الحمد.
وأما «مقيم السنة» ففى كتاب الشفاء: قال داود- عليه الصلاة والسلام-: اللهم ابعث لنا محمدا يقيم السنة بعد الفترة.
وأما «المبارك» فمبدأ الكون ونماؤه كائن من بركته المستمدة من بركة الله، ومن كمال بركته نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته حتى أشبع الجيش الكثير، وغير ذلك مما لمسه أو باشره، كما سيأتى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد معجزاته.
وأما «المكين» فهو- صلى الله عليه وسلم- المكين بعلو مكانته عند ربه تعالى، ومن ذلك أن قرن سبحانه ذكره بذكره فما أذن باسم أحد سواه، ولا قرن اسم أحد مع اسمه إلا إياه، فأعلن له فى السابقة على ساق العرش وأذن به فى اللاحقة على منار الإيمان.
وأما «الأمى» فهو من أخص أسمائه، وقال تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1» ، فهو تعالى يقرئه ما كتبه بيده، وما خطته أقلامه العلمية فى ألواح قدسه الأقدسية، فيغنيه بذلك عن أن يقرأ ما تكتب الخلق.
وأما «المكى» فقد كان بداية ظهوره- عليه الصلاة والسلام- فى الأرض فى مكة، التى هى حرم الله، وهى مدد البركة ومنشأ الهدى، فهو- صلى الله عليه وسلم- مكى الإقامة ومبدأ النبوة، ومكى الإعادة، وكان من آية ذلك توجيه لها حيثما توجه، فهو- صلى الله عليه وسلم- المكى الذى لم يبرح وجودا وقصدا، والمرء
__________
(1) سورة الشورى: 52.(1/475)
حيث قصده لا حيث جسمه، حتى كان من شرعه أن يوجه الميت للكعبة.
ومن أومأ لشىء فهو لما أومأ إليه، ولذلك صحت الصلاة إيماء.
وأما «المدنى» فلأن المدينة دار هجرته وإقامته لا رحلة له عنها، وخصت تربتها بأن ضمت أعضاءه المقدسة.
وأما «عبد الكريم» فذكر الحسين بن محمد الدامغانى فى كتابه «شوق العروس وأنس النفوس» نقلا عن كعب الأحبار أنه قال: اسم النبى- صلى الله عليه وسلم- عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الجبار، وعند أهل العرش عبد الحميد، وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهار، وعند الجن عبد الرحيم، وفى الجبال عبد الخالق، وفى البر عبد القادر وفى البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وعند السباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وفى التوراة موذ موذ، وفى الإنجيل طاب طاب، وفى الصحف عاقب، وفى الزبور فاروق، وعند الله طه ويس، وعند المؤمنين محمد- صلى الله عليه وسلم-، وكنيته أبو القاسم لأنه يقسم الجنة بين أهلها «1» .
وأما «عبد الله» فسماه الله تعالى به فى أشرف مقاماته فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «2» . وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «3» . وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «4» . فذكره بالعبودية فى مقام إنزال الكتاب عليه والتحدى بأن يأتوا بمثله. وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «5» فذكره فى مقام
__________
(1) لا أصل له.
(2) سورة البقرة: 23.
(3) سورة الفرقان: 1.
(4) سورة الكهف: 1.
(5) سورة الجن: 19.(1/476)
الدعوة إليه، وقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» ، وقال:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
«2» ولو كان له اسم أشرف منه لسماه به فى تلك الحالات العلية.
ولما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، ورقاه إلى أعلى المعالى العلوية، ألزمه- تشريفا له- اسم العبودية، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يجلس للأكل جلوس العبد، وكان يتخلى عن وجوه الترفعات كلها فى ملبسه ومأكله ومبيته ومسكنه إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان، صدقا عما فى باطنه من تحقيق العبودية لربه تحقيقا لمعنى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ «3» .
ولما خير بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، اختار أن يكون نبيّا عبدا، فاختار ما هو الأتم، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول كما فى الصحيح: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله» «4» فاستثبت ما هو ثابت له، وأسلم لله ما هو له لا لسواه، وليس للعبد إلا اسم العبد، ولذا كان «عبد الله» أحب الأسماء إلى الله تعالى.
__________
(1) سورة الإسراء: 1.
(2) سورة النجم: 10.
(3) سورة الزمر: 33.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (3445) فى أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، من حديث عمر- رضى الله عنه-.(1/477)
الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام
اعلم أن جملة ما اتفق عليه منهم ستة: القاسم وإبراهيم، وأربع بنات:
زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن معه.
واختلف فيما سوى هؤلاء: فعند ابن إسحاق: الطاهر والطيب أيضا فتكون على هذا ثمانية، أربعة ذكور وأربع إناث. وقال الزبير بن بكار «1» :
كان له- صلى الله عليه وسلم- سوى إبراهيم والقاسم عبد الله، مات صغيرا بمكة، ويقال له:
الطيب والطاهر، ثلاثة أسماء.
وهو قول أكثر أهل النسب، قاله أبو عمر، وقال الدار قطنى: هو الأثبت. وسمى عبد الله بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة. فعلى هذا تكون جملتهم سبعة، ثلاثة ذكور.
وقيل: عبد الله غير الطيب والطاهر، حكاه الدار قطنى وغيره. فتكون جملتهم على هذا تسعة خمسة ذكور. وقيل: كان له الطيب والمطيب، ولدا فى بطن، والطاهر والمطهر، ولدا فى بطن، ذكره صاحب الصفوة، فيكونون على هذا أحد عشر. وقيل: ولد له ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف، فيكونون على هذا اثنى عشر. وكلهم سوى هذا ولد فى الإسلام بعد المبعث.
وقال ابن إسحاق: كلهم غير إبراهيم قبل الإسلام. ومات البنون قبل الإسلام وهم يرتضعون، وقد تقدم من قول غيره أن عبد الله ولد بعد النبوة ولذلك سمى بالطيب والطاهر.
__________
(1) هو: الحافظ النسابة، قاضى مكة وعالمها، أبو عبد الله بن أبى بكر، بكار بن عبد الله القرشى الأسدى الزبيرى المدنى المكى، كان عالما بالنسب وأخبار المتقدمين، مات سنة (256 هـ) .(1/478)
فتحصل من جميع الأقوال ثمانية ذكور: اثنان متفق عليهما: القاسم وإبراهيم، وستة مختلف فيهم: عبد مناف، وعبد الله، والطيب والمطيب، والطاهر، والمطهر.
والأصح أنهم ثلاثة ذكور والأربع بنات متفق عليهن وكلهم من خديجة بنت خويلد إلا إبراهيم. فأما القاسم فهو أول ولد ولد له- عليه الصلاة والسلام- قبل النبوة، وبه كان يكنى. وعاش حتى مشى، وقيل عاش سنتين، وقال مجاهد مكث سبع ليال، وخطأه الغلابى فى ذلك وقال: الصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا. وقال ابن فارس: بلغ ركوب الدابة ومات قبل المبعث. وفى مستدرك الفريانى ما يدل على أنه توفى فى الإسلام. وهو أول من مات من ولده- عليه الصلاة والسلام-. وأما زينب فهى أكبر بناته بلا خلاف إلا ما لا يصح، وإنما الخلاف فيها وفى القاسم أيهما ولد أولا. وعند ابن إسحاق أنها ولدت فى سنة ثلاثين من مولد النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأدركت الإسلام، وهاجرت، وماتت سنة ثمان من الهجرة عند زوجها- وابن خالتها- أبى العاص لقيط وقيل مهشم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس.
وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبى- صلى الله عليه وسلم- إليه بالنكاح الأول بعد سنتين، وقيل بعد ست سنين وقيل قبل انقضاء العدة، فيما ذكره ابن عقبة. وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ردها له بنكاح جديد سنة سبع.
وولدت له عليّا مات صغيرا وقد ناهز الحلم، وكان رديف النبى- صلى الله عليه وسلم- على ناقته يوم الفتح، وولدت له أيضا أمامة التى حملها- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الصبح على عاتقه، وكان إذا ركع وضعها وإذا رفع رأسه من السجود أعادها «1» ، وتزوجها على بن أبى طالب بعد موت فاطمة.
وأما رقية فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده- صلى الله عليه وسلم-. وذكر الزبير بن
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (516) فى الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه فى الصلاة، ومسلم (543) فى المساجد، باب: جواز حمل الصبيان فى الصلاة، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.(1/479)
بكار وغيره أنها أكبر بناته- صلى الله عليه وسلم- وصححه الجرجانى النسابة. والأصح الذى عليه الأكثرون كما تقدم، أن زينب أكبرهن.
وكانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأختها أم كلثوم تحت أخيه عتيبة، فلما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» قال لهما أبوهما- أبو لهب- رأسى من رأسكما حرام إن لم تفارقا ابنتى محمد، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما.
فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجر بها الهجرتين إلى أرض الحبشة، وكانت ذات جمال رائع. وذكر الدولابى أن تزويجه بها كان فى الجاهلية، وذكر غيره ما يدل على أنه كان بعد إسلامه.
وتوفيت والنبى- صلى الله عليه وسلم- ببدر. وعن ابن عباس: لما عزى- صلى الله عليه وسلم- برقية قال: «الحمد لله، دفن البنات من المكرمات» «2» أخرجه الدولابى.
وأما أم كلثوم فلا يعرف لها اسم، إنما تعرف بكنيتها، وكانت تحت عتيبة بن أبى لهب- كما قدمته- ففارقها قبل الدخول.
ويروى أن عتيبة لما فارق أم كلثوم جاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبنى ولا أحبك. ثم سطا عليه وشق قميصه وهو خارج نحو الشام تاجرا. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنى أسأل الله أن يسلط عليك كلبه» وفى رواية: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخى، فخرج فى تجر من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمى، وهو والله آكلى، كما دعا على محمد، أقاتلى ابن أبى كبشة وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم فأخذ برأسه ففدغه. وفى رواية: فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلنى ومات. وفى
__________
(1) سورة المسد: 1.
(2) موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن ابن عباس كما فى «ضعيف الجامع» (2792) ، والخطيب البغدادى عن ابن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (2990) .(1/480)
رواية: أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه «1» ، ذكره الدولابى.
ولما توفيت رقية خطب عثمان ابنة عمر حفصة فرده «2» ، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عمر، أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك؟ قال: نعم يا نبى الله، قال: تزوجنى ابنتك، وأزواج عثمان ابنتى، خرجه الخجندى.
وكان تزويج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «والذى نفسى بيده لو أن عندى مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة، زوجتك أخرى بعد أخرى، هذا جبريل أخبرنى أن الله يأمرنى أن أزوجكها» «3» . رواه الفضائلى.
وماتت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، وصلى عليها- صلى الله عليه وسلم- ونزل فى حفرتها على والفضل وأسامة بن زيد. وفى البخارى (جلس- صلى الله عليه وسلم- على القبر وعيناه تذرفان وقال: «هل فيكم أحد لم يقارف الليلة» فقال أبو طلحة:
أنا، فقال: «انزل قبرها» فنزل) «4» .
وقد روى نحو ذلك فى رقية، وهو وهم، فإنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن حال دفنها حاضرا، بل كان فى غزوة بدر كما قدمته.
وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وشهدت أم عطية غسلها، وروت قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن فى الآخرة كافورا، فإذا
__________
(1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (35506) .
(2) قلت: الذى فى الصحيح أن حفصة لما تأيمت بوفاة زوجها عرضها أبوها عمر على عثمان، وليس العكس، والخبر أخرجه البخارى (5129) فى النكاح، باب: من قال لا نكاح إلا بولى.
(3) ضعيف: أخرجه ابن عساكر بنحوه كما فى «كنز العمال» (36199 و 36200) .
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1342) فى الجنائز، باب: من يدخل قبر المرأة، من حديث أنس- رضى الله عنه-، ودون تعيين اسم المتوفاة.(1/481)
فرغتن فاذننى» فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه وقال: «أشعرنها إياه» قالت ومشطناها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها «1» .
و «الحقو» : الإزار، و «أشعرنها» أى اجعلناه شعارها الذى يلى جسدها، وذلك هو الشعار وما فوقه الدثار.
وأما فاطمة الزهراء البتول فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبى صلى الله عليه وسلم-، قاله أبو عمر، وهو مغاير لما رواه ابن إسحاق: أن أولاده- صلى الله عليه وسلم- كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم، وقال ابن الجوزى: ولدت قبل النبوة بخمس سنين، أيام بناء البيت.
وروى مرفوعا: «إنما سميت فاطمة، لأن الله قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة» أخرجه الحافظ الدمشقى. وروى الغسانى والخطيب مرفوعا:
«لأن الله فطمها ومحبيها عن النار» «2» .
وسميت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، وقيل:
لانقطاعها عن الدنيا إلى الله، قاله ابن الأثير.
وتزوجت بعلى بن أبى طالب فى السنة الثانية، وقيل بعد أحد، وقيل بعد بنائه- عليه السّلام- بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف، وقيل فى صفر فى السنة الثانية، وبنى بها فى ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا.
وكان تزويجها بأمر الله ووحيه. وتزوجت ولها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف ولعلى إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. وتقدم مزيد لذلك فى المغازى والسير من المقصد الأول.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1253) فى الجنائز، باب: غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر، ومسلم (939) فى الجنائز، باب: فى غسل الميت.
(2) موضوع: أخرجه الخطيب البغدادى عن ابن عباس كما فى «كنز العمال» (34226) ، والديلمى عن أبى هريرة، كما فى «كنز العمال» (34227) ، وانظر «الموضوعات» لابن الجوزى (1/ 421) .(1/482)
قال أبو عمر: وفاطمة وأم كلثوم أفضل بنات النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكانت فاطمة أحب أهله إليه- صلى الله عليه وسلم-، وكان يقبلها فى فيها ويمصها لسانه، وإذا أراد سفرا يكون آخر عهده بها، وإذا قدم أول ما يدخل عليها.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبنى» «1» رواه البخارى. وقال لها: «أما ترضين أن تكونى سيدة نساء المؤمنين» «2» رواه مسلم، وفى رواية أحمد «أفضل نساء أهل الجنة» «3» .
وتوفيت بعده- صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر، ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهى ابنة تسع وعشرين سنة، قاله المدينى. وقيل توفيت بعده بثمانية أشهر وقيل غير ذلك، والأول أصح كذا قالوه فيما رأيته، وهو غير منتظم مع السابق فليتأمل.
وروى أنها قالت لأسماء بنت عميس: إنى قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة، فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة ما أحسن هذا، تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فاغسلينى أنت وعلى، ولا يدخل على أحد، الحديث خرجه أبو عمر.
وفى حديث أم رافع سلمى أنها لما اشتكت اغتسلت ولبست ثيابا جددا واضطجعت فى وسط البيت، ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، ثم استقبلت القبلة وقالت: إنى مقبوضة الآن فلا يكشفنى أحد ولا يغسلنى، ثم قبضت مكانها، ودخل على فأخبر بالذى قالت، فاحتملها فدفنها بغسلها
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3714) فى المناقب، باب: مناقب قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومنقبة فاطمة- عليها السلام-، ومسلم (2449) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-، من حديث المسور بن مخرمة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3624) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2420) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 293) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.(1/483)
ذلك، ولم يكشفها ولا غسلها أحد. رواه أحمد فى المناقب والدولابى وهذا لفظه مختصرا، وهو مضاد لخبر أسماء المتقدم.
قال أبو عمر: فاطمة أول من غطى نعشها من النساء على الصفة المذكورة فى خبر أسماء المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش صنع بها ذلك أيضا.
وولدت لعلى: حسنا وحسينا ومحسنا، فمات محسن صغيرا، وأم كلثوم وزينب.
ولم يكن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عقب إلا من ابنته فاطمة- رضى الله عنها- فانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط. ويقال للمنسوب لأولهما: حسنى، ولثانيهما: حسينى.
وقد يضم للحسينى من يكون من ذرية إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين على بن الحسين بن على بن أبى طالب الإسحاقى، فيقال: الحسينى الإسحاقى.
وإسحاق هذا، هو زوج السيدة نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن على، وله منها: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا.
وتزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت فاطمة، فولدت له: زيدا ورقية، ولم يعقبا ثم تزوجت أم كلثوم بعد موت عمر بعون بن جعفر، ثم تزوجت بعد وفاته بأخيه محمد بن جعفر ثم مات عنها فتزوجت بأخيهما عبد الله بن جعفر ثم ماتت عنده ولن تلد لواحد من الثلاثة سوى للثانى ابنة صغيرة فليس لها عقب.
ثم تزوج عبد الله بن جعفر أختها زينب بنت فاطمة، فولدت له عدة من الأولاد، منهم: على وأم كلثوم.
وتزوج أم كلثوم- هذه- ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر بن أبى طالب فولدت له عدة من الأولاد منهم: فاطمة زوج حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وله منها عقب.(1/484)
وبالجملة: فعقب عبد الله بن جعفر انتشر من على وأخته أم كلثوم ابنى زينب بنت الزهراء. ويقال لكل من ينتسب لهؤلاء جعفرى، ولا ريب أن لهؤلاء شرفا.
وأما الجعافرة المنسوبون لعبد الله بن جعفر فلهم أيضا شرف، لكنه يتفاوت، فمن كان من ولده من زينب بنت الزهراء فهم أشرف من غيرهم، مع كونهم لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين لمزيد شرفهما، وكذا يوصف العباسيون بالشرف لشرف بنى هاشم.
قال الحافظ ابن حجر فى الألقاب: وقد لقب به. يعنى بالشريف- كل عباسى ببغداد وعلوى بمصر. وفى شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له الشريف العباسى.
وأما عبد الله ابن النبى- صلى الله عليه وسلم- فقيل مات صغيرا بمكة، فقال العاصى ابن وائل: قد انقطع ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1» .
واختلف: هل ولد قبل النبوة أو بعدها؟ وهل هو الطيب والطاهر؟
والصحيح: أنهما لقبان له، كما تقدم.
وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، وسيأتى ذكرها فى سراريه- عليه السّلام- إن شاء الله تعالى فى الفصل التالى لهذا فى أمهات المؤمنين.
وولد فى ذى الحجة سنة ثمان من الهجرة، وقيل ولد بالعالية، ذكره الزبير بن بكار، وكانت سلمى زوج أبى رافع مولاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قابلته، فبشر أبو رافع به النبى- صلى الله عليه وسلم- فوهب له عبدا، وعق عنه يوم سابعه بكبشين، وحلق رأسه أبو هند، وسماه النبى- صلى الله عليه وسلم- يومئذ، وتصدق بزنة شعره ورقا على المساكين، ودفنوا شعره فى الأرض.
وفى البخارى: من حديث أنس بن مالك، أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ولد لى
__________
(1) سورة الكوثر: 3.(1/485)
الليلة غلام سميته باسم أبى إبراهيم» ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف «1» ، الحديث، وفيه: أنه بقى عندها إلى أن مات، والقين:
الحداد.
ويجمع بينهما: بأن التسمية كانت قبل السابع، كما فى حديث أنس هذا ثم ظهرت فيه، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- عند الترمذى مرفوعا- أنه أمر بتسمية المولود يوم سابعه «2» ، فيحمل على أنها لا تؤخر عن السابع، لا أنها لا تكون إلا فيه، بل هى مشروعة من الولادة إلى السابع.
قال الزبير بن بكار: وتنافست الأنصار فيمن ترضع إبراهيم- عليه السّلام-، فإنهم أحبوا أن يفرغوا مارية له- عليه السّلام-، فأعطاه لأم بردة بنت المنذر بن زيد الأنصارى، زوجه البراء بن أوس، فكانت ترضعه بلبن ابنها فى بنى مازن بن النجار وترجع به إلى أمه. وأعطى- صلى الله عليه وسلم- أمه بردة قطعة نخل.
وقد تقدم أنه أعطاه أم سيف وبقى عندها إلى أن مات، فيحتمل أن يكون أعطاه أولا أم بردة ثم أعطاه أم سيف وبقى عندها إلى أن توفى، لكن قد روى أنه توفى عند أم بردة، فيرجع فى الترجيح إلى الصحيح.
وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم-، كان إبراهيم مسترضعا فى عوالى المدينة فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وكان ظئره قينا، فيأخذ فيقبله ثم يرجع. الحديث رواه أبو حاتم.
وفى حديث جابر: أخذ- صلى الله عليه وسلم- بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فأخذه- صلى الله عليه وسلم- فوضعه فى حجره ثم
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3126) فى الجنائز، باب: فى البكاء على الميت، وأصل الحديث عند البخارى (1303) فى الجنائز، ومسلم (2315) فى الفضائل.
(2) حسن: أخرجه الترمذى (2832) فى الأدب، باب: ما جاء فى تعجيل اسم المولود، وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال.(1/486)
ذرفت عيناه، ثم قال: «إنا بك يا إبراهيم لمحزنون، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب» «1» خرجه بهذا السياق أبو عمرو بن السماك، ومعناه فى الصحيح.
وتوفى وله سبعون يوما- فيما ذكره أبو داود- فى ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه، وقيل: بلغ ستة عشر شهرا وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام.
وحمل على سرير صغير، وصلى عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- بالبقيع وقال:
«ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون» . وروى أن عائشة قالت: دفنه- صلى الله عليه وسلم- ولم يصل عليه، فيحتمل أن يكون لم يصل عليه بنفسه وأمر أصحابه أن يصلوا عليه، أو لم يصل عليه فى جماعة.
وروى أن الذى غسله أبو بردة، وروى الفضل بن العباس، ولعلهما اجتمعا عليه.
ونزل قبره الفضل وأسامة. والنبى- صلى الله عليه وسلم- على شفير القبر، ورش قبره وعلم بعلامة.
قال الزبير: وهو أول قبر رش.
وانكسفت الشمس يوم موته فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد» «2» رواه الشيخان: قيل: الغالب أن الكسوف يكون يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، فكسفت يوم موت إبراهيم فى العاشر، فلذلك قالوا:
كسفت لموته.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1303) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: إنا بك لمحزونون، ومسلم (2315) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (1041) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، ومسلم (911) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة، من حديث أبى مسعود الأنصارى.(1/487)
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن له مرضعا فى الجنة» «1» رواه ابن ماجه.
وقد روى من حديث أنس بن مالك أنه قال: «لو بقى- يعنى إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم- لكان نبيّا، ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء» «2» أخرجه أبو عمر.
قال الطبرى: وهذا إنما يقوله أنس عن توقيف يخص إبراهيم، وإلا فلا يلزم أن يكون ابن النبى نبيّا، بدليل ابن نوح- عليه السّلام-.
وقال النووى فى تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روى عن بعض المتقدمين: لو عاش إبراهيم لكان نبيّا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم. انتهى.
قال شيخنا فى كتابه «المقاصد الحسنة» : ونحوه قول ابن عبد البر فى تمهيده: لا أدرى ما هذا، فقد ولد نوح غير نبى، ولو لم يلد النبى إلا نبيّا لكان كل أحد نبيّا، لأنهم من ولد نوح. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يلزم من الحديث المذكور ما ذكره الطبرى لما لا يخفى، وكأنه سلف النووى، وقال أيضا عقب كلام النووى: إنه عجيب من وروده عن ثلاثة من الصحابة، قال: وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال فى إنكاره ما قال.
وجوابه: أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، ولا يظن بالصحابى الهجوم على مثل هذا بالظن.
قال شيخنا: والطرق الثلاثة:
أحدها: ما أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس: لما مات
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1511) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصلاة على ابن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وذكر وفاته، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وهو عند البخارى (2250) فى بدء الخلق، باب: ما جاء فى صفة الجنة، من حديث البراء- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 133) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5272) .(1/488)
إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-، صلى عليه وقال: «إن له مرضعا فى الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيّا، ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط، وما استرق قبطى» «1» . وفى سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطى، وهو ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده فى المعرفة وقال: إنه غريب.
ثانيها: ما رواه إسماعيل السدى عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو بقى لكان نبيّا، الحديث.
ثالثها: ما عند البخارى من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبى خالد قال: قلت لعبد الله بن أبى أوفى: «رأيت إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-؟
قال: مات صغيرا،. ولو قضى بعد محمد نبى عاش ابنه إبراهيم، ولكن لا نبى بعده» «2» .
وأخرجه أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبى أوفى يقول: لو كان بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- نبى ما مات ابنه «3» . انتهى.
__________
(1) ضعيف بهذا المقام: أخرجه ابن ماجه (1511) ، وقد تقدم قبل حديثين.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6194) فى الأدب، باب: من سمى بأسماء الأنبياء.
(3) أخرجه أحمد فى المسند» (4/ 353) .(1/489)
الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات
قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «1» .
أى أزواجه- صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين، سواء من مات عنها أو ماتت عنه وهى تحته. وذلك فى تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا فى نظر وخلوة.
ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوانهن ولا أخواتهن أخوال وخالات. قال البغوى: كن أمهات المؤمنين دون النساء، روى ذلك عن عائشة- رضى الله عنها- ولفظها- كما فى البيضاوى-:
«لسنا أمهات النساء» وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: أن النساء لا يدخلن فى خطاب الرجال. قال: وكان- صلى الله عليه وسلم- أبا للرجال والنساء. ويجوز أن يقال أبو المؤمنين فى الحرمة. وفضلت زوجاته صلى الله عليه وسلم- على النساء، وثوابهن وعقابهن مضاعفان، ولا يحل سؤالهن إلا من وراء حجاب. وأفضلهن خديجة وعائشة- رضى الله عنهما-، وفى أفضلهما خلاف يأتى تحقيقه- إن شاء الله تعالى- قريبا.
واختلف فى عدة أزواجه- صلى الله عليه وسلم- وترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عنهن ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه.
والمتفق عليه: أنهن إحدى عشرة امرأة، ست من قريش:
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤى.
__________
(1) سورة الأحزاب: 6.(1/490)
وعائشة بنت أبى بكر بن أبى قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى.
وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب بن لؤى.
وأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى.
وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى.
وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤى.
وأربع عربيات:
زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم ابن دودان بن أسد بن خزيمة.
وميمونة بنت الحارث الهلالية.
وزينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين.
وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية.
وواحدة غير عربية من بنى إسرائيل وهى صفية بنت حيى من بنى النضير.
ومات عنده- صلى الله عليه وسلم- منهن اثنتان: خديجة وزينب أم المساكين، ومات صلى الله عليه وسلم- عن تسع، ذكر أسماءهن الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسى نظما فقال:
توفى رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب(1/491)
ولا خلاف فى أن أول امرأة تزوج بها منهن خديجة بنت خويلد، وأنه صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج عليها حتى ماتت.
وهذا حين الشروع فى ذكرهن على الترتيب.
فأما أم المؤمنين خديجة- وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم- فكانت تدعى فى الجاهلية «الطاهرة» ، وكانت تحت أبى هالة النباش بن أبى زرارة فولدت له هندا وهالة وهما ذكران.
ثم تزوجها عتيق بن عائذ المخزومى، فولدت له جارية اسمها هند، وبعضهم يقدم عتيقا على أبى هالة.
ثم تزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولها يومئذ من العمر أربعون سنة وبعض أخرى، وكان سنه- صلى الله عليه وسلم- إحدى وعشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين، وعليه الأكثر، وقيل ثلاثين.
وكانت عرضت نفسها عليه، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة، حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها- صلى الله عليه وسلم- وأصدقها عشرين بكرة. وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر: فخطب أبو طالب. وقد قدمت خطبته فى المقصد الأول عند ذكر تزويجها له- صلى الله عليه وسلم-. وذكر الدولابى وغيره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أصدق خديجة اثنتى عشرة أوقية ذهبا.
وقد كانت خديجة- كما قدمته- أول من آمن من الناس، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة: «أن جبريل قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام- أو إدام أو شراب- فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» «1» والقصب: اللؤلؤ المجوف.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3821) فى المناقب، باب: تزويج النبى- صلى الله عليه وسلم- خديجة وفضلها- رضى الله عنها-، ومسلم (2432) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين- رضى الله تعالى عنها-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.(1/492)
قال ابن إسحاق: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له- عليه السّلام-، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت.
وعن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم- عليه السّلام-: إنى لسيد البشر يوم القيامة، إلا رجلا من ذريتى نبيّا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل على باثنتين: زوجته عاونته فكانت له عونا، وكانت زوجتى على عونا، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطانى. خرجه الدولابى، كما ذكره الطبرى.
وخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة ابنة محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون» «1» .
قال الشيخ ولى الدين العراقى: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة. انتهى.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى فى شرح بهجة الحاوى، عند ذكر أزواجه- صلى الله عليه وسلم-: وأفضلهن خديجة وعائشة وفى أفضلهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة، حين قالت له: قد رزقك الله خيرا منها فقال: «لا والله ما رزقنى الله خيرا منها، آمنت بى حين كفر بى الناس، وصدقتنى حين كذبنى الناس، وأعطتنى مالها حين حرمنى الناس» «2» .
وسئل ابن داود [بن على الظاهرى] أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبى- صلى الله عليه وسلم- السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل من ربها السلام على لسان محمد، فهى أفضل. قيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فاطمة بضعة منى» «3» فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أحدا.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 293) ، وقد تقدم قريبا.
(2) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 117) بسند حسن.
(3) صحيح: وقد تقدم قريبا.(1/493)
ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم- لها: «أما ترضين أن تكونى سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم» «1» .
واحتج من فضل عائشة بما احتجت به من أنها فى الآخرة مع النبى صلى الله عليه وسلم- فى الدرجة، وفاطمة مع على فيها.
وسئل السبكى عن ذلك فقال: الذى نختاره، وندين الله به، أن فاطمة بنت محمد أفضل من أمها خديجة، ثم أمها خديجة، ثم عائشة، ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه.
وأما خبر الطبرانى: خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون «2» . فأجاب عنه ابن العماد: بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة.
واختار السبكى: أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف فى نبوتها، انتهى.
وقال أبو أمامة بن النقاش: إن سبق خديجة، وتأثيرها فى أول الإسلام ومؤازرتها ونصرها وقيامها فى الدين لله بمالها ونفسها، لم يشركها فيه أحد، لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين. وتأثير عائشة فى آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها، انتهى.
وماتت خديجة بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بأربع، وقيل بخمس، ودفنت فى الحجون، وهى ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلى على الجنازة، وكانت مدة مقامها مع النبى- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين سنة، وقيل أربعا وعشرين سنة.
__________
(1) صحيح إلا جملة مريم، وقد تقدم قريبا.
(2) قلت: هو عند الطبرانى فى «الكبير» (22/ 402) بحرف العطف «واو» وليس «ثم» الذى يفيد الترتيب والتراخى.(1/494)
وأما سودة بنت زمعة- وأمها الشموس بنت قيس- فأسلمت قديما وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو- أخو سهيل بن عمرو- أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل إنه مات بالحبشة.
وتزوجها- صلى الله عليه وسلم- بمكة بعد موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة، هذا قول قتادة وأبى عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره، ويقال تزوجها بعد عائشة ويجمع بين القولين: بأنه- صلى الله عليه وسلم- عقد على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل منهما، وإن كان المتبادر إلى الفهم العقد دون الدخول.
ولما كبرت سودة أراد- صلى الله عليه وسلم- طلاقها، فسألته ألايفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها.
وتوفيت بالمدينة فى شوال سنة أربع وخمسين. وروى البخارى فى تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبى هلال: أنها ماتت فى خلافة عمر، وجزم الذهبى فى التاريخ الكبير بأنها ماتت فى آخر خلافة عمر، وقال ابن سيد الناس: إنه المشهور.
وأما أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس، من بنى مالك بن كنانة- فكانت مسماة على جبير بن مطعم، فخطبها النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصدقها- فيما قاله ابن إسحاق- أربعمائة درهم، وتزوجها بمكة فى شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها ست سنين، وأعرس بالمدينة فى شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وقيل بعد سبعة أشهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام-.
وخرج الشيخان عن عائشة أنها قالت: «تزوجنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا ابنة ست سنين فقدمنا المدينة، فنزلنا فى بنى الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعرى، فأتتنى أمى- أم رومان- وإنى لفى أرجوحة مع صواحب لى،(1/495)
فصرخت بى فأتيتها، ما أدرى ما تريد منى، فأخذت بيدى حتى أوقفتنى على باب الدار، وأنا أنهج، حتى سكن بعض نفسى، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهى ورأسى ثم أدخلتنى الدار، فإذا نسوة من الأنصار فى البيت فقلن: على الخير والبركة، فأسلمتنى إليهن فأصلحن من شأنى، فلم يرعنى إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضحى، فأسلمتنى إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين «1» .
وأخرجه أبو حاتم بتغيير بعض ألفاظه.
قال أبو عمر: كان نكاحه- صلى الله عليه وسلم- لعائشة فى شوال، وابتنى بها فى شوال، وكانت تحب أن يدخل النساء من أهلها وأحبتها فى شوال على أزواجهن.
وكانت أحب نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليه، وكانت إذا هويت الشىء تابعها عليه، وفقدها- عليه السّلام- فى بعض أسفاره فقال: «واعروساه» «2» .
أخرجه أحمد.
وقال لها- صلى الله عليه وسلم-- كما فى الصحيحين-: «رأيتك فى المنام ثلاث ليال، جاءنى بك الملك فى سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فأقول: إن يكن من عند الله يمضه» «3» والسرقة: شقة الحرير أو البيضاء.
وفى الترمذى أن جبريل جاءه- عليه الصلاة والسلام- بصورتها فى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3894) فى المناقب، باب: تزويج النبى- صلى الله عليه وسلم- عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها، ومسلم (1422) فى النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 248) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3895) فى المناقب، باب: تزويج النبى- صلى الله عليه وسلم- عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها، ومسلم (2438) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة رضى الله تعالى عنها-، واللفظ لمسلم.(1/496)
خرقة حرير خضراء وقال هذه زوجتك فى الدنيا والآخرة. وفى رواية عنده:
قال جبريل: إن الله قد زوجك بابنة أبى بكر، ومعه صورتها «1» .
وكانت مدة مقامها معه- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، ومات عنها- صلى الله عليه وسلم- ولها ثمانى عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها، وكانت فقيهة عالمة فصيحة، كثيرة الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، عارفة بأيام العرب وأشعارها، روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقسم لها ليلتين، ليلتها وليلة سودة بنت زمعة، لأنها وهبت ليلتها لما كبرت لها- كما تقدم- ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور على نسائه ويختم بعائشة.
وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين. وقال الواقدى: ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثمان وخمسين، وهى ابنة ست وستين سنة، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة فى أيام معاوية بن أبى سفيان.
وكانت عائشة تكنى أم عبد الله، يروى أنها أسقطت من النبى- صلى الله عليه وسلم- سقطا، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بعبد الله بن الزبير، ابن أختها، فإنه- عليه الصلاة والسلام- تفل فى فيه لما ولد، وقال لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكنى بها وما ولدت قط. خرجه أبو حاتم.
