فخرج عمر على النّاس؛ وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يمت، وليرجعنّه الله عزّ وجلّ، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنّون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموت، إنّما واعده الله عزّ وجلّ كما واعد موسى؛ وهو آتيكم.
وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّه لم يمت، والله لا أسمع أحدا يذكر ...
(فخرج عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (على النّاس) - وقد سلّ سيفه- (وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت) ، وتوعّد بالقتل من يقول: مات؟
قال: (وليرجعنّه الله عزّ وجلّ، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من المنافقين) . زاد في رواية: وألسنتهم. وهذا قاله بناء على ما قام عنده، وأدّاه إليه اجتهاده؛ أنّه لا يموت حتّى يشهد على أمّته.
وفي «سيرة ابن إسحاق» ؛ عن ابن عبّاس، أنّ عمر قال له: إنّ الحامل له على هذه المقالة قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143/ البقرة] فظنّ أنّه صلى الله عليه وسلم يبقى في أمّته حتّى يشهد عليها.
قال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلّا ذلك، وليبعثه الله، فليقطّعنّ أيدي رجال من المنافقين وأرجلهم؛ (يتمنّون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت) . وكانوا أظهروا الاستبشار، وفرحوا بموته، ورفعوا رؤوسهم؛ كما عند ابن أبي شيبة.
وكان يقول: (إنّما واعده الله عزّ وجلّ كما واعد موسى) عليه الصّلاة والسّلام؛ فلبث عن قومه أربعين ليلة (وهو آتيكم)
وهذا قاله اجتهادا بالقياس، ثمّ رجع عنه.
(وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن) الكلام في موت (رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يمت) وأشهر سيفه قائلا: (والله لا أسمع أحدا؛ يذكر(4/285)
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات.. إلّا علوته بسيفي هذا.
وأمّا عليّ: فإنّه أقعد فلم يبرح في البيت.
وأمّا عثمان: فجعل لا يكلّم أحدا؛ يؤخذ بيده فيجاء به، ويذهب به.
ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعبّاس، فإنّ الله عزّ وجلّ أيّدهما بالتّوفيق والسّداد، وإن كان النّاس لم يرعووا إلّا بقول أبي بكر، حتّى جاء العبّاس فقال: ...
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلّا علوته) - أي: ضربته- (بسيفي هذا) لما حصل له من الدّهشة والحزن.
(وأمّا عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (فإنّه أقعد؛ فلم يبرح في البيت) ولم يستطع حراكا.
(وأمّا عثمان) بن عفّان رضي الله عنه؛ (فجعل لا يكلّم أحدا) ، وإنّما (يؤخذ بيده؛ فيجاء به، ويذهب به) ، وهو لا يستطيع الكلام لعظم المصيبة الّتي نزلت بهم.
(ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر) الصّدّيق ثباتا؛ وهو المحبّ الأكبر!! وذلك أدلّ دليل على شجاعة الصّدّيق، فإنّ الشّجاعة حدّها:
ثبات القلب عند حلول المصائب. ولا مصيبة أعظم من موت النّبي صلى الله عليه وسلم!!.
(و) لم يكن أحد من المسلمين في مثل حال (العبّاس) بن عبد المطلب في الثّبات؛ بعد أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنهما (فإنّ الله عزّ وجلّ أيّدهما بالتّوفيق والسّداد) أي: الصّواب في القول (وإن كان النّاس لم يرعووا) ؛ أي: لم ينكفّوا (إلّا بقول أبي بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (حتّى) إنّه (جاء العبّاس؛ فقال) لهم: إنّه مات، فلم ينكفّوا إلّا بقول الصّدّيق.(4/286)
والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30- 31] .
وبلغ أبا بكر الخبر- وهو في بني الحارث بن الخزرج- ...
وكان من جملة ما قال العبّاس رضي الله عنه: (والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم) - أي: في حال حياته- (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ) ؛ أي: ستموت ويموتون؛ فلا شماتة بالموت، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (31) [الزمر] .
وروى ابن إسحاق وعبد الرزّاق والطّبراني: أنّ العبّاس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: لا. قال: فإنّه قد مات، ولم يمت حتّى حارب وسالم، ونكح وطلّق، وترككم على محجّة واضحة!!.
وهذا من موافقات العبّاس للصّدّيق رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم؛ من طريق الواقدي عن شيوخه: أنّهم شكّوا في موته صلى الله عليه وسلم؛! فقال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت. فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه؛ فقالت: قد توفّي. قد رفع الخاتم من بين كتفيه.
وأخرجه ابن سعد؛ عن شيخه الواقدي أيضا، وذكر مغلطاي في «الزّهد» :
أنّ الحاكم روى في «تاريخه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها لمست الخاتم حين توفّي صلى الله عليه وسلم؛ فوجدته قد رفع. قال الشّامي: ولا إخاله صحيحا. قال الزّرقانيّ: وكان هذا من جملة ما عرف به موته صلى الله عليه وسلم وعرفه الصّدّيق بشمّ ريح الموت من فمه صلى الله عليه وسلم.
(وبلغ أبا بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (الخبر؛ وهو) غائب بالسّنح (في بني الحارث بن الخزرج) قبيلة من الأنصار؛ كانت مساكنهم بالسّنح أي:
بالعوالي قرب المدينة المنوّرة؛ على ميل من المسجد النّبويّ، وكان أبو بكر قد(4/287)
فجاء، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه، فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين، فقد- والله- توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ثمّ خرج إلى النّاس فقال: أيّها النّاس؛ من ...
تزوّج حبيبة بنت خارجة بن زيد بن زهير بن مالك بن امرىء القيس بن مالك الأغرّ الأنصاريّة الخزرجيّة. صحابيّة بنت صحابيّ، وكان قد سكن بها هناك، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الاثنين خفيف المرض؛ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذّهاب إليها فذهب، فمات النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غيبته.
(فجاء) على فرس لمّا بلغه خبر الوفاة (ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه؛ فقبّله) بين عينيه وبكى.
(ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله) الباء متعلّقة بمحذوف؛ أي: أنت مفديّ بأبي، فهو مرفوع: مبتدأ وخبر، أو [تفدى] «1» فعل، فما بعده نصب، أي:
فديتك. (ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين) قيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرّدّ على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنّه لو صحّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، إذ لا بدّ من الموت قبل يوم القيامة، فأخبر أنّه أكرم على الله أن يجمع عليه موتتين؛ كما جمعهما على غيره، كالّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وهم قوم من بني إسرائيل؛ وقع الطّاعون ببلادهم ففرّوا، فقال لهم الله:
موتوا فماتوا، ثمّ أحياهم بعد ثمانية أيّام؛ أو أكثر، بدعاء نبيّهم حزقيل، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت؛ لا يلبسون ثوبا إلّا عاد كالكفن! واستمرّت في أسباطهم، وهذا أظهر الأجوبة، وأسلمها من الاعتراض.
(فقد والله؛ توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ خرج إلى النّاس؛ فقال: أيّها النّاس؛ من
__________
(1) أضفتها للإيضاح.(4/288)
كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت. قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] .
فكأنّ النّاس لم يسمعوا هذه الآية إلّا يومئذ.
كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات!! ومن كان يعبد ربّ محمّد؛ فإنّه حيّ لا يموت) .
وقال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ، و (قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) ؛ أي: مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) رجعتم إلى الكفر. والجملة الأخيرة محلّ الاستفهام الإنكاريّ، أي: ما كان معبودا فترجعوا، نزلت لمّا أشيع يوم أحد أنّه صلى الله عليه وسلم قتل، وقال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم (.. الآية) اختصار من المصنّف، وإلّا؛ فهي متلوّة كلّها عند البخاريّ؛ فقال: مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنّما يضرّ نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران] نعمه بالثّبات.
وفي حديث ابن عبّاس عند البخاري: إنّ أبا بكر خرج وعمر بن الخطّاب يكلّم النّاس؛ فقال فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس!! فأقبل النّاس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أمّا بعد؛ فمن كان يعبد محمّدا فإن محمّدا قد مات؟! ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت. قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] ، زاد في رواية البخاريّ إلى قوله الشَّاكِرِينَ قال ابن عبّاس: والله؛ لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ الله أنزل هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، فتلقّاها النّاس منه كلّهم، فما أسمع بشرا من النّاس إلّا يتلوها، كما قال المصنّف:
(فكأنّ) - بتشديد النّون- (النّاس لم يسمعوا هذه الآية إلّا يومئذ!!) أي: يوم إذ تلاها أبو بكر.(4/289)
.........
قال الكرمانيّ: فإن قلت: ليس فيها أنّه صلى الله عليه وسلم قد مات؟ وأجاب: بأنّ أبا بكر تلاها لأجل أنّه صلى الله عليه وسلم قد مات.
وفي حديث ابن عمر؛ عند ابن أبي شيبة: أنّ أبا بكر مرّ بعمر وهو يقول:
ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت، حتّى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار وفرحوا بموته؛ ورفعوا رؤسهم.
فقال أبو بكر لعمر: أيّها الرّجل؛ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) [الأنبياء] ثمّ أتى أبو بكر المنبر فصعد عليه، فحمد الله، وأثنى عليه، فذكر خطبته: أمّا بعد؛ من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] الآية.
وفي البخاري أنّ عمر قال: والله؛ ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت، حتّى ما تقلّني رجلاي، وحتّى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات..
وفي هذا أدلّ دليل على شجاعة الصّدّيق، فإنّ الشّجاعة حدّها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ قال أكثر النّاس:
لم يمت رسول الله.
واضطرب الأمر فكشفه الصّدّيق بهذه الآية، وكشف عن النّاس اضطرابهم.
ففيه قوّة جأشه، وكثرة علمه، وثباته، وهو المحبّ الأكبر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه على ذلك العبّاس- كما تقدّم- ووافقه المغيرة؛ كما رواه ابن سعد، وابن أمّ مكتوم كما في «مغازي أبي الأسود» ؛ عن عروة، قال: إنّ ابن أمّ مكتوم كان يتلو إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ، والنّاس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصّحابة على خلاف ذلك.(4/290)
وفي رواية: أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر..
دخل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعيناه تهملان، وغصصه ترتفع كقصع الجرّة.
و (الجرّة- بالكسر-) : ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه.
و (قصعها) : إخراجها مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ.
فيؤخذ منه: أنّ الأقلّ عددا في الاجتهاد قد يصيب؛ ويخطئ الأكثر، فلا يتعيّن التّرجيح بالأكثر، ولا سيّما إن ظهر أنّ بعضهم قلّد بعضا؛ قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
(وفي رواية) - ذكرها في «الإحياء» ، قال العراقي: رواها ابن أبي الدّنيا في كتاب «القراء» ؛ من حديث ابن عمر بسند ضعيف-.
(أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر) ؛ أي: خبر وفاته صلى الله عليه وسلم جاء ف (دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وعيناه تهملان) - بضمّ الميم- أي: تسيلان بالدّموع وزفراته تتردّد، (وغصصه) - جمع غصّة بالضمّ؛ كغرف وغرفة- وهي: ما يغصّ به الإنسان من طعام أو غيظ؛ على التّشبيه، (ترتفع) ؛ أي: تتصاعد وتكثر (كقصع الجرّة، والجرّة- بالكسر-) ؛ أي:
بكسر الجيم، وتشديد الرّاء (: ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه) أي:
تمضغه مرّة بعد أخرى (وقصعها) هو: إخراج الجرّة من الجوف إلى الشّدق؛ ومتابعة بعضها بعضا، وقد قصعت النّاقة بجرّتها: ردّتها إلى جوفها، أو مضغتها، أو قصع الجرّة: هو شدّة المضع، وضمّ بعض الأسنان على بعض؛ نقله الجوهريّ عن أبي عبيد، وبكلّ ما ذكر فسّر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، وإنّها لتقصع بجرّتها. وقال أبو سعيد الضّرير: قصع النّاقة الجرّة: (إخراجها) من الجوف إلى الشّدق (؛ مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ) .(4/291)
وهو في ذلك جلد الفعل والمقال، فأكبّ عليه، فكشف عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه وجعل يبكي ويقول:
بأبي أنت وأمّي ونفسي وأهلي، طبت حيّا وميتا، ...
وإنّما تفعل النّاقة ذلك إذا كانت مطمئنّة ساكنة لا تسير، فإذا خافت شيئا قطعت الجرّة؛ ولم تخرجها، قال: وأصل هذا من: تقصّع اليربوع التّراب، فجعل هذه الجرّة إذا دسعت بها الناقة بمنزلة التّراب الّذي يخرجه اليربوع من قاصعائه. انتهى؛ من «شرح القاموس» وغيره.
(وهو) ؛ أي: أبو بكر الصّدّيق (مع ذلك جلد الفعل والمقال) ؛ أي: ثابت العقل فيها، (فأكبّ عليه) وهو مسجّى (فكشف) الثّوب (عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه، وجعل) يقبّله و (يبكي، ويقول: بأبي أنت؛ وأمّي؛ ونفسي؛ وأهلي، طبت حيّا وميتا) .
فيه جواز التّفدية بالأب والأمّ، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها، ولا تقصد معناها الحقيقيّ، إذ حقيقة التّفدية- بعد الموت- لا تتصوّر؛ قاله الحافظ ابن حجر.
ووقع في حديث ابن عبّاس؛ وعائشة عند البخاري: أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما مات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ففيه- كتقبيله [صلى الله عليه وسلم] لعثمان بن مظعون بعد موته- جواز تقبيل الميت تعظيما وتبرّكا. وفي رواية غير البخاري كذلك.
ووقع في رواية الإمام أحمد؛ عن عائشة: أنّ أبا بكر أتاه من قبل رأسه فحدر فاه؛ فقبّل جبهته، ثمّ قال: وانبيّاه!! ثمّ رفع رأسه فحدر فاه ثانيا؛ وقبّل جبهته، ثمّ قال: واصفيّاه!، ثمّ رفع رأسه فحدر فاه ثالثا؛ وقبّل جبهته، وقال:
واخليلاه!.(4/292)
انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصّفة، وجللت عن البكاء، وخصّصت حتّى صرت مسلاة، وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء، ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك؛ لجدنا لحزنك بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا عليك ماء العيون.
وعند ابن أبي شيبة؛ عن ابن عمر: فوضع أبو بكر فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقبّله، ويبكي، يقول: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميتا.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبيّاه، واصفيّاه، واخليلاه!! أخرجه الحسن بن عرفة بن يزيد العبديّ؛
أبو علي البغداديّ، الصّدوق؛ المتوفّى سنة: سبع وخمسين ومائتين؛ وقد جاوز المائة. ذكره الطّبريّ في «الرّياض النّضرة» قال:
ولا تخالف بين هذا- على تقدير صحّته- وبين ما تقدّم؛ ممّا تضمّن ثبات أبي بكر الصّدّيق، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق؛ خافتا بها صوته، ثمّ التفت إليهم وقال ما قال.
(انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء) قبلك، وهو النّبوّة والرّسالة، لأنك آخر الأنبياء، (فعظمت عن الصّفة) ؛ أي: النّعت، أي: إنّ كلّ صفة تقصر عنك، (وجللت عن البكاء) لأنّه لا يوازيك، (وخصّصت حتّى صرت مسلاة) ؛ أي: بحيث يتسلّون بك، (وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء.
ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك) إذ خيّرت بينه وبين الخلد (لجدنا- لحزنك- بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا) : أفنينا (عليك ماء الشّؤون) ؛(4/293)
فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا.. فكمد وادّكار محالفان لا يبرحان، اللهمّ فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليك- عند ربّك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة.. لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا، واحفظه فينا.
وعن ابن عمر أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت وصلّى وأثنى.. عجّ أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى؛ كلّما ذكر شيئا.. ازدادوا، ...
أي: مدامع العيون (فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا) ؛ أي: لا نقدر على إزالته! (فكمد) - بفتح الكاف والميم- أي: حزن (وادّكار محالفان) أي: ملازمان (لا يبرحان.
اللهمّ؛ فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليك- عند ربّك) تعالى، (ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة، لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا؛ واحفظه فينا) ؛ ذكره الغزاليّ في «الإحياء» .
(و) أخرج سيف بن عمر التّميميّ في كتاب «الرّدة» له- كما في «شرح الإحياء» - عن سعيد بن عبد الله؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما.
(أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت) أي: حجرة عائشة رضي الله عنها (وصلّى وأثنى؛ عجّ أهل البيت عجيجا) أي: رفعوا صوتا (سمعه أهل المصلّى) ؛ وهم خارج المدينة المنوّرة، باعتبار ما كان في الزّمن النّبويّ.
(كلّما ذكر شيئا) من الثّناء (ازدادوا) نحيبا وبكاء.
أخرج ابن عساكر؛ عن أبي ذؤيب الهذليّ؛ الشّاعر المشهور، واسمه:
خويلد بن خالد، كان فصيحا كثير الغريب، عاش في الجاهليّة دهرا، وأدرك(4/294)
فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل على الباب صيّت جلد؛ قال:
السّلام عليكم يا أهل البيت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] .
إنّ في الله خلفا من كلّ أحد، ودركا لكلّ رغبة، ...
الإسلام؛ فأسلم، وعامّة شعره في حال إسلامه، قال:
بلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليل، فأوجس أهل الحيّ خيفة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبتّ بليلة طويلة، حتّى إذا كان قرب السّحر نمت، فهتف بي هاتف في منامي؛ وهو يقول:
خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النّخيل ومقعد الآطام
قبض النّبيّ محمّد فعيوننا ... تذري الدّموع عليه بالتّسجام
قال: فوثبت من نومي فزعا، فنظرت إلى السّماء، فلم أر إلّا سعد الذّابح، فعلمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبض؛ أو هو ميّت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج؛ إذا أهلّوا بالإحرام، فقلت: مه؟! فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ثمّ حضر أبو ذؤيب سقيفة بني ساعدة، وسمع خطبة أبي بكر الصّدّيق، ورثى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقصيدة منها:
كسفت لمصرعه النّجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح
(فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل) . ولفظ الحديث- كما في «شرح الإحياء» -: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء أبو بكر حتّى دخل عليه، فلمّا رآه مسجّى قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ صلّى عليه، فرفع أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى، فلمّا سكن ما بهم سمعوا تسليم رجل (على الباب صيّت) ؛ أي: جهير الصّوت (جلد) قويّ؛ (قال: السّلام عليكم يا أهل البيت) ورحمة الله وبركاته، فرددنا عليه مثل ذلك، فقال:
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) : جزاء أعمالكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) [185/ آل عمران] ... (الآية) .
إنّ في الله خلفا من كلّ أحد) هالك (ودركا لكلّ رغبة) ؛ أي: مرغوب فيه(4/295)
ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا، فاستمعوا له وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء.. فقد صوته؛ فاطّلع أحدهم فلم ير أحدا، ثمّ عادوا فبكوا، فناداهم مناد آخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال..
تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا.
فقال أبو بكر: هذا الخضر واليسع عليهما السّلام؛ قد حضرا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
فائت، (ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا) : اعتمدوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب.
(فاستمعوا له، وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء فقد صوته.
فاطّلع أحدهم) إلى الباب (فلم ير أحدا.
ثمّ عادوا فبكوا؛ فناداهم مناد آخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال؛ تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء) : تسلية (من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا) . في شرح «الإحياء» بدله: وعوضا من كلّ هلكة؛ فبالله فثقوا، وإيّاه فأطيعوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب.
(فقال أبو بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (: هذا الخضر) - بفتح الخاء، وكسر الضّاد المعجمتين- واسمه: بليا بن ملكان، (واليسع) .
قال العراقيّ: لم أجد فيه ذكر اليسع!!.
وفي «شرح الإحياء» : هذا الخضر وإلياس (عليهما السّلام قد حضرا) وفاة (النّبيّ صلى الله عليه وسلم) .(4/296)
.........
قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ؛ بعد أن أورده: وسيف فيه مقال، وشيخه لا يعرف. انتهى.
قال «شارح الإحياء» قلت: هو سعيد بن عبد الله بن ضرار بن الأزور، روى عن أبيه وعن غيره، وفيه وفي أبيه مقال، وقد تقدّم قريبا.
ثمّ قال العراقيّ: وأمّا ذكر الخضر في التّعزية!! فأنكر النّوويّ وجوده في كتب الحديث، وقال: إنّما ذكره الأصحاب.
قلت «1» : بل قد رواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أنس، ولم بصحّحه، ولا يصحّ. انتهى.
قلت: وجدت بخطّ الشّمس الداودي ما نصّه: قول الشّيخ «إنّ الحاكم لم يصحّحه» صحيح، لكنّه مشعر بكونه لم يضعّفه!! وليس كذلك، فإنّه ساقه من رواية عبّاد بن عبد الصّمد، ثمّ قال: وعباد ليس من شرط هذا الكتاب!. انتهى ملخّصا من «شرح الإحياء» فراجعه فيه، فإنّه ساق الحديث من وجوه عديدة من طريق أنس؛ وعليّ بن أبي طالب مرفوعا؛ ومرسلا بألفاظ مختلفة.
وما في هذا الحديث يدلّ على حياة الخضر، وقد أنكره جماعة؛ منهم ابن الجوزي، وقال: إنّه لو كان حيّا لاجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو اجتمع به لورد!!
وقد ردّ النّاس على من أنكر ذلك. قال ابن الصّلاح: الخضر حيّ عند جماهير العلماء والصّالحين، وإنّما شذّ بإنكاره بعض المحدّثين.
وقال النّوويّ في «شرح مسلم» : جمهور العلماء أنّه حيّ موجود بين أظهرنا، وذلك متّفق عليه عند الصّوفيّة، وأهل الصّلاح والمعرفة. انتهى.
وألّف غير واحد كتبا في ذلك، آخرهم شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر
__________
(1) الكلام للعراقي. والتي بعدها للمؤلف الشارح.(4/297)
واستوفى القعقاع بن عمرو [رضي الله تعالى عنه] حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس عبراتهم بخطبة جلّها الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال، ...
العسقلاني رحمه الله تعالى «1» . وقد ذكر الخضر في «الإصابة» وبسط الكلام فيه بما لا يوجد لغيره.
وقد ورد في عدّة أحاديث اجتماعة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم! وعندي أنّها وإن كانت ضعيفة؛ فكثرة الطّرق والأخبار تقوّيها، وتعزيته للصّحابة عند موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقول عليّ بن أبي طالب «هذا الخضر» ، وسكوت الصّحابة على ذلك يكاد يكون إجماعا، وقصّة اجتماعه بعمر بن عبد العزيز: إسنادها صحيح. انتهى كلام السّيوطيّ في كتاب «تأييد الحقيقة العليّة وتشييد الطريقة الشاذلية» ص (88) رحمه الله تعالى.
قال في «الإحياء» : (واستوفى القعقاع بن عمرو) التّميميّ أخو عاصم (حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه) ، وكان القعقاع من الفرسان الشّجعان، قيل: إنّ أبا بكر كان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل! وله في قتال الفرس بالقادسيّة وغيرها بلاء عظيم، وهو الّذي غنم في فتح المدائن أدراع كسرى، وكان فيها درع لهرقل، ودرع لخاقان، ودرع للنّعمان، وسيفه، وسيف كسرى، فأرسلها سعد إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما.
قال ابن عساكر: يقال: إنّ له صحبة! وكان أحد فرسان العرب وشعرائهم، شهد فتح دمشق، وأكثر فتوح العراق، وله في ذلك أشعار مشهورة.
وقال ابن السّكن: ويقال: هو القعقاع بن عمرو بن معبد التّميمي.
(فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس عبراتهم بخطبة جلّها) ؛ أي: معظمها (الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم) ثمّ بيّن نصّ الخطبة، فقال:
(فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال) من الأحوال في السّرّاء والضّراء،
__________
(1) بل ألف بعده: ملّا علي قاري رحمه الله.(4/298)
وقال: أشهد ألاإله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد وحده.
وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، وأشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الدّين كما شرع، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ القول كما قال، وأنّ الله هو الحقّ المبين.
(وقال: أشهد ألاإله إلّا الله) أعلم وأعتقد بقلبي، وأبيّن لغيري ألامعبود بحقّ في الوجود إلّا الله (وحده) حال كونه منفردا، (صدق وعده) بإظهار دينه، (ونصر عبده) محمّدا رسوله صلى الله عليه وسلم، (وغلب الأحزاب) : جماعات الكفّار الّذين تجمّعوا يوم الخندق لاستئصال النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فهزمهم الله (وحده) بدون عدّة ولا عدد، (فلله الحمد وحده.
وأشهد) : أعلم وأعتقد بقلبي، وأبيّن لغيري (أنّ) سيّدنا (محمّدا عبده) إنّما قدّم الوصف بالعبودية على الوصف بالرّسالة!! امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن قولوا:
عبد الله ورسوله» . ومعنى العبودية: التّذلّل والخضوع، وهي: وصف شريف جليل، ولذا وصف بها في أشرف المقامات؛ كمقام الإسراء، فقال تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [1/ الإسراء] ومقام إنزال الكتاب قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [1/ الكهف] (ورسوله) أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، (وخاتم أنبيائه) ورسله، قال تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [40/ الأحزاب] ويلزم من ختم الأعمّ ختم الأخصّ.
(وأشهد أنّ الكتاب) القرآن (كما نزل) لم يقع فيه تغيير، ولا تبديل؛ بل هو كما أنزله الله حقّ وصدق، (وأنّ الدّين كما شرع) الله، وهو دين صحيح سماويّ، (وأنّ الحديث كما حدّث) ممّا تضمّنه القرآن، (وأنّ القول كما قال) ، فهو مطابق للواقع، (وأنّ الله هو الحقّ) المتحقّق الثّابت وجوده (المبين) : البيّن الظّاهر الّذي لا خفاء فيه.(4/299)
اللهمّ؛ فصلّ على محمّد عبدك، ورسولك، ونبيّك، وحبيبك، وأمينك وخيرتك، وصفوتك.. بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك.
اللهمّ؛ واجعل صلواتك، ومعافاتك، ورحمتك، وبركاتك.. على سيّد المرسلين، وخاتم ...
(اللهمّ) - بميم مشدّدة مزيدة آخرا؛ عوضا من حرف النّداء، إذ أصله: يا الله- قال الفاسي: هو توجّه للمطلوب، وطلب لحصول المرغوب بالتّوسّل بالاسم الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. وإنما جعل هذا الاسم العظيم في أوائل الأدعية غالبا!! لأنّه جامع لجميع معاني الأسماء الكريمة، وهو أصلها.
(فصلّ) ؛ أي: أثن عليه عند ملائكتك، أو شرّف وكرّم، أو عظّم أو اعتن وزد الخير، أو اجعل اللّطف والرّحمة المقترنة بالتّعظيم المنبعثة عن العطف والحنان (على محمّد عبدك؛ ورسولك؛ ونبيّك؛ وحبيبك؛ وأمينك) على وحيك، (وخيرتك) من خلقك، (وصفوتك) من عبادك (بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك.
اللهمّ؛ واجعل صلواتك) جمع صلاة؛ أي: حنانك ورحمتك وعطفك، (ومعافاتك ورحمتك) بإفراد لفظ «رحمة» و «معافاة» ؛ وجمع ما سواهما.
وفيه دليل للدّعاء له صلى الله عليه وسلم بالرّحمة، لكن بالتّبع لغيرها؛ كما هنا.
(وبركاتك) جمع بركة؛ أي: خيراتك النّامية نازلة ومتوالية.
(على سيّد المرسلين) ؛ أي: رئيسهم وأفضلهم، أي: أفرغ وأحلل عليه، فيعمّه ويشمله من كلّ وجه، ويكون محلّا لهذه الفضائل.
(وخاتم) ؛ بفتح التّاء وكسرها، وقد قرىء بهما معا في قوله تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [40/ الأحزاب] فبالفتح: اسم لما يختم به، فهو كالخاتم والطابع، الّذي هو آلة للختم الّذي يكون عند التّمام والانتهاء. وبالكسر: بمعنى(4/300)
النّبيّين وإمام المتّقين، محمّد قائد الخير، وإمام الخير، ورسول الرّحمة.
أنّه ختم (النّبيّين) ؛ أي: جاء آخرهم، فلم يبق بعده نبيّ ولا معه.
(وإمام المتّقين) ؛ أي: قدوتهم. وأصل الإمام: المتّبع والهادي لمن اتّبعه، والمتقدّم بين يدي القوم، والشّفيع لمن خلفه.
والمتّقين: جمع متّق؛ وهو: الممتثل لأوامر الله تعالى المجتنب لنواهيه، ثم يتّقي الشّبهات، ثمّ الشهوات والفضلات، وكلّ ما يوجب النّقص؛ أو البعد عن الله، ثمّ يتّقي غير الله أن يساكنه باعتماد؛ أو ميل؛ أو استناد.
وهو صلّى الله عليه وسلم أتقى الخلق لله، وأعرفهم به، وأشدّهم له خشية، وأكثرهم له طاعة، وأجهدهم في عبادته، وتقواه لا تدرك؛ ولا يبلغها التّعبير، ولا تدرى نهاية ما إليه بها يشير، فهو المتقدّم عليهم وقدوتهم وقائدهم إلى الصّراط المستقيم.
(محمّد قائد) ؛ اسم فاعل من قاده يقوده: جذبه من أمام، بسبب حسّي أو معنويّ ليتبعه (الخير) هو: كلّ أمر محمود لموافقته للغرض، والمراد: أنّه صلى الله عليه وسلم قائد إلى الصّراط المستقيم؛ الموصل إلى الأغراض؛ الموافقة في الآخرة، حيث النّفع الذي لا ضرر فيه، والحسن الّذي لا قبح معه، والمحبوب الّذي لا مكروه عنده، فكأنّ الإضافة على معنى اللّام، أي قائد إلى الخير.
(وإمام الخير) الإضافة على معنى «في» أي: إمام في الخير، أو بمعنى:
اللّام؛ أي: إمام موصل إلى الخير.
(ورسول الرّحمة) قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] وقال تعالى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) [التوبة] وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا رحمة مهداة» ، وقال: «إنّما بعثت رحمة، ولم أبعث عذابا» فبعثه الله تعالى رحمة لأمّته؛ ورحمة للعالمين، حتّى للكفّار بتأخير العذاب، وللمنافقين بالأمان، فمن(4/301)
اللهمّ؛ قرّب زلفته، وعظّم برهانه، وكرّم مقامه، وابعثه مقاما محمودا ...
اتّبعه رحم به في الدّنيا بنجاته فيها من العذاب؛ والخسف والقذف والمسخ والقتل وذلّة الكفر والجزية؛ ورحم قلبه بالإيمان بالله، ونجا من صلاء نيران القطيعة عن الله. وفي الآخرة بنجاته فيها من العذاب المخلّد؛ والخزي المؤبّد، وبتعجيل الحساب؛ وتضعيف الثّواب، وحصوله على الخير الكثير والملك الكبير.
(اللهمّ) يا الله؛ (قرّب زلفته) ؛ أي: زده قربا، (وعظّم برهانه) : أي حجّته، أي: زدها عظاما. وتقوية وبهورا، (وكرّم مقامه) ؛ أي: زده تكريما ورفعة، (وابعثه) هو فعل دعاء؛ من بعثه يبعثه- مفتوح العين فيهما- بعثا، وهو: إثارة ساكن في حالة أو وصف أو حكم؛ كنوم أو موت أو أيّ حالة ووصف كان، وتحريكه نحو حالة ووصف آخر؛ كاليقظة والحياة والقيام ونحوها (مقاما) بفتح الميم الأولى-: اسم مصدر القيام، أو اسم مكانه.
وعلى الأوّل: يكون منصوبا على المفعول المطلق، لأنّ البعث والإثارة والإقامة بمعنى واحد.
وعلى الثّاني! فقيل: إنّه منصوب على الظّرفية بتقدير: ابعثه يوم القيامة؛ فأقمه. والقيام هنا بمعنى: الوقوف، أو بتضمين «ابعثه» معنى: أقمه.
وعلى كليهما!! يصحّ أن يكون منصوبا على أنّه مفعول به؛ على تضمين «ابعثه» معنى: أعطه، ويجوز أن يكون حالا، أي: ابعثه ذا مقام.
(محمودا) نعت للمقام، وهو من الإسناد المجازيّ؛ أي: محمودا صاحبه، أو القائم فيه، وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم لاختصاص الوصف بالحمد بذوي العلم، ولما جاء في الحديث: أنّه صلى الله عليه وسلم يحمده في هذا المقام الأوّلون والآخرون.
ونكّر «مقاما محمودا» !! قال الطّيبي: لأنّه أفخم وأجزل، كأنّه قيل: مقاما محمودا بكلّ لسان، وهو مطلق في كلّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات.(4/302)
يغبطه به الأوّلون والآخرون، وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة، واخلفه فينا في الدّنيا ...
وقيّدوه بأنّه: الشّفاعة العظمى في فصل القضاء؛ أي: تعجيل الحساب، يحمده فيه الأوّلون والآخرون، وادّعوا على ذلك الإجماع!!
ويشهد لذلك الأحاديث الصّحيحة الصّريحة، والآثار عن الصّحابة والتّابعين.
(يغبطه) صلى الله عليه وسلم؛ من غبطه يغبطه: كضربه يضربه. وقال في «القاموس» :
كضربه وسمعه. والاسم: الغطبة- بكسر الغين-؛ وهو تمنّي حصول مثل النّعمة الحاصلة للمنعم عليه؛ من غير زوالها عنه. وقد نظم بعضهم هذا المعنى؛ فقال:
وقد غبطت المرء في أحواله ... أغبطه- بالكسر- في أعماله
أعني: تمنّيت لنفسي مثل ما ... له، ولا يسلب تلك النّعما
وقد يراد بالغبطة لازمها؛ وهو المحبّة والسّرور بما رآه فقط.
(به) أي: فيه، أي: في هذا المقام (الأوّلون) : جمع أوّل، (والآخرون) : جمع آخر، يعني: من الحاضرين في ذلك اليوم.
والأوّل: ما يترتّب عليه غيره، ويستعمل في التّقدّم الزّمانيّ؛ والرّياسيّ؛ والوضعيّ؛ والنّسبيّ؛ والنّظم الصّناعيّ.
والآخر: ما يترتّب على غيره، ويستعمل في جميع ذلك، لكن في التّأخّر.
(وانفعنا بمقامه المحمود) ؛ بتخفيف الهول والحساب، وتقصير مدّة المقام، وإدخال الجنّة دار السّلام (يوم القيامة) معمول ل «انفعنا» .
وسمّي «يوم القيامة» ! لقيام السّاعة فيه، وقيام الخلق فيه من قبورهم، وقيامهم لربّ العالمين ما شاء الله، وقيامهم للحساب وقيام الحجّة لهم وعليهم، وله نحو مائة اسم! انظرها- إن شئت- في «البدور السّافرة» و «الإحياء» .
وأوّله من النّفخة الثّانية إلى استقرار الخلق في الدّارين: الجنّة والنّار.
(واخلفه فينا) بأحسن الخلف؛ (في الدّنيا) بملازمة الطّاعة، والتّمسّك(4/303)
والآخرة، وبلّغه الدّرجة والوسيلة في الجنّة.
اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، ...
بالشّريعة، (والآخرة) بأن تقرّ عينه بنا إذ نوافيه سالمين من التّغيير والتّبديل.
(وبلّغه الدّرجة) ؛ أي: المنزلة، وهي على حذف النّعت؛ أي: الرّفيعة، وهي الرّتبة الزّائدة على سائر الخلائق: العالية الشّأن، السّامية المكانة والمكان.
(والوسيلة) هي: أعلى درجة في الجنّة. هكذا في الحديث، وفي آخر- عند ابن عساكر- عن الحسن بن علي: «فإنّ وسيلتي عند ربّي شفاعة لكم» .
وقيل: الوسيلة هي القربة.
وقال الشيخ أبو محمد عبد الجليل القصري في «شعب الإيمان» : إنّ وسيلته صلى الله عليه وسلم هو: أن يكون في الجنّة، في قربه من الله تعالى بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل؛ لا يصل لأحد شيء إلّا بواسطته. انتهى.
وهو موافق لما تقدّم من تفسيرها بالشّفاعة لأمّته، ويفسّر العلوّ؛ في أنّها أعلى درجة في الجنّة بالعلوّ المعنويّ.
ومقتضى ما لابن كثير: أنّه فسّره بالعلوّ الحسّيّ؛ وهو قوله: الوسيلة علم على أعلى منزلة في الجنّة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنّة، وهي أقرب أمكنة الجنّة إلى العرش. انتهى. وكلاهما صحيح. والله أعلم؛ قاله الفاسي.
(في الجنّة) هي دار الثّواب في الآخرة.
(اللهمّ) ؛ أي: يا الله (صلّ على محمّد) ؛ أي: ارحمه رحمة مقرونة بالتّعظيم، (وعلى آل محمّد) هم: بنو هاشم وبنو المطّلب عند الشّافعي. ويحتمل أنّه أراد ب «آله» كلّ تقيّ، كما اختاره جماعة من العلماء، وقيل: إنّ آله جميع أمّته.
وفي إعادة كلمة «على» ردّ على الشّيعة في قولهم «إنّ جمع الآل مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة بكلمة- على- لا يجوز، ويجب ترك الفصل بينه وبين آله» ؟! وينقلون في ذلك حديثا لا يصحّ.(4/304)
وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم، ...
(وبارك) أي: أفض بركات الدّين والدّنيا، أو أدم ما أعطيت من التّشريف؛ والكرامة والبركة، وكثرة الخير والكرامة، ونمائهما، والزّيادة منهما. أو هي:
الثّبات على ذلك، أو هي: التّطهير والتّزكية من المعائب، أو هي: الزّيادة في الدّين والذّريّة (على محمّد، وعلى آل محمّد.
كما) - الكاف للتّشبيه، وقيل: للتعليل. و «ما» : مصدريّة؛ أو موصولة- (صلّيت) جملة هي صلة الموصول، فلا محلّ لها.
(وباركت) معطوف على «صلّيت» (على إبراهيم) الخليل عليه الصّلاة والسّلام بالتّشبيه بإبراهيم عليه السلام.
وهنا سؤال يورده العلماء قديما وحديثا.
وهي: أنّ القاعدة أنّ المشبّه بالشّيء أعلى رتبة أن يكون مثله، وقد يكون أدنى، وأما أعلى! فلا يكون. ومن المعلوم المقرّر في القواعد: أنّ نبيّنا محمّدا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام، فكيف يخرج عن ظاهر هذه الصّيغة الواردة في الحديث على القاعدة المقرّرة!؟
وقد أجابوا عن ذلك بأجوبة كثيرة؛ نذكر منها ما رأيناه أقرب.
منها أنّه: إنّما قيل ذلك لتقدّم الصّلاة على إبراهيم عليه السلام، وقول الملائكة في بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) [هود] ، أي: كما تقدّمت منك الصّلاة على إبراهيم عليه السلام، فنسأل منك الصّلاة على محمّد عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، لأنّ الّذي ثبت للفاضل ثبت للأفضل؛ بطريق الأولى، ولذلك ختم بما ختم الآية؛ وهو قوله: «إنّك حميد مجيد» .
والتّشبيه إنّما هو لأصل الصّلاة بأصل الصّلاة؛ لا للقدر بالقدر. فهو كقوله تعالى* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [163/ النساء] ، وقوله تعالى كُتِبَ(4/305)
.........
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [183/ البقرة] ، وقوله تعالى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [77/ القصص] .
ومنها أنّه قال ذلك تواضعا وشرعة لأمّته؛ ليكتسبوا به الفضيلة والثّواب.
ومنها أنّ الدّعاء للاستقبال، فما كان من خير قد أعطيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الدّعاء لم يقع في التّشبيه، وإنّما وقع في التّشبيه الزائد على ما كان عنده، فطلب أن يكون له مثل ما كان لإبراهيم؛ زيادة على ما خصّه الله تعالى به قبل السّؤال.
ومنها دفع المقدّمة المذكورة أوّلا؛ وهي: أنّ المشبّه به يكون أرفع من المشبّه: بأنّ ذلك ليس مطّردا؟! بل قد يكون التّشبيه بالمثل؛ بل بالدّون!! كما في قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [35/ النور] ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى!؟
ولكن لمّا كان المراد من المشبّه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسّامع؛ حسن تشبيه النّور بالمشكاة، وكذا هنا: لمّا كان تعظيم إبراهيم عليه السلام وآل إبراهيم بالصّلاة عليهم واضحا مشهورا عند جميع الطّوائف؛ حسن أن يطلب لمحمّد وآل محمّد بالصّلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم عليه السلام وآل إبراهيم عليه السلام.
ويؤيّد ذلك ختم الطّلب المذكور بقوله: في العالمين؛ كما جاء في رواية الصّلاة الإبراهيميّة، أي: كما أظهرت الصّلاة على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين. فالتّشبيه المذكور ليس من باب إلحاق النّاقص بالكامل، لكن من إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر.
وقالوا أيضا؛ في خصوص التّشبيه بإبراهيم دون غيره من الأنبياء- على جميعهم الصّلاة والسّلام-: إنّ ذلك لأبوّته، فكان أقرب إليه من غيره.
ولأن التّشبيه بالآباء والفضائل مرغوب فيه، ولرفعة شأنه في الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، ولما هو معروف لهم في هذه الملّة الشّريفة؛ ممّا لا يحتاج إلى تعريف به، ولا بيان له؛ الّذي منه موافقته في معالم الملّة. وكأنّ هذا يلاحظ قوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [78/ الحج] .(4/306)
إنّك حميد مجيد.
يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا.. فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله.. فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله قد تقدّم إليكم في أمره فلا تدعوه ...
ولأنّه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى ذلك كلّه إلى يوم الدّين، ويجعل له به لسان صدق في الآخرين، كما جعله لإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام؛ مقرونا بما وهب الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولمشاركته له في التأذين بالحجّ وإجابة لدعائه بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) [الشعراء] ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به.
وممّا يعزى للشيخ أبي محمد المرجاني أنّه قال: سرّ التشبيه بإبراهيم؛ دون موسى عليهما السّلام!! لأنه كان التجلّي له بالجلال؛ فخرّ موسى صعقا، والخليل إبراهيم كان التجلي له بالجمال، لأنّ المحبّة والخلّة من آثار التجلّي بالجمال، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلّوا عليه كما صلى على إبراهيم، ليسألوا له التجلّي بالجمال؛ لا التسوية فيه، فيتجلّى لكل منهما بحسب مقامه ورتبته عنده.
(إنّك حميد) ؛ فعيل بمعنى مفعول، لأنّه حمد نفسه وحمده عباده. أو بمعنى فاعل، لأنه الحامد لنفسه؛ ولأعمال الطّاعات من عباده.
(مجيد) من المجد؛ وهو الشرف والرفعة وكرم الذات والفعال التي منها كثرة الأفضال، والمعنى إنّك أهل الحمد والفعل الجميل والكرم والإفضال؛ فأعطنا سؤلنا ولا تخيّب رجاءنا.
(يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله تقدّم إليكم في أمره) ، أي: قدّم لكم في كلامه إذ قال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [34/ الأنبياء] ، (فلا تدعوه) : تتركوا العمل به(4/307)
جزعا، فإنّ الله عزّ وجلّ قد اختار لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فمن أخذ بهما.. عرف، ومن فرّق بينهما..
أنكر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] .
ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم، ولا يفتننّكم عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير تعجزوه، ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم.
(جزعا) ؛ لأجل الجزع، أي: شدّة الحزن الذي أصابكم بموته.
(فإنّ الله عزّ وجلّ قد اختار لنبيّه صلى الله عليه وسلم ما عنده) من الكرامة في الآخرة؛ (على ما عندكم) من متاع الحياة الدنيا، (وقبضه إلى ثوابه) وجنّته؛ بعد أن ترككم على المحجّة البيضاء.
(وخلّف فيكم كتابه) القرآن، (وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم) ؛ أي: جعلهما يخلفانه في استفادة الأحكام الشرعية فتمسّكوا بهما، (فمن أخذ) ؛ أي: تمسّك (بهما) ؛ أي: الكتاب والسنّة وعمل بما فيهما (عرف) ؛ أي: فعل أمرا معروفا في الشرع وصار من العارفين. (ومن فرّق بينهما أنكر) أي: أتى أمرا منكرا، لأن السنة بيان للكتاب، فهما متلازمان في تطبيق الأحكام الشرعية لا تناقض بينهما ولا تخالف.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) ؛ أي مديمين القيام (بِالْقِسْطِ) [135/ النساء] : بالعدل، فمن عدل مرة أو مرتين لا يكون قوّاما.
(ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم) عن الاستقامة على الحقّ، (ولا يفتننّكم) الشيطان بالرجوع (عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير) ؛ أي:
تحصنوا منه بعمل الخير (تعجزوه) ؛ أي: يندفع عنكم، (ولا تستنظروه) :
تمهلوه حتى يتمكّن منكم (فيلحق بكم ويفتنكم) .
رواه بطوله سيف بن عمر التميمي في كتاب «الفتوح» له؛ عن عمرو بن تمام؛ عن أبيه؛ عن القعقاع.(4/308)
وقال ابن عبّاس: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته.. قال:
يا عمر؛ أنت الّذي بلغني أنّك تقول: (ما مات نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم؟!) أما ترى أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا، وقال الله تعالى في كتابه:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . فقال: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا، أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت، ...
قال ابن أبي حاتم: سيف متروك.
وأخرجه ابن السّكن من طريق إبراهيم بن سعد؛ عن سيف بن عمر؛ عن عمرو عن أبيه. وقال: سيف بن عمر ضعيف.
قلت: هو من رجال الترمذي! وهو؛ وإن كان ضعيفا في الحديث؛ فهو عمدة في التاريخ مقبول النقل؛ قاله في «شرح الإحياء» .
(و) في «الإحياء» للغزالي: (قال ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته؛ قال: يا عمر؛ أنت الّذي بلغني) عنك (أنّك تقول: ما مات نبيّ الله صلى الله عليه وسلم!! أما ترى [أنّ] نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا!! وقال الله تعالى في كتابه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] ) . فأخبر بأنه سيموت فكيف تنكره؟!!.
(فقال) أي: عمر رضي الله عنه (: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها!!) ؛ أي:
هذه الآية (في كتاب الله قبل الآن لما نزل بنا) من الدّهشة والحيرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت،(4/309)
إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وصلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ثمّ جلس إلى أبي بكر.
إنّا لله) ملكا وعبيدا؛ يفعل بنا ما يشاء. (وإنّا إليه راجعون) في الآخرة فيجازينا.
(وصلوات الله) تعالى متتابعة (على رسوله) صلى الله عليه وسلم، (وعند الله نحتسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ جلس إلى أبي بكر) الصديق.
ثم رجع عمر عن مقالته التي قالها؛ كما ذكره أبو نصر: عبد الله الوائلي؛ في كتاب «الإبانة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبره؛ تشهّد عمر ثم قال:
أمّا بعد؛ فإنّي قلت لكم أمس مقالة، وإنّها لم تكن كما قلت، وإنّي والله، ما وجدت المقالة الّتي قلت لكم في كتاب الله؛ ولا في عهد عهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنّي كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى يدبرنا- أي: يكون آخرنا موتا- فاختار الله عزّ وجلّ لرسوله الّذي عنده على الّذي عندكم. وهذا الكتاب الّذي هدى الله به رسوله؛ فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي آخر هذا الخبر عند ابن إسحاق: فبايع النّاس أبا بكر البيعة العامّة بعد بيعة السّقيفة، ثمّ تكلّم أبو بكر» ... الحديث؛
قال أبو نصر الوائلي: المقالة التي قالها عمر ثم رجع عنها هي قوله «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتّى يقطع أيدي وأرجل رجال من المنافقين» . وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين. فلما شاهد عمر قوّة يقين الصدّيق الأكبر، وتفوّهه بقول الله عز وجل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185/ آل عمران] .
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30/ الزمر] ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة المنوّرة؛ كأنّها لم تنزل قطّ إلّا ذلك اليوم؛ رجع عن تلك المقالة، والله أعلم.(4/310)
.........
قال في «المواهب» : ولما تحقّق عمر بن الخطاب موته صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر الصديق، ورجع إلى قوله؛ قال عمر وهو يبكي: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد كان لك جذع تخطب النّاس عليه، فلمّا كثروا واتّخذت منبرا لتسمعهم فحنّ الجذع لفراقك؛ حتّى جعلت يدك عليه فسكن، فأمّتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عند ربّك أن جعل طاعتك طاعته، فقال مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [80/ النساء] .
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أوّلهم؛ فقال تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [7/ الأحزاب] .
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد بلغ من فضيلتك عنده أنّ أهل النّار يودّون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسول.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار، فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء؛ صلّى الله عليك.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله ريحا غدوّها شهر ورواحها شهر، فما ذاك بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السّماء السّابعة؛ ثمّ صلّيت الصّبح من ليلتك بالأبطح، صلّى الله عليك.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، فما ذاك بأعجب من الشّاة المسمومة حين كلّمتك وهي مسمومة؛ فقالت:
لا تأكلني؛ فإنّي مسمومة.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد دعا نوح على قومه؛ فقال: ربّ لا تذر على(4/311)
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا اجتمعوا لغسله..
قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟
قالت: فأرسل الله عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما، ثمّ قال قائل لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا، ففعلوا ذلك، الأرض من الكافرين ديّارا. ولو دعوت مثلها علينا لهلكنا عن آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك؛ فأبيت أن تقول إلّا خيرا، فقلت:
اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لقد اتّبعك في أحداث سنّك وقصر عمرك ما لم يتّبع نوحا في كبر سنّه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير؛ وما آمن معه إلّا قليل.
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ لو لم تجالس إلّا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلّا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلّا كفؤا ما آكلتنا؛ ولبست الصّوف، وركبت الحمير، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك؛ تواضعا منك، صلّى الله عليك. انتهى. الحديث بطوله وتتمته من «المدخل» لابن الحاج المالكي رحمه الله تعالى.
(وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما رواه البيهقي في «دلائل النبوة» -: (لمّا اجتمعوا لغسله) صلى الله عليه وسلم؛ (قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟!.
قالت: فأرسل الله) ؛ أي: ألقى (عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما.
ثمّ قال قائل) أي: كلّمهم مكلّم من ناحية البيت؛ (لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا) من النوم (ففعلوا ذلك.(4/312)
فغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قميصه؛ حتّى إذا فرغوا من غسله.. كفّن. وقال عليّ كرّم الله وجهه: أردنا خلع قميصه فنودينا: لا تخلعوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثيابه، فأقررناه، فغسّلناه في قميصه كما نغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه.. إلّا قلب لنا حتّى نفرغ منه، وإنّ معنا لحفيفا في البيت كالرّيح الرّخاء، ويصوّت بنا: ارفقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّكم ستكفون.
فغسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه) ؛ يضعون الماء فوق القميص ويد لكونه بالقميص، (حتّى إذا فرغوا من غسله كفّن) ؛ أي: في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، ليس فيها قميص ولا عمامة. قال البيهقي في «الخلافيات» : قال أبو عبد الله- يعني الحاكم-:
تواترت الأخبار عن علي وابن عبّاس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغافل؛ في تكفين النّبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب؛ ليس فيها قميص ولا عمامة. انتهى.
(و) في «الإحياء» : (قال عليّ «كرّم الله وجهه» ) - تقدم الكلام قريبا على الحكمة في تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقولهم «كرم الله وجهه» (: أردنا خلع قميصه) حال الغسل (فنودينا) من ناحية البيت: (لا تخلعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابه، فأقررناه) ، أي: لم نجرّده عن القميص، (فغسّلناه في قميصه كما تغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه؛ إلّا قلب لنا) بسهولة (حتّى نفرغ منه) .
ثمّ عند تكفينه نزع منه ذلك القميص الذي غسّل فيه، (وإنّ معنا لحفيفا) ؛ أي: شيئا خفيفا (في البيت كالرّيح الرّخاء) - بضمّ الرّاء-: الريح اللينة؛ قاله في «القاموس» ، وفي «الأساس» : هي طيبة الهبوب؛ (ويصوّت) ذلك الشيء الخفيف الشبيه بالريح الرّخاء (بنا) ؛ أي: يكلّمنا بصوت مسموع قائلا: (ارفقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّكم ستكفون) قال في «شرح الإحياء» : وقد صح أنه غسل صلى الله عليه وسلم(4/313)
فهكذا كانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يترك سبدا ولا لبدا إلّا دفن معه.
قال أبو جعفر: فرش لحده بمفرشه وقطيفته، وفرشت ثيابه الّتي كان يلبس يقظان على القطيفة والمفرش، ثمّ وضع عليها في أكفانه.
ثلاث غسلات: الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور؛ وغسله عليّ، والعبّاس وابنه الفضل يعينانه؛ وقثم وأسامة وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء؛ وأعينهم معصوبة من وراء السّتر، لحديث علي: «لا يغسّلني إلّا أنت، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلّا طمست عيناه» . رواه البزار والبيهقي.
(فهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك سبدا) ؛ السّبد- بفتحتين-:
القليل من الشّعر؛ (ولا لبدا) اللّبد- بفتحتين-: الصوف، ومن ذلك قولهم «فلان ما له سبد ولا لبد» ؛ محركان، أي: لا قليل ولا كثير؛ وهذا قول الأصمعي، وهو مجاز؛ أي لا شيء له، وفي «اللّسان» ، أي: ماله ذو وبر ولا صوف متلبّد، يكنّى بهما عن الإبل والغنم. وكان مال العرب الخيل، والإبل، والغنم، والبقر، فدخلت كلّها في هذا المثل؛ وقوله: (إلّا دفن معه) . كذا في «الإحياء» ، ولم يتكلّم عليه شارحه بشيء!!
(قال أبو جعفر) محمد الباقر بن علي «زين العابدين» بن الحسين «السّبط» بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم (: فرش لحده بمفرشه وقطيفته) - بفتح القاف وكسر الطاء المهملة وسكون التّحتيّة ففاء-: كساء له خمل؛ أي: أهداب: أطراف. فرشها شقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» ، وقال: «والله لا يلبسها أحد بعدك» ؛ وهي النجرانيّة الحمراء التي كان يتغطّى بها ويجلس عليها.
(وفرشت ثيابه الّتي كان) صلى الله عليه وسلم (يلبس) وهو (يقظان) ؛ أي: في حال حياته (على القطيفة والمفرش) أي: فوقهما، (ثمّ وضع عليها) ؛ أي: على القطيفة والمفرش والثياب، وهو ملفوف (في أكفانه) .(4/314)
.........
لكن حديث عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كفّن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحوليّة بيض» ... الذي أخرجه النّسائي؛ من رواية عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن الزهري؛ عن عروة؛ واتفق عليه الأئمة السّتة من طريق: هشام بن عروة؛ عن أبيه؛ عن عائشة بزيادة: «من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة» ، وليس قوله «من كرسف» عند الترمذي، ولا ابن ماجه.
زاد مسلم: أمّا الحلّة! فإنّما تشبه على النّاس؛ إنّها اشتريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلّة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر الصّديق؛ فقال: لأحبسنّها حتّى أكفّن فيها نفسي، ثمّ قال: لو رضيها الله لنبيّه لكفّنه فيها!! فباعها، فتصدّق بثمنها.
هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة على أنّ القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه؛ قال النّووي في «شرح مسلم» : وهذا هو الصّواب الذي لا يتّجه غيره، لأنّه لو أبقي مع رطوبته؛ لأفسد الأكفان!!
قال: وأمّا الحديث الذي في «سنن أبي داود» ؛ عن ابن عباس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثواب وقميصه الّذي توفّي فيه!! فضعيف؛ لا يصحّ الاحتجاج به، لأنّ يزيد بن زياد- أحد رواته- مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثّقات. انتهى.
كما أنّ حديث عائشة المذكور يدلّ على نفي ما عدا الثّلاثة الأثواب!!
قال الترمذي: روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة؛ وحديث عائشة أصحّ الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
انتهى.