وأما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب- رضى الله عنهما- وأمها زينب بنت مظعون- فأسلمت وهاجرت. وكانت قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت خنيس- بضم المعجمة وفتح النون وبالسين المهملة- ابن حذافة السهمى، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر.
فلما تأيمت ذكرها عمر على أبى بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما إلى زواجها، فخطبها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنكحه إياها فى سنة ثلاث من
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3880) فى المناقب، باب: من فضل عائشة- رضى الله عنها-، من حديث عائشة- رضى الله عنها- بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .(1/497)
الهجرة «1» ، وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها «2» ، نزل عليه الوحى: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك فى الجنة «3» .
وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. وماتت فى شعبان سنة خمس وأربعين فى خلافة معاوية، وقيل سنة إحدى وأربعين، وهى ابنة ستين سنة، وقيل إنها ماتت فى خلافة عثمان.
وأما أم المؤمنين أم سلمة هند، وقيل رملة والأول أصح- وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة، وليست عاتكة بنت عبد المطلب- فكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- تحت أبى سلمة بن عبد الأسد، وكانت هى وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت له بها زينب، وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة، وقيل هى أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل غيرها، ومات أبو سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث من الهجرة.
وكانت أم سلمة سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم آجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها» قالت: فلما مات أبو سلمة قلت أى المسلمين خير من أبى سلمة، ثم إنى قلتها، فأخلف الله لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأرسل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبى بلتعة يخطبنى له.
وفى رواية: فخطبها أبو بكر فأبت، وخطبها عمر فأبت، ثم أرسل إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: مرحبا برسول الله، إن فى خلالا ثلاثا: أنا امرأة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5122) فى النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (2283) فى الطلاق، باب: فى المراجعة، وابن ماجه (2016) فى الطلاق، باب: رقم (1) من حديث عمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 16) من حديث قيس بن زيد- رضى الله عنه-، و (4/ 17) من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4351) .(1/498)
شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية «1» وأنا امرأة ليس لى ها هنا أحد من أوليائى فيزوجنى. فغضب عمر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد مما غضب لنفسه حين ردته، فأتاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أما ما ذكرت من غيرتك فإنى أدعو الله أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم، وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهنى» فقالت لابنها: زوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزوجه «2» . قال صاحب «السمط الثمين» رواه بهذا السياق هدبة بن خالد «وصاحب الصفوة» وخرج أحمد والنسائى طرفا منه، ومعناه فى الصحيح.
وفيه دلالة على أن الابن يلى العقد على أمه، وعندنا أنه إنما زوجها بالعصوبة لأنه ابن ابن عمها، لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال ابن عبد الله، وأم سلمة هند بنت سهيل بن المغيرة بن عبد الله، ولم يكن أحد من عصبتها حاضرا غيره.
وكانت أم سلمة من أجمل النساء، وتزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ليال بقين من شوال من السنة التى مات فيها أبو سلمة.
وماتت سنة تسع وخمسين وقيل سنة اثنتين وستين، والأول أصح، ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، وقيل سعيد بن زيد، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة.
وأما أم المؤمنين أم حبيبة، رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب، وقيل اسمها هند، والأول أصح- وأمها صفية بنت أبى العاصى بن أمية عمة عثمان بن عفان- فكانت تحت عبيد الله بن جحش وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام ومات هناك، وثبتت أم حبيبة على الإسلام.
__________
(1) مصيبة: أى عندى صبيان.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (918) فى الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.(1/499)
واختلف فى وقت نكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إياها، وموضع العقد، فقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، فروى أنه- صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو ابن أمية الضمرى إلى النجاشى ليخطبها عليه، فزوجها إياه، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة.
وروى أن النجاشى أرسل إليها جاريته «أبرهة» فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أن أزوجك منه، وأنها أرسلت إلى خالد ابن سعيد بن العاصى فوكلته وأعطت أبرهة سوارين وخواتم من فضة سرورا بما بشرتها به، فلما كان العشى أمر النجاشى جعفر بن أبى طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشى فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ذهبا، ثم سكب الدنانير بين يدى القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزوجته أم حبيبة بنت أبى سفيان، فبارك الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- فيها. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاصى فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. خرجه صاحب الصفوة كما قال الطبرى. وكان ذلك سنة سبع من الهجرة.
قال أبو عمر: واختلف فيمن زوجها، فروى أنه سعيد بن العاصى، وروى عثمان بن عفان وهى ابنة عمته. وذكر البيهقى أن الذى زوجها خالد ابن سعيد بن العاصى وهو ابن ابن عم أبيها، لكن إن صح التاريخ المذكور فلا يصح أن يكون عثمان هو الذى زوجها، فإنه كان مقدمه من الحبشة قبل وقعة بدر فى السنة الثانية من الهجرة.(1/500)
وكان أبو سفيان أبوها حال نكاحها بمكة مشركا محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم-. وقد قيل إن عقد النكاح عليها كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة والمشهور الأول. وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين وقيل: سنة اثنتين وأربعين.
وأما أم المؤمنين زينب بنت جحش- وأما أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم- فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زوجها من زيد بن حارثة، فمكثت عنده مدة ثم طلقها- كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- فى الخصائص- فلما انقضت عدتها منه قال- صلى الله عليه وسلم- لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرنى لها» قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهرى إلى الباب فقلت يا زينب بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربى عز وجل، فقامت إلى مسجد لها، فأنزل الله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «1» .
فجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن «2» . أخرجه مسلم.
وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «3» .
وكانت زينب تفخر على أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجنى الله من فوق سبع سماوات «4» ، رواه الترمذى وصححه.
وكان اسمها «برة» فحوّله- صلى الله عليه وسلم- إلى زينب. وعن أنس: لما تزوج صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو صلى الله عليه وسلم- يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت
__________
(1) سورة الأحزاب: 37.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1428) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش- رضى الله عنها-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) سورة الأحزاب: 40.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (7421) فى التوحيد، باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، والترمذى (3213) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، واللفظ للترمذى.(1/501)
فجئت فأخبرت النبى- صلى الله عليه وسلم- أنهم انطلقوا. فجاء حتى دخل فذهبت لأدخل فألقى الحجاب بينى وبينه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ «1» الآية.
وكان تزويجها له- صلى الله عليه وسلم- فى سنة خمس من الهجرة، وقيل سنة ثلاث. وهى أول من مات من أزواجه بعده. وقالت عائشة فى شأنها: ولم تكن امرأة خيرا منها فى الدين، وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها فى العمل الذى تتصدق به وتتقرب به إلى الله. رواه مسلم.
وماتت بالمدينة سنة عشرين، وقيل سنة إحدى وعشرين، ولها ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليها عمر بن الخطاب، وهى أول من جعل على جنازتها نعش.
وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، وكانت تدعى فى الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم، فكانت تحت عبد الله بن جحش فى قول ابن شهاب، قتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة ثلاث، ولم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة وتوفيت فى حياته- صلى الله عليه وسلم-، وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلى.
وقيل كانت قبله- صلى الله عليه وسلم- تحت الطفيل بن الحارث، ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث وقتل عنها يوم أحد شهيدا، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم-، والأول أصح.
وتوفيت فى ربيع الآخر سنة أربع ودفنت بالبقيع على الطريق قال الطبرى: كذا ذكره الفضائلى، وإنما يكون هذا على ما حكاه من أنها مكثت عنده- عليه السّلام- ثمانية أشهر، أما على ما حكاه أبو عمر فلا يصح، إذ العقد كان فى سنة ثلاث، ومدتها عنده- صلى الله عليه وسلم- شهران أو ثلاثة فلا يصح أن تكون وفاتها فى ربيع الآخر، انتهى، فليتأمل.
__________
(1) سورة الأحزاب: 53.(1/502)
وأما أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية- وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير- فتزوجها- صلى الله عليه وسلم- لما كان بمكة معتمرا سنة سبع بعد غزوة خيبر، وكانت أختها أم الفضل لبابة الكبرى تحت العباس ابن عبد المطلب، وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى بنت عميس تحت حمزة، وكانت جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف حلالا «1» ، ذكره أبو عمر. وفى الصحيح من أفراد مسلم، عنها أنه- صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال، زاد البرقانى بعد قوله تزوجها حلالا: وبنى بها حلالا وماتت بسرف «2» . فيحمل قوله:
وهو محرم، أى داخل فى الحرم، ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، ثم خرج بها إلى سرف وابتنى بها فيه، وهو على عشرة أميال من مكة، كذا قاله الطبرى. وسيأتى فى مقصد المعجزات فى ذكر الخصائص مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى-.
وكانت ميمونة قبل عند أبى رهم بن عبد العزى، ويقال: بل عبد الله ابن أبى رهم، وقيل: بل عند حويطب بن عبد العزى، وقيل: بل فروة بن عبد العزى.
قال ابن إسحاق. ويقال: إنها وهبت نفسها للنبى- صلى الله عليه وسلم- وذلك أن خطبته- صلى الله عليه وسلم- انتهت إليها وهى على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. وقيل: الواهبة نفسها غيرها.
وتوفيت ميمونة بسرف فى الموضع الذى بنى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وذلك سنة إحدى وخمسين، وقيل ست وخمسين وقيل ثلاث وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها.
وأما أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار- بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء- فكانت تحت مسافح- بالسين المهملة والفاء- ابن صفوان المصطلقى.
__________
(1) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.
(2) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.(1/503)
وكانت قد وقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى، فى غزوة المريسيع، وهى غزوة بنى المصطلق، فى سنة خمس وقيل سنة ست، فكاتبته على نفسها، ثم جاءت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمرى ما لا يخفى عليك، ووقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وإنى كاتبت نفسى، فجئت أسألك فى كتابتى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «فهل لك إلى ما هو خير» قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أؤدى عنك كتابتك وأتزوجك» قالت: قد فعلت. فتسامع الناس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد تزوج جويرية فأرسلوا ما فى أيديهم من السبى، فأعتقوهم وقالوا أصهار رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قالت عائشة: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق فى سببها مائة أهل بيت بنى المصطلق «1» خرجه أبو داود من حديث عائشة.
وقال ابن هشام: ويقال اشتراها- صلى الله عليه وسلم- من ثابت بن قيس وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم.
وعن ابن شهاب: سبى- صلى الله عليه وسلم- جويرية بنت الحارث يوم المريسيع فحجبها وقسم لها، وكانت ابنة عشرين سنة، وكان اسمها «برة» فحوله صلى الله عليه وسلم- وسماها جويرية. وقد تقدم مثل ذلك فى زينب بنت جحش.
وتوفيت وعمرها خمس وستون سنة فى ربيع الأول سنة خمسين، وقيل سنة ست وخمسين.
وأما أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب بن سعية- بفتح السين وسكون العين المهملتين وبالياء المثناة التحتية- ابن ثعلبة بن عبيد من بنى إسرائيل من سبط هارون بن عمران- عليه الصلاة والسلام-. وأمها ضرة بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء- بنت سموأل- بفتح السين المهملة وفتح الميم وسكون الواو وفتح الهمزة وباللام-. فكانت تحت كنانة بن أبى الحقيق
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (3931) فى العتق، باب: فى بيع المكاتب إذا نسخت الكتابة، وأحمد فى «مسنده» (6/ 277) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4054 و 4055) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .(1/504)
- بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون المثناة التحتية- فقتل يوم خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة.
قال أنس: لما افتتح- صلى الله عليه وسلم- خيبر وجمع السبى، جاءه دحية فقال:
يا رسول الله أعطنى جارية من السبى، فقال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفية بنت حيى فجاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيى سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك، قال: «ادعوه بها» فجاء بها، قال: فلما نظر إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «خذ جارية من السبى غيرها» قال: وأعتقها وتزوجها. قال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟
قال: نفسها، أعتقها وتزوجها. حتى إذا كان الطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل، فأصبح- صلى الله عليه وسلم- عروسا، فقال: «من كان عنده شىء فليجىء به» قال: فبسط نطعا، قال: فجعل الرجل يجىء بالأقط، وجعل الرجل يجىء بالتمر، وجعل الرجل يجىء بالسمن، فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» .
وفى رواية: فقال الناس لا ندرى أتزوجها أم اتخذها أم ولد، قالوا: إن حجبها فهى امرأته وإن لم يحجبها فهى أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها.
وفى رواية: فانطلقنا حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها، فدفعنا مطايانا، ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصرع وصرعت، فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها حتى قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسترها. قال: فدخلنا المدينة، فخرج جوارى نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعتها «2» رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم.
وروى عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى بصفية يوم خيبر، وأنه قتل أباها
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (371) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ، ومسلم (1365) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1365) (88) فيما تقدم.(1/505)
وأخاها، وأن بلالا مر بها بين المقتولين، وأنه- صلى الله عليه وسلم- خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقى من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله. خرجه فى الصفوة.
وأخرج تمام فى فوائده من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لها:
«هل لك فىّ» قالت: يا رسول الله لقد كنت أتمنى ذلك فى الشرك، فكيف إذ أمكننى الله فى الإسلام.
وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: رأى- صلى الله عليه وسلم- بعين صفية خضرة فقال: «ما هذه الخضرة؟» فقالت: كان رأسى فى حجر ابن الحقيق وأنا نائمة، فرأيت قمرا وقع فى حجرى فأخبرته بذلك فلطمنى وقال: تمنين ملك يثرب.
وبنى بها- صلى الله عليه وسلم- بالصهباء.
وماتت فى رمضان سنة خمسين فى زمن معاوية، وقيل غير ذلك.
فهؤلاء أزواجه اللاتى دخل بهن لا خلاف فى ذلك بين أهل السير والعلم بالأثر.
وقد ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- تزوج نسوة غير من ذكر، وجملتهن اثنتا عشرة امرأة:
الأولى: الواهبة نفسها له- صلى الله عليه وسلم-، واختلف من هى، فقيل أم شريك القرشية العامرية، واسمها: غزية- بضم الغين المعجمة وفتح الزاى وتشديد المثناة التحتية- بنت جابر بن عوف، من بنى عامر بن لؤى. وقيل بنت دودان ابن عوف، وطلقها النبى- صلى الله عليه وسلم- واختلف فى دخوله بها.
وقيل هى أم شريك غزية الأنصارية من بنى النجار، وفى الصفوة: هى أم شريك غزية بنت جابر الدوسية قال: والأكثرون على أنها التى وهبت نفسها للنبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت.
وذكر ابن قتيبة فى المعارف عن أبى اليقظان، أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمى، ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد.(1/506)
وقال عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم، من اللاتى وهبن أنفسهن للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فقالت عائشة: أما تستحى المرأة أن تهب نفسها للرجل، فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «1» قالت عائشة: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع لك فى هواك «2» رواه الشيخان. وهذه خولة هى زوجة عثمان بن مظعون، ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان.
الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة. تزوجها- صلى الله عليه وسلم- فهلكت قبل أن تصل إليه.
الثالثة: عمرة بنت يزيد بن الجون- بفتح الجيم- الكلابية، وقيل بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر: وهذا أصح.
تزوجها- صلى الله عليه وسلم- فتعوذت منه حين أدخلت عليه، فقال لها: «لقد عذت بمعاذ» فطلقها وأمر أسامة بن زيد فمتعها بثلاثة أثواب «3» ، قال أبو عمر: هكذا روى عن عائشة.
وقال قتادة: كان ذلك فى امرأة من سليم. وقال أبو عبيدة: إنما ذلك لأسماء بنت النعمان بن الجون، وهكذا ذكره ابن قتيبة. وسيأتى وقال فى عمرة هذه: إن أباها وصفها للنبى- صلى الله عليه وسلم- ثم قال وأزيدك: أنها لم تمرض قط فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما لهذه عند الله من خير فطلقها» .
الرابعة: أسماء بنت النعمان بن الجون- بفتح الجيم- ابن الحارث الكندية وهى الجونية. قال أبو عمر: أجمعوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تزوجها واختلفوا فى سبب فراقة لها، فقال قتادة وأبو عبيدة: إنه- صلى الله عليه وسلم- لما دعاها قالت: تعال أنت وأبت أن تجىء، وقال بعضهم: قالت: أعوذ بالله منك، فقال: «عذت
__________
(1) سورة الأحزاب: 51.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4788) فى التفسير، باب: قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية، ومسلم (1464) فى الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (5254) فى الطلاق، باب: من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، وابن ماجه (2037) فى الطلاق، باب: متعة الطلاق، واللفظ له.(1/507)
بمعاذ ولقد أعاذك الله منى» وقيل: إن نساءه- صلى الله عليه وسلم- علمنها ذلك فإنها كانت أجمل الناس فخفن أن تغلبهن عليه، فقلن لها إنه يحب إذا دنا منك إن تقولى: أعوذ بالله منك، فقال: «قد عذت بمعاذ» وطلقها، ثم سرحها إلى أهلها وكانت تسمى نفسها الشقية.
وقال الجرجانى: قلن لها: إن أردت أن تحظى عنده فتعوذى بالله منه، فقالت ذلك فولى وجهه عنها. وقيل المتعوذة غيرها، قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكونا تعوذتا، وقال آخرون: كان بأسماء وضح فقال لها «ألحقى بأهلك» «1» وقد قيل فى اسمها أميمة، وقيل: أمامة.
الخامسة: مليكة بنت كعب الليثية، قال بعضهم: هى التى استعاذت من النبى- صلى الله عليه وسلم- وقيل دخل بها، وماتت عنده، والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا.
والسادسة: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابى، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين نزلت آية التخيير، [الأحزاب 28 و 29] فاختارت الدنيا ففارقها- عليه الصلاة والسلام- فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول هى الشقية اختارت الدنيا، هكذا رواه ابن إسحاق.
لكن قال أبو عمر: هذا عندنا غير صحيح، لأن ابن شهاب يروى عن عروة عن عائشة، أنه- صلى الله عليه وسلم- حين خير أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله، وتابع أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك.
وقال قتادة وعكرمة: كان عنده- صلى الله عليه وسلم- عند التخيير تسع نسوة وهن اللاتى توفى عنهن.
وقيل إنه- صلى الله عليه وسلم- تزوجها سنة ثمان، وقيل إن أباها قال: إنها لم تصدع قط، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «لا حاجة لى بها» .
السابعة: عالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، تزوجها- صلى الله عليه وسلم- وكانت
__________
(1) انظر ما قبله، وكذلك ما قاله الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (9/ 357- 359) .(1/508)
عنده ما شاء الله، ثم طلقها، وقل من ذكرها، وقال أبو سعد: طلقها حين أدخلت عليه- صلى الله عليه وسلم-.
الثامنة: قتيلة- بضم القاف وفتح المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية- بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندى، زوجه إياها أخوها فى سنة عشر، ثم انصرف إلى حضر موت فحملها فقبض- صلى الله عليه وسلم- سنة إحدى عشرة قبل قدومها عليه، وقيل تزوجها- عليه السّلام- قبل وفاته بشهرين، وقال قائلون: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب، وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة بن أبى جهل بحضر موت، فبلغ ذلك أبا بكر فقال:
هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر- رضى الله عنه-: ما هى من أمهات المؤمنين، ما دخل بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا ضرب عليها الحجاب.
وقال بعضهم: لم يوص فيها- عليه السّلام- بشىء، ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها.
وبذلك احتج عمر على أبى بكر- رضى الله عنهما-: أنها ليست من أمهات المؤمنين بارتدادها.
التاسعة: سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية، تزوجها- صلى الله عليه وسلم- ومات قبل أن يدخل بها، وعند ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها.
العاشرة: شرف- بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء- بنت خليفة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبى، تزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فماتت قبل دخوله- عليه السّلام- بها.
الحادية عشرة: ليلى بنت الخطيم- بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة- أخت قيس تزوجها- صلى الله عليه وسلم- وكانت غيورا فاستقالته فأقالها فأكلها الذئب، وقيل هى التى وهبت نفسها له- صلى الله عليه وسلم-.
الثانية عشرة: امرأة من غفار تزوجها- صلى الله عليه وسلم- فأمرها فنزعت ثيابها فرأى(1/509)
بكشحها بياضا فقال: «ألحقى بأهلك» ولم يأخذ مما آتاها شيئا «1» ، أخرجه أحمد.
فهؤلاء جملة من ذكر من أزواجه- صلى الله عليه وسلم-، وفارقهن فى حياته، بعضهن قبل الدخول وبعضهن بعده- كما ذكرناه- فيكون جملة من عقد عليهن ثلاثا وعشرين امرأة دخل ببعضهن دون بعض. مات منهن عنده بعد الدخول خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية وبنت الهذيل باتفاق.
واختلف فى مليكة وسنا، هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم- لم يدخل بهما.
وفارق بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك، وبنت ظبيان، وقبله باتفاق:
عمرة وأسماء والغفارية.
واختلف فى أم شريك: هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة.
والمستقيلة التى جهل حالها. فالمفارقات بالاتفاق سبع، واثنتان على خلاف.
الميتات فى حياته باتفاق أربع، ومات- صلى الله عليه وسلم- من عشر، واحدة لم يدخل بها.
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- خطب عدة نسوة:
الأولى منهن: امرأة من بنى مرة بن عوف بن سعد، خطبها- صلى الله عليه وسلم- إلى أبيها فقال: إن بها برصا، وهو كاذب، فرجع فوجد البرص بها، ويقال:
إن ابنها شبيب بن البرصاء بن الحارث بن عوف. ذكره ابن قتيبة، كما قاله الطبرى، وعند ابن الأثير فى جامع الأصول: جمرة بنت الحارث بن عوف خطبها- صلى الله عليه وسلم- فقال أبوها: إن بها سوآ، ولم يكن بها شىء، فرجع إليها أبوها وقد برصت، قال: وهى أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 300) عن كعب بن زيد أو زيد بن كعب وقال: رواه أحمد، وجميل [أحد رواته] ضعيف.(1/510)
الثانية: امرأة قرشية يقال لها سودة، خطبها- صلى الله عليه وسلم- وكانت مصبية، فقالت: أخاف أن تضغو صبيتى- أى يصيحوا ويبكوا- عند رأسك، فدعا لها وتركها.
الثالثة: صفية بنت بشامة- بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة- كان أصابها فى سبى فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها، فاختارت زوجها.
الرابعة: ولم يذكر اسمها، قيل إنه- صلى الله عليه وسلم- خطبها، فقالت: أستأمر أبى، فلقيت أباها فأذن لها، فعادت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال لها: «قد التحفنا لحافا غيرك» .
الخامسة: أم هانىء فاختة بنت أبى طالب أخت على، خطبها- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنى امرأة مصبية واعتذرت إليه، فعذرها.
السادسة: ضباعة- بضم الضاد المعجمة وتخفيف الموحدة وبالعين المهملة- بنت عامر بن قرط- بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة- خطبها- صلى الله عليه وسلم- إلى ابنها سلمة بن هشام فقال: حتى أستأمرها، فقيل للنبى صلى الله عليه وسلم-: إنها قد كبرت، فلما عاد ابنها- وقد أذنت له- سكت عنها- صلى الله عليه وسلم- فلم ينكحها.
السابعة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عرضت عليه- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هى ابنة أخى من الرضاعة» «1» .
الثامنة: عزة بنت أبى سفيان، عرضتها أختها أم حبيبة عليه- صلى الله عليه وسلم- فقال «إنها لا تحل لى» «2» لمكان أختها أم حبيبة تحت النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: تزوج- صلى الله عليه وسلم- الجندعية- بضم الجيم وسكون النون وضم الدال وبالعين المهملة- امرأة من جندع، وهى ابنة جندب بن ضمرة، ولم يدخل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2645) فى الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، ومسلم (1447) فى الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، من حديث ابن عباس رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (1449) فى الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة.(1/511)
بها. وأنكره بعض الرواة. فهؤلاء النساء اللاتى ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- تزوجهن أو خطبهن أو دخل بهن، أو لم يدخل بهن أو عرضن عليه.
وأما سرارية فقيل إنهن أربعة:
مارية القبطية بنت شمعون- بفتح الشين المعجمة- أهداها له المقوقس القبطى صاحب مصر والإسكندرية، وأهدى معها أختها سيرين- بكسر السين المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر الراء وبالنون آخرها-، وخصيا يقال له:
مأبور، وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا لينا من قباطى مصر، وبغلة شهباء وهى دلدل، وحمارا أشهب وهو عفير ويقال: يعفور، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبى- صلى الله عليه وسلم- العسل ودعا فى عسل بنها بالبركة. قال ابن الأثير:
وبنها- بكسر الباء وسكون النون- قرية من قرى مصر، بارك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء، انتهى.
ووهب- صلى الله عليه وسلم- سيرين لحسان بن ثابت وهى أم عبد الرحمن بن حسان، ومارية أم إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-. وماتت مارية فى خلافة عمر سنة ست عشرة ودفنت بالبقيع.
وريحانة بنت شمعون من بنى قريظة، وقيل من بنى النضير، والأول أظهر، وماتت قبل وفاته- صلى الله عليه وسلم- مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان- صلى الله عليه وسلم- وطئها بملك اليمين، وقيل أعتقها وتزوجها ولم يذكر ابن الأثير غيره.
وأخرى: وهبتها له زينب بنت جحش.
الرابعة: أصابها فى بعض السبى.(1/512)
الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته
قال صاحب «ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى» : كان له- صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر عمّا بنو عبد المطلب، أبوه- عبد الله- ثالث عشرهم: الحارث، وأبو طالب واسمه عبد مناف، والزبير ويكنى أبا الحارث، وحمزة، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق، والمقوم، وضرار، والعباس، وقثم، وعبد الكعبة، وجحل- بتقديم الجيم، وهو السقاء الضخم، وقال الدار قطنى بتقديم الحاء وهو القيد والخلخال- ويسمى المغيرة.
وقيل كانوا أحد عشر فأسقط: المقوم، وقال هو عبد الكعبة، وقيل عشرة، فأسقط الغيداق وجحلا، وقيل تسعة فأسقط قثم.
فأما حمزة، فأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى، كنيتان له بابنيه عمارة ويعلى، وكان يدعى أسد الله وأسد رسوله وفى معجم البغوى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «والذى نفسى بيده إنه لمكتوب عند الله عز وجل فى السماء السابعة: حمزة أسد الله وأسد رسوله» «1» .
وكان إسلامه فى السنة الثانية من المبعث، وقيل فى السادسة بعد دخوله صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وقيل قبل إسلام عمر بثلاثة أيام.
وشهد بدرا، وقتل بها عتبة بن ربيعة مبارزة، قاله موسى بن عقبة، وقيل: بل قتل شيبة بن ربيعة مبارزة، قاله ابن إسحاق.
وأول راية عقدها- صلى الله عليه وسلم- لأحد من المسلمين كانت لحمزة، وأول سرية بعثها، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «خير أعمامى حمزة» «2» رواه الحافظ الدمشقى.
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 214 و 219) ، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 149) .
(2) موضوع: أخرجه الديلمى فى مسند الفردوس عن عباس بن ربيعة، كما فى «الجامع الصغير» (4049) ، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2878) : موضوع.(1/513)
وروى ابن السرى مرفوعا: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب» «1» .
وذكر السلفى عن بريدة فى قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «2» قال: حمزة بن عبد المطلب، وعن ابن عباس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ «3» قال: حمزة.
واستشهد فى وقعة أحد، قتله وحشى. وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو، حتى إنه مات غريقا فى الخمر.
رواه الدار قطنى على شرط الشيخين. وقال ابن هشام: بلغنى أن وحشيّا لم يزل يحد فى الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.
ولما رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق «4» .
وعن أبى هريرة: وقف- صلى الله عليه وسلم- على حمزة- وقد قتل ومثل به- فلم ير منظرا كان أوجع لقلبه منه. رواه أبو عمر، والمخلص «5» ، وصاحب الصفوة.
وعند ابن هشام أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لى من هذا» .
وعند ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 212) من حديث على- رضى الله عنه-، و (3/ 215) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3158 و 3675 و 3676) .
(2) سورة الفجر: 27.
(3) سورة الأحزاب: 23.
(4) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 118) عن جابر وقال: رواه البزار وفيه عبد الله بن محمد ابن عقيل، وهو حسن الحديث على ضعفه، وفى (6/ 119) عن جابر أيضا وقال: رواه الطبرانى، وفيه المفضل بن صدقة وهو متروك.
(5) هو: الشيخ المحدث، أبو طاهر، محمد بن عبد الرحمن بن العباس البغدادى الذهبى، مخلّص الذهب من الغش، كان ثقة، مات سنة (393 هـ) .(1/514)
باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه فى القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشغ من البكاء يقول: «يا حمزة يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابّا عن وجه رسول الله» «1» .
والنشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغشى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة، رواه البغوى فى معجمه. وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم «2» . خرجه أحمد وأبو داود.
فيحمل أمر حمزة على التخصيص، ومن صلى عليه عليه أنه جرح حال الحرب ولم يمت حتى انقضت الحرب. وكان سن حمزة يوم قتل تسعا وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش فى قبر واحد.
وأما العباس وكنيته أبو الفضل، فأمه نتلة، ويقال نتيلة بنت جناب بن كلب بن النمر بن قاسط، ويقال: إنها أول عربية كست البيت الحرام الديباج وأصناف الكسوة، لأن العباس ضل وهو صبى، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت.
وكان العباس جميلا وسيما أبيض، له ضفيرتان، معتدلا وقيل كان طوالا، وولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبى- صلى الله عليه وسلم- بسنتين أو ثلاث، وكان رئيسا فى قريش وإليه عمارة المسجد الحرام.
وكان مع النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم العقبة يعقد له البيعة على الأنصار، وكان عليه السّلام- يثق به فى أمره كله. ولما شدوا وثاقه فى أسرى بدر سهر- صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: «لأنين العباس» فقام رجل
__________
(1) لم أقف عليه، ولا أظنه يثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3135- 3137) فى الجنائز، باب: فى الشهيد يغسل، وهو عند البخارى (1343) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ولكن من حديث جابر ابن عبد الله- رضى الله عنهما-.(1/515)
فأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسرى كلهم، ذكره أبو عمر، وصاحب الصفوة.
وقيل: كان يكتم إسلامه وخرج مع المشركين يوم بدر فقال- صلى الله عليه وسلم- «من لقى العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها» «1» فأسره كعب بن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة.
وقيل: إنه أسلم يوم بدر ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا، فاستقبل النبى صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بالأبواء وكان معه فى فتح مكة، وبه ختمت الهجرة. وقال أبو عمر: أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه ويسره ما يفتح الله على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنينا والطائف وتبوك.
ويقال: إن إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان المسلمون بمكة يثقون به، وكان يحب القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فيكتب إليه- صلى الله عليه وسلم- «إن مقامك بمكة خير لك» وقال أبو مصعب إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت حدثنا أبو حازم سلمة ابن دينار عن سهل بن سعد- رضى الله عنه- قال: استأذن العباس- رضى الله عنه- النبى صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة فكتب إليه: «يا عم أقم مكانك الذى أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بى النبوة» «2» رواه أبو يعلى والهيثم بن كليب- فى مسنديهما- والطبرانى فى الكبير.
وأبو مصعب متروك، لكن يعتضد بقول عروة بن الزبير: كان العباس قد أسلم وأقام على سقايته ولم يهاجر «3» ، رواه الحاكم فى مستدركه. وذكر السهمى فى الفضائل أن أبا رافع لما بشر النبى- صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه.
__________
(1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 327) وعزاه لمحمد بن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن مغافل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- فذكره.
(2) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 154) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2646) ، بسند فيه أبو مصعب، إسماعيل بن قيس، وهو متروك.
(3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 364) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 15) .(1/516)
وكان- صلى الله عليه وسلم- يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه، ووصفه- عليه السّلام- فقال:
«أجود الناس كفّا، وأحناه عليهم» رواه الفضائلى وفى معجم البغوى:
«العباس عمى وصنو أبى، من آذاه فقد آذانى» «1» وفى الترمذى نحوه، وقال:
حسن صحيح.
وذكر السهمى فى الفضائل: أن العباس أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قام إليه، وقبل ما بين عينيه، ثم أقعده عن يمينه ثم قال: «هذا عمى فمن شاء فليباه بعمه» فقال العباس: نعم القول يا رسول الله، قال «ولم لا أقول هذا، أنت عمى وصنو أبى وبقية آبائى ووارثى وخير من أخلف من أهلى» وقال له صلى الله عليه وسلم- «يا عم لا ترم منزلك أنت وبنوك غدا حتى أتيكم فإن لى فيكم حاجة» فلما أتاهم اشتمل عليهم بملاءة ثم قال: «يا رب، هذا عمى وصنو أبى وهؤلاء أهل بيتى فاسترهم من النار كسترى إياهم بملاءتى هذه» قال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين. رواه ابن غيلان، وأبو القاسم حمزة، والسهمى، ورواه ابن السرى وفيه: فما بقى فى البيت مدرة ولا باب إلا أمن. ورواه الترمذى من حديث ابن عباس بلفظ «فألبسنا كساء» ثم قال: «اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه فى ولده» «2» ، وقال حسن غريب.
وعند ابن عبد الباقى من حديث أبى هريرة: «اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمن أحبهم» «3» .
وفى تاريخ دمشق من حديث ابن عباس عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له فى فتح مكة «اللهم انصر العباس وولد العباس» قالها ثلاثا ثم قال:
__________
(1) أخرجه الترمذى (3758) فى المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب- رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» ، (4/ 165) وقال الترمذى فى نسختنا: حسن غريب.
(2) حسن: أخرجه الترمذى (3762) فى المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه-، والطبرانى فى «مسند الشاميين» (1/ 265) ، وقال: حديث حسن غريب، وهو كما قال.
(3) أخرجه الخطيب البغدادى وابن عساكر عن أبى هريرة كما فى «كنز العمال» (33446) .(1/517)
«يا عم أما علمت أن المهدى من ولدك» «1» . وروى الحاكم فى مستدركه والبغوى فى معجمه عن سعيد بن المسيب أنه قال: «العباس حبر هذه الأمة، ووارث النبى- صلى الله عليه وسلم- وعمه» قال الذهبى سنده صحيح. قال: ويتكلف لتأويله إن كان قوله خير- بالمعجمة والتحتية-.
وفى الأفراد للدار قطنى عن جابر الأنصارى- رضى الله عنه-. قال سمعت:
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول «من لم يحب العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برىء من الله ورسوله» وفى سنده عمر بن راشد الحارثى. وهو ضعيف جدّا.
لكن يشهد له ما رواه محمد بن حسين الأشنانى ثم أبو بكر بن عبد الباقى فى أماليه ومن طريقهما المنذرى من طريق منصور عن مسلم بن صبيح بن الضحى عن مسروق عن ابن عباس- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من لم يحب عمى» هذا- وأخذ بيد العباس فرفعها «لله عز وجل ولقرابته لى فليس بمؤمن» «2» .
وللترمذى وقال: حسن، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال للعباس «والذى نفسى بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان ما لم يحبكم لله ولرسوله» ثم قال «يا أيها الناس من آذى عمى فقد آذانى فإنما عم الرجل صنو أبيه» «3» .
وروى البغوى أنه- عليه الصلاة والسلام- قال له: «لك يا عم من الله حتى ترضى» «4» .
وروى السهمى فى الفضائل أنه- عليه السّلام- قال للعباس: «إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحد من ولدك» .
وفى المعجم الكبير للطبرانى عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 376) عن سعيد بن المسيب مرسلا.
(2) أخرجه العقيلى فى «الضعفاء» له (4/ 149) .
(3) تقدم قبل قليل.
(4) ذكره ابن عساكر كما فى «تهذيب تاريخ دمشق» (7/ 243) .(1/518)
- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر للعباس، وأبناء العباس وأبناء أبناء العباس» «1» . وفى سنده عبد الرحمن بن حاتم المرادى المصرى وهو متروك.
وفى تاريخ دمشق- مما هو شديد الوهى- عن أبى هريرة مرفوعا:
«اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمحبى ولد العباس وشيعتهم» «2» .
وفى المناقب للإمام أحمد بسند لا بأس به، أن العباس قال: كنت عند النبى- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: «انظر هل ترى فى السماء نجما» قلت: نعم قال: «ما ترى» قلت: الثريا، قال: «أما إنه يلى هذه الأمة بعددها من صلبك» «3» .
وروى السهمى من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «ألا أبشرك يا عم» قال: بلى بأبى أنت وأمى فقال- عليه السّلام-: «إن من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء» «4» .
ومن حديث أبى هريرة: «فيكم النبوة والمملكة» «5» .
ومن حديث ابن عباس عن أبيه: «هذا عمى أبو الخلفاء أجود قريش كفّا وأجملها وإن من ولده السفاح والمنصور والمهدى» «6» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 205) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 269) وقال: رواه الطبرانى عن شيخه عبد الرحمن بن حاتم المرادى، وهو متروك.
(2) تقدم قبل قليل من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 209) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 368) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 186) وقال: رواه أحمد والطبرانى، وفيه أبو ميسرة مولى العباس ولم أعرفه إلا فى ترجمة أبى قبيل وبقية رجال أحمد ثقات.
(4) أخرجه الرافعى عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (33420) .
(5) أخرجه ابن عساكر عن أبى هريرة كما فى «كنز العمال» (533434 و 387185) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 192) وقال: رواه البزار وفيه محمد بن عبد الرحمن العامرى، وهو ضعيف.
(6) موضوع: انظر «الموضوعات» لابن الجوزى (2/ 37) ، و «اللآلىء المصنوعة» للسيوطى (1/ 226) .(1/519)
وذكر ابن حبان والملاء من حديث ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض وسيلبس ولده من بعده السواد» .
وعن جابر بن عبد الله سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول «ليكونن فى ولده- يعنى العباس- ملوك يكونون أمراء أمتى، يعز الله بهم الدين» «1» قال الحافظ أبو الحسن الدار قطنى: هذا حديث غريب من حديث عمرو بن دينار عن جابر، خرجه الأصفهانى.
وتوفى العباس- رضى الله عنه- فى خلافة عثمان- رضى الله عنه- قبل مقتله بسنتين بالمدينة، يوم الجمعة لاثنتى عشرة- وقيل لأربع عشرة- خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وقيل ثلاث وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل سبع وثمانين سنة، أدرك منها فى الإسلام اثنتين وثلاثين سنة ودفن بالبقيع، ودخل قبره ابنه عبد الله.
وكان عظيما جليلا، وكان يسمى ترجمان القرآن، وهو أبو الخلفاء.
ويروى أن أمه أم الفضل لما وضعته أتت به النبى- صلى الله عليه وسلم- فأذن فى أذنه اليمنى، وأقام فى اليسرى، وقال: «اذهبى بأبى الخلفاء» «2» رواه ابن حبان وغيره. وقد ملأ عقبه الأرض حتى قيل إنهم بلغوا فى زمن المأمون ستمائة ألف. واستبعد والله أعلم. وكان العباس أصغر أعمامه- صلى الله عليه وسلم- ولم يسلم منهم إلا هو وحمزة. وأسنهم الحارث.
وأما عماته- صلى الله عليه وسلم- بنات عبد المطلب بن هاشم، فجملتهن ست:
عاتكة، وأميمة، والبيضاء وهى أم حكيم، وبرة، وصفية، وأروى، ولم يسلم منهن إلا صفية أم الزبير بلا خلاف.
__________
(1) موضوع: انظر «العلل المتناهية» لابن الجوزى (1/ 288) .
(2) أخرجه الخطيب عن ابن عباس عن أمه أم الفضل كما فى «كنز العمال» (33432 و 33587) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 187) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أحمد بن راشد الهلالى، وقد اتهم بهذا الحديث.(1/520)
واختلف فى أروى وعاتكة، فذهب أبو جعفر العقيلى إلى إسلامهما، وعدهما فى الصحابة، وذكر الدار قطنى: عاتكة فى جملة الإخوة والأخوات، ولم يذكر أروى. وأما ابن إسحاق فذكر أنه لم يسلم منهن غير صفية.
فأما صفية فأسلمت باتفاق، كما ذكرته، وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، وضرب لها- صلى الله عليه وسلم- بسهم، وأمها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، شقيقة حمزة والمقوم وحجل، وكانت فى الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك فخلفه عليها العوام بن خويلد أخو خديجة أم المؤمنين، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة، وتوفيت بالمدينة فى خلافة عمر- رضى الله عنه- سنة عشرين، ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع.
وأما عاتكة المختلف فى إسلامها فأمها فاطمة بنت عمرو بن عائد، فتكون شقيقة عبد الله أبى النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى طالب والزبير وعبد الكعبة، وهى صاحبة الرؤيا فى قصة بدر «1» .
وأما أروى المختلف أيضا فى إسلامها، فأمها صفية بنت جندب، فهى شقيقة الحارث بن عبد المطلب، وكانت تحت عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصى، فولدت له طليبا، ثم خلفه عليها كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى. وأسلم طليب وكان سببا فى إسلام أمه، كما ذكره الواقدى. وأما أم حكيم، البيضاء، فهى شقيقة عبد الله أبى النبى- صلى الله عليه وسلم-. وأما برة فأمها فاطمة أيضا، وكانت عند أبى رهم بن عبد العزى العامرى، ثم خلفه عليها عبد الأسد بن هلال المخزومى، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذى كانت عنده أم سلمة قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-. وأما أميمة فأمها فاطمة، وكانت تحت جحش بن رئاب، فولدت له عبد الله وعبيد الله وأبا أحمد وزينب وأم حبيبة وحمنة، أولاد جحش بن رئاب.
وأما جداته- عليه الصلاة والسلام- من أبيه:
__________
(1) انظر خبر رؤيتها فى «دلائل النبوة» للبيهقى (3/ 29- 31) .(1/521)
فأم عبد الله- أبيه- هى فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
وأم عبد المطلب، سلمى ابنة عمرو من بنى النجار، وكانت قبل هاشم تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرو بن أحيحة، وهو أخو عبد المطلب لأمه.
وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بنى سليم.
وأم عبد مناف عاتكة بنت فالج بن مليك بن ذكوان من بنى سليم.
وأم قصى فاطمة بنت سعد من أزد الشراة.
وأم كلاب، نعم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة.
وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهم.
وأم كعب، سلمى بنت محارب من فهم.
وأم لؤى، وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف من كنانة.
وأم غالب، سلمى بنت سعد من هذيل.
وأم فهر، جندلة بنت الحارث الجرهمى.
وأم مالك: هند بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن غيلان.
وأم النضر، برة بنت مرة، أخت تميم بن مرة.
ذكره ابن قتيبة فى كتاب المعارف كما حكاه الطبرى عنه وقال: فالجدة الأولى قرشية مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سليمية والرابعة سليمية أيضا، وقيل خزاعية والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية والثامنة فهمية أيضا أو فهرية- والخط فى الأصل يوهم- والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشرة جرهمية، والثانية عشرة قيسية، والثالثة عشرة مرية.
وأما جداته- عليه الصلاة والسلام- من أمه «1» :
فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب بن مرة وأم أبيها وهب:
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 49) .(1/522)
عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بنى سليم، ذكره ابن قتيبة.
وقال أبو عمر: ويعرف أبوها بأبى كبشة الذى ينسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقال: ابن أبى كبشة، ونسب إليه لأنه كان يعبد «الشعرى» ولم يكن أحد من العرب يعبدها غيره، فلما جاءهم- صلى الله عليه وسلم- بخلاف ما كانت عليه العرب قالوا: هذا ابن أبى كبشة، ولم يقصدوا ذمه- صلى الله عليه وسلم- بذلك. وقيل: بل نسب إلى وهب أخى أمه كان يدعى بها، وقيل: كان يدعى بها أبوه من الرضاعة: الحارث بن عبد العزى زوج حليمة فنسب إليه.
وأم برة هى أم حبيب، قاله ابن قتيبة وقال أبو سعد: أم سفيان بنت أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب.
وأم أم حبيب هى برة بنت عوف بن عبيد بن عدى بن كعب بن لؤى بن غالب.
وأم برة بنت عوف، قلابة بنت الحارث بن صعصعة بن عائذ بن لحيان ابن هذيل.
وأم قلابة، هند بنت يربوع من ثقيف. قاله ابن قتيبة، وقال ابن سعد:
أمها بنت مالك بن عثمان من بنى لحيان.
فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه- صلى الله عليه وسلم- قرشيات، وأم أبى أمه سلمية والرابعة لحيانية هذلية، والخامسة ثقفية، ففى كل قبيلة من قبائل العرب له- صلى الله عليه وسلم- علقة نسب.
وأما إخوته- عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة «1» :
فحمزة وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهما معه- صلى الله عليه وسلم- ثويبة جارية أبى لهب بلبن ابنها مسروح بن ثويبة.
وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته ورسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 87) .(1/523)
حليمة السعدية، وعبد الله وآسية وجدامة- وتعرف بالشيماء- الثلاثة أولاد حليمة.
وقد روى أن خيلا له- صلى الله عليه وسلم- أغارت على هوازن، فأخذوها فى جملة السبى، فقالت: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت له: يا محمد، أنا أختك، فرحب بها وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه ودمعت عيناه، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن أحببت فأقيمى عندى مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعى إلى قومك وصلتك» قالت: بل أرجع إلى قومى، فأسلمت، وأعطاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء «1» ذكره أبو عمر وابن قتيبة.
وأما أمه من الرضاعة، فحليمة بنت أبى ذؤيب من هوازن، وهى التى أرضعته حتى أكملت رضاعه، وجاءته- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها، فجلست عليه. وكذا ثويبة جارية أبى لهب أيضا، واختلف فى إسلامها كما اختلف فى إسلام حليمة وزوجها، فالله أعلم.
وكانت ثويبة تدخل عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد أن تزوج خديجة، فكانت تكرمها. وأعتقها أبو لهب، وكان- صلى الله عليه وسلم- يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر. ذكره أبو عمر.
وكانت حاضنته- صلى الله عليه وسلم- أم أيمن، بركة بنت ثعلبة بن حصن بن مالك، غلبت عليها كنيتها، وكنيت باسم ابنها أيمن الحبشى، وهى أم أسامة بن زيد، تزوجها زيد بعد عبيد، فولدت له أسامة، ويقال: إنها مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم-. هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة. وكانت لعبد الله ابن عبد المطلب، فورثها النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقيل كانت لأمه- عليه السّلام-. وكان صلى الله عليه وسلم- يقول: «أم أيمن أمى بعد أمى» «2» .
وكانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا مع أمها حليمة السعدية.
__________
(1) انظر قصتها فى «الإصابة» لابن حجر العسقلانى (7/ 732) .
(2) ضعيف: أخرجه ابن عساكر عن سليمان بن أبى شيخ معضلا، كما فى «ضعيف الجامع» (1276) .(1/524)
الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه
أما خدمه:
[من الرجال]
فمنهم أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الأنصارى الخزرجى، يكنى أبا حمزة، خدم النبى- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين أو عشر سنين، ودعا له- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة» «1» . وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه.
وتوفى سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة اثنتين وقيل سنة إحدى وتسعين وقد جاوز المائة.
ومنهم: ربيعة بن كعب الأسلمى، صاحب وضوئه، وتوفى سنة ثلاث وستين.
ومنهم: أيمن ابن أم أيمن، صاحب مطهرته- صلى الله عليه وسلم-، استشهد يوم حنين.
ومنهم: عبد الله بن مسعود بن غافل- بالمعجمة والفاء- ابن حبيب الهذلى، أحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، وكان صاحب الوسادة والسواك والنعلين والطهور وكان يلى ذلك من النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا قام النبى- صلى الله عليه وسلم- ألبسه نعليه، وإذا جلس جعلهما فى ذراعيه حتى يقوم. وتوفى بالمدينة وقيل بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6334) فى الدعوات، باب: قول الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، ومسلم (660) فى المساجد، باب: جواز الجماعة فى النافلة والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أنه فى آخره، «وبارك له فيما أعطيته» بدلا من «وأدخله الجنة» .(1/525)
ومنهم عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهنى، وكان صاحب بغلته يقود به- صلى الله عليه وسلم- فى الأسفار، روينا عنه أنه قال: بينما أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم- فى نقب من تلك النقاب إذ قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اركب يا عقبة» قال فأجللت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أركب مركبه ثم أشفقت أن يكون معصية قال: فركبت هنيهة ثم نزلت، ثم ركب النبى- صلى الله عليه وسلم- وقدت به، فقال لى: «يا عقبة ألا أعلمك من خير سورتين قرأ بهما الناس» فقلت: بلى بأبى أنت وأمى يا رسول الله فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «1» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «2» «3» . الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائى.
ولأحمد: فقال «يا عقبة، ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت فى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم» ، قال: قلت بلى، قال: «فأقرأنى» قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «5» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «6» .
وكان عقبة عالما بكتاب الله وبالفرائض فصيحا شاعرا مفوها، ولى مصر لمعاوية سنة أربع وأربعين ثم صرفه بمسلمة بن مخلد، وتوفى بها سنة ثمان وخمسين.
ومنهم: أسلع بن شريك صاحب راحلته. وفى الطبرانى عن الربيع بن بدر قال: حدثنى أبى عن أبيه عن رجل يقال له أسلع قال كنت أخدم النبى صلى الله عليه وسلم- وأرحل له، فقال لى ذات يوم: «يا أسلع، قم فارحل» فقلت: يا
__________
(1) سورة الفلق: 1.
(2) سورة الناس: 1.
(3) صحيح بنحوه: أخرجه بنحوه مسلم (1814) فى صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة المعوذتين، وأبو داود (1462) فى الصلاة، باب: فى المعوذتين، والترمذى (2902) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى المعوذتين، والنسائى (2/ 158) فى الافتتاح، باب: الفضل فى قراءة المعوذتين، و (8/ 254) فى الاستعاذة، باب: رقم (1) ، وأحمد فى «مسنده» (4/ 144، 149، 151، 152) .
(4) سورة الإخلاص: 1.
(5) سورة الفلق: 1.
(6) سورة الناس: 1.(1/526)
رسول الله أصابتنى جنابة، فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأتاه جبريل فنزل باية الصعيد [النساء: 43 والمائدة: 6] فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قم يا أسلع فتيمم» قال: فقمت، ثم رحلت له ثم سار حتى مر بماء ثم قال لى يا أسلع:
«مسّ أو أمسّ هذا جلدك» قال: فأرانى التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين «1» . انتهى.
ومنهم: سعد مولى أبى بكر، وقيل سعيد، ولم يثبت، وروى عنه ابن ماجه.
ومنهم: أبو ذر جندب بن جنادة الغفارى، أسلم قديما، وتوفى بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود ثم مات بعده فى ذلك اليوم، قاله ابن الأثير فى «معرفة الصحابة» ، وفى التقريب للحافظ ابن حجر سنة اثنتين وثلاثين.
ومنهم: مهاجر مولى أم سلمة.
ومنهم: حنين والد عبد الله، مولى عباس، كان يخدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم وهبه لعمه العباس.
ومنهم: نعيم بن ربيعة الأسلمى.
ومنهم: أبو الحمراء، مولاه- صلى الله عليه وسلم- وخادمه، واسمه هلال بن الحارث، أو ابن ظفر، نزل حمص وتوفى بها.
ومنهم: أبو السمح خادمه- صلى الله عليه وسلم- واسمه إياد.
ومن النساء:
بركة أم أيمن الحبشية، وهى والدة أسامة بن زيد ماتت فى خلافة عثمان رضى الله عنه-.
وخولة جدة حفص.
وسلمى أم رافع، زوج أبى رافع.
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 262) وقال: رواه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه الربيع بن بدر، وقد أجمعوا على ضعفه.(1/527)
وميمونة بنت سعد.
وأم عياش مولاة رقية بنت النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وكان يضرب الأعناق بين يديه: على بن أبى طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، والضحاك بن سفيان.
وكان قيس بن سعد بن عبادة بن يديه- صلى الله عليه وسلم- بمنزلة صاحب الشرطة.
وكان بلال على نفقاته. ومعيقيب بن أبى فاطمة الدوسى على خاتمه. وابن مسعود على سواكه ونعله، كما تقدم. وأبو رافع واسمه أسلم- وقيل غير ذلك- قبطى، وكان على ثقله «1» . وأذن عليه- صلى الله عليه وسلم- فى المشربة لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- رياح النوبى.
وأما حراسه:
فمنهم: سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس، سيد الأوس، أسلم بين العقبتين على يد مصعب بن عمير، وشهد بدرا وأحدا والخندق، فرمى فيه بسهم فعاش شهرا ثم انتقض جرحه فمات. حرس النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر حين نام فى العريش.
ومنهم: محمد بن مسلمة الأنصارى، حرسه يوم أحد.
ومنهم: الزبير بن العوام حرسه يوم الخندق.
ومنهم: بلال، المؤذن، أسلم قديما، وعذب فى الله، وسكن الشام أخيرا، ولا عقب له، وتأتى وفاته- إن شاء الله تعالى-، وكان يحرس النبى صلى الله عليه وسلم- بوادى القرى.
وكان أبو بكر الصديق يوم بدر فى العرش شاهرا سيفه على رأسه صلى الله عليه وسلم- لئلا يصل إليه أحد من المشركين. رواه السمان فى الموافقة.
ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية.
__________
(1) أى: متاع السفر، أو كل شىء نفيس مصون.(1/528)
وكان يحرسه- صلى الله عليه وسلم- أيضا عباد بن بشر. فلما نزل وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» ترك ذلك.
وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:
أسامة وأبوه زيد بن حارثة، حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة فولدت له أسامة.
وكان زيد قد أسر فى الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فاستوهبه النبى- صلى الله عليه وسلم- منها: ذكر قصته محمد بن إسحاق فى السيرة، وأن أباه وعمه أتيا مكة فوجداه، فطلبا أن يفدياه، فخيره النبى- صلى الله عليه وسلم- بين أن يدفعه لهما أو يبقى عنده- صلى الله عليه وسلم-، وفى رواية الترمذى قال: يا رسول الله، لا أختار عليك أحدا أبدا.
واستشهد زيد فى مؤتة، ومات ابنه أسامة بالمدينة أو بوادى القرى سنة أربع وخمسين.
ومنهم: ثوبان، لازم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
وأبو كبشة، أوس، ويقال سليم من مولدى مكة وشهد بدرا.
وشقران- بضم الشين المعجمة وسكون القاف- واسمه صالح الحبشى، ويقال: فارسى، شهد بدرا وهو مملوك، ثم عتق، قاله الحافظ ابن حجر وقال: أظنه مات فى خلافة عثمان.
ورباح- وهو بفتح الراء وبالموحدة- الأسود، وكان يأذن عليه أحيانا إذا انفرد، وهو الذى أذن لعمر بن الخطاب فى المشربة، كما تقدم.
ويسار الراعى، وهو الذى قتله العرنيون.
وزيد وهو أبو يسار- وليس زيد بن حارثة والد أسامة- ذكره ابن الأثير.
__________
(1) سورة المائدة: 67.(1/529)
ومدعم- بكسر الميم وفتح العين المهملة- عبد أسود، كان لرفاعة بن زيد الضبيبى- بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة الأولى- فأهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
وأبو رافع، واسمه: أسلم القبطى، وكان للعباس فوهبه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما بشر النبى- صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه، توفى قبل قتل عثمان بيسير.
ورفاعة بن زيد الجذامى.
وسفينة، واختلف فى اسمه، فقيل: طهمان، وقيل: كيسان، وقيل:
مهران، وقيل غير ذلك، وسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سفينة لأنهم كانوا حملوه شيئا كثيرا فى السفر «1» .
ومأبور القبطى، وهو من جملة من أهداه المقوقس للنبى- صلى الله عليه وسلم-.
وواقد، أو أبو واقد،
وأنجشة الحادى، ويأتى ذكره فى حداته- صلى الله عليه وسلم- إن شاء الله تعالى.
وسلمان الفارسى، أبو عبد الله، ويقال له سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رام هرمز، أول مشاهده الخندق، مات سنة أربع وثلاثين، يقال بلغ ثلاثمائة سنة.
وشمعون بن زيد، أبو ريحانة. قال الحافظ ابن حجر: حليف الأنصار، ويقال مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، شهد فتح دمشق وقدم مصر، وسكن بيت المقدس.
وأبو بكرة، نفيع بن الحارث بن كلدة، جد القاضى الجليل بكار بن قتيبة الحنفى قاضى مصر المدفون بها.
ومن النساء: أم أيمن الحبشية، وسلمى أم رافع زوج أبى رافع، ومارية وريحانة وقيسر أخت مارية وغير ذلك.
قال ابن الجوزى: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 221) .(1/530)
الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام
أما كتابه
فجمع كثير وجم غفير ذكرهم بعض المحدثين فى تأليف له بديع استوعب فيه جملا من أخبارهم، ونبذا من سيرهم وآثارهم، وصدر فيه بالخلفاء الأربعة الكرام، خواص حضرته- عليه الصلاة والسلام-.
فأولهم فى التقديم أبو بكر الصديق، وكان اسمه فى الجاهلية عبد الكعبة، وفى الإسلام عبد الله، وسمى بالصديق لتصديقه النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقيل إن الله صدقه، ويلقب عتيقا لجماله، أو لأنه ليس فى نسبه ما يعاب به، وقيل لأنه عتيق من النار.
ولى الخلافة سنتين ونصفا، وسنه سن المصطفى- صلى الله عليه وسلم-. وتوفى مسموما.
وأسلم أبوه أبو قحافة يوم الفتح، وتوفى بعد ولده فى خلافة عمر، وأسلمت أمه أم الخير سلمى بنت صخر قديما فى دار الأرقم.
وعمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، استخلفه أبو بكر فأقام عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وقتله أبو لؤلؤة، فيروز غلام المغيرة بن شعبة.
وعثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، ثم قتل يوم الدار شهيدا.
وروى عن عائشة، مما ذكره الطبرى فى فضائله من كتاب «الرياض» أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمسند ظهره إلىّ، وإن جبريل ليوحى إليه القرآن، وإنه ليقول له: «اكتب يا عثيم» «1» . رواه أحمد.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 250) .(1/531)
وروى البيهقى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وعلى بن أبى طالب، وأقام فى الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وثمانية أيام، وتوفى شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم واختص على بكتابة الصلح يوم الحديبية.
وطلحة بن عبيد الله التيمى، أحد العشرة، استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وهو ابن ثلاث وستين سنة.
والزبير بن العوام بن خويلد الأسدى ابن عمته وحواريه، أحد العشرة أيضا، قتل سنة ست وثلاثين، يوم الجمل، قتله عمرو بن جرموز، بوادى السباع غيلة وهو نائم.
وسعيد بن العاص، أخو خالد وأبان.
وسعد بن أبى وقاص.
وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر- رضى الله عنه-.
وعبد الله بن الأرقم القرشى الزهرى، كان يكتب الرسائل عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وغيرهم، وكتب بعده لأبى بكر، ثم لعمر من بعده، رضى الله عنهم-، واستعمله عمر على بيت المال مدة ولايته ثم عثمان من بعده، إلى أن استعفى عثمان من الولاية وبقى عاطلا، وكان أمير المؤمنين عمر يقول: ما رأيت أحدا أخشى لله منه، مات فى خلافة عثمان.
وأبىّ بن كعب- بضم الهمزة وفتح الموحدة- من سبّاق الأنصار، كان يكتب الوحى له- صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد الستة الذين حافظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم- وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده- عليه السّلام-، توفى بالمدينة سنة تسع عشرة. وقيل سنة عشرين، وقيل غير ذلك، وهو الذى كتب الكتاب إلى ملكى عمان «جيفر» و «عبد» ابنى الجلندى، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.(1/532)
وثابت بن قيس بن شماس، استشهد باليمامة، وهو الذى كتب كتاب قطن بن حارثة العليمى، كما سيأتى- إن شاء الله-.
وحنظلة بن الربيع الأسيدى الذى غسلته الملائكة حين استشهد «1» .
وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشى الأموى.
وابنه معاوية، ولى لعمر الشام، وأقره عثمان. قال ابن إسحاق: وكان أميرا عشرين سنة، وخليفة- أمير المؤمنين- بعد نزول الحسن بن على سبط سيد المرسلين عشرين سنة. وروينا فى مسند الإمام أحمد من حديث العرباض قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب» «2» . وهو مشهور بكتابة الوحى.
أسلم يوم فتح مكة ومات فى العشر الأخير من رجب سنة تسع وخمسين، وقيل سنة ستين وقد قارب الثمانين. وقال ابن عبد البر عن اثنتين وثمانين سنة والله أعلم.
وأخوة يزيد بن أبى سفيان بن حرب، أمّره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون، فوليها بعده أخوه معاوية حتى رقى منها إلى الخلافة، وكان يزيد- رضى الله عنه- من سروات الصحابة وساداتهم، أسلم يوم الفتح أيضا وأعطاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال- رضى الله عنه-.
وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصارى النجارى، مشهور بكتب الوحى، مات سنة خمسين أو ثمان وأربعين، وقيل بعد الخمسين. وكان أحد فقهاء الصحابة، وهو أحد من جمع القرآن فى خلافة أبى بكر، ونقله إلى المصحف فى خلافة عثمان.
__________
(1) تقدم حديثه.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 127) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (1938) ، والطبرانى فى «الكبير» (18/ 251) ، من حديث العرباض بن سارية- رضى الله عنه-.(1/533)
وشرحبيل ابن حسنة، وهى أمه، وهو أول كاتب للنبى- صلى الله عليه وسلم-.
والعلاء بن الحضرمى.
وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومى، سيف الله، أسلم بين الحديبية والفتح، مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين.
وعمرو بن العاص بن وائل السهمى، فاتح مصر فى أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضى الله عنهما-، أسلم عام الحديبية وولى إمرة مصر مرتين، وهو الذى فتحها، ومات بها سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين.
والمغيرة بن شعبة الثقفى، أسلم قبل الحديبية، وولى إمرة البصرة ثم الكوفة، مات سنة خمسين على الصحيح.
وعبد الله بن رواحة الخزرجى الأنصارى أحد السابقين، شهد بدرا واستشهد بمؤتة.
ومعيقيب- بقاف وآخره موحدة، مصغر- ابن أبى فاطمة الدوسى، من السابقين الأولين، وشهد المشاهد ومات فى خلافة عثمان أو على.
وكتب له خالد بن سعيد بن العاص كتاب ثقيف كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى الوفود.
وحذيفة بن اليمان، من السابقين، صح فى مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابى أيضا استشهد بأحد، ومات حذيفة فى أول خلافة على سنة ست وثلاثين.
وحويطب بن عبد العزى العامرى، أسلم يوم الفتح، عاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين. وله كتّاب أخر سوى هؤلاء، وذكروا فى الكتاب الذى تقدم ذكره. وكان معاوية وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك وأخصهم به، كما قاله الحافظ الشرف الدمياطى وغيره، ونبهت عليه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد كتب له قبل زيد بن ثابت، أبى بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن أبى(1/534)
سرح، ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له فى الجملة أكثر من غيره الخلفاء الأربعة وأبان وخالد ابنا سعيد بن العاص بن أمية.
وقد كتب- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل الإسلام كتبا فى الشرائع والأحكام.
منها كتابه فى الصدقات الذى كان عند أبى بكر، فكتبه أبو بكر لأنس لما وجهه إلى البحرين ولفظه كما فى البخارى وأبى داود والنسائى:
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التى فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتى أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط:
فى أربعة وعشرين من الإبل فما دونها، من الغنم فى كل خمس من الإبل شاة.
فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر.
فإنذا بلغت ستّا وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى.
فإذا بلغت ستّا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقة الجمل.
فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة.
فإذا بلغت ستّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون.
فإذا بلغت إحدى وسبعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل.
فإذا زادت عن عشرين ومائة، ففى كل أربعين ابنة لبون وفى كل خمسين حقة.
ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليست فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة.
ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما.(1/535)
ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين.
ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنه تقبل منه بنت لبون، ويعطى شاتين أو عشرين درهما.
ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنه تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين.
ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين.
ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شىء.
وفى صدقة الغنم فى سائمتها إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة.
فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان.
فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه.
فإذا زادت على ثلاثمائة ففى كل مائة شاة.
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.
ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج فى الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدّق.(1/536)
وفى الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) «1» .
قوله وفى الرقة: الدراهم المضروبة، والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة من الورق. قاله ابن الأثير فى الجامع. وقال فى فتح البارى: هى بكسر الراء وتخفيف القاف: الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة.
ومنها كتابه الذى كان عند عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فى نصب الزكاة وغيرها، كما رواه أبو داود والترمذى عن سالم عن أبيه: كتب- صلى الله عليه وسلم- كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله وقرنه بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض وكان فيه:
فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون، إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففى كل خمسين حقة وفى كل أربعين ابنة لبون.
وفى الغنم فى كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فشاتان، إلى المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففى كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شىء حتى تبلغ المائة.
ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، ولا يؤخذ فى الصدقة هرمة ولا ذات عيب.
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1454) فى الزكاة، باب: زكاة الغنم، وأبو داود (1567) فى الزكاة، باب: فى زكاة السائمة، والنسائى (5/ 18) فى الزكاة، باب: زكاة الإبل، وابن ماجه (1800) فى الزكاة، باب: إذا أخذ المصدق ستّا دون سن أو فوق سن، وأحمد فى «مسنده» (1/ 11) .(1/537)
قال الزهرى: وإذا جاء المصدق قسم الشاء أثلاثا، ثلث خيار، وثلث أوساط، وثلث شرار، وأخذ من الوسط «1» رواه أبو داود والترمذى وقال:
حديث حسن، قال: ورواه يونس وغير واحد عن الزهرى عن سالم ولم يرفعه.
قال ابن الأثير فى النهاية: والخليط: المخالط، يريد به الشريك الذى يخلط ماله بمال شريكه، والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون بقرة ومالهما مختلط، فيأخذ الساعى عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعا، فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه، لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع وكأن المال ملك واحد. انتهى.
وقال فى فتح البارى: واختلف فى المراد بالخليط، فعند أبى حنيفة أنه الشريك، واعترض عليه بأن الشريك لا يعرف عين ماله. وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ «2» وقد بينه قبل ذلك بقوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «3» .
واعتذر بعضهم عن الحنفية: بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو رأوا أن الأصل قوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وحكم الخليط يغاير هذا الأصل، فلم يقولوا به، وقال أبو حنيفة: لا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذى يجب عليه لو لم يكن خلطة.
وقال سفيان الثورى: لا يجب حتى يتم لهذا أربعون شاة ولهذا أربعون شاة.
__________
(1) قاله أبو داود عقب الحديث (1568) فيما تقدم، والترمذى (621) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الإبل والغنم.
(2) سورة ص: 22.
(3) سورة ص: 23.(1/538)
وقال الشافعى وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلطة عندهم أن يجتمعا فى المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منها. انتهى.
ومنها كتابه- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل اليمن، وهو كتاب جليل، فيه من أنواع الفقه فى الزكاة والديات والأحكام، وذكر الكبائر والطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة فى الثوب الواحد والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك. واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات، ورواه النسائى وقال: قد روى هذا الحديث يونس عن الزهرى مرسلا، وأبو حاتم فى صحيحه وغيرهما متصلا عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن، وكان فى كتابه:
أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وفيه: أن الرجل يقتل بالمرأة، وفيه: فى النفس الدية مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار، وفى الأنف إذا أوعب جدعه الدية مائة من الإبل، وفى الأسنان الدية، وفى الشفتين الدية، وفى البيضتين الدية، وفى الذكر الدية، وفى الصلب الدية، وفى العينين الدية، وفى الرجل الواحدة نصف الدية، وفى المأمومة ثلث الدية، وفى الجائفة ثلث الدية، وفى المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفى كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفى السن خمس من الإبل «1» .
وفى رواية مالك: وفى العين خمسون، وفى اليد خمسون، وفى الرجل خمسون، وفى الموضحة خمس من الإبل. ومنها كتابه إلى بنى زهير. وأما مكاتباته- عليه الصلاة والسلام- إلى الملوك وغيرهم: فروى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الحديبية كتب إلى الروم، فقيل له: إنهم لا يقرؤن كتابا إلا أن
__________
(1) أخرجه النسائى (8/ 57) فى القسامة، باب: ذكر حديث عمرو بن حزم فى العقول واختلاف الناقلين له، وابن حبان فى «صحيحه» (6559) ، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 552) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (4/ 89) بسند فيه مقال.(1/539)
يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، و «الله» سطر، وختم به الكتاب «1» .
وإنما كانوا لا يقرؤن الكتاب إلا مختوما خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغى أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم. وعن أنس، إن ختم كتاب السلطان والقضاة سنة متبعة، وقال بعضهم: هو سنة لفعله- صلى الله عليه وسلم-.
فكتب إلى قيصر، المدعو «هرقل» ملك الروم يوم ذاك، ثم قال بعد تمام الكتاب «من ينطلق بكتابى هذا إلى هرقل وله الجنة» فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله؟ قال: «وإن لم يصل» فأخذه دحية بن خليفة الكلبى، وتوجه إلى مكان فيه هرقل. ولفظه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله- وفى رواية البخارى:
عبد الله ورسوله- إلى هرقل عظيم الروم- وفى رواية غير البخارى: إلى قيصر صاحب الروم-: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» «3» . رواه البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- أرسل هذا الكتاب مع دحية بن خليفة الكلبى إلى هرقل فى آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي. ووقع فى
__________
(1) انظر صحيح البخارى (3106) فى الخمس، باب: ما ذكر فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم- وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، والترمذى (1747 و 1748) فى اللباس، باب: ما جاء فى نقش الخاتم.
(2) سورة آل عمران: 64.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (7) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1773) فى الجهاد والسير، باب: كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.(1/540)
تاريخ خليفة أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبى سفيان: بأن ذلك كان فى مدة صلح الحديبية كما فى حديث البخارى، فى المدة التى كان- صلى الله عليه وسلم- ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، يعنى مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا.