ونقل الزّين المراغي في «تحقيق النصرة» ؛ عن ابن عبد البر أنّه قال: أخرجت(4/315)
.........
- يعني: القطيفة- من القبر لما فرغوا من وضع اللّبنات التّسع؛ حكاه ابن زبالة «1» .
قال العراقي في «ألفيّة السيرة» :
وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل: أخرجت. وهذا أثبت
وحفر أبو طلحة لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع فراشه حيث قبض.
وقد اختلف فيمن أدخله قبره!! وأصحّ ما روي أنه نزل في قبره عمّه العبّاس، وعلي، وقثم بن العبّاس؛ وكان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العبّاس؛ أي: أنّه تأخّر حتى خرجوا قبله؛ وروي أنّه وضع في قبره تسع لبنات.
قال رزين: ورشّ قبره صلى الله عليه وسلم، رشّه بلال بن رباح بقربة؛ بدأ من قبل رأسه؛ حكاه ابن عساكر، وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء، وبيضاء، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.
ولما توفي عليه الصلاة والسلام قالت فاطمة: يا أبتاه؛ أجاب ربّا دعاه؛ يا أبتاه؛ من جنّة الفردوس مأواه، يا أبتاه؛ من إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه من أفراده.
زاد الطبراني والإسماعيلي: يا أبتاه؛ من ربّه ما أدناه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يؤخذ منه أنّ تلك الألفاظ إذا كان الميت متّصفا أنّه لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا؛ وهو في الباطن بخلافه، أو لا يتحقّق اتصافه بها؛ فتدخل في المنع. انتهى.
قال البخاريّ؛ في حديث أنس المذكور بعد ما سبق: فلمّا دفن قالت فاطمة:
أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التّراب!!.
__________
(1) كذبوه، مات سنة 200، قيل: كنيته أبو الحسن المدني، وهو مخزومي. (هامش الأصل) . قلت: وهو محمد بن الحسن؛ إخباري مشهور.(4/316)
فلم يترك بعد وفاته مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة؛ ...
قال الحافظ: هذا من رواية أنس عن فاطمة؛ وأشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك، لأنه يدلّ على خلاف ما عرفته منهم من رقّة قلوبهم عليه لشدّة محبّتهم له؛ وسكت أنس عن جوابها!! رعاية لها؛ ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلّا أنّا قهرنا على فعله! امتثالا لأمره. انتهى.
وأخذت فاطمة رضي الله عنها من تراب القبر الشريف، ووضعتها على عينيها وبكت، ثم أنشأت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... ألايشمّ مدى الدّهور غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها ... صبّت على الأيّام عدن لياليا
وروي أنّها قالت:
اغبرّ آفاق السّماء وكوّرت ... شمس النّهار وأظلم العصران
والأرض من بعد النّبيّ كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرّجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكلّ يماني
وقد عاشت فاطمة بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة!! وحقّ لها ذلك.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
(فلم يترك بعد وفاته) صلى الله عليه وسلم (مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة) .
أخرج ابن حبان في «الثقات» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛
عن الحسن مرسلا: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة؛ قاله الحافظ العراقي.(4/317)
ففي وفاته عبرة تامّة، ...
(ففي وفاته عبرة تامّة) للناظرين، وتبصرة للمستبصرين؛ إذ لم يكن أحد أكرم على الله منه، إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيّه، وكان صفيّة ورسوله ونبيّه؛ فانظر، هل أمهله ساعة عند انقضاء مدته!؟ وهل أخّره لحظة بعد حضور منيّته!؟
لا؛ بل أرسل إليه الملائكة الكرام، الموكّلين بقبض أرواح الأنام؛ فجدّوا بروحه الزكية الكريمة لينقلوها، وعالجوها ليرحلوا بها عن جسده الطاهر إلى رحمة ورضوان، وخيرات حسان، بل إلى مقعد صدق في جوار الرحمن، فاشتدّ مع ذلك في النزع كربه؛ وظهر أنينه، وترادف قلقه؛ وارتفع حنينه، وتغيّر لونه وعرق جبينه، واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه، حتى بكى لمصرعه من حضره، وانتحب لشدّة حاله من شاهد منظره؛ فهل رأيت منصب النّبوّة دافعا عنه مقدورا!! وهل راقب الملك فيه أهلا وعشيرا! وهل سامحه إذ كان للحق نصيرا؛ وللخلق بشيرا ونذيرا!!؟
هيهات؛ بل امتثل ما كان به مأمورا، واتّبع ما وجده في اللوح مسطورا، فهذا كان حاله وهو عند الله ذو المقام المحمود، والحوض المورود، وهو أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وهو صاحب الشفاعة يوم العرض، فالعجب أنّا لا نعتبر به، ولسنا على ثقة فيما نلقاه، بل نحن أسراء الشّهوات، وقرناء المعاصي والسّيّئات، فما بالنا لا نتّعظ بمصرع محمّد سيّد المرسلين، وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين!!.
لعلنا نظنّ أنّنا مخلّدون! أو نتوهّم أنّا مع سوء أفعالنا عند الله مكرّمون!! هيهات هيهات؛ بل نتيقّن أنّا جميعا على النّار واردون، ثم لا ينجو منها إلّا المتّقون، فنحن للورود مستيقنون؛ وللصدور عنها متوهّمون.
لا؛ بل ظلمنا أنفسنا أن كنّا كذلك لغالب الظّن منتظرين، فما نحن والله من المتقين، وقد قال الله ربّ العالمين وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) [مريم] .(4/318)
وللمسلمين أسوة حسنة) انتهى.
فلينظر كلّ عبد إلى نفسه أنّه إلى الظالمين أقرب أم إلى المتّقين!! فانظر إلى نفسك بعد أن تنظر إلى سيرة السّلف الصالحين، فلقد كانوا مع ما وفّقوا له من الخائفين، ثم انظر إلى سيّد المرسلين؛ فإنه كان من أمره على يقين، إذ كان سيّد النبيين، وقائد المتقين.
واعتبر كيف كان كربه عند فراق الدنيا، وكيف اشتدّ أمره عند الانقلاب إلى جنّة المأوى؟!.
(و) اتّبع من القول أحسنه، وتأسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه (للمسلمين أسوة حسنة. انتهى) ؛ أي: كلام الإمام الغزالي في «الإحياء» .
قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه؛ وقال: يا عبد الله؛ اتق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة.
أخرج ابن ماجه في «سننه» ؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «أيّها النّاس؛ إن أحد من النّاس- أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة الّتي تصيبه بغيري، فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي» .
وروى بقيّ بن مخلد، والباوردي، وابن شاهين، وابن قانع، وأبو نعيم؛ كلهم في «المعرفة» ؛ عن عبد الرحمن بن سابط عن أبيه رفعه: «من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها أعظم المصائب» . ولله درّ القائل:
اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد ... واعلم بأنّ المرء غير مخلّد
واصبر كما صبر الكرام فإنّها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد
ويرحم الله تعالى القائل:
تذكّرت لمّا فرّق الدّهر بيننا ... فعزّيت نفسي بالنّبيّ محمّد
وقلت لها: إنّ المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد(4/319)
.........
وقد رثي صلى الله عليه وسلم بمراث كثيرة؛ منها:
قول عمّته صفيّة بنت عبد المطّلب، رضي الله تعالى عنها:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برّا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلّما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النّبيّ لفقده ... ولكنّني أخشى من الهجر آتيا
كأنّ على قلبي لذكر محمّد ... وما خفت من بعد النّبيّ المكاويا
أفاطم؛ صلّى الله ربّي بحمده ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمّي وخالتي ... وعمّي وخالي، ثمّ نفسي وماليا
فلو أن ربّ النّاس أبقى نبيّنا ... سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السّلام تحيّة ... وأدخلت جنّات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكّي ويدعو جدّه اليوم نائيا
ورثاه ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فقال:
أرقت، فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء، وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيل: قد قبض الرّسول
وأضحت أرضنا ممّا عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس النّاس أو كادت تسيل
نبيّ كان يجلو الشّكّ عنّا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهديناا، فلا نخشى ضلالا ... علينا؛ والرّسول لنا دليل
أفاطم؛ إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السّبيل
فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد النّاس الرّسول(4/320)
.........
ورثاه سيّدنا أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه بقوله:
لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا ... ضاقت عليّ بعرضهنّ الدّور
فارتاع قلبي عند ذاك لهلكه ... والعظم منّي ما حييت كسير
أعتيق؛ ويحك إنّ حبّك قد توى ... فالصّبر عنك لما بقيت يسير
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيّبت، في جدث عليّ صخور
فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور
ورثاه الصدّيق رضي الله تعالى عنه أيضا بقوله:
ودعنا الوحي إذ ولّيت عنّا ... فودّعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا ... تضمّنه القراطيس الكرام
ولقد أحسن حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه بقوله يرثيه:
بطيبة رسم للرّسول ومعهد ... مبين، وقد تعفو الرّسوم وتهمد «1»
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادي الّذي كان يصعد
واضح آيات وباقي معالم ... وربع له فيه مصلّى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآي منها تجدّد «2»
عرفت بها رسم الرّسول وعهده ... وقبرا بها واراه في التّرب ملحد
ظللت بها أبكي الرّسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجنّ تسعد
تذكّرت آلاء الرّسول وما أرى ... لها محصيا نفسي، فنفسي تبلد
مفجّعة قد شقّها فقد أحمد ... فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد
وما بلغت من كلّ أمر عشيره ... ولكن لنفسي بعد هذا توجّد
أطالت وقوفا تذرف الدّمع جهدها ... على طلل القبر الّذي فيه أحمد
__________
(1) أي: تبلى.
(2) أي: تتجدد.(4/321)
.........
فبوركت يا قبر الرّسول، وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرّشيد المسدّد
وبورك لحد منك ضمّن طيّبا ... عليه بناء من صفيح منضّد
تهيل عليه الترب أيد وأعين ... تباكت، وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيّبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علّوه الثّرى لا يوسّد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيّهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكّون من تبكي السّماوات موته ... ومن قد بكته الأرض فالنّاس أكمد
فهل عدلت يوما رزيّة هالك ... رزيّة يوم مات فيه محمّد
تقطّع فيه منزل الوحي عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد
يدلّ على الرّحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهداهم الحقّ جاهدا ... معلّم صدق، إن يطيعوه يسعدوا
عفوّ عن الزّلّات؛ يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا، فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدّد!
فبينا هم في نعمة الله بينهم ... دليل به نهج الطّريقة يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنّي جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم ويمهد
فبيناهم في ذلك النّور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت يقصد
فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... تبكّيه جفن المرسلات ويجمد
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
قفارا سوى معمورة اللّحد ضافها ... فقيد يبكّيه بلاط وغرقد
ومسجده كالموحشات لفقده ... خلاء له فيه مقام ومقعد
فيا جمرة الكبرى له ثمّ أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد
فبكّي رسول الله يا عين جهرة ... ولا أعرفنك الدّهر دمعك يجمد
وما لك لا تبكين ذا النّعم الّتي ... على النّاس منها سابغ يتغمّد
فجودي عليه بالدّموع وأعولي ... لفقد الّذي لا مثله الدّهر يوجد(4/322)
.........
وما فقد الماضون مثل محمّد ... ولا مثله حتّى القيامة يفقد
أعفّ وأوفى ذمّة بعد ذمّة ... وأقرب منه قائلا لا ينكّد
وأبذل منه للطّريف وتالد ... إذا ضنّ ذو مال بما كان يتلد
وأكرم بيتا في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدّا أبطحيّا يسوّد
وأمنع ذروات وأثبت في العلا ... دعائم عزّ شامخات تشيّد
وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا ... وعودا كعود المزن فالعود أغيد
رباه وليدا فاستتمّ تمامه ... على أكرم الخيرات ربّ ممجّد
تناهت وصاة المسلمين بكفّه ... فلا العلم محبور ولا الرّأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عائب ... من النّاس إلا عازب العقل مبعد
وليس هواي نازعا عن ثنائه ... لعلّي به في جنّة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
ورثاه حسّان رضي الله عنه أيضا بقوله:
كنت السّواد لناظري ... فعمي عليك النّاظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ولا يرد على هذا كلّه ما رواه ابن ماجه- وصحّحه الحاكم-؛ عن ابن أبي أوفى: أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المراثي!!
لأن المراد مراثي الجاهلية، وهي ندبهم الميت بما ليس فيه؛ نحو «والهفاه، واجبلاه» لا مطلقا. فقد رثى حسّان حمزة وجعفرا وغيرهما في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينهه!! قاله الزرقاني؛ على «المواهب» .
(و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وقال في الجامع: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن بارق، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة-:(4/323)
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«من كان له فرطان من أمّتي.. أدخله الله تعالى بهما الجنّة» ، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟
قال: «ومن كان له فرط يا موفّقة» ، قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟
قال: «فأنا فرط لأمّتي، ...
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من كان له فرطان) - بفتح الفاء والراء-؛ أي: ولدان صغيران يموتان قبله، فإنّهما في القيامة يهيّئان له ما يحتاج إليه من ماء بارد وظلّ ظليل ومأكل ومشرب، (من أمّتي أدخله الله تعالى بهما الجنّة» .
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟) أي:
ما حكمه هل هو كذلك!
(قال: «ومن كان له فرط) - أي: يدخله الله الجنة بسببه كالذي له فرطان- (يا موفّقة» ) ؛ أي: لاستكشاف المسائل الدينيّة؛ وهذا تحريض منه صلى الله عليه وسلم لها على كثرة السّؤال، فلذلك كرّرته حيث
(قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟) ؛ أي: فما حكمه.
(قال: «فأنا فرط لأمّتي) : أمة الإجابة، فهو صلى الله عليه وسلم سابق مهيّء لمصالح أمّته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» . أي: سابقكم لأرتاد لكم الماء، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بأمّة خيرا قبض نبيّها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمّة عذّبها؛ ونبيّها حيّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقرّ عينه بهلكها حين كذّبوه وعصوا أمره» .(4/324)
لن يصابوا بمثلي» . و (الفرط- في الأصل-) : السّابق من القوم المسافرين ليهيّىء لهم الماء والكلأ وما يحتاجونه، والمراد به هنا:
الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه، فإنّه يشبهه في تهيئة ما يحتاج إليه يوم القيامة من المصالح.
ثم استأنف بقوله: (لن يصابوا بمثلي» ؛) على وجه التّعليل لقوله: «أنا فرط لأمّتي» . أي: لم يبلغوا مصيبة مثل مصيبتي، فإنّي عندهم أحبّ من كلّ والد وولد، فمصيبتي عليهم أشدّ من جميع المصائب، فأكون أنا فرطهم؛ وهو شامل لمن أدرك زمانه ومن لم يدركه، كما يدلّ عليه تعبيره ب «أمّتي» .
قال الباجوري؛ في «حاشية الشمائل» : (والفرط) - بفتحتين- والفارط (في الأصل) ؛ أي: أصل معناه في اللغة هو (: السّابق) ؛ أي: المتقدم (من القوم المسافرين ليهيّىء لهم) الأرشاء «1» والدّلاء ويمدر الحياض؛ ويستقي لهم (الماء، و) يهيء لدوابّهم (الكلأ) - مهموز: العشب؛ رطبا كان أو يابسا، فإن كان رطبا! يقال له: خلاء، واليابس يقال له: حشيش؛ والكلأ يعمّهما- (و) يهيّىء لهم (ما يحتاجونه) من منزل ونزل، ويزيل ما يخافون منه، ويأخذ الأمن فيه للمتأخّر عنه؛ فهو فعل بمعنى فاعل؛ كتبع بمعنى تابع، يقال: رجل فرط وقوم فرط.
(والمراد به هنا) في الحديث: الولد (الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه، فإنّه) أي: الولد الصغير (يشبهه) ؛ أي: يشبه فرط المسافرين (في تهيئة ما يحتاج) - بضمّ أوّله مبنيّا للمفعول-؛ أي: ما يحتاج (إليه) أبواه، فكما أنّ فرط القافلة يتقدّمهم إلى المنازل فيعدّ لهم ما يحتاجونه من سقي الماء وضرب الخيمة ونحوهما؛ كذلك الطفل الصغير الذي يموت قبل أحد أبويه فإنه يهيء لهما (يوم القيامة) ما يحتاجان (من المصالح) ؛ وهو نزل ومنزل في الجنّة.
__________
(1) جمع رشاء؛ وهو الحبل، وأفصح من هذه الصيغة للجمع: أرشية!!.(4/325)
وعن عمرو بن الحارث- أخي جويرية أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنهما- قال: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة.
(و) أخرج البخاريّ، والنّسائيّ، والترمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عمرو بن الحارث) المصطلقي (أخي جويرية) - بالتصغير- (أمّ المؤمنين) له صحبة، خرّج له الجماعة (رضي الله تعالى عنهما) ؛ أي: عمرو وجويرية.
(قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا) الحصر في الثلاثة المذكورة في هذا الخبر إضافيّ؛ فقد ترك ثيابه ومتاع بيته، ولكنها لما كانت بالنسبة للمذكورات يسيرة لم تذكر.
وقال ابن سيّد الناس: وترك صلى الله عليه وسلم يوم مات ثوبي حبرة وإزارا عمانيّا، وثوبين صحاربين، وقميصا صحاريا، وآخر سحوليّا، وجبّة يمنيّة، وخميصة وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطية «ثلاثا؛ أو أربعا» وملحفة مورّسة، أي: مصبوغة بالورس.
(1- سلاحه) الذي كان يختصّ بلبسه واستعماله؛ من نحو: سيف ورمح ودرع ومغفر وحربة.
(و 2- بغلته) البيضاء واسمها «دلدل» ، وعاشت بعده صلى الله عليه وسلم حتى كبرت وذهبت أسنانها، وكان يجرش لها الشعير، وماتت في ينبع، ودفنت في جبل رضوى، وكان له بغال غيرها.
(و 3- أرضا) لم يضفها له، لعدم اختصاصها به كسابقتها، لأنّ غلّتها كانت عامّة له ولعياله ولفقراء المسلمين، وهي نصف أرض فدك، وثلث أرض وادي القرى، وسهمه من خمس خيبر، وحصّة من أرض بني النضير؛ (جعلها) ؛ أي: الأرض (صدقة) في حياته على أهله وزوجاته وخدمه وفقراء المسلمين، وليس المراد أنّها صارت صدقة بعد موته كبقية مخلّفاته؛ فإنّها صارت كلّها صدقة بعد وفاته على المسلمين.(4/326)
وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم ...
وقد أغنى الله قلبه كلّ الغنى، ووسّع عليه غاية السّعة؛ وأيّ غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض فأباها!! وجاءت إليه الأموال فأنفقها كلّها؛ وما استأثر منها بشيء!!
ولم يتّخذ عقارا، ولا ترك شاة، ولا بعيرا، ولا عبدا، ولا أمة، ولا دينارا، ولا درهما غير ما ذكر؛ كذا في الباجوري؛ على «الشمائل» .
(وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم) ؛ وهو حديث متواتر، قال السيوطي؛ في «الأزهار المتناثرة» : حديث «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» ؛
أخرجه الشيخان؛ عن عمر وعثمان وعليّ وسعد بن أبي وقّاص والعبّاس.
وأخرجه مسلم؛ عن أبي بكر الصدّيق وعبد الرحمن بن عوف، والزّبير بن العوّام وأبي هريرة.
وأخرجه أبو داود؛ عن عائشة. وأخرجه النّسائي؛ عن طلحة.
وأخرجه الطّبراني؛ عن حذيفة وابن عبّاس؛ فقد رواه من العشرة المشهود لهم بالجنة ثمانية نظير حديث: «من كذب عليّ» . انتهى.
وذكره في «كنز العمال» بلفظ «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» .
ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ، والثلاثة؛ عن عمر، وعن عثمان وسعد وطلحة والزّبير وعبد الرحمن بن عوف.
ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ؛ عن عائشة.
ورمز له برمز مسلم. والترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وذكره في «كنز العمال» أيضا بلفظ: «لا نورث؛ ما تركناه صدقة، وإنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» . ورمز له برمز الإمام أحمد و «الصحيحين» ،(4/327)
.........
وأبي داود والنسائي؛ عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
وذكره في «كنز العمال» أيضا بلفظ: «إنّا لا نورث؛ ما تركناه صدقة» .
ورمز له برمز الإمام أحمد؛ عن عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد رضي الله تعالى عنهم.
وفي «تلخيص الحبير» للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: أمّا حديث «إنّ الأنبياء لا يورثون» !! فمتفق عليه؛ من حديث أبي بكر الصديق؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«لا نورث؛ ما تركناه صدقة» .
وللنّسائي في أوائل الفرائض من «السنن الكبرى» : «إنّا معشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة» . وإسناده على شرط مسلم.
ورواه النسائي؛ عن عائشة رضي الله عنها: أنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر؛ فيسألنه ميراثهنّ من رسول الله!! فقالت لهنّ عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يورث نبيّ؛ ما تركنا صدقة» !!. لكن رواه في الفرائض من «السنن الكبرى» بلفظ: «لا نورث، ما تركنا صدقة» . ليس فيه «نبيّ» ؛ فالله أعلم!. وكذا هو في «الصحيحين» .
وفي «الصحيحين» مثل حديث أبي بكر عن عمر أنّه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعلي والعباس: أنشدكم بالله ... فذكره؛ وفيه أنهم قالوا: «نعم» . زاد النّسائي فيهم طلحة.
وأخرجه الحميدي في «مسنده» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة» .
وذكر الدارقطنيّ في «العلل» حديث الكلبي عن أبي صالح؛ عن أم هانىء؛ عن فاطمة أنّها دخلت على أبي بكر فقالت: لو متّ من يرثك؟ قال: ولدي وأهلي؛ قالت: فما لنا لا نرث النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: «إنّ الأنبياء لا يورثون؛ ما تركوه فهو صدقة» .(4/328)
قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛
وفي الباب عن حذيفة؛ أخرجه أبو موسى في كتاب له اسمه «براءة الصدّيق» ؛ من طريق فضيل بن سليمان؛ عن أبي مالك الأشجعي؛ عن ربعي عنه. وهذا إسناد حسن. انتهى كلام الحافظ ابن حجر في «التلخيص» .
(قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «نحن) - نقل الزرقاني؛ في «شرح المواهب» عن الحافظ ابن حجر ما نصّه: والحاصل أنه لم يوجد بلفظ «نحن» ووجد بلفظ «إنّا» ، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره ذكره بالمعنى؛ وهو في «الصحيحين» ؛ عن أبي بكر رضي الله عنه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة» .
بحذف «إنّا» . وكذا في «السنن الثلاث» . انتهى-
(معاشر الأنبياء) نصب على الاختصاص؛ أو المدح. والمعشر: كلّ جمع أمرهم واحد، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر؛ وهو معنى قول جمع: المعشر، الطائفة الذين يشمهلم وصف.
(لا نورث) - بضم النون وسكون الواو وفتح الراء- قال القرطبي: جميع رواة هذه اللفظة في «الصحيحين» وغيرهما يقولون «لا نورث» بالنّون، وهي نون جماعة الأنبياء؛ أي: ما تركناه إنّما نتركه صدقة، لا يختصّ به الورثة.
والمراد: المال وما في حكمه؛ فلا يعارضه قوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي [5- 6/ مريم] الآية؛ ولا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [16/ النمل] !! لأنه وارثه نبوّة وعلما.
وليس لك أن تقول معنى «لا نورث» من النّبوة!! لأنّ الصّحابة فهموا أنّ المراد المال، وهم أعلم بالحال، فلا مجال لهذا الاحتمال.
قال في «جمع الوسائل» : والحكمة في أنّ الأنبياء لا يورثون: 1- أن لا يتمنّى بعض الورثة موتهم؛ فيهلك. و 2- ألايظنّ بهم أنّهم راغبون في الدنيا ويجمعون المال لورثتهم. و 3- ألايرغب الناس بجمعها؛ بناء على ظنّهم أن(4/329)
ما تركناه صدقة» .
الأنبياء كانوا كذلك!! و 4- لئلّا يتوهّموا أن فقر الأنبياء لم يكن اختياريا. انتهى.
(ما) موصولة: مبتدأ؛ أي: الذي (تركناه) من المال (صدقة) بالرفع:
خبر المبتدأ الذي هو «ما تركنا» ، ودخلته الفاء! [كما في بعض طرقه- «ما تركنا فهو صدقة» ] «1» ؛ لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط.
والجملة جواب سؤال مقدّر تقديره: إذا لم تورثوا؛ فما يفعل بمخلّفكم؟
فأجاب بقوله: «ما تركناه صدقة» . والكلام حينئذ جملتان: الأولى فعلية، وهي قوله «لا نورث» ، والثانية اسمية، وهي قوله «ما تركناه» .
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : ويؤيّده وروده في بعض طرق «الصّحيح» : «ما تركنا فهو صدقة» ؛ وحرّفه الإماميّة- أي: الروافض فقالوا:
لا يورث، - بالمثنّاة التحتية بدل النّون- و: صدقة نصب على الحال.
و «ما تركنا» : مفعول لما لم يسم فاعله، فجعلوا الكلام جملة واحدة، ويكون المعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث. وهذا تحريف يخرج الكلام عن نمط الاختصاص الذي دلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الطرق: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث» .
ويعود الكلام بما حرّفوه إلى أمر لا يختصّ به الأنبياء، لأن آحاد الأمّة إذا وقفوا أموالهم أو جعلوها صدقة انقطع حقّ الورثة عنها، فهذا من تحاملهم أو تجاهلهم.
وقد أورده بعض أكابر الإماميّة على القاضي شاذان «صاحب القاضي أبي الطيب» ، فقال القاضي شاذان- وكان ضعيف العربيّة؛ قويّا في علم الخلاف-: لا أعرف نصب «صدقة» من رفعها!! ولا أحتاج إلى علمه؛ فإنه لا خفاء بي وبك: أنّ فاطمة وعليّا من أفصح العرب لا تبلغ أنت ولا أمثالك إلى ذلك منهما، فلو كانت لهما حجّة فيما لحظته لأبدياها حينئذ لأبي بكر؟! فسكت، ولم يحر جوابا.!
__________
(1) أضفتها للإيضاح.(4/330)
.........
وإنّما فعل الإمامية ذلك!! لما يلزمهم على رواية الجمهور من فساد مذهبهم، لأنهم يقولون ب «أنه صلى الله عليه وسلم يورث كما يورث غيره من المسلمين» لعموم الآية الكريمة.
وذهب النّحاس إلى أنه يصحّ النّصب في «صدقة» على الحال، وأنكره القاضي عياض لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدر ابن مالك «ما تركناه- متروك- صدقة» فحذف الخبر وبقي الحال كالعوض منه؛ ونظيره قراءة بعضهم وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [14/ يوسف]- بالنصب «1» -. انتهى. من «شرح القسطلاني على البخاري» .
قال الزرقاني؛ في «شرح المواهب» متعقبا: لكن في التوجيه نظر، إذ لم تأت رواية بالنصب حتى توجّه، بل الذي توارد عليه أهل الحديث؛ في القديم والحديث: بالنون ورفع «صدقة» ، ولأنّه لم يتعين حذف الخبر، بل يحتمل ما قاله الإمامية، ولذا أنكره عياض؛ وإن صحّ في نفسه. انتهى.
تنبيه: قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده من جنس الأوقاف المطلقة ينتفع بها من يحتاج إليها وتقرّ تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان له عند سهل قدح، وعند أنس قدح آخر، وعند عبد الله بن سلام قدح آخر، وكان الناس يشربون منها تبرّكا، وكانت جبّته عند أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها ... إلى غير ذلك مما هو معروف. انتهى. نقله المناوي؛ في «شرح الشّمائل» رحمه الله تعالى.
__________
(1) وهي قراءة شاذّة.(4/331)
[الفصل الثّالث في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام]
الفصل الثّالث في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ...
(الفصل الثّالث) ؛ من الباب الثّامن (في) ما جاء في (رؤيته صلى الله عليه وسلم) الرؤية- التي بالتاء- تشمل رؤية البصر في اليقظة، ورؤية القلب في المنام، ولهذا احتاج المصنّف إلى تقييدها بقوله (في المنام) .
و [الرؤيا] الّتي بالألف خاصّة برؤية القلب في المنام، وقد تستعمل في رؤية البصر أيضا، قال المازري: مذهب أهل السّنّة: أنّ حقيقة الرّؤيا خلق الله تعالى في قلب النّائم اعتقادات كخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء؛ لا يمنعه نوم ولا يقظة، وخلق هذه الاعتقادات في النائم علم على أمور أخر يلحقها في ثاني الحال؛ كالغيم علما على المطر. انتهى؛ ذكره في «جمع الوسائل» .
وإنّما أورد المصنّف باب الرؤية في المنام آخر الكتاب بعد بيان صفاته الظاهرة وأخلاقه المعنوية!! إشارة إلى أنّه ينبغي أوّلا ملاحظة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصافه الشريفة وأخلاقه المنيفة ليسهل تطبيقه الرؤية بعد في المنام عليها، والإشعار بأنّ الاطلاع على طلائع صفاته الصّوريّة، وعلى بدائع نعوته السّريّة بمنزلة رؤيته البهية. انتهى «باجوري» .
(عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما) كذا في النّسخ الّتي بأيدينا، وهو كذلك في نسخة «الشّمائل» التي كتب عليها المناوي، وكذلك في المطبوعة مع «حاشية الباجوري» ، لكن في نسخة «الشمائل» التي كتب عليها الشرّاح الثلاثة:
ملا علي قاري، وجسّوس المغربي، والباجوري في «حاشيته» ؛ «عن عبد الله»(4/332)
عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رآني في المنام.. فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» .
فقط، وفسّره هؤلاء الثلاثة ب «ابن مسعود» ، قالوا- كما في نسخة-: وذلك يوافق ما في «سنن ابن ماجه» ، والترمذي في «الجامع» بسند «الشّمائل» وقال:
حديث حسن صحيح، فإنّ ابن ماجه رواه من طريق وكيع عن سفيان، والتّرمذيّ رواه في «الجامع» و «الشمائل» ؛ من طريق عبد الرّحمن بن مهدي، عن سفيان؛ عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص؛ عن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
(عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني في المنام) ؛ أي: في حال النّوم، (فقد رآني) ، أي: فليبشّر بأنّه رآني حقيقة، أي: رأى حقيقتي كما هي؛ لا شبهة ولا ريب فيما رآه، فلم يتّحد الشّرط والجزاء. أو هو في معنى الإخبار؛ أي: من رآني فأخبره بأنّ رؤيته حقّ ليست بأضغاث أحلام، ولا من تمثيل الشّيطان، بل هي من قبل الله تعالى.
ثمّ أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى وتعليل للحكم؛ فقال: (فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» ) . وفي رواية لمسلم: «فإنّ الشّيطان لا ينبغي له أن يتشبّه بي» .
وفي أخرى له: «لا ينبغي أن يتمثّل في صورتي» .
وفي رواية لغير مسلم: «لا يتكوّنني» أي: لا يستطيع ذلك لئلّا يتذرّع بالكذب على لسانه في النّوم؛ كما استحال تصوّره بصورته يقظة؛ إذ لو وقع اشتبه الحقّ بالباطل؛ ومنه أخذ أنّ جميع الأنبياء كذلك.
وظاهر الحديث أنّ رؤياه صحيحة؛ وإن كانت على غير صفته المعروفة، وبه صرّح النّوويّ، مضعّفا لتقييد الحكيم التّرمذيّ وعياض وغيرهما؛ بما إذا رآه على صورته المعروفة في حياته، وتبعه عليه بعض المحقّقين.
قال المناوي- على «الشمائل» ؛ في شرح قول المصنّف «فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» -: أي: لا يستطيع ذلك، سواء رآه الرائي على صفته المعروفة؛ أو(4/333)
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ...
غيرها، على المنقول المقبول عند أهل العقول، لأنّه سبحانه وتعالى جعله رحمة للعالمين؛ هاديا للضّالّين؛ محفوظا من وسواس الشّياطين.
وإذا تنوّر العالم بنور وجوده، ورجمت الشّياطين لميلاده، وهدمت بنيان الكهنة لظهوره؛ فكيف يتصوّر أن يتمثّل الشّيطان بصورته!! ولو قدر أن يتمثّل بصورته لتمثّل في الخارج كذلك، فرؤياه حقّ على أيّ صورة كانت.
ثمّ إن كانت بصورته الحقيقة في وقت مّا، سواء كان في شبابه؛ أو رجوليّته؛ أو كهوليّته؛ أو أواخر عمره، لم تحتج لتأويل، وإلّا احتيجت لتعبير متعلق بالرّائي. ومن ثمّ قيل: من رآه شيخا، فهو في غاية سلم، أو شابا؛ فهو في غاية حرب، أو متبسما؛ فهو متمسك بسنّته، أو على حالته وهيئته؛ فهو دليل على صلاح حال الرّائي وكمال وجاهته وظفره. وعكسه؛ لأنّه كالمرآة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها، وإن كان ذاتها على أحسن حال.
وبه علم صحّة رؤية جمع له؛ في آن واحد؛ في أقطار متباعدة؛ بأوصاف متخالفة. وكما أنّ الشّمس يراها كلّ إنسان في الشّرق والغرب في ساعة واحدة وبصفات مختلفة؛ فكذلك هو صلّى الله عليه وسلّم.
وحكي عن البارزيّ واليافعيّ والجيليّ والشّاذليّ والمرسيّ وعلي وفاء والقطب القسطلّانيّ وغيرهم أنّهم رأوه يقظة. قال ابن أبي جمرة: ومنكر ذلك!! إن كان ممّن يكذّب بكرامات الأولياء؛ فلا كلام معه، وإلّا! فهذه منها؛ إذ يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالم العلويّ والسفليّ. انتهى.
وسبقه لنحوه حجّة الإسلام؛ فقال في كتاب «المنقذ» : وهم- يعني: أرباب القلوب- في يقظتهم، يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه(4/334)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام..
فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتصوّر- أو قال لا يتشبّه- بي» .
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام) - بصفتي الّتي أنا عليها، أو بغيرها؛ على ما تقدّم- (فقد رآني) - أي: رأى حقيقتي على كمالها- (فإنّ الشّيطان لا يتصوّر) بي، لا مناما ولا يقظة؛ حفاظا للشّريعة المعلومة بالكتاب والسّنّة.
ثمّ إن رآه الرّائي على صورته كان الرّائي كاملا، وإلّا! فهو ناقص، فتكون الرّؤية حينئذ تنبيها له ليتوب، فمن رآه ميتا دلّ على موت الشّريعة في الرّائي، فإن كان مستقيما! دلّ على موت الشّريعة في ذلك المكان.
(أو قال) - شكّ من الرّاوي- (: «لا يتشبّه بي» ) ، التصوّر: قريب من التّمثّل، وكذا التشبّه.
قال بعض شرّاح «المصابيح» : ومثله في ذلك جميع الأنبياء والملائكة.
انتهى.
وما ذكره احتمالا جزم به البغويّ في «شرح السّنّة» ؛ قال: وكذلك حكم القمرين، والنّجوم، والسّحاب الذي ينزل منه الغيث: لا يتمثّل الشّيطان بشيء منها.
لكن ذكر المحقّقون أنّه خاصّ به صلى الله عليه وسلم؛ ذكره العزيزي على «الجامع الصغير» وغيره.
والحديث رواه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود؛ من حديث أبي هريرة بلفظ:
«من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثّل الشّيطان بي» . ورواه الطّبراني؛ وزاد: «ولا بالكعبة» . وقال: لا تحفظ هذه اللّفظة إلّا في هذا الحديث.
ولمسلم؛ من حديث جابر: «من رآني في المنام فقد رآني، فإنّه(4/335)
.........
لا ينبغي للشّيطان أن يتمثّل في صورتي» . وفي رواية: «فإنّه لا ينبغي للشّيطان أن يتشبّه بي» .
وفي حديث أبي سعيد الخدريّ؛ عند البخاري: سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من رآني فقد رأى الحقّ، فإنّ الشّيطان لا يتكوّنني» ، أي: لا يتكوّن كوني، أي:
لا يتصور تصوّرا كصورتي، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل.
وفي حديث أبي قتادة؛ عند «البخاري ومسلم» بلفظ: «من رآني فقد رأى الحقّ، فإنّ الشّيطان لا يتراءى بي» - بالرّاء-؛ بوزن: يتعاطى، ومعناه لا يستطيع أن يتمثّل بي، ووقع عند الإسماعيلي؛ في «مستخرجه» : «من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة، فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» . ومثله عند ابن ماجه، وصحّحه التّرمذيّ؛ من حديث ابن مسعود المتقدّم.
والحاصل: أنّ هذا الحديث متواتر، وقد ذكره السّيوطيّ في «الأزهار المتناثرة» وقال: أخرجه الشّيخان؛ عن أنس، وأبي سعيد، وأبي قتادة، وأبي هريرة.
ومسلم، عن جابر. والتّرمذيّ؛ عن ابن مسعود.
وابن ماجه؛ عن ابن عباس، وأبي جحيفة.
وأحمد؛ عن أبي قتادة، وأبي مالك الأشجعيّ.
والطّبرانيّ؛ عن أبي سعيد، وابن عمرو، وأبي بكرة، ومالك بن عبد الله الخثعميّ.
والبخاريّ في «التّاريخ» ؛ عن طارق بن أمية الأشجعيّ. انتهى.
فائدة: سئل شيخ الإسلام؛ زكريّا الأنصاريّ رحمه الله تعالى: عن رجل زعم أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول له: «مر أمّتي بصيام ثلاثة أيّام، وأن يعيّدوا بعدها، ويخطبوا» ، فهل يجب الصّوم، أو يندب، أو يجوز، أو يحرم؟!(4/336)
.........
وهل يكره أن يقول أحد للنّاس: أمركم النّبيّ عليه الصلاة والسلام، بصيام أيام لأنّه كذب عليه، ومستنده الرّؤيا الّتي سمعها من غير رائيها، أو منه.
وهل يمتنع أن يتسمّى إبليس باسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقول للنّائم: إنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويأمره بطاعته، ليتوصّل بذلك إلى معصيته؛ كما يمتنع عليه التّشكّل في صورته الشّريفة أم لا!! [وبم] تتميّز الرؤية له صلى الله عليه وسلم الصادقة من الكاذبة، وهل يثبت شيء من أحكام الشّرع بالرؤية في النّوم؟ وهل المرئيّ ذاته صلى الله عليه وسلم، أو روحه، أو مثل ذلك.
أجاب- رحمه الله تعالى- بقوله: لا يجب على أحد الصّوم؛ ولا غيره من الأحكام بما ذكر، ولا مندوب. بل قد يكره؛ أو يحرم، لكن إن غلب على الظّنّ صدق الرّؤيا فله العمل بما دلّت عليه؛ ما لم يكن فيه تغيير حكم شرعيّ. ولا يثبت بها شيء من الأحكام؛ لعدم ضبط الرّائي، لا للشّكّ في الرّؤيا.
ويحرم على الشّخص أن يقول: أمركم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكذا؛ فيما ذكر، بل يأتي بما يدلّ على مستنده من الرّؤيا، إذ لا يمتنع عقلا أن يتسمّى إبليس باسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليقول للنّائم: إنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويأمره بالطّاعة؛ والرّؤيا الصّادقة هي الخالصة من الأضغاث.
والأضغاث أنواع:
الأوّل: تلاعب الشّيطان ليحزن الرّائي؛ كأن يرى أنّه قطع رأسه.
الثّاني: أن يرى أنّ بعض الأنبياء يأمره بمحرّم؛ أو محال.
الثّالث: ما تتحدّث به النّفس في اليقظة تمنّيا؛ فيراه كما هو في المنام.
ورؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك لذاته؛ ورؤيته بغير صفته إدراك لمثاله، فالأولى: لا تحتاج إلى تعبير، والثّانية: تحتاج إليه.
ويحمل على هذا قول النّوويّ «الصّحيح أنّه يراه حقيقة؛ سواء كانت صفته المعروفة أو غيرها» . وللعلماء في ذلك كلام كثير ليس هذا محلّ ذكره، وفيما(4/337)
وعن يزيد الفارسيّ- وكان يكتب المصاحف- قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام زمن ابن عبّاس، فقلت لابن عبّاس:
إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النّوم، فقال ابن عبّاس:
إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «إنّ الشّيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي، فمن رآني في النّوم.. فقد رآني» ، ...
ذكرته كفاية. انتهى بنصّه؛ ذكره المناوي؛ في «كبيره» .
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ من حديث عوف بن أبي جميلة؛
(عن يزيد الفارسيّ) ابن هرمز المدنيّ الليثيّ، «مولاهم؛ ومولى ابن عثمان أو غيره» ، تابعيّ، خرّج له مسلم؛ وأبو داود؛ والنّسائيّ.
وقال الذّهبيّ: كان رأس الموالي يوم الحرّة. وهو والد عبد الله الفقيه، بقي إلى سنة مائة؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى.
لكن قال في «جمع الوسائل» : الصّحيح أنّه غيره، فإنّ يزيد بن هرمز مدنيّ من أوساط التّابعين؛ ويزيد الفارسيّ بصريّ مقبول، من صغار التّابعين- كما يعلم من «التقريب» و «تهذيب الكمال» -. انتهى.
(وكان يكتب المصاحف) فيه إشارة إلى بركة عمله، ولذلك رأى هذه الرّؤيا العظيمة، لأنّ رؤياه صلى الله عليه وسلم في صورة حسنة تدلّ على حسن دين الرّائي، بخلاف رؤيته في صورة شين أو نقص في بعض البدن، فإنّها تدلّ على خلل في دين الرّائي، فبها يعرف حال الرّائي، فلذلك لا يختصّ برؤيته صلى الله عليه وسلم الصّالحون.
(قال) ؛ أي: يزيد (: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام زمن ابن عبّاس) ؛ أي: في زمن وجوده، أي: في حياته؛ (فقلت لابن عبّاس:
إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّوم!!
فقال ابن عبّاس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ الشّيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي، فمن رآني في النّوم فقد رآني» ) ؛ أي: فليبشّر بأنّه رآني حقيقة، أي:(4/338)
هل تستطيع أن تنعت هذا الرّجل الّذي رأيته في النّوم؟
قال: نعم، أنعت لك رجلا بين الرّجلين؛ جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، أكحل العينين، حسن الضّحك، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته ما بين هذه إلى هذه؛ ...
رأى حقيقتي كما هي، فلم يتّخذ الشّرط والجزاء، أو هو في معنى الإخبار؛ أي:
من رآني فأخبره بأنّ رؤياه حقّ، لا أضغاث أحلام وتخيّل شيطان.
(هل تستطيع أن تنعت هذا الرّجل الّذي رأيته في النّوم) ؛ أي: تصفه بما فيه من حسن، فالنّعت وصف الشّيء بما فيه من حسن، ولا يقال في القبيح إلّا بتجوّز، والوصف يقال في الحسن والقبيح؛ كما في «النهاية» .
(قال) أي: الرائي؛ وهو يزيد الفارسي (: نعم؛ أنعت لك رجلا) بالنّصب على أنّه مفعول «أنعت» - (بين الرّجلين) ؛ في القصر والطّول، لا بائن ولا قصير، كما سبق، وقوله «بين رجلين» خبر مقدّم، وقوله (جسمه ولحمه) مبتدأ مؤخّر، أو هو فاعل بالظرف، والجملة صفة ل «رجلا» ، يريد أنّه متوسط في القصر والطّول والسّمن ومقابله.
(أسمر) ؛ أي: أحمر مائل (إلى البياض) ؛ لأنّه كان أبيض مشربا بحمرة كما تقدّم-، فالسّمرة تطلق على الحمرة، وقوله «أسمر» بالرفع: على أنّه خبر مبتدأ مقدّر، وبالنّصب: على أنّه نعت ل «رجلا» ، أو خبر ل «كان» مقدّرة؛ ومثله قوله:
(أكحل) ؛ من الكحل وهو سواد (العينين) خلقة، (حسن الضّحك) ؛ لأنّه كان يتبسّم في غالب أحواله، (جميل دوائر الوجه) ؛ أي: حسن أطراف الوجه، فالمراد بالدّوائر: الأطراف، فلذلك صحّ الجمع، وإلّا! فالوجه له دائرة واحدة؛ (قد ملأت لحيته ما بين هذه) الأذن (إلى هذه) الأذن الآخرى، وكان الأظهر في التعبير أن يقول «ما بين هذه وهذه» لأنّ «ما بين» لا تضاف إلّا إلى متعدّد. أو(4/339)
قد ملأت نحره.
فقال ابن عبّاس: لو رأيته في اليقظة.. ما استطعت أن تنعته فوق هذا.
وعن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني- يعني في النّوم- فقد رأى الحقّ» .
يقول «من هذه إلى هذه» لأن «من» الابتدائيّة تقابل ب «إلى» الانتهائيّة.
وأشار بذلك إلى أنّ لحيته الكريمة عريضة عظيمة؛ (قد ملأت نحره) أي:
كانت مسترسلة إلى صدره، كثّة، وهو إشارة إلى طولها.
(فقال ابن عبّاس) ليزيد الرّائي- لما أخبره بنعت من رآه في النّوم- (: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا) أي: فما رأيته في النّوم موافق لما عليه الواقع.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «التعبير» ، ومسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛
(عن أبي قتادة) الحارث بن ربعي، أو عمرو، أو النّعمان الأنصاريّ.
شهد أحدا وما بعدها- وتقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني- يعني في النّوم-) : تفسير مدرج من بعض الرواة (فقد رأى الحقّ» .) أي: رؤيته حقّ، أي: رأى الرّؤيا الصّادقة الصّحيحة، وهي الّتي يريها الملك الموكّل بضرب أمثال الرّؤيا بطريق الحكمة لبشارة أو نذارة أو معاتبة، ليكون على بصيرة من أمره.
وأبعد بعضهم فقال: يمكن أن يراد بالحقّ هو الله مبالغة؛ تنبيها على أنّ من رآه على وجه المحبّة والاتّباع كأنّه رأى الله تعالى كقوله: «من أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله» . انتهى.(4/340)
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام.. فقد رآني، فإنّ الشّيطان لا يتخيّل بي» .
وردّ بأنّه يأباه قوله «فإنّ الشّيطان لا يتزيّا بي» - بالزّاي المعجمة- أي: لا يظهر في زيّي؛ أي: لا يستطيع ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى؛ وإن مكّنه من التصوّر في أيّ صورة أراد؛ فإنّه لا يمكّنه من التّصوّر في صورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ، والتّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» :
(عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام) أي: في حال النّوم- (فقد رآني) حقيقة؛ أي: رأى حقيقتي كما هي، (فإنّ الشّيطان لا يتخيّل بي» ) . أي: لا يمكنه أن يظهر لأحد بصورتي، فمعنى التخيّل يقرب من معنى التصوّر.
فإن قيل: كيف يكون ذلك وهو في المدينة المنوّرة؛ والرائي في المشرق أو المغرب مثلا!؟
أجيب: بأنّ الرّؤية أمر يخلقه الله تعالى، ولا يشترط فيها عقلا مواجهة؛ ولا مقابلة؛ ولا خروج شعاع؛ ولا غيره. ولذا جاز أن يرى أعمى الصّين بقّة أندلس!!.
فإن قلت: كثيرا يرى على خلاف صورته المعروفة، ويراه شخصان في حالة واحدة في مكانين؛ والجسم الواحد لا يكون إلّا في مكان واحد؟!
أجيب: بأنّه يعتبر في صفاته؛ لا في ذاته، فتكون ذاته عليه الصلاة والسلام مرئيّة وصفاته متخيّلة غير مرئيّة، فالإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار، ولا قرب المسافة، فلا يكون المرئيّ مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها، وإنّما يشترط كونه موجودا، ولو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله!! كان هذا من صفاته المتخيّلة؛ لا المرئيّة. كذا قاله القسطلّاني في «شرح البخاري» .(4/341)
قال: «ورؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة» .
(قال:) ؛ أي: أنس- على ما هو ظاهر صنيع المصنّف- وإلّا لقال «وقال» ! لكنّه موقوف في حكم المرفوع! ولا يبعد أن يكون الضّمير له صلى الله عليه وسلم، بل هو الأقرب، لأنّ الأشهر أنّ هذا مرفوع في البخاري وغيره.
( «ورؤيا) - مصدر؛ كالرّجعى- (المؤمن) والمؤمنة الصالحين، والمراد غالب رؤياهما، وإلّا! فقد تكون رؤياهما أضغاث أحلام؛ أي: أخلاط أحلام فلا يصحّ تأويلها لاختلاطها؛ (جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة» ) .
وجه ذلك- على ما قيل-: أنّ زمن الوحي ثلاثة وعشرون سنة، وأوّل ما ابتدئ به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة، وكان زمنها ستّة أشهر، ونسبة ذلك إلى سائر المدّة المذكورة جزء من ستة وأربعين جزآ، ولا حرج على أحد في الأخذ بظاهر ذلك.
لكن لم يرد أثر أنّ زمن الرؤيا ستّة أشهر!! مع كون هذا التوجيه لا يظهر في بقية الرّوايات غير هذه الرّواية؟! فإنّ [هـ] ورد في رواية: «من خمس وأربعين» ، وفي رواية «من أربعين» ، وفي رواية «من خمسين» ... إلى غير ذلك، واختلاف الرّوايات يدلّ على أنّ المراد التكثير؛ لا التحديد.
ولا يبعد أن يحمل اختلاف الأعداد المذكورة على اختلاف أحوال الرّائي في مراتب الصّلاح، وأظهر ما قيل في معنى كون الرؤيا جزآ من أجزاء النّبوّة: أنّها جزء من أجزاء علم النّبوّة، لأنّها يعلم بها بعض الغيوب، ويطلع بها على بعض المغيّبات، ولا شكّ أنّ علم المغيّبات من علم النّبوّة، ولذلك قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل: أيعبّر الرّؤيا كلّ أحد؟ قال: أبالنّبوّة يلعب!! ثمّ قال:
الرّؤيا جزء من النّبوّة. وليس المراد أنّها نبوّة باقية حقيقة.
ويؤيّد ذلك الحديث الّذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: «لم يبق من النّبوّة إلّا المبشّرات» ، قالوا: وما المبشّرات؟ قال: «الرّؤيا الصّالحة؛ يراها(4/342)
وقوله [صلّى الله عليه وسلّم] : (من رآني في المنام فقد رآني) قال الباجوريّ: أي: من رآني في حال النّوم.. فقد رآني حقّا، أو.. فكأنّما رآني في اليقظة.
فهو على التّشبيه والتّمثيل؛ وليس المراد رؤية جسمه الشّريف وشخصه المنيف، بل مثاله على التّحقيق.
الرّجل المسلم، أو ترى له» . أخرجه البخاريّ.
والتعبير بالمبشّرات للغائب، وإلّا! فقد تكون من المنذرات. وبالجملة: فلا ينبغي أن يتكلّم في تعبير الرّؤيا بغير علم، لما علمت من أنّها جزء من أجزاء النّبوّة.
(وقوله) في الحديث: ( «من رآني في المنام فقد رآني» !! قال:) شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) - رحمه الله تعالى؛ في «حاشية الشّمائل» -:
(أي: من رآني في حال النّوم) بأيّ صفة كانت؛ (فقد رآني حقّا) ؛ أي: رأى حقيقتي على كمالها؛ لا شبهة ولا ريب فيما رأى، (أو فكأنّما رآني في اليقظة، فهو على التّشبيه والتّمثيل) ، لأنّ ما رآه في النّوم مثاليّ، وما يرى في عالم الحسّ حسّيّ، فهو تشبيه خياليّ بحسيّ.
(و) قال الغزاليّ: (ليس المراد) بقوله: «فقد رآني» (رؤية جسمه الشّريف وشخصه المنيف، بل) رؤية (مثاله) الّذي صار آلة يتأدّى بها المعنى الذي في نفس الأمر إليه، وكذلك قوله: «فسيراني في اليقظة» !! ليس المراد أنّه يرى جسمي وبدني؛ بل المثال.
قال: والآلة تارة تكون حقيقيّة، وتارة تكون خيالية، والنّفس غير المثال المتخيّل، فما رآه من الشّكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ولا شخصه، بل مثال له (على التّحقيق) .
قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإنّ ذاته تعالى منزّهة عن الشّكل والصّورة، ولكن تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور؛ أو(4/343)
وقوله [صلّى الله عليه وسلّم] : (فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي) أي: لا يستطيع ذلك؛ لأنّه سبحانه وتعالى جعله صلّى الله عليه وسلّم محفوظا من الشّيطان في الخارج، فكذلك في المنام، ...
غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقّا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرّائي «رأيت الله عزّ وجل في المنام» لا يعني أنّي رأيت ذات الله؛ كما يقول في حقّ غيره.
وقال الغزاليّ أيضا؛ في بعض فتاويه: من رأى الرّسول صلى الله عليه وسلم- يعني: في المنام لم ير حقيقة شخصه المودع روضة المدينة المنوّرة، وإنّما رأى مثاله؛ لا شخصه.
ثمّ قال: وذلك المثال مثال روحه المقدّسة عن الصّورة والشّكل. انتهى.
(وقوله: «فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» ) ؛ أي: لا يحصل للشّيطان مثال صورتي، ولا يتشبّه بي، (أي: لا يستطيع ذلك، لأنّه سبحانه وتعالى جعله صلى الله عليه وسلم محفوظا من الشّيطان في الخارج) ؛ أي: في حال اليقظة، (فكذلك في المنام) ؛ أي: فكما منعه الله أن يتصوّر بصورته في اليقظة منعه ذلك في النّوم؛ لئلّا يشتبه الحقّ بالباطل.
وأورد الشّيخ أكمل الدّين «1» في «شرح المشارق» : إنّ عظمة الله تعالى أتمّ من عظمة كلّ عظيم، مع أنّ إبليس تراءى لكثير وخاطبهم بأنّه الحقّ ليضلّهم، فضلّ جمع حتّى ظنّوا أنّهم رأوا الحقّ وسمعوا خطابه.
وأجاب: بأنّ كلّ عاقل يعلم بأنّ الحقّ لا صورة له معيّنة توجب الاشتباه، بخلاف النّبيّ فصورته معيّنة معلومة؛ وبأنّ مقتضى حكمة الحقّ أنّه يضلّ من يشاء، ويهدي من يشاء، بخلاف النّبيّ؛ فإنّه متّصف بالهداية ظاهر بصورتها، ورسالته
__________
(1) البابرتي الحنفي.(4/344)
سواء رآه على صفته المعروفة أو غيرها على المنقول المقبول عند ذوي العقول، وإنّما ذلك يختلف باختلاف حال الرّائي، كالمرآة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها؛ ...
إنّما هي لذلك؛ لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتة، فوجب عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان.
وقال القاضي عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحّة رؤية الله تعالى في النّوم، وإن رؤي على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام؛ لتحقّق أنّ المرئيّ غير ذات الله، إذ لا يجوز عليه التّجسيم؛ ولا اختلاف الحالات، بخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فكانت رؤياه تعالى في النّوم من باب التّمثيل والتّخييل.
وقال ابن العربي: رؤيا الله في النّوم أوهام وخواطر في القلب؛ لا تليق به الحقيقة، ويتعالى عنها، وهي دلالات للرّائي على أمر كان؛ أو يكون كسائر المرئيّات.
وقال غيره: رؤياه تعالى مناما حقّ وصدق؛ لا كذب فيها في قول ولا فعل.
انتهى «مناوي وزرقاني» رحمهما الله تعالى.
ورؤياه صلى الله عليه وسلم في المنام حقّ، (سواء رآه على صفته المعروفة؛ أو غيرها على المنقول المقبول عند ذوي العقول) ، كما هو ظاهر الحديث، وبه صرّح النّوويّ، مضعّفا لتقييد الحكيم التّرمذيّ والقاضي عياض وغيرهما بما إذا رآه على صورته المعروفة في حياته، وتبعه عليه بعض المحقّقين.