ولم يقل- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم، لأنه معزول بحكم الإسلام، ولم يخله من الإكرام لمصلحة التأليف.
وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أى لكونه مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم-.
وقوله: فإن عليك إثم الأريسين: أى فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر.
وقيل: إنه- صلى الله عليه وسلم- كتب هذه الآية: يعنى يا أَهْلَ الْكِتابِ «1» قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت، لأن هذه الآية نزلت فى قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبى سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست. وقيل: نزلت فى اليهود، وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد والله أعلم.
ولما قرىء كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- غضب ابن أخى قيصر غضبا شديدا وقال: أرنى الكتاب، فقال له وما تصنع به؟: فقال: إنه بدأ بنفسه، وسماك صاحب الروم، فقال له عمه: إنك لضعيف الرأى، أتريد أن أرمى بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، أو كلاما هذا معناه، أو قال: أن أرمى بكتاب ولم أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق: أنا صاحب الروم، والله مالكى، ومالكه، ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه إلى أن كان من أمره ما ذكره البخارى فى حديثه. انتهى.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى أبرويز بن هرمز بن أنو شروان ملك فارس.
__________
(1) سورة آل عمران: 64.(1/541)
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله، فإنى رسول الله إلى الناس كلهم، لينذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن توليت فعليك إثم المجوس) .
فلما قرىء عليه الكتاب مزقه، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:
«مزق ملكه» «1» .
وفى البخارى من حديث ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمى، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق «2» .
وقيل: بعثه مع عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، والذى فى البخارى هو الصحيح.
وفى كتاب «الأموال» لأبى عبيد من مرسل عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية» .
وروى أنه لما جاء الجواب كسرى قال: «مزق ملكه» ولما جاء جواب هرقل قال: «ثبت ملكه» .
وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى.
عن سيف الدين قلج المنصورى، أحد أمراء الدولة القلاوونية، أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك
__________
(1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 121) ، وما بعده.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2939) فى الجهاد والسير، باب: دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال.(1/542)
الفرنج فى شفاعة، وأنه قبله وأكرمه، وقال: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج له صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدى قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر، إنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا. انتهى «1» .
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشى «2» :
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة، أما بعد: فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتى، وقد بعثت إليكم ابن عمى جعفرا ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى) .
وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضمرى، فقال النجاشى له عندما قرأ الكتاب: أشهد بالله أنه النبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر عنه، ولكن أعوانى من الحبش قليل، فأنظرنى حتى أكثر الأعوان وألين القلوب.
ثم كتب النجاشى جواب الكتاب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-:
__________
(1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (1/ 44) .
(2) قلت: النجاشى، لقب لكل من ملك الحبشة، وهو غير النجاشى الذى صلى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كما ورد فى مسلم (1774) فى الجهاد والسير، باب: كتب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(1/543)
(بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشى أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذى لا إله إلا هو الذى هدانى للإسلام أما بعد: فقد بلغنى كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إليك ابنى، وإن شئت أتيتك بنفسى فعلت يا رسول الله، فإنى أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته) .
ثم إنه أرسل ابنه فى أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبى طالب عم رسول الله، فلما كانوا فى وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانوا سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من القرآن يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى- عليه الصلاة والسلام-، وفيهم أنزل الله:
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا «1» . إلى آخر الآية، لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع. انتهى.
الثفروق: علاقة ما بين النواة والقشر.
وهذا هو أصحمة الذى هاجر إليه المسلمون فى رجب سنة خمس من النبوة، وكتب إليه النبى- صلى الله عليه وسلم- كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست من الهجرة، فامن به وأسلم على يد جعفر بن أبى طالب، وتوفى فى رجب سنة تسع من الهجرة ونعاه النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم توفى وصلى عليه بالمدينة.
وأما النجاشى الذى ولى بعده، وكتب له النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى
__________
(1) سورة المائدة: 82.(1/544)
الإسلام فكان كافرا، لم يعرف إسلامه ولا اسمه. وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما.
وفى صحيح مسلم عن قتادة: أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشى وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشى الذى صلى عليه «1» .
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية واسمه جريح بن مينا «2» .
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «3» .
وبعث به مع حاطب بن أبى بلتعة، فتوجه إليه إلى مصر، فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فرآه فى مجلس مشرف على البحر، فركب سفينة إليه وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلما جىء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر إلى الكتاب فضه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على فيسلط على؟ فقال له حاطب:
وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه؟ فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
__________
(1) قلت: هو لفظ الحديث السابق تخريجه.
(2) انظر الخبر فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 260- 261) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 122) .
(3) سورة آل عمران: 64.(1/545)
فقال: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافى به الله فقد ما سواه، إن هذا النبى دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم-، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبى أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبى، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إنى قد نظرت فى أمر هذا النبى، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ومل أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر.
فأخذ كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- وجعله فى حق من عاج ودفعه لجارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-.
بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيّا قد بقى، وكنت أظن أن يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام. ولم يزد على هذا، ولم يسلم.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى:
ذكر الواقدى «1» بإسناده عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته فإذا فيه:
بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام. فكتب المنذر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أما بعد، يا رسول الله فإنى قد قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب
__________
(1) هو: محمد بن عمر بن واقد الواسطى، أبو عبد الله المدنى، كان من أوعية العلم، ورأسا فى المغازى والسير، إلا أنه متروك الحديث.(1/546)
الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى يهود ومجوس، فأحدث إلى فى ذلك أمرك.
فكتب إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله. أما بعد، فإنى أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد نصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى ملكى عمان، وبعثه مع عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى جيفر- بفتح الجيم وسكون التحتية بعدها فاء- وعبد ابنى الجلندى: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإنى رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلى تحل بساحتكما، وتظهر نبوتى على ملككما. وكتب أبي بن كعب، وختم الكتاب.
قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد- وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا- فقلت إنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إليك وإلى أخيك.
فقال: أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه.
ثم قال: وما تدعو إليه؟(1/547)
قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال: يا عمرو إنك كنت ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة.
قلت: مات ولم يؤمن بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، وددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت على مثل رأيه حتى هدانى الله للإسلام.
قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألنى: أين كان إسلامك؟
قلت: عند النجاشى، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم.
قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه.
قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم.
قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة فى رجل أفضح له من كذب.
قلت: ما كذبت وما نستحله فى ديننا.
ثم قال: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه.
قلت: يأمر بطاعة الله- عز وجل- وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا وشرب الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
قال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، ولو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا.
قلت: إن أسلم ملكه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقرائهم.
قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟
فأخبرته بما فرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الصدقات فى الأموال، حتى(1/548)
انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم. قال: والله ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون هذا.
قال: فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى، ثم إنه دعانى يوما فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعى فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعونى لأجلس فنظرت، فقال: تكلم بحاجتك فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض ختمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه، فقال: ألا تخبرنى عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه إما راغب فى الدين وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا فى الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا فى ضلال. فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة، وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال.
قال: دعنى يومى هذا وارجع إلى غدا.
فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لى، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه فقال: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى، وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى.
قلت: وأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى، خلا به أخوه فأصبح فأرسل إلى فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدق النبى- صلى الله عليه وسلم-، وخليا بينى وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب اليمامة هوذة بن على، وأرسل به سليط بن عمرو العامرى:(1/549)
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هوذة بن على، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يدك) .
فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مختوما، أنزله وحباه واقترأ عليه الكتاب، فرد ردّا دون رد وكتب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-: ما أحسن ما تدعو إليه وأجله، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك.
وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر.
فقدم بذلك على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، وقرأ النبى- صلى الله عليه وسلم- كتابه وقال:
لو سألنى سيابة من الأرض ما فعلت. باد، وباد ما فى يديه.
فلما انصرف النبى- صلى الله عليه وسلم- من الفتح جاءه جبريل- عليه السّلام- بأن هوذة مات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما إن اليمامة سيظهر بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدى» «1» فكان كذلك.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى، وكان بدمشق، بغوطتها.
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، فإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك) ، وأرسله مع شجاع بن وهب.
قال صاحب «باعث النفوس» : روى عن أبى هند الدارى قال: قدمنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الدارى، وأخوه نعيم، ويزيد بن قيس، وأبو عبد الله بن عبد الله- وهو صاحب الحديث- وأخوه الطيب بن عبد الله فسماه النبى- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا وسألنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقطعنا أرضا من أرض الشام، فقال:
__________
(1) انظر «نصب الراية» للحافظ الزيلعى (4/ 425) .(1/550)
- صلى الله عليه وسلم- «سلوا حيث شئتم» قال أبو هند فنهضنا من عنده- صلى الله عليه وسلم- إلى موضع نتشاور فيه: أين نسأل.
فقال تميم: أرى أن نسأله بيت القدس وكورتها، فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند:
فكذلك يكون فيه ملك العرب، وأخاف ألايتم لنا هذا. قال تميم: نسأله بيت جيرون وكورتها، فقال أبو هند: أكبر وأكبر، فقال تميم: فأين ترى أن نسأل؟ قال: أرى أن نسأله القرى التى نصنع فيها حصونا مع ما فيها من آثار إبراهيم- عليه السّلام-، فقال تميم: أصبت ووفقت.
قال: فنهضنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا تميم أتحب أن تخبرنى بما كنتم فيه، أو أخبركم» فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله فنزداد إيمانا، فقال عليه السّلام-: أردت يا تميم أمرا، وأراد أبو هند غيره، ونعم الرأى رأى أبى هند، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقطعة من أدم، وكتب لهما فيها كتابا نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم- للداريين إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد) شهد عباس بن عبد المطلب وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنة وكتب.
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله فعالج فى زاوية الرقعة بشىء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويّا وهو يقول: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ «1» . ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا أنى قد هاجرت.
قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر، فكتب لنا كتابا آخر نسخته.
(بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أنطى «2» محمد رسول الله لتميم
__________
(1) سورة آل عمران: 68.
(2) أى: أعطى.(1/551)
الدارى وأصحابه، إنى أنطيتكم «1» بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطية «2» بت ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم أبد الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله» شهد أبو بكر بن أبى قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، ومعاوية بن أبى سفيان وكتب.
فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر- رضى الله عنه- وجند الجنود إلى الشام كتب كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. من أبى بكر الصديق إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد: فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد فى قرى الداريين، وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الداريون يزرعونها فليزرعوها بلا خراج وإذا رجع إليها أهلها فهى لهم وأحق بهم والسلام عليك انتهى. نقل من كتاب الأخصا بفضائل المسجد الأقصى.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- ليوحنة بن رؤبة صاحب أيلة «3» لما أتاه بتبوك، وصالح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأعطاه الجزية.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفتهم وسائرهم فى البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبى ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.
هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- لأهل جربا وأذرح لما أتوه بتبوك أيضا وأعطوه الجزية:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبى رسول الله لأهل
__________
(1) أى: أعطيتكم.
(2) أى: عطية، وهى كما هى مكتوبة لهجة من لهجات العرب، وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخاطب بعض الوفود بلغاتهم رغبة منه فى تأليف قلوبهم ودخولهم الإسلام.
(3) انظر الكتاب فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 212) .(1/552)
أذرح وجربا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد. وإن عليهم مائة دينار فى كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة «1» .
وعن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرّ بأم ضميرة وهى تبكى، فقال «ما يبكيك أجائعة أنت أم عارية أنت؟» فقالت: يا رسول الله فرق بينى وبين ابنى فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«لا يفرق بين الوالدة وولدها» ثم أرسل إلى الذى عنده ضميرة فدعاه فابتاعه منه ببكر قال ابن أبى ذؤيب ثم أقرأنى كتابا عنده: بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا كتاب من محمد رسول الله لأبى ضميرة وأهل بيته، أن رسول الله أعتقهم وأنهم أهل بيت من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرا «2» . وكتب أبي بن كعب.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- كتابا إلى أهل وج «3» ، سيأتى فى وفد ثقيف فى الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى.
وكذا كتابه- صلى الله عليه وسلم- إلى مسيلمة الكذاب فى وفد بنى حنيفة.
وكتب- صلى الله عليه وسلم- لأكيدر ولأهل دومة الجندل لما صالحه «4» :
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر ولأهل دومة، إن لنا الضاحية من الضحل، والبور والمعامى وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحصر عليكم النبات،
__________
(1) انظر المصدر السابق (1/ 212) .
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 107) وقال: رواه البزار، وفيه حسين بن عبد الله بن ضميرة، وهو متروك كذاب.
(3) وج: اسم واد بالطائف.
(4) انظره فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 220) .(1/553)
تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
والضاحى: البارز الظاهر. والضحل: الماء القليل. البور: الأرض تستخرج. والمعامى: أعفال الأرض. والحصن: دومة الجندل. والضامنة:
النخل الذى معهم فى الحصن. والمعين: الظاهر من الماء الدائم.
وباع- صلى الله عليه وسلم- للعداء عبدا وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى عبدا أو أمة- شك الراوى- لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم «1» . رواه أبو داود والدار قطنى.
والغائلة: الإباق والسرقة والزنا. الخبثة: قال ابن أبى عروبة: بيع غير أهل المسلمين.
وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر، وهذا يدل على مشروعية الإشهاد فى المعاملات قال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ «2» والأمر هنا ليس للوجوب. فقد باع- صلى الله عليه وسلم- ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودى ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن خوف المنازعة والله أعلم.
وأما أمراؤه- عليه الصلاة والسلام- «3» :
فمنهم: باذان بن ساسان من ولد بهرام، أمره- صلى الله عليه وسلم- على اليمن، وهو أول أمير فى الإسلام على اليمن، وأول من أسلم من ملوك العجم.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- على صنعاء خالد بن سعيد. وولى زياد بن لبيد الأنصارى حضر موت.
__________
(1) قلت: بل هو عند الترمذى (1216) فى البيوع، باب: ما جاء فى كتابة الشروط، وابن ماجه (2251) فى التجارات، باب: شراء الرقيق، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (5/ 327) بسند حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) سورة البقرة: 282.
(3) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 125- 126) .(1/554)
وولى أبا موسى الأشعرى زبيد وعدن. وولى معاذ بن جبل الجند.
وولى أبا سفيان بن حرب نجران. وولى ابنه يزيد تيماء.
وولى عتّاب- بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية- ابن أسيد- بفتح الهمزة وكسر السين- مكة، وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان. وولى على بن أبى طالب القضاء باليمن. وولى عمرو بن العاص عمان وأعمالها.
وولى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع، وبعث فى أثره عليّا، فقرأ على الناس براءة، فقيل: لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج، وقيل أردفه به عونا له ومساعدا، ولهذا قال له الصديق: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور، وأما الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم وافترائهم.
وقد ولى- صلى الله عليه وسلم- على الصدقات جماعة كثيرة.
وأما رسله- صلى الله عليه وسلم-
، فقد روى أنه- عليه السّلام- بعث ستة نفر فى يوم واحد «1» ، فى المحرم سنة سبع. وذكر القاضى عياض فى الشفاء مما عزاه للواقدى: أنه أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.
انتهى.
وكان أول رسول بعثه- صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمرى، إلى النجاشى ملك الحبشة، وكتب إليه كتابين يدعوه فى أحدهما إلى الإسلام ويتلو عليه القرآن، فأخذه النجاشى ووضعه على عينيه ونزل عن سريره، فجلس على الأرض ثم أسلم وشهد شهادة الحق وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته.
وفى الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فزوجه إياها كما تقدم فى ذكر الأزواج، ودعا بحق من عاج فجعل فيه كتابى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال: «لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم» وصلى عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو بالحبشة كذا قاله الواقدى وغيره.
وليس كذلك، فإن النجاشى الذى صلى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذى كتب إليه، كما قدمته.
__________
(1) المصدر السابق (1/ 121- 122) .(1/555)
وبعث- صلى الله عليه وسلم- دحية بن خليفة الكلبى- وهو أحد الستة- إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل يدعوه إلى الإسلام، فهمّ بالإسلام فلم توافقه الروم فخافهم على ملكه فأمسك.
وبعث عبد الله السهمى إلى كسرى وهو الثالث.
وبعث الرابع وهو حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس فأكرمه، وبعث إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بجاريتين وكسوة وبغلة ولم يسلم.
وبعث الخامس وهو شجاع بن وهب الأسدى إلى ملك البلقاء الحارث ابن أبى شمر الغسانى.
وبعث السادس وهو سليط بن عمرو العامرى إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفى فأسلم ثمامة.
وبعث عمر بن العاص فى ذى القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى بعمان فأسلما وصدقا.
وبعث العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى بن العبدى ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة- وقيل قبل الفتح- فأسلم وصدق.
وبعث المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث بن عبد كلال الحميرى باليمن، فقال سأنظر فى أمرى.
وبعث أبا موسى الأشعرى ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك سنة عشر فى ربيع الأول داعيين إلى الإسلام، فأسلم غالب أهلها من غير قتال. ثم بعث على بن أبى طالب بعد ذلك إليهم ووافاه بمكة فى حجة الوداع.
وبعث جرير بن عبد الله البجلى إلى ذى الكلاع وذى عمرو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلما وتوفى- صلى الله عليه وسلم- وجرير عندهم.
وبعث عمرو بن أمية الضمرى إلى مسيلمة الكذاب بكتاب.
وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامى- وكان عاملا لقيصر- يدعوه إلى(1/556)
الإسلام فأسلم، وكتب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وبعث إليه بهدية مع مسعود بن سعد، وهى: بغلة شهباء، يقال لها فضة، وفرس يقال له الظرب، وحمار يقال له يعفور، وبعث إليه أثوابا وقباء سندسيا مذهبا، فقبل هديته ووهب لمسعود بن سعد اثنى عشر أوقية.
وبعث المصدقين لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع:
فبعث عيينة بن حصن الفزارى إلى بنى تميم. وبعث بريدة- ويقال كعب ابن مالك- إلى أسلم وغفار. وبعث عباد بن بشر إلى سليم ومزينة. وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة. وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة. وبعث الضحاك بن سفيان إلى بنى كلاب. وبعث بشر بن سفيان الكعبى- ويقال النحام العدوى- إلى بنى كعب.
وبعث عبد الله بن اللتبية إلى ذبيان. وبعث رجلا من سعد هذيم إلى قومه.(1/557)
الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه
أما مؤذنوه فأربعة
«1» : اثنان بالمدينة:
بلال بن رباح، وأمه حمامة، مولى أبى بكر الصديق، وهو أول من أذن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال، فتذكر الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال أسلم مولى عمر- فلم أر باكيا أكثر من يومئذ، وتوفى بلال سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة، أو عشرين بداريا بباب كيسان، وله بضع وستون سنة، وقيل دفن بحلب، وقيل بدمشق. وعمرو بن أم مكتوم القرشى الأعمى، وهاجر إلى المدينة قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-.
وأذن له- عليه السّلام- بقباء، سعد بن عائد أو ابن عبد الرحمن المعروف بسعد القرظ وبالقرظى، مولى عمار، بقى إلى ولاية الحجاج على الحجاز، وذلك سنة أربع وسبعين.
وبمكة أبو محذورة، واسمه أوس الجمحى المكى، أبوه: معير- بكسر الميم وسكون المهملة وفتح التحتانية- مات بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل تأخر بعد ذلك.
وكان منهم من يرجع الأذان ويثنى الإقامة، وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعى بإقامة بلال، وأهل مكة أخذوا بأذان أبى محذورة وإقامة بلال. وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبى محذورة، وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك فى موضعين:
إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة.
__________
(1) انظر «المصدر السابق» (1/ 124- 125) .(1/558)
وأما شعراؤه- صلى الله عليه وسلم- الذين يذبون عن الإسلام:
فكعب بن مالك. وعبد الله بن رواحة الخزرجى الأنصارى. وحسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصارى، دعا له- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أيده بروح القدس» «1» .
فيقال: أعانه جبريل بسبعين بيتا، وفى الحديث «إن جبريل مع حسان ما نافح عنى» «2» .
وهو بالحاء المهملة أى دافع، والمراد هجاء المشركين ومجاوبتهم على أشعارهم.
وعاش مائة وعشرين سنة، ستين فى الجاهلية وستين فى الإسلام، وكذا عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وجد أبيه حرام، كل واحد منهم عاش مائة وعشرين سنة، وتوفى حسان سنة أربع وخمسين.
ولما جاءه- صلى الله عليه وسلم- بنو تميم، وشاعرهم الأقرع بن حابس، فنادوه يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين. فلم يزد صلى الله عليه وسلم- على أن قال: «ذاك الله إذا مدح زان وإذا ذم شان، إنى لم أبعث بالشعر، ولم أومر بالفخر، ولكن هاتوا» فأمر- عليه السّلام- ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم فخطب فغلبهم. فقام الأقرع بن حابس شاعرهم فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وأنا رؤس الناس على فى كل معشر ... وإن ليس فى أرض الحجاز كدارم
فأمر- صلى الله عليه وسلم- حسانا يجيبهم فقام فقال:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3212) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2485) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت- رضى الله عنه-، من حديثه وحديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2490) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت رضى الله عنه-، وأبو داود (5015) فى الأدب، باب: ما جاء فى الشعر، واللفظ له، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(1/559)
بنى دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين قن وخادم
وكان أول من أسلم شاعرهم.
وكان أشد شعرائه- صلى الله عليه وسلم- على الكفار حسان وكعب. ولما رجع صلى الله عليه وسلم- من تبوك وفد عليه وفد همدان، وعليهم مقطعات الحبرات- الخز- والعمائم العدنية، جعل ملك بن النمط يرتجز بين يديه- صلى الله عليه وسلم-.
وكان خطيبه- صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس- بمعجمة وميم مشددة وآخره مهملة- وهو خزرجى، شهد له النبى- صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان خطيبه وخطيب الأنصار، واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتى عشرة.
وكان يحدو بين يديه- صلى الله عليه وسلم- فى السفر عبد الله بن رواحة، وفى رواية الترمذى فى الشمائل عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة فى عمرة القضية وابن رواحة يمشى بين يديه ويقول:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله «1»
وقد تقدم مزيد لهذا فى عمرة القضية والله أعلم.
وعامر بن الأكوع- بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو وبالعين المهملة- وهو عم سلمة بن الأكوع، استشهد يوم خيبر، ومرت قصته فى غزوتها.
وأنشجة، العبد الأسود- وهو بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة- وكان حسن الحداء. قال أنس: كان البراء بن مالك يحدو بالرجال وأنجشة يحدو بالنساء. وقد كان يحدو وينشد القريض والرجز. فقال
__________
(1) تقدم.(1/560)
له- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية البراء بن مالك-: «عبد رويدك رفقا بالقوارير» «1» أى النساء.
فشبههن بالقوارير من الزجاج، لأنه يسرع إليها الكسر، فلم يأمن صلى الله عليه وسلم- أن يصيبهن أو يقع فى قلوبهن حداؤه فأمره بالكف عن ذلك. وفى المثل: الغناء رقية الزنا. وقيل أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت فى المشى واشتدت فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6149) فى الأدب، باب: ما يجوز من الشعر والرجز، ومسلم (2323) فى الفضائل، باب: رحمة النبى- صلى الله عليه وسلم- للنساء وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهم، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وليس البراء بن مالك كما ذكر المصنف، ولعله وهم.(1/561)
الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه «1»
أما أسيافه- صلى الله عليه وسلم-
فكان له تسعة أسياف:
مأثور، وهو أول سيف ملكه- صلى الله عليه وسلم- وهو الذى يقال إنه قدم به إلى المدينة فى الهجرة.
والعضب، أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر.
وذو الفقار، لأنه كان فى وسطه مثل فقرات الظهر، ويجوز فى «فائه» الفتح والكسر، وصار إليه يوم بدر، وكان للعاصى بن منبه، وكان هذا السيف لا يفارقه- صلى الله عليه وسلم- يكون معه فى كل حرب يشهدها، وكانت قائمته وقبيعة وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة.
والقلعى، بضم الفاء وفتح اللام، وهو الذى أصابه من قلع، موضع بالبادية.
والبتار، أى القاطع.
والحتف، وهو الموت.
والمخدم، وهو القاطع.
والرسوب، أى يمضى فى الضريبة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب إذا ذهب إلى أسفل وإذا ثبت.
أصابهما من الفلس- بضم الفاء وإسكان اللام- صنم كان لطىء.
والقضيب.
__________
(1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 130- 133) .(1/562)
وأما أدراعه فسبعة:
ذات الفضول، بالضاد المعجمة، لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهى التى رهنها عند أبى الشحم اليهودى على شعير، وكان ثلاثين صاعا، وكان الدين إلى سنة «1» .
وذات الوشاح.
وذات الحواشى.
والسعدية، ويقال بالغين المعجمة، وهى درع عكبر القينقاعى، قيل وهى درع داود- عليه السّلام- التى لبسها حين قتل جالوت.
وفضة وكان قد أصابهما من بنى قينقاع.
والبتراء، لقصرها.
والخرنق، باسم ولد الأرنب. كان عليه- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد درعان، ذات الفصول وفضة. وكان عليه- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين درعان: ذات الفضول والسعدية.
وأما أقواسه- صلى الله عليه وسلم- فكانت ستة:
الزوراء، وثلاث من سلاح بنى قينقاع، قوس تدعى الروحاء، وقوس تدعى الصفراء، وشوحط، والكتوم وكسرت يوم أحد فأخذها قتادة، والسداد.
وكانت له جعبة تدعى الكافور، وكانت له منطقة من أديم فيها ثلاث حلق فضة، والإبزيم من فضة، والطرف من فضة.
وأما أتراسه
، فكان له- صلى الله عليه وسلم- ترس اسمه: الزلوق، يزلق عنه السلاح، وترس يقال له الفتق، وترس أهدى إليه، فيه صورة تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال «2» .
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2916) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم- والقميص فى الحرب، ومسلم (1603) فى المساقاة، باب: الرهن وجوازه فى الحضر كالسفر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 379) .(1/563)
وأما أرماحه- صلى الله عليه وسلم-
، فالمثوى: قال ابن الأثير سمى به لأنه يثبت المطعون به، من الثوى وهو الإقامة. انتهى. والمثنى، ورمحان آخران.
وكانت له- صلى الله عليه وسلم- حربة كبيرة اسمها البيضاء، وكانت له- عليه السّلام- حربة أخرى صغيرة دون الرمح شبه العكاز، يقال لها العنزة، وكانت تركز أمامه ويصلى إليها. وكان له- صلى الله عليه وسلم- مغفر من حديد يسمى السبوغ، أو ذا السبوغ، وآخر يسمى الموشح.
تكميل:
وكان له- صلى الله عليه وسلم- فسطاط يسمى الكن. وكان له محجن قدر ذراع أو أكثر يمشى ويركب به ويعلقه بين يديه على بعيره. وكانت له مخصرة تسمى العرجون، وقضيب من الشوحط يسمى الممشوق. وكان له قدح يسمى الريان، وآخر يسمى مغيثا، وآخر مضبب بسلسلة من فضة فى ثلاثة مواضع، وآخر من عيدان، وآخر من زجاج. وتور من حجارة يسمى المخضب، وركوة تسمى الصادرة، ومخضب من نحاس، ومغتسل من صفر، ومدهن وربعة اسكندرانية يجعل فيها المرآة، ومشط من عاج- وهو الذبل- والمكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثا فى كل عين، وكان له فى الربعة أيضا المقراض والسواك.
وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية مع مارية أم إبراهيم عليه السّلام-.
وكانت له قصعة تسمى الغراء، بأربع حلق، وصاع، ومد. وقطيفة وسرير قوائمة من ساج، وفراش من أدم حشوه ليف. وخاتم من حديد، ملوى بفضة، وخاتم فضة، فصه منه، يجعله فى يمينه، وقيل: كان أولا فى يمينه ثم حوله إلى يساره، منقوش عليه: محمد رسول الله. وأهدى له النجاشى خفين ساذجين فلبسهما.
وكان له ثلاث جباب يلبسهن فى الحرب، جبة سندس أخضر، وجبة طيالسة. وعمامة يقال لها السحاب، وأخرى سوداء، ورداء، - صلوات الله وسلامه عليه-.(1/564)
الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه «1»
أما خيله- صلى الله عليه وسلم-:
فالسكب، يقال: فرس سكب أى: كثير الجرى كأنما يصب جريه صبّا، وأصله من سكب الماء يسكب، وهو أول فرس ملكه، اشتراه- عليه السّلام- بعشر أواق، وكان أغر محجلا طلق اليمين، كميتا، وقال ابن الأثير: كان أدهم.
والمرتجز- بضم الميم وسكون الراء وفتح التاء وكسر الجيم بعدها زاى- سمى به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذى هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذى شهد له فيه خزيمة بن ثابت، فجعل شهادته بشهادة رجلين «2» .
والظرب- بالظاء المعجمة- واحد الظراب، سمى به لكبره وسمنه، وقيل لقوته وصلابة حافره، أهداها له فروة بن عمرو الجذامى.
واللحيف- بالمهملة- أهداها له ربيعة بن البراء، سمى به لسمنه وكبره، كأنه يلحف الأرض أى يغطيها بذنبه لطوله، فعيل بمعنى فاعل، يقال لحفت الرجل باللحاف.
طرحته عليه، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة، رواه البخارى ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله فى النهاية.
واللزاز، سمى به لشدة تلززه، أو لاجتماع خلقه. ولزبه الشىء أى لزق به، كأنه يلتزق بالمطلوب لسرعته، وهذه أهداها له المقوقس.
__________
(1) انظر «زاد المعاد» (1/ 133) .
(2) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3607) فى الأقضية، باب: إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، وهو عند البخارى (4784) فى التفسير مختصرا.(1/565)
والورد، قال ابن سعد: أهداها له تميم الدارى، فأعطاه عمر فحمل عليه فى سبيل الله، ثم وجده يباع برخص فقال: «لا تشتره» .
وسبحة، بالموحدة، من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين فى الجرى. قال ابن بنين: هى فرس شقراء اشتراها من أعرابى من جهينة بعشر من الإبل.
فهذه سبعة متفق عليها:
وذكر ابن بنين فيما حكاه الحافظ الدمياطى: البحر، فى خيله- صلى الله عليه وسلم-، قال: وكان اشتراه من تجار قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات، فجثا- صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه ومسح وجهه وقال «ما أنت إلا بحر» فسمى بحرا. قال ابن الأثير: وكان كميتا وكان سرجه دفتان من ليف.
والسجل، بكسر السين وسكون الجيم، ذكره على بن محمد بن الحسين ابن عبدوس الكوفى، ولعله مأخوذ من قولك سجلت الماء فانسجل، أى صببته فانصب.
وذو اللمة- بكسر اللام وتشديد الميم- ذكره ابن حبيب.
وذو العقال بضم العين المهملة وتشديد القاف، وحكى بعضهم تخفيفها.
والسرحان- بكسر المهملة وسكون الراء- ذكره ابن خالويه.
والطرف- بكسر الطاء المهملة وسكون الراء بعدها فاء- ذكره ابن قتيبة فى المعارف، وذكر فى رواية أنه الذى اشتراه من الأعرابى وشهد له به خزيمة ابن ثابت.
والمرتجل- بكسر الجيم- ذكره ابن خالويه، من قولهم ارتجل الفرس ارتجالا، إذا خلط العنق بشىء من الهملجة.
والمرواح- بكسر الميم- من أبنية المبالغة- كالمطعام- مشتق من الريح، أو من الرواح لتوسعه فى الجرى، أهداها له قوم من مذحج، ذكره ابن سعد.(1/566)
وملاوح، - بضم الميم وكسر الواو- ذكره ابن خالويه.
والمندوب، ذكره بعضهم فى خيله- صلى الله عليه وسلم-.
والنجيب، ذكره ابن قتيبة، وأن فى رواية: أنه الذى اشتراه من الأعرابى وشهد له به خزيمة.
واليعبوب واليعسوب ذكرهما قاسم بن ثابت فى كتاب الدلائل، وكان سرجه دفتان من ليف.
وكان له- صلى الله عليه وسلم- من البغال:
دلدل: بدالين مهملتين، وكانت شبهاء أهداها له المقوقس.
وفضه: أهداها له فروة بن عمرو الجذامى.
وأخرى: أهداها له ابن العلماء، صاحب أيلة. وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشى.
قيل: وأهدى له كسرى بغلة أخرى، وفى ذلك نظر، لأن كسرى مزق كتابه- صلى الله عليه وسلم-.
وكان له- صلى الله عليه وسلم- من الحمير: عفير، أهداه له المقوقس، ويعفور، أهداه له فروة بن عمرو، ويقال: هما واحد، وذكر أن سعد بن عبادة أعطى للنبى صلى الله عليه وسلم- حمارا فركبه.
وكان له- صلى الله عليه وسلم- من اللقاح: القصواء وهى التى هاجر عليها، والعضباء والجدعاء ولم يكن بهما عضب ولا جدع، وإنما سميتا بذلك، وقيل كان بأذنها عضب، وقيل: العضباء والجدعاء- واحدة، والعضباء هى التى كانت لا تسبق فجاء أعرابى على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم-: «إن حقّا على الله ألايرفع من الدنيا شيئا إلا وضعه» «1» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6501) فى الرقاق، باب: التواضع، من حديث أنس رضى الله عنه-.(1/567)
وغنم- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر جملا لأبى جهل فى أنفه برة من فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ بذلك المشركين. وكانت له خمسة وأربعون لقحة أرسل بها إليه سعد بن عبادة: منها: أطلال، وأطراف، وبردة، وبركة، والبغوم، والحناء، ورمزه، والرياء، والسعدية، وسقيا، والسمراء، والشقراء، وعجرة، والعريس، وغوثة، وقيل: غيثة، وقمر، ومروة، ومهرة، وورشة، والعسيرة.
وكانت له مائة شاة، وكانت له ستة أعنز منائح ترعاهن أم أيمن.(1/568)
الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه «1»
قال النووى: الوفد، الجماعة المختارة للتقدم فى لقاء العظماء، واحدهم: وافد، انتهى.
وقد كان ابتداء الوفود عليه بعد رجوعه- صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة فى آخر سنة ثمان وما بعدها، وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك، وقال ابن هشام:
كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود.
وقد سرد محمد بن سعد فى الطبقات الوفود، وتبعه الدمياطى فى السيرة له، وابن سيد الناس، ومغلطاى، والحافظ زين الدين العراقى.
ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين.
فقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد هوازن «2» ، كما ذكره البخارى وغيره، وذكر موسى بن عقبة فى المغازى: أن رسول الله لما انصرف من الطائف فى شوال إلى الجعرانة وفيها السبى- يعنى سبى هوازن- قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، فقال:
«سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم، فأى الأمرين أحب إليكم، السبى أم المال» قالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم فى شاة ولا بعير، فقال: «أما الذى لبنى هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين فكلموهم وأظهروا إسلامكم» .
__________
(1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 595- 687) .