(وإنّما ذلك يختلف باختلاف حال الرّائي) ، فإن كانت رؤيته بصورته الحقيقيّة في وقت ما؛ سواء كان في شبابه، أو رجولته، أو كهولته، أو أواخر عمره؛ لم تحتج لتأويل، وإلّا! احتيجت لتعبير متعلّق بالرّائي، ومن ثمّ قيل: من رآه شيخا؛ فهو في غاية سلم، أو شابّا فهو في غاية حرب، أو متبسّما فهو متمسّك بسنّته، أو على حالته وهيئته؛ فهو دليل على صلاح حال الرّائي وكمال وجاهته وظفره، لأنّه صلى الله عليه وسلم (كالمرآة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها) ، وإن كان ذاتها على أحسن حال؛(4/345)
فقد رآه جمع بأوصاف مختلفة، ...
قاله المناوي رحمه الله تعالى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة الّتي كان عليها إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإنّ الصّواب أنّ الأنبياء لا تغيّرهم الأرض، ويكون إدراك الذّات الكريمة حقيقة، وإدراك الصّفات إدراك المثال؛ لا الحقيقة.
أي: فالأولى لا تحتاج إلى تعبير، والثّانية تحتاجه.
وللصّوفيّة ما يوافق معنى هذا؛ وإن اختلف اللّفظ، حيث قالوا: هنا ميزان يجب التّنبّه له؛ وهو: أنّ الرّؤيا الصّحيحة أن يرى بصورته الثّابتة بالنّقل الصّحيح، فإن رآه بغيرها كطويل أو قصير؛ أو شيخ؛ أو شديد السّمرة!! لم يكن رآه.
وحصول الجزم في نفس الرّائي بأنّه رآه غير حجّة، بل ذلك المرئيّ صورة الشّرع «1» بالنّسبة لاعتقاد الرّائي، أو حاله، أو صفته، أو حكم من أحكام الإسلام، أو بالنّسبة للمحل الّذي رأى فيه تلك الصّورة. قال القونويّ كابن عربي الحاتمي: وقد جرّبناه فوجدناه لم ينخرم. انتهى «زرقاني» .
(وقد) علم من ذلك صحّة أن (يراه جمع) ؛ في آن واحد؛ في أقطار متباعدة؛ (بأوصاف مختلفة) ، لأنّه صلى الله عليه وسلم سراج ونور، والشّمس في هذا العالم مثال نوره في العوالم كلّها، فكما أنّ الشّمس يراها كلّ إنسان في الشّرق والغرب في ساعة واحدة؛ وبصفات مختلفة؛ فكذلك هو صلى الله عليه وسلم، والاختلافات إنّما ترجع إلى اختلاف الرّائين؛ لا المرئيّ- كما تقدّم-.
قال أبو سعيد؛ أحمد بن محمّد نصر: من رأى نبيّا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرّائي، وكمال جاهه، وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغيّر
__________
(1) يفهم هذا مما ذكره في «سعادة الدارين» ص 426. (هامش الأصل) .(4/346)
ومثله في ذلك جميع الأنبياء والملائكة. كما جزم به البغويّ في «شرح السّنّة» .
الحال عابسا مثلا؛ فذلك دليل على سوء حال الرّائي.
وقال العارف ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: من رآه بصورة حسنة؛ فذلك حسن في دين الرّائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص؛ فذلك خلل في الرّائي من جهة الدّين. قال: وهذا هو الحقّ؛ فقد جرّب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبيّن للرّائي: هل عنده خلل؛ أم لا! لأنّه عليه الصلاة والسلام نورانيّ مثل المرآة الصّقيلة؛ ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصوّر فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال؛ لا نقص فيها، أي: فكذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، هو على صفته الّتي ليس شيء أحسن منها، والتغير إنّما هو في صفة الرّائي، قال: وكذلك يقال في كلامه عليه الصلاة والسلام في النّوم: إنّه يعرض على سنّته؛ فما وافقها فهو حقّ، وما خالفها؛ فالخلل في سمع الرّائي.
فرؤيا الذّات الكريمة حقّ، والخلل إنّما هو في سمع الرّائي؛ أو بصره. قال:
وهذا خبر ما سمعته في ذلك. انتهى كلام ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى.
(ومثله) صلى الله عليه وسلم (في ذلك جميع الأنبياء والملائكة. كما) ذكره بعض شرّاح «المصابيح» احتمالا، و (جزم به) ركن الدّين محيي السّنّة، أبو محمّد:
الحسين بن مسعود بن محمد؛ المعروف ب «الفرّاء» ، (البغويّ) نسبة إلى «بغشور» ؛ على غير قياس، ويقال: «بغ» ؛ بلدة من بلاد خراسان بين مرو وهراة- الفقيه الشّافعي المحدّث المفسّر، صاحب المصنّفات، المبارك له فيها لقصده الصّالح، المتعبّد النّاسك الرّبّانيّ، المتوفّى ب «مرو» في شوّال سنة:
خمسمائة وستة عشر هجرية. رحمه الله تعالى آمين.
(في) كتاب ( «شرح السّنّة» ) ، وهو كتاب في الحديث مرتّب على الأبواب الفقهيّة مشتمل على السّنن، وما هو في حيّزها؛ أو له تعلّق بها.(4/347)
وكذلك حكم القمرين والنّجوم والسّحاب الّذي ينزل فيه الغيث، فلا يتمثّل الشّيطان بشيء منها.
قال مؤلّفه في مقدّمته: هذا كتاب يتضمّن كثيرا من علوم الأحاديث وفوائد الأخبار المرويّة عن النّبي صلى الله عليه وسلم؛ من حلّ مشكلها، وتفسير غريبها، وبيان أحكامها، وما يترتّب عليها من الفقه واختلاف العلماء، وجمل لا يستغنى عن معرفتها، وهو المرجوع إليه في الأحكام، ولم أودع فيه إلّا ما اعتمده أئمّة السّلف الّذين هم أهل الصّنعة المسلّم لهم الأمر، وما أودعوه كتبهم، وأمّا ما أعرضوا عنه؛ من المقلوب والموضوع والمجهول واتّفقوا على تركه؛ فقد صنت هذا الكتاب عنه ... إلى آخر ما قال. ثمّ بدأ بكتاب الإيمان.
لكن ذكر المحقّقون أنّ ذلك خاصّ به صلى الله عليه وسلم، دون غيره من الأنبياء.
وقالوا في حكمة ذلك: إنّه صلى الله عليه وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحقّ وصفاته تخلّقا وتحقّقا؛ فإنّ من مقتضى مقامات رسالته ودعوته الخلق إلى الحقّ: أن يكون الأظهر فيه؛ حكما وسلطنة، من صفات الحقّ وأسمائه صفة الهداية، والاسم الهادي؛ فهو صلى الله عليه وسلم صورة الاسم الهادي ومظهر صفة الهداية.
والشّيطان مظهر اسم المضلّ والظّاهر بصفة الضّلالة؛ فهما ضدّان، ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، ولو ظهر إبليس بصفته لالتبس على النّاس فضلّوا بما يلقيه إليهم لظنّهم أنّه الرّسول صلى الله عليه وسلم، فعصم الله صورته من أن يتصوّر بها شيطان. انتهى.
والحكمة المذكورة تقتضي عمومه في جميع الأنبياء والملائكة.
قال البغويّ: (وكذلك حكم القمرين) : الشّمس والقمر، فهو من باب التّغليب، (والنّجوم) المضيئة، (والسّحاب الّذي ينزل فيه الغيث، فلا يتمثّل الشّيطان بشيء منها) . قال:
ورؤية الأنبياء والملائكة بمكان نصرة لأهله وفرج إن كانوا في كرب. وخصب إن كانوا في جدب. ورؤية الأنبياء شرف في الدّنيا، ورؤية الملائكة شرف فيها(4/348)
ونقل ابن علّان: إنّ الشّيطان لا يتمثّل بالله تعالى كما لا يتمثّل بالأنبياء، وهذا هو قول الجمهور.
وقال بعضهم: يتمثّل بالله، فإن قيل: كيف لا يتمثّل بالنّبيّ ويتمثّل بالله على هذا القول؟
وشهادة في العقبى، لأنّ الأنبياء كانوا يخاطبون النّاس والملائكة لا تراهم النّاس لأنّهم عند ربهم.
وقال تعالى في الشّهداء فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [277/ البقرة] . قال: ومن رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرا في المنام لم يزل خفيف المال مقلّا من الدّنيا من غير حاجة. انتهى.
(ونقل) العلّامة المحقّق المحدّث المفسّر؛ محمد بن علي.
(ابن علّان:) - بفتح العين المهملة، وتشديد اللّام، وآخره نون- ابن إبراهيم بن محمد علّان البكري الصدّيقي. حافظ عصره وإمام وقته. فارس التّفسير وجهبذ الحديث، وفخر علماء مكة المكرمة في القديم والحديث.
ولد في حدود: الثّمانين وتسعمائة هجريّة تقريبا، ومات سنة ثمان وخمسين وألف هجريّة.
له المؤلّفات النافعة الّتي بلغت أكثر من أربعمائة مؤلّف ما بين مطوّل ومختصر، فهو سيوطيّ زمانه، ودفن بالمعلاة في مقبرة آبائه رحمه الله تعالى. ترجمه الشيخ.
حسن العجيمي في «خبايا الزوايا» .
(إنّ الشّيطان لا يتمثّل بالله تعالى كما لا يتمثّل بالأنبياء، وهذا) القول (هو قول الجمهور. وقال بعضهم: يتمثّل بالله) بمعنى أنّه يتراءى للنّاس؛ ويخاطبهم بأنّه الحقّ ليضلّهم.
(فإن قيل:) عظمة الحقّ سبحانه أتمّ من عظمة كلّ عظيم ف (كيف لا يتمثّل) إبليس (بالنّبيّ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا يستطيع أن يظهر بصورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (ويتمثّل) اللّعين (بالله على هذا القول؛) الّذي قاله بعضهم- بمعنى أنّ الشّيطان تراءى لكثيرين(4/349)
أجيب: بأنّ النّبيّ بشر، فلو تمثّل به لا لتبس الأمر، والباري جلّ وعلا منزّه عن الجسميّة والعرضيّة؛ فلا يلتبس الأمر بتمثّله به؛ كما في «درّة الفنون في رؤية قرّة العيون» .
ولا تختصّ رؤية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصّالحين، بل تكون لهم ولغيرهم.
وخاطبهم بأنّه الحقّ؛ طلبا لإضلالهم، وقد أضلّ جماعة بمثل هذا حتّى ظنّوا أنّهم رأوا الحقّ وسمعوا خطابه؟!.
(أجيب) عن ذلك (ب) أمرين:
أحدهما: ب (أنّ النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (بشر) له صورة معيّنة معلومة مشهودة، (فلو تمثّل به لالتبس الأمر) على النّاس فضلوا بما يلقيه لهم، لظنّهم أنّه الرّسول، فعصم الله صورته من أن يتصوّر بها شيطان. (والباري جلّ وعلا) كلّ عاقل يعلم أنّه ليست له صورة معيّنة توجب الاشتباه؛ وهو (منزّه عن) صفات المخلوقين؛ ك (الجسميّة والعرضيّة) واختلاف الحالات، (فلا يلتبس الأمر بتمثّله به) .
ثانيهما: أنّ من مقتضى حكمة الحقّ أنّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، بخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّه متّصف بالهداية؛ ظاهر بصورتها، ورسالته إنّما هي لذلك؛ لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتّة، فوجب عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان لبقاء الاعتماد وظهور حكم الهداية فيمن شاء الله تعالى هدايته به، عليه الصّلاة والسلام، ولولا ذلك لم يظهر سر قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى] ولم تحصل فائدة البعثة؛ (كما في) كتاب ( «درّة الفنون في رؤية قرّة العيون» :) كتاب مختصر في الرّؤية؛ على ستّة فصول، وهو للشّيخ العلّامة المؤرّخ الصّوفي: عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن محمد البسطامي؛ زين الدين الأنطاكي الحنفي. ولد بإنطاكية، وتعلم في القاهرة، وسكن بروسة، وتوفي بها سنة: ثمان وخمسين وثمانمائة. رحمه الله تعالى.
(ولا تختصّ رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم) في المنام (بالصّالحين؛ بل تكون لهم ولغيرهم)(4/350)
وحكي عن بعض العارفين- كالشّيخ الشّاذليّ وسيّدي عليّ وفا-:
أنّهم رأوه صلّى الله عليه وسلّم يقظة، ولا مانع من ذلك، فيكشف لهم عنه صلّى الله عليه وسلّم في قبره، فيروه بعين البصيرة، ...
- كما علم مما مر-.
(وحكي) ؛ أي: حكى ابن أبي جمرة، والقاضي شرف الدّين البارزي، وعفيف الدين اليافعيّ وغيرهم؛ (عن بعض) الصّالحين (العارفين) بالله تعالى:
(كالشّيخ) أبي الحسن (الشّاذليّ) - كما حكاه عنه التّاج بن عطاء الله السّكندري- (وسيّدي) أبي العباس المرسي، والقطب القسطلّاني، والشّيخ عبد القادر الجيلاني، وسيّدي (علي وفا) بن سيّدي محمد وفاء، وغيرهم:
(أنّهم رأوه صلى الله عليه وسلم يقظة) - بفتح القاف-. وذكر ابن أبي جمرة عن جمع أنّهم حملوا على ذلك رواية «فسيراني في اليقظة» . وأنّهم رأوه نوما فرأوه يقظة بعد ذلك، وسألوه عن تشويشهم في أشياء فأخبرهم بوجوه تفريجها، فكان كذلك بلا زيادة ولا نقصان.
(ولا مانع من ذلك) عقلا؛ ولا شرعا؛ ولا عادة، ومنكر ذلك إن كان ممن يكذّب بكرامات الأولياء فلا كلام معه، وإلّا! فهذه منها. إذ يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالم العلويّ والسّفليّ.
وجرى على ذلك الغزالي؛ فقال في كتابه «المنقذ من الضّلال» : وهم يعني: أرباب القلوب- في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد. انتهى.
(فيكشف لهم) - وهم بأقصى المشرق؛ أو المغرب- (عنه صلى الله عليه وسلم) بأن لا يجعل بينهم وبين الذّات الشّريفة وهي (في) محلّها من (قبره) الشّريف ساترا؛ ولا حاجبا، بأن يجعل تلك الحجب كالزّجاج الّذي يحكي ما وراءه.
(فيروه بعين البصيرة) ، وهي قوّة القلب المنوّر بنور اليقين؛ ترى حقائق(4/351)
ولا أثر للقرب؛ ولا للبعد في ذلك، ...
الأشياء، (ولا أثر للقرب؛ ولا للبعد في ذلك) ، ونحن نعلم أنّه صلى الله عليه وسلم حيّ في قبره يصلّي، فإذا أكرم الإنسان برؤيته يقظة فلا مانع من أن يكرم بمحادثته ومكالمته وسؤاله عن الأشياء، وإنّه يجيبه عنها.!! وهذا كلّه غير منكر شرعا؛ ولا عقلا.
قال السّيوطي: وأكثر من يقع له ذلك إنّما يقع له قرب موته؛ أو عند الاحتضار، ويكرم الله بها من يشاء. انتهى.
وأنكر رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة؛ أنكرها جماعة؛
منهم العلّامة بدر الدين السّيّد: حسين بن عبد الرّحمن الأهدل، مؤلّف «تحفة الزّمن» رحمه الله تعالى، فقال في مسألة الرّؤية له:
إنّ وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار، وصار العلم بذلك قويّا؛ انتفى عنه الشّكّ، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة. ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة وحسّ وغموض طرف لمورود حال؛ لا تكاد تضبطها العبارة، ومراتبهم في الرّؤية متفاوتة. وكثيرا ما يغلط فيها رواتها، فقلّما تجد رواية متّصلة صحيحة عمّن يوثق به.
وأمّا من لا يوثق!! به فقد يكذب، وقد يرى مناما؛ أو في غيبة حسّ فيظنّه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورا؛ فيظنّه الرّسول صلى الله عليه وسلم، وقد يلبس عليه الشّيطان فيجب التّحرّز في هذا الباب.
وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرّأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول؛ لاستلزامه خروجه من قبره، ومشيه في الأسواق، ومخاطبته للنّاس، ومخاطبتهم له، وخلوّ قبره عن جسده الشّريف؛ فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرّد القبر؛ ويسلّم على غائب. انتهى.
ومنهم: أبو العباس القرطبيّ في «المفهم» في الرّد على من قال «بأنّ الرّائي له في المنام رؤيا حقيقيّة يراه بعد ذلك في اليقظة» . قال: وهذه جهالات لا يقول(4/352)
فمن كرامات الأولياء: خرق الحجب لهم، فلا مانع عقلا ولا شرعا أنّ الله تعالى يكرم وليّه؛ بأن لا يجعل بينه وبين الذّات الشّريفة ساترا ولا حاجبا) .
بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شيء من ذلك مختلّ مخبول.
انتهى.
وهذه الإلزامات كلّها ليس شيء منها بلازم، وقد أشار للجواب عنها بقوله:
(فمن كرامات الأولياء: خرق الحجب لهم) ؛ يعني: أنّ رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لا تستلزم خروجه من قبره؛ لأنّ من كرامات الأولياء- كما مرّ- أنّ الله تعالى يخرق لهم الحجب، (فلا مانع عقلا؛ ولا شرعا) ؛ ولا عادة: (أنّ الله تعالى يكرم وليّه بأن لا يجعل بينه وبين الذّات الشّريفة ساترا؛ ولا حاجبا) بأن يجعل تلك الحجب كالزّجاج الّذي يحكي ما وراءه، وحينئذ يقع بصره عليه صلى الله عليه وسلم. وإذا أكرم الإنسان بوقوع بصره على ذاته الشّريفة؛ فلا مانع أن يكرم بمحادثته ومكالمته، وسؤاله عن أشياء، وأنّه يجيب عنها، وهذا كلّه غير منكر شرعا؛ ولا عقلا.
وممن أنكرها صاحب «فتح الباري» العلّامة الحافظ؛ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني- رحمه الله تعالى- حيث قال:
وهذا مشكل جدّا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصّحبة إلى يوم القيامة!!.
ويردّ بأنّ الشّرط في الصّحابي أن يكون رآه في حياته، حتى اختلفوا فيمن رآه بعد موته؛ وقبل دفنه: هل يسمى صحابيا، أم لا؟! على أنّ هذا أمر خارق للعادة، والأمور التي كذلك لا تغيّر لأجلها القواعد الكلّيّة.
ونوزع أيضا بأنّه لم يحك ذلك عن أحد من الصّحابة، ولا من بعدهم، وبأنّ فاطمة اشتدّ حزنها عليه صلى الله عليه وسلم حتّى ماتت كمدا بعده بستّة أشهر، وبيتها مجاور لضريحه الشّريف صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنها رؤيته تلك المدّة!!.(4/353)
.........
ويردّ أيضا: بأنّ عدم نقله لا يدلّ على عدم وقوعه، فلا حجّة في ذلك كما هو ظاهر، وكذلك موت فاطمة كمدا؛ لأنّه قد يكرم المفضول بما لا يكرم به الفاضل.
وتأوّل الأهدل وغيره ما وقع للأولياء من ذلك: بأنّه إنّما هو في حال غيبتهم فيظنّونه يقظة، وفيه إساءة ظنّ بهم حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة، وهذا لا يظنّ بأدون العقلاء فكيف بالأكابر!!.
قاله ابن حجر- رحمه الله تعالى-.
وتعقّبه العلّامة علي القاري رحمه الله تعالى: بأنّ هذا ليس من باب إساءة الظّنّ، بل من باب التّأويل الحسن؛ جمعا بين المنقول والمشاهد المعقول، فإنّه لو حمل على الحقيقة؛ لكان يجب العمل بما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي وإثبات ونفي.
ومن المعلوم أنّه لا يجوز ذلك إجماعا، كما لا يجوز بما يقع حال المنام؛ ولو كان الرّائي من أكابر الأنام.
وقد صرح المازريّ: بأنّ من رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصّفات المتخيّلة؛ لا المرئيّة، فيتعيّن أن تحمل هذه الرّؤية أيضا على رؤية عالم المثال؛ أو عالم الأرواح- كما تقدّم تحقيقه عن الإمام حجّة الإسلام الغزالي؛ رحمه الله تعالى-.
وبعد حملنا على عالم المثال؛ فيزول الإشكال على كل حال، فإن الأولياء في عالم الدّنيا مع ضيقها قد يحصل لهم أبدان مكتسبة وأجسام متعدّدة، تتعلّق حقيقة أرواحهم بكلّ واحد من الأبدان؛ فيظهر كلّ في خلاف الآخر من الأماكن والأزمان، وحينئذ لا نقول: بأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم مضيّق عليه في عالم البرزخ بكونه محصورا في قبره، بل نقول: إنّه يجول في العالم السّفلي والعالم العلوي، فإنّ أرواح الشّهداء- مع أن مرتبتهم دون مرتبة الأنبياء- إذا كانت في أجواف طير خضر تسرح في رياض الجنّة، ثمّ تعود إلى قناديل معلّقة تحت العرش؛ كما هو مقرّر في(4/354)
.........
محلّه محرر، مع أنّه لم يقل أحد أنّ قبورهم خالية من أجسادهم؛ وأرواحهم غير متعلّقة بأجسامهم، لا يسمعوا سلام من يسلّم عليهم.
وكذا ورد أنّ الأنبياء يلبّون ويحجّون، فنبينا صلى الله عليه وسلم أولى بهذه الكرامات، وأمّته مكرّمة بحصول خوارق العادات، فيتعيّن تأويل الأهدل وغيره، فتأمّل.
ومن جملة تأويلاته قوله في قول العارف أبي العبّاس المرسي «لو حجب عني رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي مسلما» بأنّ هذا فيه تجوّز؛ أي: لو حجب عنّي حجاب غفلة، ولم يرد أنّه لم يحجب عن الرّوح الشّخصيّة طرفة عين؛ فذلك مستحيل!! أي: عرفا وعادة، إذ لا يعرف استمرار خرق العادة أصلا؛ لا شرعا؛ ولا عقلا. فاندفع قول ابن حجر «لا استحالة فيه بوجه أصلا» . انتهى كلام ملّا علي قاري؛ في «جمع الوسائل» .
وفي «الفتاوي الحديثيّة» للإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى؛ عن «المدخل» لابن الحاجّ المالكي: رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيّق؛ قل من يقع له ذلك إلّا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزّمان، بل عدمت غالبا، مع أنّنا لا ننكر من يقع له هذا من الأكابر الّذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم، قال:
وقد أنكر بعض علماء الظّاهر ذلك، محتجّا بأنّ العين الفانية لا ترى العين الباقية، وهو صلى الله عليه وسلم في دار البقاء؛ والرّائي في دار الفناء!!
وردّ بأنّ المؤمن إذا مات يرى الله، وهو سبحانه لا يموت، والواحد منهم يموت في كلّ يوم سبعين مرّة!! وأشار البيهقي إلى ردّه بأنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم رأى جماعة من الأنبياء ليلة المعراج.
قال البارزي: وقد سمع من جماعة من الأولياء في زماننا وقبله أنّهم رأوا النّبي صلى الله عليه وسلم يقظة؛ حيّا بعد وفاته!! قال ابن حجر رحمه الله تعالى: والحكايات في ذلك عن أولياء الله تعالى كثيرة جدّا، ولا ينكر ذلك إلّا معاند أو محروم، وعلم ممّا(4/355)
.........
مرّ عن ابن العربي أنّ أكثر ما تقع رؤيته صلى الله عليه وسلم بالقلب، ثمّ بالبصر، لكنّها به ليست كالرّؤية المتعارفة، وإنّما هو جمعيّة لحالية وحالة برزخيّة، وأمر وجدانيّ، فلا يدرك حقيقته إلّا من باشره؛ كذا قيل.
ويحتمل أنّ المراد الرّؤية المتعارفة؛ بأن يرى ذاته صلى الله عليه وسلم طائفة في العالم، أو تكشف الحجب بينه وبين النّبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو في قبره، فينظره حيّا فيه رؤية حقيقيّة، إذ لا استحالة، لكن الغالب أنّ الرّؤية إنّما هي لمثاله؛ لا لذاته، وعليه يحمل قول الغزالي «ليس المراد أن يرى جسمه وبدنه، بل مثالا له صار ذلك المثل آلة يتأدّى بها المعنى الّذي في نفسه ... » إلى آخر ما تقدّم.
قال ابن حجر: ثمّ رأيت ابن العربي صرّح بما ذكرته من أنّه لا يمتنع رؤية ذات النّبي صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده؛ لأنّه وسائر الأنبياء أحياء ردّت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم، والتصرّف في الملكوت العلويّ والسّفلي!! ولا مانع من أن يراه كثيرون في وقت واحد؛ لأنّه كالشّمس.
وإذا كان القطب يملأ الكون- كما قاله التّاج ابن عطاء الله- رحمه الله تعالى- فما بالك بالنّبي صلى الله عليه وسلم!!! ولا يلزم من ذلك أنّ الرّائي صحابي؛ لأنّ شرط الصّحبة الرّؤية في عالم الملك، وهذه رؤية؛ وهو في عالم الملكوت، وهي لا تفيد صحبة، وإلّا! لثبتت لجميع أمّته لأنّهم عرضوا عليه في ذلك العالم؛ فرآهم ورأوه، كما جاءت به الأحاديث. انتهى كلام ابن حجر مقتطفا.
وقال العفيف اليافعي في «روض الرّياحين» : أخبرني بعضهم أنّه يرى حول الكعبة الملائكة والأنبياء وأكثر ما يراهم ليلة الجمعة، وليلة الاثنين، وليلة الخميس. وعدّ لي جماعة كثيرة من الأنبياء، وذكر أنّه يرى كلّ واحد منهم في موضع معيّن؛ يجلس فيه حول الكعبة، ويجلس معه أتباعه من أهله وقرابته وأصحابه.
وذكر أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم يجتمع عليه من أولياء الله تعالى خلق لا يحصي عددهم إلّا الله(4/356)
.........
تعالى، ولم تجتمع على سائر الأنبياء.
وذكر أنّ إبراهيم وأولاده يجلسون بقرب الكعبة بحذاء مقامه المعروف، وموسى وجماعة من الأنبياء بين الرّكنين اليمانيّين، وعيسى وجماعة معه في جهة الحجر، ورأى نبيّنا صلى الله عليه وسلم جالسا عند الرّكن اليماني مع أهل بيته وأصحابه وأولياء أمّته. انتهى.
وحكي عن بعض الأولياء أنّه حضر مجلس فقيه، فروى ذلك الفقيه؛ حديثا، فقال له الولي: هذا باطل. فقال الفقيه: من أين لك هذا!؟ فقال: هذا النّبي صلى الله عليه وسلم واقف على رأسك؛ يقول: «إنّي لم أقل هذا الحديث» . وكشف للفقيه فرآه.
انتهى.
وقد ألّف الإمام الحافظ جلال الدّين السّيوطي رحمه الله تعالى رسالة سمّاها «تنوير الحلك في رؤية النّبي والملك» قال فيها- زيادة على ما تقدّم؛ ما ملخصه-: وفي بعض المجاميع أنّ سيدي أحمد الرّفاعي رحمه الله تعالى لما وقف تجاه الحجرة النّبويّة الشّريفة أنشد:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبّل الأرض عنّي وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فخرجت اليد الشّريفة من القبر فقبّلها؛ قال: وزاد بعض من روى هذه الحكاية ورآها كلّ من حضر-؛ قال: ولا تمتنع رؤية ذاته الشّريفة بجسده وروحه؛ وذلك لأنّه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء أحياء؛ ردّت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من القبور، والتصرّف في الملكوت العلوي والسّفلي.
وقد ألّف البيهقي جزآ في «حياة الأنبياء» «1» ؛ وقال في «دلائل النّبوّة» :
الأنبياء أحياء عند ربّهم كالشّهداء. وقال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن
__________
(1) مطبوع.(4/357)
.........
طاهر البغدادي: المتكلّمون المحقّقون من أصحابنا على أنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم حيّ بعد وفاته، وأنّه يسرّ بطاعة أمّته، ويحزن بمعاصي العصاة منهم؛ وأنّه تبلغه صلاة من يصلّي عليه من أمّته، وقال: الأنبياء لا يبلون، ولا تأكل الأرض منهم شيئا؛ وقد مات موسى في زمانه، وأخبر نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنّه رآه في السّماء الرّابعة، ورأى آدم وإبراهيم!! وإذا صحّ لنا هذا الأصل؛ قلنا: نبينا قد صار حيّا بعد وفاته، وهو على نبوّته. انتهى.
وقال القرطبيّ في «التّذكرة» في حديث الصّعقة؛ نقلا عن شيخه: «الموت ليس بعدم محض، وإنّما هو انتقال من حال إلى حال» .
ويدلّ على ذلك أنّ الشّهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدّنيا، وإذا كان هذا في الشّهداء؛ فالأنبياء أحقّ بذلك وأولى!!.
وقد صحّ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنّه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس؛ وفي السماء، ورأى موسى قائما يصلّي في قبره!.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّه يردّ السّلام على كلّ من يسلم عليه ... إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأنّ موت الأنبياء إنّما هو راجع إلى أنهم غيّبوا عنّا بحيث لا ندركهم؛ وإن كانوا موجودين أحياء، وكذلك الحياة في الملائكة، فإنّهم موجودون أحياء، ولا يراهم أحد إلّا من خصّه الله تعالى بكرامة. انتهى.
وأخرج أبو يعلى في «مسنده» ، والبيهقي في كتاب «حياة الأنبياء» ؛ عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» .
وأخرج البيهقي؛ عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الأنبياء لا يتركون بعد أربعين ليلة، ولكنّهم يصلّون بين يدي الله تعالى حتّى ينفخ في الصّور» .
وروى سفيان الثّوري في «الجامع» قال: قال شيخ لنا: عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبيّ في قبره أكثر من أربعين ليلة حتّى يرفع.(4/358)
.........
قال البيهقي: فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله تعالى.
وروى عبد الرّزّاق في «مصنفه» ؛ عن الثّوري؛ عن أبي المقدام؛ عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوما.
وأبو المقدام: هو ثابت بن هرمز الكوفي؛ شيخ صالح.
وأخرج ابن حبّان في «تاريخه» ، والطّبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيّ يموت ويقيم في قبره إلّا أربعين صباحا» .
وقال إمام الحرمين في «النّهاية» ؛ ثمّ الرّافعي في «الشرح» :
روي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربّي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» .
زاد إمام الحرمين: «أكثر من يومين» .
وزاد أبو الحسن الزّاغوني الحنبلي؛ في بعض تصانيفه حديث: «إنّ الله تعالى لا يترك نبيّا في قبره أكثر من نصف يوم» . وقال الإمام بدر الدين بن الصّاحب في «تذكرته» ؛ فصل في حياته صلى الله عليه وسلم بعد موته في البرزخ: وقد دلّ على ذلك تصريح المشايخ وإيماؤهم. ومن القرآن قوله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران] . فهذه الحالة؛ وهي الحياة في البرزخ بعد الموت حاصلة لآحاد الموتى من الشّهداء، وحالهم أعلى وأفضل ممّن لم تكن لهم هذه المرتبة؛ لا سيّما في البرزخ.
ولا تكون رتبة أحد من الأمّة أعلى من مرتبة النّبي صلى الله عليه وسلم، بل إنّما حصلت لهم هذه الرّتبة بتزكيته وتبعيّته. وأيضا فإنّما استحقّوا هذه الرّتبة بالشّهادة، والشّهادة حاصلة للنّبي صلى الله عليه وسلم على أتمّ الوجوه.(4/359)
.........
وقال عليه الصلاة والسلام: «مررت على موسى عليه الصّلاة والسّلام ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر؛ وهو قائم يصلّي في قبره» . وهذا صحيح «1» في إثبات الحياة لموسى؛ فإنّه وصفه بالصّلاة، وأنّه كان قائما، ومثل هذا لا توصف به الرّوح، وإنّما يوصف به الجسد. وفي تخصيصه بالقبر، فإنّ أحدا لم يقل: أرواح الأنبياء مسجونة في القبر مع الأجساد، وأرواح الشّهداء والمؤمنين في الجنّة.
وفي حديث ابن عبّاس: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكّة والمدينة، فمررنا بواد؛ فقال: «أيّ واد هذا؟» . فقلنا: وادي الأزرق، فقال: «كأنّي أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله تعالى بالتّلبية، مارّا بهذا الوادي» . ثمّ سرنا حتّى أتينا على ثنيّة؛ فقال: «كأنّي أنظر إلى يونس على ناقة حمراء؛ عليه جبّة صوف، مارّا بهذا الوادي ملبّيا!!» .
وسئل هنا: كيف ذكر حجّهم وتلبيتهم، وهم أموات، وهم في الآخرى، وليست دار عمل؟!.
فأجيب بأن الشّهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجّوا ويصلّوا ويتقرّبوا بما استطاعوا، وأنّهم؛ وإن كانوا في الآخرى؛ فإنّهم في هذه الدّنيا الّتي هي دار العمل، حتّى إذا فنيت وأعقبتها الآخرى الّتي هي دار الجزاء انقطع العمل، هذا لفظ القاضي عياض؛ رحمه الله تعالى.
فإذا كان القاضي عياض يقول: إنّهم يحجّون بأجسادهم؛ ويفارقون قبورهم، فكيف يستنكر مفارقة النّبي صلى الله عليه وسلم لقبره!! فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إذا كان حاجّا، وإذا كان مصلّيا بجسده في السّماء؛ فليس مدفونا في القبر.
قال الإمام الحافظ السّيوطي- رحمه الله تعالى-:
فحصل من مجموع هذه النّقول والأحاديث: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم حيّ بجسده وروحه،
__________
(1) لعلها: صريح!.(4/360)
.........
وأنّه يتصرّف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت، وهو بهيئته الّتي كان عليها قبل وفاته؛ لم يتبدّل منه شيء، وأنّه مغيّب عن الأبصار؛ كما غيّبت الملائكة، مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمّن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته الّتي هو عليها؛ لا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التّخصيص برؤية المثال. انتهى كلام السّيوطي في كتاب «تنوير الحلك» ملخّصا.
قال المصنّف الشّيخ يوسف النّبهاني رحمه الله تعالى: وقد رأيت رسالة في حجم كرّاسة منسوبة للشّيخ نور الدّين علي الحلبي؛ سمّاها «تعريف أهل الإسلام والإيمان بأنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه مكان ولا زمان» .
فممّا قاله فيها؛ بعد نقل كثير من كلام السّيوطي:
قلت: وأمّا كلامنا والّذي نقوله- إن شاء الله تعالى-: إنّ الأمر كما قاله الجلال السّيوطي، وأخصّ من ذلك أنّ الّذي أراه أنّ جسده الشّريف لا يخلو منه زمان؛ ولا مكان، ولا محل، ولا إمكان، ولا عرش؛ ولا لوح، ولا كرسي؛ ولا قلم، ولا بحر؛ ولا بر، ولا سهل؛ ولا وعر، ولا برزخ؛ ولا قبر، كما أشرنا إليه أيضا. وأنّه امتلأ الكون الأعلى به كامتلاء الكون الأسفل به، وكامتلاء قبره به، فتجده مقيما في قبره؛ طائفا حول البيت؛ قائما بين يدي ربه لأداء الخدمة؛ تامّ الانبساط بإقامته في درجة الوسيلة.
ألا ترى أنّ الرّائين له يقظة؛ أو مناما في أقصى المغرب يوافقون في ذلك الرّائين له كذلك في تلك السّاعة بعينها في أقصى المشرق!!؟ فمتى كان كذلك مناما كان في عالم الخيال والمثال، ومتى كان يقظة كان بصفتي الجمال والإجلال، وعلى غاية الكمال، كما قال القائل:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وأطال في ذلك بذكر الأدلّة. فراجعه في تلك الرّسالة، فهي بكمالها قد تضمنّها كتاب «جواهر البحار في فضائل النّبيّ المختار» للمصنّف الشّيخ يوسف النّبهاني(4/361)
.. انتهى.
وقد بسطت الكلام على رؤية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كتابي «أفضل الصّلوات على سيّد السّادات» فمن شاء الزّيادة فليرجع إليه.
رحمه الله تعالى آمين. (انتهى) . أي: كلام الباجوريّ رحمه الله تعالى ملخّصا.
(وقد بسطت الكلام على رؤية النّبيّ صلى الله عليه وسلم) يقظة ومناما (في كتابي) : «سعادة الدّارين في الصلاة على سيّد الكونين» ، وفي كتابي ( «أفضل الصّلوات على سيّد السّادات» ) في موضعين منه:
الأوّل: قبيل الفصل الخامس. والثّاني: في الكلام على الصّلاة السّادسة والأربعين؛ في ترجمة الشّيخ أبي المواهب الشّاذليّ رحمه الله تعالى.
(فمن شاء الزّيادة) على ما هنا؛ (فليرجع إليه) ، أي: إلى كتاب «أفضل الصّلوات» ، وكذلك «سعادة الدّارين» ؛ فإنّه أتى فيها بما يشفي العليل، ويروي الغليل، واستوعب نقول العلماء في ذلك بما لم يوجد قبله مجموعا في كتاب، فجزاه الله خير الجزاء، ورحمه رحمة الأبرار. آمين.(4/362)
[الخاتمة]
الخاتمة تشتمل على سبعين حديثا، أكثرها صحاح وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم.
(الخاتمة) ، وهي- لغة-: آخر شيء، واصطلاحا-: اسم لألفاظ مخصوصة، دالّة على معان مخصوصة، جعلت آخر كتاب أو باب، (تشتمل) ؛ أي: تحتوي (على سبعين) - بتقديم السّين على الموحّدة- (حديثا) .
الحديث- لغة-: ضدّ القديم، واصطلاحا-: ما أضيف إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قول؛ أو فعل؛ أو تقرير؛ أو وصف خلقيّ.
(أكثرها) أحاديث (صحاح) : جمع صحيح؛ ككريم وكرام.
والحديث الصّحيح هو: ما اتّصل سنده بنقل العدل الضّابط ضبطا تامّا؛ عن العدل الضّابط ضبطا تامّا ... وهكذا إلى منتهاه؛ من غير شذوذ، ولا علّة قادحة.
(وحسان) : جمع حسن؛ كجبل وجبال.
والحديث الحسن هو: ما اتّصل سنده بنقل العدل الضّابط؛ عن العدل الضّابط إلى منتهاه، من غير شذوذ؛ ولا علّة قادحة. فهو على هذا مساو للصّحيح في شروطه، إلّا في الحفظ والضّبط، فإنّ رجال الصّحيح في غاية الحفظ والضّبط؛ وإن كان رجال الحسن يشترط فيهم الحفظ والضّبط، ولكن دون ضبط رجال الصحيح.
(من أدعيته صلى الله عليه وسلم) ، وهذه الخاتمة مشرع الظمان إلى موارد الكرم العذبة، ومفزع الحيران إذا ألمت به الضّائقة وحصرته الكربة، فبالدّعاء يتوسّل إلى الله تعالى في مطالب الدّنيا والآخرة، ويتوصّل إلى النّعم الوافية والخيرات الوافرة، كيف لا؛ وقد أمرنا الرّبّ العظيم بالدّعاء والإنابة!! ووعدنا؛ وهو الوافي الكريم بالقبول(4/363)
.........
والإجابة!! وترادفت بفضله الأخبار الصّحيحة، وجاءت بشرفه الآثار الصّريحة؛ على ما ستقف على ذلك إن شاء الله تعالى واضحا، وتعوّل عليه مقيما وظاعنا؛ وغاديا ورائحا، فلازمه في سائر أحوالك، وتعاهده في بكرك وآصالك، فستجني منه إن شاء الله تعالى ثمار غرسك، وتجد حلاوة ذلك في قلبك، وأنسه في نفسك. تقبّل الله منّا ومنك؛ وفينا وفيك صالح الدّعوات، وجعلنا وإيّاك ممن اعتمد على كرمه ومنّته في الحركات والسّكنات، ووفّقنا للتّضرّع والسّكون إلى فضله، وعاملنا بما هو من أهله؛ لا ما نحن من أهله. آمين.
واعلم- رحمك الله تعالى- أنّه عندنا معاشر أهل السّنّة:
أنّ الدّعاء ينفع الأحياء والأموات؛ إن دعوت لهم، ويضرّهم إن دعوت عليهم؛ وإن صدر من كافر- على الرّاجح- لحديث أنس رضي الله تعالى عنه:
«دعوة المظلوم مستجابة؛ ولو كافرا» .
وأمّا قوله تعالى وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (50) [غافر] . فمعناه أنّه لا يستجاب لهم في خصوص الدّعاء بتخفيف عذاب جهنّم عنهم يوم القيامة.
وروى الحاكم- وصحّحه- أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغني حذر من قدر، والدّعاء ينفع ممّا نزل؛ وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل ويتلقّاه الدّعاء فيتعالجان إلى يوم القيامة» .
والدّعاء ينفع في القضاء المبرم والقضاء المعلق.
أمّا الثّاني: فلا استحالة في رفع ما علّق رفعه منه على الدّعاء، ولا في نزول ما علّق نزوله منه على الدّعاء.
وأمّا الأوّل: فالدّعاء؛ وإن لم يرفعه؛ لكنّ الله تعالى ينزل لطفه بالدّاعي، كما إذا قضى عليه قضاء مبرما؛ بأنّه ينزل عليه صخرة، فإذا دعا الله تعالى حصل له اللّطف؛ بأن تصير الصّخرة متفتّتة كالرّمل وتنزل عليه.(4/364)
.........
وانقسام القضاء؛ إلى مبرم ومعلّق!! ظاهر بحسب اللّوح المحفوظ. وأمّا بحسب العلم!! فجميع الأشياء مبرمة، لأنّه إن علم الله حصول المعلّق عليه حصل المعلّق؛ ولا بدّ. وإن علم الله عدم حصوله لم يحصل؛ ولا بدّ. لكن لا يترك الشّخص الدّعاء اتّكالا على ذلك، كما لا يترك الأكل اتّكالا على إبرام الله الأمر في الشّبع.
واعلم: أنّ للدّعاء شروطا وآدابا؛
فمن شروطه: 1- أكل الحلال، و 2- أن يدعو؛ وهو موقن بالإجابة، و 3- ألايكون قلبه غافلا، و 4- ألايدعو بما فيه إثم؛ أو قطيعة رحم؛ أو إضاعة حقوق المسلمين، و 5- ألايدعو بمحال؛ ولو عادة، لأنّ الدّعاء به يشبه التّحكّم على القدرة القاضية بدوامها، وذلك إساءة أدب على الله تعالى.
ومن آدابه: 1- أن يتخيّر الأوقات الفاضلة؛ كأن يدعو في السّجود، وعند الأذان والإقامة، ومنها: 2- تقديم الوضوء؛ والصّلاة، و 3- استقبال القبلة، و 4- رفع الأيدي إلى جهة السّماء، و 5- تقديم التّوبة، و 6- الاعتراف بالذّنب، و 7- الإخلاص، و 8- افتتاحه بالحمد، و 9- الصّلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم، و 10- ختمه بها، و 11- جعلها في وسطه أيضا.
قال ابن عطاء الله السّكندري: واعلم أنّ للدّعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا.
قال: فإن وافق أركانه: قوي، وإن وافق أجنحته: طار في السّماوات، وإن وافق مواقيته: فاز، وإن وافق أسبابه: نجح.
فأركانه: 1- حضور القلب، و 2- الرّقة، و 3- الاستكانة، و 4- الخشوع، و 5- تعلّق القلب بالله، و 6- قطعه من الأسباب.
وأجنحته: الصّدق. ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصّلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم.
انتهى.(4/365)
وقد ذكرت في الخطبة أنّها خمسون، وظهرت لي الزّيادة بعد فزدتها، وذكرت أسماء مخرّجيها برمز «الجامع الصّغير» ؛ لأنّ أكثرها موجودة فيه، وفي «كتاب المصابيح» .
وقد قسمتها قسمين:
واعلم أنّ الإجابة: تتنوّع؛ 1- فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، و 2- تارة يقع؛ ولكن يتأخّر لحكمة فيه، و 3- تارة تقع الإجابة بغير المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة؛ وفي ذلك الغير أصلح منها.
على أنّ الإجابة مقيّدة بالمشيئة، كما يدلّ عليه قوله تعالى، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [41/ الأنعام] فهو مقيّد لإطلاق الآيتين الآخريين، وهما قوله تعالى وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] وقوله تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [186/ البقرة] . فالمعنى: ادعوني أستجب لكم إن شئت، وأجيب دعوة الدّاع إن شئت، والله أعلم.
(وقد ذكرت في الخطبة) المتقدّمة في أوّل هذا الكتاب (أنّها خمسون) حديثا، (وظهرت لي الزّيادة بعد) - بالبناء على الضمّ؛ لنيّة معنى المضاف-؛ أي: بعد ذلك، (فزدتها) إلى أن بلغت سبعين حديثا، (وذكرت أسماء مخرّجيها) ؛ أي: رواتها، مرموزا لهم (برمز: «الجامع الصّغير» ) ؛ أي:
إشاراته الدّالة على رواة الحديث من أهل الأثر، فإنّ الرّمز: الإشارة بعين أو حاجب أو غيرها، وأصله التّحرّك، ثمّ توسّع فيه المصنّف؛ فاستعمله في الإشارة بالحروف الّتي اصطلح عليها في العزو إلى المخرجين؛ تبعا لغيره.
وإنّما اختار رموز «الجامع الصّغير» !! (لأنّ أكثرها) أي: هذه الأحاديث السبعين (موجودة فيه) ؛ أي: في «الجامع الصغير» (و) موجودة (في كتاب «المصابيح» ) للإمام محيي السّنّة البغويّ- رحمه الله تعالى-.
(وقد قسمتها قسمين) ؛ أي: رتّبتها على قسمين:(4/366)
الأوّل: استعاذات. والثّاني: دعوات. معتبرا أوّل الحديث:
إن كان استعاذة.. جعلته في القسم الأوّل، وإن كان دعاء..
جعلته في القسم الثّاني، ...
القسم (الأوّل: استعاذات) جمع «استعاذة» ، وهي مصدر «استعاذ» ، بزيادة السّين والتّاء اللّتين هما للطّلب؛ والاستعاذة؛ والتعوّذ، وما تصرّف منها كلّها معناها واحد: وهو الالتجاء والاعتصام.
(و) القسم (الثّاني: دعوات) - بفتح الدّال، والعين، المهملتين- جمع دعوة- بفتح أوّله-: مصدر يراد به الدّعاء، وهو هنا السّؤال، يقال: دعوت الله، أي: سألته.
وفي «شرح الأسماء الحسنى» للقشيري ما ملخّصه:
الدّعاء جاء في القرآن على وجوه:
1- منها العبادة؛ نحو وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [106/ يونس] .
و2- منها الاستعانة؛ نحو وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ [23/ البقرة] .
و3- منها السّؤال؛ نحو ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] .
و4- منها القول؛ نحو دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [10/ يونس] .
و5- منها النّداء؛ نحو يَوْمَ يَدْعُوكُمْ [52/ الإسراء] .
و6- منها الثّناء؛ نحو قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [110/ الإسراء] . انتهى.
(معتبرا) ؛ أي: مراعيا في كونها دعوة؛ أو استعاذة (أوّل الحديث) ، أي:
الحرف الأول منه.
(إن كان) أوّل الحديث (استعاذة؛ جعلته في القسم الأوّل) ، أي: قسم الاستعاذات؛ ولو كان مشتملا على دعاء بعد الاستعاذة، فإنّ الاعتبار إنّما هو بأوّل الحديث.
(وإن كان) أوّل الحديث (دعاء؛ جعلته في القسم الثّاني) أي: قسم الدّعوات.(4/367)
وافتتحتها بالدّعوات القرآنيّة؛ لأنّها كلام الله تعالى.
وتقدّم أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن، ...
(وافتتحتها) أي: هذه الأدعية؛ أي: ابتدأتها (بالدّعوات القرآنيّة) ؛ أي:
الأدعية الّتي في القرآن، (لأنّها كلام الله تعالى) .
و «القرآن» : يطلق على كلّ من النّفسي واللّفظي؛ والأكثر إطلاقه على اللّفظي.
وأمّا «كلام الله تعالى» فيطلق أيضا على كلّ من اللّفظي والنّفسي؛ والأكثر إطلاقه على النّفسي، بمعنى أنّه صفة قديمة قائمة بذاته تعالى.
وإطلاقه على اللّفظي؛ بمعنى أنّه ليس لأحد في تركيبه كسب. وعلى الإطلاق اللّفظي يحمل قول السّيّدة عائشة «ما بين دفّتي المصحف كلام الله تعالى» .
وإطلاق «كلام الله» عليهما!! قيل: بالاشتراك، وقيل: حقيقيّ في النّفسي، مجاز في اللّفظي «1» ، وعلى كلّ؛ من أنكر أنّ ما بين دفّتي المصحف كلام الله تعالى فقد كفر. إلّا أنّ يريد أنّه ليس هو الصّفة القائمة بذاته تعالى؛ ومع كون اللّفظ الّذي نقرؤه حادثا لا يجوز أن يقال «القرآن حادث» إلّا في مقام التّعليم، لأنّه يطلق على الصّفة القائمة بذاته تعالى أيضا مجازا- على الرّاجح- «2» ، فربّما يتوهّم من إطلاق أنّ القرآن حادث أنّ الصّفة القائمة بذاته حادثة، ولذلك ضرب الإمام أحمد ابن حنبل؛ وحبس على أن يقول بخلق القرآن فلم يرض؛ قاله الباجوري، رحمه الله تعالى.
(وتقدّم) في الباب الخامس (أنّه صلى الله عليه وسلم كان خلقه) - بضمتين- (القرآن) يرضى لرضاه ويغضب لغضبه.
__________
(1) فيه نظر، لأن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان، والمجاز هنا لا يصحّ نفيه. ولا يقال بعموم المجاز!!. والتحقيق ههنا أن يقال: إن «كلام الله تعالى» اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، وبين اللفظي الحادث المؤلف من الآيات والسور. فتنبه (عبد الجليل) .
(2) وقيل: الراجح خلافه. فتنبه (عبد الجليل) .(4/368)
وهي خارجة عن العدد المذكور.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] .
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ...
رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
قال البيضاوي: أي: خلقه كان جميع ما حصل في القرآن، فإنّ كلّ ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه قد تحلّى به صلى الله عليه وسلم؛ وكلّ ما استهجنه ونهى عنه تجنّبه وتخلّى عنه، فكأنّ القرآن بيان خلقه. انتهى.
(وهي) ، أي: الدّعوات القرآنية (خارجة) ؛ أي: زائدة (عن العدد المذكور) ؛ أي: غير داخلة في حساب السّبعين حديثا.
* قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (رَبَّنا) ؛ أي: يا ربنا (تَقَبَّلْ مِنَّا) ما عملنا لك، وتقبّل طاعتنا إياك وعبادتنا لك (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بنيّاتنا، وهذا وإن كان واردا في بناء إبراهيم الكعبة؛ لكنّه يطلب الإتيان به بعد كلّ عمل صالح يفعله المسلم.
قال الإمام النوويّ في «الأذكار» : يستحبّ لمن دفع زكاة، أو صدقة، أو نذرا، أو كفارة أو نحو ذلك، أن يقول رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) [البقرة] . فقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك عن إبراهيم وإسماعيل صلّى الله عليهما وسلم، وعن امرأة عمران. انتهى.
* وقال تعالى في سورة البقرة أيضا (رَبَّنا) يا ربنا (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) نعمة؛ كالعافية، والزّوجة الحسنة، والدّار الواسعة، وغير ذلك مما يعين على الدّار الآخرة؛ فكلّ أمر في الدّنيا يوافق الطّبع ويعين على الدّار الآخرة فهو من حسنات الدنيا (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) هي الجنّة؛ أي: دخولها بسلام، بحيث يموت على الإسلام، ولا يلحقه حساب ولا عذاب، ويرى وجه الله الكريم. وهذا أحسن ما فسّر به حسنة الدّنيا والآخرة، وهو معنى قوله في الحديث(4/369)
وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: 201] .
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 250] .
لعائشة: «سلى الله العافية في الدّارين» .
(وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بعدم دخولها أصلا، فلا ندخلها ولا نراها. وهو من عطف اللّازم على الملزوم.
قال الشّيخ عماد الدّين ابن كثير: الحسنة في الدّنيا تشمل كلّ مطلوب دنيويّ؛ من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، وولد بارّ، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيّ، وثناء جميل ... إلى غير ذلك مما شملته عباراتهم؛ فإنّها كلّها مندرجة في الحسنة في الدّنيا.
وأما الحسنة في الآخرة!! فأعلاها دخول الجنّة وتوابعه؛ من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة.
وأمّا الوقاية من عذاب النّار!! فهو يقتضي تيسير أسبابه من اجتناب المحارم وترك الشّبهات. انتهى ذكره ابن علان في «شرح الأذكار» .
* وقال تعالى في سورة البقرة (رَبَّنا أَفْرِغْ) : اصبب (عَلَيْنا صَبْراً) كصبّ الماء على الأرض الجرز (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) بتقوية قلوبنا على الجهاد، فالمراد ب «تثبيت الأقدام» كمال القوّة، والرّسوخ عند المقارعة، وعدم التّزلزل عند المقاومة، وليس المراد تقرّرها في مكان واحد (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) : أعنّا عليهم.
وفيه ترتيب بليغ؛ حيث وقع أوّلا سؤال إفراغ الصّبر على القلوب الّذي هو ملاك الأمر، ثمّ ثبات القدم في مداحض الحرب المسبّب عنه، ثمّ النّصر على العدوّ المترتّب عليهما غالبا.(4/370)
سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] .
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ...
* وقال تعالى في سورة البقرة (سَمِعْنا) ما أمرنا به سماع قبول، وفيه تعريض بالردّ على من قال: سمعنا وعصينا. (وَأَطَعْنا) ؛ أي: انقدنا للطّاعة؛ ولو بالعزم عليها. نسألك (غُفْرانَكَ) .
ومعنى الغفران: ستر الذّنوب؛ كبيرها وصغيرها، جليّها وخفيّها. فالإنسان يطلب المغفرة؛ ولو في حالة الطّاعة؛ بسبب ما يطرأ عليها من العجب وحبّ المحمدة، وغير ذلك من الآفات الّتي تذهبها، فالعارف لا يعتمد على أعماله أبدا، وعلامة ذلك كونه يجدّد التّوبة والاستغفار، ولو كان متلبّسا بأكبر الطّاعات.
* (رَبَّنا) ؛ أي: يا ربّنا منك مبدؤنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (285) : المرجع بالبعث.
(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) : لا تعاقبنا، وهو تعليم من الله لعباده كيفيّة الدّعاء، وهذا من غاية الكرم حيث يعلمهم الطّلب ليعطيهم المطلوب.
وجاء بالمفاعلة، وهو فعل واحد؛ وهو الله!! لأنّ المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السّبيل إليها بفعله، فكأنّه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه؛ فحسنت المفاعلة.
(إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ؛ أي: تركنا الصّواب لا عن عمد؛ كتأخير الصّلاة عن وقتها في حال الغيم؛ جهلا بالوقت، وكقتل الخطأ، فلا تؤاخذنا يا ربّنا بذلك كما آخذت به من قبلنا. قيل: كان بنو إسرائيل إذا نسو شيئا مما أمروا به أو أخطأوا؛ عجّلت لهم العقوبة، فيحرم عليهم شيء ممّا كان حلالا لهم؛ من مطعم، أو مشرب- على حسب ذلك الذّنب- فأمر الله المؤمنين أن يسألوا رفع مؤاخذتهم بالخطأ والنّسيان، وقد رفع الله ذلك عن هذه الأمّة المحمّدية، كما ورد في الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمّتي الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه» .(4/371)
ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا ...
فالقصد من سؤال هذا الرّفع وطلبه الإقرار والاعتراف بهذه النّعمة، أي:
إظهارها والتّحدّث بها على حدّ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [الضحى] .
(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا) معطوف على لا تُؤاخِذْنا، وتوسيط النّداء [ربنا] «1» بين المتعاطفين!! لإظهار مزيد الضّراعة والالتجاء إلى الرّب الكريم، وكذا يقال في قوله وَلا تُحَمِّلْنا؛ فهو معطوف على لا تُؤاخِذْنا إلى آخر ما تقدّم.
(إِصْراً) : أمرا يثقل علينا حمله.
وفي «أبي السّعود» : الإصر: العناء الثّقيل الّذي يأصر صاحبه؛ أي: يحبسه مكانه، والمراد به: التّكاليف الشّاقة.
وفي «السّمين» : الإصر- في الأصل-: الثّقل والشّدّة، ويطلق على العهد والميثاق لثقلهما، كقوله تعالى وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [81/ آل عمران] ؛ أي:
عهدي وميثاقي وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [157/ الأعراف] ؛ أي: التّكاليف الشّاقة، ويطلق على كل ما يثقل على النّفس؛ كشماتة الأعداء.
(كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ؛ أي: بني إسرائيل.
ومن الإصر الّذي حملوه قتل النّفس في التّوبة، فإنّهم لمّا عبدوا العجل كانت توبتهم قتل طائعهم العاصي منهم، وأما توبتنا؛ فالنّدم.
ومن ذلك إخراج ربع المال في الزّكاة ... وأمّا الزّكاة في هذه الأمّة؛ فربع العشر في النّقدين، والعشر؛ أو نصفه في الحبوب.
ومن ذلك قرض «2» موضع النّجاسة من الثّوب والبدن.
__________
(1) للإيضاح (عبد الجليل) .
(2) قطعه بالمقراض وهو المقصّ (عبد الجليل) .(4/372)
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] .
ومن ذلك أنّ من ارتكب منهم الخطيئة تصبح خطيئته مكتوبة على بابه، وغير ذلك من التّكاليف الشّاقة الّتي رفعها الله عن هذه الأمّة بفضله ورحمته، فله الحمد والمنّة.
(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ) : قدرة (لَنا بِهِ) من التّكاليف والبلاء، فلم يكلّفنا بالحجّ من غير استطاعة؛ مثلا، ولا بالصّلاة من قيام، مع كونه مريضا لا يقدر عليه، ولا باستعمال الماء مع عدم القدرة عليه، وقد كان ينزل بمن قبلنا الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم والصّيحة والخسف والمسخ، وغير ذلك من أنواع البلايا العامة الّتي لا تبقي ولا تذر.
(وَاعْفُ عَنَّا) : امح ذنوبنا من الصّحف (وَاغْفِرْ لَنا) ؛ أي: استر ذنوبنا عن أعين المخلوقات، (وَارْحَمْنا) في الرّحمة زيادة عن المغفرة؛ لأنّ الرّحمة الإحسان، وهي تشمل المغفرة الّتي هي غفر الذّنوب، وإيصال النّعم في الدّنيا والآخرة.
(أَنْتَ مَوْلانا) : سيدنا، ومتولّي أمورنا، (فَانْصُرْنا) . أتى هنا بالفاء!! إعلاما بالسّببيّة، لأنّ الله تعالى لما كان مولاهم ومالك أمورهم، وهو مدبّرهم، تسبّب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم، كقولك «أنت الجواد فتكرّم علي» و «أنت البطل؛ فاحم حومتك» .
(عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) [البقرة] ) ، بإقامة الحجّة والغلبة في قتالهم، فإنّ من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء.
والحكمة في زيادة قوله «القوم» ولم يقل «الكافرين» !! لأنّه لا يلزم من النّصرة على أفراد الكفّار النّصرة على الهيئة المجتمعة؛ لأنّ الشّخص قد يكون غالبا على كلّ أحد؛ ولا يكون غالبا على المجموع.(4/373)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] .
رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران:
16] .
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ ...
وفي الحديث: لمّا نزلت هذه الآية؛ فقرأها صلى الله عليه وسلم، قيل له عقب كلّ كلمة: قد فعلت. رواه مسلم، أي: قال الله له عقب كل كلمة من كلمات الدّعوات، وهي سبع، أوّلها: لا تؤاخذنا، وآخرها: فانصرنا على القوم الكافرين، فيكون قوله:
«قد فعلت» وقع سبع مرّات، والمراد: قد أجبت دعاءك ومطلوبك.
* وقال تعالى في سورة آل عمران (رَبَّنا لا تُزِغْ) : لا تمل (قُلُوبَنا) عن الحقّ (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ؛ أي: أرشدتنا إليه، أي: بعد وقت هدايتك إيّانا (وَهَبْ لَنا) ؛ أي: أعطنا (مِنْ لَدُنْكَ) : من عندك (رَحْمَةً) ؛ تثبيتا على الحقّ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الّذي تعطي النّوال قبل السّؤال.
وفيه دليل على أنّ الهدى والضّلال من الله تعالى، وأنّه متفضّل بما ينعم به على عباده؛ أي: لا يجب عليه شيء. أي: لأنّه وهّاب.
* وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) : صدّقنا بك وبرسولك؛ إجابة لدعوتك، (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ؛ إنجازا لوعدك، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بفضلك.
وفي ترتيب هذا السّؤال على مجرّد الإيمان دليل على أنّه كاف في استحقاق المغفرة، وفيه ردّ على أهل الاعتزال، لأنّهم يقولون: إنّ استحقاق المغفرة لا يكون بمجرّد الإيمان.
* وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا (رَبَّنا آمَنَّا) : صدّقنا (بِما أَنْزَلْتَ(4/374)
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] .
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آل عمران: 147] .
رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ...
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) ؛ أي: امتثلنا ما أتى به منك إلينا (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، لك بالوحدانيّة، ولرسولك بالصّدق؛ أي: أثبت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به.
* وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) صغائرنا (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) ؛ أي: تجاوزنا الحدّ في ارتكاب الكبائر.
(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا، وإمدادنا بالمدد الرّوحاني من عندك، (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بالغلبة؛ وقدّم الدّعاء بالمغفرة على طلب تثبيت الأقدام، وعلى طلب النّصر على الأعداء!! تقريبا له إلى حيّز القبول، فإنّ الدّعاء المقرون بالخضوع الصّادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.
* وقال تعالى في أواخر سورة آل عمران (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الإشارة إلى السّماوات والأرض، لما أنّهما باعتبار تعلّق الخلق بهما في معنى المخلوق.
والعدول عن الضّمير إلى اسم الإشارة!! للإشارة إلى أنّها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتنى بكمال تمييزها؛ استعظاما لها.
(باطِلًا) : عبثا، كأنّه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب عبثا وضائعا؛ من غير حكمة، بل خلقته لحكم عظيمة، من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسببا لمعاشه، ودليلا يدلّه على معرفتك، ويحثّه على طاعتك، لينال الحياة الأبديّة، والسّعادة السّرمديّة في جوارك.(4/375)
سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191] .
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ...
وقوله «باطلا» ، حال من المفعول به، وهو هذا، وهو الأحسن في إعرابه، وهي حال لا يستغنى عنها، إذ لو حذفت للزم نفي الخلق؛ وهو لا يصحّ، كما في قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) [الدخان] .
(سُبْحانَكَ) ؛ تنزيها لك عن الوصف بخلق الباطل؛ (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ؛ تعليم لعباده كيفية الدّعاء، فمن أراد أن يدعو فليقدّم الثّناء على الله أوّلا، ويدلّ عليه قوله سُبْحانَكَ، وبعد ذلك الثّناء يأتي بالدّعاء، ويدلّ عليه قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
* (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) ؛ أي: داعيا، وهو على حذف مضاف؛ أي:
نداء مناد (يُنادِي) : يدعو النّاس (لِلْإِيمانِ) .
قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وأكثر المفسّرين: المنادي هو محمّد صلى الله عليه وسلم.
ويدلّ على صحّة هذا قوله تعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [125/ النحل] .
وقوله وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [46/ الأحزاب] .
وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي هو القرآن؛ قال: إذ ليس كلّ أحد لقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ووجه هذا القول: أنّ كلّ أحد يسمع القرآن ويفهمه، فإذا وفّقه الله تعالى للإيمان به فقد فاز به، وذلك لأنّ القرآن مشتمل على الرّشد والهدى وأنواع الدّلائل الدّالة على الوحدانيّة؛ فصار كالدّاعي إليها، فعلى القول الأوّل: إسناد النّداء إليه حقيقيّ، وعلى القول الثّاني: إسناد النّداء إليه مجازي، واللّام في لِلْإِيمانِ بمعنى «إلى» ؛ يعني: ينادي إلى الإيمان.
(أَنْ) ؛ أي: بأن آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ؛ أي: صدّقوا بأنّه يجب له كل(4/376)
فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: 193- 194] .
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...
كمال، ويستحيل عليه كلّ نقص، (فَآمَنَّا) به.
(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ؛ أي: كبائر ذنوبنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) :
صغائر ذنوبنا، (وَتَوَفَّنا) : اقبض أرواحنا (مَعَ) : في جملة (الْأَبْرارِ) : الأنبياء والصّالحين، أي: احشرنا معهم واجعلنا في زمرتهم، (رَبَّنا) حقّق لنا ما ذكر، (وَآتِنا) : أعطنا (ما وَعَدْتَنا) به (عَلى) ألسنة (رُسُلِكَ) من الرّحمة والفضل، أي: ربّنا اجعلنا ممّن يستحقّ ثوابك، وتؤتيهم ما وعدتهم به على ألسنة رسلك، لأنّا لم نتيقّن استحقاقنا لتلك الكرامة، فنسألك أن تجعلنا مستحقّين لها.
وتكرير لفظ رَبَّنا مبالغة في التّضرّع، ولما قيل: إنّه الاسم الأعظم.
وعن جعفر الصّادق: من حزبه أمر؛ فقال خمس مرّات «ربّنا» ، أنجاه الله ممّا يخاف، وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك!؟ قال: اقرأوا قوله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ....
وهي من أوراد الصّالحين تقرأ إلى آخر السّورة عند الاستيقاظ من النّوم، فمن لازم عليها تحقّق بما فيها، وحصل له ثواب من قام اللّيل؛ قاله الصّاوي.
(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لقوله وَلا تُخْزِنا؛ أي: لا تفضحنا في ذلك اليوم؛ لأنّ الإنسان ربّما يظن أنّه على عمل ويبدو له في الآخرة ما لم يكن في حسبانه؛ فيفتضح، فلا تكرار فيه مع قوله وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
(إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) مصدر بمعنى الوعد بالبعث والجزاء.
* وقال تعالى في سورة الأعراف (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) : أضررناها بمخالفة أمرك(4/377)
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] .
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف: 89] .
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126] .
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ...
وطاعة عدوّنا وعدوّك، فإن لم تتب علينا نستمرّ عاصين (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) : تمح ما عملناه عينا وأثرا، (وَتَرْحَمْنا) فتعلي درجاتنا؛ (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) في الأرض.
* وقال تعالى في سورة الأعراف أيضا (رَبَّنَا افْتَحْ) : احكم (بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا) : الكفّار؛ (بِالْحَقِّ) : بالعدل الّذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) : الحاكمين.
* (رَبَّنا أَفْرِغْ) : اصبب (عَلَيْنا صَبْراً) كاملا تامّا، (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف] ) ؛ أي: اقبضنا على دين الإسلام ثابتين عليه غير مفتونين.
وفي الآية فوائد؛
الأولى: أنّ التعبير ب أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أكمل من التّعبير ب «أنزل علينا صبرا» ؛ لأنّ إفراغ الإناء هو صبّ ما فيه بالكليّة، فكان المطلوب من الله تعالى كلّ الصّبر؛ لا بعضه.
الثانية: أنّ لفظ صَبْراً مذكور بصيغة التّنكير، وذلك يدلّ على تمام الكمال، أي: صبرا تامّا كاملا.
الثّالثة: أنّ ذكر الصّبر من قيل الدّاعي ومن أعماله، ثمّ إنّه مطلوب من الله تعالى؛ وذلك يدلّ على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه.
* وقال تعالى في سورة يونس (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ؛ أي:
لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنّهم على الحقّ فيفتتنوا بنا، لأنّك لو سلّطتهم علينا لوقع في(4/378)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [يونس: 85- 86] .
رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [هود: 47] .
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] .
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ...
قلوبهم أن لو كنا على الحقّ لما سلّطهم الله علينا؛ فيصير ذلك شبهة قويّة في إصرارهم على كفرهم؛ فيصير تسلّطهم علينا فتنة لهم.
(وَنَجِّنا) : خلصنا (بِرَحْمَتِكَ) ؛ أي: إحسانك وإنعامك، (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الجاحدين لآياتك.
* وقال تعالى في سورة هود (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) من (أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) بصحّته، هل هو صواب أو لا!! (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط منّي، (وَتَرْحَمْنِي) برحمتك الّتي وسعت كلّ شيء (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا.
* وقال تعالى في سورة يوسف (فاطِرَ) ؛ أي: يا فاطر (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي: خالقهما، (أَنْتَ وَلِيِّي) ؛ أي: متولّي مصالحي (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) ؛ أي: اقبضني إليك مسلما (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) بعامّتهم في الرّتبة والكرامة.
* وقال تعالى في سورة إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) : مواظبا عليها بشروطها وأركانها وآدابها، وَاجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِي) ، من يقيمها؛ (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) بإثبات الياء وصلا ووقفا، وحذفها كذلك، قراءتان سبعيتان، أي: استجب دعائي.(4/379)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 40- 41] .
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نوح: 28] . ورَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء: 24] .
رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ...
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) : أبي وأمي (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ) : يوجد (الْحِسابُ) .
* وقال تعالى (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) ؛ هذا مأخوذ من [28] سورة نوح، وهو توطئة لقوله: (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما) رحماني حين (رَبَّيانِي صَغِيراً) ؛ لأنه مأخوذ من سورة الإسراء.
ولفظ الآية في الإسراء* وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) انتهى.
والمصنف قدّم قوله رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ. المأخوذ من سورة نوح توطئة؛ ليكون عود الضّمير على مذكور؛ وعطف على ذلك آية الإسراء، وهو صنيع حسن.
* وقال تعالى في سورة الإسراء (رَبِّ أَدْخِلْنِي) في كلّ مقام تريد إدخالي فيه، حسّيّ ومعنويّ؛ دنيا وأخرى (مُدْخَلَ صِدْقٍ) يستحقّ الدّاخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، فإنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها.
(وَأَخْرِجْنِي) من كلّ ما تخرجني منه، (مُخْرَجَ صِدْقٍ) والمدخل والمخرج- بالضمّ- مصدران بمعنى الإدخال والإخراج، فهما كالمجرى(4/380)
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الإسراء: 80] .
رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف: 10] .
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 25- 26] .
والمرسى، ومعنى إضافة «المدخل» و «المخرج» إلى الصدق مدحهما؛ كأنّه سأل الله تعالى إدخالا حسنا، وإخراجا حسنا لا يرى فيهما ما يكره.
(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) ؛ أي: عندك، (سُلْطاناً نَصِيراً) : حجّة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالف الحقّ.
قال الألوسي: المراد من السّلطان كلّ ما يفيد الغلبة على أعداء الله تعالى، ويفيد ظهور دينه جلّ شأنه، هذا هو الحقّ ووصف السّلطان ب «نصيرا» للمبالغة.
انتهى.
* وقال تعالى في سورة الكهف (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو، وفي ذلك مِنْ لَدُنْكَ إيماء إلى أنّ ذلك من باب التّفضّل؛ لا الوجوب، فكأنّهم قالوا ربنا تفضّل علينا برحمة؛ (وَهَيِّئْ) : أصلح أو يسّر (لَنا مِنْ أَمْرِنا) الّذي نحن عليه. (رَشَداً) هداية وتثبيتا على الإيمان، وتوفيقا للأعمال الصّالحة، وانقطاعا عن الاشتغال بالدّنيا، وزهدا فيها.
* وقال تعالى في سورة طه (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ؛ أي: وسّعه للحقّ وتحمّل المشاقّ؛ بأن تجعله بحيث لا أضجر ولا أقلق ممّا يقتضي بحسب البشريّة؛ الضّرّ والقلق من الشّدائد. وفي الرّاغب: إنّ شرح الصّدر بسطه بنور إلهيّ، وسكينة من جهة الله تعالى، وروح منه عزّ وجلّ.
(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) : ما أمرتني به، والتّعبير بذلك آكد من: اشرح صدري ويسّر أمري. لأنّه تكرير للمعنى من طريقي الإجمال والتّفصيل؛ لأنّه يقول: اشرح لي ويسر لي، علم أنّ «ثمّ» مشروحا وميسّرا. ثمّ رفع الإبهام بذكر الصّدر والأمر.(4/381)
رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] .
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] .
لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:
87] .
* وقال تعالى في سورة طه أيضا (رَبِّ) أيّها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ؛ (زِدْنِي عِلْماً) ، فإنّه الموصل إلى المطلوب.
أخرج التّرمذي وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كلّ حال» .
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد؛ عن ابن مسعود أنّه كان يدعو:
«اللهمّ؛ زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما» . وما هذا إلّا لزيادة فضل العلم.
وفضله أظهر من أن يذكر؛ نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزّيادة فيه، ويوفّقنا للعمل بما يقتضيه. آمين.
* وقال تعالى في سورة الأنبياء (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) : الشّدّة (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ؛ أي: أنت أعظم رحمة من كلّ من يتّصف بالرّحمة في الجملة، وإلّا فلا راحم في الحقيقة سواه؛ جلّ شأنه وعلاه.
ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرّحمة بعد ما ذكر الدّاعي نفسه بما يوجبها؛ مكتفيا بذلك عن التّضرع بالمطلوب من استمطار سحائب الرّحمة على ألطف وجه، وكونه سبحانه «ضارّا» لا ينافي كونه «نافعا» ، بل هو الضّار النّافع، فإضراره ليس لدفع مشقّة، ونفعه ليس لجلب منفعة، بل لا يسأل عمّا يفعل.
* وقال تعالى في سورة الأنبياء أيضا (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) ؛ أي:
تنزّهت عن كلّ نقص (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بتعريضها للهلكة(4/382)
رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: 89] .
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ...
فاعف عنّي؛ كما هي سيرة القادرين، وهو اعتراف بالذّنب، وإظهار للتّوبة.
وهذا دعاء عظيم جدّا لاشتماله على التّهليل أوّلا، ثمّ التّسبيح ثانيا، ثمّ الإقرار بالذّنب ثالثا، ولذا ورد في فضل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد، والتّرمذي، والنّسائي، والحكيم التّرمذي؛ في «نوادر الأصول» ، والحاكم وصحّحه، وابن جرير، والبيهقي في «الشّعب» ، وجماعة؛ عن سعد بن أبي وقّاص؛ عن النّبي صلى الله عليه وسلم، قال:
«دعوة ذي النّون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين؛ لم يدع بها مسلم ربّه في شيء قطّ إلّا استجاب له» .
وأخرج ابن أبي حاتم؛ عن الحسن: أنّ ذلك اسم الله تعالى الأعظم.
وأخرج ذلك الحاكم؛ عن سعد مرفوعا.
وقد شاهدت أثر الدّعاء به- ولله تعالى الحمد- حين أمرني بذلك من أظنّ ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب، وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به؛ قاله الألوسي في «روح المعاني» .
* وقال تعالى في سورة الأنبياء أيضا (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) : وحيدا بلا ولد يرثني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ، أي: وأنت خير حيّ يبقى بعد ميّت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء؛ وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عزّ وجلّ.
* وقال تعالى في آخر سورة الأنبياء (رَبِّ) أيّها المحسن إليّ؛ (احْكُمْ) : اقض بيني وبين أعدائي (بِالْحَقِّ) : بالعدل، والله سبحانه وتعالى يحكم بالحقّ طلب أو لم يطلب، ومعنى الطّلب: ظهور الرّغبة من الطّالب في حكمه الحقّ.(4/383)
وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [الأنبياء: 112] .
رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون: 29] .
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 94] .
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ...
(وَرَبُّنَا) ؛ أي: المحسن إلينا أجمعين (الرَّحْمنُ) العامّ الرّحمة لنا وللأعداء، ولولا عموم رحمته لأهلكنا جميعا؛ وإن كنّا طائعين، لأنّا لا نقدّره حقّ قدره، وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [45/ فاطر] (الْمُسْتَعانُ) : المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ) : تقولون أيّها الأعداء من الكذب والباطل.
* وقال تعالى في سورة المؤمنين (رَبِّ أَنْزِلْنِي) في كلّ منزل تنزلني به (مُنْزَلًا مُبارَكاً) : يبارك لي فيه، وأعطى الزّيادة في خير الدّارين، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ؛ لأنّك تكفي نزيلك كل ملمّ، وتعطيه كلّ حاجة.
وإنما أشفع الدّعاء بالثّناء عليه المطابق للمسألة؛ توسّلا به إلى الإجابة، فإنّ الثّناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه، وقد قالوا: الثّناء على الكريم يغني عن سؤاله.
* وقال تعالى في سورة المؤمنين (رَبِّ) يا رب (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، أي: قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب، فأهلك بهلاكهم؛ لأن شؤم الظّالم قد يعمّ غيره، كقوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [25/ الأنفال] .
* (رَبِّ) ؛ أيّها المحسن إليّ (أَعُوذُ) : أعتصم (بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) ؛ أي: وساوسهم المغرية، على خلاف ما أمرت به؛ جمع همزة، والهمز: النّخس والدّفع بيد أو غيرها، ومنه: «مهماز الرّائض» ؛ لحديدة تربط(4/384)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97- 98] .
رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 109] .
رَبِّ اغْفِرْ ...
على مؤخّر رحله ينخس بها الدّابّة لتسرع، أو لتثبت.
وإطلاق ذلك على الوسوسة لما بينهما من الشّبه الظّاهر، فإنّ الشّياطين يحثّون النّاس على المعاصي، كما تهمز الرّاضة الدّواب؛ حثّا لها على المشي، وجمع الهمزات!! لتنوّع الوساوس، أو لتعدّد الشّياطين.
والمعنى: أتحصّن بك من وساوس الشّياطين.
(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ، في شيء من أموري؛ خصوصا حال الصّلاة والقراءة وحلول الأجل؛ لأنّها أحرى الأحوال، وهم إنّما يحضرون بسوء.
وفي التعوّذ من الحضور بعد التعوّذ من همزاتهم مبالغة في التّحذير من ملابستهم، فإنّ بعدهم بركة وخير؛ وإعادة الفعل والنّداء لإظهار كمال الاعتناء بهذه الاستعاذة وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء، ويسنّ التعوّذ من همزات الشّياطين وحضورهم عند إرادة النّوم.
فقد أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائي، والتّرمذي وحسّنه؛ عن عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهنّ عند النّوم من الفزع: «باسم الله؛ أعوذ بكلمات الله التّامّة من غضبه وعقابه، وشرّ عباده، ومن همزات الشّياطين، وأن يحضرون» .
* وقال تعالى في سورة المؤمنون أيضا (رَبَّنا) يا ربّنا (آمَنَّا) بك وبكتابك وبرسولك وجميع ما جاءتنا به الرّسل، (فَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَارْحَمْنا) : افعل بنا فعل الرّاحم؛ (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ؛ لأنّك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان.
* وقال تعالى في آخر سورة المؤمنين (رَبِّ) ؛ أي: يا رب (اغْفِرْ)(4/385)
وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 118] .
رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: 65- 66] .
الذّنوب، (وَارْحَمْ) عبادك المؤمنين. وفي الرّحمة زيادة؛ وهي إيصال الإحسان زيادة على غفران الذّنب، فذكر الرّحمة بعد المغفرة تحلية بعد تخلية، ففي الغفران محو السّيّئات، وفي الرّحمة رفع الدّرجات، وأيضا الغفران قد يكون من غير إحسان، الّذي هو معنى الرّحمة.
(وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) : أفضل راحم.
وطلب كلّ من المغفرة والرّحمة أعمّ من طلب أصل الفعل والمداومة عليه.
وفي تخصيص هذا الدّعاء بالذكر ما يدلّ على أهمّيّة ما فيه.
وقد علّم النّبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته، فقد أخرج البخاريّ، ومسلم، والتّرمذي، والنّسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وجماعة؛ عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه أنّه قال: يا رسول الله؛ علّمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهمّ؛ إنّي ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم» .
* وقال تعالى في سورة الفرقان (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) : هلاكا لازما لزوما كلّيّا في حقّ الكفّار، ولزوما بعده إطلاق إلى الجنّة في حقّ عصاة المؤمنين.
(إِنَّها) ؛ أي: جهنم (ساءَتْ) في حكم «بئست» ، وفيها ضمير مبهم يفسّره مُسْتَقَرًّا، والمخصوص بالذّمّ محذوف، معناه: ساءت (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) هي، أي: موضع استقرار وإقامة، وهذا الضّمير هو العائد على اسم «إنّ» فهو الرّابط للجملة.(4/386)
رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] .
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 83- 85] .
* وقال تعالى في سورة الفرقان أيضا (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا) الّلاتي قرنتهنّ بنا (وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) بتوفيقهم للطّاعة وحيازة الفضائل، فإنّ المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سرّ بهم قلبه، وقرّت بهم عينه، لما يرى من مساعدتهم له في الدّين، وتوقّع لحوقهم به في الجنّة، فقرّة العين هو سرورها، والمراد:
ما يحصل به السّرور؛ والمعنى: اجعل أزواجنا وذرّيّاتنا صالحين؛ لكي نسرّ بهم.
(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في الخير، أي: اجعلنا أئمّة يقتدى بنا في أمر الدّين بإفاضة العلم علينا، والتّوفيق للعمل الصّالح؛ ولفظ «إمام» يستوي فيه الجمع وغيره، والمراد هنا: الجمع، ليطابق المفعول الأوّل «اجعل» .
واختير لفظ «إمام» على «أئمّة» !! لأنّه أوفق بالفواصل السّابقة واللّاحقة.
* وقال تعالى في سورة الشّعراء (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) : كمالا في العلم والفهم.
(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) : وفّقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصّلاح، الّذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره.
(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) - من إضافة الموصوف للصّفة، أي: ثناء حسنا من باب تسمية الشّيء باسم آلته- (فِي الْآخِرِينَ) الّذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة، (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) ، أي: ممن يعطاها بلا تعب ومشقّة، كالإرث الحاصل للإنسان من غير تعب؛ وإضافة الجنّة إلى النّعيم!! من إضافة المحلّ للحالّ فيه؛ و «من» تبعيضيّة، أي: اجعلني بعض الّذين يرثون جنّة النّعيم، أي:
اجعلني مندرجا فيهم، ومن جملتهم.(4/387)
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87- 89] .
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 169] .
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] .
(وَلا تُخْزِنِي) ؛ من الخزي، بمعنى: الهون، أو من الخزاية- بفتح الخاء- بمعنى: الحياء، أي: لا تفضحني بأن تكشف عيوبي بين خلقك.
(يَوْمَ يُبْعَثُونَ) ؛ أي: النّاس، أي: يوم القيامة. قال تعالى في شأنه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ) يكن (أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشّرك والنّفاق؛ وهو قلب المؤمن، فإنّه ينفعه ذلك.
* وقال تعالى في سورة الشّعراء (رَبِّ) ؛ أي: يا رب (نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) ؛ أي: من عذاب ما يعملون.
* وقال تعالى في سورة النّمل (رَبِّ أَوْزِعْنِي) : ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) : أؤدّي شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أدرج ذكر والديه!! تكثيرا للنّعمة ليزداد في الشّكر عليها، فإنّ النّعمة عليهما نعمة عليه، والنّعمة عليه يرجع نفعها إليهما، لا سيّما الدّينيّة، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) خالصا، وقيّده بقوله (تَرْضاهُ) ؛ أي: تقبله؛ لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل:
إذا كان المحبّ قليل حظّ ... فما حسناته إلّا ذنوب
(وَأَدْخِلْنِي) الجنّة (بِرَحْمَتِكَ) ؛ لا بصالح عملي، إذ لا يدخل الجنّة أحد إلّا برحمته؛ كما جاء في الحديث، (فِي) جملة (عِبادِكَ) ، فهو على حذف مضاف، أو «في» بمعنى «مع» عبادك، (الصَّالِحِينَ) : القائمين(4/388)
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] .
رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] .
رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت: 30] .
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] .
رَبِّ أَوْزِعْنِي ...
بحقوق الله تعالى وحقوق العباد؛ والمراد: الكاملون في الصّلاح؛ لأنّ الصّلاح مقول بالتّشكيك، فما من مقام إلّا وفوقه أعلى منه، والكامل يقبل الكمال.
* وقال تعالى في سورة القصص: (رَبِّ) ؛ يا رب، (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [16] ) زلتي.
* وقال تعالى في سورة القصص أيضا (رَبِّ) ؛ أي: يا رب، (إِنِّي لِما) : لأيّ شيء، (أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) ؛ قليل أو كثير، (فَقِيرٌ) :
محتاج؛ فقوله لِما أَنْزَلْتَ متعلّق ب فَقِيرٌ، وهو خبر «إنّ» و «أنزلت» بمعنى: تنزل؛ والمعنى: إنّي فقير ومحتاج لما تنزله إليّ من أيّ شيء كان؛ قليلا أو كثيرا.
* وقال تعالى في سورة العنكبوت (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) :
العاصين.
* وقال تعالى في سورة الصّافات (رَبِّ هَبْ لِي) ولدا (مِنَ الصَّالِحِينَ) ؛ بعض الصالحين ليعينني على الدّعوة والطّاعة، ويؤنسني في الغربة؛ ويرثني. ولفظ الهبة غالب في الولد؛ وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم] !!.
* وقال تعالى في سورة الأحقاف (رَبِّ) ؛ يا رب (أَوْزِعْنِي) : ألهمني؛ من أوزعته بكذا؛ أي: جعلته مولعا به؛ راغبا في تحصيله. فالمعنى: رغّبني(4/389)
أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف: 15] .
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ...
ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وهي نعمة التّوحيد والهداية، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) ؛ بأن يكون سالما من غوائل عدم القبول؛ كالرّياء والعجب وغيرهما، أي: اجعل عملي على وفق رضاك.
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) ؛ أي: اجعل الصّلاح ساريا في ذرّيّتي؛ راسخا فيهم.
ونزّل الإصلاح منزلة اللّازم؛ فعدّي ب «في» ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصّلاح فيهم، وكونهم كالظّرف له؛ لتمكّنه فيهم، وإلّا فكان الظّاهر: «وأصلح لي ذرّيّتي» ، كما في قوله تعالى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [90/ الأنبياء] .
وقيل: عدّي ب «في» لتضمّنه معنى اللّطف؛ أي: الطف بي في ذرّيّتي، والأوّل أحسن.
(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عمّا لا ترضاه، وعن كلّ ما يقدح في الإقبال عليك، (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ؛ أي: الّذين أسلموا بظواهرهم وبواطنهم؛ فانقادوا أتمّ انقياد.
* وقال تعالى في سورة الحشر (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) في الدّين؛ (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ؛ كلّ واحد من قائلي هذا القول يقصد بمن سبقه من انتقل قبله من غير فاصل، وينتهي إلى عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيدخل في إخوانه الّذين سبقوه بالإيمان جميع من تقدّمه من المسلمين، ولا يقصد بالّذين سبقوه خصوص المهاجرين والأنصار لقصوره؛ وإن كان أصل سبب النزول.
(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) : حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ؛ أي: مطلق المؤمنين أيّا كانوا في أدنى درجاته.(4/390)
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة: 4- 5] .
رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ...
وقيّدوا بالقلب!! لأنّ رذائل النّفس قلّ أن تنفكّ، وأنّها إن كانت مع صحّة القلب. أو شك ألاتؤثر.
(رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ) : راحم أشدّ الرّحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير، (رَحِيمٌ) ؛ مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن له بك وصلة، فأنت جدير بأن تجيبنا لأنّا بين أن تكون لنا وصلة؛ فنكون من أهل الرّأفة، أو لا، فنكون من أهل الرّحمة.
* وقال تعالى في سورة الممتحنة (رَبَّنا) ؛ أي: يا ربنا (عَلَيْكَ) ؛ لا على غيرك (تَوَكَّلْنا) : اعتمدنا، (وَإِلَيْكَ) وحدك (أَنَبْنا) : رجعنا بالاعتراف من ذنوبنا، (وَإِلَيْكَ) وحدك (الْمَصِيرُ) : المرجع في الآخرة.
(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ أي: لمّا تظهرهم علينا؛ فيظنّوا أنّهم على الحقّ؛ فيفتتنوا. أي: لا تذهب عقولهم بنا، ومعنى ذهابها: ميلها عن الحقّ وخطؤها.
(وَاغْفِرْ لَنا) ؛ أي: استر ما وقع منّا من الذّنوب، (رَبَّنا) يا ربنا؛ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) : الّذي يغلب كلّ شيء ولا يغلبه شيء. (الْحَكِيمُ) :
الّذي يضع الأشياء في أوفق محالّها؛ فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطي من أمّله ما طلب.
* وقال تعالى في سورة التّحريم (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا) على الصّراط (نُورَنا) الّذي مننت به علينا؛ حتّى يكون في غاية التّمام، وهذا النّور من صور أعمالهم في(4/391)
وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ [التحريم: 8] .
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [نوح: 28] .
الدّنيا، لأنّ الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء، وتتبع الصّور معانيها، وهو شرع الله الّذي شرعه؛ وهو الصّراط الّذي يضرب بين ظهراني جهنّم، لأنّ الفضائل في الدّنيا متوسّطة بين الرّذائل؛ فكلّ فضيلة يكتنفها رذيلتان: إفراط وتفريط؛ فالفضيلة:
هي الصّراط المستقيم؛ والرذيلتان: ما كان من جهنّم على يمينه وشماله؛ فمن كان يمشي في الدّنيا على ما أمر به سواء؛ من غير إفراط ولا تفريط؛ كان نوره تامّا، ومن أمالته الشّهوات طفىء نوره في بعض الأوقات، واختطفته كلاليب، هي صورة الشّهوات، فتميل به في النّار بقدر ميله إليها؛ والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التّوحيد؛ فإذا مشى طفئ، لأنّ إقراره لا حقيقة له.
(وَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (إِنَّكَ) وحدك (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) يمكن دخول المشيئة فيه (قَدِيرٌ) (8) : بالغ القدرة.
* وقال تعالى في سورة نوح (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) :
منزلي، وقيل: مسجدي، والمتبادر: المنزل (مُؤْمِناً) ؛ أي: مصدّقا بالله تعالى وهو حال، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [28] من كلّ أمّة إلى يوم القيامة؛ فهو دعاء عامّ في كلّ مؤمن آمن بالله وصدّق الرّسل.
وإنّما بدأ بنفسه!! لأنّها أولى بالتّخصيص والتّقديم، ثمّ ثنّى بالمتّصلين به؛ لأنّهم أحقّ بدعائه من غيرهم، ثمّ عمّم جميع المؤمنين والمؤمنات؛ ليكون ذلك أبلغ في الدّعاء.(4/392)
1- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بوجهك الكريم واسمك العظيم؛ من الكفر والفقر» (طب؛ عن عبد الرّحمن ابن أبي بك) .
2- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من العجز ...
1- ( «اللهمّ) - الميم عوض من «يا» ، ولذا لا يجتمعان، وهو من خصائص هذا الاسم؛ لدخولها عليه مع لام التّعريف، كما خصّ بالباء في القسم، وقطع همزته في «يا ألله» ، وقيل: أصل «يا ألله» آمنا بخير، فخفّف بحذف حرف النّداء؛ ذكره القاضي البيضاوي.
وقد كثر استعمال كلمة «اللهمّ» في الدّعاء.
وجاء عن الحسن البصري: «اللهمّ» مجتمع الدّعاء.
وعن النّضر بن شميل: من قال «اللهمّ» ؛ فقد سأل الله بجميع أسمائه-.
(إنّي أعوذ) : أعتصم (بوجهك الكريم) قال البيضاوي: وجه الله مجاز عن ذاته عزّ وجلّ، تقول العرب «أكرم الله وجهك» ، بمعنى: أكرمك؛ والكريم:
الشّريف النّافع الّذي لا ينفد عطاؤه.
(واسمك العظيم) ؛ أي: الأعظم من كلّ شيء؛ (من الكفر) بجميع أنواعه، (والفقر» ) ؛ أي: فقر المال، أو فقر النّفس. وذا تعليم لأمّته.
قيل: وهذا يعارض «لا يسأل بوجه الله إلّا الجنّة» !!
وأجيب بأنّ الاستعاذة من الكفر سؤال الجنة.
(طب) ؛ أي: أخرجه الطّبراني في كتاب «السّنّة» له؛ (عن عبد الرّحمن بن أبي بكر) الصّدّيق «شقيق عائشة رضي الله تعالى عنهما» ، حضر بدرا مع الكفّار، ثمّ أسلم، وكان من أشجع قريش وأرماهم بسهم، تأخّر إسلامه إلى قبيل الفتح؛ قال الحافظ الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم؛
2- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من العجز) - بسكون الجيم-: عدم القدرة على الخير، وقيل: ترك ما يجب فعله؛ والتّسويف به. وقال المناوي: سلب القوّة؛ وتخلّف التّوفيق، إذ صفة العبد العجز، وإنّما يقوى بقوّة يحدثها الله، فكأنّه استعاذ به أن يكله إلى أوصافه، فإنّ كل من رد إليه فقد خذل.(4/393)
والكسل، والجبن والبخل والهرم، والقسوة والغافلة والعيلة، والذّلّة والمسكنة، ...
(والكسل) : التّثاقل والتّراخي عمّا لا ينبغي التّثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النّفس للخير وقلّة الرّغبة فيه مع إمكانه؛ والعاجز معذور، والكسلان غير معذور.
(والجبن) - بضمّ فسكون-: الضّعف عن تعاطي القتال؛ خوفا على المهجة.
(والبخل) ؛ وهو- في الشّرع-: منع الواجب، وفي اللّغة-: منع السّائل المحتاج عمّا يفضل عن الحاجة.
(والهرم) - كبر السّنّ المؤدّي إلى تساقط القوى، وذهاب العقل، وتخبّط الرّأي- وقال العلقمي: قال شيخنا: هو الردّ إلى أرذل العمر؛ لما فيه اختلال العقل والحواسّ والضّبط والفهم، وتشويه بعض المنظر، والعجز عن كثير من الطّاعات، والتّساهل في بعضها. قال الموفّق البغداديّ: هو اضمحلال طبيعيّ وطريق للفناء ضروريّ، فلا شفاء له.
(والقسوة) : غلظ القلب وصلابته، (والغافلة) : غيبة الشّيء المهمّ عن البال، وعدم تذكّره، واستعمل في تاركه إهمالا وإعراضا؛ كما في قوله تعالى وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) [الأنبياء] .
(والعيلة) - بالفتح-: الفقر، وهو مصدر «عال؛ يعيل؛ عيلة» : إذا افتقر، من باب باع، فهو عائل والجمع عالة؛ وهي على تقدير فعله، مثل: كافر وكفره، وفي نسخة شرح عليها العزيزي: والقلّة بدل العيلة؛ وهي بكسر القاف:
قلّة المال بحيث لا يجد كفافا.
(والذّلّة) - بالكسر-: الهوان على النّاس بحيث يستخفّون به؛ وينظرون إليه بعين الاحتقار. (والمسكنة) ؛ أي: قلّة المال مع سوء الحال، وأما قلّة المال مع الصّبر؛ فممدوح.(4/394)
وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشّقاق، والنّفاق والسّمعة والرّياء، وأعوذ بك من الصّمم والبكم والجنون والجذام، ...
(وأعوذ بك من الفقر) ؛ أي: فقر النّفس، لا ما هو المتبادر من معناه من إطلاقه على الحاجة الضّروريّة، فإنّ ذلك يعمّ كلّ موجود* يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) [فاطر] .
(والكفر) عنادا؛ أو جحودا؛ أو نفاقا، وأورده عقب الفقر!! لأنّ الفقر قد يفضي إليه.
(والفسوق) : الخروج عن الاستقامة والجور، ومنه قيل للعاصي: فاسق.
(والشّقاق) ؛ أي: التّخاصم المؤدّي إلى أن يصير كلّ من المتخاصمين في شقّ؛ أي: جهة، كأنّ كلّ فريق يحرص على ما يشقّ الآخر، فيؤدّي إلى عدم الألفة.
(والنّفاق) الحقيقي؛ أو المجازي، (والسّمعة) - بضمّ السّين وسكون الميم-: إعلام بالعبادة بعد فعلها ليقال بصلاحه.
(والرّياء) - بكسر الرّاء، وتخفيف التّحتيّة، والمد-: فعل العبادة؛ والنّاس يطّلعون ليقولوا بصلاحه. فالسّمعة: أن يعمل لله خفية، ثمّ يتحدّث بها تنويها.
والرّياء: أن يظهر العبادة بقصد رؤية النّاس لها ليحمدوه.
وقال ابن عبد السّلام: الرّياء أن يعمل لغير الله تعالى.
وذكر هذه الخصال!! لكونها أقبح خصال النّاس، فاستعاذته منها إبانة عن قبحها، وزجر النّاس عنها بألطف وجه، وأمر بتجنّبها بالالتجاء إلى الله.
(وأعوذ بك من الصّمم) : بطلان السّمع أو ضعفه، (والبكم) - بالتّحريك-:
الخرس، أو: أن يولد لا ينطق ولا يسمع، والخرس: أن يخلق بلا نطق.
(والجنون) : زوال العقل.
(والجذام) : هو علّة يحمرّ منها العضو، ثمّ يسودّ، ثمّ يتقطّع ويتناثر.(4/395)
والبرص وسيّء الأسقام» . (ك، هق؛ عن أنس) .
3- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ...
قال المناوي: علّة تسقط الشّعر وتفتّت اللّحم، وتجري الصّديد منه.
(والبرص) : هو بياض شديد يبقّع الجلد ويذهب دمويّته.
(وسيّء الأسقام» ) : الأمراض الفاحشة الرّديئة المؤدّية إلى فرار الحميم «1» ، وقلّة الأنيس أو فقده؛ كالاستسقاء والسّل والمرض المزمن؛ وهذا من إضافة الصّفة للموصوف، أي: الأسقام السّيّئة.
قال التوربشتي: ولم يستعذ من سائر الأسقام!! لأنّ منها ما إذا تحامل الإنسان فيه على نفسه بالصّبر خفّت مؤنته؛ كحمّى وصداع ورمد.
وإنّما استعاذ من السّقم المزمن؛ فينتهي صاحبه إلى حال يفرّ منه الحميم، ويقلّ دونه المؤانس والمداوي مع ما يورث من الشّين.
وهذه الأمراض لا تجوز على الأنبياء، بل يشترط في النّبي سلامته من كل منفّر؛ وإنّما ذكرها تعليما للأمّة كيف تدعو.
(ك هق) ؛ أي: أخرجه الحاكم، والبيهقي في «السّنن» في «كتاب الدّعاء» ؛ (عن أنس) ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهمّ ... » إلى آخره. قال الحاكم: صحيح. وأقرّه الذّهبي.
3- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع) : هو 1- ما لم يأذن في تعلّمه شرعا؛ كعلم الفلسفة، أو 2- ما لا يصحبه عمل، أو 3- ما لا يهذّب الأخلاق الباطنة فيسري منها إلى الأفعال الظّاهرة؛ ويفوز بها إلى الثّواب الآجل، وأنشد:
يا من تقاعد عن مكارم خلقه ... ليس التّفاخر بالعلوم الزّاخرة
من لم يهذّب علمه أخلاقه ... لم ينتفع بعلومه في الآخرة
__________
(1) الصّديق، لا المصاب بالحمى المسمّى «المحموم» . (عبد الجليل) .(4/396)
وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، ومن الجوع فإنّه بئس الضّجيع، ومن الخيانة فإنّها بئست البطانة، ...
(وقلب لا يخشع) لذكر الله سبحانه، ولا لاستماع كلامه، وهو القلب القاسي الّذي هو أبعد القلوب من حضرة علّام الغيوب.
وإنّ أبعد قلوب النّاس ... من ربّنا الرّحيم قلب قاسي
(ودعاء لا يسمع) سماع قبول؛ أي: لا يستجاب ولا يعتدّ به، فكأنّه غير مسموع.
(ونفس لا تشبع) من جمع المال، أو من كثرة الأكل؛ الجالبة لكثرة الأبخرة؛ الموجبة لكثرة النّوم، المؤدّية إلى فقر الدّنيا والآخرة.
ويؤخذ من الحديث جواز السّجع في الأدعية؛ ومحلّه إذا لم يكن بتكلّف واستعمال فكره، وإلّا كره؛ لما فاته في مقام الدّعاء من الخضوع والذّلّة والخشوع.
(ومن الجوع) ؛ حقيقته: أنّه الألم الحاصل من خلوّ المعدة من المأكول؛ ولا ينافي ذلك قول أهل الطّريق: إنّ الجوع مطلوب لرياضة النّفس، لأنّ المستجار منه هو الّذي ليس فيه مصلحة شرعيّة، أو يضرّ بالجسد.
(فإنّه بئس الضّجيع) : المضاجع لي في فراشي. استعاذ منه، لأنّه يمنع استراحة البدن، ويحلّل المواد المحمودة بلا بدل، ويشوّش الدّماغ، ويورث الوسواس، ويضعف البدن عن القيام بوظائف العبادات؛ لا سيّما قيام التّهجّد.
(ومن الخيانة) : مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ، سواء كانت خيانة للغير؛ كالخيانة في الوديعة، أو خيانة للنّفس؛ كأن لا يمتثل المأمورات والمنهيّات، فمن ضيّع شيئا ممّا أمر الله به؛ أو ارتكب شيئا ممّا نهى الله عنه فقد خان نفسه، إذ جلب إليها الذّم في الدّنيا والعقاب في الآخرة.
(فإنّها بئست البطانة) - بكسر الباء؛ ضد الظهارة- وهي في الأصل: الثّوب(4/397)
ومن الكسل والبخل والجبن، ومن الهرم، وأن أردّ إلى أرذل العمر، ومن فتنة الدّجّال وعذاب القبر، ...
الملاصق للجسد، والجهة الّتي لا تلاصقه تسمّى «ظهارة» ، فاستعيرت لكلّ شيء ملازم، يقال: بطانة الرّجل: أهله وعياله؛ والمراد هنا: الصّفة الملازمة للشّخص؛ أي: بئست الخصلة الّتي يحرص عليها الشّخص ويخفيها؛ فشبّهها ببطانة الثّوب الملاصق للجسد الّتي لها ظهارة؛ بجامع الخفاء.
(ومن الكسل) : عدم انبعاث النّفس لفعل الخير، (والبخل) : منع السّائل المحتاج عمّا يفضل عن الحاجة. (والجبن) - بضم فسكون-: الخور عن تعاطي الحرب؛ خوفا على المهجة «1» .
(ومن الهرم) : الكبر المؤدّي إلى ترك الأعمال الصّالحة والتخبّط في العقل.
(وأن أردّ إلى أرذل العمر) أي: العمر الأرذل؛ أي: الرّدي بأن يسلب صفة التّمييز، فيعود كالطّفل.
قال الطّيبيّ: المطلوب عند المحققين من العمر التفكّر في آلاء الله تعالى ونعمائه تعالى من خلق الموجودات؛ قياما بواجب الشّكر بالقلب والجوارح؛ والفاقد لذلك كالشّيء الّذي لا ينتفع به، فينبغي أن يستعاذ منه.
(ومن فتنة الدّجّال) : محنته، وهي أعظم فتن الدّنيا. والدّجال: فعّال بالتّشديد- وهو من الدّجل؛ بمعنى التّغطية، لأنّه يغطّي الحقّ بباطله، ولهذا سمّي الكذّاب «دجّالا» .
(وعذاب القبر) : عقوبته. ومصدره التّعذيب، فهو مضاف للفاعل مجازا، أو هو من إضافة المظروف لظرفه، فهو على تقدير «في» ؛ أي: من عذاب في القبر.
__________
(1) القلب. أو النفس أو الروح. وكلها بمعنى. (عبد الجليل) .(4/398)
ومن فتنة المحيا والممات.
اللهمّ؛ إنّا نسألك قلوبا أوّاهة مخبتة منيبة في سبيلك.
اللهمّ؛ إنّا نسألك عزائم مغفرتك ومنجيات أمرك، ...
وفيه إثبات عذاب القبر، والإيمان به واجب؛ وأضيف العذاب إلى القبر!! لأنّه الغالب، وإلّا! فكلّ ميّت أراد الله تعذيبه أناله ما أراد به قبر أو لم يقبر، ولو صلب أو غرق في البحر، أو أكلته السّباع، أو حرق حتّى صار رمادا، أو ذرّي في الرّيح.
وهو- أي: عذاب القبر- على الرّوح والبدن جميعا باتّفاق أهل السّنّة، وكذا القول في النّعيم؛ قال ابن القيم:
ثمّ عذاب القبر قسمان: دائم؛ وهو عذاب الكفّار وبعض العصاة. ومنقطع؛ وهو عذاب من خفّت جرائمهم من العصاة، فإنّه يعذب بحسب جريمته، ثمّ يرفع عنه، وقد يرفع بدعاء أو صدقة أو نحو ذلك. انتهى.
(ومن فتنة المحيا) - بفتح الميم- أي: ما يعرض للإنسان مدّة حياته من الافتتان بالدّنيا والشّهوات والجهالات؛ وأعظمها- والعياذ بالله تعالى- أمر الخاتمة عند الموت.
(و) من فتنة (الممات) ؛ أي: الفتنة الواقعة قرب الموت؛ أضيفت إليه لقربها منه، فهي في الحياة، فعطفها من عطف الخاصّ اهتماما بها.
(اللهمّ؛ إنّا نسألك) ؛ أي: نطلب منك (قلوبا أوّاهة) : كثيرة الدّعاء والتضرّع؛ ليترتّب عليها إظهار الاحتياج.
(مخبتة) : خاشعة مطيعة منقادة، (منيبة) : راجعة إليك بالتّوبة، مقبلة عليك (في سبيلك) ؛ أي: الطّريق إليك.
(اللهمّ؛ إنّا نسألك عزائم مغفرتك) ؛ أي: أسباب مغفرتك المؤكّدة؛ لأنّ العزم: التّصميم، (ومنجيات أمرك) ؛ أي: ما ينجّي من عقابك ويصون عن عذابك.(4/399)
والسّلامة من كلّ إثم، والغنيمة من كلّ برّ، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» . (ك؛ عن ابن مسعود) .
4- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ...
(والسّلامة من كلّ إثم) معصية، (والغنيمة من كلّ برّ) - بكسر الموحّدة-:
خير وطاعة، (والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» ) : عذابها، وهذا ذكره للتّشريع والتّعليم.
وفيه دليل على ندب الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرء أنّه يتمسّك فيه بالحقّ، لأنّها قد تفضي إلى وقوع ما لا يحترز من وقوعه.
قال ابن بطّال: وفيه ردّ للحديث الشّائع: «لا تستعيذوا بالله من الفتن، فإنّ فيها حصاد المنافقين» ؛ أي: هلاكهم.
قال ابن حجر: قد سئل عنه قديما ابن وهب فقال: إنّه باطل؛ وقال الحفني على «الجامع» : إنّه حديث موضوع لا أصل له.
(ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «الدّعاء» ؛ (عن) عبد الله (بن مسعود) رضي الله تعالى عنه، وقال: صحيح الإسناد؛ قال الحافظ العراقي: وليس كما قال، إلّا أنّه ورد في أحاديث جيدة الإسناد، ذكره المناوي رحمه الله تعالى.
4- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم) - بفتح الميم، وإسكان الهمزة، وفتح المثلّثة-: الإثم كبيرا أو صغيرا.
(والمغرم) - بفتح الميم وإسكان الغين وفتح الراء-: كلّ ما فيه خسارة دين؛ أو دنيا. وفي حديث صحيح: قال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله!! قال: «الرّجل إذا غرم حدّث فكذب، ووعد فأخلف» . أي: وهذا من الخسارة في الدّين.(4/400)
ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النّار وعذاب النّار، ومن شرّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، ومن فتنة المسيح الدّجّال.
وخسارة الدّنيا كالخسارة في التّجارة والقرض مع عدم القدرة على الوفاء؛ واستعاذته صلى الله عليه وسلم تعليم لأمّته وإظهار للعبوديّة والافتقار.
(ومن فتنة القبر) التّحير في جواب منكر ونكير (وعذاب القبر) - عطف عام على خاص- فعذابه قد ينشأ عن الفتنة بأن يتحيّر فيعذّب لذلك، وقد يكون لغير الفتنة؛ كأن يجيب بالحقّ ولا يتحيّر، ثمّ يعذب على تفريطه في بعض المأمورات أو المنهيّات كإهمال التّنزّه عن البول ونحو ذلك. فتنبّه.
(ومن فتنة النّار) هي سؤال الخزنة على جهة التّوبيخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) [الملك] (وعذاب النّار) ؛ أي:
إحراقها بعد فتنتها.
(ومن شرّ فتنة الغنى) ؛ أي: البطر والطّغيان والتّفاخر به، وصرف المال في المعاصي.
(وأعوذ بك من فتنة الفقر) : حسد الأغنياء، والطّمع في مالهم، والتّذلّل لهم بما يدنّس العرض ويثلم الدّين، وعدم الرّضا بالمقسوم.
وذكر لفظ «شرّ» في الفقرة الأولى؛ دون الثّانية هو ما وقع في هذه الرّواية، وجاء في رواية إثباتها فيهما، وفي رواية أخرى حذفها فيهما.
(ومن فتنة المسيح) - بفتح الميم، وخفّة السّين، وبحاء مهملة-.
سمّي به!! لكون إحدى عينيه ممسوحة، أو لمسح الخير منه؛ فعيل بمعنى مفعول، أو لمسحه الأرض، أو قطعها في أمد قليل؛ فهو بمعنى فاعل، أي:
مصيبة أو اختبار المسيح.
(الدّجّال) ؛ وذكر الدّجال بعد المسيح!! لئلّا يتوهّم المسيح سيدنا عيسى عليه الصّلاة والسّلام، وإنّما استعاذ منه؛ مع كونه لا يدركه!! نشرا لخبره بين أمّته جيلا(4/401)
اللهمّ؛ اغسل عنّي خطاياي بالماء والثّلج والبرد، ونقّ قلبي من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، وباعد بيني وبين خطاياي؛ ...
بعد جيل؛ لئلّا يلتبس كفره على مدركه.
(اللهمّ؛ اغسل) : أزل (عنّي خطاياي) ؛ أي: ذنوبي، لو فرض أن لي ذنوبا، أو ذكره للتّشريع.
(بالماء والثّلج والبرد) - بفتحتين-: حب الغمام، وجمع بينهما!! مبالغة في التّطهير، أي: طهّرني منها بأنواع مغفرتك.
وخصّها!! لأنّها لبردها أسرع لإطفاء حرّ عذاب النّار الّتي هي غاية الحرّ، وجعل الخطايا بمنزلة جهنّم؛ لكونها سببها، فعبّر عن إطفاء حرّها بذلك، وبالغ باستعمال المبرّدات؛ مترقّيا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثمّ إلى أبرد منه وهو البرد، بدليل جموده، ومصيره جليدا، والثّلج يذوب؛ قاله المناوي.
وفي «حواشي الحفني» : شبّه الخطايا بالدّنس الحسّي الّذي يتباعد عنه، والغسل تخييل، والماء والثلج والبرد ترشيح باق على معناه، أو مستعار لعمل البرّ المطهر من الدّنس؛ بجامع إزالة ما يكره.
فالمراد من الغسل المذكور المغفرة، وقال ابن دقيق العيد: عبّر بذلك عن غاية المحو، فإنّ الثّوب الّذي يتكرّر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النّقاء. انتهى.
(ونقّ) - بفتح النّون وشدّ القاف- (قلبي) الّذي هو ملك الأعضاء، واستقامتها باستقامته. (من الخطايا) تأكيد للسّابق، ومجاز عن إزالة الذّنوب ومحو أثرها، (كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس) - بفتح الدّال والنّون- أي: الوسخ، ولما كان الدّنس في الثّوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التّشبيه به.
(وباعد) ؛ أي: أبعد. وعبّر بالمفاعلة مبالغة (بيني وبين خطاياي) كرّر (بين) هنا دون ما بعده؛ لأنّ العطف على الضّمير المجرور يعاد فيه الخافض.(4/402)
كما باعدت بين المشرق والمغرب» (ق، ت، ن، هـ.
عن عائشة) .
5- اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من التّردّي والهدم، والغرق ...