(2) انظره فى «صحيح البخارى» (4319) فى المغازى، باب: قول الله تعالى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الآية، من حديث مروان والمسور بن مخرمة- رضى الله عنهما-.(1/569)
فلما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الهاجرة قاموا، فتكلم خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين فى رد سبيهم، ثم قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين فرغ، فشفع لهم وحض المسلمين عليه، وقال: «قد رددت الذى لبنى هاشم عليهم» «1» ، وفى رواية ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:
وأدركه وفد هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك. فامنن علينا منّ الله عليك، وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إن اللواتى فى الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك، وأنت خير مكفول ثم أنشد:
امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
الأبيات المشهورة الآتية- إن شاء الله تعالى-.
وروينا فى المعجم الصغير للطبرانى من ثلاثياته، عن زهير بن صرد الجشمى يقول: لما أسرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين- يوم هوازن- وذهب يفرق السبى والشاء أتيته فأنشأت أقول هذا الشعر:
امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشتت شملها فى دهرها غير
أبقت لنا الدهر هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين تختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من مخضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحمت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
__________
(1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 190- 200) .(1/570)
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هادى البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعفو عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
قال: فلما سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: «ما كان لى ولعبد المطلب فهو لكم» وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله «1» .
ومن بين الطبرانى وزهير لا يعرف، لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة، فهو حديث حسن، وقد وهم من زعم أنه منقطع. وقد زاد الطبرانى على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات.
وذكر الواقدى: أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتا، فيهم أبو برقان السعدى، فقال: يا رسول الله، إن هذه لأمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فامنن علينا منّ الله عليك، فقال: «قد استأنيت «2» بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبى» «3» .
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد ثقيف، بعد قدومه- صلى الله عليه وسلم- من تبوك، وكان من أمرهم أنه- صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف قيل له: يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» «4» .
ولما انصرف عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فلما أشرف على علية له، وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله.
ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهرا، ثم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة
__________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) استأنيت: انتظرت.
(3) انظر «فتح البارى» (8/ 34) .
(4) تقدم فى غزوة الطائف.(1/571)
لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
فبعثوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف: الحكم ابن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، وشرحبيل بن غيلان، وثلاثة من بنى مالك: عثمان بن أبى العاص، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة، فلما قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضرب لهم قبة فى ناحية المسجد، وكان خالد ابن سعيد بن العاصى هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أسلموا واكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذى كتبه، وكان فيما سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يدع لهم الطاغية- وهى اللات- لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم- صلى الله عليه وسلم- إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها.
وكانوا سألوه مع ذلك أن يعفيهم من الصلاة، وألايكسروا أوثانهم إلا بأيديهم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «كسروا أوثانكم بأيديكم وأما الصلاة فلا خير فى دين لا صلاة فيه» «1» فلما أسلموا وكتب لهم الكتاب أمّر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنّا، لكنه كان من أحرصهم على التفقه فى الإسلام وتعلم القرآن.
فرجعوا إلى بلادهم ومعهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية، فلما دخل المغيرة عليها علاها يضربها بالمعول، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها، وأخذ المغيرة بعد أن كسرها مالها وحلبها.
وكان كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى كتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده حرام لا يعضد، ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد، وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ النبى محمدا، وإن هذا أمر النبى محمد رسول الله، وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.
__________
(1) انظر خبرهم فى سنن أبى داود (3025 و 3026) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: ما جاء فى خبر الطائف.(1/572)
و «وج» : واد بالطائف. واختلف فيه: هل هو حرم يحرم صيده وقطع شجره؟
فالجمهور: أنه ليس فى البقاع حرم إلا حرم مكة والمدينة. وخالفهم أبو حنيفة فى حرم المدينة.
وقال الشافعى- فى أحد قوليه- وج حرم، يحرم صيده وشجره، واحتج لهذا القول بحديثين: أحدهما: ما تقدم، والثانى: حديث عروة بن الزبير عن أبيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله» «1» رواه الإمام أحمد وأبو داود. لكن فى سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه.
وفى مغازى المعتمر بن سليمان التيمى عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفى عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبى العاص، قال: استعملنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أنى كنت قرأت سورة البقرة، فقلت: يا رسول الله، إن القرآن يتفلت منى، فوضع يده على صدرى وقال: «يا شيطان اخرج من صدر عثمان» «2» ، فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه.
وفى صحيح مسلم، عن عثمان بن أبى العاص، قلت: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بينى وبين صلاتى وقراءتى، فقال: «ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا» قال: ففعلت فأذهبه الله عنى «3» .
وقدم وفد بنى عامر «4» عليه- صلى الله عليه وسلم-، قال ابن إسحاق: لما فرغ- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2032) فى المناسك، باب: فى مال الكعبة، وأحمد فى «مسنده» (1/ 165) بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(2) قلت: فى إسناده عبد الله بن عبد الرحمن، قال عنه الحافظ فى «التقريب» : صدوق يخطىء ويهم، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 3) وقال: رواه الطبرانى وفيه عثمان بن بسر، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (2203) فى السلام، باب: التعوذ من شيطان الوسوسة.
(4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 568- 569) .(1/573)
من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فدخلوا فى دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه.
فوفد إليه- صلى الله عليه وسلم- بنو عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس وخالد بن جعفر، وحيان بن أسلم بن مالك، وكان هذا النفر رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم- عدو الله- عامر بن الطفيل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يريد أن يغدر به، فقال لأربد إذا قدمنا على الرجل فإنى شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فأعله بالسيف فكلم عامر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: والله لأملأنها عليك خيلا ورجلا، فلما ولى قال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اكفنى عامر بن الطفيل» «1» .
فلما خرجوا، قال عامر لأربد: ويحك، أينما كنت أمرتك به؟ فقال:
والله ما هممت بالذى أمرتنى به إلا دخلت بينى وبينه، أفأضربك بالسيف؟
ولما كانوا ببعض الطريق بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه فقتله الله.
وفى صحيح البخارى: أن عامرا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء. فطعن فى بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة من بنى فلان. ائتونى بفرسى فركب فمات على ظهر فرسه «2» .
وقدم وفد عبد القيس «3» عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه وهى قبيلة كبيرة يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفصى- بسكون الفاء بعدها مهملة بوزن أعمى- ابن دعمى- بضم الدال وسكون العين المهملتين وكسر الميم بعدها تحتانية-.
__________
(1) ذكره البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 319) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4091) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع.
(3) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 320) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 238) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 605- 606) .(1/574)
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ممن القوم» قالوا: من ربيعة، قال: «مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى» فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمرنا فصل، نأخذ به ونأمر به من وراءنا، وندخل به الجنة. قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم» ) «1» .
قال ابن القيم: ففى هذه القصة أن الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول والعمل، كما علي ذلك أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتابعون وتابعوهم كلهم، ذكر ذلك الشافعى فى المبسوط، وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة، ولم يعد الحج من هذه الخصال، وكان قدومهم فى سنة تسع، وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد، وأنه إنما فرض فى العاشرة، ولو كان فرض لعده من الإيمان كما عد الصوم والزكاة.
انتهى.
وقد كان لعبد القيس وفدتان:
إحداهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا له- صلى الله عليه وسلم-: حال بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديما، إما سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلا، وقيل كانوا أربعة عشر راكبا، وفيها سألوه عن الإيمان، وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج، وكان كبيرهم، وقال له صلى الله عليه وسلم-: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» «2» . رواه مسلم من حديث أبى سعيد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (53) فى الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان، ومسلم (17) فى الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- وشرائع الدين.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (17) (25) فيما تقدم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وليس أبى سعيد كما ذكر المصنف.(1/575)
وأخرج البيهقى: بينما النبى- صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه قال: «سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق» فقام عمر نحوهم، فلقى ثلاثة عشر راكبا، فبشرهم بقوله- صلى الله عليه وسلم- ثم مشى معهم حتى أتى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم، فأخذوا يده فقبلوها «1» الحديث وأخرجه البخارى فى الأدب المفرد. فيمكن أن يكون أحد المذكورين غير راكب أو مرتدفا.
وثانيهما: كانت فى سنة الوفود وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، كما فى حديث أبى خيرة الصباحى عند ابن منده.
ويؤيد التعدد: ما أخرجه من وجه آخر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لهم: «ما لى أرى ألوانكم تغيرت» «2» ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير، وفى قولهم:
يا رسول الله، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا فى قولهم كفار مضر، وقولهم: الله ورسوله أعلم.
ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا، ما فى البخارى: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين وهى قرية لهم «3» ، وإنما جمّعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، وقال فى فتح البارى: فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام.
وما جزم به ابن القيم من أن السبب فى كونه لم يذكر الحج فى الحديث، لأنه لم يكن فرض، هو المعتمد. وقدمت الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزمه تبعا للواقدى بأن قدومهم كان فى سنة تسع قبل فتح مكة ليس بجيد، لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح، لكنه اختار كغيره- أن فرض الحج فى السنة العاشرة، حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور شىء.
وقد احتج الشافعى لكونه على التراخى بأن فرض الحج كان بعد
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 327) .
(2) ذكره الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (8/ 86) .
(3) انظر «صحيح البخارى» (892) فى الجمعة، باب: الجمعة فى القرى والمدن.(1/576)
الهجرة، وأنه- صلى الله عليه وسلم- كان قادرا على الحج فى سنة ثمان، وفى سنة تسع، ولم يحج إلا فى سنة عشر، وسيأتى فى حجه- صلى الله عليه وسلم- من مقصد عباداته مزيد لذلك إن شاء الله تعالى.
فإن قلت كيف قال- صلى الله عليه وسلم- آمركم بأربع، والمذكورات خمس؟ قلت أجاب القاضى [عياض] «1» تبعا لابن بطال: بأن الأربع، ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد، لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. قال: ولذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض.
وقال غيره: وقوله «وأن تعطوا» معطوف على قوله «بأربع» أى: آمركم بأربع وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان: بأن والفعل، مع توجيه الخطاب إليهم.
وقال القاضى أبو بكر بن العربى: يحتمل أن يقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- عد الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها فى كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد الخمس لأنه داخل فى عموم إيتاء الزكاة والجامع بينهما: أنه إخراج مال معين.
وقال البيضاوى: الظاهر أن الأمور الخمسة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الآخرى حذفها الراوى اختصارا أو نسيانا.
وتعقب بأنه وقع فى صحيح البخارى أيضا فى رواية: «آمركم بأربع:
شهادة ألاإله إلا الله، وعقد واحدة» فدل على أن الشهادة إحدى الأربع.
وقال القرطبى: قيل إن أول الأربع المأمور بها: إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا، وإلى هذا نحا الطيبى، فقال عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض فى
__________
(1) فى الأصل عبد الوهاب، والصواب ما أثبتناه نقلا عن «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (1/ 133) المصدر المنقول منه.(1/577)
الإيراد ذكر الشهادتين لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتى الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر فى صدر الإسلام.
قال: ولهذا لم يعد الشهادتين فى الأوامر «1» ، انتهى ملخصا من فتح البارى.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى حنيفة «2» ، فيهم مسيلمة الكذاب، فكان منزلهم فى دار امرأة من الأنصار، من بنى النجار، فأتوا بمسيلمة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم يسترونه بالثياب، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فى يده عسيب من سعف النخل، فلما انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-- وهم يسترونه بالثياب- كلمه وسأله، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لو سألتنى هذا العسيب الذى فى يدى ما أعطيتك» «3» .
وذكر حديثه ابن إسحاق على غير ذلك فقال: حدثنى شيخ من أهل اليمامة من بنى حنيفة: أن وفد بنى حنيفة أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخلفوا مسيلمة فى رحالهم، فلما أسلموا ذكروا له مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا فى رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم- بما أمر به للقوم، وقال لهم «إنه ليس بشركم مكانا» يعنى لحفظه صنيعة أصحابه، ثم انصرفوا، فلما قدموا اليمامة ارتد- عدو الله- وتنبأ وقال: إنى أشركت فى الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى.
وسجع اللعين على سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» فقال: إنا أعطيناك
__________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 576- 577) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 316) ، و «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 330) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 610- 611) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3621) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2273) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(4) سورة الكوثر: 1.(1/578)
الجواهر، فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر. وفى رواية: إنا أعطيناك الجماهر فخذ لنفسك وبادر، واحذر أن تحرص أو تكاثر، وفى رواية:
إنا أعطيناك الكواثر فصل لربك وبادر فى الليالى الغوادر.
ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب، وسيأتى فى أوائل مقصد معجزاته- صلى الله عليه وسلم- من تسجيع مسيلمة الركيك مزيد لذلك على ما ذكرته هنا- إن شاء الله تعالى-.
وقيل: إنه أدخل البيضة فى القارورة وادعى أنها معجزة له، فافتضح بنحو ما ذكر:
أن النوشادر إذا ضرب فى خل الخمر ضربا جيدا، وجعلت فى بيضة بنت يومها يوما وليلة فإنها تمتد كالخيط، فتجعل فى القارورة ويصب عليها الماء البارد فإنها تجمد.
ولما سمع اللعين أن النبى- صلى الله عليه وسلم- مسح رأس صبى كان ألمّ به داء فشفى ومج فى بئر فكثر ماؤها، وتفل فى عين على- وكان أرمد- فبرىء.
فتفل اللعين فى بئر فغار ماؤها، وفى عين بصير فعمى، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها. ويبس ضرعها، ولله در الشقراطيسى حيث يقول يخاطب النبى- صلى الله عليه وسلم-:
أعجزت بالوحى أرباب البلاغة فى ... عصر البيان فضلّت أوجه الحيل
سألتهم سورة فى مثل حكمته ... فتلّهم عنه حين العجز حين تلى
فرام رجس كذوب أن يعارضه ... بعى غى فلم يحسن ولم يطل
مثبج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزرى الزور والخطل
يمج أول حرف سمع سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل
كأنه منطق الورهاء شذّ به ... لبس من الخبل أو مس من الخبل
أمرت البئر واغورت لمجته ... فيها وأعمى بصير العين بالتفل
وأيبس الضرع منه شؤم راحته ... من بعد إرسال رسل منه منهمل(1/579)
فشبه هذا الكلام الذى عارض به مسيلمة، بكلام امرأة ورهاء، وهى الحمقاء التى تتكلم لحمقها بما لا يفهم، فهى تهذى بكلام مشذب- أى مختلط- لا يقترن بعضه ببعض، ولا يشبه بعضه بعضا ككلام من به خبل بسكون الموحدة- أى فساد، أو مس من الخبل- بفتحها- أي جنون.
ثم إن اللعين وضع عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه نبى.
وقد كان كتب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإنى قد أشركت معك فى الأمر، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر.
فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسوله بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
وفى الصحيحين من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: إن جعل لى محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدمها فى بشر كثير من قومه، فأقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفى يد النبى- صلى الله عليه وسلم- قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة فى أصحابه، فقال: «لو سألتنى هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإنى لأراك الذى أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عنى» ثم انصرف «1» .
قال ابن عباس: فسألت عن قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إنك الذى أريت فيه ما رأيت» فأخبرنى أبو هريرة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أنا نائم رأيت فى يدى سوارين من ذهب فأهمنى شأنهما فأوحى الله إلى فى المنام أن أنفخهما،
__________
(1) صحيح: وهو لفظ الحديث السابق بتمامه.(1/580)
فنفختهما فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان من بعدى، فهذان هما: أحدهما العنسى صاحب صنعاء والآخر مسيلمة» «1» .
فإن قلت: كيف يلتئم خبر ابن إسحاق مع الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم- اجتمع به وخاطبه، وصرح بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة من الجريدة ما أعطاه.
فالجواب: إن المصير إلى ما فى الصحيح أولى.
ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين، الأولى كان تابعا وكان رئيس بنى حنيفة غيره، ولهذا أقام فى حفظ رحالهم، ومرة متبوعا، وفيها خاطبه النبى صلى الله عليه وسلم-.
أو القصة واحدة، وكانت إقامته فى رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارا أن يحضر مجلس النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعامله- صلى الله عليه وسلم- معاملة الكرم على عادته فى الاستئلاف فقال لقومه: «إنه ليس بشركم» أى مكانا، لكونه يحفظ رحالهم، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد فى مسيلمة توجه بنفسه إليه ليقيم عليه الحجة ويعذر إليه بالإنذار. والعلم عند الله تعالى.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد طىء «2» وفيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» ثم سماه زيد الخير. فخرج راجعا إلى قومه، فلما انتهى إلي ماء من مياه نجد أصابته الحمى بها فمات «3» .
قال ابن عبد البر: وقيل مات فى آخر خلافة عمر. وله ابنان: مكنف
__________
(1) صحيح أخرجه البخارى (4374) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة، ومسلم (2273) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 577- 578) ، وابن سعد فى «طبقاته» (1/ 321) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 616) .
(3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 337) .(1/581)
وحريث، أسلما وصحبا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وشهد قتال أهل الردة مع خالد.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد كنده «1» فى ثمانين أو ستين راكبا من كنده، فدخلوا عليه مسجده، قد رجّلوا جممهم وتسلحوا، ولبسوا جباب الحبرات مكففة بالحرير، فلما دخلوا قال- صلى الله عليه وسلم-: «أو لم تسلموا» قالوا: بلى، قال:
«فما هذا الحرير فى أعناقكم فشقوه فنزعوه وألقوه» «2» .
وقدم عليه- زاده الله شرفا لديه- الأشعريون وأهل اليمن.
قيل هو من عطف الخاص على العام، وقال الحافظ أبو الفضل شيخ الإسلام ابن حجر: المراد بهم بعض أهل اليمن، وهم وفد حمير. قال:
ووجدت فى كتاب الصحابة لابن شاهين من طريق إياس بن عمرو الحميرى:
أنه قدم وافدا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى نفر من حمير فقالوا: أتيناك لنتفقه فى الدين الحديث.
والحاصل: أن الترجمة تشتمل على طائفتين، وليس المراد اجتماعهما فى الوفادة، فإن قدوم الأشعرين كان مع أبى موسى فى سنة سبع عند فتح خيبر، وقدوم حمير كان فى سنة تسع، وهى سنة الوفود، ولهذا اجتمعوا مع بنى تميم.
وروى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا» «3» فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون:
غدا نلقى الأحبه ... محمدا وحزبه
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 585) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 328) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 617) .
(2) انظر المصادر السابقة.
(3) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 105 و 155 و 182 و 223 و 262) بسند صحيح.(1/582)
وعن أبي هريرة- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية والسكينة فى أهل الغنم، والفخر والخيلاء فى الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس» «1» رواه مسلم.
وفى البخارى: إن نفرا من بنى تميم جاؤا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أبشروا يا بنى تميم» فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجاء نفر من أهل اليمن، فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم» قالوا: قد قبلنا، ثم قالوا: يا رسول الله جئنا لنتفقه فى الدين ونسألك عن هذا الأمر، فقال: «كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شىء» «2» .
وقوله: وجاء نفر من أهل اليمن، هم الأشعريون قوم أبي موسى.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- صرد بن عبد الله الأزدى «3» ، فأسلم وحسن إسلامه، فى وفد من الأزد فأمّره- صلى الله عليه وسلم- على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك من قبائل اليمن.
فخرج صرد يسير بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بجرش، وبها قبائل من قبائل العرب، فحاصروهم فيها قريبا من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلا، حتى إذا كان فى جبل لهم وظنوا أنه إنما ولى عنهم منهزما خرجوا فى طلبه، حتى أدركوه عطف عليهم فقتله قتلا شديدا.
وكان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلين منهم، فبينما هما عنده- صلى الله عليه وسلم- عشية فقال لهما- عليه السّلام-: «إن بدن الله لتنحر عند شكر» أى
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4388) فى المغازى، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ومسلم (52) فى الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3190- 3192) فى بدء الخلق، باب: ما جاء فى قوله الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.
(3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 587- 588) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 337) .(1/583)
المكان الذى وقع به قتل قومهم، قال: فجلس الرجلان إلى أبى بكر وعثمان فقالا لهما إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينعى لكما قومكما.
فخرجا إلى قومهما فوجداهم قد أصيبوا فى اليوم الذى قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قال، وفى الساعة التى ذكر فيها ما ذكر.
فخرج وفد جرش حتى قدموا عليه- صلى الله عليه وسلم- فأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم.
وفد بنى الحارث بن كعب «1» . قال ابن إسحاق: بعث- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه.
فأقام خالد يعلمهم الإسلام وكتب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك. ثم أقبل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه وفدهم، منهم: قيس بن الحصين، ويزيد ابن المحجل، وشداد بن عبد الله.
وقال لهم- صلى الله عليه وسلم-: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم» قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: «صدقتم» «2» .
وأمر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم فى بقية من شوال أو من ذى القعدة، فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد همدان فيهم: مالك بن النمط، وضمام بن مالك، وعمرو بن مالك، فلقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرجعه من تبوك، وعليهم
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 592- 594) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 339) .
(2) ذكره ابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 622) .(1/584)
مقطعات الحبرات والعمائم العدنية، على الرواحل المهرية والأرحبية، ومالك ابن النمط يرتجز بين يديه- صلى الله عليه وسلم-. وذكروا له كلاما كثيرا حسنا فصيحا.
فكتب لهم- صلى الله عليه وسلم- كتابا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف. وكان لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه.
وروى البيهقى بإسناد صحيح عن البراء أن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث على بن أبى طالب فأمره أن يقفل خالدا إلا رجلا ممن كان مع خالد أن يعقب مع على.
فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا على، ثم صفنا صفّا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلمت همدان جميعا، فكتب على إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم. فلما قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال: «السلام على همدان، السلام على همدان» «1» وأصل الحديث فى صحيح البخارى.
وهذا أصح مما تقدم، ولم تكن همدان تقاتل ثقيفا ولا تغير على سرحهم، فإن همدان باليمن وثقيف بالطائف. قاله ابن القيم فى الهدى النبوى.
روى البيهقى عن النعمان بن مقرن قال: قدمنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعمائة رجل من مزينة، فلما أردنا أن ننصرف قال: «يا عمر زود القوم» قال: ما عندى إلا شىء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعا. قال: «انطلق فزودهم» قال: فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله ثم أصعدهم إلى علية، فلما دخلنا فإذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق، فأخذ القوم منه حاجتهم. قال
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (2/ 366) ، وفى «دلائل النبوة» (5/ 369) ، وأصله عند البخارى (4349) فى المغازى، باب: بعث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وخالد بن الوليد- رضى الله عنه- إلى اليمن.(1/585)
النعمان: وكنت فى آخر من خرج، فنظرت: وما أفقد موضع تمرة من مكانها «1» .
وفد دوس «2» : وكان قدومهم عليه- صلى الله عليه وسلم- بخيبر. قال ابن إسحاق:
كان الطفيل بن عمرو الدوسى يحدث أنه قدم مكة ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه.
قال: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت ألاأسمع منه شيئا، ولا أكلمه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغنى شىء من قوله.
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله: فسمعت كلاما حسنا، فقلت: واثكل أماه. والله إنى لرجل لبيب شاعر، ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت.
قال: فمكثت حتى أتى- صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا لى كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفونى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف ألاأسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا، فاعرض على أمرك.
فعرض على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا على القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة
__________
(1) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 445) بسند حسن.
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 353) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 624) .(1/586)
الحق، وقلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مطاع فى قومى وإنى راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية.
قال: فخرجت إلى قومى حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر، وقع نور بين عينى مثل المصباح، قال قلت: اللهم فى غير وجهى، إنى أخشى أن يقولوا إنها مثلة وقعت فى وجهى لفراق دينهم، قال: فتحول فوقع فى رأس سوطى كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلما نزلت أتانى أبى- وكان شيخا كبيرا- فقلت: إليك عنى يا أبت، فلست منى ولست منك، قال: ولم يا بنى؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بنى فدينى دينك، قال فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال أعلمك ما علمت، قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
ثم أتتنى صاحبتى فقلت: إليك عنى فلست منك ولست منى، قالت:
لم؟ قلت: فرق الإسلام بينى وبينك، أسلمت وتابعت محمدا- صلى الله عليه وسلم-، قالت: فدينى دينك فأسلمت.
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام، فأبطئوا على فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا نبى الله إنه قد غلبنى على دوس الزنا، فادع الله عليهم، فقال:
«اللهم اهد دوسا» ثم قال «ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم» ، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس. ثم لحقنا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين «1» .
وهذا يدل على تقدم إسلامه، وقد جزم ابن أبى حاتم بأنه قدم مع أبى هريرة بخيبر، وكأنها قدمته الثانية.
__________
(1) انظر «صحيح البخارى» (2937) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومسلم (2524) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم.(1/587)
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران «1» ، فلما دخلوا المسجد النبوى بعد العصر حانت صلاتهم، فقاموا يصلون فيه، فأراد الناس منعهم فقال صلى الله عليه وسلم- دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وكانوا ستين راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم، العاقب، أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم واسمه عبد المسيح. والسيد: صاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم- بتحتانية ساكنة- ويقال شرحبيل. وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه، وكان يعرف أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- وشأنه وصفته مما علمه من الكتب المتقدمة. ولكن حمله جهله على الاستمرار فى النصرانية، لما يرى من تعظيمه ووجاهته عند أهلها.
فدعاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال:
«إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم» «2» .
وفى البخارى من حديث حذيفة، (جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريدان أن يلاعناه- يعنى يباهلاه- فقال أحدهما لا تفعل) «3» .
وعند أبى نعيم: أن القائل ذلك هو السيد، وعند غيره: بل الذى قال ذلك هو العاقب، لأنه صاحب رأيهم، وفى زيادات يونس بن بكير فى المغازى أن الذى قال ذلك هو شرحبيل.
(فو الله لئن كان نبيّا فلاعناه- يعى: باهلناه- لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا- زاد فى رواية ابن مسعود: أبدا- ثم قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 573- 574) ، وابن سعد فى «طبقاته» (1/ 357) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 629) .
(2) انظر المصادر السابقة.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4380) فى المغازى، باب: قصة أهل نجران.(1/588)
معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف لها أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «قم يا أبا عبيدة ابن الجراح» فلما قام قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا أمين هذه الأمة» «1» .
وفى رواية يونس بن بكير أنه صالحهم على ألفى حلة، ألف فى رجب وألف فى صفر، ومع كل حلة أوقية، وساق الكتاب الذى بينهم مطولا.
وذكر ابن سعد: أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك وأسلما. وفى ذلك مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة. ووقع ذلك لجماعة من العلماء سلفا وخلفا، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضى عليه سنة من يوم المباهلة.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- رسول فروة بن عمرو الجذامى ملك الروم وكان منزله معان- بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه ثم صلبوه على ماء بفلسطين، وضربوا عنقه على ذلك الماء «2» .
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- ضمام بن ثعلبة، بعثه بنو سعد بن بكر «3» .
روى البخارى من حديث أنس بن مالك قال، (بينما نحن جلوس مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد دخل رجل على جمل فأناخه فى المسجد ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ والنبى- صلى الله عليه وسلم- متكىء بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكىء، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «قد أجبتك» . فقال: إنى سائلك فمشدد عليك فى المسألة فلا تجد على فى نفسك. فقال: «سل عما بدا لك» . فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم» فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلى الصلوات الخمس فى اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم» .
__________
(1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 592) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 646) .
(3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 573، 574) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 299) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 647، 648) .(1/589)
فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم» . قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم نعم» .
فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائى من قومى وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بنى سعد بن بكر) «1» .
وزاد ابن إسحاق فى مغازيه: فقال: آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون؟
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم نعم» .
قال: وكان ضمام رجلا جلدا أشقر ذا غديرتين، ثم أتى بعيره وأطلق عقاله ثم خرج حتى أتى قومه فاجتمعوا إليه، وكان أول ما تكلم به أن قال:
بئست اللات والعزى فقالوا: مه يا ضمام اتق البرص والجنون والجذام، قال:
ويلكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به، وإنى أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإنى قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فو الله ما أمسى فى ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة «2» .
وفد طارق بن عبد الله وقومه «3» . روى البيهقى عن جامع بن شداد قال: حدثنى رجل يقال له طارق بن عبد الله قال: إنى لقائم بسوق ذى المجاز إذ أقبل رجل وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت من
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 573- 574) ، والمصادر السابقة قبل حديث.
(3) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 380) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 648) .(1/590)
هذا؟ فقالوا: هذا غلام من بنى هاشم يزعم أنه رسول الله. قال قلت: من هذا الذى يفعل به هذا؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى.
قال: فلما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه، فإذا رجل فى طمرين له فسلم وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة، قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نتمار من تمرها، قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: أتبيعون جملكم هذا؟ قالوا: نعم بكذا وكذا صاعا من تمر، فأخذ بخطام الجمل فانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها قلنا: ما صنعنا، والله ما بعنا جملنا ممن نعرف ولا أخذنا له ثمنا. قال: تقول المرأة التى معنا: والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه قطعة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم. وفى رواية ابن إسحاق قالت الظعينة: فلا تلاوموا، لقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم، ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، إذ أقبل رجل فقال: أنا رسول رسول الله إليكم، هذا تمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، وأكلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فلما دخلنا المسجد إذا هو قائم على المنبر يخطب الناس فأدركنا من خطبته وهو يقول: «تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى» .
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد تجيب «1» ، وهم من السكون، ثلاثة عشر رجلا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسر عليه السّلام- بهم وأكرم منزلهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، ثم جاؤا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يودعونه فأمر بلالا فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود.
قال: «هل بقى منكم أحد؟» قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّا، قال: «أرسلوه إلينا» فلما أقبل الغلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا
__________
(1) بضم التاء وفتحها، بطن من كندة، وانظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 323) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 650) .(1/591)
رسول الله، إن حاجتى ليست كحاجة أصحابى، وإن كانوا راغبين فى الإسلام، والله ما أخرجنى من بلادى إلا أن تسأل الله أن يغفر لى ويرحمنى وأن يجعل غناى فى قلبى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» ثم أمر له بما أمر به لرجل من أصحابه. ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم.
ثم وافوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمنى سنة عشر، فقال: «ما فعل الغلام؟» قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.
قدوم وفد بنى سعد هذيم من قضاعة «1» :
روى الواقدى عن ابن النعمان عن أبيه من سعد هذيم قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وافدا فى نفر من قومى، فنزلنا ناحية من المدينة ثم خرجنا نؤم المسجد الحرام، فقمنا ناحية ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم حتى نلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونبايعه، ثم بايعناه- صلى الله عليه وسلم- على الإسلام ثم انصرفنا إلى رحالنا.
وقد كنا خلفنا أصغرنا، فبعث- صلى الله عليه وسلم- فى طلبنا فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا إليه فبايعه على الإسلام، فقلنا يا رسول الله، إنه أصغرنا وخادمنا، فقال: «أصغر القوم خادمهم، بارك الله عليك» قال: فكان والله خيرنا وأقرأنا بدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم أمّره علينا، فكان يؤمنا مرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام.
وقد بنى فزارة «2» : قال أبو الربيع بن سالم فى كتاب الاكتفاء: ولما رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك، قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، ابن أخى عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، مقرين بالإسلام، وهم مسنتون، على ركاب عجاف، فسألهم
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 329) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 652) .
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 297) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 653) .(1/592)
- صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم فقال أحدهم، يا رسول الله، أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله!! ويلك، هذا إنما شفعت إلى ربى- عز وجل-: فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، فهى تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرحل الجديد» «1» .
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجل ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم» .
فقال الأعرابى: يا رسول الله، ويضحك ربنا عز وجل؟ قال: «نعم» .
فقال الأعرابى: لن نعدمك من رب يضحك خيرا.
فضحك- صلى الله عليه وسلم- من قوله وصعد المنبر فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: «اللهم اسق بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق. اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» «2» ، الحديث رواه ابن سعد والبيهقى، ويأتى تمامه- إن شاء الله تعالى- فى الاستسقاء فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى أسد «3» ، عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد، وطلحة بن خويلد، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فقال متكلمهم: يا رسول الله إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك ولم تبعث إلينا بعثا.
فأنزل الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» .
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 143) .
(2) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (1/ 297) .
(3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 292) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 654) .
(4) سورة الحجرات: 17.(1/593)
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بهراء «1» من اليمن «2» ، وكانوا ثلاثة عشر رجلا، فلما انتهوا إلى باب المقداد رحب بهم، وقدم لهم جفنة من حيس، فأكلوا منها حتى نهلوا. وردت القصعة وفيها شىء، فجمع فى قصعة صغيرة وأرسل بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت أم سلمة، فأصاب منها هو ومن معه فى البيت حتى نهلوا، ثم أكل منها الضيف ما أقاموا، يرددون ذلك عليهم وما تغيض، حتى جعلوا يقولون: يا أبا معبد، إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا، وما كنا نقدر على مثل هذا إلا فى الحين، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه أكل منها وردها، وأن هذه بركة أصابعه- صلى الله عليه وسلم-، فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينا، وتعلموا الفرائض، وأقاموا أياما، ثم ودعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمر لهم بجوائز وانصرفوا إلى أهليهم.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد عذرة «3» ، فى صفر سنة تسع، وكانوا اثنى عشر رجلا، منهم جمرة بن النعمان، فرحب بهم- صلى الله عليه وسلم-، فأسلموا وبشرهم بفتح الشام وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده، ثم انصرفوا وقد أجيزوا.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بلى «4» ، فأسلموا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله الذى هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» . ثم ودعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجازهم.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى مرة «5» وكانوا ثلاثة عشر رجلا، ورئيسهم
__________
(1) بهراء: بفتح الباء وإسكان الهاء، قبيلة من قضاعة.
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 33) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 655- 656) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 56) .
(3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 331) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 657) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 56- 57) .
(4) بلىّ: بفتح الباء وكسر اللام وياء مشددة، والنسبة إليها بلوى نسبة إلى بلى بن عمر بن الحاف بن قضاعة، وانظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 330) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 657) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 57) .
(5) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 297- 298) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 661) .(1/594)
الحارث بن عوف، فقال لهم- صلى الله عليه وسلم-: «كيف البلاد؟» فقالوا: والله إنا لمسنتون، فادع الله لنا، فقال- عليه السّلام-: «اللهم اسقهم الغيث» . ثم أقاموا أياما ورجعوا بالجائزة فوجدوا بلادهم قد أمطرت فى ذلك اليوم الذى دعا لهم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وقدم عليه- زاده الله شرفا لديه- وفد خولان «1» ، فى شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما ما ذكرتم من مسيركم إلى فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارنى بالمدينة كان فى جوارى يوم القيامة» .
ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «ما فعل صنم خولان الذى كانوا يعبدونه؟» قالوا:
بدلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزا وشيخا كبيرين يتمسكان به، وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى.