(كما باعدت) ؛ أي: كتبعيدك (بين المشرق) : موضع الشّروق، وهو مطلع الأنوار، (والمغرب» ) أي: محل الأفول.
وهذا مجاز؛ لأنّ حقيقة المباعدة، إنّما هي في الزّمان والمكان، أي: امح ما حصل من ذنوبي، وحل بيني وبين ما يخاف من وقوعها حتّى لا يبقى لها اقتراب مني بالكلّيّة، ف «ما» مصدريّة، والكاف للتّشبيه.
وموقع التّشبيه أنّ التقاء المشرق والمغرب محال، فشبّه بعد الذّنب عنه ببعد ما بينهما، والثّلاثة إشارة لما يقع في الأزمنة الثّلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتّنقية للحال، والغسل للماضي؛ والنّبي معصوم، وإنّما قصد تعليم الأمّة وإظهار العبوديّة.
(ق) ؛ أي: متّفق عليه، أي: رواه البخاري ومسلم في «الدعوات» .
(ت) ؛ أي: ورواه التّرمذي بتقديم وتأخير.
(ن، هـ) ؛ أي: ورواه النّسائي وابن ماجه مختصرا: كلّهم؛
(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، وخرّجه الحاكم بزيادة:
5- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من التردّي) ؛ أي: السّقوط من مكان عال كشاهق جبل، أو السّقوط في بئر. والتّردّي: تفعّل، من الرّدى، وهو الهلاك.
(والهدم) - بسكون الدّال؛ أي: سقوط البناء، ووقوعه على الإنسان، وروي بالفتح، وهو: اسم لما انهدم منه، (والغرق) . قال المناوي: - بكسر الرّاء؛ كفرح-: الموت بالغرق، وقيل: بفتح الرّاء، قال العلقمي:
بفتح الرّاء مصدر، وهو الّذي غلبه الماء وقوي عليه فأشرف على(4/403)
والحرق، وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا» . (ن، ك؛ عن أبي اليسر) .
الهلاك؛ ولم يغرق، فإذا غرق فهو غريق.
(والحرق) - بفتح الحاء والرّاء-: الالتهاب بالنّار، وإنّما استعاذ من الهلاك بهذه الأسباب؛ مع ما فيه من نيل الشّهادة!! لأنّها مجهدة مقلقة، لا يكاد الإنسان يصبر عليها، ويثبت عندها، فربّما استزلّه الشّيطان فحمله على ما يخلّ بدينه.
(وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان) التخبّط: الصّرع، والمراد هنا: غلبة الشّيطان، قال القاضي: تخبّط الشّيطان: مجاز عن إضلاله وتسويله. انتهى.
وقال المناوي: أي: يصرعني ويلعب بي ويفسد عليّ ديني.
(عند الموت) ، بنزغاته الّتي تزلّ بها الأقدام، وتصرع العقول والأحلام، وقد يستولي على المرء عند فراق الدّنيا فيضلّه، أو يمنعه التّوبة، أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة قبله، أو يؤيّسه من الرّحمة، أو يكرّه له الرّحمة فيختم له بسوء والعياذ بالله-! وهذا تعليم للأمّة، فإنّ شيطانه أسلم، ولا تسلّط له؛ ولا لغيره عليه بحال من الأحوال، بل سائر الأنبياء على هذا المنوال.
(وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا) عن الحقّ، أو عن قتال الكفّار حيث حرم الفرار، وهذا وما أشبهه تعليم للأمّة، وإلّا! فرسول الله صلى الله عليه وسلم آمن من ذلك كله، ولا يجوز له الفرار مطلقا.
(وأعوذ بك أن أموت لديغا» ) فعيل: بمعنى مفعول، واللّدغ- بدال مهملة، وغين معجمة- يستعمل في ذوات السّمّ؛ كحيّة وعقرب، وبعين مهملة وذال معجمة- يستعمل في الإحراق بنار كالكيّ، والأول هو المراد هنا.
(ن، ك) ؛ أي: أخرجه النّسائي، والحاكم، وكذا أخرجه أبو داود في «الصّلاة» كلّهم؛ (عن أبي اليسر) - بفتح المثنّاة التّحتيّة والسّين المهملة المفتوحة(4/404)
6- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك» . (م، د، ت؛ عن ابن عمر) .
وراء آخره-، واسمه: كعب بن عمرو الأنصاري السّلمي- بفتحتين- مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة وبدرا، وله فيها آثار كثيرة.
وهو الّذي أسر العبّاس يوم بدر، وكان قصيرا دحداحا؛ عظيم البطن.
ومات بالمدينة المنوّرة سنة خمس وخمسين رضي الله تعالى عنه.
6- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك) ؛ أي: ذهابها، مفرد في معنى الجمع، يعمّ النّعم الظّاهرة والباطنة؛ والنّعمة: كلّ ملائم تحمد عاقبته، ومن ثمّ قالوا: لا نعمة لله على كافر، بل ملاذّه استدراج.
والاستعاذة من زوال النّعم تتضمّن الحفظ عن الوقوع في المعاصي؛ لأنّها تزيلها، ألا تسمع قوله:
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإنّ المعاصي تزيل النّعم
وحافظ عليها بشكر الإله ... فإنّ الإله سريع النّقم
(وتحوّل عافيتك) ؛ أي: تبدّلها.
قال العلقمي: فإن قلت: ما الفرق بين الزّوال والتّحول؟! قلت: الزّوال يقال في كلّ شيء كان ثابتا في شيء ثمّ فارقه. والتّحوّل: تغيّر الشّيء وانفصاله عن غيره، فكأنّه سأل دوام العافية، وهي السّلامة من الآلام والآثام.
(وفجاءة) - بالضّمّ والمدّ، و [فجأة] بالفتح والقصر-: بغتة (نقمتك) بكسر فسكون- أي: غضبك، (وجميع سخطك» ) - بالتحريك- أي: سائر الأسباب الموجبة لذلك، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها، وهو تعميم بعد تخصيص.
(م، د، ت) ؛ أي: أخرجه مسلم، وأبو داود، والتّرمذي: كلّهم؛ (عن ابن عمر) بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما.(4/405)
7- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء» . (ت، طب؛ ك؛ عن عمّ زياد بن علاقة [رضي الله تعالى عنه] ) .
8- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ سمعي، ومن شرّ بصري، ومن شرّ لساني، ...
7- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من منكرات الأخلاق) ؛ كحقد وبخل، وحسد وعجب، ولؤم وكبر ونحوها.
(والأعمال) ؛ أي: منكرات الأعمال، وهي الكبائر؛ كقتل وزنا، وشرب مسكر وسرقة، ونحوها؛ وهو من إضافة الصّفة للموصوف، أي: الأعمال المنكرات والأخلاق المنكرات؛ وذكر ذلك مع عصمته تعليما لأمّته،
(و) منكرات (الأهواء) ؛ وهي الزّيغ والانهماك في الشّهوات، جمع هوى، مقصور هوى النّفس، وهو ميلها إلى المستلذّات والمستحسنات عندها، لأنّه يشغل عن الطّاعة، ويؤدّي إلى الأشر والبطر؛ قاله المناوي.
(والأدواء» ) - جمع داء- كجذام، وبرص، وسلّ، واستسقاء، وذات جنب، ونحوها، فهذه كلّها بوائق الدّهر.
(ت، طب، ك) ؛ أي: أخرجه التّرمذي، والطّبراني في «الكبير» ، والحاكم، كلّهم؛ (عن عمّ زياد بن علاقة) - بكسر العين المهملة- هو: قطبة بن مالك، قال التّرمذي: حسن غريب.
8- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ سمعي) ؛ أن أسمع به ما لا يحلّ سماعه، (ومن شرّ بصري) ؛ أن أنظر به إلى محرّم، (ومن شرّ لساني) ؛ أي: نطقي، فإنّ أكثر الخطايا منه، وهو الّذي يورد المرء في المهالك.
وخصّ هذه الجوارح!! لما أنّها مناط الشّهوة ومثار اللّذة.
قال ابن رسلان: فيه الاستعاذة من شرور هذه الجوارح الّتي هي مأمور(4/406)
ومن شرّ قلبي، ومن شرّ منيّي» . (د، ك؛ عن شكل [رضي الله تعالى عنه] ) .
9- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من يوم السّوء، ...
بحفظها، كما قال وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) [المؤمنون] . فالسّمع أمانة، والبصر أمانة، واللّسان أمانة، وهو مسئول عنها، قال تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) [الإسراء] فمن لم يحفظها، ويتعدّى فيها الحدود؛ عصى الله تعالى، وخان الأمانة، وظلم نفسه، فكلّ جارحة ذات شهوة لا يستطيع دفع شرّها؛ إلّا بالالتجاء إلى الله تعالى، لكثرة شرّها وآفاتها، وللّسان آفات كثيرة، غالبها الكذب، والغيبة، والمماراة، والمدح، والمزاح.
(ومن شرّ قلبي) ؛ يعني: نفسي؛ والنّفس مجمع الشّهوات والمفاسد بحبّ الدّنيا والرّهبة من الخلق، وخوف فوت الرّزق، والأمراض القلبيّة؛ من نحو حسد وحقد، وطلب رفعة، وغير ذلك، ولا يستطيع الآدميّ دفع شرّها إلّا بالإعانة والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
(ومن شرّ منيّي» ) ؛ أي: شهوتي المحرّكة لمنيّي، أي: من شرّ شدّة الغلمة، وسطوة الشّبق إلى الجماع الّذي إذا أفرط ربّما أوقع في الزّنا أو مقدّماته؛ لا محالة، فهو حقيق بالاستعاذة من شرّه.
وخصّ هذه الأشياء بالاستعاذة؛ لأنّها أصل كلّ شرّ، قاعدته ومنبعه. كما تقرّر؛ قاله المناوي.
(د، ك) ؛ أي: أخرجه أبو داود، والحاكم، وكذا أخرجه التّرمذي: كلّهم؛
(عن شكل) - بشين معجمة، وكاف، مفتوحتين- ابن حميد العبسي، له صحبة، ولم يرو عنه إلّا ابنه؛ قال البغوي: ولا أعلم له غير هذا الحديث!. قال شكل: قلت يا رسول الله؛ علّمني تعوّذا أتعوّذ به، فأخذ بكفّي ... فذكره، قال التّرمذي: حسن غريب.
9- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من يوم السّوء) ؛ أي: اليوم الّذي يقع فيه منّي(4/407)
ومن ليلة السّوء، ومن ساعة السّوء، ومن صاحب السّوء، ومن جار السّوء في دار المقامة» . (طب؛ عن عقبة بن عامر [رضي الله تعالى عنه] ) .
10- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ برضاك من سخطك، ...
سوء وفحش، أو الذي يحصل لي فيه ضرر في بدني أو مالي، أو الّذي يحصل فيه غفلة بعد المعرفة، ولا مانع من إرادة الكلّ.
(ومن ليلة السّوء، ومن ساعة السّوء) كذلك، (ومن صاحب السّوء) ؛ أي: أصحاب السّوء؛ لأنّه مفرد مضاف بأن لا يرى منهم إلّا الأذى، وصاحب:
فاعل، وجمعه: صحابة- بفتح الصاد- ولم ينقل جمع فاعل على «فعالة» إلّا هذا، أي: فهو من الجموع الشّاذّة، أو هو اسم جمع.
(ومن جار السّوء) الّذي إذا رأى خيرا كتمه وإذا رأى شرّا أذاعه؛ (في دار المقامة» ) ، فإنّ الضّرر فيها يدوم بخلاف السّفر. زاد في رواية: «فإنّ جار البادية يتحوّل» . والمقامة- بالضّمّ-: الإقامة، كما في «الصّحاح» ؛ قال: وقد تكون بمعنى القيام، لأنّك إذا جعلته من: قام يقوم؛ فمفتوح، أو من: أقام يقيم؛ فمضموم.
وقوله تعالى لا مُقامَ لَكُمْ «1» ؛ أي: لا موضع لكم، وقرئ لا مُقامَ لَكُمْ- بالضمّ-، أي: لا إقامة لكم. انتهى؛ ذكره المناوي.
(طب) أي: أخرجه الطّبراني في «الكبير» ؛ (عن عقبة بن عامر) ؛ قال الحافظ نور الدّين الهيثمي: رجاله ثقات، وأعاده في موضع آخر؛ وقال: رجاله رجال الصّحيح؛ غير بشر بن ثابت، وهو ثقة.
10- (اللهمّ، إنّي أعوذ برضاك من سخطك) ؛ أي: بما يرضيك عمّا يسخطك، فقد خرج العبد هنا عن حظّ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله، ثمّ الّذي لنفسه من هذا الباب قوله:
__________
(1) قرأ حفص بضم الميم الأولى، وباقي القراء بفتحها.(4/408)
وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ...
(وبمعافاتك من عقوبتك) استعاذ بمعافاته بعد استعاذته برضاه!! لأنّه يحتمل أن يرضى عنه من جهة حقوقه ويعاقبه على حقوق غيره.
(وأعوذ بك منك) ؛ أي: برحمتك من عقوبتك، فإنّ ما يستعاذ منه صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه، فهو الّذي سبّب الأسباب التي يستعاذ منها خلقا وكونا، وهو الّذي يعيذ منها ويدفع شرّها خلقا وكونا، فمنه السّبب والمسبّب، وهو الّذي حرّك الأنفس والأبدان، وأعطاها قوى التّأثير، وهو الّذي أوجدها وأعدّها وأمدّها، وهو الّذي يمسكها إذا شاء، ويحول بينها وبين قواها وتأثيرها، فتأمل ما تحت قوله «أعوذ بك منك» من محضر التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره، وتكميل التوكّل عليه، وإفراده بالاستعانة وغيره!!.
(لا أحصي ثناء عليك) في مقابلة نعمة واحدة من نعمك، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [18/ النحل] . والغرض منه الاعتراف بتقصيره عن أداء ما أوجب عليه من حقّ الثّناء عليه تعالى.
(أنت كما أثنيت على نفسك» ) بقولك فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) [الجاثية] . وغير ذلك مما حمدت به نفسك، وهذا اعتراف بالعجز عن التّفصيل، وأنّه غير مقدور؛ فوكّله إليه سبحانه، وكما أنّه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثّناء عليه، إذ الثّناء تابع للمثنى عليه، فكلّ ثناء أثني عليه به؛ وإن كثر وطال وبولغ فيه فقدر الله أعظم، وسلطانه أعزّ، وصفاته أجلّ؛ ذكره القاضي.
والمعنى: إن أردت أن أثني عليك في مقابلة نعمة لم أطق، فحينئذ أنت موصوف بالثّناء الّذي مثل ثنائك على نفسك.
قال العلماء: ولو حلف «أن يثني عليه تعالى أجلّ الثّناء» برّ بقوله:
«سبحانك؛ لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» ؛ لأنّ أحسن الثّناء(4/409)
(م، 4؛ عن عائشة) .
11- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك ...
وأجلّه ثناء الله تعالى على نفسه.
وأمّا مجامع الحمد وأجلّه فهو قوله: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، فلو حلف «ليحمدن الله بمجامع الحمد أو: بأجلّ التّحاميد» !! فطريقه:
أن يقول ذلك. يقال: إنّ جبريل عليه السّلام قاله لآدم عليه الصّلاة والسّلام، وقال: قد علّمتك «مجامع الحمد» .
ومعنى قوله: يوافي نعمه؛ أي: يلاقيها فتحصل معه، ويكافئ مزيده؛ أي:
يساويه فيقوم بشكر ما زاد من النّعم.
وقد تقدّم الكلام على ذلك في شرح خطبة المصنّف.
(م، 4) ؛ أي: أخرجه مسلم، والأربعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها قالت:
فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته؛ فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو بالمسجد. وهما منصوبتان، وهو يقول ذلك.
11- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك) ، استعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور الّتي عصم منها إنّما هو ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدي به الأمّة، وليبين لهم صفة الدّعاء؛ والمهم منه.
و «أعوذ» : لفظه لفظ الخبر؛ ومعناه الدّعاء. قالوا: وفي ذلك تحقيق الطّلب؛ كما قيل في «غفر الله» بلفظ الماضي، والباء للإلصاق المعنويّ للتخصيص، كأنّه خصّ الرّبّ بالاستعاذة، وقد جاء في الكتاب والسّنّة «أعوذ بالله» ، ولم يسمع: بالله أعوذ؛ لأنّ تقديم المعمول تفنّن وانبساط، والاستعاذة حال خوف وقبض، بخلاف «الحمد لله» ، و «لله الحمد» ؛ لأنّه حال شكر، وتذكير إحسان ونعم.(4/410)
من شرّ ما عملت؛ ومن شرّ ما لم أعمل» . (م، د، ن، هـ؛ عن عائشة) .
12- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الفقر والقلّة والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم، أو أظلم» . (د، ن، هـ، ك؛ ...
(من شرّ ما عملت) ؛ أي: من شرّ ما اكتسبته ممّا يقتضي عقوبة في الدنيا؛ أو نقصا في الآخرة.
(ومن شرّ ما لم أعمل» ) ؛ أي: بأن تحفظني منه في المستقبل؛ وهذا تعليم للأمّة؛ أو المراد: شرّ عمل غيري، فإنّ عمل الشّر من شخص ينزل وبالا عليه وعلى غيره، فأعوذ بك من شرّ عموم وباله بالنّاس، قال تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [52/ الأنفال] . أو المراد: ما ينسب إليّ افتراء؛ ولم أعمله.
وتقديم الميم على اللّام فيهما هو ما في «مسلم» وغيره، وعكسه الواقع لحجة الإسلام في «الإحياء» متعقّب بالردّ، نعم؛ جاء في خبر مرسل.
(م، د، ن، هـ) أي: أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه:
كلهم؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، ولم يخرّجه البخاري!!.
12- ( «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الفقر والقلّة) - بكسر القاف- أي: قلّة المال التي يخشى منها، وقلّة الصبر على الإقلال، وتسلّط الشيطان عليه بوسوسته؛ بذكر تنعّم الأغنياء وما هم فيه، (والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم) - بفتح الهمزة وكسر اللام مبنيّا للفاعل- أي: أظلم أحدا من المسلمين والمعاهدين. ويدخل فيه ظلم نفسه بمعصية الله تعالى. (أو أظلم) - بضم الهمزة وفتح اللام؛ بالبناء للمفعول- أي: يظلمني أحد. وفي الحديث: ندب الاستعاذة من الظّلم والظّلمة، وأراد بهذه الأدعية تعليم أمته.
(د، ن، هـ، ك) ؛ أي: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه،(4/411)
عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) .
13- «اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّك أنت الرّبّ وحدك لا شريك لك. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم عبدك ورسولك.
اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّ العباد كلّهم إخوة.
اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. اجعلني مخلصا لك وأهلي في كلّ ساعة في الدّنيا والآخرة، ...
والحاكم؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، وسكت عليه أبو داود، ولم يعترضه المنذري!!.
13- ( «اللهمّ؛ ربّنا) يا ربنا (وربّ كلّ شيء أنا شهيد) ؛ أي: شاهد على (أنّك أنت الرّب) ؛ أي: الإله الخالق المتفرّد بالإيجاد والإمداد (وحدك) ؛ أي: منفردا في ذاتك (لا شريك لك) في صفاتك وأفعالك.
(اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء، أنا شهيد) على (أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك) إلى كافّة الخلق.
(اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء، أنا شهيد) على (أنّ العباد) ؛ أي: المؤمنين منهم (كلّهم إخوة) ؛ أي: متّصفون بصفة واحدة؛ وهي الإيمان، قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10/ الحجرات] .
(اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء، اجعلني مخلصا لك) ؛ أي: متّصفا بصفة الإخلاص في أعمالي وعباداتي، بأن أقصد بها التقرّب إليك؛ لا رياء ولا سمعة.
(وأهلي) : أتباعي، معطوف على ضمير المتكلم في «اجعلني» ، أي:
اجعلني وإيّاهم مخلصين (في كلّ ساعة في) أمور (الدّنيا والآخرة) ، بحيث لا توجد ساعة- سواء كانت تلك الساعة في أمر الدنيا أو العقبى- إلا أن تكون في(4/412)
يا ذا الجلال والإكرام» . (ن، حب؛ عن أبي أمامة [رضي الله تعالى عنه] ) .
14- «اللهمّ؛ أنت ربّي لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ...
صرف طاعة مقرونة بالإخلاص (يا ذا الجلال والإكرام» ) معنى الجلال- كما دلّ عليه كلام القشيري-: استحقاق أوصاف العلوّ، وهي الأوصاف الثّبوتية والسلبية، وعليه: فالإكرام المقابل له إكرام العباد بالإنعام عليهم، وعلى هذا جرى الغزالي في «المقصد الأسنى» ، وفسّر بغير ذلك.
(ن، حب) ؛ أي: أخرجه النسائي، وابن حبّان؛ (عن أبي أمامة) الباهليّ: صديّ بن عجلان، وأخرجه أبو داود؛ عن زيد بن أرقم، وفي إسناده داود الطفاوي!! قال يحيى بن معين: ليس بشيء.
14- ( «اللهمّ؛ أنت ربّي) ؛ أي: وربّ كلّ شيء، فقد ربّيت الوجود وأهله بالإيجاد ثم بالإمداد، فوجب عليّ وعلى سائر العباد العود إلى ساحتك العليّة بلسان الاعتذار، والقيام في حال الذلّ والانكسار.
(لا إله إلّا أنت) ؛ أي: فلا يطلب من غيرك شيء؛ لأنه مقهور لا ينفع نفسه؛ ولا يدفع الضّرّ عنها، وما أحسن قول العارف الكبير أبي الحسن الشاذلي قدس سره: أيست من نفع نفسي لنفسي؛ فكيف لا آيس من نفع غيري لنفسي!! ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي!!.
(خلقتني) شرح لبيان التربية المدلول عليها بقوله: «أنت ربي» (وأنا عبدك) ؛ أي؛ مخلوقك ومملوكك- جملة حالية-، وكذا جملة (وأنا على عهدك ووعدك) ؛ قيل: عهدك، أي: ما عاهدتني بالإيمان المأخوذ يوم «ألست بربّكم» ، أي: أنا مقيم على ما عاهدتني في الأزل من الإقرار بربوبيّتك. وقيل:
عهدك، أي: على ما عاهدتني، أي: أمرتني به في كتابك وبلسان نبيك من القيام بالتكاليف.(4/413)
ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي؛ ...
(ووعدك) ؛ أي: مستنجز وعدك في المثوبة والأجر في العقبى على هذه العهود، وأنا موقن بما وعدت به من البعث والنشور؛ وأحوال القيامة، فالمصدر مضاف لفاعله. وقيل: ما عاهدتك عليه في الأزل من الإقرار بالوحدانية المأخوذ يوم «ألست بربّكم» ، ووعدك، أي: ما وعدتك به من الوفاء بذلك، فالمصدر مضاف للمفعول. وسئل الإمام جلال الدين السيوطي عن ذلك؛ فقال: العهد:
ما أخذ عليهم وهم في عالم الذر يوم «ألست بربكم» ، والوعد: ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة» . انتهى ذكره في «الحاوي» . قيل: ولا يبعد أن يراد الجميع من الكلمة الجامعة لما ذكر، وغير ذلك مما لا يخطر ببال.
(ما استطعت) ؛ أي: مدّة دوام استطاعتي، ومعناه: الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب في حقّه تعالى.
(أعوذ بك من شرّ ما صنعت) «ما» : فيه مصدرية؛ أو موصولة، أي: أعوذ بك من صنعي، أو مما لم أستطع على كفّ نفسي عنه، من الأعمال التي تؤدّي بصاحبها إلى الهلاك الأبديّ، والعذاب السرمديّ.
(أبوء) - بهمزة مفتوحة فموحدة مضمومة، وبعد الواو همزة- أي: أقرّ وأعترف (لك بنعمتك) التي أنعمت بها (عليّ، وأبوء بذنبي) معناه الإقرار بالذّنب والاعتراف به أيضا، لكن فيه معنى ليس في الأول؛ لأن العرب تقول «باء فلان بذنبه» ؛ إذا احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه. ولذا عبّر في الرواية الصحيحة التي هي رواية البخاري بقوله: «أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» ، بإثبات «لك» مع النّعمة، وبحذفها في ذنبي، وهو أدب حسن.
قال الشيخ ابن حجر في «شرح المشكاة» : وأبوء بذنبي؛ أي: الذنب العظيم الموجب للقطيعة لولا واسع عفوك وهامع فضلك. انتهى.(4/414)
فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت» . (خ؛ عن شدّاد بن أوس) .
وتعقّبه في «المرقاة» بأنه ذهول وغفلة منه، أنّ هذا لفظ النبوّة وهو معصوم عن الزّلة. انتهى. ولك أن تقول: ليس في هذا إثبات وقوع الذنب منه صلى الله عليه وسلم حتى ينافي العصمة؛ إنما المقصود أنه لكمال فضله وخضوعه لربّه يرى ذلك، وكلّما كمل الإنسان زاد اتهامه لنفسه.
ومثاله في الشاهد: أن البريء من الذنب المقرّب مثلا، إذا قال للملك «أنا مسيء في حقّك» ... ونحو ذلك، عدّ منه تواضعا وسببا لترقّيه عند ذلك الملك، وليس فيه إثبات للذنب، والله أعلم.
وقال الطّيبيّ: اعترف أولا بأنه تعالى أنعم عليه، ولم يقيّده!! ليشمل كلّ الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، وعدّ [ذلك] ذنبا!! مبالغة في التقصير وهضم النفس. انتهى؛ ذكره في «شرح الأذكار» .
(فاغفر لي) ذنوبي، (فإنّه) ؛ أي: الشأن (لا يغفر الذّنوب) ؛ أي:
جميعها (إلّا أنت» ) وفائدة الإقرار بالذنب: أنّ الاعتراف يمحو الاقتراف، كما قيل:
فإنّ اعتراف المرء يمحو اقترافه ... كما أنّ إنكار الذّنوب ذنوب
(خ) ؛ أي: أخرجه البخاري في «صحيحه» ؛ (عن شدّاد بن أوس) بن ثابت الأنصاريّ الخزرجيّ «ابن أخي حسان بن ثابت» .
كنيته أبو يعلى، قيل: هو يدري!! وغلط قائله. إنما البدري أبوه رضي الله تعالى عنهما. قال عبادة بن الصّامت وأبو الدّرداء: كان شدّاد من أولي العلم والحكمة.
سكن بيت المقدس وأعقب بها، وتوفي سنة ثمان وخمسين، أو: إحدى وأربعين، أو: أربع وستين، وعمره خمس وسبعون سنة، ودفن بها، وقبره بظاهر باب الرّحمة باق إلى الآن.(4/415)
15- «اللهمّ؛ إنّي ظلمت نفسي ...
روي له خمسون حديثا؛ انفرد مسلم منها بواحد، وهو حديث: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ... » .
وانفرد البخاريّ بهذا الحديث، الذي هو حديث سيّد الاستغفار، أي: سيّد ألفاظه، أي: أفضل أنواع الذكر التي تطلب بها المغفرة، هذا الذكر الجامع لمعاني التوبة كلّها.
قال ابن أبي جمرة: جمع الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ، ما يحقّ له أن يسمّى «سيّد الاستغفار» ، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية، ولنفسه بالعبوديّة، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرّجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرّ ما جنى على نفسه، وإضافة النعم إلى موجدها، وإضافة الذّنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنّه لا يقدر على ذلك إلّا هو. وكلّ ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة؛ لأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان عون من الله. انتهى.
والحديث أخرجه عن شدّاد أيضا الإمام أحمد، والنّسائي في «السّنن» ؛ و «عمل اليوم والليلة» .
وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنّسائي، وابن ماجه، وابن السّنّي، والطبراني في كتاب «الدعاء» ، والبزّار؛ كلّهم من حديث بريدة بن الحصيب، رضي الله تعالى عنه.
15- ( «اللهمّ؛ إنّي ظلمت نفسي) بملابسة ما يوجب العقوبة أو ينقص حظّي. وأصل الظلم: وضع الشيء في غير محلّه، وهو على مراتب؛ أعلاها الشرك.
والنّفس تذكّر وتؤنّث. واختلف هل النفس هي الروح أم لا؟!
قال ابن الملقّن: الظاهر أنّ المراد بالنفس هنا الذات المشتملة على الروح.(4/416)
ظلما كثيرا ولا يغفر الذّنوب إلّا أنت ...
أي: ظلمتها بوضع المعاصي موضع الطاعات، وجزم به البرماويّ؛ قاله في «شرح الأذكار» .
(ظلما كثيرا) قال النووي: هكذا ضبطناه «ظلما كثيرا» - بالثاء المثلاثة- في معظم الروايات، وفي بعض روايات مسلم «كبيرا» - بالباء الموحدة- وكلاهما حسن، فينبغي أن يجمع بينهما فيقال: ظلما كثيرا كبيرا. انتهى.
وأكّد بالمصدر؛ ووصفه!! تحقيقا لدفع المجاز.
وفي الحديث دليل على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحقّ اسم الإيمان إلا من كان لا خطيئة له ولا جرم، وزعموا أنّ أهل الإجرام غير مؤمنين، وأنّ سائر الذّنوب كبائر، وذلك أنّ الصّدّيق أفضل الصّدّيقين من أهل الإيمان؛ وقد أمره الشارع أن يقول «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» !.
وفيه دليل على أنّ الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربّه في كلّ أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد في عبادته في أقصى غاية، إذ كان الصّدّيق مع موضعه في الدين؛ لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربّه منه. انتهى «شرح الأذكار» .
(ولا يغفر) : من الغفر؛ وهو الستر (الذّنوب) : جمع ذنب؛ وهو: الجرم مثل فلس وفلوس، يقال أذنب يذنب، والذّنب: اسم مصدر، والإذناب:
مصدر؛ لكنه لا يستعمل، والمعنى أنه سأل أن يجعل بينه وبين الذنب ساترا.
(إلّا أنت) فيه إقرار بالوحدانيّة له تعالى، واستجلاب المغفرة، وهذا كقوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [135/ آل عمران] .
وفي الآية الحثّ على الاستغفار، قيل: كلّ شيء أثنى الله على فاعله؛ فهو أمر به، وكلّ شيء ذمّ فاعله؛ فهو نهي عنه. انتهى «شرح الأذكار» .(4/417)
فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم» .
(فاغفر لي) قال بعضهم: هو أرجح في الاستغفار من قوله أستغفرك؛ لأنه إذا قال ذلك؛ ولم يكن متّصفا به كان كاذبا. وضعّف بأنّ السين فيه للطلب، فكأنه قال: أطلب مغفرتك، وليس المراد الإخبار، بل الإنشاء للطلب، فكأنه قال:
اغفر لي؛ لا سيما وقد ورد في الشرع صيغة «استغفر» أمرا وفعلا، فيتلقى ما جاء عن الشارع بالقبول. انتهى «شرح الأذكار» .
(مغفرة من عندك) معناه: هب لي المغفرة تفضّلا؛ وإن لم أكن أهلا له بعملي، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي أنت.
قال الطّيبيّ: ودلّ التنكير في قوله «مغفرة» على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرى كنهه، ووصفه بكونه «من عنده» سبحانه!! لأن الذي يكون من عنده لا يحيط به وصف، وتبعه الكرمانيّ.
وحاصله: أن طلب مغفرة خاصّة في غاية الجلالة والعظمة ترفعه إلى أعلى ما يليق به من مقامات القرب، ومن حضرة الحقّ، ولذا عقّبه بطلب الرحمة العامة الشاملة لكل ما يلائم النفس، حيث قال:
(وارحمني) ؛ أي: رحمة من عندك، وحذف!! اكتفاء بوصف قرينه به (إنّك أنت الغفور الرّحيم» ) بكسر همزة «إنّ» على الاستئناف البياني المشعر بتعليل ما قبله، ويجوز الفتح. و «أنت» لتأكيد الكاف، ويجوز أن يكون للفصل، والاسمان وصفان للمبالغة، وذكرا!! ختما للكلام على جهة المقابلة لما تقدّم، فالغفور لقوله «اغفر لي» والرحيم لقوله: «ارحمني» .
قال ابن حجر في «شرح المشكاة» : يؤخذ منه أنّ من أدب الدعاء أن يختم بما يناسبه من أسمائه تعالى؛ لما فيه من التفاؤل بحصول المطلوب، والتّوسّل بما يوجب تعجيل إجابته وحصول طلبته. انتهى.(4/418)
(ق، حم، 4؛ عن أبي بكر الصّدّيق) .
16- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه» ...
وفي «الحرز» : هذا الدّعاء من الجوامع، لأنّ فيه الاعتراف بغاية التّقصير، وطلب غاية الإنعام. فالمغفرة: ستر الذّنوب ومحوها، والرّحمة: إيصال الخيرات، ففي الأوّل طلب الزّحزحة عن النّار، وفي الثّاني طلب إدخال الجنّة، وهذا هو الفوز العظيم.
(ق، حم، 4) يعني أنّ الحديث متّفق عليه، أي: رواه البخاريّ، ومسلم، ورواه الإمام أحمد، والأربعة أصحاب «السنن» : أبو داود، والتّرمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه: كلهم؛
(عن أبي بكر الصّدّيق) عبد الله بن عثمان «أبي قحافة» بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي، القرشيّ التّيميّ؛
الصدّيق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره «1» ، ورفيقه في الغار، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، رضي الله تعالى عنه.
يقول الفقير: لكنّي لم أجد الحديث في «أبي داود» !!. والله أعلم.
16- ( «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي كلّه) توكيد للإحاطة والشمول، أتى به!! لدفع توهّم أنّ المراد به ذنب مخصوص، ولبيان أنّ العموم المفاد من إضافته مراد.
(دقّه) - بكسر الدال المهملة- أي: صغيره، وقدّم!! سلوكا للتّرقي في السؤال، الدالّ على التدريج في ترجّي الإجابة، أو إشارة إلى أنّ الكبائر إنّما تنشأ غالبا عن الصغائر، أو الإصرار عليها وعدم المبالاة بها؛ فهي وسيلة، والوسيلة من حقّها التقدّم.
(وجلّه) - بكسر الجيم- أي: كبيره، (وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه» )
__________
(1) في استعمالهم على عكس ما نستعمله اليوم. (عبد الجليل) .(4/419)
(م، د؛ عن أبي هريرة) .
17- «اللهمّ؛ إنّي أسألك العفّة والعافية في دنياي وديني، وأهلي ومالي.
(م، د) أي: أخرجه مسلم، وأبو داود في «باب ما يقال في الركوع والسجود» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه:
17- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك العفّة) - بالكسر-: العفاف عن كلّ حرام ومكروه، ولذّة وشهوة. (والعافية) ؛ أي: السلامة من الآفات الدينيّة، والنقائص الحسيّة والمعنويّة، والحادثات الدنيويّة، أي: عدم الابتلاء بها والصبر بقضائها.
ولجمع العافية ذلك، كان الدعاء بها أجمع الأدعية، وكأنّه السبب في قوله صلى الله عليه وسلم للعبّاس لما سأله أن يعلّمه دعاء: «يا عمّ؛ سل الله العافية في الدّنيا والآخرة» .
وفي «بهجة المجالس» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها «قلت:
يا رسول الله؛ ما العافية؟ قال: «العافية في الدّنيا: القوت، وصحّة الجسم، وستر العورة، والتّوفيق للطّاعة، وأمّا في الآخرة: فالمغفرة، والنّجاة من النّار، والفوز بالجنّة» .
قال الإمام النّوويّ في «شرح مسلم» : العافية من الألفاظ العامّة المتناولة لدفع جميع المكروهات؛ في البدن والباطن، في الدنيا والآخرة. انتهى.
ولذا استعملها في قوله: (في دنياي) ، إذ هو متعلّق بها وحدها، وما بعده معطوف عليه؛ فيكون كذلك. والعافية في الدنيا: سلامته من النّكبات المكدّرة، والمعيشة المنغّصة.
(و) في (ديني) بدوام التّرقّي في كمالات الدّين، والسّلامة من نقص يهوي بالعبد إلى دركاته. (وأهلي ومالي) بأن لا يرى فيهما ما يسيء.(4/420)
اللهمّ؛ استر عورتي وأمّن روعتي، واحفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي؛ وأعوذ بك أن أغتال من تحتي» ...
ولا يخفى أنّ الأنبياء دعوا الله بالعافية، ولا شكّ أنّ دعوتهم مجابة!! ومع هذا أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثمّ الأمثال.. فالأمثل،
فيتعيّن أن تقيّد الأسقام بسيّئها؛ كالبرص، والجنون، والجذام مما تنفر عنه طباع العوامّ. ولذا ورد التعوّذ من سيّىء الأسقام،
وكذا يقيّد في الأمور الدينيّة أو الدنيويّة بالشاغلة عن الأحوال الآخرويّة.
وفي «لطائف المنن» لابن عطاء الله السّكندري: أنّ بعض الناس دخل على الشّيخ أبي العبّاس المرسي وهو مريض؛ فقال له: عافاك الله، فسكت عنه، ثمّ قال ذلك ثانيا وثالثا، فقال له: يا هذا، وأنا سألت الله العافية قبلك، وما أنا فيه هو العافية، لأنّ العافية على ما يعلم الله. انتهى «شرح الأذكار» .
(اللهمّ؛ استر عورتي) : عيوبي وخللي وتقصيري.
قال الشيخ أبو الغيث بن جميل: عورة كلّ مخلوق شهوة نفسه، وخير الملابس عندنا: ما ستر العورة، ولا يسترها سوى الموت عن كلّ مباح ومحظور بحكم الضرورة، والله بكل شيء عليم خبير، وخير ملابس التقوى: ما يستر العورة، وشر ملابس التقوى: ما أشهر العورة. انتهى.
والمعنى: استر عورتي التي يسؤني كشفها، (وأمّن) - بتشديد الميم- (روعتي) - بفتح الراء- أي: فزعتي التي تخيفني؛ أي: ارفع عنّي كلّ خوف يقلقني ويزعجني.
(واحفظني) أي: ادفع عنّي البلاء من جهاتي الستّ التي تضمّنها قوله: (من بين يديّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك أن أغتال) - بضم الهمزة مبنيّا للمفعول- أي: أوخذ غيلة (من تحتي» ) أي: أدهى(4/421)
(البزّار؛ عن ابن عبّاس) .
من تحتي بالخسف أو غيره.
واستوعب الجهات الستّ بحذافيرها لأنّ ما يلحق الإنسان من نحو نكبة وفتنة إنّما يصله من أحدها، وبالغ في جهة السفل لرداءة آفتها.
(البزّار) في «مسنده» (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما. قال الحافظ الهيثمي: فيه يونس بن حبّان، وهو ضعيف. انتهى.
قال المناوي: وظاهر صنيع المصنّف «1» أنّه لا يوجد في أحد دواوين السنّة، وإلّا! لما عدل عنه، وهو تقصير أو قصور، فقد خرّجه أبو داود، وابن ماجه وكذا الحاكم وصححه من حديث ابن عمر قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي؛ وحين يصبح» . انتهى. فاقتصار المصنّف «1» على البزّار خلاف اللائق. انتهى كلام المناوي.
ومثله يقال في حقّ المصنّف «2» التابع ل «الجامع الصغير» . وقد ذكره النوويّ في «الأذكار» بمخالفة يسيرة في اللّفظ، وقال: رواه أبو داود، والنّسائي، وابن ماجه؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال شارحه ابن علّان: ورواه الحاكم أيضا في «المستدرك» ؛ وقال: صحيح الإسناد، وابن حبان في «صحيحه» .
وقال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه: حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من حديث عبادة بن مسلم، ولا عنه؛ إلّا بهذا السند!!، أي: جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم: أنّه كان جالسا عند ابن عمر؛ فقال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ... الخ.
قال: وأخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم؛ كلهم عن عبادة المذكور.
قال: ووجدت له شاهدا من حديث ابن عباس؛ أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» ، وفي سنده راو ضعيف. انتهى.
__________
(1) أي السيوطي في «الجامع الصغير» .
(2) أي النبهاني في «وسائل الوصول» .(4/422)
18- «اللهمّ؛ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم.. نعوذ بك من النّار» . (طب، ك؛ عن والد أبي المليح [رحمه الله] ) .
وقد ذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام» ؛ عن ابن عمر مع زيادة ومخالفة يسيرة؛ وقال: أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وصحّحه الحاكم. انتهى.
18- ( «اللهمّ؛ ربّ) أي: يا ربّ (جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد صلى الله عليه وسلم؛ نعوذ) ؛ أي: نعتصم (بك من النّار» ) ؛ أي: من عذابها.
وخصّ الأملاك الثلاثة!! لأنّها أشرف الملائكة، وأنّها الموكّلة بالحياة، وعليها مدار نظام هذا الوجود؛ فجبريل موكّل بالوحي؛ الذي هو حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات؛ الذي هو حياة الأرض والحيوان، وإسرافيل بالنّفخ في الصور؛ الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى الأشباح، فالتوسّل إليه سبحانه بربوبيّة هذه الأرواح الموكّلة بالحياة له تأثير كبير في حصول المطلوب.
وجبريل أفضل الملائكة مطلقا- على المعتمد-. وقيل: إسرافيل أفضل منه.
والمعتمد: أنّه بعده، ثمّ بعد إسرافيل ميكائيل، ثمّ ملك الموت.
(طب، ك) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم في (المناقب) ، وكذا ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» ؛
(عن والد أبي المليح) - بفتح الميم مكبرا- واسم أبي المليح:
عامر بن أسامة بن عمير بن عامر بن الأقيشر، الهذليّ، البصريّ.
وهو تابعيّ من أوساط التابعين، مات سنة: ثمان وتسعين، وقيل: ثمان ومائة، وقيل بعد ذلك، خرّج عنه أصحاب «السنن الأربعة» ، ووالده صحابيّ تفرّد عنه ولده.
وروى له أصحاب «السنن الأربعة» ؛ قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر؛ فسمعته يقول: «اللهمّ ... » إلى آخره ثلاثا، أي: فيتأكّد قول ذلك بعد(4/423)
19- «اللهمّ؛ إنّك لست بإله استحدثناه، ولا بربّ ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه فيك؛ تباركت وتعاليت» . (طب؛ عن صهيب [رضي الله تعالى عنه] ) .
20- «اللهمّ؛ إنّك تسمع كلامي، وترى مكاني، ...
سنّة الصبح وقبل الفرض، وإن كان يطلب قول ذلك في أيّ وقت كان، لكنّ ذاك آكد. قال الحفني: قال الحافظ الهيثميّ: وفيه من لم أعرفه. انتهى. ذكره المناوي.
19- ( «اللهمّ؛ إنّك لست بإله استحدثناه) أي: طلبنا حدوثه، أي: تجدّده بعد أن لم يكن، (ولا بربّ ابتدعناه) أي: اخترعناه على غير مثال سبق، فهو أخصّ مما قبله؛ لأن الحدوث: التجدد؛ سواء كان على مثال سابق أو لا.
(ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك) أي: نتركك، (ولا أعانك على خلقنا) : إيجادنا من العدم (أحد) غيرك (فنشركه فيك) أي: في عبادتك والالتجاء إليك، فإنّك المنفرد بالخلق والإيجاد والتقدير.
ولما نزّهه صلى الله عليه وسلم عن صفات النّقص تعالى ناسب أن يذكر صفات الكمال؛ فقال:
(تباركت) أي: تقدّست (وتعاليت» ) : تنزّهت. قال المناوي: وكان نبيّ الله داود يدعو به.
(طب) أي: أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن صهيب) - بالتصغير-.
قال الحافظ الهيثمي: وفيه عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو متروك. وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. انتهى.
20- ( «اللهمّ؛ إنّك تسمع) بغير جارحة (كلامي) أي: لا يعزب عنك مسموع؛ وإن خفي، (وترى مكاني) إن كنت في ملاء أو خلاء.(4/424)
وتعلم سرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقرّ المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير؛ ...
(وتعلم سرّي) : ما أخفي (وعلانيتي) : ما أظهر؛ (لا يخفى عليك شيء من أمري) . تأكيد لما قبله لدفع توهّم المجاز والتخصيص.
قال الحرّاني: الإخفاء: تغييب الشيء، وألايجعل عليه علم يهتدى إليه من جهته، والغرض من ذلك الإجابة والقبول.
(وأنا البائس) الذي اشتدّت ضرورته، (الفقير) أي: المحتاج إليك في سائر أحواله وجميع أموره؛ فهو أعمّ من البائس. (المستغيث) : المستعين المستنصر بك، فاكشف كربتي وأزل شدّتي: يقال: أغاثه الله إذا أعانه، واستغاث به فأغاثه، وأغاثهم الله كشف شدّتهم.
(المستجير) - بالجيم-: الطالب منك الأمان من عذابك، (الوجل) :
الخائف، (المشفق) : الكثير الخوف، فهو أخصّ من الوجل، (المقرّ المعترف بذنبه) عطف تفسير.
(أسألك مسألة المسكين) - بكسر الميم وفتحها لغة قليلة- أي: الخاضع الضعيف. سمّي مسكينا!! لسكونه إلى الناس.
(وأبتهل إليك ابتهال المذنب) أي: أتضرّع إليك تضرّع من أخجلته مقارفة الذنوب. (الذّليل) : المستهان به، (وأدعوك دعاء الخائف الضّرير) المضطر.
بيّن بهذا أنّ العبد؛ وإن علت منزلته فهو دائم الاضطرار، لأن الاضطرار تعطيه حقيقة العبد؛ إذ هو ممكن؛ وكل ممكن مضطر إلى ممدّ يمدّه.
وكما أنّ الحقّ هو الغنيّ أيضا، فالعبد مضطر إليه أبدا، ولا يزايله هذا(4/425)
من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذلّ لك جسمه، ورغم لك أنفه.
الاضطرار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى لو دخل الجنّة فهو محتاج إليه فيها، غير أنّه غمس اضطراره في المنّة التي أفرغت عليه ملابسها، وهذا هو حكم الحقائق: ألايختلف حكمها؛ لا في الغيب ولا في الشهادة، ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
ومن اتّسعت أنواره لم يتوقّف اضطراره.
وقد عيّب الله قوما اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار، فلمّا زالت زال اضطرارهم. ولمّا لم تقبل عقول العامة إلى ما تعطيه حقيقة وجودهم؛ سلّط الله عليهم الأسباب المثيرة للاضطرار؛ ليعرفوا قهر ربوبيّته، وعظمة إلهيّته.
(من خضعت) أصل الخضوع التطامن والميل، والمراد هنا: الذّلّة؛ أي:
من ذلّت (لك) أي: لأجلك، أي: لأجل الخوف منك. (رقبته) ؛ أي:
ذاته، وكذا الكلام في ذلك فيما يأتي للتعليل على تقدير الخوف منك.
(وفاضت) : سالت (لك) أي: لأجل الخوف منك (عبرته) - بفتح العين المهملة وسكون الموحدة-: البكاء؛ أي: سالت من شدّة بكائه لأجل الخوف منك دموعه. وفي «القاموس» : العبرة- بالفتح-: الدمعة قبل أن تفيض، وتردّد البكاء في الصدر.
(وذلّ) أي: انقاد (لك) أي: لأجلك، أي: لأجل الخوف منك (جسمه) أي: جميع أركانه الظاهرة والباطنة.
(ورغم لك أنفه) ؛ أي: التصق أنفه بالرغام؛ أي: التراب، والمراد لازم ذلك؛ وهو الخضوع، ورغم- بفتح الغين- قال في «المختار» : ورغم فلان- من باب قطع- رغما- بالحركات الثلاث في راء المصدر- إذا لم يقدر على الانتصاف.
انتهى.(4/426)
اللهمّ؛ لا تجعلني بدعائك شقيّا، وكن بي رؤوفا رحيما؛ يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» . (طب؛ عن ابن عبّاس) .
21- «اللهمّ؛ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين. إلى من تكلني؟ إلى عدوّ يتجهّمني؟!
( «اللهمّ؛ لا تجعلني بدعائك شقيّا) ؛ أي: خائبا متعبا نفسه بسبب عدم الإجابة، (وكن بي رؤوفا رحيما) ؛ أي: عطوفا شفوقا.
(يا خير المسؤولين) في معنى التعليل لما قبله، ومثله قوله: (ويا خير المعطين» ) ؛ أي: يا خير من طلب منه، ويا خير من أعطى.
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما قال: كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع عشيّة عرفة:
«اللهمّ» ... إلى آخر ما ذكر.
قال ابن الجوزي: حديث لا يصحّ. وقال الحافظ العراقيّ: سنده ضعيف، وبيّنه تلميذه الحافظ الهيثميّ؛ فقال: فيه يحيى بن صالح الآملي، قال العقيلي: له مناكير. وبقيّة رجاله رجال الصحيح. انتهى «مناوي» .
21- ( «اللهمّ؛ إليك أشكو ضعف قوّتي) قدّم «إليك» !! ليفيد الاختصاص، أي: أشكو إليك؛ لا إلى غيرك، فإنّ الشكوى إلى الغير لا تجدي، والشكوى إليه تعالى لا تنافي الصبر.
(وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس) ؛ أي: احتقارهم إيّاي واستهانتهم بي، (يا أرحم الرّاحمين) ؛ يا موصوفا بكمال الإحسان؛
(إلى من تكلني) : تفوّض أمري؟! (إلى عدوّ) من كفّار قريش أو غيرهم (يتجهّمني) - بالتحتيّة والفوقيّة، المفتوحتين، فالجيم فالهاء المفتوحتين،(4/427)
أم إلى قريب ملّكته أمري؟!
إن لم تكن ساخطا عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الّذي أضاءت له السّماوات والأرض، وأشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة.. أن تحلّ عليّ غضبك، أو تنزل عليّ سخطك، ...
وتشديد الهاء- أي: يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.
(أم إلى قريب ملّكته أمري!!) أي: جعلته متسلّطا على إيذائي؛ ولا أستطيع دفعه. (إن لم تكن ساخطا عليّ) - في رواية: «إن لم يكن بك سخط عليّ» - (فلا أبالي) بما يصنع بي أعدائي وأقاربي من الإيذاء؛ طلبا لمرضاتك.
(غير أنّ عافيتك) : التي هي السلامة من البلايا والمحن والمصائب (أوسع لي) . فيه: أنّ الدّعاء بالعافية مطلوب محبوب، وقد تقدّم!.
(أعوذ بنور وجهك) ؛ أي: ذاتك (الكريم) ؛ أي: الشّريف (الّذي أضاءت له السّماوات والأرض) !! جمع السموات وأفرد الأرض؛ لأنّها طبقات متفاصلة بالذات؛ مختلفة بالحقيقة.
(وأشرقت له الظّلمات) . قال المناوي: ببناء «أشرقت» للمفعول من أشرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصّت، وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبّقها عدلا؛ ذكره كلّه الزّمخشريّ.
قال في «الحكم العطائيّة» : الكون كلّه ظلمة، وإنّما أناره ظهور الحقّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده؛ فيه، أو قبله، أو عنده، أو بعده؛ فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار.
(وصلح) - بفتح اللّام وتضمّ- أي: استقام وانتظم (عليه أمر الدّنيا والآخرة، أن تحلّ عليّ غضبك) ؛ أي: تنزله بي أو توجبه عليّ، (أو تنزل عليّ سخطك) ؛ أي: غضبك، فهو من عطف المرادف.(4/428)
ولك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك» . (طب؛ عن عبد الله بن جعفر) .
(ولك العتبى) - بضم المهملة آخره ألف مقصورة- أي: أسترضيك (حتّى ترضى) ، يقال: استعتبته فأعتبني، أي: استرضيته فأرضاني.
(ولا حول ولا قوّة إلّا بك» ) ؛ أي: لا تحوّل عن فعل المعاصي، ولا قوّة على فعل الطاعات إلّا بتوفيقك.
واستعاذ بهذا بعد الاستعاذة بذاته تعالى!! إشارة إلى أنّه لا يوجد في الكون حركة ولا سكون؛ في خير أو شر؛ إلّا بأمر الله ومشيئته. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] .
وهذا يسمّى «دعاء الطائف» ، وذلك لأنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لمّا مات عمّه أبو طالب اشتدّ أذى قومه له؛ فخرج إلى الطائف، رجاء أن يؤوه وينصروه، فاذوه أشدّ من قومه، ورماه سفهاؤهم بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد مولاه يقيه بنفسه، حتى انصرف راجعا إلى مكة محزونا؛ فدعا بهذا، فعند ذلك أرسل إليه ربّه ملك الجبال، فسأله أن يطبق على قومه الأخشبين، فقال: «بل أستأني؛ لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» .
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ؛ (عن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب، أبي جعفر القرشيّ الهاشميّ؛
الصحابيّ ابن الصحابيّ ابن الصحابيّة، والجواد بن الجواد.
أمّه أسماء بنت عميس الخثعميّة، وكان أبوه جعفر هاجر بأمّه إلى أرض الحبشة؛ فولدت عبد الله هناك، وهو أوّل مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة باتّفاق العلماء. وقدم مع أبيه من الحبشة مهاجرين إلى المدينة، وهو أخو محمد بن أبي بكر الصديق، وأخو يحيى بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، أمّهم أسماء بنت عميس، تزوّجها جعفر، ثم أبو بكر، ثم عليّ.(4/429)
22- «اللهمّ؛ إنّي أسألك من الخير كلّه عاجله وآجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم، [وأعوذ بك من الشّرّ كلّه عاجله وآجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم] .
اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيّك، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ به عبدك ونبيّك.
اللهمّ؛ إنّي أسألك الجنّة وما قرّب إليها من ...
وكان عبد الله بن جعفر كريما، جوادا، حليما، وكان يسمّى «بحر الجود» ، قيل: لم يكن في الإسلام أسخى منه. وأخبار أحواله في السخاء والجود والحلم مشهورة لا تحصى.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثا؛ اتّفق البخاريّ ومسلم منها على حديثين، روى عنه بنوه الثلاثة: إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية.
وروى عنه القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، والشّعبيّ وغيرهم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره عشر سنين، وكانت وفاة عبد الله بن جعفر بالمدينة سنة:
ثمانين من الهجرة؛ وهو ابن ثمانين سنة. هذا هو الصحيح وقول الجمهور رضي الله تعالى عنه؛ ذكره النوويّ رحمه الله. آمين.
22- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك من الخير كلّه) ؛ بالجر على أنّه تأكيد للخير، و «من» للبيان؛ أي: أسألك مسؤولا هو الخير كلّه (عاجله وآجله، ما علمت منه؛ وما لم أعلم) منه. [وأعوذ بك من الشّرّ كلّه عاجله وآجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم] .
(اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيّك، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ به عبدك ونبيّك) - يعني نفسه-.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك الجنّة وما قرّب) - بتشديد الراء- أي: قربني (إليها من(4/430)
قول أو عمل، وأعوذ بك من النّار وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كلّ قضاء قضيته لي خيرا» . (هـ؛ عن عائشة) .
23- «اللهمّ؛ إنّي أسألك باسمك الطّاهر الطّيّب، المبارك الأحبّ إليك، الّذي إذا دعيت به.. أجبت، وإذا سئلت به.. أعطيت، قول أو عمل) بيان للموصول أي: سواء كان بالجوارح؛ أو بالقلب ف «أو» للتنويع.
(وأعوذ بك من النّار؛ وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كلّ قضاء قضيته لي خيرا» ) بأن ترضّيني به وتصبّرني عليه. وهذا من جوامع الكلم وأحبّ الدعاء إلى الله، وأعجله إجابة، والقصد به طلب دوام شهود القلب: أنّ كلّ واقع فهو خير. وينشأ عن ذلك الرّضا، ومن جعل الرضا غنيمته في كلّ كائن من أوقاته- وافق النفس؛ أو خالفها- لم يزل غانما بما هو فيه راض بما أوقع الله له، وأقام من حكمته.
(هـ) ؛ أي: أخرجه ابن ماجه؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك يا عائشة؛ بالجوامع الكوامل ... قولي: اللهمّ» ... إلى آخره.
ورواه عنها أيضا البخاريّ في «الأدب» ، والإمام أحمد في «مسنده» ، وابن حبّان، والحاكم وصحّحه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
23- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك باسمك الطّاهر) المنزّه عن كلّ نقص، (الطيّب) النفيس، (المبارك) الزائد خيره، العميم فضله، (الأحبّ إليك) من سائر الأسماء لقربه من الإجابة. وإن كانت أسماؤه تعالى كلّها طاهرة طيّبة محبوبة.
وهذا الحديث ترجم له بعض المحدّثين ب «باب: اسم الله الأعظم» (الّذي إذا دعيت به أجبت) الداعي إلى ما سأله، (وإذا سئلت به أعطيت) السائل سؤله،(4/431)
وإذا استرحمت به.. رحمت، وإذا استفرجت به.. فرّجت» .
(هـ؛ عن عائشة) .
24- «اللهمّ؛ لك الحمد كالّذي نقول وخيرا ممّا نقول، اللهمّ؛ لك صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، وإليك مابي، ولك ربّ تراثي.
(وإذا استرحمت به) ؛ أي: طلب أحد منك أن ترحمه وأقسم عليك به (رحمت) ؛ أي: رحمته، (وإذا استفرجت به) ؛ أي: طلب منك الفرج (فرّجت) عمّن استفرج به، ولم تردّه خائبا. وهذا خرج جوابا لسائل سأله أن يعلّمه دعاء جامعا يدعو به.
(هـ) ؛ أي: أخرجه ابن ماجه؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها، وبوّب عليه (باب اسم الله الأعظم) .
24- ( «اللهمّ؛ لك الحمد كالّذي نقول) - بالنّون- أي: كالذي نحمدك به من المحامد، (وخيرا ممّا نقول) - بالنّون- أي: ممّا حمدت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. وذلك لأنّه تعالى متّصف بصفات كمال لا يحيط بها ما نحمده به.
(اللهمّ لك) ؛ لا لغيرك (صلاتي ونسكي) - بضمتين-: عبادتي، فهو عطف عام، أو المراد ذبائحي في الحج والعمرة، فهو عطف مغاير.
(ومحياي) ؛ أي: حياتي، أي: لك لا لغيرك الأعمال الواقعة في حياتي.
(ومماتي) : موتي، أو المراد: لك، أي: منك إحيائي وإماتتي، أي:
بقدرتك، أي: هما طوع إرادتك وقدرتك. والجمهور على فتح ياء «محياي» ؛ وسكون ياء «مماتي» ، ويجوز الفتح والسكون فيهما.
(وإليك مابي) ؛ أي: منقلبي ومرجعي، (ولك ربّ تراثي) بمثنّاة ومثلاثة،(4/432)
اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصّدر، وشتات الأمر.
اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما تجيء به الرّياح، وأعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّيح» . (ت، هب؛ عن عليّ) .
أي: إرثي: وهو ما يخلفه الإنسان لورثته، أي: إرثي ومالي كلّه لك، إذ ليس لأحد معك ملك.
وفي شروح «الجامع الصغير» : أي: مورثي لك لا لغيرك، لأنّه صلى الله عليه وسلم كبقيّة الأنبياء لا يورث، فهو صدقة لله تعالى. وفي الخبر: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» . وقد تقدّم الكلام عليه.
(اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر) . استعاذ منه!! لأنّه أوّل منزل من منازل الآخرة، فسأل الله تعالى ألايتلقّاه في أوّل قدم يضعه في الآخرة في قبره عذاب ربّه.
(ووسوسة الصّدر) ؛ أي: حديث النفس بما لا ينبغي، وأضافها للصدر!! لأن الوسوسة في القلوب التي في الصدور. (وشتات) - بفتح الشين المعجمة- (الأمر) ، أي: تفرقة الخواطر في أمر الدّين؛ بالاشتغال بأمور الدّنيا، لأنّ ذلك يتعب القلب.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما تجيء به الرّياح، وأعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّيح» ) سأل الله خير المجموعة!! لأنّها للرّحمة، وتعوّذ به من شرّ المفردة!! لأنّها للعذاب، على ما جاء به الأسلوب في كلام علّام الغيوب؛ وهذا أغلبيّ، والمستعاذ منه؟! قيل: العذاب. وقيل: إنّ ذلك كناية عن سوء القضاء والقدر.
(ت، هب) ؛ أي: أخرجه التّرمذي، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛
(عن عليّ) أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال: كان أكثر ما دعا به(4/433)
25- «اللهمّ.. إنّي أسألك الثّبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك لسانا صادقا، وقلبا سليما، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، ...
رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيّة عرفة في الموقف: «اللهمّ..» إلى آخره. قال الترمذي:
غريب، وليس إسناده بالقويّ. وأخرجه ابن خزيمة؛ وقال: خرّجته؛ وإن لم يكن ثابتا من جهة النقل!! لأنّه من الأمر المباح.
25- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك الثّبات في الأمر) ؛ أي: الدوام على الدين والاستقامة، بدليل خبر: أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يقول «ثبّت قلبي على دينك» .
أراد الثبات عند الاحتضار؛ أو السؤال، بدليل خبر: أنّه كان يقول إذا دفن الميّت قال: «سلوا له التّثبيت، فإنّه الآن يسأل» . ولا مانع من إرادة الكلّ، ولهذا قال الوليّ: الثبات: التمكّن في الموضع الذي شأنه الاستزلال.
(وأسألك عزيمة الرّشد) ؛ أي: حسن التصرف في أمر الدين والإقامة عليه.
(وأسألك شكر نعمتك) ؛ أي: التّوفيق لشكر إنعامك، (وحسن عبادتك) :
إيقاعها على الوجه الحسن المرضيّ شرعا، وذلك باستيفاء شروطها وأركانها ومستحبّاتها.
(وأسألك لسانا صادقا) ؛ أي: محفوظا من الكذب؛ لأنّ تعوّد اللسان للكذب سبب في الهلاك. (وقلبا سليما) ؛ أي: خاليا من الحقد والحسد والكبر، ومن العقائد الفاسدة، والميل إلى اللّذّات والشّهوات العاجلة، ويتبع ذلك الأعمال الصالحة؛ إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح، كما أنّ صحة البدن عبارة عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاح والتركيب، ومرضه عبارة عن زوال أحدها.
(وأعوذ بك من شرّ ما تعلم) ؛ أي: ما تعلمه أنت؛ ولا أعلمه أنا.(4/434)
وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك ممّا تعلم، إنّك أنت علّام الغيوب» . (ت، ن؛ عن شدّاد ابن أوس) .
26- «اللهمّ؛ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت.
اللهمّ؛ إنّي أعوذ بعزّتك لا إله إلّا أنت أن ...
(وأسألك من خير ما تعلم) وهذا سؤال جامع للاستعاذة من كلّ شرّ، وطلب كلّ خير.
وختم هذا الدعاء- الذي هو من جوامع الكلم- بالاستغفار الذي عليه المعوّل والمدار فقال:
(وأستغفرك ممّا تعلم) ؛ أي: أطلب منك أن تغفر لي ما علمته منّي من تقصير؛ وإن لم أحط به علما. (إنّك أنت علّام الغيوب» ) ؛ أي: الأشياء الخفيّة، أي: عالم بواطن الأمور كما تعلم ظواهرها.
(ت، ن) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ، والنسائي؛ (عن شدّاد بن أوس) رضي الله تعالى عنه، ورواه عنه أيضا الحاكم وصحّحه، وقال الحافظ العراقيّ: قلت:
بل هو منقطع، وهو ضعيف.
26- ( «اللهمّ؛ لك أسلمت) ؛ أي: لك؛ لا لغيرك انقدت.
(وبك آمنت) ؛ أي: بك لا بغيرك صدّقت.
قال النوويّ: فيه إشارة إلى الفرق بين الإسلام والإيمان.
(وعليك توكّلت) ؛ أي: عليك لا على غيرك اعتمدت في تفويض أموري.
(وإليك أنبت) ؛ أي: رجعت وأقبلت بهمّتي.
(وبك خاصمت) ؛ أي: بك أحتجّ وأدفع من يريد مخاصمتي.
(اللهمّ؛ إنّي أعوذ بعزّتك) ؛ أي: بقوّة سلطانك، (لا إله إلّا أنت أن(4/435)
تضلّني، أنت الحيّ القيّوم الّذي لا يموت، والجنّ والإنس يموتون» . (م؛ عن ابن عبّاس) .
27- «اللهمّ؛ عافني في بدني.
اللهمّ؛ عافني في سمعي.
اللهمّ؛ عافني في بصري.
اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر.
تضلّني) ؛ أي: أعتصم بك من أن تهلكني بعدم التوفيق للرشاد، (أنت الحيّ القيّوم) ؛ أي: الدائم القائم بتدبير الخلق، (الّذي لا يموت) ؛ بلفظ الغائب للأكثر وفي بعض الروايات [تموت] بلفظ الخطاب؛ أي: الحيّ الحياة الحقيقيّة التي لا يجامعها الموت بحال. (والجنّ والإنس يموتون» ) عند انقضاء آجالهم.
(م) ؛ أي: أخرجه مسلم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما.
قال المناوي: وقضيّة كلام المصنّف: أنّ هذا من مفردات مسلم عن صاحبه!! وليس كذلك، فقد رواه البخاريّ في «التوحيد» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. انتهى.
27- ( «اللهمّ؛ عافني في بدني) من الأسقام والآلام.
(اللهمّ؛ عافني في سمعي) ؛ أي: القوّة المودعة في الجارحة.
(اللهمّ؛ عافني في بصري) . خصّهما بالذكر بعد ذكر البدن!! لأنّ العين هي التي تنظر آيات الله المنبثة في الآفاق، والسمع يعي الآيات المنزلة، فهما جامعان لدرك الآيات؛ العقلية والنقلية. وإليه سرّ قوله في حديث آخر: «اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا» .
(اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر) ذكره بعد الكفر!! «إشارة» إلى أنّه قد يترتّب عليه.(4/436)
اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلّا أنت» . (د، ك؛ عن أبي بكرة) .
28- «اللهمّ؛ اجعلني من الّذين إذا أحسنوا.. استبشروا، ...
(اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلّا أنت» ) فلا يستعاذ من جميع المخاوف والشدائد إلّا بك أنت. والقصد باستعاذته من الكفر- مع استحالته من المعصوم- أن يقتدى به في أصل الدعاء.
(د، ك) ؛ أي: أخرجه أبو داود، والحاكم؛ (عن أبي بكرة) : نفيع بن الحارث بن كلدة- بكاف ولام مفتوحتين- الثقفيّ البصريّ.
وأمّه سميّة أمة للحارث بن كلدة، وهي أيضا أمّ زياد بن أبيه.
وإنّما كنّي «أبا بكرة» ! لأنّه تدلّى من حصن الطائف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أسلم وعجز عن الخروج من الطائف إلّا هكذا.
ثمّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى البصرة، وكان من أعيان البصرة، ومن الفضلاء الصالحين، ولم يزل على كثرة العبادة حتى توفي.
وكان أولاده أشرافا بالبصرة في كثرة العلم والمال والولايات.
وتوفي بالبصرة سنة: إحدى وخمسين، أو: اثنتين وخمسين هجرية؛ رضي الله تعالى عنه.
ورواه عنه أيضا النسائي في «عمل اليوم والليلة» وقال- أعني النسائي-: فيه جعفر بن ميمون: ليس بقوي.
28- ( «اللهمّ؛ اجعلني من الّذين إذا أحسنوا استبشروا) ؛ أي: إذا أتوا بعمل حسن قرنوه بالإخلاص؛ فيترتب عليه الجزاء، فيستحقون عليه الجنّة؛ فيستبشرون بها، كما قال تعالى وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) [فصلت] . فهو كناية تلويحيّة؛ قاله المناوي.(4/437)
وإذا أساؤوا.. استغفروا» . (هـ، هب؛ عن عائشة) .
29- «اللهمّ؛ ارزقني حبّك، وحبّ من ينفعني حبّه عندك.
اللهمّ؛ ما رزقتني ممّا أحبّ ...
(وإذا أساؤا) ؛ أي: فعلوا سيّئة (استغفروا) ؛ أي: طلبوا من الله تعالى مغفرة ما فرط منهم. ومن ثمّ قال بعضهم: خير الذنوب ذنب أعقب توبة. وشرّ الطاعات طاعة أورثت عجبا.
معصية أورثت افتقارا ... خير من الطّاعة واستكبارا
والمصطفى صلى الله عليه وسلم معصوم عن الإساءة! وإنّما هذا تعليم للأمّة؛ أرشدهم إلى أن يأتي الواحد منهم بهذا الدعاء الذي هو عبارة عن ألايبتليه بالاستدراج ويرى عمله حسنا فيهلك. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [8/ فاطر] .
وقوله «من الذين» أبلغ من أن يقول: «اجعلني أستبشر إذا أحسنت، وأستغفر إذا أسأت» . كما تقول «فلان من العلماء» ، فيكون أبلغ من قولك «فلان عالم» ؛ لأنّك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعرفة مساهمته لهم في العلم؛ ذكره الزّمخشريّ.
(هـ، هب) ؛ أي: أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها. وفيه عليّ بن زيد بن جدعان!! مختلف فيه.
29- ( «اللهمّ؛ ارزقني حبّك) بأن لا أشتغل بشيء غير طاعتك ومراقبتك.
ولما كانت محبّة المقرّبين وسيلة إلى حبّ الله تعالى، وأن محبّتهم لا تنافي محبّة الله تعالى أشار إلى طلب التعلّق بذلك بقوله: (وحبّ من ينفعني حبّه عندك) ؛ كالملائكة، والأنبياء، والأصفياء؛ لأنّه لا سعادة للقلب ولا لذّة ولا نعيم؛ إلّا بأن يكون الله أحبّ إليه ممّا سواه.
(اللهمّ؛ ما رزقتني ممّا أحبّ) من المال والسمع والبصر، والقوى الجسمانيّة(4/438)
فاجعله قوّة لي فيما تحبّ، وما زويت عنّي ممّا أحبّ.. فاجعله فراغا لي فيما تحبّ» . (ت؛ عن عبد الله بن يزيد الخطميّ [رضي الله تعالى عنه] ) .
30- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي، ووسّع لي في داري، ...
والروحانيّة؛ (فاجعله قوّة لي) ؛ أي: وفّقني لأصرفه (فيما تحبّ) من الطاعات. (وما زويت) ؛ أي: صرفت ونحّيت (عنّي ممّا أحبّ) من المال ونحوه؛ (فاجعله فراغا لي فيما تحبّ) ؛ أي: اجعله سببا لتفرّغي لطاعتك، ولا تشغل به قلبي فيشغلني عن عبادتك.
وذلك لأنّ الفراغ خلاف الشغل، فإذا زوي عنه الدنيا كان ذلك الفراغ؛ عونا له على الاشتغال بطاعة الله تعالى. وقد حرّر الله أسرار نبيّنا؛ كالأنبياء من رقّ الأغيار، وصانهم بوجود عنايته من الركون إلى الآثار، لا يحبّون إلا إيّاه، ولا يشتغلون بسواه؛ قاله المناوي.
(ت) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «كتاب الدعاء» ؛ (عن عبد الله بن يزيد) بمثنّاتين تحتيّتين: من الزيادة (الخطمي) - بفتح المعجمة وسكون المهملة:
نسبة إلى بني خطمة: قبيلة معروفة، صحابيّ صغير، شهد الحديبية ابن سبع عشرة، وولي الكوفة لابن الزبير.
قال الترمذيّ: حديث حسن غريب، قال ابن القطّان: ولم يصحّحه!! لأنّ رواته ثقات إلّا سفيان بن وكيع؛ فمتّهم بالكذب، وترك الرازباني حديثه بعد ما كتبناه، وقيل لأبي زرعة: أكان يكذب؟ قال: نعم. انتهى «مناوي» .
30- ( «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي) ، هذا من باب التشريع والتعليم للأمّة.
(ووسّع لي في داري) ؛ أي: محلّ سكني في الدنيا، لأنّ ضيق مرافق الدار يضيّق الصدر، ويجلب الهمّ، ويشغل البال.
والمراد التوسعة بما يقتضيه الحال؛ لا توسعة كثيرة مؤدّية للترفّة والتبسّط في(4/439)
وبارك لي في رزقي» . (ت؛ عن أبي هريرة) .
31- «اللهمّ؛ إنّي أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي،
الدنيا، بل إنّما يسأل حصول قدر الكفاية؛ لا زيادة ولا نقص، وكذا يقال فيما بعده وهو قوله (وبارك لي في رزقي» ) ؛ أي: اجعله مباركا محفوفا بالخير، وفقني للرضا بالمقسوم منه، وعدم الالتفات لغيره. وهذا كان يقوله بعد الوضوء عقب دعاء الوضوء.
(ت) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: ورمز السيوطيّ في «الجامع» لصحّته، ورواه الإمام أحمد، والطبرانيّ عن رجل من الصحابة، وزاد: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهنّ، فقال:
«وهل تركت من شيء؟!» .
ورواه النسائيّ، وابن السّنّيّ في كتابيهما: «عمل اليوم والليلة» ؛ عن أبي موسى قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء؛ فتوضّأ، فسمعته يدعو يقول ...
فذكره.
وترجم عليه ابن السّنّيّ ب «باب: ما يقوله بين ظهراني وضوئه» ، وترجم عليه النسائيّ ب «باب: ما يقول بعد فراغ وضوئه» . قال في «الأذكار» : إسناده صحيح. انتهى.
31- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك) ؛ أي: أطلب منك (رحمة من عندك) ؛ أي:
ابتداء من غير سبب. وقال القاضي: نكّر الرحمة تعظيما لها؛ دلالة على أنّ المطلوب رحمة عظيمة لا يكتنه كنهها، ووصفها بقوله: «من عندك» مزيدا لذلك التعظيم، لأنّ ما يكون من عنده لا يحيط به وصفه، لقوله تعالى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) [الكهف] .
(تهدي) : ترشد (بها قلبي) إليك، وتقرّبه لديك.
وخصّه!! لأنّه محلّ العقل؛ فباستقامته تستقيم سائر الأعضاء.(4/440)
وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكّي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وتردّ بها ألفتي،
(وتجمع بها أمري) ؛ أي: تضمّه بحيث لا أحتاج إلى أحد غيرك.
(وتلمّ بها شعثي) ؛ أي: تجمع بها ما تفرّق من أمري، فهو معنى ما قبله، لكنه غير معيب، لكون الدعاء مقام خضوع وتذلّل؛ فينبغي فيه الإطناب.
(وتصلح بها غائبي) ؛ أي: باطني بكمال الإيمان والأخلاق الحسان.
(وترفع بها شاهدي) ؛ أي: ظاهري بالأعمال الصالحة. فالمراد تعميم الباطن وإصلاح الظاهر. وفيه حسن مقابلة بين الغائب والمشاهد.
(وتزكّي بها عملي) ؛ أي: تزيده: وتنمّيه، وتطهّره من أدناس الرياء والسمعة. (وتلهمني بها رشدي) ؛ أي: تهديناي بها إلى ما يرضيك ويقرّبني إليك زلفى.
والإلهام: أن يلقي الله في النفس أمرا يبعثه على فعل أو ترك، وهو نوع من الوحي، يختصّ الله به من يشاء من عباده. قال الراغب: رشد الله تعالى للعبد:
تسديده ونصرته يكون بما يخوّله من الفهم الثاقب، والسمع الواعي، والقلب المراعي، وتقييض المعلّم الناصح، والرفيق الموافق، وإمداده
1- من المال بما لا يقعد به عن مغزاة قلبه، ولا يشتغل عنه كثرته.
و2- من العشيرة والعزّ بما يصونه عن سفاهة السّفهاء وعن الغضّ منه.
و3- من جهة الأغنياء أن يخوّله من كبر الهمة وقوّة العزيمة؛ ما يحفظه من التسبّب بالأسباب الدّنيئة، والتأخّر عن بلوغ كلّ منزلة سنيّة.
(وتردّ بها ألفتي) - بضم الهمزة وكسرها-: مصدر بمعنى اسم المفعول، أي: مألوفي، أي: تردّ عليّ كل ما فارقني من مألوفاتي التي فيها رضاك، لا سيّما(4/441)
وتعصمني بها من كلّ سوء.
اللهمّ؛ أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدّنيا والآخرة.
اللهمّ؛ إنّي أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشّهداء، وعيش السّعداء، والنّصر على الأعداء.
الأعمال الصالحة؛ إذا حصل لي عنها فتور أسألك أن تردّها عليّ.
(وتعصمني) ؛ أي: تمنعني وتحفظني (بها من كلّ سوء) ؛ بأن تصرفني عنه وتصرفه عنّي. وطلب ذلك صلى الله عليه وسلم مع أنّه ثابت له بالنصّ!! إظهارا للعبودية الدالّة على افتقار العبد للطلب من مولاه.
(اللهمّ؛ أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر) ؛ أي: جحد لدينك، فإنّ القلب إذا تمكّن منه نور اليقين انزاحت عنه ظلمات الشكوك، واضمحلّت منه غيوم الريب. (ورحمة) ؛ أي: عظيمة جدّا بحيث (أنال بها شرف كرامتك) ؛ أي:
إكرامك لي (في الدّنيا) ؛ بأن أقوم بحقوقك وحقوق العباد. (والآخرة) ؛ بأن أنال النعيم الدائم. والمراد علوّ القدر في الدارين، ورفع الدرجات فيهما.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك الفوز) باللّطف (في القضاء، ونزل) - بضم النون والزاي- (الشّهداء) ؛ أي: منزلتهم في الجنة، أو درجتهم في القرب منك؛ لأنّه محل المنعم عليهم. وهو وإن كان أعظمهم منزلة وأعلى منهم مرتبة؛ لكنه ذكر للتشريع لأمّته.
(وعيش) ؛ أي: حياة (السّعداء) في الآخرة، (والنّصر على الأعداء) في الدين؛ بالظفر بهم وقمعهم ليزول ظلمهم عن العباد.
قال المناوي: النصر من الله معونة الأنبياء والأولياء وصالحي العباد بما يؤدّي إلى صلاحهم؛ عاجلا وآجلا، وذلك يكون؛ تارة 1- من خارج بمن يقيضه الله(4/442)
اللهمّ؛ إنّي أنزل بك حاجتي، فإن قصّر رأيي، وضعف عملي.. افتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور، ويا شافي الصّدور؛ كما تجير بين البحور.. أن تجيرني من عذاب السّعير، ومن دعوة الثّبور، ومن فتنة القبور.
فيعينه، وتارة 2- من داخل بأن يقوّي قلب الأنبياء؛ أو الأولياء، أو يلقي الرّعب في قلوب الأعداء، وعليه قوله تعالى إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) [غافر] . انتهى.
(اللهمّ؛ إنّي أنزل بك) ؛ أي: بساحة فضلك، أي: أسألك قضاء (حاجتي) ؛ أي: جميع ما أحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة، لأنّه مفرد مضاف فيعمّ.
(فإن قصّر) - بتشديد الصاد- (رأيي) ؛ أي: عجز عن إدراك ما هو الأنجح الأصلح، أو [قصر] بتخفيف الصّاد المضمومة. ضبط بالضّبطين، ولعلّهما روايتان. والمراد بالرأي: ما ثلج في الصدر مما يريده الإنسان.
(وضعف عملي) ، أي: عبادتي عن بلوغ مراتب الكمال (افتقرت) ؛ أي: احتجت في بلوغ ذلك (إلى رحمتك) ؛ أي: إلى شمولي برحمتك التي وسعت كلّ شيء.
(فأسألك) ؛ أي: فبسبب ضعفي وافتقاري أطلب منك (يا قاضي الأمور) ؛ أي: حاكمها ومحكمها. وفيه جواز إطلاق «القاضي» على الله تعالى.
(ويا شافي) ؛ أي: مداوي (الصّدور) يعني: القلوب التي في الصدور من أمراضها التي إن توالت عليها أهلكتها هلاك الأبد.
(كما تجير) ؛ أي: تفصل وتحجز (بين البحور) ، وتمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر مع الاتصال (أن تجيرني) : تمنعني (من عذاب السّعير) ؛ بأن تحجزه عنّي وتمنعه منّي.
(ومن دعوة الثّبور) ، أي: النداء بالهلاك، (ومن فتنة القبور) فتنة سؤال منكر ونكير؛ بأن ترزقني الثبات عند السؤال.(4/443)
اللهمّ؛ ما قصر عنه رأيي، ولم تبلغه نيّتي، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحدا من خلقك، أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك.. فإنّي أرغب إليك فيه، وأسألكه برحمتك يا ربّ العالمين.
اللهمّ؛ يا ذا الحبل الشّديد، والأمر الرّشيد.. أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنّة يوم الخلود، مع المقرّبين الشّهود، ...
(اللهمّ؛ ما قصر عنه رأيي) ؛ أي: اجتهادي في تدبيري، (ولم تبلغه نيّتي؛ ولم تبلغه مسألتي) إيّاك، (من) كلّ (خير وعدته أحدا من خلقك) أن يفعله مع أحد من مخلوقاتك؛ من إنس وجنّ وملك، (أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك) من غير سابقة وعد له بخصوصه. فلا يعدّ مع ما قبله تكرارا.
(فإنّي أرغب إليك فيه) ؛ أي: أطلبه منك بجدّ واجتهاد، وأجتهد في حصوله منك لي، (وأسألكه برحمتك) التي لا نهاية لسعتها؛ (يا ربّ العالمين) : الخلق كلهم. وذكره تتميما لكمال الاستعطاف والابتهال.
(اللهمّ؛ يا ذا الحبل) - بموحدة- (الشّديد) ، والمراد القرآن أو الدّين.
ووصفه بالشدّة!! لأنها من صفات الحبال. والشدّة في الدين: الثبات والاستقامة.
(والأمر الرّشيد) السديد الموافق لغاية الصواب.
(أسألك الأمن) من الفزع والأهوال (يوم الوعيد) ، أي: يوم التهديد وهو يوم القيامة. (والجنّة) ؛ أي: وأسألك الفوز بها (يوم الخلود) ؛ أي يوم:
إدخال عبادك دار الخلود، أي: خلود أهل الجنة في الجنة، وخلود أهل النار في النار، وذلك بعد فصل القضاء وانقضاء الأمر.
(مع المقرّبين) إلى الحضرات القدسيّة (الشّهود) ؛ أي: الناظرين إلى(4/444)
والرّكّع السّجود، الموفين بالعهود، إنّك رحيم ودود، وإنّك تفعل ما تريد.
اللهمّ؛ اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالّين ولا مضلّين، سلما لأوليائك وعدوّا لأعدائك، نحبّ بحبّك من أحبّك، ونعادي بعداوتك من خالفك.
ربّهم، المشاهدين لكمال جماله، (والرّكّع السّجود) ، أي: المكثرين للصلاة ذات الركوع والسجود في الدنيا (الموفين) - بالتخفيف- (بالعهود) بما عاهدوا الله عليه، (إنّك رحيم) موصوف بكمال الإحسان بدقائق النعم، (ودود) شديد الحبّ لمن والاك.
(وإنّك تفعل ما تريد) فتعطي من تشاء سؤله؛ وإن عظم، لا مانع لما أعطيت.
(اللهمّ؛ اجعلنا هادين) : دالّين الخلق على ما يوصلهم إلى الحقّ، (مهتدين) : واصلين إلى إصابة الصواب؛ قولا وعملا.
ومعلوم أنّ الشخص لا يتّصف بكونه هاديا إلّا بعد اتّصافه بكونه مهتديا، ولم يوجد هنا ترتيب!! فحينئذ المعنى: اجعلنا هادين بسبب كوننا مهتدين.
(غير ضالّين) عن الحقّ، وهو لازم لما قبله. (ولا مضلّين) أحدا من الخلق، (سلما) - بكسر السين المهملة فسكون اللام- أي: صلحا (لأوليائك) الذين هم حزبك المفلحون، (وعدوّا) - لفظ رواية البيهقي: «حربا» بدل «عدوّا» - (لأعدائك) ؛ ممّن اتّخذ لك شريكا؛ أو ندّا، أو فعل معك ما لا يليق بكمالك.
(نحبّ بحبّك) ؛ أي: بسبب حبّنا لك (من أحبّك) حبّا خالصا، ف «من» مفعول «نحب» (ونعادي بعداوتك) - أي: بسبب عداوتك- (من خالفك) ؛(4/445)
اللهمّ؛ هذا الدّعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التّكلان.
اللهمّ.. اجعل لي نورا في قلبي، ونورا في قبري، ونورا بين يديّ، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي، ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي.
أي: خالف أمرك، وهو مفعول «نعادي» ، وهذا ناظر إلى أنّ من كمال الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله.
(اللهمّ؛ هذا الدّعاء) ، أي: ما أمكننا من الدعاء قد أتينا به.
(وعليك الإجابة) ؛ فضلا منك لا وجوبا، (وهذا الجهد) - بالضم-: الوسع والطاقة، (وعليك التّكلان) - بضم المثنّاة الفوقيّة- أي: الاعتماد.
(اللهمّ؛ اجعل لي نورا في قلبي) ؛ أي: نورا عظيما، فالتنوين للتعظيم.
وقدّم القلب!! لأنّه مقرّ التفكّر في آلاء الله ومصنوعاته، والنور: ما يتبيّن به الشيء.
(ونورا في قبري) أستضيء به في ظلمة اللّحد، (ونورا بين يديّ) ؛ أي:
يسعى أمامي، (ونورا من خلفي) ؛ أي: من ورائي، (ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي) يعني: اجعل النّور يحفّني من الجهات الستّ. (ونورا في سمعي، ونورا في بصري) ، لأنّ السمع محلّ السماع لآياتك، والبصر محلّ النظر إلى مصنوعاتك، فبزيادة ذلك تزداد المعارف.
(ونورا في شعري، ونورا في بشري) ؛ أي: ظاهر جلدي.
(ونورا في لحمي) الظاهر والباطن، (ونورا في دمي، ونورا في عظامي)(4/446)
اللهمّ؛ أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا.
يضيء على المذكورات كلّها، لأنّ إبليس يأتي الإنسان من هذه الأعضاء فيوسوس، فدعا بإثبات النور فيها ليدفع ظلمته.
وفي المناوي: معنى طلب النور للأعضاء: أن تتحلّى بأنوار المعرفة والطاعة، وتعرى عن ظلم الجهالة والمعاصي، وأن يكون جميع ما يتصدّى له سببا لمزيد علمه وظهور أمره، وأن يحيط به يوم القيامة؛ فيسعى خلال النّور، كما قال تعالى في حق المؤمنين نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [8/ التحريم] . انتهى.
وقال القرطبيّ: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كلّ عضو من أعضائه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظّلم، هو ومن تبعه، أو من شاء الله منهم. قال: والأولى أن يقال: هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [22/ الزمر] ، وقوله تعالى وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [122/ الأنعام] . ثم قال:
والتحقيق في معناه: أنّ النور مظهر لما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات.
وقال النوويّ: قال العلماء: طلب النور في أعضائه وجسمه وتصرّفاته وتقلّباته وحالاته، وجملته في جهاته الستّ حتى لا يزيغ شيء منها عنه. انتهى «عزيزي» .
(اللهمّ؛ أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا) - عطف عامّ على خاصّ-، أي: اجعل لي نورا شاملا للأنوار السابقة وغيرها. وهذا دعاء بدوام ذلك، لأنّه حاصل له، وهو تعليم لأمّته. وفي رواية: بدل «اجعل لي نورا» :
«اجعلني نورا» .
قال في «الحكم العطائيّة» : النور جند القلب، كما أنّ الظّلمة جند النفس، فإذا أراد الله أن ينصر عبدا أمدّه بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظلم والأغيار.(4/447)
سبحان الّذي تعطّف بالعزّ وقال به، سبحان الّذي لبس المجد وتكرّم به، سبحان الّذي لا ينبغي التّسبيح إلّا له، سبحان ذي الفضل والنّعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام» .
النّور جند القلب أمّا الظّلمه ... فهي جند النّفس ذات التّهمه
إذا أراد الله نصر عبده ... يوما أمدّ قلبه بجنده
وبتّ قطعا عنه جند النّفس ... وإن يرد خذلانه بالعكس
(سبحان الّذي تعطّف بالعزّ) ، أي: تردّى به، بمعنى أنّه اتّصف بأنّه يغلب كلّ شيء؛ ولا يغالبه شيء، لأنّ العزّة الغلبة على كليّة الظاهر والباطن.
(وقال به) ؛ أي: غلب به كلّ عزيز، وملك عليه أمره من القيل: وهو الملك الذي ينفذ قوله فيما يريد. انتهى؛ ذكره الزمخشريّ.
وفي «الروض الأنف» : قد صرّفوا من القيل فعلا؛ فقالوا: قال علينا فلان، أي: ملك، والقيال: الإمارة، ومنه قول النّبي صلى الله عليه وسلم في تسبيحه الذي رواه عنه الترمذيّ: «سبحان الّذي لبس العزّ وقال به» ؛ أي: ملك به وقهر. هكذا فسّره الهروي في «الغريبين» . انتهى بنصّه.
وبه يعرف أنّ تفسير صاحب «النهاية» ومن على قدمه: قال به: ب «أحبّه واختصّ به» غير جيّد؛ قاله المناوي.
(سبحان الّذي لبس المجد) ؛ أي: ارتدى بالعظمة والكبرياء.
(وتكرّم به) ؛ أي: تفضّل وأنعم به على عباده. (سبحان الّذي لا ينبغي التّسبيح إلّا له) ؛ أي: لا ينبغي التنزيه المطلق إلّا لجلاله المقدّس. (سبحان ذي الفضل والنّعم) - جمع نعمة- وهي: كلّ ملائم تحمد عاقبته. والمراد: الإنعام.
(سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام» ) ؛ أي: الذي(4/448)
(ت، طب، هق؛ عن ابن عبّاس) .
32- «اللهمّ؛ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا تنزع منّي صالح ما أعطيتني» ...
يجلّه الموحّدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم، والذي يقال له: ما أجلّك وأكرمك.
(ت، طب، هق) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «كتاب الصلاة» ، والطبرانيّ في «الكبير» ، والبيهقيّ في «سننه» في «كتاب الدعوات» ؛ كلّهم من حديث داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس؛ عن أبيه (عن) جدّه عبد الله (ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، لكن بزيادة ونقص: قال:
بعثني العبّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته ممسيا وهو في بيت خالتي ميمونة، فقام فصلّى من اللّيل، فلمّا صلّى الرّكعتين قبل الفجر قال: اللهمّ إنّي أسألك ... »
إلى آخره.
وداود هذا عمّ المنصور، ولي المدينة والكوفة للسّفّاح.
حدّث عنه الكبار؛ كالثوريّ، والأوزاعيّ، ووثّقه ابن حبّان وغيره، وقال ابن معين: أرجو أنّه لا يكذب، إنّما يحدث بحديث واحد، وكذا روى عثمان بن سعيد عنه.
وقد أورده ابن عديّ في «الكامل» ، وساق له بضعة عشر حديثا، ثمّ قال:
وعندي لا بأس بروايته عن أبيه عن جدّه؛ احتجّ به مسلم، وخرّج له الأربعة.
انتهى؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى.
وقال العزيزي: في أسانيدها مقال، لكنّها تعاضدت. انتهى.
32- ( «اللهمّ؛ لا تكلني) ، أي: لا تصرف أمري (إلى نفسي) ، أي:
لا تسلمني إليها وتتركني هملا (طرفة عين) ، أي: مقدار تحرّك جفن العين، وهو كناية عن قلّة الزمن. (ولا تنزع منّي صالح ما أعطيتني» ) من الإيمان والتوفيق، لأنّ ذلك إذا نزع خلفه ضدّه.(4/449)
(البزّار؛ عن ابن عمر) .
33- «اللهمّ؛ اجعلني شكورا، واجعلني صبورا، واجعلني في عيني صغيرا، وفي أعين النّاس كبيرا» . (البزّار؛ عن بريدة [رضي الله تعالى عنه] ) .
وقد علم صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك لا يكون، ولكنّه أراد أن يحرّك همم أمّته إلى الدعاء بذلك. قال الحليمي: وهذا تعليم منه لأمّته؛ أنّه ينبغي كونهم مشفقين من أن يسلبوا الإيمان أو التوفيق للعمل، فإنّ من سلب التوفيق لم يملك نفسه، ولم يأمن أن يضيّع الطاعات ويتّبع الشهوات، فينبغي لكلّ مؤمن أن يكون هذا الخوف من همّه. انتهى.
(البزّار) ؛ أي: أخرجه البزّار في «مسنده» ؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه. قال الحافظ الهيثميّ: فيه إبراهيم بن يزيد الحوذي، وهو متروك. ذكره المناوي. وقال العزيزيّ: هو ضعيف لضعف إبراهيم بن يزيد.
33- ( «اللهمّ؛ اجعلني شكورا) ؛ أي: كثير الشكر، بأن أصرف جميع ما أنعمت به عليّ إلى ما خلقتني لأجله، (واجعلني صبورا) : كثير الصبر، بحيث إذا ظلمت لا أنتقم، وكذا إذا ضيّقت عليّ في الرزق أو بمرض لا يكون عندي ضجر لعلمي بأنّ الكلّ منك.
(واجعلني) أرى نفسي (في عيني صغيرا) : حقيرا، بحيث أعتقد احتقار نفسي، وأرى غيري خيرا مني في الصلاح والعلم. (واجعلني في أعين النّاس كبيرا» ) : معظّما مهابا ليمتثل أمري، واستوهب ذلك لما ينشأ عنه من العدل والامتثال بشرط التواضع.
(البزّار) ؛ أي: أخرجه البزّار في «مسنده» ؛ (عن بريدة) - بضم الموحدة وفتح الراء- ابن الحصيب- بضمّ المهملة وفتح المهملة الثانية، ثم تحتّية ثم موحّدة آخره-. قال الهيثمي: فيه عقبة بن عبد الله الأصمّ، وهو ضعيف، لكن حسّن البزّار حديثه؛ قاله المناوي.(4/450)
34- «اللهمّ؛ احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوّا، ولا حاسدا.
اللهمّ؛ إنّي أسألك من كلّ خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كلّ شرّ خزائنه بيدك» . (ك؛ عن ابن مسعود) .
34- ( «اللهمّ؛ احفظني بالإسلام قائما) : حال كوني قائما، وكذا يقال فيما بعده (واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا) ، يعني في جميع الحالات. (ولا تشمت) - بالتخفيف- (بي عدوّا؛ ولا حاسدا) ؛ أي: لا تنزل بي بليّة يفرح بها عدوّي وحاسدي.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك من كلّ خير خزائنه) ؛ مبتدأ، وخبره قوله (بيدك، وأعوذ بك من كلّ شرّ خزائنه) جمع خزانة- بكسر الخاء؛ ككتابة-: مكان الخزن، أي: الموضع الذي يخزن فيه الشيء، ولا تفتح الخاء من «خزانة» . ومن اللطائف قولهم: لا تكسر القصعة ولا تفتح الخزانة.
(بيدك» ) . وفي رواية: «بيديك» في الموضعين، واليد: مجاز عن القدرة المتصرّفة، وتثنيتها باعتبار التصرّف في العالمين؛ عالم الشهادة المسمّى ب «عالم الملك» ، وعالم الغيب المسمّى ب «عالم الملكوت» .
(ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ؛ (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو؛ فيقول: اللهمّ ... » الخ.
وزاد البيهقيّ في «الدعوات» ؛ من طريق هاشم بن عبد الله بن الزبير: أنّ عمر بن الخطّاب أصابته مصيبة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فشكا إليه، وسأله أن يأمر له بوسق تمر، فقال: «إن شئت أمرت لك، وإن شئت علّمتك كلمات خيرا لك منه» !! فقال: علّمنيهنّ ومر لي بوسق تمر، فإنّي ذو حاجة إليه، قال:
«أفعل» ، وقال: «قل: اللهمّ احفظني ... » الخ.(4/451)
35- «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني، وعلّمتني ما ينفعني، وزدني علما.
الحمد لله على كلّ حال، ...
35- ( «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني) بالعمل بمقتضاه خالصا لوجهك.
(وعلّمني ما ينفعني) لأرتقي منه إلى عمل زائد على ذلك.
(وزدني علما) مضافا إلى ما علّمتنيه، وهذا إشارة إلى طلب المزيد في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مخدع الوصال، وبه ظهر أنّ العلم وسيلة للعمل، وهما متلازمان، ومن ثمّ قالوا: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلّا من العلم «1» .
(الحمد لله على كلّ حال) من أحوال السّرّاء والضّرّاء، وكم يترتّب على الضّرّاء من عواقب حميدة ومواهب كريمة، يستحقّ الحمد عليها. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [216/ البقرة] .
قال في «الحكم العطائية» : من ظنّ انفكاك لطفه عن قدره؛ فذاك لقصور نظره. قال في نظمها:
من ظنّ أنّ لطفه عن قدره ... ينفكّ فهو قاصر في نظره
وقال الغزاليّ: لا شدّة إلّا وفي جنبها نعم لله، فليلزم الحمد والشكر على تلك النعم المقترنة بها.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما ابتليت ببليّة إلّا كان لله عليّ فيها أربع نعم: 1- إذ لم تكن في ديني، و 2- إذ لم أحرم الرضا، و 3- إذ لم تكن أعظم، و 4- إذ رجوت الثواب عليها.
وقال إمام الحرمين: شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها؛ لأنّها نعم
__________
(1) بل جعل كلّ تكاثر غيره لهوا. (عبد الجليل) .(4/452)
وأعوذ بالله من حال أهل النّار» . (ت، هـ، [ك] ؛ عن أبي هريرة) .
36- «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . (ت؛ عن أنس) .
بالحقيقة، بدليل أنّها تعرّض العبد لمنافع عظيمة، ومثوبات جزيلة، وأغراض كريمة؛ تتلاشى في جنبها شدائد الدنيا.
نحمده على شمول النّعم ... حتّى لقد أبطنها في الألم
(وأعوذ بالله من حال أهل النّار» ) في النار وغيرها: وهذا يلزم منه الاستعاذة من دخولها؛ لأنّ من دخلها لا بدّ أن يتّصف بوصف من أوصاف أهلها من العذاب.
(ت، هـ، [ك] ) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «الدعوات» ، وابن ماجه في «السّنّة والدعاء» ، والحاكم في (الأدعية) ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه.
وقال الترمذي: غريب، وفي سنده موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن الزهري. وموسى المذكور: ضعّفه النسائيّ وغيره، ومحمد بن ثابت: لم يروه عنه غير موسى. وقال الذهبي: مجهول.
36- ( «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . ت) أخرجه الترمذيّ؛ (عن أنس) رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه كان إذا كربه أمر قال: يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» .
قال ابن القيّم: في تأثير هذا الدعاء في دفع الهمّ والغمّ مناسبة بديعة، فإنّ صفة الحياة متضمّنة لجميع صفات الكمال؛ مستلزمة لها، وصفة القيّوميّة متضمّنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا قيل: إنّ اسمه الأعظم هو: الحي القيوم.
والحياة التامّة تضادّ جميع الآلام والأسقام، ولهذا: لمّا كملت حياة أهل الجنّة(4/453)
37- «اللهمّ؛ افتح مسامع قلبي لذكرك، وارزقني طاعتك، وطاعة رسولك، وعملا بكتابك» . (طس؛ عن عليّ [رضي الله تعالى عنه] ) .
لم يلحقهم همّ ولا غمّ ولا حزن، ولا شيء من الآفات. فالتوسّل بصفة الحياة والقيوميّة له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال، فاستبان أنّ لاسم الحيّ القيّوم تأثيرا خاصّا في كشف الكرب وإجابة الربّ. انتهى.
37- ( «اللهمّ؛ افتح مسامع قلبي) ؛ أي: آذان قلبي. جمع مسمع؛ كمنبر: الأذن- كما في «الصحاح» - (لذكرك) ؛ أي: أزل عن قلبي الحجب المانعة من لذّة الذكر، فإنّه عقاب كبير، لأنّ كلّ قلب لم يدرك لذّة الذكر؛ فهو كالميت.
كان رجل في بني إسرائيل؛ أقبل على الله ثم أعرض عنه، فقال: يا رب؛ كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبيّ ذلك الزمان: قل لفلان: كم عاقبتك ولم تشعر!! ألم أسلبك حلاوة ذكري ولذّة مناجاتي؟!.
(وارزقني طاعتك) ؛ أي: كمال لزوم أوامرك، (وطاعة رسولك) النبيّ الأميّ، الذي أوجبت علينا طاعته، وألزمتنا متابعته. (وعملا بكتابك» ) :
القرآن، أي: العمل بما فيه من الأحكام، فإنّ من وفّق لفهم أسراره وصرف إليه عنايته اكتفى به عن غيره، ودلّه على كل خير، وحذّره من كلّ شرّ، وهو الكفيل بذلك على أتمّ الوجوه، وفيه أسباب الخير والشرّ مفصّلة مبيّنة، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [38/ الأنعام] .
(طس) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ من حديث الحارث الأعور؛ (عن عليّ) أمير المؤمنين. قال الحارث: دخلت على عليّ بعد العشاء، فقال: ما جاء بك السّاعة؟! قلت: إنّي أحبّك، قال: آلله؟ آلله؟ قلت: نعم؛ والله، فقال: ألا أعلّمك دعاء علّمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ قل: «اللهمّ افتح ... »
إلى آخر، قال الحافظ الهيثمي: الحارث ضعيف. انتهى.(4/454)
38- «اللهمّ؛ اجعلني أخشاك حتّى كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت؛ ولا تأخير ما عجّلت.
38- ( «اللهمّ؛ اجعلني أخشاك حتّى كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك) ؛ فإنّها سبب كلّ خير، وسعادة في الدارين. وقد أثنى الله في التنزيل على المتقين بقوله وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) [آل عمران] . ووعدهم بالحفظ والحراسة من الأعداء بقوله وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [120/ آل عمران] . وبالنصر والتأييد بقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [النحل] . وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) [التوبة] . ولا سعادة أعظم من هذه المعيّة.
(ولا تشقني بمعصيتك) ، فإنّ المعاصي بريد الكفر، لأنّه كلّما فعل الشخص معصية أسودّ جزء من قلبه، وانطفأ بعض نور إيمانه؛ فربّما غلب عليه وطفىء جميعه.
(وخر لي) ؛ أي: اختر لي (في قضائك) ؛ أي: مقضيّك، أي: اختر لي خير الأمرين من مقضيّك، فإنّك لا تفعل بي إلّا ما هو الأوفق والأصلح لي.
(وبارك لي في قدرك) ؛ بأن ترضّيني به (حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت؛ ولا تأخير ما عجّلت) ، لأنّ الخير كلّه في الرضا والتسليم.
قال العارف بالله سيدي أبو الحسن الشاذليّ رحمه الله تعالى:
تردّدت؛ هل ألزم القفار للطاعة والأذكار، أو أرجع إلى الديار لصحبة الأخيار؟!! فوصف لي شيخ برأس جبل، فوصلت لغاره ليلا؛ فبتّ ببابه، فسمعته يقول: اللهمّ؛ إنّ قوما سألوك أن تسخّر لهم خلقك ففعلت، فرضوا، وأنا أسألك اعوجاج الخلق عنّي، حتّى لا يكون لي ملجأ إلّا أنت.(4/455)
واجعل غناي في نفسي، وأمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي، ...
فقلت: يا نفس؛ انظري من أيّ بحر يغترف هذا الشيخ!! فأصبحت، فدخلت عليه، فأرهبت من هيبته، فقلت: كيف حالكم؟
فقال: إنّي أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم؛ كما تشكو من حرّ التدبير والاختيار!!
فقلت: أمّا شكواي من حرّهما؛ فذقته، وأما شكواك من بردهما؛ فلماذا؟!
قال: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى.
قلت: سمعتك اللّيلة تقول ... كذا؟! فتبسّم وقال: عوض ما تقول «سخّر لي خلقك» ، قل: «كن لي» ؛ تره إذا كان لك لا يفوتك شيء؛ فما هذه الجناية!؟! فحصل للشيخ أبي الحسن من هذا المجلس معارف وأنوار عظيمة.
(واجعل غناي في نفسي) ، لأنّ غنى النفس هو الغنى بالحقيقة، وهو المحمود النافع، بخلاف غنى المال؛ فإنّ النفس المنهمكة لا تغتني، بل كلّما حدث لها شيء من المال حدث لها طبع آخر، فإذا طلبت مائة دينار مثلا وحصّلتها توجّهت إلى جهات مصارف أخرى، كبنيان بيت وشراء أرقاء فتطلب ألف دينار، فإذا حصلتها، توجهت إلى مصارف أخرى وهكذا ... ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب.
(وأمتعني بسمعي وبصري) : الجارحتين المعروفتين، بأن تديم سلامتهما من الصمم والعمى، (واجعلهما الوارث منّي) ؛ أي: اجعلهما آخر ما يسلب منه الانتفاع من البدن.
وفي «الأذكار» للإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: معنى «اجعلهما الوارث مني» ؛ أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وقيل:
المراد بقاؤهما وقوّتهما عند الكبر وضعف الأعضاء وباقي الحواس، أي: اجعلهما(4/456)
وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري، وأقرّ بذلك عيني» .
(طس؛ عن أبي هريرة) .
39- «اللهمّ؛ اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك» . (ت؛ عن عليّ) .
وارثي قوّة باقي الأعضاء، والباقيين بعدها. وروي: «واجعله الوارث منّي» ، فردّ الهاء إلى الإمتاع؛ فوحّده. انتهى.
(وانصرني على من ظلمني) : تعدّى وبغى عليّ، (وأرني فيه ثأري، وأقرّ بذلك عيني» ) ؛ أي: فرحتي بالظفر عليه.
(طس) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بهذا الدّعاء. قال الحافظ الهيثمي:
وفيه إبراهيم بن خيثم بن عراك: وهو متروك. انتهى «مناوي» . وفي العزيزي:
أنّه حديث ضعيف.
39- ( «اللهمّ؛ اكفني) - بهمزة وصل وكسر الفاء-: من كفى كفاية، وكفاك الشيء يكفيك، (بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك» ) .
(ت) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ؛ (عن عليّ) أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: أنّ مكاتبا جاءه فقال: إنّي عجزت عن كتابتي فأعنّي!! قال: ألا أعلّمك كلمات علّمنيهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لو كان عليك مثل جبل دينا أدّاه عنك، قل:
اللهمّ ... » الخ.
ورواه الحاكم في «المستدرك» ؛ عن عليّ أيضا، وقال الترمذيّ: حديث حسن غريب. قال في «شرح الأذكار» : وفي رواية: «يقول بعد صلاة الجمعة سبعين مرّة: اللهمّ اكفني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك» . انتهى.(4/457)
40- «اللهمّ؛ اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سنّي وانقطاع عمري» . (ك؛ عن عائشة) .
41- «اللهمّ؛ إنّي أسألك إيمانا يباشر قلبي حتّى أعلم أنّه لا يصيا بني إلّا ما كتبت لي، وأرضني من المعيشة بما قسمت لي» .
40- ( «اللهمّ؛ اجعل أوسع رزقك) ؛ أي: أحد قسمي الرزق: وهو ما يحصل به غذاء الأبدان؛ دون ما يحصل به غذاء الأرواح، لأنّ الرزق نوعان:
1- ظاهر للأبدان كالقوت، وهو المراد هنا.
و2- باطن للقلوب والنفوس؛ كالمعارف.
ويرجّح الأوّل قوله (عليّ عند كبر سنّي وانقطاع عمري» ) . أي: إشرافه على الانقطاع والرحيل من هذه الدار، فإنّ الإنسان عند الشيخوخة قليل القوّة، ضعيف الكدّ؛ عاجز عن السعي، فإن أوسع الله عليه رزقه حين ذلك كان عونا له على العبادة.
(ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم؛ عن سعدويه؛ عن عيسى بن ميمون؛ عن القاسم بن محمد؛ (عن عائشة) رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر هذا الدّعاء: اللهمّ ... » . إلى آخره. قال الحاكم: حسن غريب. وردّه الذهبي؛ بأن عيسى متّهم بالوضع، ومن ثمّ حكم ابن الجوزي بوضعه. نعم؛ رواه الطبرانيّ بسند، قال فيه الحافظ الهيثميّ: إنّه حسن، وبه تزول التّهمة. انتهى.
ذكره المناوي.
41- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك إيمانا يباشر قلبي) ، أي: يلابسه ويخالطه، فإنّ الإيمان إذا تعلّق بظاهر القلب أحبّ الدنيا والآخرة، وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها؛ ذكره حجّة الإسلام.
(حتّى أعلم) : أجزم وأتيقن (أنّه لا يصيا بني إلّا ما كتبت لي) ، أي: قدّرته عليّ في العلم القديم الأزلي، (وأرضني من المعيشة بما قسمت لي» ) ، أي:(4/458)
(البزّار؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) .
42- «اللهمّ؛ إنّي أسألك عيشة نقيّة، وميتة سويّة، ومردّا غير مخزيّ ولا فاضح» . (طب، ك، البزّار، عن ابن عمر) .
وأعطني الرّضا بما قسمت لي من الرزق؛ فلا أسخطه ولا أستقلّه.
قال الشاذليّ: من أجلّ مواهب الله الرّضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكّل على الله عند الشدائد، والرجوع إلى الله عند النوائب، فمن خرجت له هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة، فقد صحّت ولايته لله ورسوله والمؤمنين.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) [المائدة] .
(البزّار) ؛ أي: أخرجه البزّار في «مسنده» ؛ (عن ابن عمر) بن الخطاب.
قال الحافظ الهيثميّ: وفيه أبو مهدي: سعيد بن سنان؛ وهو ضعيف الحديث.
42- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك عيشة) - بكسر العين المهملة- أي: حياة (نقيّة) ، أي: طاهرة مرضيّة، (وميتة) - بكسر الميم وسكون التحتيّة- أي: هيئة موت (سويّة) - بفتح فكسر فتشديد- أي: مستوية؛ أي: معتدلة؛ بأن لا ينالني مشقّة شديدة، (ومردّا) ؛ أي: مرجعا إلى الآخرة (غير مخزيّ) - بضم الميم وبالزاي وإثبات الياء المشدّدة- أي: غير مذلّ ولا موقع في بلاء، (ولا فاضح» ) ؛ أي: كاشف للمساوىء والعيوب.
(طب، ك، البزّار) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» ، والبزّار في «مسنده» - واللّفظ له-؛ من حديث خلّاد بن يزيد الجعفي؛ عن شريك؛ عن الأعمش؛ عن مجاهد؛ (عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو به.
قال الحاكم: على شرط مسلم، وتعقّبه الذهبيّ؛ فقال: خلّاد ثقة، لكن شريك ليس بحجّة. انتهى. قال الحافظ الهيثمي: إسناد الطبرانيّ جيّد. انتهى(4/459)
43- «اللهمّ؛ أصلح لي ديني الّذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي الّتي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي الّتي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كلّ شرّ» . (م؛ عن أبي هريرة) .
44- «اللهمّ؛ إنّي أسألك الهدى ...
«مناوي» . قال: وهذا الدعاء قطعة من دعائه يومي العيد، كما رواه الطبراني؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. انتهى.
43- ( «اللهمّ؛ أصلح لي ديني الّذي هو عصمة أمري) - مفرد مضاف فيعمّ-؛ أي: الذي هو حافظ لجميع أموري، فإنّ من فسد دينه فسدت جميع أموره، وخاب وخسر في الدنيا والآخرة.
(وأصلح لي دنياي الّتي فيها معاشي) ؛ أي: أصلحها بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه، وكونه حلالا معينا على الطاعة. (وأصلح لي آخرتي) ؛ بأن توفّقني للأعمال الصالحة التي تنفعني في الآخرة (الّتي فيها معادي) ؛ أي: ما أعود إليه يوم القيامة. وقد جمع في هذه الثلاث صلاح الدنيا والدين والمعاد، وهي أصول مكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها.
(واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير) ؛ أي: اجعل عمري مصروفا فيما تحبّ وترضى، وجنّبني عمّا تكره، (واجعل الموت راحة لي من كلّ شرّ» ) أي: اجعل موتي سبب خلاصي من مشقّة الدنيا والتخلّص من غمومها وهمومها. قال الطّيبيّ:
وهذا الدعاء من جوامع الكلم.