ثم علمهم- صلى الله عليه وسلم- فرائض الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، وألايظلموا أحدا، ثم أجازهم ورجعوا إلى قومهم، وهدموا الصنم.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد محارب «2» عام حجة الوداع، وكانوا أغلظ العرب وأفظهم عليه أيام عرضه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاءه- صلى الله عليه وسلم- منهم عشرة فأسلموا، ثم انصرفوا إلى أهليهم.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد صداء «3» فى سنة ثمان، وذلك أنه لما انصرف
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 324) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 662- 663) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 58- 59) .
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 299) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 663- 664) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 59) .
(3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 326- 327) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 664- 666) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 59- 61) .(1/595)
من الجعرانة بعث قيس بن سعد عبادة فى أربعمائة، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن فيها صداء، فقدم رجل منهم علم بالبعث على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله اردد الجيش، وأنا لك بقومى، فرد قيسا.
ورجع الصدائى إلى قومه فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلا منهم، فبايعوه على الإسلام ورجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم مائة رجل فى حجة الوداع. ذكره الواقدى.
وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائى أنه الذى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له: اردد الجيش، وقال: كان زياد هذا معه- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره وأنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا أخا صداء هل معك ماء؟» قلت: معى شىء فى إداوتى، فقال: «صبه» ، فصببته فى قعب ثم وضع- عليه الصلاة والسلام- كفه فيه فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه عينا تفور.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد غسان «1» ، فى شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر، فأسلموا وأجازهم- صلى الله عليه وسلم- بجوائز، وانصرفوا راجعين.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد سلامان «2» فى شوال سنة عشر، كما قال الواقدى، وكانوا سبعة نفر، فيهم حبيب بن عمرو، فأسلموا وشكوا إليه جدب بلادهم فدعا لهم ثم ودعوه وأمر لهم بالجوائز، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت فى اليوم الذى دعا لهم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الساعة.
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى عبس «3» ، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 330) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 669) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 61) .
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 332) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 669- 670) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 61- 62) .
(3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 295) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 670- 671) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 62) .(1/596)
إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم عن أعمالكم شيئا» «1» .
وقدم عليه وفد غامد «2» سنة عشر، وكانوا عشرة، فأقروا بالإسلام وكتب لهم كتابا فيه شرائع الإسلام، وأمر أبى بن كعب فعلمهم قرآنا، وأجازهم- صلى الله عليه وسلم- وانصرفوا.
وقدم عليه وفد الأزد «3» ، ذكر أبو نعيم فى كتاب معرفة الصحابة، وأبو موسى المدينى، من حديث أحمد بن أبى الحوارى، قال: سمعت أبا سليمان الدارانى.
قال: حدثنى علقمة بن يزيد بن سويد الأزدى قال: حدثنى أبى عن جدى قال:
وفدت سابع سبعة من قومى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا فقال: «ما أنتم» قلنا مؤمنون فتبسم- صلى الله عليه وسلم- وقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟» قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها فى الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم-: «ما الخمس التى أمرتكم بها رسلى؟» .
قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت.
قال: «وما الخمس التى أمرتكم أن تعملوا بها؟» .
قلنا: أمرتنا أن نقول لا إله إلا الله ونقيم الصلاة ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلا. قال: «وما الخمس التى تخلقتم بها فى الجاهلية؟» .
قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمر القضاء، والصدق فى مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 295) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 345) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 671) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 63) .
(3) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 672- 673) .(1/597)
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» ، ثم قال: «وأنا أزيدكم خمسا فتتم لكم عشرون خصلة، إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فى شىء أنتم عنه غدا زائلون، واتقوا الله الذى إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخالدون» . فانصرفوا وقد حافظوا وصيته- صلى الله عليه وسلم- وعملوا بها «1» .
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى المنتفق. روى عبد الله، ابن الإمام أحمد فى مسند أبيه عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط، أن لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أبا رزين العقيلى، المعدود فى أهل الطائف، خرج وافدا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، فوافيناه- صلى الله عليه وسلم- حين انصرف من صلاة الغداة، فقام فى الناس خطيبا فقال:
«يا أيها الناس، ألا إنى قد خبأت لكم صوتى منذ أربعة أيام لتسمعوا اليوم، ألا فهل من امرىء بعثه قومه» فقالوا له اعلم لنا ما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ألا ثم لعله يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه، ألا وإنى مسئول هل بلغت، ألا اسمعوا تعيشوا ... الحديث. وفيه ذكر البعث والنشور والجنة والنار، وفيه: ثم قلت: يا رسول الله، علام أبايعك؟ فبسط- صلى الله عليه وسلم- يده وقال: «على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وألاتشرك بالله شيئا» «2» .
وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد النخع «3» ، وهم آخر الوفود قدوما عليه. وكان قدومهم فى نصف المحرم سنة إحدى عشرة، فى مائتى رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاؤا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقرين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل.
__________
(1) منكر: وفى إسناده علقمة بن يزيد بن سويد، لا يعرف، قاله الحافظ فى «لسان الميزان» (4/ 188) ، وزاد قائلا: وأتى بخبر منكر فلا يحتج به.
(2) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد فى «زوائد المسند» (4/ 13 و 14) بسند فيه عبد الرحمن ابن عياش السمعى، ودلهم بن الأسود، ولم يوثقهما إلا ابن حبان.
(3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 346) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 686- 687) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 67- 69) .(1/598)
فقال رجل منهم، يقال له زرارة بن عمرو، يا رسول الله إنى رأيت فى سفرى هذا عجبا، قال: «وما رأيت؟» قال: رأيت أتانا تركتها كأنها ولدت جديا أسفع أحوى «1» ، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل تركت لك مصرة «2» على حمل؟» قال: نعم، قال: «فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك» ، قال يا رسول الله: ما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منى» ، فدنا منه، قال: هل بك من برص تكتمه؟ قال: والذى بعثك بالحق نبيّا ما علم به أحد، ولا اطلع عليه غيرك، قال: «فهو ذلك» .
قال: يا رسول الله، ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدلجيان ومسكتان. قال: «ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته» .
قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزا شمطاء، خرجت من الأرض.
قال: «تلك بقية الدنيا» .
قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال لى عمرو، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تلك فتنة تكون فى آخر الزمان» . قال:
يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: «يقتل الناس إمامهم» - وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه- «يحسب المسىء فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أدركها ابنك» .
قال: يا رسول الله ادع الله ألاأدركها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«اللهم لا يدركها» . فمات فبقى ابنه فكان ممن خلع عثمان بن عفان رضى الله عنه- «3» . انتهى ملخصا من الهدى النبوى، والله الموفق وسيأتى هذا- إن شاء الله تعالى- فى تعبيره- صلى الله عليه وسلم- الرؤيا من المقصد الثامن.
__________
(1) الأسفع: هو الأسود المشوب بحمرة، والأحوى: كالتأكيد للأسفع، حيث أن الحوة سواد إلى خضرة أو حمرة إلى سواد.
(2) مصرة: اسم فاعل من أحد، وهى بمعنى أقام على الشىء، والمقصود: حملها محقق ثابت.
(3) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 686- 687) والمصادر السابقة معه.(1/599)
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة المقدمة 3
ترجمة المؤلف 14
مقدمة المؤلف 29 المقصد الأول تشريف الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- 39
طهارة نسبه- صلى الله عليه وسلم- 56
آيات حمله- صلى الله عليه وسلم- 71
آيات ولادته- صلى الله عليه وسلم- 76
ذكر رضاعه- صلى الله عليه وسلم- 89
ذكر حضانته- صلى الله عليه وسلم- 112(1/601)
دقائق حقائق بعثته- صلى الله عليه وسلم- 118
فصل فى ترتيب الدعوة النبوية 134
هجرته- صلى الله عليه وسلم- 145
رؤيا الأذان 191
مغازيه وسراياه وبعوثه- صلى الله عليه وسلم- 199
غزوة قرقرة الكدر 231
غزوة حمراء الأسد 257
غزوة بنى النضير 267
غزوة ذات الرقاع 271
غزوة بدر 276
غزوة دومة الجندل 277
غزوة بنى المصطلق 278
غزوة الخندق 282
غزوة بنى قريظة 293(1/602)
غزوة بنى لحيان 303
غزوة الغابة 304
سرية ابن رواحة إلى ابن رزام 312
صلح الحديبية 316
غزوة خيبر 336
عمرة القضاء 353
غزوة مؤتة 360
غزوة الطائف 405
غزوة تبوك 418
حجة أبى بكر 429
المقصد الثانى الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة 441(1/603)
الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام- عليه وعليهم الصلاة والسلام- 478
الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات 490
الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخواته من الرضاعة وجداته 513
الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه 525
الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام 531
الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه 558(1/604)
الفصل الثامن فى آلات حروبه- صلى الله عليه وسلم- 562
الفصل التاسع فى ذكر خيله- صلى الله عليه وسلم- ولقاحه ودوابه 565
الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه 569
فهرس المحتويات 601(1/605)
الجزء الثاني
[المقصد الثالث]
الفصل الأول فى كمال خلقته وجمال صورته صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه
اعلم أن من تمام الإيمان به- صلى الله عليه وسلم- الإيمان بأن الله تعالى جعل خلق بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمى مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتضح لك من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه آيات على ما تحقق له من سر قلبه المقدس، ولله در الأبوصيرى حيث قال:
فهو الذى تم معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم
منزه عن شريك فى محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم
يعنى: حقيقة الحسن الكامل كائنة فيه، لأنه الذى تم معناه دون غيره، وهى غير منقسمة بينه وبين غيره، وإلا لما كان حسنه تامّا، لأنه إذا انقسم لم ينله إلا بعضه فلا يكون تامّا.
وفى الأثر: أن خالد بن الوليد خرج فى سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء فقال له سيد ذلك الحى: صف لنا محمدا فقال: أما إنى أفصل فلا، فقال الرجل: أجمل، فقال: الرسول على قدر المرسل، ذكره ابن المنير فى أسرار الإسرار.
فمن ذا الذى يصل قدره أن يقدر قدر الرسول، أو يبلغ من الاطلاع على مأثور أحواله المأمول والمسئول؟!
وقد حكى القرطبى- فى كتاب الصلاة- عن بعضهم أنه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه- صلى الله عليه وسلم-، لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما أطاقت أعيننا رؤيته- صلى الله عليه وسلم-. ولقد أحسن الأبوصيرى أيضا حيث قال:
أعيى الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم(2/5)
وهذا مثل قوله أيضا:
إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء
وأشار بقوله «تظهر» إلى وجه التشبيه بالشمس لا مطلقا، ولقد بين عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس حيث قال:
تتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير
لأن الشمس تغرب حين تمسى ... وأن البدر ينقصه المسير
وهذه التشبيهات الواردة فى حقه- صلى الله عليه وسلم- إنما هى على سبيل التقريب والتمثيل، وإلا فذاته أعلى ومجده أغلى.
فأما رأسه الشريف المقدس فحسبك ما ذكره الترمذى فى جامعه بسنده إلى هند بن أبى هالة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عظيم الهامة «1» .
وقال نافع بن جبير: وصف لنا على- رضى الله عنه- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:
كان عظيم الهامة «2» .
وأما وجهه الشريف فحسبك ما روى الشيخان من حديث البراء قال:
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير البائن «3» .
وعن أبى هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأن الشمس تجرى فى وجهه «4» رواه الترمذى والبيهقى وأحمد وابن حبان.
__________
(1) حسن: انظر ما بعده.
(2) حسن: أخرجه البيهقى عن على، كما فى «صحيح الجامع» (4820) .
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3549) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2337) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3648) فى المناقب، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «مسنده» (2/ 350 و 380) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6309) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.(2/6)
قال الطيبى: شبه جريان الشمس فى فلكها بجريان الحسن فى وجهه- صلى الله عليه وسلم-، قال: ويحتمل أن يكون من تناهى التشبيه جعل وجهه مقرّا ومكانا للشمس ولله در القائل:
لم لا يضىء بك الوجود وليله ... فيه صباح من جمالك مسفر
فبشمس حسنك كل يوم مشرق ... وببدر وجهك كل ليل مقمر
وفى البخارى: سئل البراء: أكان وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟
فقال: لا، بل مثل القمر «1» .
وكأن السائل أراد مثل السيف فى الطول، فرد عليه البراء فقال: بل مثل القمر، أى فى التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف فى اللمعان والصقالة، فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان.
وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب بن دحية- رحمه الله تعالى- فى كتابه «التنوير فى مولد البشير النذير- صلى الله عليه وسلم- وشرف وعظم وكرم» ، عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففى هذا الحديث من العلم أن التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح الإقرار عليه، لأن السائل شبه وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسيف، ولو شبهه بالشمس لكان أولى، فرد عليه البراء قوله وقال: بل مثل القمر، وأبدع فى تشبيهه، لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده، ونوره من غير حر يفزع، ولا كلل ينزع، والناظر إلى القمر متمكن من النظر بخلاف الشمس التى تغشى البصر وتجلب للناظر الضرر. انتهى.
وفى رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة، وقال له رجل: أكان وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر وكان مستديرا «2» .
وإنما قال: مستديرا للتنبيه على أنه جمع الصفتين، لأن قوله: مثل
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3552) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (3636) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «مسنده» (4/ 281) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-.(2/7)
السيف يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان كما تقدمت إليه الإشارة فيما سبق من العبارة، فرده المسئول ردّا بليغا، ولما جرى التعارف به من أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، فقوله وكان مستديرا، أشار به إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معا: الحسن والاستدارة.
وقال المحاربى عن أشعث عن أبى إسحاق عن جابر بن سمرة.
أنه قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو كان أحسن فى عينى من القمر «1» ، وفى رواية: بعد قوله حمراء: فجعلت أماثل بينه وبين القمر.
وروى الترمذى والبيهقى عن على أنه نعته- صلى الله عليه وسلم- فقال: لم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، كان فى وجهه تدوير «2» . والمكلثم: المدور الوجه، أى لم يكن شديد تدوير الوجه بل فى وجهه تدوير قليل.
وفى حديث على عند أبى عبيد فى الغرائب: وكان فى وجهه تدوير قليل، قال أبو عبيد فى شرحه: يريد أنه ما كان فى غاية التدوير، بل كان فيه سهولة وهى أحلى عند العرب.
وفى حديث أبى هريرة عند الذهلى «3» فى الزهريات «4» فى صفته
__________
(1) حسن غريب: أخرجه الترمذى (2811) فى الأدب، باب: ما جاء فى الرخصة فى لبس الحمرة للرجال، والدارمى فى «سننه» (57) ، وقال الإمام الترمذى: هذا حديث حسن غريب.
(2) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3638) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، ليس إسناده بمتصل، و (المطهم) : البادن الكثير اللحم.
(3) هو: الإمام الحافظ، أبو عبد الله، محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابورى، مولى بنى ذهل، أحد أئمة الحديث الحفاظ، حدث عنه الجماعة سوى مسلم، وكان من أعلم الناس بحديث الزهرى، حيث اعتنى بحديثه، وصنفه، حتى قال له على بن المدينى: أنت وارث الزهرى، مات سنة 250 هـ، وله تسعون عاما.
(4) نسبة إلى الزهرى- رحمه الله-، وهو الإمام الحافظ، أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهرى، ولد سنة 50 هـ، وحدث عن صغار الصحابة كابن عمرو سهل(2/8)
- صلى الله عليه وسلم-: كان أسيل الخدين. قال ابن الأثير: الأسالة فى الخد: الاستطالة وأن لا يكون مرتفع الوجنة. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: ولعل هذا هو الحامل لمن سأله أكان وجهه مثل السيف.
وأخرج البخارى عن كعب بن مالك قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه «1» . أى الموضع الذى يتبين فيه السرور وهو جبينه.
وقالت عائشة- رضى الله عنها-: دخل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوما مسرورا تبرق أسارير وجهه «2» . ولذلك قال كعب كأنه قطعة قمر. وفى حديث جبير بن مطعم عند الطبرانى: التفت إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بوجه مثل شقة القمر، فهذا محمول على صفته عند الالتفات.
وقد أخرج الطبرانى حديث كعب بن مالك من طرق فى بعضها: كأنه دارة قمر.
ويسأل عن السر فى التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد فى كثير من كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد. وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة، فلابد من التقييد بذلك من حكمة، وما قيل فى أن ذلك من الاحتراز من السواد الذى فى القمر ليس بقوى، لأن المراد بتشبيهه ما فى القمر من الضياء والاستنارة وهو فى تمامه لا يكون فيها أقل مما فى القطعة المجردة، فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.
__________
- ابن سعد وأنس بن مالك، وعنه أخذ الإمام مالك، وقيل أنه أول من دون السنة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، توفى- رحمه الله- سنة 124 هـ.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3556) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2799) فى التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3555) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1459) فى الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد.(2/9)
وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- قال: كان وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كدارة القمر «1» ، أخرجه أبو نعيم.
وروى البيهقى عن أبى إسحاق الهمدانى عن امرأة من همدان- سماها- قالت: حججت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- مرات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن عليه بردان أحمران يكاد يمس شعره منكبه إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن ثم يرفعه إلى فمه فيقبله، قال أبو إسحاق: فقلت لها شبهيه قالت:
كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله- صلى الله عليه وسلم- «2» .
وروى الدارمى والبيهقى وأبو نعيم والطبرانى عن أبى عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوذ صفى لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة «3» ، وفى لفظ: يا بنى لو رأيته رأيت الشمس طالعة.
وروى مسلم عن أبى الطفيل أنه قيل له: صف لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان أبيض مليح الوجه «4» .
وفيما أخرجه الترمذى من حديث هند بن أبى هالة «5» : كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر «6» .
__________
(1) أخرجه أبو نعيم فى «الدلائل» كما فى «كنز العمال» (18526) .
(2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 199) .
(3) أخرجه الدارمى فى «سننه» (60) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 274) . وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 280) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، ورجاله وثقوا.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2340) فى الفضائل، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أبيض مليح الوجه.
(5) هو: هند بن أبى هالة- رضى الله عنه-، ربيب النبى- صلى الله عليه وسلم-، أمه خديجة زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، قال عنه أبو عمر: كان فصيحا بليغا وصف النبى- صلى الله عليه وسلم- فأحسن وأتقن، قتل مع على يوم الجمل. انظر «الإصابة» (6/ 557) .
(6) أخرجه الترمذى فى الشمائل، والطبرانى فى الكبير والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (4470) .(2/10)
وقالت أم معبد حين وصفته لزوجها: متبلج الوجه، يعنى: مشرقه مضيئه، ومنه تبلج الصبح إذا أسفر، وما أحسن قول سيدى على بن وفا حيث قال:
ألا يا صاحب الوجه المليح ... سألتك لا تغيب عنى فأنت روحى
متى ما غاب شخصك عن عيانى ... رجعت فلا ترى إلا ضريحى
بحقك جد لرقك يا حبيبى ... وداو لوعة القلب الجريح
ورقّ لمغرم فى الحب أمسى ... وأصبح بالهوى دنفا طريح
محب ضاق بالأشواق ذرعا ... وآوى منك للكرم الفسيح
وفى النهاية «1» : أنه- عليه السّلام- كان إذا سر فكأن وجهه المرآة، وكأن الجدر تلاحك وجهه. قال: الملاحكة، شدة الملاءمة، أى يرى شخص الجدر فى وجهه- صلى الله عليه وسلم-. وفى حديث ابن أبى هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. وذلك: لأن القمر يملأ الأرض بنوره ويؤنس كل من شاهده، وهو يجمع النور من غير أذى ويتمكن من النظر إليه بخلاف الشمس التى تغشى البصر فتمنع من تمكن الرؤية، والتشبيه بالبدر أبلغ فى العرف من التشبيه بالقمر، لأنه وقت كماله، كما قال الفاروق- رضى الله عنه- حين رآه أو كلما رآه:
لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر
وقد صادف هذا التشبيه تحقيقا، فمن أسمائه- صلى الله عليه وسلم-: البدر. ولهذا أنشدوا لما قدم المدينة:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
ولقد أحسن من قال:
كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فيه فلا تظننها كافا لتشبيه
وما أحلى قول ابن الحلاوى:
__________
(1) هو: النهاية فى غريب الحديث، لابن الأثير.(2/11)
يقولون يحكى البدر فى الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن ينحط
كما شبهوا غصن النقا «1» بقوامه ... لقد بالغوا فى المدح للغصن واشتطوا
فقد حصل للبدر والغصن غاية من الفخر بهذا التشبيه، على أن هذه التشبيهات الواردة فى صفاته- صلى الله عليه وسلم- إنما هى على عادة الشعراء والعرب، وإلا فلا شىء فى هذه التشبيهات المحدثات يعادل صفاته الخلقية والخلقية، ولله در إمام العارفين سيدى محمد وفا الشاذلى المالكى حيث قال:
كم فيه للأبصار حسن مدهش ... كم فيه للأرواح راح مسكر
سبحان من أنشاه من سبحاته ... بشرا بأسرار الغيوب يبشر
قاسوه جهلا بالغزال تغزلا ... هيهات يشبهه الغزال الأحور
هذا وحقك ما له من مشبه ... وأرى المشبه بالغزالة يكفر
يأتى عظيم الذنب فى تشبيهه ... لولا لرب جماله يستغفر
فخر الملاح بحسنهم وجمالهم ... وبحسنه كل المحاسن تفخر
فجماله مجلى لكل جميلة ... وله منار كل وجه نير
جنات عدن فى جنى وجناته ... ودليله أن المراشف كوثر
هيهات ألهو عن هواه بغيره ... والغير فى حشر الأجانب يحشر
كتب الغرام على فى أسفاره ... كتبا تؤول بالهوى وتفسر
فدع الدعى وما ادعاه فى الهوى ... فدعيه بالهجر فيه يهجر
وعليك بالعلم العليم فإنه ... لخطيبه فى كل خطب منبر
وأما بصره الشريف- صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه الله فى كتابه العزيز بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» .
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل فى الظلمة كما يرى فى النهار فى الضوء «3» . رواه البخارى.
__________
(1) ضرب من النبات، له زهر أحمر.
(2) سورة النجم: 17.
(3) موضوع: أخرجه البيهقى فى الدلائل عن ابن عباس، وابن عدى فى الكامل عن عائشة كما فى «ضعيف الجامع» (4547) ، والحديث كما هو واضح ليس فى البخارى. كما قال المصنف ولو معلقا.(2/12)
وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرى فى الظلماء كما يرى فى الضوء «1» . رواه البيهقى.
وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «هل ترون قبلتى هاهنا، فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، إنى لأراكم من وراء ظهرى» «2» . رواه البخارى ومسلم.
وعند مسلم من رواية أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أيها الناس، إنى أمامكم فلا تسبقونى بالركوع ولا بالسجود، فإنى أراكم من أمامى ومن خلفى» «3» .
وعن مجاهد: فى قوله تعالى الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
«4» قال: كان- صلى الله عليه وسلم- يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه «5» ، رواه الحميدى فى مسنده، وابن المنذر فى تفسيره.
وهذه الرؤية رؤية إدراك: والرؤية لا تتوقف على وجود آلتها التى هى العين- عند أهل الحق- ولا شعاع ولا مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم «6» العالى، أما المخلوق فتتوقف صفة الرؤية فى حقه على الحاسة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان خرق عادة فى حقه- صلى الله عليه وسلم-، وخالق البصر فى العين قادر على خلقه فى غيرها.
قال الحرالى: وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالة على ما فى حقيقة أمره فى الاطلاع الباطن لسعة علمه، ومعرفته لما عرف بربه لا بنفسه أطلعه
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 75) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (418) فى المساجد، باب: عظة الإمام الناس فى إتمام الصلاة، ومسلم (424) فى المساجد، باب: الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (426) فى المساجد، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود أو نحوهما.
(4) سورة الشعراء: 218، 219.
(5) مرسل: أخرجه الحميدى فى «مسنده» (962) عن مجاهد مرسلا.
(6) الأولى أن يقال (الأول) كما نطق القرآن، ولا أعلم سبب العدول من الأول إلى القديم، مع العلم بأن اللفظ القرآنى أدل على المعنى عن غيره من الألفاظ المحدثة، والله المستعان.(2/13)
الله على ما بين يديه مما تقدم من أمر الله، وعلى ما وراء الوقت مما تأخر من أمر الله، فلما كان على ذلك من الإحاطة فى إدراك مدركات القلوب جعل الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك فى مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه كما قال- صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
ومن الغريب ما ذكره الزاهدى بختيار محب بن محمود، شارح القدورى فى رسالته الناصرية أنه- صلى الله عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسم الخياط يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب؟؟؟ «1» .
وقيل: بل كانت صورهم تنطبع فى حائط قبلته كما تنطبع فى المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم وهذا إن كان نقلا عن الشارع- عليه السّلام- بطريق صحيح فمقبول وإلا فليس المقام مقام رأى، على أن الأقعد فى إثبات كونه معجزة حملها على الإدراك من غير آلة والله أعلم.
وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف. وعن بعضهم: المراد بها العلم إما بأن يوحى الله إليه كيفية فعلهم، وإما بأن يلهم، والصحيح والصواب ما تقدم «2» وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم، ما ذكره ابن الجوزى فى بعض كتبه بغير إسناد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال:
«إنى لا أعلم ما وراء جدارى هذا» فإن صح فالمراد منه نفى العلم بالمغيبات، فكيف يجتمعان؟
وأجيب: بأن الأحاديث الأول ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد. وأما إذا ذهبنا إلى الإدراك بالبصر- وهو الصواب- فلا إشكال، لأن نفى العلم هنا عن الغيب وذاك عن مشاهدة.
وفى «المقاصد الحسنة» للحافظ شمس الدين السخاوى حديث: «ما أعلم ما خلف جدارى هذا» «3» قال شيخنا- يعنى شيخ الإسلام ابن حجر-:
__________
(1) ذكر ذلك أيضا الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (1/ 515) .
(2) انظر فى ذلك المصدر السابق.
(3) انظر «كشف الخفا» للعجلونى (2175) .(2/14)
لا أصل له. قلت: ولكنه قال فى تلخيص تخريج أحاديث الرافعى عند قوله فى الخصائص: «ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه» . هو فى الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة فى ذلك مقيدة بحالة الصلاة وبذلك يجمع بينه وبين قوله: لا أعلم ما وراء جدارى هذا. انتهى.
قال شيخنا، وهذا مشعر بوروده، وعلى تقدير وروده لا تنافى بينهما لعدم تواردهما على محل واحد. انتهى.
فإن قيل: يشكل على هذا- أيضا- إخباره- صلى الله عليه وسلم- بكثير من المغيبات التى فى زمانه وبعده، ووقعت كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-.
فالجواب: إن نفى العلم فى هذا ورد على أصل الوضع، وهو أن علم الغيب مختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان نبيه- صلى الله عليه وسلم- وغيره فمن الله تعالى، إما بوحى أو إلهام، ويدل على ذلك الحديث الذى فيه: أنه لما ضلت ناقته- صلى الله عليه وسلم- تكلم بعض المنافقين وقال: إن محمدا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال- صلى الله عليه وسلم- لما بلغه ذلك: «والله إنى لا أعلم إلا ما علمنى ربى، وقد دلنى ربى عليها وهى فى موضع كذا وكذا» حبستها شجرة بخطامها فذهبوا فوجدوها كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-.
فصح أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره إلا ما علمه ربه تبارك وتعالى.
وذكر القاضى عياض- فى الشفاء- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرى فى الثريا أحد عشر نجما، وعند السهيلى، اثنى عشر.
وفى حديث ابن أبى هالة: وإذا التفت التفت جميعا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة «1» .
__________
(1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (22/ 155) ، وهو عند أحمد (1/ 89 و 101) من حديث على- رضى الله عنه-، بسند فيه مقال.(2/15)
وهى مفاعلة من اللحظ: وهو النظر بشق العين الذى يلى الصدغ، وأما الذى يلى الأنف فالموق والماق. وقوله: إذا التفت التفت جميعا أراد أنه لا يسارق النظر، وقيل: لا يلوى عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشىء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا. قاله ابن الأثير:
وعن على قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العين بحمرة «1» ، رواه البيهقى.
وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم أشكل العينين منهوس القدمين «2» ، رواه مسلم.
والشكلة: الحمرة تكون فى بياض العين وهو محمود محبوب، وأما الشهلة: فإنها حمرة فى سوادها. وهذا هو الصواب: لا ما فسره بعضهم، بأنه طول شق العين.
وعند الترمذى فى حديث عن على، أنه نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:
كان فى وجهه تدوير أبيض مشرب بحمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار «3» الحديث.
والأدعج: الشديد سواد الحدقة.
والأهدب: الطويل الأشفار: وهى شعر العين.
وعنده- أيضا- عن على قال: كان أسود الحدقة أهدب الأشفار.
وعن على: بعثنى النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فقمت لأخطب يوما على الناس، وحبر من أحبار اليهود واقف بيده سفر ينظر فيه، فلما رآنى قال:
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 212) .
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2339) فى الفضائل، باب: فى صفة فم النبى- صلى الله عليه وسلم- وعينيه وعقبيه.
(3) أخرجه الترمذى (3638) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 213) من حديث على- رضى الله عنه-، وقد تقدم.(2/16)
صف لى أبا القاسم، فقلت: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. الحديث، وفيه: قال على: ثم سكت، فقال الحبر وماذا: قلت: هذا ما يحضرنى، قال الحبر: فى عينيه حمرة حسن اللحية، ثم قال على: هذه والله صفته، قال الحبر: فإنى أجد هذه الصفة فى سفر آبائى، وإنى أشهد أنه نبى وأنه رسول الله إلى الناس كافة. الحديث.
وأما سمعه الشريف فحسبك أنه قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله تعالى» «1» رواه الترمذى من رواية أبى ذر.
وما رواه أبو نعيم عن حكيم بن حزام، بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه إذ قال لهم: «تسمعون ما أسمع» قالوا: ما نسمع من شىء، قال:
«إنى لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» «2» .
وأما جبينه الكريم- صلى الله عليه وسلم- فقد كان واضح الجبين، مقرون الحاجبين.
بهذا وصفه على، كما عند ابن سعد وابن عساكر فقال: مقرون الحاجبين صلت الجبين أى: واضحه، والقرن: اتصال شعر الحاجبين.
وعند البيهقى عن رجل من الصحابة قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا رجل حسن الجسم عظيم الجبهة رقيق الحاجبين. ولله در القائل:
جبينه مشرق من فوق طرته ... يتلو الضحى ليله والليل كافره
بالمسك خطت على كافور جبهته ... من فوق نوناتها سينا ضفائره
مكحل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (2312) فى الزهد، باب: فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ، وابن ماجه (4190) فى الزهد، باب: الحزن والبكاء، وأحمد فى «المسند» (5/ 173) بسند حسن.
(2) أخرجه الطبرانى، والضياء، عن حكيم بن حزام كما فى «كنز العمال» (2983) ، وابن أبى حاتم فى التفسير، وأبو الشيخ فى العظمة، كما فى «الكنز» أيضا (29841) .(2/17)
وقال ابن أبى هالة: أزج الحواجب- وفسر: بالمقوس الطويل الوافر الشعر- ثم قال: سوابغ من غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أى يمتلئ دما إذا غضب كما يمتلئ الضرع لبنا إذا در. قاله فى النهاية.
وعن مقاتل بن حيان «1» قال: أوحى الله إلى عيسى- عليه الصلاة والسلام-: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البتول، إنى خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية للعالمين، فإياى فاعبد، وعلى فتوكل، فسر لأهل سوران أنى أنا الله الحى القيوم، الذى لا أزول، صدقوا النبى الأمى، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة والنعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه فى وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة الحديث.
والأنجل: الواسع شق العينين. والقرن: بالتحريك: التقاء الحاجبين.
وما وصفه به ابن أبى هالة مخالف لما فى حديث مقاتل بن حيان وما فى حديث أم معبد فإنها قالت: أزج أقرن، أى مقرون الحاجبين، قال ابن الأثير:
والأول هو الصحيح فى صفته، يعنى: سوابغ فى غير قرن. والقنى فى الأنف: طوله ورقة أرنبته مع حدب فى وسطه. وقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- غير واحد: بأنه عظيم الهامة، أى الرأس، كذا فى حديث ابن أبى هالة المشهورة.
وقال على بن أبى طالب- فى حديث رواه الترمذى وصححه والبيهقى-:
ضخم الرأس. وكذا قال أنس فى رواية البخارى.
وكان- صلى الله عليه وسلم- أيضا ضخم الكراديس، وهى رؤوس العظام، كما وصفه به على فى حديث الترمذى. وقال أيضا فى رواية للترمذى: جليل المشاش
__________
(1) هو: مقاتل بن حيان النبطى، أبو بسطام، كان ممن عنى بعلم القرآن، وواظب على الورع فى السر والإعلان، مات بكابل حيث هرب فى أيام خروج أبى مسلم الخراسانى وهو غير مقاتل بن سليمان المفسر، حيث كان معاصرا له، إلا أنه متروك الحديث. انظر «تذكرة الحفاظ» (1/ 174) .(2/18)
والكتد «1» . وفسر برؤوس العظام كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أى عظيمها.
والكتد- بفتحتين ويجوز كسر التاء- مجمع الكتفين.
وكان- صلى الله عليه وسلم- دقيق العرنين، أى أعلى الأنف، كما وصفه به على فى رواية ابن سعد وابن عساكر. وفى رواية أيضا عن ابن عمر من وصف على له أيضا: أقنى الأنف، وفسر بالسائل المرتفع وسطه، وقال ابن أبى هالة:
أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ، والأشم: الطويل قصبة الأنف.
وأما فمه الشريف- صلى الله عليه وسلم- ففى مسلم من حديث جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ضليع الفم «2» يعنى واسعه. وكذا وصفه به ابن أبى هالة، وزاد يفتتح الكلام ويختم بأشداقه يعنى لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر الفم. وقال شمر «3» : عظيم الأسنان.
وفى حديث عند البزار والبيهقى قال أبو هريرة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسيل الخدين واسع الفم.
ووصفه- صلى الله عليه وسلم- ابن أبى هالة فقال: أشنب مفلج الأسنان. والشنب:
رونق الأسنان وماؤها. وقيل: رقتها وتحديدها. وأفلج الأسنان أى متفرقها.
وقال على: مبلج الثنايا، بالموحدة، أخرجه ابن سعد من حديث أبى هريرة. وعند ابن عساكر: عن على: براق الثنايا.
وعند ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه «4» ، رواه الترمذى فى الشمائل، والدارمى، والطبرانى فى الأوسط.
__________
(1) أخرجه الترمذى (3638) من حديث على- رضى الله عنه-، وقد تقدم.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2339) فى الفضائل، باب: فى صفة فم النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-.
(3) هو: شمر بن عطية الأسدى الكاهلى الكوفى، من الأثبات، مات فى ولاية خالد. انظر «مشاهير علماء الأمصار» (1/ 165) .
(4) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 279) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد العزيز بن أبى ثابت، وهو ضعيف.(2/19)
وكان- صلى الله عليه وسلم- أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم.
بحر من الشهد فى فيه مراشفه ... يا قوته صدف فيه جواهره
وعن أبى قرصافة قال: بايعنا رسول الله أنا وأمى وخالتى، فلما رجعنا قالت لى أمى وخالتى: يا بنى، ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن وجها ولا أنقى ثوبا ولا ألين كلاما، ورأينا كالنور يخرج من فيه.
وأما ريقه الشريف ففى الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، قال: «أين على بن أبى طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتى به، فبصق الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع «1» . الحديث متفق عليه.
وأتى بدلو من ماء، فشرب من الدلو، ثم صب فى البئر، أو قال: «مج فى البئر» ففاح منها مثل رائحة المسك «2» . رواه أحمد وابن ماجه من حديث وائل بن حجر.
وبزق فى بئر فى دار أنس، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها، رواه أبو نعيم.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتنقل فى أفواههم ويقول للأمهات: «لا ترضعنهم إلى الليل» فكان ريقه يجزئهم «3» . رواه البيهقى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2942) فى الجهاد والسير، باب: دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام والنبوة، ومسلم (2406) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-.
(2) أخرجه ابن ماجه (659) فى الطهارة وسننها، باب: المج فى الإناء، وأحمد فى «المسند» (4/ 315 و 318) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 226) .(2/20)
ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هى وأخواتها يبايعنه وهن خمس فوجدنه يأكل قديدا فمضغ لهن قديدة فمضغتها كل واحدة منهن قطعة قطعة فلقين الله وما وجدن لأفواههن خلوف «1» ، رواه الطبرانى.
ومسح- صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة وبطنه وكان به شرى، فما كان يشم أطيب منه رائحة. رواه الطبرانى. وأعطى الحسن لسانه- وكان قد اشتد ظمؤه- فمصه حتى روى. رواه ابن عساكر.
ولله در إمام العارفين سيدى محمد وفا الشاذلى حيث يقول:
جنى النحل فى فيه وفيه حياتنا ... ولكنه من لى بلثم لثامه
رحيق الثنايا والمثانى تنفست ... إذا قال فى فيح بطيب ختامه
وأما فصاحة لسانه وجوامع كلمه، وبديع بيانه وحكمه، فكان- صلى الله عليه وسلم- أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح.
ينظم در الثغر نثر مقوله ... ما حسنه فى نثره ونظامه
يناجى فينجى من يناجى من الجوى ... فكل كليم برؤه فى كلامه
ففصاحة لسانه- صلى الله عليه وسلم- غاية لا يدرك مداها، ومنزلة لا يدانى منتهاها، وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى لسانه سيفا من سيوفه، يبين عن مراده، ويدعو به إليه عباده، فهو ينطق بحكمه عن أمره، ويبين عن مراده بحقيقة ذكره.
أفصح خلق الله إذا لفظ، وأنصحهم إذا وعظ، لا يقول هجرا، ولا ينطق هذرا، كلامه كله يثمر علما، ويمتثل شرعا وحكما، لا يتفوه بشر بكلام أحكم منه فى مقالته، ولا أجزل منه فى عذوبته.
وخليق بمن عبر عن مراد الله بلسانه، وأقام به الحجة على عباده ببيانه،
__________
(1) ضعيف: وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 283) وقال: رواه الطبرانى وفيه إسحاق بن إدريس الأسوارى، وهو ضعيف.(2/21)
وبين مواضع فروضه وأوامره، ونواهيه، وزواجره ووعده ووعيده وإرشاده أن يكون أحكم الخلق جنانا وأفصحهم لسانا، أوضحهم بيانا.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين، يعده العاد، ليس بهذا مسرع لا يحفظ، قالت عائشة- رضى الله عنها-: ما كان- صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه «1» وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه «2» .
وكان يقول: «أنا أفصح العرب» «3» .
وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: «كانت لغة إسماعيل قد درست فجاءنى بها جبريل فحفظنيها» «4» . رواه أبو نعيم.
وروى العسكرى فى الأمثال من حديث على بسند ضعيف جدّا قال:
قدم بنو نهد على النبى- صلى الله عليه وسلم-: الحديث وفيه: ذكر خطبتهم وما أجابهم به النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: فقلنا: يا نبى الله، نحن بنو أب واحد، ونشأنا فى بلد واحد، وإنك تكلم العرب بلسان ما نفهم أكثره، فقال: «إن الله عز وجل أدبنى فأحسن أدبى، ونشأت فى بنى سعد بن بكر» «5» .
وعن محمد بن عبد الرحمن الزهرى عن أبيه عن جده قال: قال رجل: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: «نعم إذا كان مفلجا» فقال
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3568) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2493) فى الزهد والرقائق، باب: التثبت فى الحديث.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (94، 95) فى العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3) لا أصل له: أخرجه العسكرى فى الأمثال عن بريدة، وفيه حسان بن مصك، متروك، قاله المتقى الهندى فى «كنز العمال» (35471) .
(4) ضعيف: أخرجه الغطريف فى جزئه وابن عساكر عن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (1919) .
(5) ضعيف: انظر «ضعيف الجامع» (249، 250) .(2/22)
له أبو بكر: يا رسول الله، ما قال لك، وما قلت له؟ قال: «قال: أيماطل الرجل أهله؟ قلت له نعم إذا كان مفلسا» ، قال أبو بكر: يا رسول الله، لقد طفت فى العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، قال: «أدبنى ربى ونشأت فى بنى سعد» «1» رواه السرقسطى فى الدلائل بسند واه. وكذا أخرجه ابن عساكر. قال فى القاموس: ودالكه أى ماطله انتهى.
وقوله: «ملفجا» بضم الميم وفتح الفاء، اسم فاعل من «ألفج الرجل» فهو ملفج، إذا كان فقيرا، وهو غير مقيس. ومثله أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، فى ألفاظ شذت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق. لكن قال ابن الأثير: لم يجىء إلا فى ثلاثة أحرف، أسهب وأحصن وألفج.
وقال غيره: معناه: أيداعب الرجل امرأته، يعنى قبل الجماع؟ وسماه مطلا لكون غرضها الأعظم الجماع. قال: إذا كان عاجزا، ليكون ذلك محركا لشهوته، ولعجزه سمى مفلسا. وقال ابن الأثير: يماطلها بمهرها إذا كان فقيرا. وأما ما يروى: «أنا أفصح من نطق بالضاد» «2» فقال: ابن كثير: لا أصل له. انتهى لكن معناه صحيح والله أعلم.
وقد حدوا الفصاحة: بخلوص الكلمة من التنافر والغرابة ومخالفة القياس. والمراد بالتنافر: تقارب مخارج الحروف كقوله: غدائره مستشزرات إلى العلا فإن السين والتاء والزاى كلها متقاربة المخارج. والغرابة: كون الكلمة لا تدل على المراد من أول وهلة لاحتمال معنى آخر. ومخالفة القياس: استعمال الكلمة على غير قياس، كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام. كقوله: الحمد لله العلى الأجلل. والفصاحة: يوصف بها الكلام والكلمة والمتكلم. والبلاغة: أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته، الجزالة: خلاف الركاكة.
__________
(1) ضعيف: انظر ما قبله.
(2) لا أصل له: انظر «كشف الخفا» للعجلونى (609) .(2/23)
ففصاحته- صلى الله عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية والزيادة التى تصدع القلوب قبل الأذهان، وتقرع الجوانح قبل الآذان، مما يروق ويفوق، ويثبت له على سائر البشر الحقوق التى لا تقابل بالعقوق، فهو صاحب جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر وقواطع الأمر، والأمثال السائرة، والغرر السائلة، والدرر المنثورة والدرارى المأثورة والقضايا المحكمة، والوصايا المبرمة، والمواعظ التى هى على القلوب محكمة، والحجج التى هى للد الخصماء مفحمة ملجمة.
وقليل هذا الوصف فى حقه- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، وقد روى الحاكم فى مستدركه وصححه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد- صلى الله عليه وسلم- «1» وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، وقد جمع الناس من كلامه الفرد الموجز البديع الذى لم يسبق إليه دواوين، وفى كتاب الشفاء للقاضى عياض من ذلك ما يشفى العليل.
كقوله- صلى الله عليه وسلم-: «المرء مع من أحب» «2» .
وقوله: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» «3» .
وقوله: «السعيد من وعظ بغيره» «4» . ومما لم يذكره القاضى- رحمه الله-.
__________
(1) لم أقف عليه فيه، ولا فى غيره بهذا اللفظ.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (6168، 6169) فى الأدب، باب: علامة الحب فى الله عز وجل، ومسلم (2641) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (7) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1773) فى الجهاد والسير، باب: كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى هر قل يدعوه إلى الإسلام، من حديث أبى سفيان- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه مسلم (2645) فى القدر، باب: كيفية خلق الآدمى، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.(2/24)
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات» «1» رواه الشيخان وغيرهما.
وقوله: «ليس للعامل من عمله إلا ما نواه» «2» .
وتحت هاتين الكلمتين كنوز من العلم لهذا قال الشافعى- رحمه الله-:
حديث الأعمال بالنيات يدخل فى نصف العلم، وذلك أن للدين ظاهرا وباطنا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضا: فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح. وقال بعض الأئمة: حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين، ووجهه: أن الدين: قول وعمل ونية.
وقوله: «نية المرء خير من عمله» «3» رواه الطبرانى. لكن قال بعضهم لا يصح رفعه قال: ورواه القضاعى عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصفار، أخبرنا على بن عبد الله الفضل حدثنا محمد بن الحنفية الواسطى، حدثنا محمد بن عبد الله الحلبى، حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «نية المؤمن أبلغ من عمله» «4» . قال: وهذا إسناد لا ضوء عليه ويوسف بن عطية متروك الحديث.
ورواه عثمان بن عبد الله الشامى من حديث النواس بن سمعان وقال:
«نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله» «5» وقال ابن عدى:
عثمان بن عبد الله الشامى له أحاديث موضوعات، هذا من جملتها، وقال
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1907) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات» ، من حديث عمر- رضى الله عنه-.
(2) لم أقف عليه.
(3) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 185) ، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-، وقال الحافظ فى «الفتح» (4/ 219) والحديث ضعيف.
(4) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «سند الشهاب» (1/ 119) بسند فيه متروك، كما قال المصنف.
(5) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «سند الشهاب» (1/ 119) بسند ضعيف، كما ذكر المصنف.(2/25)
ابن الجوزى: لا يصح رفعه، قال: ومعناه: أن النية سر، والعمل ظاهر، [وعمل] السر أفضل، وهو يقتضى أنه لو نوى أن يذكر الله أو يتفكر، تكون نية الذكر والتفكير خيرا منه، وليس بصحيح.
وقيل: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد، لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلا.
وقيل: إن النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة، فإذا تألمت تألم القلب، وإذا تألم القلب تألمت فارتعدت الفرائص وتغير اللون، فإنه الملك الراعى والجوارح جيشه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته.
وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها وروحها ولبها. والأعمال تابعة لها تصح بصحتها وتفسد بفسادها، وهى التى تقلب العمل الصالح فتجعله فاسدا، وغير الصالح تجعله صالحا مثابا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرا من عمله. وقال أبو بكر بن دريد فى مجتباه: المعنى- والله أعلم- أن المؤمن ينوى الأشياء من أبواب البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك فلعله يعجز عن بعض ذلك وهو معقود النية عليه، فنيته خير من عمله.
وقوله: «يا خيل الله اركبى» «1» .
رواه أبو الشيخ فى الناسخ والمنسوخ عن سعيد بن جبير، والعسكرى أنس، وابن عائذ فى المغازى عن قتادة ولفظه عند ابن عائذ: قال بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ- يعنى يوم الأحزاب- مناديا ينادى: يا خيل الله اركبى.
قال العسكرى وابن دريد فى مجتباه، وهذا على المجاز والتوسع، أراد:
يا فرسان خيل الله اركبى، فاختصره.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 397) ، وابن المبارك فى «الجهاد» (161) من قول منادى على- رضى الله عنه-، وانظر «كشف الخفا» (3170) .(2/26)
وقوله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» «1» .
رواه الشيخان وغيرهما، والمعنى- والله أعلم- أن حظ العاهر الحجر ولا شىء له فى الولد، وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد التى نهايتها رميه بالحجر. وقيل: أراد بالحجر هنا الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد إذا لم تكن المرأة زوجا له، والله أعلم.
وقوله: «كل الصيد فى جوف الفرا» «2» .
وهو بفتح الفاء، حمار الوحش، رواه الرامهرمزى فى الأمثال، وسنده جيد، ولكنه مرسل، ونحوه عند العسكرى وقال: جوف أو جنب.
وهذا خاطب به النبى- صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب حين جاءه مسلما بعد أن كان عدوّا له وهجاه كثير الهجاء مقذعا فيه، فكأنه يقول- صلى الله عليه وسلم- إن الحمار الوحشى من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنك من أعظم أهلى وأمسهم رحما بى، ومن أكرم من يأتينى وكل دونك. انتهى.
وقوله: «الحرب خدعة» «3» .
رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة قال: سمى النبى- صلى الله عليه وسلم- الحرب خدعة. وليس عند مسلم «سمى» ، وقوله: «خدعة» مثلث الخاء، أشهرها:
فتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهى لغة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والثانية، ضم الخاء وإسكان الدال. والثالثة: ضم الخاء وفتح الدال.
وقد قال ذلك- صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث نعيم بن مسعود وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان واليهود، وأشار بذلك إلى أن المماكرة أنفع من المكاثرة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (2053) فى البيوع، باب: تفسير المشبهات، ومسلم (1457) فى الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقى الشبهات، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) ذكره العجلى فى «كشف الخفا» (1977) وعزاه للرامهرمزى فى الأمثال.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3028) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (1740) فى الجهاد والسير، باب: جواز الخداع فى الحرب.(2/27)
قال النووى: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار فى الحرب كيف أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل.
وقوله: «إياكم وخضراء الدمن» «1» .
رواه الرامهرمزى والعسكرى فى الأمثال، وابن عدى فى الكامل، وأبو بكر بن دريد فى المجتبى والقضاعى فى مسند الشهاب والديلمى من حديث الواقدى قال: حدثنا محمد بن سعيد بن دينار عن أبى وجزة يزيد بن عبيد عن عطاء بن يزيد الليثى عن أبى سعيد مرفوعا: قيل يا رسول الله وماذا؟
قال: «المرأة الحسناء فى المنبت السوء» «2» قال ابن عدى: تفرد به الواقدى.
ومعناه: أنه كره نكاح الفاسدة، وقال: إن أعراق السوء تنزع أولادها، وتفسير حقيقته: أن الريح تجمع الدمن، وهو البعر، فى البقعة من الأرض، ثم يركبه السافى فإذا أصابه المطر أنت نبتا غضّا ناعما، يهتز وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنا وباطنه قبيحا فاسدا. والدمن جمع دمنة وأنشد زفر بن الحارث:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
ومعنى البيت: أن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغض والعداوة، كما ينبت المرعى على الدمن. وهذا أكثرى أو كلى فى زماننا، أشار إليه شيخنا.
وقوله: «الأنصار كرشى وعيبتى» «3» .
رواه البخارى، أى إنهم بطانته، وموضع سره، والعيبة كذلك، لأن
__________
(1) ضعيف: أخرجه الرامهرمزى والعسكرى معا فى الأمثال عن أبى سعيد، وفيه الواقدى، كما فى «كنز العمال» (45620) .
(2) ضعيف: وهو تتمة ما قبله.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3799) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» ، ومسلم (2510) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل الأنصار- رضى الله عنهم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/28)
المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يضع ثيابه فى عيبته. وقيل: هم الذين أعتمد عليهم وأفزع إليهم وأقوى بهم، وقيل أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى، ويقال: عليه كرش من الناس أى جماعة، ووقع فى رواية الترمذى: «ألا إن عيبتى التى آوى إليها أهل بيتى وإن كرشى الأنصار» «1» .
وقوله: «ولا يجنى على المرء إلا يده» «2» . رواه الشيخان.
ولأحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: «لا يجنى جان إلا على نفسه» «3» وقد أراد- صلى الله عليه وسلم- بهذا: أنه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره، إن قتل أو جرح أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هى التى أدته إلى ذلك.
وقوله: «ليس الشديد من غلب الناس إنما الشديد من غلب نفسه» «4» .
رواه ابن حبان فى صحيحه، ورواه الشيخان بلفظ «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» «5» يعنى أنه إذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه. ولذلك قال: «أعدى عدو لك نفسك التى بين جنبيك» «6» . وهذا من باب المجاز، ومن فصيح الكلام، لأنه
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3907) فى المناقب، باب: فى فضل الأنصار وقريش، وانظر ما قبله.
(2) لم أجده، والحديث ليس في الصحيحين.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (2159) فى الفتن، باب: ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام و (3087) فى التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وابن ماجة (2669) فى الديات، باب: لا يجنى أحد على أحد، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجة» .
(4) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (717) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين بلفظ الحديث الآتى.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (6114) فى الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم (2609) في البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(6) ضعيف: ذكره العجلونى فى «كشف الخفا» (412) وقال: رواه البيهقى فى الزهد بإسناد ضعيف.(2/29)
لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة الغضب فقهرها بحلمه، وصرعها بثباته كان كالصرعة الذى يصرع الرجال ولا يصرعونه.
وقوله: «ليس الخبر كالمعاينة» «1» .
رواه أحمد وابن منيع والطبرانى والعسكرى.
وقوله: «المجالس بالأمانة» «2» .
رواه العقيلى فى ترجمة حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن على رفعه، وعن جابر بن عتيك «إذا حدث الرجل ثم التفت فهى أمانة» «3» ورواه أبو داود فى سننه والترمذى فى جامعه وابن أبى الدنيا فى الصمت. وغيرهم.
ففى هاتين الكلمتين من الحمل على آداب العشرة وآداب الصحبة وكتم السر، وحفظ الود وحسن العهد، وإصلاح ذات البين والتحذير من النميمة بين الإخوان، الموقعة للشنان ما لا يكاد يخفى على مبادى الأذهان.
وقوله: «البلاء موكل بالمنطق» «4» .
رواه ابن أبى شيبة، والبخارى فى الأدب المفرد، من رواية إبراهيم عن ابن مسعود، ورواه الديلمى عن أبى الدرداء مرفوعا: «البلاء موكل بالمنطق»
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 215، 271) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6213 و 6214) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5374) .
(2) حسن: أخرجه أبو داود (4869) فى الأدب، باب: فى نقل الحديث، وأحمد فى «المسند» (3/ 342) ، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، وأخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى التوبيخ عن عثمان، وابن عباس كما فى «صحيح الجامع» (2330) وانظر رقم (6678) أيضا.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (4868) فى الأدب، باب: فى نقل الحديث، والترمذى (1959) فى البر والصلة، باب: ما جاء أن المجالس أمانة، وأحمد فى «المسند» (3/ 324 و 379 و 394) عن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد الله فذكره.
(4) ضعيف: انظر «ضعيف الجامع» (2377- 2380) .(2/30)
وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات من حديث أبى الدرداء وابن مسعود. قال شيخنا فى المقاصد الحسنة: ولا يحسن مع مجموع ما ذكرناه الحكم عليه بالوضع، ويشهد لمعناه قوله- صلى الله عليه وسلم- للأعرابى الذى دخل عليه يعوده. وقال:
«لا بأس طهور» فقال الأعرابى: بل هى حمى تفور على شيخ كبير تزيده القبور، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فنعم إذا» «1» . وأنشد فى معناه:
لا تنطقن بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ترك الشر صدقة» «2» .
رواه بعضهم ومعنى ذلك أن من ترك الشر وأذى الناس فكأنه تصدق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشر كفضل الصدقة.
وقوله: «وأى داء أدوأ من البخل» «3» .
رواه البخارى، والبخل قد جعله- صلى الله عليه وسلم- داء، وليس بداء مؤلم لصاحبه، وإنما شبهه بالداء إذ كان مفسدا للرجل مورثا له سوء الثناء، كما أن الداء يؤول إلى طول الضنا وشدة العنا، والقصد من هذا النهى عن البخل أعاذنا الله منه.
وقوله: «لا ينتطح فيها عنزان» «4» .
أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع.
وقوله: «الحياء خير كله» «5» متفق عليه.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (5656) فى المرض، باب: عيادة، الأعراب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2) لا أصل له: ذكره العجلونى فى «كشف الخفا» (966) وقال: ذكره فى المواهب من غير عزو لأحد.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3137) فى فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(4) ضعيف: أخرجه ابن سعد عن عبد الله بن الحارث بن الفضيل الخطمى عن أبيه مرسلا، وابن عدى، وابن عساكر عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، كما فى «كنز العمال» (44131) .
(5) صحيح: أخرجه مسلم (37) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.(2/31)
وقوله: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» «1» .
رواه فى مسند الفردوس من حديث أبى هريرة.
وقوله: «سيد القوم خادمهم» «2» .
رواه أبو عبد الرحمن السلمى فى «آداب الصحبة» له عن عقبة بن عامر رفعه، وفى سنده ضعف وانقطاع. ورواه غيره أيضا.
وقوله: «فضل العلم خير من فضل العبادة» «3» . رواه الطبرانى والبزار.
وقوله: «الخيل فى نواصيها الخير» «4» .
متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه بلفظ: «الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وفى لفظ لغيرهما: «معقود بنواصيها الخير» .
وقوله: «أعجل الأشياء عقوبة البغى» «5» .
وقوله: «إن من الشعر لحكما» «6» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق عن معمر بلاغا، كما فى «كنز العمال» (46388) .
(2) ضعيف: أخرجه الخطيب البغدادى فى التاريخ عن ابن عباس كما فى «ضعيف الجامع» (3323) ، وأبو نعيم فى الأربعين الصوفية عن أنس كما فى المصدر السابق (3324) .
(3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 120) عن حذيفة بن اليمان وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والبزار وفيه عبد الله بن عبد القدوس، وثقه البخارى وابن حبان وضعفه ابن معين.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (2849) فى الجهاد والسير، باب: الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ومسلم (1871) فى الإمارة، باب: الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
(5) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (4212) فى الزهد، باب: البغى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (840) .
(6) صحيح: أخرجه البخارى (6145) فى الأدب، باب: ما يجوز من الشعر، وأبو داود (5010) فى الأدب، باب: ما جاء فى الشعر، وابن ماجة (3755) فى الأدب، باب: الشعر، من حديث أبى بن كعب- رضى الله عنه-، وهو عند أبى داود (5011) من حديث ابن عباس، و (5012) من حديث بريدة- رضى الله عنه-.(2/32)
رواه أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن من البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما» فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. أما قوله: «إن من البيان لسحرا» فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله:
«إن من العلم جهلا، فتكلف العالم إلى علمه ما لم يعلم يجهله» وأما قوله:
«إن من الشعر حكما» فى هذه المواعظ والأمثال التى يتعظ بها الناس «1» .
ومفهومه: أن بعض الشعر ليس كذلك. لأن من تبعيضية. وفى البخارى: إن من الشعر حكمة. أى قولا صادقا مطابقا للحق.
قال الطبرى: وفى هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا، واحتج بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وعن أبى أمامة- رفعه- أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لى قرآنا، قال: قرآنك الشعر. ثم أجاب عن ذلك: بأنها أحاديث واهية. وهو كذلك. فحديث أبى أمامة فيه:
على بن زيد الألهانى، وهو ضعيف. وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه.
ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه البخارى فى الأدب المفرد، عن عمرو بن الشريد عن أبيه: استنشدنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من شعر أمية بن أبى الصلت فأنشدته مائة قافية «2» .
وقوله: «الصحة والفراغ نعمتان» «3» . رواه البخارى.
__________
(1) ذكره أبو داود عقب الحديث رقم (5012) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى فى «الأدب المفرد» (799 و 869) ، وهو عند مسلم (2255) فى أول كتاب الشعر.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (6412) فى الرقاق، باب: ما جاء فى الصحة والفراغ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بلفظ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» .(2/33)
وقوله: «استعينوا على الحاجات بالكتمان فإن كل ذى نعمة محسود» «1» .
رواه الطبرانى فى معاجمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه، وأخرجه الخلعى عن على مرفوعا: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها» .
وقوله: «المكر والخديعة فى النار» «2» .
رواه الديلمى عن أبى هريرة، ومعناه: أن ذا المكر والخداع لا يكون نقيّا ولا خائفا لله، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق وهذا لا يكون فى تقى، فكل خلة جانبت التقى فهى فى النار.
وقوله: «من غشنا فليس منا» «3» رواه مسلم فى صحيحه.
وقوله: «المستشار مؤتمن» «4» .
رواه أحمد وغيره. ومعناه: أن من أفضى إليك بسره وآمنك على ذات نفسه فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلا بما تراه صوابا، فإنه كالأمانة للرجل الذى لا يأمن على إيداع ماله إلا الثقة فى نفسه،
__________
(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (1186) ، وفى «الكبير» (20/ 94) ، وفى «مسند الشاميين» (408) ، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-. وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 195) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، وفيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلى: لا بأس به، كذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ.
(2) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (167) عن الحسن مرسلا، وهو عند القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 175) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه مسلم (101) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا» ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه أبو داود (5128) فى الأدب، باب: فى المشورة، والترمذى (2822) فى الأدب، باب: إن المستشار مؤتمن، وابن ماجة (3745) فى الأدب، باب: المستشار مؤتمن، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6700) .(2/34)
والسر الذى ربما كان فى إذاعته تلف النفس أولى بأن لا يجعل إلا عند الموثوق به.
وقوله: «الندم توبة» «1» رواه الطبرانى فى الكبير.
وقوله: «الدال على الخير كفاعله» «2» .
رواه العسكرى وابن جميع، ومن طريقه المنذرى عن ابن عباس فى حديث مرفوع بلفظ: «وكل معروف صدقة والدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان» والمعنى: أن من دلك على الخير وأرشدك إليه فنلته بإرشاده فكأنه فعل ذلك الخير.
وقوله: «حبك الشىء يعمى ويصم» «3» .
رواه أبو داود والعسكرى من حديث بقية بن الوليد، عن أبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم عن خالد بن محمد الثقفى عن بلال بن أبى الدرداء عن أبيه مرفوعا، ولم ينفرد به بقية بل توبع عليه. وابن أبى مريم ضعيف. وقد حكم الصغانى عليه بالوضع. وتعقبه العراقى وقال: إن ابن أبى مريم لم يتهمه أحد بكذب، ويكفينا سكوت أبى داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن.
قال العسكرى: أراد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد، ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل وأعماه عن الرشد، ولذا قال بعض الشعراء:
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجة (4252) فى الزهد، باب: ذكر التوبة، وأحمد فى «المسند» (1/ 376 و 422 و 423 و 433) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6802) .
(2) صحيح: أخرجه الترمذى (2670) فى العلم، باب: ما جاء فى الدال على الخير كفاعله من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1605) .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (5130) فى الأدب، باب: فى الهوى، وأحمد فى «المسند» (5/ 194) و (6/ 450) . والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2688) .(2/35)
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدى المساويا
أشار إليه شيخنا فى المقاصد الحسنة.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضى والزعيم غارم» «1» . رواه الترمذى وأبو داود.
وقوله: «سبقك بها عكاشة» «2» رواه البخارى.
وقوله: «عجب ربك» «3» . من كذا.
روى فى عدة روايات عند البخارى وغيره. ومعناه كما قاله ابن الأثير:
عظم ذلك عنده وكبر لديه، أعلم الله أنه إنما يتعجب الآدمى من الشىء إذا عظم موقعه عنده وخفى عليه سببه، فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده.
وقيل معنى عجب ربك أى رضى وأثاب، فسماه عجبا مجازا وليس بعجب فى الحقيقة. والأول أوجه.
__________
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3565) فى الإجارة، باب: فى تضمين العارية، والترمذى (1265) فى البيوع، باب: ما جاء فى أن العارية مؤداء، و (2120) فى الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وابن ماجة (2398) فى الصدقات، باب: العارية، وأحمد فى «المسند» (5/ 267) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (1513) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وهو فى الصحيحين أيضا من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (3010) فى الجهاد والسير، باب: الأسارى فى السلاسل، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- بلفظ: «عجب الله ... » ومنهج أهل السنة والجماعة إمرار صفات الله عز وجل كما جاءت بلا تعطيل ولا تشبيه، بل نثبت ما أثبته لنفسه، وننفى ما نفاه عن نفسه، أما تأويل بعض الصفات على غير معناها كالعجب مثلا بحجة أنه من صفات البشر، والعجب لا يدخل على الله، فنقول: أن الله عز وجل يسمع ويبصر، والإنسان كذلك يسمع ويبصر، وشتان بين سمع وبصر الله، وسمع وبصر العبد المخلوق، فكذلك نثبت صفة العجب لله دون تشبيهها بصفات المخلوقين.(2/36)
وقوله: «قتل صبرا» «1» رواه غير واحد.
وقوله: «ليس المسئول بأعلم من السائل» «2» رواه مسلم وغيره.
وقوله: «ولا ترفع عصاك عن أهلك أدبا» «3» .
رواه أحمد، أى لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة الله، يقال شق العصا، أى فارق الجماعة، وليس المراد الضرب بالعصا، ولكنه جعله مثلا، وقيل: لا تغافل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قاله ابن الأثير.
وقوله: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» «4» .
رواه البخارى، وذكره ابن دريد وقال: إنه من الكلام الفرد الوجيز الذى لم يسبق- صلى الله عليه وسلم- إلى معناه. أى كل ما أنبت الجدول، وإسناد الإنبات إليه مجاز، والمنبت فى الحقيقة هو الله تعالى، وليست «من» للتبعيض، وحبطا:
بفتح المهملة والموحدة والطاء المهملة أيضا، وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل حتى ينتفخ فيموت، ويلم: بضم الياء، أى يقرب من الهلاك. وهو مثل للمنهمك فى جمع الدنيا، المانع من إخراجها فى وجهها.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» «5» .
ومعناه: عين ماء تجرى ليلا ونهارا وصاحبها نائم، فجعل دوام جريانها:
سهرا لها.
__________
(1) حسن: أخرجه البزار عن عائشة كما فى «صحيح الجامع» (4360) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (50) فى الإيمان، باب: سؤال جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ومسلم (9 و 10) فى الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 238) من حديث معاذ- رضى الله عنه-، وهو عند الطبرانى (24/ 190) من حديث أميمة مولاة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو عند البيهقى فى «الكبرى» (7/ 304) من حديث أم أيمن- رضى الله عنها-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1465) فى الزكاة، باب: الصدقة على اليتامى، ومسلم (1052) فى الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(5) لم أقف عليه.(2/37)
وقوله: «خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» «1» .
رواه أحمد والطبرانى عن سويد بن هبيرة. ومعنى مأمورة: أى كثيرة النتاج، وسكة مأبورة: أى طريقة مصطفة من النخل، ومنه قيل للأزقة:
سكة، والتأبير: تلقيح النخل. انتهى.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2» رواه مسلم من حديث أبى هريرة.
وقوله: «زر غبّا، تزدد حبّا» «3» .
رواه البزار، والحارث بن أبى أسامة عن أبى هريرة مرفوعا، وفى بعض أحاديث الباب، أنه قيل له: «يا أبا هريرة أين كنت أمس» قال: زرت ناسا من أهلى، فقال: «يا أبا هريرة زر غبّا تزدد حبّا» .
وقوله: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» «4» .
رواه أبو يعلى والبزار من طرق، أحدها حسن بلفظ: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق.
__________
(1) رجاله ثقات، أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 468) ، والطبرانى فى «الكبير» (7/ 91) ، من حديث سويد بن هبيرة- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 258) وقال: رواه أحمد والطبرانى، ورجال أحمد ثقات.
(2) صحيح: أخرجه مسلم (2699) فى الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: أخرجه البزار والطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة، والبزار والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى ذر، والطبرانى فى الكبير، والحاكم فى المستدرك عن حبيب بن مسلمة الفهرى، والطب فى الكبير عن ابن عمرو، والطبرانى فى الأوسط عن ابن عمر، والخطيب فى التاريخ عن عائشة كما فى «صحيح الجامع» (3568) .
(4) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 23) عن أبى هريرة وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه عبد الله بن سعيد المقبرى، وهو ضعيف. اه، والحديث ضعفه كذلك الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2043) .(2/38)
وقوله: «الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل» «1» رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط والبيهقى.
وقوله: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» «2» .
رواه البزار والحاكم فى علومه، والبيهقى فى سننه، كلهم من طريق محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا.
وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة فى إرساله ووصله، وفى رفعه ووقفه، ثم فى الصحابى، أهو جابر أو عائشة أو عمر. ورجح البخارى فى تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال، ومعناه: أنه بقى فى طريقه عاجزا عن مقصده، ولم يقض وطره، وقد أعطب ظهره.
والوغول: الدخول، فكأنه قال: إن هذا الدين- مع كونه يسيرا سهلا شديد، فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق، فإن من بالغ بغير رفق وتكلف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يمل حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مثله كمثل الذى يعسف الركاب ويحملها على السير على ما لا تطيق رجاء الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو الذى قطع الأرض التى أراد، ولا هو أبقى ظهره سالما ينتفع به بعد ذلك.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من شاد هذا الدين غلبه» .
رواه العسكرى عن بريدة، وللبخارى من حديث معن بن محمد الغفارى عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة مرفوعا: «إن الدين يسر، ولن يشاد
__________
(1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 24) عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عيسى بن ميمون المدنى، وهو ضعيف. اه. وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2945) : ضعيف جدّا.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 62) وقال: رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل، أبو عقيل، وهو كذاب.(2/39)
الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة» «1» .
وقوله: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى» «2» .
رواه الحاكم عن شداد بن أوس، وقال: صحيح على شرط البخارى، وتعقبه الذهبى بأن فيه ابن أبى مريم وهو واه. وكذا رواه العسكرى والقضاعى والترمذى وابن ماجة.
وقوله: «ما حاك فى نفسك فدعه» «3» .
رواه الطبرانى فى الكبير من حديث أبى أمامة.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «تنكح المرأة لجمالها ومالها ودينها وحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك» «4» . متفق عليه من حديث أبى هريرة.
وقوله: «الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه» «5» رواه البيهقى وأحمد وأبو نعيم مختصرا، والعسكرى بتمامه، كلهم من حديث دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد، وله شواهد.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (39) فى الإيمان، باب: الدين يسر.
(2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2459) فى صفة القيامة، باب: منه، وابن ماجة (4260) فى الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، وأحمد فى «المسند» (4/ 124) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 125) و (4/ 280) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4305) .
(3) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 252 و 255) ، وابن حبان فى «صحيحه» (176) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 58) و (4/ 111) ، والطبرانى فى «الكبير» (8/ 117) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (5090) فى النكاح، باب: الأكفاء فى النكاح، ومسلم (1466) فى الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين.
(5) ضعيف: أخرجه أحمد فى المسند (3/ 75) مختصرا، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 297) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، وانظر «ضعيف الجامع» (3429 و 3430) .(2/40)
وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه فى بساتين الطاعات، ويسرح فى ميادين العبادات، ويتنزه قلبه فى رياض الأعمال الميسرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد فلا يحصل فيه مشقة الصيام.