(م) ؛ أي: أخرجه مسلم في «الدعوات» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، ولم يخرّجه البخاريّ.
44- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك الهدى) ؛ أي: الهداية إلى الصراط المستقيم؛(4/460)
والتّقى، والعفاف والغنى» . (م، ت، هـ؛ عن ابن مسعود) .
45- «اللهمّ؛ اجعل حبّك أحبّ الأشياء إليّ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عنّي حاجات الدّنيا بالشّوق إلى لقائك،
صراط الذين أنعمت عليهم. (والتّقى) : الخوف من الله، والحذر من مخالفته.
قال الطّيبي: أطلق الهدى والتّقى!! ليتناول كلّ ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، وكلّما يجب أن يتّقى منه من شرك ومعصية وخلق ديني. انتهى. (والعفاف) : الصيانة عن مطامع الدنيا، (والغنى) ؛ أي:
غنى النفس والاستغناء عن الناس وعمّا في أيديهم.
(م، ت، هـ) ؛ أي: أخرجه مسلم، والترمذيّ، وابن ماجه.. كلّهم في «الدعوات» ؛ (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه، ولم يخرّجه البخاريّ.
45- ( «اللهمّ؛ اجعل حبّك) ؛ أي: حبّي إيّاك (أحبّ الأشياء إليّ) ، وذلك يستلزم الترقّي في مدارج معرفة الحق، ومطالعة كمال جماله، فكلّما ازدادت المعرفة تضاعفت الأحبّيّة.
(واجعل خشيتك) ؛ أي: خوفي منك المقترن بكمال التعظيم (أخوف الأشياء عندي) ؛ بأن تكشف لي من صفات الجلال ما يستلزم كمال الخوف منك؛ مع حصول الرجاء والطمع في رحمتك.
(واقطع عنّي حاجات الدّنيا) ؛ أي: امنعها وادفعها (بالشّوق إلى لقائك) ؛ أي: بسبب حصول الشوق إلى النظر إلى وجهك الكريم الذي هو أرفع درجات النعيم، وغاية الأماني لكل قلب سليم.
ومن منح الشوق انقطعت عنه حاجات الدنيا والآخرة، وأولادهم بالله أشدّهم له شوقا. وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم طويل الفكر، دائم الأحزان، فهل كان كذلك إلّا من(4/461)
وإذا أقررت أعين أهل الدّنيا من دنياهم.. فأقرر عيني من عبادتك» .
(حل؛ عن الهيثم بن مالك الطّائيّ [رحمه الله] ) .
شدّة شوقه إلى منزله!؟ وأقربهم قربا، وأعلمهم به أشدّهم حرقة في القلوب شوقا.
قال حجّة الإسلام: لو خلق فيك الشوق إلى لقائه، والشهوة إلى معرفة جلاله؛ لعلمت أنّها أصدق وأقوى من شهوة الأكل والشّرب، وكذلك كلّ شيء، بل وآثرت جنّة المعرفة ورياضتها على الجنّة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة، وهذه الشهوة خلقت للعارفين؛ ولم تخلق لك، كما خلق لك شهوة الجاه؛ ولم تخلق للصبيان؛ وإنما لهم شهوة اللعب! وأنت تعجب من عكوفهم عليه وخلوّهم عن لذّة العلم والرياسة!! والعارف يعجب منك ومن عكوفك على لذّة العلم والرياسة، فإنّ الدنيا بحذافيرها عنده لهو ولعب، فلمّا خلق للكمّل معرفة الشوق كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم، ويتفاوتون في ذلك، ولذلك سأل المصطفى صلى الله عليه وسلم المزيد من ذلك، ولا نسبة لتلك اللّذة إلى لذّة الشهوات الحسيّة!! ولذلك كان العارف إبراهيم بن أدهم يقول: لو علم الملوك ما نحن فيه من النعيم لقاتلونا عليه بالسيوف. انتهى «مناوي» .
(وإذا أقررت أعين أهل الدّنيا من دنياهم) ؛ أي: فرّحتهم بما آتيتهم منها، (فأقرر عيني من عبادتك» ) ؛ أي: فرّحني بها، وذلك لأنّ المستبشر إذا بكى من كثرة السرور يخرج من عينه ماء بارد، كما قال:
طفح السّرور عليّ حتّى أنّه ... من فرط ما قد سرّني أبكاني
والباكي جزعا يخرج من عينيه ماء سخن.
(حل) ؛ أي: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ (عن الهيثم بن مالك الطّائيّ) ؛ ذكره في «الإصابة» في القسم الرابع، وقال: هو تابعيّ من أهل الشام، أرسل حديثا فظنّه بعضهم صحابيا، وذكره البخاريّ، وابن أبي حاتم في التابعين. والله أعلم. انتهى ملخصا.(4/462)
46- «اللهمّ؛ إنّي أسألك الصّحّة، والعفّة، والأمانة، وحسن الخلق، والرّضا بالقدر» . (طب؛ عن ابن عمرو [رضي الله تعالى عنهما] ) .
47- «اللهمّ؛ إنّي أسألك التّوفيق لمحابّك ...
46- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك الصّحّة) ؛ أي: العافية من الأمراض والعاهات.
(والعفّة) عن المحرّمات والمكروهات وما يخلّ بكمال المروءة؛ قاله المناوي.
(والأمانة) ؛ أي: حفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده.
(وحسن الخلق) - بضم اللّام-؛ أي: مع الخلق، بالصبر على أذاهم، وكفّ الأذى عنهم، والتلطّف بهم، (والرّضا بالقدر» ) ؛ أي: بما قدّرته عليّ في الأزل.
وهذا تعليم لأمّته، وتمرين للنفس على الرضا بالقضاء، وذلك لأمرين:
الأول: أن يتفرّغ العبد للعبادة، لأنّه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهموما مشغول القلب أبدا؛ بأنه لم كان كذا!!، ولماذا لا يكون كذا!!، فإذا اشتغل القلب بشيء من هذه الهموم كيف يتفرّغ للعبادة؟! إذ ليس له إلّا قلب واحد؛ وقد امتلأ من الهموم، وما كان وما يكون، فأيّ محل فيه لذكر العبادة وفكر الآخرة؟! ولقد صدق شقيق في قوله «حسرة الأمور الماضية؛ وتدبير الآتية ذهبت ببركة الساعات» .
الثاني: خطر ما في السخط من مقت الله وغضبه؛ مع أنّه لا فائدة لذلك، إذ القضاء نافذ؛ ولا بدّ منه، رضي العبد؛ أم سخط. انتهى «مناوي» .
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، وأخرجه البزّار أيضا، كلاهما؛ (عن ابن عمرو) بن العاصي. قال الحافظ الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: وهو ضعيف الحديث، وبقيّة رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح.
قاله المناوي.
47- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك التّوفيق) الذي هو خلق قدرة الطاعة (لمحابّك)(4/463)
من الأعمال، وصدق التّوكّل عليك، وحسن الظّنّ بك» . (حل؛ عن الأوزاعيّ والحكيم؛ عن أبي هريرة) .
- بالتشديد- أي: ما تحبّه وترضاه (من الأعمال) الصالحة، ولأترقّى في الأفضل فالأفضل منها. (وصدق التّوكّل عليك، وحسن الظّنّ بك» ) ؛ أي: يقينا جازما يكون سببا لحسن الظنّ بك، لقوله: «أنا عند ظنّ عبدي بي» .
وانظر إلى هذه الثلاث المسؤولة كيف يشبه بعضها بعضا؟! فكأنّه نظام واحد!.
1- سأله التوفيق لمحابّه!! ومحابّه في الغيب لا تدرى، فربّما كان محابّه في شيء هو في الظاهر دون غيره؛ فإذا استقبل النفس به واحتاج إلى إيثاره على ما هو في الظاهر أعلى، تردّد في النفس سؤاله.
2- وسأله صدق التوكل!! والتوكّل: هو التفويض إليه؛ واتّخاذه وكيلا في سائر أموره، فسأله صدق ذلك، وصدقه: أنّه إذا استقبلك أمر هو عندك أدون فوفّقك لهذا الأدون، وهو مختاره: ألاتتردّد فيه وتمرّ به مسرعا.
3- ثم قال: أسألك حسن الظنّ بك، فإنّ النفس إذا دخلت في الأدون دخل سوء الظنّ من قبلها، تقول: لعلّي مخذول فيها!! فسأله حسن الظن حتى لا تأخذه الحيرة من ربّه فيخاف الخذلان.
(حل) ؛ أي: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن محمّد بن نصر الحارثي؛ من حديث حسين الجعفي؛ عن يحيى بن عمر؛ (عن الأوزاعيّ) :
عبد الرحمن بن عمرو، تابعيّ، ثقة جليل؛ فهو مرسل.
ثم قال أبو نعيم: لم يروه عن الأوزاعيّ- فيما أعلم- إلّا محمّد بن نصر الحارثي، ولا عنه إلّا يحيى، تفرّد به الحسين.
(الحكيم) ؛ أي: وأخرجه الحكيم التّرمذيّ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال- أعني الحكيم-: وهذا باب غامض يخفى على الصادقين، وإنّما ينكشف للصّدّيقين. انتهى. وفيه عمر بن عمرو: فيه كلام. انتهى. ذكره المناوي.(4/464)
48- «اللهمّ؛ إنّي أسألك صحّة في إيمان، وإيمانا في حسن خلق، ونجاحا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية، ومغفرة منك ورضوانا» . (طس، ك؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) .
49- «اللهمّ؛ الطف بي في تيسير كلّ عسير، فإنّ تيسير كلّ عسير عليك يسير، ...
48- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك صحّة في إيمان) «في» بمعنى «مع» ؛ على حدّ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [38/ الأعراف] ؛ أي: صحّة في بدني مع تمكّن التصديق من قلبي.
(وإيمانا في حسن خلق) - بالضم-؛ أي: وأسألك إيمانا يصحبه حسن خلق، ف «في» بمعنى «مع» .
(ونجاحا) ؛ أي: حصولا للمطلوب (يتبعه فلاح) ؛ أي: فوز ببغية الدنيا والآخرة، (ورحمة) ؛ أي: وأسألك رحمة (منك وعافية) ؛ أي: سلامة من البلايا والمصائب، (ومغفرة منك) ؛ أي: سترا للعيوب، (ورضوانا) - بكسر الراء وضمّها-: اسم مبالغة في معنى الرضا، أي: وأسألك رضوانا منك لأفوز بخير الدارين.
(طس، ك) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» ، والحاكم في «المستدرك» كلاهما؛ (عن أبي هريرة) قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الخير؛ فقال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يمنحك كلمات تسألهنّ الرّحمن؛ ترغب إليه فيهنّ، وتدعو بهنّ في اللّيل والنّهار، قل: اللهمّ ... » إلى آخره. قال الحافظ الهيثميّ: رجاله ثقات. انتهى.
49- ( «اللهمّ؛ الطف) : ارفق (بي في تيسير كلّ عسير) ؛ أي: تسهيل كلّ صعب شديد، (فإنّ تيسير كلّ عسير عليك يسير) ؛ أي: لا يعسر عليك شيء، لأنّك خالق الكلّ، ومقدّر الجميع.(4/465)
وأسألك اليسر والمعافاة في الدّنيا والآخرة» . (طس؛ عن أبي هريرة) .
50- «اللهمّ؛ اعف عنّي، فإنّك عفوّ كريم» . (طس؛ عن أبي سعيد) .
51- «اللهمّ؛ إنّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، في قبضتك، ناصيتي بيدك، ...
(وأسألك اليسر) ؛ أي: سهولة الأمور وحسن انقيادها، (والمعافاة في الدّنيا والآخرة) ؛ بأن تصرف أذى الناس عنّي، وتصرف أذاي عنهم.
(طس) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال: لمّا وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة شيّعه، وزوّده هذه الكلمات. قال الحافظ الهيثميّ: فيه من لم أعرفهم. انتهى.
وأورده في «الميزان» في ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن، وقال: إسناده مظلم.
50- ( «اللهمّ؛ اعف عنّي) ؛ أي: امح ذنوبي، (فإنّك عفوّ كريم» ) ؛ أي: فإنّك كثير الفضل والكرم، تحبّ الإفضال والإنعام.
(طس) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ؛ (عن أبي سعيد) الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: علّمني دعاء أصيب به خيرا. فقال: «ادن» ، فدنا حتّى كادت ركبته تمسّ ركبته؛ فقال:
«اللهمّ ... » إلى آخره. قال الحافظ الهيثميّ: فيه يحيى بن ميمون التمّار: وهو متروك؛ قاله المناوي. وفي العزيزيّ: هو حديث ضعيف.
51- ( «اللهمّ؛ إنّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك) ؛ أي: ابن جاريتك ومملوكتك، (في قبضتك، ناصيتي بيدك) . الناصية: مقدّم الرأس، وهي- هنا(4/466)
ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم نور صدري، وربيع قلبي، ...
كناية- عن كمال قدرته، وإشارة إلى أنّ إحاطته على وفق إرادته.
(ماض) : نافذ (فيّ) - بتشديد الياء-؛ أي: في حقّي (حكمك) ، إذ لا مانع لما قضيت. وقال القاري في «الحرز» : المعنى: سابق في شأني حكمك الأزليّ الذي لا يبدّل ولا يحوّل.
(عدل فيّ) - بتشديد الياء- (قضاؤك) ؛ أي: ما قضيت به عليّ، فهو عدل لا جور فيه؛ ولا ظلم.
(أسألك بكلّ اسم هو لك) ؛ أي: ثابت لك (سمّيت به نفسك) ، هو أعمّ من قوله (أو أنزلته في كتابك) ؛ أي: القرآن وسائر كتبك المنزلة.
(أو علّمته أحدا من خلقك) ؛ من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقرّبين، والأولياء والعارفين.
(أو استأثرت به) ؛ أي: اخترته واصطفيته (في علم الغيب) الذي لا يعلمه إلّا أنت، و (عندك) : عنديّة مكان. قال الشوكانيّ: وفيه دليل أنّ لله تعالى أسماء غير التسعة والتسعين الاسم.
(أن تجعل القرآن العظيم) - كذا عند بعض الرواة بزيادة: «العظيم» .
و «أن» ومدخولها: ثاني مفعول «أسأل» ، والمفعول الثاني ل «جعل» هو قوله:
(نور صدري) ؛ أي: تشرق في قلبي نوره فأميّز الحقّ من غيره. (وربيع قلبي) ؛ أي: متنزّهه، ومكان رعيه وانتفاعه بأنواره وأزهاره وأشجاره وثماره المشبّه بها أنواع العلوم والمعارف، وإضاءة الحكم والأحكام واللطائف.(4/467)
وجلاء حزني، وذهاب همّي» . (ابن السّنّيّ؛ ...
(وجلاء حزني) - بكسر الجيم والمدّ- أي: إزالة حزني وكشفه، من:
جلوت السيف جلاء- بالكسر-، أي: صقلته، ويقال: جلوت همّي عني؛ أي:
أذهبته. ووقع في بعض نسخ «الحصن» - بفتح الجيم-.
قال في «الحرز» : فهو جلاء القوم عن الموضع، ومنه وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [3/ الحشر] . والمعنى: اجعله سبب تفرقة حزني، وجمعيّة خاطري.
انتهى.
(وذهاب همّي» ) ؛ أي: الهمّ الذي لا ينفعني ويفرّقني لا يجمعني.
رواه (ابن السّنّيّ) - بضم السين المهملة وتشديد النون بعدها ياء النّسبة-:
وهو الإمام الجليل الحافظ: أبو بكر أحمد بن محمّد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط بن بديح- بصيغة التصغير-- البديحيّ- بالموحدة؛ فالدال المهملة فالمثنّاة التحتيّة فالحاء المهملة- منسوب إلى جدّه «بديح» القرشيّ، الهاشميّ «مولاهم» ، الدينوري، المعروف ب «ابن السّنّيّ» . وبديح جدّه: مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
يكنى «أبا بكر» ، أحد الحفّاظ المشهورين، الثقات المأمونين، ولي قضاء القضاة بالرّي، ثمّ انفصل وتركه، ونفذ حكمه إلى العراق والحجاز ومصر.
وفي شيوخه كثرة، منهم: أبو يعلى الموصلي البغوي، وأبو الحسين بن جوصا، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو عرفة الكراني، وجماعة.
روى عنه: القاضي أحمد بن عبيد الله بن شاذان، وأبو نصر أحمد بن الحسين بن الكسار، الدينوريان، وجماعة غيرهما.
توفي سنة- 364-: أربع وستين وثلثمائة، ومات عن بضع وثمانين سنة.
رحمه الله تعالى. آمين.(4/468)
عن أبي موسى الأشعريّ) .
(عن أبي موسى الأشعريّ) : عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابه همّ أو حزن؛ فليدع بهذه الكلمات ... » الخ.
وقال في آخره: فقال رجل من القوم: يا رسول الله؛ إنّ المغبون لمن غبن هؤلاء الكلمات!؟ فقال: «أجل؛ فقولوهنّ وعلّموهنّ، فإنّه من قالهنّ التماس ما فيهنّ أذهب الله تعالى حزنه، وأطال فرحه» .
قال في «مجمع الزوائد» : وأخرجه الطبرانيّ؛ عن أبي موسى أيضا، وفيه من لم أعرفه. انتهى. وأخرجه الإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم، وأبو يعلى، والبزّار، والطبرانيّ، وابن أبي شيبة: كلّهم؛ عن ابن مسعود، وصحّحه ابن حبّان، والحاكم. وقال الحافظ ابن حجر: حديث ابن مسعود أثبت سندا وأشهر رجالا، وهو حديث حسن، وقد صحّحه بعض الأئمة.
وقال الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» : ورجال أحمد؛ وأبي يعلى رجال الصحيح، غير أبي سلمة الجهني! وقد وثّقه ابن حبّان. انتهى. لكن قال الذهبيّ:
إنّ أبا سلمة الجهني ما روى عنه إلّا فضيل بن مرزوق، ولا يعرف اسمه ولا حاله!!. قال الحافظ ابن حجر: لكنّه لم ينفرد به، وذكره مع ذلك ابن حبّان في الثقات. انتهى.
وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب عبدا همّ ولا حزن؛ فقال: اللهمّ ... الخ إلّا أذهب الله حزنه وهمّه، وأبدل مكانه فرحا» .
قال في «المواهب» : وإنّما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة!! لاشتماله على الاعتراف بعبوديّة الداعي وعبوديّة آبائه وأمّهاته، وأنّ ناصيته بيده يصرّفها كيف يشاء!! وإثبات القدر، وأن أحكام الربّ تعالى نافذة في عبده؛ ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها، والله سبحانه وتعالى عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده.(4/469)
52- «اللهمّ؛ احرسني بعينك الّتي لا تنام، واكنفني بكنفك الّذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ؛ فلا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك بها شكري، وكم من بليّة ابتليتني قلّ لك بها صبري، فيا من قلّ عند نعمته شكري؛ فلم يحرمني، ...
ثم توسّله بأسماء الربّ تعالى الذي سمّى بها نفسه، ما علم العباد منها وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده؛ فلم يطلع عليه ملكا مقرّبا، ولا نبيّا مرسلا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل، وأحبّها إلى الله تعالى، وأقربها تحصيلا للمطلوب.
ثم سؤاله أن يجعل القرآن العظيم لقلبه ربيعا؛ كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذي هو مادّة الحياة وبه يتمّ معاش العباد، وأن يجعله شفاء همّه وغمّه، فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء؛ ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها، فإذا صدق العليل في استعما لهذا الدواء أعقبه شفاء تاما. انتهى.
قال الزرقاني: وصدقه باليقين التام، وصدق النيّة، وخلوص الطويّة، وأن لا يقصد به التجربة، لأنّ قاصد ذلك عنده شكّ. انتهى.
52- ( «اللهمّ؛ احرسني) - بضم الراء-: احفظني (بعينك الّتي لا تنام، واكنفني) ؛ أي: استرني (بكنفك) ، هذه رواية ابن أبي الدنيا، ورواية الدّيلمي «بركنك» (الّذي لا يرام) ؛ أي: لا يقدر على طلبه (وارحمني بقدرتك عليّ) ، لأنّ ذلك شأن الكرام، أي: الرحمة مع القدرة، (فلا أهلك وأنت رجائي) ؛ أي: مرجويّ في جميع أموري.
(فكم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك بها شكري) ؛ أي: قيامي بواجبها من الطاعات!! (وكم من بليّة ابتليتني قلّ لك بها صبري!!
فيا من قلّ عند نعمته شكري؛ فلم يحرمني) - بفتح أوّله وضمه وكسر الراء-؛(4/470)
ويا من قلّ عند بلائه صبري؛ فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا؛ فلم يفضحني.
يا ذا المعروف الّذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النّعمة الّتي لا تحصى عددا.. أسألك أن تصلّي على محمّد وعلى آل محمّد، وبك أدرأ في نحور الأعداء والجبّارين.
اللهمّ؛ أعنّي على ديني بالدّنيا، وعلى آخرتي بالتّقوى، واحفظني فيما غبت ...
أي: يمنعني من نعمه، من «حرم كضرب» ، و «أحرم كأكرم» . (ويا من قلّ عند بليّته صبري؛ فلم يخذلني) - بضم الذال-: يترك نصرتي.
(ويا من رآني على الخطايا؛ فلم يفضحني) - بفتح الياء والضاد-: يكشف مساوئي، فأفتضح، وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم، واستغراقه في شهود الجلال، وإلّا فمن يشكر ومن يصبر إذا لم يشكر ولم يصبر هو، وأيّ خطيئة له، فضلا عن خطايا، وهو أيضا من باب التعليم لأمّته.
(يا ذا المعروف الّذي لا ينقضي أبدا) ؛ بل هو دائم، (ويا ذا النّعمة الّتي لا تحصى عددا) ، وفي رواية: «النّعماء» ، والأولى أنسب، لأنّها التي يتعلق بها العدّ، وأمّا النّعماء! فصفة له تعالى بمعنى الإنعام، لا يتعلّق بها العدّ، لأنّ الصفة لا تعدّد فيها؛ ولا تكثر.
(أسألك؛ أن تصلّي على محمّد، وعلى آل محمّد. وبك أدرأ) - بفتح الهمزة وسكون الدال وبالراء-: أدفع (في نحور الأعداء والجبّارين) : العتاة المتكبّرين.
(اللهمّ؛ أعنّي على ديني بالدّنيا، وعلى آخرتي بالتّقوى، واحفظني فيما غبت(4/471)
عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته.
يا من لا تضرّه الذّنوب، ولا ينقصه العفو.. هب لي ما لا ينقصك، واغفر لي ما لا يضرّك، إنّك أنت الوهّاب.
أسألك فرجا قريبا، وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشّكر على العافية، ...
عنه) من الأفعال التي لا أستحضرها، أو من الأهل والمال، (ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته) : من الحضور: ضدّ الغيبة، وكذلك في «فهرس الكاملي» ، و «الشراباتي» ، و «ابن عابدين» ، وغيرهم من أرباب الفهارس، ومثله في رواية ابن أبي الدنيا.
وفي «المنح» : أمّا «المواهب» !! ففي روايته من طريق الدّيلمي: «فيما حظرته عليّ» - بالظاء المشالة-؛ من الحظر: وهو المنع، ومعناه- كما قال الزرقاني على «المواهب» -: «لا تكلني إلى نفسي فيما منعته عليّ، بل إلى توفيقك؛ لئلّا أقع فيما حظرته» .
(يا من لا تضرّه الذّنوب، ولا ينقصه العفو؛ هب لي ما لا ينقصك) وصوله إليّ وهو عفوك، (واغفر لي ما لا يضرّك) وهو الذنوب.
(إنّك أنت الوهّاب) : كثير النعم دائم العطا، صيغة مبالغة من الهبة؛ وهي العطيّة بلا سبب سابق ولا استحقاق، ولا مقابلة ولا جزاء.
(أسألك فرجا قريبا؛ وصبرا جميلا) لا جزع فيه، (ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية) ؛ أي: السلامة من الأسقام، (وأسألك الشّكر على العافية) ، أعادها مظهرة!! لأنّ مقام الدعاء يطلب فيه البسط، لأنّه مقام خطاب وخضوع.(4/472)
وأسألك الغنى عن النّاس، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» . (الدّيلميّ؛ عن جعفر الصّادق؛ عن أبيه؛ عن جدّه [عليهم السّلام] ) .
(وأسألك الغنى) - بكسر الغين المعجمة والقصر- (عن النّاس، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ) ختم بها الدعاء لما فيه من التوحيد الخفيّ؛ قاله الزرقاني.
(الدّيلميّ) ؛ أي: أخرجه أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي، الهمذاني، المتوفى سنة- 558-: ثمان وخمسين وخمسمائة، يتصل نسبه بالضّحّاك بن فيروز الديلمي الصحابي.
وقد أخرجه الديلمي في كتاب «مسند الفردوس» ؛ (عن جعفر الصادق) ، لصدقه في مقاله؛ من سادات أهل البيت.
(عن أبيه) محمد الباقر؛ (عن جدّه) عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب؛ مرسلا، لأنّ جدّه تابعيّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدّعاء: «اللهمّ احرسني ... الخ.
وذكره المصنّف في «رياض الجنة» ؛ وقال: أخرجه ابن عساكر؛ عن جعفر بن محمد؛ عن أبيه؛ عن جدّه: عليّ زين العابدين؛ عن أبيه الحسين؛ عن أبيه عليّ رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر دعا بهذا الدّعاء:
«اللهمّ؛ احرسني- إلى قوله- العظيم» . وكان يقول: إنّه دعاء الفرج.
وهو حزب عظيم، مشهور بالبركة، مجرّب لدفع الشدائد، مسلسل بقول كلّ راو: «كتبته وها هو في جيبي» . وقد بسطتّ الكلام عليه في كتابي: «سعادة الدارين في الصلاة على سيّد الكونين صلى الله عليه وسلم» . انتهى.
وقال المصنّف في «سعادة الدارين» : رأيت في بعض المجاميع ما نصّه:(4/473)
.........
أخبرنا الشيخ أبو العباس: أحمد بن محمد بن حسن اللواتي؛ قال: أخبرنا أبو الحسين: يحيى بن محمد عرف ب «ابن الصائغ» ؛ قال: أخبرنا أبو القاسم بن خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال؛ قال: أخبرنا أبو الحسن: محمّد بن عبد الرحمن «صاحبنا» بقراءتي عليه؛ قال: أخبرنا أبو القاسم بن صواب سماعا؛ قال: أخبرنا أبو مروان: عبد الملك بن زيادة الله الطبني؛ قال: حدثنا أبو القاسم بن بندار، قال: حدثني محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي، أبو الحسن، قال: حدّثنا أبو عياض: أحمد بن محمد بن يعقوب الهرويّ الشافعي؛ قال: أنبأنا أحمد بن منصور الحافظ؛ قال: أنبأنا أبو الحسن: علي بن الحسين بن أحمد القطّان البلخي «المحتسب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان صدوقا» ؛ قال: أنبأنا محمد بن هارون الهاشمي؛ قال: حدثنا محمد بن يحيى المازنيّ؛ قال: أنبأنا موسى بن سهل عن الربيع؛ قال: لمّا استولى على الخلافة أبو جعفر المنصور؛ قال لي: يا ربيع؛ ابعث إلى جعفر بن محمّد. قال: فقمت بين يديه؛ فقلت: أيّ بليّة يريد أن يفعل، وأو همته أنّي أفعل، ثم أتيته بعد ساعة؛ فقال: ألم أقل لك؛ ابعث إلى جعفر بن محمّد!؟ فو الله؛ لتأتينّي به، أو لأقتلنّك شرّ قتلة، قال: فذهبت إليه؛ فقلت: أبا عبد الله؛ أجب أمير المؤمنين!! فقام معي، فلمّا دنونا من الباب قام فحرّك شفتيه ثمّ دخل، فسلّم فلم يردّ عليه السلام، ووقف فلم يجلسه، ثم رفع رأسه؛ فقال: يا جعفر؛ أنت الذي ألّبت وكثّرت؛ وقد حدّثني أبي؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينصب للغادر لواء يوم القيامة يعرف به» !؟
قال جعفر: حدّثني أبي؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة من بطنان العرش: ألا فليقم من كان أجره على الله!! فلا يقوم من عباد الله إلّا المتفضّلون» .
فلم يزل يقول حتّى سكن ما به ولان له، فقال: اجلس أبا عبد الله؛ ارتفع(4/474)
.........
أبا عبد الله، ثم دعا بمدهن غالية، فجعل يغلّفه بيده والغالية تقطر من بين يدي أمير المؤمنين، ثم قال: انصرف أبا عبد الله؛ في حفظ الله. وقال لي: يا ربيع؛ اتبع أبا عبد الله وأعطه جائزته وأضعفها له. قال: فخرجت؛ فقلت: يا أبا عبد الله؛ تعلم محبّتي لك!! قال: أنت منّا، حدّثني أبي؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: مولى القوم منهم» . قلت: يا أبا عبد الله؛ شهدت ما لم تشهد، وسمعت ما لم تسمع، وقد دخلت ورأيتك تحرّك شفتيك عند دخولك إليه؟! قال: نعم؛ دعاء كنت أدعو به. قال: دعاء حفظته عند دخولك إليه؛ أم شيء تأثره عن آبائك الطاهرين؟ قال: لا، بل حدّثني أبي عن جدّه: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء، وكان يقول: «دعاء الفرج» . وهو هذا: «اللهمّ ... إلى قوله العظيم» .
قال الربيع: فكتبته من جعفر بن محمد؛ فها هو في جيبي. قال موسى بن سهل: فكتبته من الربيع؛ فها هو في جيبي. قال محمد بن يحيى: فكتبته من موسى؛ فها هو في جيبي. قال: محمد بن هارون، فكتبته من محمّد بن يحيى؛ فها هو في جيبي. قال أبو الحسن عليّ بن الحسين: فكتبته من محمد بن هارون؛ فها هو في جيبي. قال أحمد بن منصور: فكتبته من عليّ بن الحسين؛ فها هو في جيبي. قال أبو عياض أحمد بن محمد الهروي: فكتبته من أحمد بن منصور؛ فها هو في جيبي. قال: محمد بن عليّ بن صخر: فكتبته عن أبي عياض؛ وجعلت نسخته في جيبي. قال أبو القاسم ابن بندار: هو عندي بخطّ القاضي ابن صخر أبي الحسن. قال أبو مروان الطبني: فكتبته عن ابن بندار أبي القاسم؛ وهو عندي. قال أبو القاسم بن صواب: فكتبته عن أبي مروان عبد الملك الطبني؛ وهو عندي. قال أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن: كتبته عن أبي القاسم بن صواب؛ فها هو عندي. قال أبو القاسم ابن بشكوال: فكتبته عن أبي الحسن محمد بن عبد الرحمن؛ فها هو عندي. قال الشيخ أبو الحسين بن الصائغ: فكتبته عن أبي القاسم بن بشكوال؛ فها هو عندي. وأراناه.(4/475)
.........
قال شيخنا أبو العبّاس- أيّده الله-: كتبته عن أبي الحسين، وها هو عندي، وأراناه. وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلم.
وبخط اللّواتي المذكور قرأ جميع هذا الدعاء وسلسله؛ كما فيه عليّ بن إبراهيم بن سوار البوصيري، وقرأه ابن النّعمان المزالي على اللّواتي المذكور وسلسله، واتصّل سندنا بشيخنا شيخ الإسلام؛ بركة الأنام؛ محمّد البهائي «خادم السنّة بثغر دمياط» بإجازته من الشيخ إبراهيم الكوراني المدني؛ عن الشيخ أحمد العشاشي المدنيّ؛ عن الشمس محمّد الرّملي؛ عن شيخ الإسلام زكريّا الأنصاري؛ عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني عمّن لقي من أصحاب ابن النّعمان. والحمد لله على ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. انتهى.
ثمّ رأيته في ثبت العلامّة الشيخ محمد عابد بن أحمد علي الأنصاري الخزرجي السنديّ ثم المدنيّ؛ المسمّى: «حصر الشارد من أسانيد محمد عابد» بسند آخر يجتمع مع السند المتقدم في أبي الحسن محمد بن علي الأزدي.
قال الشيخ محمد عابد المذكور:
المسلسل بقول كل راو من الرواة «كتبته؛ فها هو في جيبي» :
أرويه عن السيد عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبيه؛ عن السيّد أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل، عن السيّد يحيى بن مقبول الأهدل، عن السيّد أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن السيّد يوسف بن محمّد البطاح الأهدل، عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل، عن الحافظ عبد الرحمن بن عليّ الديبع، عن الشمس محمّد بن عبد الرحمن السخاوي قال: أنبأنا الشيخان؛ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ البيضاوي، والكاتبة مريم بنت علي بن عبد الرحمن؛ قالت الثانية: أنبأنا المحبّ محمد بن أحمد الطبري- سماعا- وعبد الله بن سليمان المكي إذنا؛ إن لم يكن سماعا. وقال الأوّل: أنبأنا أبو السادة عبد الله بن أسعد(4/476)
.........
اليافعي قال: هو والمكيّ: أنبأنا الرضي أبو إسحاق الطبري؛ قال: أنبأنا المحبّ أحمد بن عبد الله الطبري؛ قال: أنبأنا التقيّ أبو الحسن: عليّ بن أبي بكر الطبري قال: أنبأنا التقيّ أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني الفقيه، قال: أنبأنا الحافظ أبو الحسن عليّ بن الفضل المقدسي.
قال السخاوي: قال شيخي الأول- وهو أعلى-: أنبأنا الإمام المجد أبو الطاهر الفيروز آبادي، وكتب إليّ أيضا عاليا: عبد الرحمن قالا: أنبأنا محمّد بن أبي القاسم الفارقي؛ قال: أنبأنا عليّ بن أحمد العراقي؛ قال: أنبأنا جعفر بن عليّ قال: أنبأنا الشريف أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الديباجي؛ قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن صدقة بن سليمان الإسكندري؛ قال: حدّثنا أبو الفتح نصر بن الحسين بن القاسم الشاشي، قدم علينا إسكندرية، قال؛ حدّثنا عليّ بن الحسين بن إبراهيم العاقولي؛ قال: حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر الأزدي ... إلى آخر السند المتقدّم!!. وقال كلّ من الرواة «كتبته من فلان؛ وها هو في جيبي» إلى أن قال محمّد عابد «صاحب الثبت» المذكور: فكتبته عن شيخنا السيّد عبد الرحمن بن سليمان؛ وأجازني به. قال:
وقد أخرج الديلمي هذا الحديث في «الفردوس» بلفظ «يا عليّ؛ إذا حزبك أمر؛ فقل: اللهمّ احرسني بعينك الّتي لا تنام ... الخ» .
وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «الفرج بعد الشدّة» أيضا. انتهى ما في «سعادة الدارين» .
قلت: والذي أخرجه ابن أبي الدنيا فيه بعض مخالفة لما هنا، ومن طريق ابن أبي الدنيا أورده السيوطيّ في «الأرج في الفرج» ، وفي الدعاء بعض مخالفة، وليس فيه إسناد الدعاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم!!.
وأورد القسطلّاني في «المواهب» رواية الديلمي- كما في المصنف-، وهو حديث جليل، حسن غريب، أخرجه ابن الطيلسان، وأبو عليّ بن أبي الأحوص،(4/477)
53- «اللهمّ؛ طهّر قلبي من النّفاق، وعملي من الرّياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور» .
وغيرهما من أرباب المسلسلات. قال ابن الطيلسان: قد جرّبت بركته في غير ما شيء من الشدائد النازلة، وجرّبه غير واحد ممّن كتبه عنّي؛ فوجدنا نفعه، والحمد لله.
وفي «ثبت الكاملي» الذي جمعه المنلا إلياس الكوراني: هو حديث، ودعاء، وتميمة، وقد وجد فيه ما يرغب في الاعتناء به، وفيه ما يدلّ على أنّه مشتمل على اسم الله الأعظم.
انتهى كلام المصنّف في «سعادة الدارين» . رحمه الله تعالى آمين.
53- ( «اللهمّ؛ طهّر قلبي من النّفاق) ؛ أي: من إظهار خلاف ما في الباطن، وهذا قاله تعليما لغيره كيف يدعو.
(وعملي من الرّياء) - بمثنّاة تحتيّة- أي: حبّ اطّلاع الناس على عملي.
(ولساني من الكذب) ؛ أي: ونحوه من الغيبة والنميمة.
(وعينيّ) - بالتثنية والإفراد- (من الخيانة) ؛ أي: النظر إلى ما لا يجوز.
(فإنّك تعلم خائنة الأعين) ؛ أي: الرمز بها، أو مسارقة النظر، أو هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعين الخائنة، (وما تخفي) القلوب الحالّة في (الصّدور» ) من الوسوسة وإضمار الخيانة.
وهذا قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم- مع أنّ ذاته الشريفة جبلت على الطهارة ابتداء، ونزعت من قلبه علقة الشيطان، وأعين على شيطانه فأسلم- تشريعا؛ من قبيل قوله وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) [المدثر] . وكانت ثيابه طاهرة على كلّ تأويل، لكن هذا مقتضى الحكمة في تكليف البشريّة، وهو عليه الصلاة والسلام المشرّع المربّي، فعمل على ما تقتضيه البشريّة؛ قاله المناوي رحمه الله تعالى.(4/478)
(الحكيم، خط؛ عن أمّ معبد الخزاعيّة [رضي الله تعالى عنها] ) .
54- «ربّ؛ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ...
(الحكيم) ؛ أي: أخرجه الحكيم الترمذيّ في «نوادر الأصول» .
(خط) ؛ أي: وأخرجه الخطيب: كلاهما؛
(عن أمّ معبد) بنت خالد (الخزاعيّة) الكعبيّة: عاتكة التي نزل عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة. قال العراقيّ: سنده ضعيف.
54- ( «ربّ؛ أعنّي) ؛ أي: «على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ؛ كما في حديث آخر. (ولا تعن عليّ) من يمنعني عن ذلك. ويحتمل أن يكون المراد:
أعنّي على أعدائك الذين يريدون قطعي عنك، ولا تعن أحدا منهم عليّ.
وعلى هذا التقرير فيكون قوله: (وانصرني ولا تنصر عليّ) تأكيدا لما قبله، أو من عطف الخاصّ على العامّ، لأنّ الأوّل في الأعداء المقاتلين وغيرهم، والثاني في المقاتلين، وعلى التقرير الأوّل؛ فقوله: «وانصرني» ، أي: على نفسي وشيطاني وسائر أعدائي، و «لا تنصر عليّ» أي: أحدا من خلقك؛ من عطف العام على الخاص.
(وامكر لي) هذا مما استعمل في حقه تعالى والمراد غايته، كما هو القاعدة في كلّ ما استحالت حقيقته على الله تعالى، إذ المكر: الخداع؛ وهو إبطال الحيلة للغير حتى ينفذ فيه ما يريده به من الشرّ، وهذا محال على الله عزّ وجلّ، إذ لا يفعل ذلك إلّا عاجز عن الأخذ مقاهرة، ولكن غايته إيقاع البلاء بالعدوّ من حيث لا يشعر، أو استدراجه بالطاعة حتى يظنّ أنه على شيء، ومن ثمّ قال بعض العارفين- في قوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) [الأعراف]-: نظهر لهم الكرامات حتى يظنو أنّهم من الأولياء، ثمّ نأخذهم على غرّة. فقوله: «امكر لي» ؛ أي: أوقع البلاء بالأعداء من حيث لا يشعرون.(4/479)
ولا تمكر عليّ، واهدني، ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ.
ربّ؛ اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، لك مطواعا، لك مخبتا، ...
(ولا تمكر عليّ) بالاستدراج بالطاعة وتوهّم أنّها مقبولة؛ وهي مردودة.
(واهدني) ؛ أي: دلّني على عيوب نفسي، وأوصلني إلى المقامات الكريمة، (ويسّر الهدى لي) ؛ أي: سهّل أسبابه لي، (وانصرني على من بغى عليّ) ؛ أي: ظلم وتعدّى وطغى. وهذا تأكيد لقوله: «أعنّي ... الخ» .
(ربّ؛ اجعلني لك) ؛ أي: وحدك، كما أفادة تقديم المعمول، وكذا في الباقي، فتقديم الصلات لذلك والاهتمام.
(شاكرا) بلساني وجناني وأركاني؛ بأن أصرف ذلك كلّه إلى ما خلقته لأجله؛ من دوام الذكر، وشهود الجلال، والقيام بوظائف الخدمة والعبوديّة.
(لك ذاكرا) ؛ أي: باللسان والجنان بذكر أسمائك، وجلائل نعمك ودقائقها، فهو كالتأكيد لما علم- ممّا تقرّر في الشكر أنّه يشمله- وكذا يقال فيما بعده. (لك راهبا) ؛ أي: منقطعا عن الخلق، متجرّدا عنهم، متوجّها إلى الحضور مع الحقّ. (لك مطواعا) - بكسر أوّله وسكون ثانيه المهمل- أي: كثير الطّوع: وهو الطاعة؛ ذكره الطّيبي.
(لك مخبتا) ، قيل: الأصل: إليك؛ كما في وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [23/ هود] وعدل منه إلى اللّام!! تأكيدا لمعنى الاختصاص المتبادر من التقديم.
والمخبت: قال ابن الجزري: الخاشع؛ من الإخبات: الخشوع والتواضع.
وقال ابن حجر الهيتميّ: مخبتا؛ أي: وجل القلب عند ذكرك، صابرا على ما أصابني، مقيما للصلاة على ما ينبغي، منفقا ممّا رزقتني.(4/480)
إليك أوّاها منيبا.
ربّ؛ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، واهد قلبي، ...
دلّ على ذلك قوله وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) [الحج] .
وأصل الإخبات: الطّمأنينة، ومنه وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [23/ هود] ، أي:
اطمأنّت نفوسهم إلى امتثال جميع ما برز منه، والمخبت: الخاشع المتواضع.
انتهى «شرح الأذكار» .
(إليك أوّاها) أتى ب «إلى» في هذا المقام!! لكونها أظهر تبادلا؛ أو معنى من اللّام. والأوّاه: مبالغة من: أوّه تأويها؛ إذا قال: أوّه، وهو صوت الحزين المتفجع.
(منيبا) ؛ أي: اجعلني راجعا إليك عن المعصية إلى الطاعة، وعن الغافلة إلى الحضرة.
(ربّ؛ تقبّل توبتي) ؛ أي: اجعلها قابلة للقبول، (واغسل حوبتي) - بفتح المهملة-، والحوب- بالضم والفتح-: الإثم، وغسلها كناية عن إزالتها بالكليّة؛ بحيث لا يبقى منها أثر.
(وأجب دعوتي) ؛ أي: جميع دعواتي؛ كما أفادته الإضافة وذكر!! لأنّه من فوائد القبول التوبة. وذكر ابن حجر في «شرح المشكاة» : أنّ دعوات التائب مستجابة بإعطائها نفسها، أو ما هو أفضل منها.
(وثبّت حجّتي) ؛ أي: على أعدائك في الدنيا، وعند إجابة الملكين في البرزخ، وبين يديك عند الحساب يوم القيامة.
(واهد قلبي) ؛ أي: أوصله إلى دوام مراقبة اطّلاعك عليه، ثمّ شهود(4/481)
وسدّد لساني، واسلل سخيمة صدري» . (ت، د، هـ؛ عن ابن عبّاس) .
55- «اللهمّ؛ أغنني بالعلم، ...
عظمتك، بحيث يكون فانيا عما سواك، راغبا في دوام إمدادك ورضاك.
(وسدّد لساني) ؛ أي: اجعله متحرّيا للسداد؛ فلا أنطق إلّا بالحق فأكون مصيبا، كما أنّ من سدّد ساعده عند رمية سهمه يكون مصيبا غالبا.
(واسلل سخيمة صدري» ) ؛ أي: أخرجها. من سلّ السيف؛: أخرج من غمده، والسّخيمة هنا- كما قال النوويّ-: الحقد، وجمعها السخائم؛ أي:
أخرج ما في صدري؛ من الحسد والكبر وغيرهما من الأخلاق الرديئة، من السّخمة: وهي السواد، ومنه سخائم القدر.
وإضافتها للصدر!! لأنّ مبدأها- أي: غالبا- القوّة الغضبيّة المنبعثة من القلب الذي هو في الصدر. وفي رواية ابن أبي شيبة: «قلبي» بدل «صدري» ؛ قاله ابن علّان.
(ت، د، هـ) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ، وأبو داود، وابن ماجه- كما في المصنّف-؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وكذا أخرجه عنه النسائي، والحاكم، وابن حبّان في «صحيحيهما» ؛ كما في «السلاح» . ورواه ابن أبي شيبة في «مصنّفه» ؛ كما في «الحصن» ؛ قاله ابن علان.
وكذا رواه الإمام أحمد في «مسنده» .
55- ( «اللهمّ؛ أغنني بالعلم) ؛ أي: علم طريق الآخرة، إذ ليس الغنى إلّا به، وهو القطب؛ وعليه المدار، لأنّ العلم والعبادة جوهران؛ لأجلها كان كلّ ما ترى وتسمع؛ من تصنيف المصنفين، وتعليم المعلّمين، ووعظ الواعظين،(4/482)
وزيّنّي بالحلم، وأكرمني بالتّقوى، وجمّلني بالعافية» . (ابن النّجّار؛ ...
ونظر الناظرين. بل لأجلهما أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل. بل لأجلها خلقت السموات والأرض وما فيهما من الخلق، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) [الطلاق] .
وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العلم؛ لا سيّما علم معرفة الله. والعلم أشرف الجوهرين؛ وأفضلها، فمن أوتي العلم فهو الغنيّ بالحقيقة؛ وإن كان فقيرا من المال، ومن حرم العلم- لا سيّما علم المعرفة والتوحيد- فهو الفقير بالحقيقة؛ وإن كان غنيّا بالمال، ولهذا قال:
من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشّقيّ
قاله المناوي في «كبيره» .
(وزيّنّي بالحلم) ؛ أي: اجعله زينة لي، فإنّه لا زينة كزينته.
(وأكرمني بالتّقوى) لأكون من أكرم الناس عليك؛ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [13/ الحجرات] . (وجمّلني بالعافية» ) ، فإنّه لا جمال كجمالها.
وقد قيل: العافية تاج على رؤوس الأصحّاء لا يعرفها إلّا المرضى، وخصّ سؤال الإكرام بالتقوى!؟ موافقة للآية الكريمة في قوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لأنّها أساس كلّ خير وعماد كلّ فلاح، وسبب لسعادة الدنيا والعقبى. ولقد صدق القائل:
من اتّقى الله فذاك الذي ... سيق إليه المتجر الرّابح
وقال الآخر:
ما يصنع العبد بغير التّقى ... والعزّ كلّ العزّ للمتّقي
وهب أنّ الإنسان تعب جميع عمره، وجاهد وكابد؛ أليس الشأن كلّه في القبول!؟ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) [المائدة] . فمرجع الأمر كلّه للتقوى.
(ابن النّجّار) ؛ أي: أخرجه ابن النّجّار في «تاريخه» .(4/483)
عن ابن عمر) .
56- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلّها.
وهو الإمام العلّامة الحافظ: محمّد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن، محبّ الدين بن النجار؛ البغداديّ، الحافظ، المؤرّخ، الأديب، أحد أفراد عصره.
ولد في بغداد في ذي القعدة الحرام، سنة- 578-: ثمان وسبعين وخمسمائة هجريّة.
وسمع من الحافظ ابن الجوزيّ الواعظ وغيره.
ورحل إلى الشام ومصر والحجاز وخراسان وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور، مع الكثير، وحصّل الأصول والمسانيد، واستمرت رحلته سبعا وعشرين سنة، واشتملت «مشيخته» على ثلاثة آلاف شيخ.
وكان إماما حجّة، ثقة حافظا، مقرئا، أديبا، عارفا بالتاريخ وعلوم الأدب، حسن الإلقاء والمحاضرات، وله التصانيف الممتعة؛ منها «تاريخ بغداد» : ذيّل به على «تاريخ بغداد» للحافظ أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغدادي، واستدرك عليه، وهو تاريخ حافل، دل على تبحّره في التاريخ، وسعة حفظه للتراجم والأخبار.
وكانت وفاته في بغداد سنة- 643- ثلاث وأربعين وستمائة هجرية، رحمه الله تعالى آمين.
(عن ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، ورواه عنه الإمام الرافعيّ أيضا.
56- ( «اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي) : جمع ذنب، والذنب: ماله تبعة دنيويّة؛ أو أخرويّة، مأخوذ من الذّنب. ولما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم معاتبا بترك ما هو الأولى تأكيدا لعصمته- أطلق عليه اسم الذنب. (وخطاياي) : جمع خطيئة، ويقال:
خطيّة، وهي مرادفة للذنب- كما في كتب اللغة- وإن كان أصل العطف يقتضي المغايرة. (كلّها) ؛ أي: صغيرها وكبيرها.(4/484)
اللهمّ؛ أنعشني، واجبرني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق؛ فإنّه لا يهدي لصالحها، ولا يصرف سيّئها إلّا أنت» .
(طب؛ عن أبي أمامة [رضي الله تعالى عنه] ) .
57- «اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا، ورزقا ...
(اللهمّ؛ أنعشني) - بهمزة قطع ويجوز وصلها-، أي: ارفعني وقوّ جأشي، (واجبرني) ؛ أي: أصلح شأني بحصول الغنى لي.
(واهدني لصالح الأعمال) .
أي: للأعمال الصالحة.
(والأخلاق) : جمع خلق- بالضم-: الطبع والسجيّة، وجمعه!! باعتبار مخالفته الناس ومجاملتهم، كما أشار إليه خبر: «وخالق النّاس بخلق حسن» .
(فإنّه لا يهدي لصالحها، ولا يصرف سيّئها) عنّي (إلّا أنت» ) ؛ لأنّك المقدّر للخير والشرّ، فلا يطلب جلب الخير إلّا منك، ولا دفع الشرّ إلّا منك وحدك.
وفيه حذف من الأوّل، فكأنّه قال: واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، واصرف عنّي سيّئها؛ فإنّه لا يهدي ... الخ.
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبراني في «الكبير» ؛ (عن أبي أمامة) الباهليّ رضي الله تعالى عنه قال: ما صلّيت وراء نبيّكم صلى الله عليه وسلم إلّا سمعته يقول ذلك!!.
قال الحافظ الهيثميّ: رجاله وثّقوا. وكذا رواه ابن السّنّيّ عن أبي أمامة الباهليّ.
قال في «شرح الأذكار» : وهو حديث غريب؛ كما قاله الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى، انتهى.
57- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا) ؛ أي: شرعيا، أعمل به، وقدم على ما بعده؟ لأنه طريق إلى معرفة الحلال والحرام وأسباب القبول. (ورزقا(4/485)
طيّبا، وعملا متقبّلا» . (حم، هـ؛ عن أمّ سلمة) .
58- «اللهمّ؛ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق.. أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرا لي.
اللهمّ؛ وأسألك خشيتك في الغيب والشّهادة، ...
طيّبا) ؛ أي: حلالا ملائما للقوّة، معينا على الطاعة والعبادة، (وعملا متقبّلا» ) بفتح الباء-؛ أي: مقبولا؛ بأن يكون مقرونا بالإخلاص.
(حم) ؛ أي: أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه؛ (عن أمّ سلمة) رضي الله تعالى عنها، «زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين» وقد تقدّمت ترجمتها.
وكذا رواه عنها ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ، والنسائي في «السنن الكبرى» ، وأبو يعلى، والدارقطني في «الأفراد» ، والطبرانيّ في «الصغير» ، وهو حديث حسن لشاهده؛ كما قال الحافظ ابن حجر وخرّجه من طرق. انتهى «شرح الأذكار» .
58- ( «اللهمّ؛ بعلمك الغيب) - الباء للاستعطاف والتذلل-؛ أي: أنشدك بحقّ علمك ما خفي على خلقك ممّا استأثرت به، فالغيب مفعول به؛ أي: أتوسّل إليك بهذه الصفة المتعلّقة بكلّ شيء.
(وقدرتك على الخلق) ؛ أي: جميع المخلوقات؛ من إنس وجنّ وملك وغيرها. (أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرا لي) عبّر بما في الحياة!! لاتّصافه بالحياة حالا؟ وب «إذا» الشرطيّة في الوفاة!! لانعدامها حال التمنّي؟ أي: إذا آل الحال أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفّني.
(اللهمّ؛ وأسألك خشيتك في الغيب) عن أعين الناس، (والشّهادة) للناس، أي: في السّر والعلانية، فإنّ خشية الله رأس كلّ خير.
والشأن في الخشية في الغيب!! لمدحه تعالى من يخافه بالغيب، قال تعالى(4/486)
وأسألك كلمة الإخلاص في الرّضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرّضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، ...
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) [الملك] .
(وأسألك كلمة الإخلاص) ، أي: النطق بالحقّ (في الرّضا والغضب) ، أي: في حالتي رضا الخلق منّي وغضبهم عليّ فيما أقوله؛ فلا أداهن، ولا أنافق، أو في حالتي رضاي وغضبي، بحيث لا تلجئني شدّة الغضب إلى النطق بخلاف الحقّ، ككثير من الناس إذا اشتدّ غضبه أخرجه من الحقّ إلى الباطل.
قال الحفني: ولا مانع من إرادة الأمرين معا، أي: أسألك ألاأخرج عن الحق في جميع الأحوال.
(وأسألك القصد) ؛ أي: التوسط (في الفقر) بأن لا أقتّر في حال فقري، (والغنى) ؛ أي: التوسّط في الغنى بأن لا أسرف وأنفق المال فيما لا يليق.
(وأسألك نعيما لا ينفد) - بالدال المهملة- أي: لا ينقضي، وهو نعيم الآخرة.
(وأسألك قرّة عين) بكثرة النسل المستمرّ بعدي، أو بالمحافظة على الصلاة، لقوله: «وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» .
(لا تنقطع) ؛ بل تستمرّ ما بقيت الدنيا، وقيل: أراد قرّة عينه بدوام ذكره وكمال محبّته والأنس به. قال بعضهم: من قرّت عينه بالله قرّت به كلّ عين؛ قاله المناوي.
وقال الحفني: قوله: «قرّة عين» ؛ أي: فرّحني دائما، وخصّ العين!!؟
لأنّها سبب في فرح القلب عند نظرها ما يسر.
(وأسألك الرّضا بالقضاء) بأن تسهّله عليّ فأتلقّاه بانشراح صدر.
(وأسألك برد العيش بعد الموت) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقرّبين، فهو كناية عن السرور الدائم.(4/487)
وأسألك لذّة النّظر إلى وجهك، والشّوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة.
اللهمّ؛ زيّنّا بزينة الإيمان، ...
وقيّد ببعد الموت!! لأنّ السرور الدائم لا يتيسر في الدنيا، لأنّها دار همّ وغمّ وسقم.
هي الدّنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
(وأسألك لذّة النّظر إلى وجهك) ؛ أي: الفوز بالتجلّي الذاتيّ الأبدي الذي لا حجاب بعده، ولا مستقرّ للكمّل دونه؛ وهو الكمال الحقيقيّ.
وقيّد النظر باللّذّة!! إيذانا بأنّ المسؤول هو نظر اللطف والجمال في الجنّة، لا نظر الهيبة والجلال في عرصات القيامة. (والشّوق) - بالنصب- أي: وأسألك الشوق (إلى لقائك) . قال ابن القيّم: جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا؛ وهو الشوق إلى لقائه، وأطيب ما في الآخرة؛ وهو النظر إليه.
(في غير ضرّاء مضرّة) بأن لا يكون هناك ضرّاء أصلا، أو هناك ضرّاء غير مضرّة، وذلك أنّ أهل الشوق إلى اللقاء الذين هم أهل الحبّ الخالص المشاهدون لذاته تعالى؛ قد يحصل لهم حجب عن الشهود في بعض الأحيان، ثمّ يزول ويرجع لهم الشهود، فهذا الحجب ضرر، لكنه غير مضرّ لكونه يزول، فإن دام! فهو الضرر المضرّ، وبعض أهل الله لا يحصل لهم حجب أصلا؛ فضلا عن دوامه.