وقوله: «القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى» «1» .
رواه الطبرانى فى الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، والقضاعى بدون: «وكنز لا يفنى» عن أنس.
وفى القناعة أحاديث كثيرة، ولو لم يكن فى القنع إلا التمتع بالعز لكفى صاحبه، وكان من دعائه- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم قنعنى بما رزقتنى» «2» وأنشد بعضهم:
ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعا ما عاش مفتقرا
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد» «3» رواه الطبرانى فى معجمه الأوسط من حديث أنس.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم» «4» .
رواه البيهقى فى الشعب، والعسكرى فى الأمثال، وابن السنى والديلمى من طريقه والقضاعى كلهم من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا. وضعفه
__________
(1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 256) عن جابر، وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه خالد بن إسماعيل المخزومى، وهو متروك. اه، وأخرجه القضاعى عن أنس كما فى «كنز العمال» (7080) .
(2) أخرجه العسكرى فى «الأمثال» ، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، كما فى «كنز العمال» (5094) .
(3) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 96) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبد القدوس، وكلاهما ضعيف.
(4) موضوع: أخرجه الطبرانى فى «مكارم الأخلاق» ، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن ابن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (2286) .(2/41)
البيهقى، لكن له شاهد عند العسكرى من حديث خلاد بن عيسى عن ثابت عن أنس رفعه: «الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين» «1» وكذا أخرجه الطبرانى وابن لال. ومن شواهده أيضا: ما للعسكرى عن أنس رفعه: «السؤال نصف العلم، والرفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ فى اقتصاد» «2» وللديلمى من حديث أبى أمامة رفعه: «السؤال نصف العلم والرفق نصف المعيشة» «3» .
وفى صحيح ابن حبان من حديث طويل عن أبى ذر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كسحن الخلق» «4» وهذا اللفظ عند البيهقى فى الشعب. وله أيضا وللعسكرى عن على مرفوعا: «التودد نصف الدين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد» «5» أى:
ما افتقر من أنفق قصدا ولم يجاوزه إلى الإسراف.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن من أمنه الناس» «6» . رواه الترمذى.
وقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله» «7» . متفق عليه عن ابن عمرو، به مرفوعا، وعن أبى موسى، ومسلم عن جابر.
__________
(1) ضعيف: انظر «ضعيف الجامع» (2287) .
(2) ضعيف: أخرجه العسكرى فى الأمثال عن أنس، كما فى «كنز العمال» (29261) وفيه شبيب بن بشر لين الحديث.
(3) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «تاريخه» كما فى «كنز العمال» (29260) .
(4) إسناده ضعيف جدّا: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (361) ضمن حديث طويل جدّا بسند ضعيف جدّا.
(5) انظر «كشف الخفا» (476) .
(6) صحيح: أخرجه الترمذى (2627) فى الإيمان، باب: ما جاء المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والنسائى (8/ 104) فى الإيمان وشرائعه، باب: صفة المؤمن، وأحمد فى «المسند» (2/ 379) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6710) .
(7) صحيح: أخرجه البخارى (10) فى الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم (40) بعضه فى الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأى أموره أفضل.(2/42)
وقوله: «قلة العيال أحد اليسارين» «1» .
رواه صاحب مسند الفردوس لفظه: «التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «2» .
رواه أبو داود والترمذى من رواية شريك وقيس بن الربيع، كلاهما عن أبى صالح والحارث من رواية الحسن، كلاهما عن أبى هريرة، وقال الترمذى: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمى فى مسنده، والدارقطنى والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط مسلم، ولكن أعله ابن حزم وكذا ابن القطان والبيهقى. وقال أبو حاتم: إنه منكر، وقال الشافعى: إنه ليس بثابت عند أهله. وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- من وجه صحيح. قال شيخنا لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى.
وقوله: «الرضاع يغير الطباع» «3» رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» «4» .
رواه أحمد وأبو يعلى فى مسنديهما، والبيهقى فى الشعب عن أنس.
وقوله: «النساء حبائل الشيطان» «5» رواه فى مسند الفردوس عن عقبة ابن عامر.
__________
(1) ضعيف: أخرجه القضاعى عن على، والديلمى فى «مسند الفردوس» عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (2505) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (3535) فى الإجارة، باب: فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذى (1264) فى البيوع، باب: رقم (38) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (240) .
(3) ضعيف: أخرجه القضاعى عن ابن عباس، كما فى «ضعيف الجامع» (3156) .
(4) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 135 و 154 و 210 و 251) ، وابن حبان فى «صحيحه» (194) ، وأبو يعلى فى مسنده (2863 و 3445) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7179) .
(5) ضعيف: أخرجه الديلمى فى «مسند الفردوس» عن عقبة بن عامر كما فى «كشف الخفا» (2802) ، والخرائطى فى «اعتلال القلوب» عن زيد بن خالد الجهنى، كما فى «ضعيف الجامع» (3428) .(2/43)
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «حسن العهد من الإيمان» «1» .
رواه الحاكم فى مستدركه، عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو عندى فقال لها: «من أنت؟» فقالت: جثامة المزينة قال: «أنت حسانة، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا» قالت: بخير بأبى أنت وأمى، فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ قال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين وليس له علة.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الخمر جماع الإثم» «2» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «جمال الرجل فصاحة لسانه» «3» .
رواه القضاعى من حديث الأوزاعى والعسكرى من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر، كلاهما عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
وأخرجه أيضا الخطيب وابن طاهر، وفى إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقى والديلمى من حديث جابر رفعه: «الجمال صواب المقال، والكمال حسن الفعال بالصدق» .
وعند العسكرى من حديث العباس: قلت يا نبى الله ما الجمال فى الرجل: قال: «فصاحة لسانه» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا» «4» .
__________
(1) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 62) من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2056) .
(2) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 68) .
(3) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 164) .
(4) أخرجه الدارمى فى «سننه» (332) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 180) ، والقضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 212) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، مرفوعا موقوفا، ولعل الصواب وقفه.(2/44)
رواه الطبرانى فى الكبير والقضاعى عن ابن مسعود، وهو عند البيهقى فى المدخل: عن القاسم قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان طالب علم وصاحب الدنيا. ولا يستويان، أما صاحب الدنيا فيتمادى فى الطغيان، وأما صاحب العلم فيزداد من رضى الرحمن. وقال: إنه موقوف منقطع.
وكذا رواه البزار والعسكرى وغيرهما وبمجموعها يتقوى، وإن كانت مفرداته ضعيفة، والله أعلم.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أكثر من العقل، ولا وحشة أشد من العجب» «1» رواه ابن ماجة.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الذنب لا ينسى، والبر لا يبلى، والديان لا يموت، فكن كما شئت» «2» رواه فى مسند الفردوس عن ابن عمر.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ما جمع شىء إلى شىء أحسن من حلم إلى علم» «3» .
رواه العسكرى فى الأمثال من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن على ابن الحسين عن أبيه عن على مرفوعا بزيادة: «وأفضل الإيمان التحبب إلى الناس، ثلاث من لم تكن فيه فليس منى ولا من الله، حلم يرد به جهل الجاهل، وحسن خلق يعيش به فى الناس، عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله تعالى بها عزّا» «4» .
__________
(1) ذكره العجلونى فى «كشف الخفا» (3038) وعزاه لابن ماجة والطبرانى عن أبى ذر، ولم أجده فيها، وفى الباب عن على بن أبى طالب يسأل ابنه الحسن فأجابه بذلك.
(2) مرسل: أخرجه عبد الرزاق عن أبى قلابة مرسلا، كما فى «ضعيف الجامع» (2369) .
(3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 121) عن على وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من رواية حفص بن بشر عن حسن بن الحسين بن يزيد العلوى عن أبيه، ولم أر من ذكر أحدا منهم. اه. وانظر «ضعيف الجامع» (5051) ، و «كشف الخفا» (2204 و 2734) .
(4) ضعيف: انظر ما قبله.(2/45)
وعنده أيضا من حديث جابر مرفوعا: «ما أوى شىء إلى شىء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى حلم» «1» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «التمسوا الرزق فى خبايا الأرض» «2» .
رواه فى جزء ب ى ب ى «3» عن ابن أبى شريح والمراد الزرع، وأنشدوا:
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب فترزقا
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك فى أهل القبور» «4» رواه البيهقى فى الشعب والعسكرى من حديث ابن عمر مرفوعا: وأخرجه البخارى والترمذى وغيرهم.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «صنائع المعروف تقى مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد فى العمر» «5» . خرج الطبرانى فى الكبير بسند حسن.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «العفو لا يزيد العبد إلا عزّا، والتواضع لا يزيده إلا رفعة. وما نقص مال من صدقة» «6» .
__________
(1) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 162) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف جدّا. اه. والحديث حكم بوضعه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (964) .
(2) ضعيف: أخرجه الدارقطنى فى الأفراد، والبيهقى فى الشعب عن عائشة، وابن عساكر عن عبد الله بن أبى عباس بن أبى ربيعة، كما فى «ضعيف الجامع» (1150) ، وانظر رقم (905) أيضا.
(3) كذا بالأصل.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6416) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» طرفه الأول، والترمذى (2333) فى الزهد، باب: ما جاء فى قصر الأمل، وابن ماجة (4114) فى الزهد، باب: مثل الدنيا.
(5) حسن: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 115) عن أبى أمامة وقال: رواه الطبرانى فى الكبير وإسناده حسن. اه. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3797) .
(6) أخرجه ابن أبى الدنيا فى «ذم الغضب» عن محمد بن عمير العبدى، كما فى «كنز العمال» (5719) .(2/46)
وروى مسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» «1» .
وروى القضاعى عن أبى سلمة عن أم سلمة مرفوعا: «ما نقص مال من صدقة ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله تعالى بها عزّا» «2» .
وروى الديلمى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «والذى نفس محمد بيده لا ينقص مال من صدقة» «3» رواه الترمذى وقال حسن صحيح.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إنى أعوذ بك من شر سمعى، ومن شر بصرى، ومن شر لسانى ومن شر قلبى ومن شر منيى «4» » «5» أخرجه أبو داود والترمذى فى جامعه والحاكم فى مستدركه عن شكل.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إنى أعوذ بك من شر فتنة الغنى» «6» رواه الترمذى والنسائى وأبو داود وابن ماجه.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2588) فى البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 105) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط، وفيه زكريا بن دويد، وهو ضعيف جدّا.
(3) صحيح: أخرجه الترمذى (2029) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى التواضع.
(4) المنى: المراد شر الفرج، وقيل: من المنية، أى الموت.
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (1551) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والترمذى (3492) فى الدعوات، باب: رقم (76) ، والنسائى (8/ 260) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر السمع والبصر، وأحمد فى «المسند» (3/ 429) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 715) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1292) .
(6) صحيح: أخرجه البخارى (6368) فى الدعوات، باب: التعوذ من المأثم والمغرم، ومسلم (589) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر الفتن وغيرها، وأبو داود (1543) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والترمذى (3495) فى الدعوات، باب: رقم (77) ، والنسائى (8/ 266) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر فتنة الغنى، وابن ماجه (3838) فى الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.(2/47)
الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا. فإن كل أم يتبعها ولدها» «1» رواه أبو نعيم فى الحلية من حديث شداد.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أخسر الناس صفقة من أذهب آخرته بدنيا غيره» «2» .
وعند ابن النجار من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه وهو مما بيض له الديلمى: «أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه فى آماله ولم تساعده الأيام على أمنيته، فخرج من الدنيا بغير زاد وقدم على الله بغير حجة» «3» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن من كنوز البر كتمان المصائب» «4» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اليمين حنث أو ندم» «5» .
رواه أبو يعلى وابن ماجه إلا أنه قال: «إنما الحلف» «6» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» «7» . رواه الترمذى من حديث مكحول عن واثلة، وقال: حسن غريب، وهو عند
__________
(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 189) عن شداد بن أوس، وقاله: رواه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه أبو مهدى سعيد بن سنان، وهو ضعيف جدّا.
(2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (3966) فى الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2008) .
(3) ضعيف: أخرجه ابن النجار فى تاريخه عن عامر بن ربيعة، وهو مما بيض له الديلمى (أى لم يذكر سنده، تركه أبيضا لعدم وقوفه على سنده) ، كما فى «ضعيف الجامع» (237) .
(4) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن ابن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (5311) .
(5) ضعيف: أخرجه أبو يعلى فى «مسنده» (5587) ، وهو عند ابن ماجة (2103) فى الكفارات، باب: اليمين حنث أو ندم، بلفظ: «إنما الحلف» ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجة» .
(6) ضعيف: انظر ما قبله.
(7) ضعيف: أخرجه الترمذى (2506) فى صفة القيامة، باب: رقم (18) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 53) ، من حديث واثلة بن الأسقع- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (6245) .(2/48)
الطبرانى أيضا، وفى رواية لابن أبى الدنيا: «فيرحمه الله» بدل: فيعاقبه الله، وروى الترمذى مرفوعا: «من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» «1» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم- لأبى هريرة: «جف القلم بما أنت لاق» «2» .
قال صاحب فتح المنة بشرح الأخبار لمحيى السنة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده، فهو من إطلاق اللازم على الملزوم، وهذا اللفظ لم يوجد فى كلام العرب، بل هو من الألفاظ التى لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية.
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اليوم الرهان وغدا السباق والغاية الجنة والهالك من دخل النار» «3» .
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من ضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنة» «4» .
رواه الجماعة، منهم العسكرى عن جابر، وفى البخارى والترمذى عن سهل بن سعد بلفظ: «من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» . والمراد بما بين لحييه: اللسان وما يأتى به النطق، وما بين رجليه:
الفرج، وقال الداودى: المراد بما بين اللحيين: الفم، فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يأتى بالفم.
__________
(1) موضوع: أخرجه الترمذى (2505) فى صفة القيامة، باب: رقم (18) ، من حديث معاذ ابن جبل- رضى الله عنه-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (5710) : موضوع.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (5076) فى النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء.
(3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 228) عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أصدم بن حوشب، وهو متروك وفى إسناده الأوسط الوليد بن الفضل العنزى، وهو ضعيف جدّا.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (6474) فى الرقاق، باب: حفظ اللسان، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.(2/49)
وفى لفظ: «من توكل لى ما بين فقميه ورجليه أتوكل له بالجنة» «1» .
والفقم: بالضم والفتح: اللحى.
وفى لفظ آخر: «من تكفل لى تكفلت له» .
وللديلمى- بسند ضعيف- عن أنس رفعه: «من وقى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنة» «2» ولفظ الإحياء: وقى يعنى البطن من القبقبة، وهو صوت يسمع فى البطن، وكأنها حكاية ذلك الصوت، ويجوز أن يكون كناية عن أكل الحرام وشبهه، والذكر واللسان.
فهذا وأشباهه، مما يعسر استقصاؤه. يدلك على ذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- قد رقى من الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره- صلى الله عليه وسلم-.
ومما عد من وجوه بلاغته: ما ذكر أنه جمع متفرقات الشرائع وقواعد الإسلام فى أربعة أحاديث وهى:
حديث «إنما الأعمال بالنية» «3» رواه الشيخان.
وحديث «الحلال بين والحرام بين» «4» رواه مسلم.
وحديث «البينة على المدعى واليمين على من أنكر» «5» .
__________
(1) أخرجه العسكرى فى الأمثال عن سهل بن سعد، كما فى «كنز العمال» (43201) .
(2) انظر «كشف الخفاء» (2523) .
(3) صحيح: وقد تقدم.
(4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (52) فى الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599) فى المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-.
(5) صحيح: أخرجه الترمذى (1341) فى الأحكام، باب: ما جاء فى أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من حديث ابن عمرو- رضى الله عنهما-، وهو فى الصحيحين بلفظ: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وانظر «صحيح الجامع» (2897) .(2/50)
وحديث «لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «1» رواه الشيخان.
فالحديث الأول: يشتمل على ربع العبادات.
والثانى: على ربع المعاملات.
والثالث: على ربع الحكومات وفصل الخصومات.
والرابع: على ربع الآداب والمناصفات ويدخل تحته التحذير من الجنايات. قاله ابن المنير.
ومما عدّ أيضا من أنواع بلاغته كلامه- صلى الله عليه وسلم- مع كل ذى لغة بليغة بلغته اتساعا فى الفصاحة، واستحداثا للألفة، فكان- صلى الله عليه وسلم- يخاطب أهل الحضر وبكلام ألين من الدهن وأرق من المزن، ويخاطب أهل البدو بكلام أرسى من الهضب، وأرهف من العضب.
فانظر إلى دعائه لأهل المدينة وقد سألوه ذلك فقال: «اللهم بارك لهم فى مكيالهم وبارك لهم فى صاعهم ومدهم» «2» وفى حديث آخر: «اللهم بارك لنا فى تمرنا وبارك لنا فى مدينتنا، وبارك لنا فى صاعنا، وبارك لنا فى مدنا. اللهم إنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه» .
ثم انظر دعاءه لبنى نهد وقد وفدوا عليه فى جملة الوفود، فقام طهفة ابن رهم النهدى يشكو الجدب فقال: أتيناك يا رسول الله من غورى تهامة، بأكوار الميس، ترتمى بنا العيس، نستحلب الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير، ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام، من أرض غائلة النطا،
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (13) فى الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (45) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وهو فيها بلفظ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2130) فى البيوع، باب: بركة صاع النبى- صلى الله عليه وسلم- ومدهم، ومسلم (1368) فى الحج، باب: فضل المدينة، من حديث أنس- رضى الله عنه-.(2/51)
غليظة الوطا، قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدى، ومات الودى، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن وما يحدث الزمن، لنا دعوة السلام وشريعة الإسلام، ما طمى البحر وقام تعار، ولنا نعم همل، أغفال ما تبل ببلال، ووقير كثير الرسل، قليل الرسل، أصابتها سنية حمراء مؤزلة، وليس لها علل ولا نهل.
فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم بارك لهم فى محصنها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها فى الدثر بيانع الثمر، وافجر له الثمد، وبارك له فى المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا، لكم يا بنى نهد ودائع الشرك، ووضائع الملك، لا تلطط فى الزكاة، ولا تلحد فى الحياة، ولا تتثاقل عن الصلاة» .
ثم كتب معه كتابا إلى بنى نهد: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى بنى نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله عز وجل ورسوله، لكم يا بنى نهد فى الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، لا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق، من أقر بما فى هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة» «1» وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى تفسير:
فالميس: شجر صلب تعمل منه أكوار الإبل ورحالها. نستحلب- بالحاء المهملة- الصبير: بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة، وهو سحاب أبيض متراكب متكاثف. أى نستدر السحاب. ونستخلب- بالخاء المعجمة- الخبير:
بالخاء المعجمة أيضا ثم الموحدة: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل وهو وبرها، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب وهو المنجل، والخبير: يقع على الوبر والزرع والأكار قاله ابن الأثير.
ونستعضد البرير: أى نقطعه ونجنيه من شجره للأكل، هو بموحدة
__________
(1) انظر «كنز العمال» (30317) .(2/52)
وراءين بينهما مثناة تحتية، ثمر الأراك إذا اسود وبلغ، وقيل: وهو اسم له فى كل حال، وكانوا يأكلونه فى الجدب. ونستخبل- بالخاء المعجمة- الرهام:
بكسر الراء، وهى الأمطار الضعيفة، واحدتها رهمة، أى نتخيل الماء فى السحاب القليل، وقيل: الرهمة أشد وقعا من الديمة. ونستجيل: بالجيم، أى نراه جائلا تذهب به الريح هاهنا وهاهنا. والجهام: بالجيم، أى السحاب الذى فرغ ماؤه. ومن روى نستخيل- بالخاء المعجمة- فهو نستفعل من «خلت، أخال» إذا ظننت، أراد أن لا نتخيل فى السحاب حالا إلا المطر وإن كان جهاما لشدة حاجتنا إليه، ومن رواه بالحاء المهملة- وهو الأشهر- أراد:
لا ننظر من السحاب فى حال إلا جهام من قلة المطر.
وأرض غائلة- بالغين المعجمة- والنطا- بكسر النون- أى مهلكة للبعد، يقال: بلد نطى، أى بعيد، ويروى المطى وهو مفعل منه. والمدهن: نقرة فى الجبل. والجعثن: بالجيم والمثلاثة، أصل النبات، ويقال: أصل الصليان خاصة وهو نبت معروف. والعسلوج: بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم، وهو الغصن إذا يبس وذهبت طراوته، وقيل: هو القضيب الحديث الطلوع، يريد أن الأغصان يبست وهلكت من الجدب، وجمعه: عساليج.
والأملوج: بالضم والجيم، ورق شجر يشبه الطرفاء والسرو، وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان، وقيل: هو نوى المقل. وفى رواية: وسقط الأملوج من البكارة- بالكسر- جمع البكرة- بالفتح- يريد أن السمن الذى قد علا بكارة الإبل بما رعت من هذه الشجرة قد سقط عنها، فسماه باسم المرعى، إذ كان سببا له.
وهلك الهدى: بفتح الهاء وكسر الدال المهملة والتشديد، كالهدى بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر، فأطلق على جميع الإبل لم وإن لم تكن هديا، تسمية للشىء ببعضه، يقال: كم هدى بنى فلان؟ أى كم إبلهم.
ومات الودى: بالتشديد، فسيل النخل، يريد هلكت الإبل ويبست(2/53)
النخيل. وبرئنا إليك من الوثن والعنن: الوثن: الصنم، والعنن، الاعتراض، يقال: عنّ لى الشىء أى اعترض، كأنه قال: برئنا إليك من الشرك والظلم، وقيل: أراد به الخلاف والباطل. وما طمى البحر: أى ارتفع بأمواجه. وتعار:
بكسر التاء المثناة الفوقية، يصرف ولا يصرف، اسم جبل: ولنا نعم همل: أى مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهى كالضالة. والإبل الأغفال: لا لبن فيها.
وقوله- عليه الصلاة والسلام-. فى محضها: بالحاء المهملة والضاد المعجمة، أى خالص لبنها.
ومخضها: بالمعجمة، ما مخض من اللبن وأخذ زبده. ومذقها: بفتح الميم وسكون المعجمة وبالقاف، أى ممزوج بالماء.
وابعث راعيها فى الدثر: بالمهملة المفتوحة ثم المثلاثة الساكنة ثم الراء، المال الكثير، وقيل: الخصب والنبات الكثير.
وافجر له الثمد: بفتح المثلاثة، الماء القليل، أى صيره كثيرا.
وودائع الشرك: قيل المراد بها العهود والمواثيق، يقال: توادع الفريقان، إذا أعطى كل واحد منهم عهده للآخر لا يغزوه، وقيل: ما كانوا استودعوه من أموال الكفار الذين لم يدخلوا فى الإسلام، أراد إحلالها لهم لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط.
ووضائع الملك: جمع وضيعة، وهى الوظيفة التى تكون على الملك، وهى ما يلزم الناس فى أموالهم من الزكاة والصدقة، أى لكم الوظائف التى تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم ولا نزيد عليكم فيها شيئا.
ولا تلطط، بضم المثناة الفوقية، ثم اللام الساكنة ثم طاآن، الأولى مكسورة والثانية مجزومة على النهى، أى لا تمنعها. ولا تلحد فى الحياة:
بضم المثناة الفوقية وإسكان اللام وكسر الحاء المهملة آخره دال مهملة، أى: لا تمل عن الحق ما دمت حيّا. قال بعضهم: كذا رواه القتيبى: لا تلطط ولا(2/54)
تلحد على النهى للواحد، ولا وجه له لأنه خطاب للجماعة، ورواه غيره ما لم يكن عهد ولا موعد ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط فى الزكاة ولا تلحد فى الحياة. قال الحافظ أبو السعادات الجزرى، وهو الوجه، لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله.
وقوله: «ولا تتثاقل عن الصلاة» أى لا تتخلف. والوظيفة: الحق الواجب. والفريضة: أى الهرمة المسنة، أى لا تأخذ فى الصدقات هذا الصنف كما أنا لا نأخذ خيار المال.
والفارض: - بالفاء والضاد المعجمة- المريضة. والفريش: بفتح الفاء آخره شين معجمة، وهى من الإبل كالنفساء من بنات آدم، أى لكم خيار المال وشراره، ولنا وسطه. وذون العنان: بكسر العين، سير اللجام. والركوب:
بفتح الراء، أى الفرس الذلول. والضبيس، بفتح المعجمة وكسر الموحدة آخره مهملة، المهر العسر الصعب. امتن عليهم بترك الصدقة فى الخيل جيدها ورديئها. ولا يمنع- بضم المثناة التحتية وفتح النون-، سرحكم- بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة- ما سرح من المواشى، أى لا يدخل عليكم أحد فى مراعيكم. ولا يعضد طلحكم: أى لا يقطع. ولا يحبس دركم: أى لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجمع الماشية ثم تعد، أو أنا منعناه أن يأخذها لما فى ذلك من الإضرار.
والإماق: بالميم، أى ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء، مما يلزمكم من الصدقة، قاله فى القاموس. وقال الزمخشرى: المراد إضمار الكفر والعمل على ترك الاستبصار فى دين الله، وفى رواية: الرماق- بالراء والميم- أى النفاق، يقال: رامقته رماقا، وهو أن تنظر إليه شزرا نظرة العداوة، يعنى ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال: عيش رماق، أى ضيق، وعيش رمق ومرمق: أى يمسك الروح، والرمق: بقية الروح وآخر النفس.
وتأكلوا الرباق- بكسر الراء وبالموحدة المخففة- أى إلا أن تنقضوا(2/55)
العهد، واستعار الأكل لنقض العهد لأن البهيمة إذا أكلت الربق- وهو الحبل تجعل فيه عرى وتشد به- خلصت من الرباط.
والربوة: - بكسر الراء وفتحها وضمها- أى الزيادة. يعنى: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة فى الفريضة عقوبة له.
فانظر إلى هذا الدعاء والكتاب الذى انطبق على لغتهم، وجاد وزاد عليها فى الجزالة والبداوة وأين هذا من كتابه- صلى الله عليه وسلم- لأنس فى الصدقة، وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار أنهم أمة واحدة دون الناس من قريش على رباعتهم، يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، ويفكون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على من بغى عليهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، وأن سلم المؤمنين واحد على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم بعضا، ومن اعتبط مؤمنا قتلا فهو قود إلا أن يرضى ولى المقتول، ومن ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن. كذا روى مختصرا من حديث ابن شطب.
وقوله: دسيعة ظلم: أى عظيمة من الظلم. ورباعتهم: أمرهم القديم الذى كانوا عليه. ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى: أى يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل الديات، جمع معقلة، يقال: بنو فلان على معاقلهم التى كانوا عليها، أى مراتبهم وحالتهم.
ولا يوتغ: أى لا يهلك. ويعقب بعضهم بعضا: أى يكون الغزو بينهم نوبا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها. وأين هذا اللين فى القول، وقرب المأخذ فى اللفظ على طريق الحاضرة وعرف الجمهور المشهور من كتابه لذى المشعار الهمدانى، لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال مالك بن نمط: يا رسول الله، نصية من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا(2/56)
تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام لا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما قام لعلع، وما جرى اليعفور بصلع.
فكتب إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم-: هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحفاف الرمل، مع وافدها ذى المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبس الحورى، وعليهم فيها المصالغ والقارح.
وقوله نصية من كل حاضر وباد قال ابن الأثير: النصية من ينتصى من القوم أى يختار من نواصيهم، وهم الرؤوس والأشراف، ويقال للأشراف:
نواص، كما يقال للأتباع أذناب. وأتوك على قلص: بضم القاف واللام، جمع قلوص، وهى الناقة الشابة. والنواج: السراع.
وقوله متصلة بحبائل الإسلام أى عهوده وأسبابه. وخارف: بالخاء المعجمة. ويام: بالمثناة التحتية: قبيلتان. ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل:
أى لا ينقض عهدهم بسعى ساع أى بالنميمة والإفساد، كما يقال: لا أفسد ما بينى وبينك بمذاهب الأشرار وطرقهم فى الفساد. والسنة: الطريقة، والسنن أيضا. والعنقفير: بفتح العين المهملة وسكون النون وتقديم القاف، الداهية.
أى لا ينقض عهدهم بسعى الواشى ولا بداهية تنزل. ولعلع: جبل.
وما جرى اليعفور: بفتح التحتية، الخشف وولد البقرة الوحشية، وقيل:
هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء: زائدة. وبصلع: بضم الصاد المهملة وتشديد اللام، الأرض التى لا نبات فيها: وقوله- عليه الصلاة والسلام-: «وأهل الجناب الهضب» بكسر الجيم، اسم موضع. و «حفاف الرمل» أسماء بلادهم. «وفراعها» بكسر الفاء وبراء وعين مهملة، أى ما علا من الجبال أو الأرض. «ووهاطها» بكسر الواو، وبطاء مهملة، المواضع(2/57)
المطمئنة، واحدها وهط، وبه سمى الوهط، وهو مال كان لعمرو بن العاص بالطائف. وقيل الوهط: قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها.
«وعزازها» بفتح العين المهملة ثم زاءين مخففتين، ما صلب من الأرض واشتد وخشن، وإنما يكون فى أطرافها.
«ويأكلون علافها» بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالفاء، جمع علف، وهو ما تأكله الماشية. «وعفاها» بفتح وتخفيف الفاء وبالمد، أى المباح. «ومن دفئهم» بكسر الدال المهملة وسكون الفاء وبالهمز. قال فى المجمل: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها. «وصرامهم» بكسر الصاد المهملة وتخفيف الراء، أى من نخلهم. والثلب: بكسر المثلاثة واللام الساكنة وبباء موحدة، ما هرم من ذكور الإبل وتكسرت أسنانه. والناب: بالنون الموحدة:
الناقة الهرمة التى طال نابها. والفصيل: بالمهملة الذى انفصل عن أمه.
والفارض: بالفاء المسن من الإبل. والداجن: بالمهملة والجيم، الدابة التى تألف البيوت.
والكبش الحورى: بالحاء المهملة، وواو مفتوحتين فراء مكسورة: الذى فى صوفه حمرة. والصالغ: بالصاد المهملة والغين المعجمة، من صلغت الشاة ونحوها: إذا تمت أسنانها. والقارح: بالقاف والراء والحاء المهملة، من الخيل الذى دخل فى السنة الخامسة. انتهى.
وهذا من جنس كتابه لقطن بن حارثة العليمى من كلب.
هذا كتاب من محمد لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره الإسلام من غيرهم مع قطن ابن حارثة العليمى، بإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة بحقها فى شدة عقدها ووفاء عهدها، بمحضر من شهود المسلمين، وسمى جماعة منهم دحية بن خليفة الكلبى، عليهم من الهمولة الراعية البساط الظئار فى كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفى الشوى الورى مسنة حامل أو حائل، وفيما سقى الجدول من العين المعين العشر، وفى(2/58)
العشرى شطره بقيمة الأمين لا يزاد عليهم وظيفة ولا يفرق. شهد على ذلك الله ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس.
وتفسير غريبه أن قوله: ومن ظأره الإسلام: بالظاء المعجمة والهمز، آخره هاء أى: عطف عليه وعليهم. فى الهمولة: بفتح الهاء، التى ترعى بأنفسها. ولا تستعمل فعولة بمعنى مفعولة. والبساط: التى معها أولادها.
والظئار: أن تعطف الناقة على غير ولدها. والحمولة المائرة لهم لاغية: يعنى أن الإبل التى تحمل عليها الميرة- وهى الطعام ونحوه مما يجلب للبيع- لا يؤخذ منها زكاة لأنها عوامل.
وفى الشوى: بفتح الشين المعجمة وكسر الواو والياء المشددة: اسم جمع للشاة. والورى: السمينة. ومن هذا النمط كتابه- صلى الله عليه وسلم- لوائل بن حجر- بتقديم الحاء المضمومة على الجيم الساكنة- إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب، وذكر الفرائض فقال: فى التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك، وأنطوا الثبجة وفى السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما، ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم، ولا توصيم فى الدين، ولا غمة فى فرائض الله، وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفل على الأقيال.
وفسر الأقيال- وهو بالقاف والمثناة التحتية- بالرؤساء الذين دون الملوك.
والعباهلة: بالمهملة المفتوحة والموحدة، الذين أقروا على ملكهم لا يزالون.
والأوراع: - بفتح الهمزة وسكون الراء آخره عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات الحسان الوجوه. والمشابيب: - بفتح الميم والشين المعجمة وباءين موحدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة- السادة الرؤوس، الحسان الوجوه. وفى التيعة: - بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وبالعين المهملة- أربعون من الغنم. وفى القاموس والنهاية: أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان. ولا مقورة: بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو.
والألياط: - بفتح الهمزة وسكون اللام آخرها طاء مهملة- أى: لا(2/59)
مسترخية الجلود لكونها هزيلة. ولا ضناك: - بكسر المعجمة وتخفيف النون- ضدها وهى المستكثرة اللحم. وأنطوا: بقطع الهمزة أى أعطوا. والثبجة:
بالمثلاثة ثم موحدة ثم جيم مفتوحات، وقد تكسر الموحدة، أى أعطوا الوسط فى الصدقة لا من خيار المال ولا من رذلته. والسيوب: - بضم المهملة وآخره موحدة- أى: الركاز، قاله الهروى، وقيل: المال المدفون فى الجاهلية أو المعدن.
ومن زنى مم بكر: - بكسر الراء بلا تنوين، لأن أصله من البكر، لكن أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميما، وهى ساكنة فأدغمت النون فيها، والمراد بالبكر الجنس، وقال ابن الأثير: أى من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميما، أما مع بكر فلأن النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميما فى النطق، نحو: عنبر وشنبا، وأما مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف. انتهى.
و: فاصقعوه: بهمزة وصل وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف وضم العين المهملة، أى: اضربوه. واستوفضوه: بهمزة وصل وكسر الفاء وضم الضاد المعجمة، أى: غربوه وانفوه. وفضرجوه: بالضاد المعجمة وتشديد الراء وبالجيم. وبالأضاميم: بفتح الهمزة والضاد المعجمة، أى: أدموه بالضرب بجماهير الحجارة. ولا توصيم: بصاد مهملة مكسورة، أى لا كسل عن إقامة الحدود. ولا غمة: بضم المعجمة وتشديد الميم، أى لا تستر ولا تخفى.
ويترفل: بتشديد الفاء المفتوحة: يتسود ويترأس، استعارة من ترفيل الثوب وهو إسباغه وإسباله. وقريب من هذا، كتابه لأكيدر وأهل دومة، كما قدمته فى مكاتباته- صلى الله عليه وسلم-.
وقال- صلى الله عليه وسلم- فى حديث عطية السعدى: «فإن اليد العليا هى المنطية والسفلى هى المنطاة» «1» قال: فكلمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلغتنا.
__________
(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 363) ، والبيهقى فى «الكبرى» (4/ 198) ، والطبرانى فى «الكبير» (17/ 166 و 169) ، من حديث عروة بن محمد عن أبيه عن جده- رضى الله عنه- والمنطية: هى العطية، والمنطاة: هى المعطاة أى السائلة.(2/60)