(ولا فتنة مضلّة) ؛ أي: موقعة في الحيرة، مفضية إلى الهلاك.
قال القونوي: الضّراء المضرّة: حصول الحجاب بعد التجلّي، والتجلّي بصفة تستلزم سدل الحجب، والفتنة المضلّة: كلّ شبهة توجب الخلل، أو تنقص في العلم والشهود.
(اللهمّ؛ زيّنّا بزينة الإيمان) ، وهي زينة الباطن، إذ لا معوّل إلّا عليها، لأنّ(4/488)
واجعلنا هداة مهتدين» . (ن، ك؛ عن عمّار بن ياسر [رضي الله تعالى عنهما] ) .
الزينة زينتان: زينة البدن، وزينة القلب؛ وهي أعظمهما قدرا، وإذا حصلت زينة القلب حصلت زينة البدن على أكمل وجه.
والمعنى: اللهمّ اجعلنا مستكملين لشعب الإيمان؛ لتتنوّر بواطننا بالنّور الناشىء عن التصديق القلبيّ فيظهر نوره علينا.
(واجعلنا هداة) ؛ أي: نهدي غيرنا (مهتدين» ) في أنفسنا، لأنّ الهادي إذا لم يكن مهتديا في نفسه لم يصلح كونه هاديا لغيره؛ لأنّه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر.
(ن، ك) ؛ أي: أخرجه النسائيّ، والحاكم؛ أي: وكذا الإمام أحمد في «المسند» ، كلهم؛ (عن) أبي اليقظان (عمّار بن ياسر) العنسي- بالعين المهملة المفتوحة والنون الساكنة والسين المهملة- ثم المذحجيّ؛ القحطانيّ نسبا، المخزوميّ حلفا وولاء، المكّي ثمّ المدنيّ ثمّ الشاميّ ثمّ الدمشقيّ.
أحد السابقين الأوّلين المعذّبين في الله أشدّ العذاب، وكذا عذّب أبوه وأمّه سميّة، ومرّ بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهم يعذّبون فقال: «صبرا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنّة» ، وكانت سميّة أمّه أوّل شهيدة في الإسلام.
شهد عمّار جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخصوصا منه بالبشارة والترحيب، والبشاشة والتطييب، وأخبر أنه أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنّة، وقال له: «مرحبا بالطّيّب المطيّب» .
وأخبر أنّه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وقال: عمّار جلدة ما بين عيني وأنفي» ، وقال: «اهتدوا بهدي عمّار» ، وقال: «من عادى عمّارا عاداه الله، ومن أبغض عمّارا أبغضه الله» . وآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن أبي وقّاص.
ولمّا أخبر صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الكفر فكفر؛ قال: «كلّا؛ والله إنّ عمّارا ملىء إيمانا من قرنه إلى مشاشه» . ونزل فيه قوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [106/ النحل] .(4/489)
59- «اللهمّ؛ أنت خلقت نفسي، وأنت توفّاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها.. فاحفظها، وإن أمتّها.. فاغفر لها.
اللهمّ؛ إنّي أسألك العافية» ...
ولّاه عمر على الكوفة؛ وكتب إليهم: إنّه من النّجباء الرّفقاء؛ فاعرفوا له قدره.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وستّون حديثا؛ اتّفقا منها على واحد، وانفرد البخاريّ بثلاثة، ومسلم بواحد. وأخرج عنه أصحاب «السّنن» وغيرهم.
قتل رضي الله عنه بصفّين؛ سنة: سبع وثلاثين، عن ثلاث وخمسين سنة، قال قبل أن يقتل: ائتوني بشربة لبن، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «آخر شربة تشربها شربة لبن» ؛ كذا نقل من «الرياض» للعامريّ باختصار.
59- ( «اللهمّ؛ أنت خلقت نفسي) ؛ أي: أوجدتها من العدم، وأبدعتها على غير مثال سبق. (وأنت توفّاها) - بحذف إحدى التاءين للتّخفيف- أي:
تتوفّاها.
وحسن الحذف هاهنا!! لئلّا يجتمع ثلاث تاءآت؛ قاله ابن الجزريّ في «مفتاح الحصن» .
(لك مماتها ومحياها) ؛ أي: موتها وحياتها ملكان لك، لا يملك غيرك شيئا من ذلك، قال تعالى وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) [الفرقان] .
(إن أحييتها فاحفظها) من البليّات، وممّا يوجب العذاب أو يقتضي الحجاب، (وإن أمتّها فاغفر لها) ذنوبها وسائر المخالفات والتقصيرات، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك) ، أي: أطلب منك (العافية» ) - تعميم بعد تخصيص- أي: أسألك العافية في اليقظة والمنام، وفي الحياة الدنيا من سائر الآلام وجميع(4/490)
(م؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) .
60- «اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منّي.
المؤذيات والأسقام، وفي الآخرة من حلول دار الانتقام، والبعد عن رضا الملك العلّام.
(م) ؛ أي: أخرجه مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث خالد بن عبد الله بن الحارث (عن ابن عمر) بن الخطّاب، ورواه عنه النسائي أيضا.
قال خالد: سمعت عبد الله بن الحارث يحدّث عن ابن عمر: أنّه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه أن يقول ذلك، فقال له رجل: سمعت هذا من عمر!؟ فقال: من خير من عمر.. من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أبو يعلى؛ كما أشار إليه الحافظ ابن حجر قال: وليس لعبد الله بن الحارث- وهو أبو الوليد البصري؛ نسيب ابن سيرين- إلّا هذا الحديث الواحد عن ابن عمر في الصحيح.
60- ( «اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي) ؛ أي: ذنبي، ويجوز تسهيل الهمزة فيقال: خطيتي- بالتحتيّة المشدّدة- (وجهلي) ، أي: ما صدر منّي من أجل جهلي.
وفيه إيماء إلى قوله تعالى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء] .
قال البغويّ: أجمع السلف على أنّ من عصى الله تعالى؛ فهو جاهل؛ قاله في «شرح الأذكار» لابن علّان رحمه الله تعالى.
وقال الحفني: قوله: «وجهلي» أي: ما يقع منّي حال الجهل.
(وإسرافي في أمري) ؛ أي: مجاوزتي الحدّ في كلّ شيء، (وما أنت أعلم به منّي) من المعاصي والسيّئات، والتقصير عن الطاعات؛ ممّا علمته وممّا لم أعلمه، فهو تعميم بعد تعميم.(4/491)
اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي وعمدي، وهزلي وجدّي، وكلّ ذلك عندي.
(اللهمّ؛ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، ...
(اللهمّ؛ أغفر لي [خطئي] ) : نقيض الصواب. (وعمدي) ، هما متقابلان؛ قاله المناوي. وأقول: كذا وقع في نسخة «الجامع الصغير» :
«خطأي» بلفظ المفرد، ومثله في «الأذكار النووية» . ووقع عند أكثر رواة البخاريّ: «خطاياي» ؛ كما نبّه عليه ميرك!! قال الحافظ ابن حجر: في رواية الكشميهني: «خطئي» ، وكذا أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» بالسند الذي في «الصحيح» ، وهو المناسب لذكر العمد، ولكنّ جمهور الرواة على الأوّل.
والخطايا: جمع خطيئة، وعطف العمد عليها!! من عطف الخاصّ على العامّ، فإنّ الخطيئة أعمّ من أن تكون خطأ أو عمدا، أو من عطف أحد المتقابلين على الآخر. انتهى.
والمعنى: أنّه اعتبر المغايرة بينهما باختلاف الوصف؛ كما في قوله تعالى تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر] .
(وهزلي وجدّي) - بكسر الجيم-: وهما ضدّان. (وكلّ ذلك عندي) ، أي:
موجود ومتحقّق، كالتذييل للسابق، أي: أنا متّصف بهذه الأشياء فاغفرها لي.
قاله صلى الله عليه وسلم تواضعا.
وعن عليّ رضي الله عنه: عد فوات الكمال وترك الأولى ذنبا، وهذا هو الأعلى، وبالاعتبار أولى، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.
(اللهمّ؛ اغفر لي ما قدّمت) قبل هذا الوقت، (وما أخّرت) عنه، (وما أسررت) ؛ أي: أخفيت، (وما أعلنت) ؛ أي: أظهرت، أو ما حدّثت به(4/492)
أنت المقدّم وأنت المؤخّر، وأنت على كلّ شيء قدير» . (ق؛ عن أبي موسى) .
61- «اللهمّ؛ اهدني فيمن هديت، ...
نفسي، وما تحرّك به لساني؛ قاله تواضعا وإجلالا لله تعالى.
(أنت المقدّم) بعض العباد إليك بتوفيق الطاعة، (وأنت المؤخّر) بخذلان بعضهم عن التوفيق، (وأنت على كلّ شيء قدير» ) ، أي: أنت الفعّال لكلّ ما تشاء. ولذا لم يوصف به غير الباري. ومعنى قدرته على الممكن الموجود حال وجوده: أنّه إن شاء أبقاه، وإن شاء أعدمه. ومعنى قدرته على المعدوم حين عدمه: أنّه إن شاء إيجاده أوجده، وإلّا! فلا. وفيه: أنّ مقدور العبد مقدور لله حقيقة؛ لأنّه شيء.
(ق) أي: متفق عليه، أي: رواه البخاريّ، ومسلم في «صحيحيهما» في (الدعوات) ؛ (عن أبي موسى) الأشعريّ: عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه. وقد تقدّمت ترجمته، وأخرجه عنه البيهقيّ، وغيره أيضا.
61- ( «اللهمّ؛ اهدني فيمن هديت) من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، و «في» بمعنى «مع» ، وكذا فيما بعده. قال تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [69/ النساء] الآية. ويصحّ بقاؤها على حالها متعلّقة بمحذوف، وأوثر حذفه!! للمبالغة، أي: اجعل لي نصيبا وافرا من الاهتداء، واجعلني معدودا في جملتهم؛ مندرجا في زمرتهم.
وهذا كما قال نبيّ الله سليمان- صلّى الله على نبيّنا وعليه وسلم-: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل] . ونبيّ الله يوسف- صلّى الله على نبينا وعليه وسلم-: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) [الشعراء] . ولم يعبّرا ب «من» كما في قوله تعالى في حق إبراهيم على نبيّنا وعليه وعلى سائر النبيّين الصلاة والسلام:
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) [النحل] ؛ إيثارا للتواضع والتذلّل لله تعالى، فشهدا(4/493)
وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، ...
تأخّرهما عن الصالحين، ثمّ سألا أن يلحقا بهم.
وأمّا الآية الأخيرة!! فهي إخبار من الله تعالى عن حقيقة إبراهيم، فالملحظ مختلف. ثمّ الصلاح الذي سألاه صلاح الأنبياء، وهو أكمل مراتب الصلاح؛ لا مطلق الصلاح، إذ مرتبة النبوّة أسنى وأشرف. والله أعلم. انتهى «شرح الأذكار» .
(وعافني) من كلّ نقص؛ ظاهرا وباطنا، في الدنيا والآخرة، واجعلني مندرجا (فيمن عافيت) ممّن ذكر أوّلا، (وتولّني) ؛ أي: بحفظك لي عن كلّ مخالفة ونظر إلى غيرك؛ بإنعامك عليّ بمعرفتك، واجعلني مندرجا (فيمن تولّيت) كذلك، وهم المذكورون أولا.
(وبارك لي فيما أعطيت) : «في» للظّرفية، متعلّقة بالفعل المذكور قبلها، أي: ضع بركتك العظمى لي في كلّ ما أعطيتني من خير الدارين.
وفي «النهاية» : أي: أثبت لي دوام ما أعطيتني من التشريف والكرامة.
(وقني شرّ ما) ؛ أي: الفعل الذي (قضيت) به عليّ، وشرّ ما يقترن به من وسوسة الشيطان والهوى والنفس للإنسان، حتّى يمنع ثوابه؛ إن كان ابتلاء، ويحمل على الاستمرار فيه؛ إن كان معصية، أو يمنع كماله؛ إن كان طاعة.
(فإنّك تقضي؛ ولا يقضى عليك) . وقع كالتعليل لسؤال ما قبله، إذ لا يعطي تلك الأمور المهمّة إلّا من كملت فيه حقائق القدرة؛ ولم يوجد منها شيء في غيره.
وإثبات الفاء في رواية الترمذيّ، وإحدى روايات النسائي، والحاكم.
(وإنّه) ؛ أي: الشأن (لا يذلّ) - بفتح فكسر- (من واليت) ، الذل: ضدّ العز، والموالاة: ضد المعاداة، والمعنى: لا يطرق الذلّ والهوان في الدارين أحدا واليته من عبادك.(4/494)
.........
وما يطرقه من الحوادث الظاهرة والأمراض الباطنة ونحوها!! فهو؛ وإن عدّه عوامّ الناس ذلّا؛ إلّا أنه غاية الرّفعة والعزّة عند الله وعند أوليائه.
وما العبرة إلّا بهم!! ومن ثمّ وقع للأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- من الامتحان العجيب ما هو مشهور؛ زيادة في التشريف، وإعلاما بعلوّ المقام المنيف.
وزاد في رواية النسائي، والطبراني، والبيهقي: «ولا يعزّ من عاديت» بعد قوله «ولا يذلّ من واليت» ، وهذه الزيادة لم يخرّجها الباقون؛ قاله الشوكاني في «العدة» .
قال السيوطيّ رحمه الله تعالى: لا خلاف بين العلماء من أهل اللّغة والحديث والصرف أنّ «يعزّ» : بكسر العين وفتح الياء. قال: وألّفت فيه مؤلّفا سمّيته:
«الثّبوت في ضبط ألفاظ القنوت» . وقلت في آخره نظما:
يا قارئا كتب التّصريف كن يقظا ... وحرّر الفرق في الأفعال تحريرا
«عزّ» المضاعف يأتي في مضارعه ... تثليث عين بفرق جاء مشهورا
فما ك «قلّ» وضدّ الذّلّ مع عظم ... كذا «كرمت علينا» جاء مكسورا
وما ك «عزّ علينا الحال» ؛ أي: صعبت ... فافتح مضارعه؛ إن كنت نحريرا
وهذه الخمسة الأفعال لازمة ... واضمم مضارع فعل ليس مقصورا
«عززت زيدا» بمعنى قد غلبت كذا ... أعنته فكلا ذا جاء مأثورا
وقل إذا كنت في ذكر القنوت «ولا ... يعزّ» يا ربّ من عاديت مكسورا
واشكر لأهل علوم الشّرع إذ شرحوا ... لك الصّواب وأبدوا فيه تذكيرا
وأصلحوا لك لفظا أنت مفتقر ... إليه في كلّ صبح ليس منكورا
لا تحسبن منطقا يحكى وفلسفة ... ساوى لدى علماء الشّرع قطميرا
قال ابن علّان: وقد بقي عليه «عزّ» : بمعنى: قوي، ففي بعض حواشي(4/495)
تباركت ربّنا وتعاليت» . (4، هق؛ عن الحسن بن عليّ) .
«شرح التحفة» «1» في الكلام على نوع «العزيز» : يقال منه: عزّ بمعنى قوي، مضارعه يعزّ- بفتح العين-. انتهى.
وزاد الترمذيّ: «سبحانك» قبل قوله: (تباركت) ؛ أي: تعاظمت (ربّنا وتعاليت» ) . قال في «شرح الأذكار» : قال بعض مشايخنا: كأنّ الحكمة في الإتيان بضمير الجمع هنا؛ دون ما تقدّم من قوله: «اهدني ... الخ» !! لأنّ ذلك مقام سؤال؛ وهو مناسب للتذلّل والانكسار، وهذا مقام ثناء على المولى؛ فناسب الإتيان فيه بضمير الجمع المذكور، إمّا إشارة إلى العجز عن قيام المرء بمفرده بأداء حقّ ثنائه، وإمّا إشارة إلى أنّ جميع أجزائه مربوبة للباري، وإمّا تعاظما بهذه الإضافة الشريفة إلى الربوبيّة المنيفة.
وفي «التحفة» لابن حجر الهيتميّ: وزاد العلماء- بعد «تعاليت» -: «فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك» . ولا بأس بهذه الزّيادة، بل قال جمع: إنّها مستحبّة، لورودها في رواية البيهقيّ. انتهى. وزاد ابن الجزري في «عدة الحصن» : «وصلّى الله على النّبيّ» ، وعزاها إلى النسائيّ.
قال الشوكاني: وهو كما قال. قال النووي: إنّها زيادة بسند صحيح أو حسن.
وتعقّبه الحافظ ابن حجر: بأنّه منقطع، وأخرج هذه الزيادة الطبرانيّ، والحاكم.
وقد طوّلنا المقال على حديث الحسن هذا في «شرحنا للمنتقى» ؛ فليرجع إليه، وقد ضعّفه بعض الحفاظ، وصحّحه آخرون، وأقلّ أحواله- إذا لم يكن صحيحا- أن يكون حسنا. انتهى؛ كلام الشوكاني.
(4، هق) ؛ أي: أخرجه أصحاب «السنن الأربعة» : أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، والبيهقيّ في «سننه» ؛ (عن الحسن بن عليّ) بن أبي طالب: سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، رضي الله تعالى
__________
(1) صوابه النخبة. «هامش الأصل» !!(4/496)
62- «اللهمّ؛ إنّك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلّا بك.
اللهمّ؛ فأعطنا منها ما يرضيك عنّا» . (ابن عساكر؛ ...
عنهما. وقدّ تقدّمت ترجمته.
قال الترمذيّ: هذا حديث حسن لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.
وأخرجه ابن حبّان في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» وصحّحاه، وابن أبي شيبة في «مصنفه» ، وأخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة، والدارقطني، والدارمي، والطبرانيّ: كلهم؛ من حديث الحسن بن عليّ. قال الحافظ ابن حجر كما في «شرح الأذكار» -: والحديث حسن صحيح، أخرجه ابن خزيمة.
انتهى.
وأخرجه أيضا الحاكم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ حديث الحسن مقيّدا بصلاة الصبح، فقال: صحيح. وقال الحافظ ابن حجر: ليس هو كما قال! بل هو ضعيف، لأن في إسناده عبد الله بن سعيد المقبري.
وأخرجه بنحوه الطبرانيّ؛ من حديث بريدة، رضي الله تعالى عنه. انتهى.
ملخصا من «شرح الأذكار» و «شرح العدة» .
62- ( «اللهمّ؛ إنّك سألتنا) : كلّفتنا (من أنفسنا) - بمنزلة التّأكيد لما قبله- (ما لا نملكه) ؛ أي: ما لا نستطيعه ولا نقدر عليه من فعل المأمورات واجتناب المنهيّات. (إلّا بك) ؛ أي: بإقدارك وتمكينك وتوفيقك.
(اللهمّ؛ فأعطنا منها ما) : توفيقا نقتدر به على فعل الذي (يرضيك عنّا» ) من الطاعات وتجنّب المخالفات، فإنّ الأمور كلّها بيدك؛ منك مصدرها وإليك مرجعها، ونحن ضعفاء وأنت القادر، فنسألك أن تسعفنا وتعيننا على ذلك.
(ابن عساكر) ؛ أي: أخرجه ابن عساكر: وهو عليّ بن الحسن بن هبة الله، ثقة الدين، أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي.(4/497)
عن أبي هريرة) .
63- «اللهمّ؛ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر ...
المؤرّخ، الحافظ، الرّحالة، كان محدّث الديار الشاميّة، ورفيق السمعانيّ صاحب «الأنساب» - في رحلاته.
مولده سنة- 499-: تسع وتسعين وأربعمائة، ووفاته سنة- 571-: إحدى وسبعين وخمسمائة في دمشق الشام، وعمره اثنان وسبعون سنة تقريبا.
له كتاب: «تاريخ دمشق الكبير» ؛ يعرف ب «تاريخ ابن عساكر» ، رحمه الله تعالى. آمين.
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه، ورواه أيضا باللّفظ المذكور المستغفريّ في (الدعوات) . قال الحافظ العراقيّ: وفيه ولهان بن جبير: ضعّفه الأزدي؛ قاله المناوي في «فيض القدير» . وقال نقلا عن السيوطيّ: هذا الحديث متواتر.
وتعقّبه السيّد العلامة محمد بن جعفر الكتاني في «نظم المتناثر» ؛ فقال: لم أره في «الأزهار» ، ويتبادر إلى الذهن أنّه سبق قلم، أو تحريف من الناسخ، إلّا أن يريد أنّ رجوع سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في أحواله كلّها؛ وسؤاله التوفيق منه؛ متواتر عنه معنى، فيصحّ. والله أعلم.
63- ( «اللهمّ؛ زدنا) من خير الدارين، أي: من العلوم والمعارف، (ولا تنقصنا) شيئا من نعمائك، (وأكرمنا) بالتقوى، (ولا تهنّا) بفعل المعاصي والمخالفات.
(وأعطنا ولا تحرمنا) - بفتح أوّله وضمه- قال العلقميّ: عطف النواهي على الأوامر!! للتأكيد.
(وآثرنا) - بالمد-: اخترنا بعنايتك وإكرامك. (ولا تؤثر) ؛ أي: لا تختر(4/498)
علينا، وأرضنا وارض عنّا» . (ت، ك؛ عن عمر) .
(علينا) غيرنا، فتعزّه وتذلنا، يعني: لا تغلب علينا أعداءنا.
(وأرضنا) بما قضيت لنا؛ أو علينا؛ بإعطاء الصبر والتحمّل، والقنع بما قسمت لنا من الرزق، وذلك أنّ الله سبحانه دبّر لعبده- قبل أن يخلقه- شأنه من الرزق، والأحوال، والآثار، وكلّ ذلك مقدر مؤقّت، يبرزه له في وقته كما قدّره، والعبد ذو شهوات، وقد اعتادها وتخلّق بها، ودبّر الله لعبده غير ما تخلّق به من الشهوات، فمرّة سقم؛ ومرّة صحّة، ومرّة غنى؛ ومرّة فقر، وعسر وذلّ، ومكروه ومحبوب، فأحوال الدنيا تتداوله لا ينفك عن قضائه.
والعبد يريد ما وافقه واشتهاه، وتدبير الله فيه غير ذلك، فإذا رزق العبد الرضا بالقضاء استقام قلبه؛ فترك جميع إرادته لمشيئة الله تعالى؛ ينتظر ما يبرز له من تدبيره في جميع أحواله، فيتلقّاه بانشراح صدر وطيب نفس؛ فيصير راضيا مرضيّا، والمصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم من رزق الرضا، وليس للشهوات ولا للشيطان عليه سبيل، وإنّما ذكر ذلك على طريق الإرشاد والتعليم للأمة.
(وارض عنّا» ) بما نقيم من الطاعة القليلة التي هي جهدنا.
قال الراغب: منزلة الرضى أشرف المنازل بعد النّبوّة، فمن رضي عن الله فقد رضي الله عنه، لقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [119/ المائدة] . فجعل أحد الرضاءين مقرونا بالآخر، فمن بلغ هذه المنزلة فقد عرف خساسة الدنيا، واطلع على جنة المأوى، وخطب مودّة الملأ الأعلى، وحظي بتحيّتهم المعنيّة بقوله تعالى وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد] .
(ت، ك) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ، والحاكم في «الدعاء» ؛
(عن عمر) بن الخطّاب، أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النّحل، فمكثنا ساعة، فسرّي عنه؛ فاستقبل القبلة ورفع يديه.... فذكره، وصحّحه الحاكم.(4/499)
64- «اللهمّ؛ أصلح ذات بيننا، وألّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السّلام، ونجّنا من الظّلمات إلى النّور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهمّ؛ بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا وذرّيّاتنا، وتب علينا؛ إنّك أنت التّواب الرّحيم، ...
64- ( «اللهمّ؛ أصلح ذات بيننا) ؛ أي: الحال التي يقع بها الاجتماع، (وألّف بين قلوبنا) ؛ أي: اجعل بينها الإيناس والمحبة والتراحم؛ لتثبت على الإسلام، وتقوى على مقاومة أعدائك ونصرة دينك.
(واهدنا سبل السّلام) ؛ أي: دلنّا على طريق السّلامة من الآفات، أو على طريق دار السّلام، الجنة، (ونجّنا من الظّلمات إلى النّور) ؛ أي: أنقذنا من ظلمات الدّنيا إلى نور الآخرة، أو من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة.
(وجنّبنا الفواحش؛ ما ظهر منها وما بطن) ؛ أي: بعّدنا عن القبائح الظاهرة والباطنة، فإنّا عاجزون عن التنقّل منها، ورفع الهمم عن مواقعها؛ وإن اجتهدنا، بما جبلنا عليه من الضّعف وتسلّط الشيطان علينا، فلا قوّة لنا إلّا بك.
(اللهمّ؛ بارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرّيّاتنا، وتب علينا) ؛ أي: اصرف قلوبنا إلى الطاعة.
ف «التّوّاب» إذا وصف به المولى تعالى؛ كان معناه: الصارف لقلوب عباده عن المعاصي إلى الطاعة. وإذا وصف به العبد؛ كان معناه: كثير الخروج من الذنوب. فهو يختلف معناه باعتبار ما يوصف به؛ قاله الحفني.
(إنّك أنت التّوّاب) ؛ أي: الرجّاع بعباده إلى مواطن النجاة، بعد ما سلّط عليهم عدوّهم بغوايته، ليعرفوا فضله عليهم وعظيم قدرته، ثمّ أتبعه وصفا كالتعليل له فقال: (الرّحيم) : المبالغ في الرّحمة لعبادك.(4/500)
واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها، قابلين لها، وأتمّها علينا» .
(طب، ك؛ عن ابن مسعود) .
56- «اللهمّ؛ إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك،
(واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها) أي: عليها، (قابلين لها، وأتمّها علينا» ) ؛ أي: بدوام ذلك.
وإنّما سأل التوفيق لدوام الشكر!؟ لأنّ الشكر قيد النعم، فبه تدوم وتبقى، وبتركه تزول وتحول، قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [11/ الرعد] ، وقال تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [7/ إبراهيم] .
فالحقّ- تقدّس- إذا رأى عبده قام بحقّ نعمته بالدوام على شكرها؛ منّ بأخرى رآه لها أهلا، وإلّا! قطع عنه ذلك.
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ، وكذا في «الأوسط» .
(ك) وأخرجه الحاكم في «المستدرك» : كلهم؛ (عن ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا هذا الدّعاء. قال الحافظ الهيثميّ: إسناد «الكبير» جيّد. انتهى. ومن ثمّ آثره المصنّف تبعا ل «الجامع الصغير» .
65- ( «اللهمّ؛ إنّا نسألك موجبات) - بكسر الجيم- جمع موجبة؛ وهي الخصلة التي أوجبت لقائلها الرحمة؛ أي: مقتضيات (رحمتك) بوعدك، فإنّه لا يجوز الخلف فيه، وإلّا! فالحقّ سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء؛ قاله السيوطيّ.
وفي الحفني على «الجامع الصغير» : موجبات رحمتك؛ أي: أسبابها؛ أي: كلّ قول وفعل مقتض للرحمة ليترتّب عليها المسبّبات، فليس المراد بالموجبات الواجبات، إذ لا يجب عليه تعالى شيء. انتهى.
(وعزائم) : جمع عزيمة (مغفرتك) ؛ أي: الأسباب المؤكّدة المقتضية(4/501)
والسّلامة من كلّ إثم، والغنيمة من كلّ برّ، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» . (ك؛ عن ابن مسعود) .
66- «اللهمّ؛ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين ...
لمغفرتك، يعني: نسألك أعمالا تعزم وتتأكّد بها مغفرتك.
(والسّلامة من كلّ إثم) يوجب عقابا؛ أو عتابا؛ أو نقص درجة، أو غير ذلك.
قال العلقمي، قال شيخنا- يعني السيوطيّ-: قال العراقيّ: فيه جواز سؤال العصمة!! وقد أنكر بعضهم جواز ذلك؛ إذ العصمة إنّما هي للأنبياء والملائكة!! قال:
والجواب: أنّها في حقّ الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حقّ غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز، إلّا أنّ الأدب سؤال الحفظ في حقّنا؛ لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا. انتهى.
وقال العلّامة ابن حجر الهيتمي في «شرح العباب» : الحقّ ما قاله بعض المتأخّرين: أنّه إن قصد التوقّي عن جميع المعاصي والرذائل في سائر الأحوال امتنع؛ لأنّه سؤال مقام النبوّة، وإن قصد التحفّظ من أعمال السوء! فهذا لا بأس به. انتهى «شرح الأذكار» .
(والغنيمة من كلّ برّ) - بكسر الموحدة- أي: طاعة وخير.
(والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» ) ، ذكره تعليما لأمّته، لأنّه متيقّن الفوز والنجاة.
(ك) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ؛ (عن) عبد الله (بن مسعود) رضي الله تعالى عنه قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ ... الخ» .
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
66- ( «اللهمّ؛ اقسم لنا) ؛ أي: اجعل لنا قسما ونصيبا (من خشيتك) ؛ أي: خوفك المقترن بالتّعظيم (ما تحول) أنت؛ أي: تحجز وتمنع (به بيننا وبين(4/502)
معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدّنيا، ...
معاصيك) ، لأنّ القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي، وبقدر قلّة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قلّ الخوف جدّا؛ واستولت الغافلة؛ كان ذلك من علامة الشقاء، ومن ثمّ قالوا: المعاصي بريد الكفر؛ كما أنّ القبلة بريد الجماع، والغناء بريد الزّنا، والنّظر بريد العشق، والمرض بريد الموت، وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرّة بالعقل والبدن؛ والدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلّا الله.
(ومن طاعتك ما تبلّغنا) - بتشديد اللّام المكسورة، ويجوز تخفيفها- أي:
توصلنا (به جنّتك) ؛ أي: مع شمولنا برحمتك، إذ ليست الطاعة وحدها مبلّغة، بدليل خبر: «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!! قال: «ولا أنا؛ إلّا أن يتغمّدني الله برحمته» .
(ومن اليقين) ؛ أي: وارزقنا من اليقين بك، ونفوذ قضائك، وأنّه لا رادّ له، وبأنّه لا يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا، وبأنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا؛ وما أصابنا لم يكن ليخطئنا.
(ما تهوّن) - بكسر الواو المشدّدة وبالتحتيّة والفوقيّة- قال ابن الجزري: رواية «ما تهوّن علينا» بحذف «به» يقتضي أن يكون بالتّحتيّة، وإثباته يقتضي أن يكون بالفوقيّة!! انتهى.
أي: يسهّل ويخفّف (به علينا مصائب الدّنيا) بأن نعلم أنّ ما قدّرته لا يخلو عن حكمة ومصلحة واستجلاب منفعة، وأنّك لا تفعل بالعبد شيئا؛ إلّا وفيه صلاحه، وذلك كموت الولد، فيلاحظ أنّ هذه المصيبة في طيّها رفع درجات، وتكفير سيّئات، ويتيقّن أنّها بإرادته تعالى، فهذا شأن الكاملين. وقوله:
«مصائب» - بالنصب- وقد يرفع على أنّ «يهون» - بفتح أوّله وضمّ الهاء-:
مضارع هان؛ بالتحتيّة والفوقيّة. والله أعلم.(4/503)
ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا، ...
(ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا) ، لأنّها طرائق الدلائل الموصلة لمعرفة الله تعالى وتوحيده؛ من البراهين المأخوذة، إمّا من الآيات المنزّلة؛ وطريق ذلك السمع، أو من الآيات في الآفاق والأنفس؛ وطريق ذلك البصر.
(وقوّتنا) ؛ أي: قوّة قلبنا الذي عليه مدار إيماننا، أو المراد: قوّة سائر قوانا؛ من الحواسّ الظاهرة والباطنة، وباقي الأعضاء البدنيّة.
(ما أحييتنا) ؛ أي: متّعنا بذلك مدّة حياتنا، (واجعله) ؛ أي: المذكور من السمع والبصر والقوّة. أو الضمير للتّمتّع؛ المأخوذ من: «متّعنا» - على حدّ قوله اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8/ المائدة] . (الوارث منّا) ، ومعنى وراثتها: لزومها له عند موته لزوم الوارث له؛ قاله المناوي. وقد تقدّم الكلام عليه.
(واجعل ثأرنا) - بالمثلّثة- أي: انتقامنا ونصرنا مقصورا (على من ظلمنا) ، ولا تجعلنا ممّن تعدّى في طلب ثأره، وأخذ به غير الجاني، كما كان أهل الجاهليّة يفعله، وكما يفعله الآن القبائل أهل البوادي؛ من قتل غير القاتل، بل ولو كان الآخذ بالثأر من غير أولياء الدم. أو المراد: اجعل إدراك ثأرنا على من ظلمنا فندرك ثأرنا، وأصل الثأر: الحقد والغضب، ثمّ استعير لمطالبة دم القتيل.
(وانصرنا على من عادانا) ؛ أي: ظفّرنا عليه وانتقم منه، وهو تعميم بعد تخصيص. (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ؛ أي: لا تصيبنا بما ينقص ديننا؛ من أكل الحرام، واعتقاد السوء، والفترة في العبادة، والغافلة عن الطاعة.
(ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا) ، الهمّ: المقصد والحزن؛ أي: لا تجعل أكبر قصدنا أو حزننا لأجل الدنيا، فإنّ ذلك سبب الهلاك، بل اجعله مصروفا في عمل الآخرة. وأشار ب «أكبر» أنّ القليل من الهمّ ممّا لا بدّ منه في أمر المعاش له ولعياله(4/504)
ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا» . (ت، ك؛ عن ابن عمر) .
67- «اللهمّ؛ أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها، وأجرنا من خزي الدّنيا مرخّص فيه، بل مستحبّ؛ على ما صرّح به القاضي عياض، والمضرّ الانهماك.
(ولا مبلغ علمنا) - بفتح الميم واللّام، بينهما موحدة ساكنة-: وهو الغاية التي يبلغها الماشي والمحاسب فيقف عندها، أي: لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نتفكّر إلا في أحوال الدنيا، بحيث تكون جميع معلوماتنا الطرق المحصّلة للدنيا، والعلوم الجالبة لها، بل اجعلنا متفكّرين في أمر العقبى، متفحّصين عن العلوم الفاخرة المتعلّقة بأمور الآخرة.
ومجمله: لا تجعل علمنا غير متجاوز عن الدنيا مقصورا عليها؛ بل اجعله متجاوزا عنها إلى الآخرة.
(ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا» ) ؛ أي: لا تجعلنا مغلوبين للظّلمة والكفرة والفجرة، ولا تجعلهم علينا حاكمين. ويجوز حمله على ملائكة العذاب في القبر؛ أو في النار، ولا مانع من إرادة الجميع.
(ت، ك) ؛ أي: أخرجه الترمذيّ في «الدعوات» ، وقال: حديث حسن، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» ، وقال: صحيح على شرط البخاريّ.
(عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما؛ قال: قلّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتّى يدعو بهذه الدّعوات. ورواه عنه أيضا النسائيّ، وفيه عبد الله بن زحر: ضعّفوه، فالحديث لأجله حسن؛ لا صحيح. انتهى «مناوي» .
67- ( «اللهمّ؛ أحسن عاقبتنا) ؛ أي: آخرة أمرنا (في الأمور كلّها) ؛ أي:
اجعل آخر كلّ عمل لنا حسنا، فإنّ الأعمال بخواتيمها.
(وأجرنا من خزي الدّنيا) ؛ أي: رزاياها ومصائبها وخدعها، وتسلّط الأعداء(4/505)
وعذاب الآخرة» . (حم، حب، ك؛ عن بسر بن أرطأة [رضي الله تعالى عنه] ) .
68- «يا وليّ الإسلام وأهله ...
وشماتتهم، (وعذاب الآخرة» ) زاد الطبرانيّ: فمن كان هذا دعاءه مات قبل أن يصيبه البلاء، وهذا من جنس استغفار الأنبياء؛ مع كونهم علموا أنّهم مغفور لهم!!
قال الشوكانيّ: هذا الدعاء من جوامع الكلم، لأنّه إذا أحسن الله تعالى عاقبة العبد في الأمور كلّها فاز في جميع أموره، ووقعت أعماله مرضيّة مقبولة، وجنّبه ما لا يرضيه، ووفّقه وسدّده وثبّته حتى تحسن عاقبة أموره.
وفي الحديث دليل على مشروعيّة سؤال الله عزّ وجلّ أن يحسّن للداعي عاقبة أموره كلّها، وأعظم الأمور وأجلّها وأهمّها: حسن خاتمة عمره، فإنّه يلقى ربّه على ما ختم له به؛ إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. انتهى.
(حم، حب، ك) ؛ أي: أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» ، وابن حبّان وصحّحه: والحاكم في «مستدركه» وصحّحه كلهم؛ (عن بسر) - بضم الموحدة وسكون المهملة- (بن أرطاة) . قال المناوي: صوابه ابن أبي أرطاة؛ كما في «الإصابة» ، قال ابن حبّان: ومن قال: ابن أرطاة فقد وهم.
وهو قرشيّ عامريّ، مختلف في صحبته، ولّاه معاوية اليمن؛ فأفسد وعتا وتجبّر. قال ابن عساكر: له باليمن آثار غير محمودة. وقتل عبد الرحمن وقثم:
ابني عبيد الله بن عبّاس، وخلقا، حتّى من لم يبلغ الحلم؛ كولد زينب بنت فاطمة بنت عليّ كرم الله وجهه. قال يحيى بن معين: كان بسر رجل سوء، وأهل المدينة ينكرون سماعه من النّبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا؛ ذكره المناوي.
وأخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ، قال في «مجمع الزوائد» : وإسناد أحمد وأحد إسنادي الطبرانيّ ثقات. انتهى.
68- ( «يا وليّ) ؛ أي: يا ناصر (الإسلام وأهله؛) يا متولّي أمور العالم(4/506)
ثبّتني به حتّى ألقاك» . (طب؛ عن أنس) .
69- «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة؛ وخير الدّعاء، وخير النّجاح، وخير العمل، وخير الثّواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبّتني وثقّل موازيني، وحقّق إيماني، وارفع درجتي، وقائما بها (ثبّتني به) ؛ أي: الإسلام، أي: عليه بأن أكون متمسّكا به، ومتّصفا به (حتّى ألقاك» ) ؛ أي: حتّى تتوفّاني على الإسلام.
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن أنس) رضي الله عنه.
69- ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة) : وهو أقواها تأثيرا في الإجابة، وأحسنها جمعا للمطلوب الذي العبد أحوج إليه من غيره، وهكذا قوله:
(وخير الدّعاء) ، والمراد أنّه طلب من الله تعالى أن يرشده إلى خير المسألة التي يسأل بها عزّ وجلّ، وإلى خير الدّعاء الذي يدعى به سبحانه وتعالى.
(وخير النّجاح) ؛ أي: التمام والكمال، (وخير العمل) الذي أعمله، وهو أكثر الأعمال ثوابا. (وخير الثّواب) الذي يثاب به العباد على أعمالهم.
(وخير الحياة) ؛ وهو: أن يكون في طاعة الربّ سبحانه وتعالى، مجتنبا معاصيه. (وخير الممات) ؛ وهو: أن يموت مرضيّا عنه، مغفورا له، مثابا، متثبّتا، مختوما له بالسعادة؛ وبكلمة الشهادة.
(وثبّتني) في جميع الأفعال والأقوال، (وثقّل موازيني) بكثرة الحسنات حتّى ترجح على السيئات؛ فبذلك يكون الفوز والسعادة.
(وحقّق إيماني) بأن تجعله ثابتا قويّا، فإنّ قوّة الإيمان سبب للرّضا بالقضاء، وللإذعان لأحكام القدر، وذلك أصل كبير يوجب الفوز بالسعادة.
(وارفع درجتي) في الدار الآخرة. ويمكن أن يكون المقصود رفعها في الدارين؛ لأنّ رفعها في الدنيا لمثل الأنبياء والصالحين يكون سببا لقبول قولهم(4/507)
وتقبّل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين.
اللهمّ؛ إنّي أسألك فواتح الخير، وخواتمه وجوامعه، وأوّله وآخره، وظاهره وباطنه، والدّرجات العلى من الجنّة. آمين.
اللهمّ؛ إنّي أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدّرجات العلى من الجنّة. آمين.
اللهمّ؛ إنّي أسألك أن ترفع ذكري، ...
وامتثال ما يرشدون إليه من الحقّ.
(وتقبّل صلاتي) ، لأنها رأس الإيمان وأساسه، وقبولها يستلزم قبول غيرها.
(واغفر خطيئتي) ؛ أي: ذنبي، لأنّ ذلك من أعظم المطالب.
(وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين.
اللهمّ؛ إنّي أسألك فواتح الخير، وخواتمه) ؛ جمع بذلك بين طرفي الخير.
(وجوامعه) ، سأل الجوامع!! لأنّ ما يجمع الأمر المتفرّق هو أقرب إلى ضبطه، وأسهل لتيسّره، وأقرب لحصوله، ثمّ أكّد الطلب بقوله:
(وأوّله وآخره، وظاهره وباطنه، والدّرجات العلى من الجنّة. آمين) وتمّمه بالتّأمين تأكيدا لما قبله.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك خير ما آتي) من جميع الأمور، فيشمل الأقوال والأفعال. (وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر) - من عطف الخاصّ على العامّ- (والدّرجات العلى من الجنّة. آمين) كرّر سؤال الدرجات العلى في الجنّة!! لأنّها المقصود بالذات، وما سواها وسيلة إليها.
(اللهمّ؛ إنّي أسألك أن ترفع ذكري) ؛ أي: تجعل لي ثناء حسنا في الناس،(4/508)
وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهّر قلبي، وتحصّن فرجي، وتنوّر قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة.
آمين.
اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تبارك لي في سمعي، وفي بصري، لأنّه يترتّب على ذلك مصالح؛ منها: انقياد النّاس له إلى الحقّ، ومنها: امتثال موعظته وأوامره بالخير. وقد سأل ذلك خليل الله إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، كما حكى الله ذلك عنه بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) [الشعراء] . وقد امتنّ الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ فقال وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) [الشرح] .
(وتضع وزري) ؛ أي: تغفر ذنوبي وتعفو عن قبائحي، (وتصلح أمري) مفرد مضاف فيشمل جميع الأمور. (وتطهّر قلبي) من النّفاق، والحقد، والحسد، والكبر، وسائر الأخلاق الذميمة، لأنّ القلب إذا تطهّر أبصر الحقّ فتبعه، وعرف الباطل فاجتنبه. وعبّر ب «تطهّر» !! إشارة أنّ هذه الأخلاق الذميمة نجاسات، فما دام القلب متلطّخا بها؛ فهو متنجّس، وصلاح القلب بزوالها عنه.
(وتحصّن فرجي) ؛ أي: تحفظه من الوقوع في المحرّمات التي سببها النّظر المحرّم، (وتنوّر قلبي) ، لأنّ تنوير القلب يستلزم الهداية إلى الحقّ واتّباعه، واجتناب الباطل والنفور عنه.
(وتغفر لي ذنبي) ، لأنّ بمغفرة الذّنوب فوز العبد في الدار الآخرة.
(وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين.
اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تبارك لي في سمعي، وفي بصري) ، سأله أن يبارك له في سمعه وبصره!! لأنّ بالسمع تلقّي جميع المسموعات، وبالبصر إدراك جميع المبصرات، وإذا بورك له فيهما قبل الحقّ وردّ الباطل، وهكذا المباركة في الرّوح المذكور في قوله:(4/509)
وفي روحي، وفي خلقي، وفي خلقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، ...
(وفي روحي) ، فإنّ الرّوح إذا كانت مباركة كانت جميع الأعمال الصادرة عنها مباركة جارية على الصّواب؛ ماشية على الصّراط المستقيم. وقد يراد بالروح هنا نفس الشّخص، ليكون من عطف العامّ على الخاصّ.
(وفي خلقي) - بفتح الخاء المعجمة وإسكان اللّام-: هو جمال الصورة الظاهرة، (وفي خلقي) - بضمتين-: الصورة الباطنة في الإنسان، وإذا بورك فيهما كان سببا لجلب الخير ودفع الشرّ.
وقد ورد في حسن الأخلاق أدلّة ليس هذا موضع بسطها، ويغني عن ذلك ما وصف الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [4/ القلم] . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، ومدحه الله تعالى على ذلك؛ فينبغي لكلّ مقتد به أن يكون على خلق عظيم.
(وفي أهلي) ، لأنّه إذا بارك الله له في الأهل كانوا له قرّة عين، ومسرّة قلب، وجرت أموره على الصلاح والسداد، وتمسّكوا بهدي صالح العباد.
وأهل الرّجل عشيرته وذوو قرباه، ومنه قوله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [35/ النساء] . ومن المجاز «الأهل للرّجل» : زوجته، ويدخل فيه الأولاد، ولا مانع من إرادة هذه المعاني.
وقال الراغب- وتبعه المناوي-: أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين، أو ما يجري مجراهما؛ من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد، ثمّ تجوّز فقيل: أهل بيته من يجمعه وإياهم نسب أو ما ذكر، وتعورف في أسرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقا.
(وفي محياي؛ وفي مماتي) ، لأنّ من بورك له فيهما فاز بخيري الدنيا والآخرة. (وفي عملي) ، لأنّ العمل إذا بورك فيه تكاثر ثوابه، وتضاعف أجره.(4/510)
وتقبّل حسناتي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين» .
(ك، طب؛ عن أمّ سلمة) .
70- «يا من لا تراه العيون، ...
(وتقبّل حسناتي) ، لأنّها إذا كانت مقبولة كانت ذخيرة لصاحبها؛ يستحقّ ثوابها.
(وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. آمين» ) ختم الدعاء بذلك!! لأنّه من أعظم مقاصد أنبياء الله تعالى وصالح عباده.
(ك، طب) ؛ أي: أخرجه الحاكم في «المستدرك» ، والطبرانيّ في «الكبير» ، أي: و «الأوسط» : كلهم؛ من حديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ عن النّبي صلى الله عليه وسلم قالت: هذا ما سأل محمّد صلى الله عليه وسلم ربّه: اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة» ... الحديث.
هكذا ساقه الحاكم في «المستدرك» بهذا اللّفظ الذي ذكره المصنّف من حديثها، وساقه الطبرانيّ من حديثها ببعض هذه الألفاظ، وبألفاظ أخر. قال الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» : رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن زنبور وعاصم بن عبيد، وهما من الثّقات. وساقه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ من طريق آخر (عن أمّ سلمة) رضي الله تعالى عنها.
انتهى. من «تحفة الذاكرين» .
70- ( «يا من لا تراه العيون) ؛ أي: في الدنيا، وأمّا في الآخرة! فقد صحّت السنّة المتواترة بأنّ العباد يرون ربّهم عزّ وجلّ، ولا التفات إلى المجادلة الواقعة بين منكري الرؤية، فكلّها خيالات مختلّة، وعلل معتلّة.
وما تمسّكوا به من الدليل القرآني!! فهو معارض بمثله من القرآن، والرجوع إلى السنّة المتواترة واجب على كلّ مسلم.
وأمّا ما تمسّكوا به من الأدلّة العقليّة!! فهو السراب الذي يحسبه الظمان ماء(4/511)
ولا تخالطه الظّنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدّوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، ...
حتى إذا جاءه لم يجده شيئا!! وليس لنا في هذا إلّا ما جاءنا من طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءنا بما لا تبقى معه شبهة، ولا يرفعه شكّ، ولا يدخله خيال. انتهى.
(تحفة الذاكرين) للشوكاني رحمه الله تعالى.
(ولا تخالطه الظّنون) ، قال الشوكانيّ: أي: أنّ علمه عزّ وجلّ عن يقين، فهو العالم بخفيّات الأمور ودقائقها؛ كما يعلم بظواهرها وجلياتها. انتهى.
وقال ابن الجزري: أي لا يدخل في علمه شكّ، بل يعلم الجزئيّات على وجه التحقيق.
وقال عليّ القاري: والأولى أن يقال: المعنى: لا تبلغ كنه ذاته وصفاته الأوهام والظنون، حتى يناسب ما قبله وما بعده. وقيل: معناه يعلم الكليّات والجزئيّات؛ إجمالا وتفصيلا، ولا يدخل في علمه شكّ ولا ظنّ ولا وهم، بل هو يعلم الكليّات جميعا على ما هي عليه.
(ولا يصفه الواصفون) ؛ أي: يعجز الواصفون عن وصف حقيقته تبارك وتعالى، كما يعجز العادّون عن إحصاء نعمته؛ أي: لا يقدرون على ذلك، كما قال عزّ وجلّ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) [طه] . فلا أحد من عباده يقدر على إحصاء الثناء عليه والوصف له، بل: هو كما أثنى على نفسه.
(ولا تغيّره الحوادث) الكائنة في الزمان على اختلاف أنواعها، لأنه إنّما تغيّر بتغيّرها العالم الحادث؛ لا القديم الواجب الوجود والبقاء سبحانه وتعالى.
(ولا يخشى الدّوائر) ؛ أي: لا يخاف عواقب الأمور وحوادث الدّهور.
وقال ابن الجزري: أي: دوائر الزمان وتقلّباته.
(يعلم مثاقيل الجبال) ؛ أي: مقادير وزنها وعدد حصيّاتها.
(و) يعلم (مكاييل البحار) ؛ أي: مقدارها كيلا وعدد قطراتها.(4/512)
وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه اللّيل وأشرق عليه النّهار، ...
(و) يعلم (عدد قطر الأمطار) ؛ أي: قطراتها النازلة من السماء، فوق الجبال والبحار، والبراري والقفار وغيرها. والقطر: جمع قطرة- على ما في «الصحاح» - والأصحّ: أنّه اسم جنس جمعيّ يفرّق بينه وبين مفرده بالتاء، واحده قطرة.
(و) يعلم (عدد ورق) : اسم جنس جمعيّ؛ واحده ورقة. (الأشجار) والنبات والأزهار، والأشجار: جمع شجر، وواحد الشجر شجرة: وهي ما له ساق من نبات الأرض.
(و) يعلم (عدد ما أظلم) فعل لازم (عليه اللّيل) : هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقيل: إلى طلوع الشمس، وأظلم اللّيل: اشتدّ ظلامه، وعدد ما أظلم عليه، أي: عدد ما اشتمل عليه ظلامه، أو اشتمل عليه بظلامه.
(وأشرق) فعل لازم (عليه النّهار) : هو عند العرب من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، وقيل: من طلوع الشّمس، واليوم من طلوع الفجر، ومعنى أشرق عليه النهار: اشتمل عليه بنوره وإسناد الإشراق إلى النّهار مجازيّ؛ من باب الإسناد إلى الزمان، وهو في الحقيقة للشّمس.
والواو في «أشرق» : الأقرب أنّها بمعنى «أو» ، فيعمّ ما بقي حتى اشتمل عليه اللّيل والنهار معا، وما اشتمل عليه أحدهما فقط؛
1- كالأجرام التي لا توجد في أحدهما وتعدم فيه.
و2- كالأغراض ولا سيّما على القول بأنّ العرض لا يبقى زمانين، وهذا هو المناسب للمقام.
و3- المعدودات التي يمرّ عليها اللّيل والنهار: هي الموجودات التي في عالم الملك، وهي جميع هذا العالم الكائن بالأرض؛ من حيوان وجماد، لأنّ اللّيل والنّهار إنّما يجريان بالأرض.(4/513)
ولا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره.. اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه» ...
(ولا تواري) ؛ أي: لا تخفي ولا تستر ولا تحجب (منه) ؛ أي: من الله (سماء سماء) ، أي: سماء فوقها أو تحتها، فإنّ علمه سبحانه وتعالى يستوي فيه جميع الأشياء من العلويّات والسفليّات، والجزئيّات والكليّات؛ في عالم الملك والملكوت، والغيب والشهادة.
(ولا) تواري منه (أرض أرضا، ولا بحر) يواري (ما في قعره) : نهاية أسفله؛ من الجواهر والحيوانات والنباتات. (ولا جبل) يواري (ما في وعره) ، أي: جوفه؛ من المعادن والينابيع وغيرهما. قال الله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) [النحل] .
والمعنى: أنّ علمه تعالى محيط بجميع الموجودات والمعدومات، الواجبات والجائزات والمستحيلات، يعلم الأشياء كما هي عليه في الواقع؛ فلا يحجبها عنه حاجب، ولا يحول بينه وبينها حائل؛ لا سماء ولا أرض، ولا بحر ولا جبل.
قال الله سبحانه وتعالى وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [61/ يونس] .
(اجعل خير عمري آخره) ؛ لأنّه وقت الضعف والعجز عن الكسب، (و) اجعل (خير عملي خواتمه) ، لأنّ دوائر السعادة والشقاوة تدور على الخاتمة كما تدل عليه الأحاديث-.
(و) اجعل (خير أيّامي يوم ألقاك فيه» ) ؛ أي: وقت أحضر عندك بالموت؛ أو بالبعث.
سأل الله تعالى أن يكون خير أيّامه يوم يلقاه سبحانه وتعالى!! لأنّ ذلك الوقت(4/514)
(طب؛ عن أنس) .
هو وقت الظّفر بالرحمة الواسعة، والفوز بما لا خير يساويه، ولا نعمة تضاهيه.
وكون ذلك اليوم خير أيّامه يستلزمه أن يكون ينال فيه ما يرجوه ويظفر بما يطلبه، لأنّه لو لم يحصل له ذلك لم يكن خير أيّامه.
وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء وقرّره؛ فكان الدعاء به من السّنّة، وقد تقرّر أنّ السنّة قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره.
(طب) ؛ أي: أخرجه الطبرانيّ في «الكبير» ؛ (عن أنس) رضي الله تعالى عنه قال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بأعرابيّ؛ وهو يدعو في صلاته، وهو يقول: يا من لا تراه العيون ... إلى آخر الدعاء.
قال أنس: فوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعرابيّ رجلا؛ فقال: «إذا صلّى فأتني به» ، فلمّا صلّى أتاه الأعرابيّ- وقد كان أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب من بعض المعادن-، فلمّا أتاه الأعرابيّ وهب له الذهب، وقال: «ممّن أنت؛ يا أعرابيّ؟!» قال: من بني عامر بن صعصعة؛ يا رسول الله. قال:
«يا أعرابيّ؛ هل تدري لم وهبت لك الذّهب!؟» قال: للرّحم بيننا وبينك، قال: «إنّ للرّحم حقّا، ولكن وهبت لك الذّهب لحسن ثنائك على الله تعالى» .
قال في «مجمع الزوائد» : رواه الطبرانيّ في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأذرمي: وهو ثقة. انتهى.
وفي «حياة الحيوان» للكمال الدّميري رحمه الله تعالى:
فائدة: روى ابن بشكوال بسنده إلى أحمد بن محمد العطّار؛ عن أبيه قال:
كان لنا جار فأسر، وأقام في الأسر عشرين سنة؛ وأيس أن يرى أهله. قال:
فبينما أنا ذات ليلة أفكّر فيمن خلّفت من صبياني وأبكي؛ وإذا أنا بطائر سقط فوق حائط السّجن يدعو بهذا الدعاء!. قال: فتعلّمته من الطائر، ثمّ دعوت الله به ثلاث ليال متتابعات، ثمّ نمت، فما استيقظت؛ إلّا وأنا في بلدي فوق سطح داري. قال:(4/515)
.........
فنزلت إلى عيالي فسرّوا بي بعد أن فزعوا منّي؛ لمّا رأوني ورأوا ما بي من تغير الحال والهيئة، ثمّ إنّي حججت من عامي، فبينا أنا أطوف وأدعو بهذا الدعاء إذا أنا بشيخ قد ضرب يده على يدي؛ وقال لي: من أين لك هذا الدعاء؟! فإن هذا الدّعاء لا يدعو به إلا طائر ببلاد الرّوم. [قلت] : تعلّمت الدعاء من الطائر!! فقال:
صدقت. فسألت الشيخ عن اسمه فقال: أنا الخضر. وهو هذا الدعاء:
«اللهمّ إنّي أسألك؛ يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظّنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث ولا الدّهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه اللّيل ويشرق عليه النّهار، ولا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل إلّا يعلم ما في وعره وسهله، ولا بحر إلّا يعلم ما في قعره وساحله.
اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تجعل خير عملي آخره، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه، إنّك على كلّ شيء قدير. اللهمّ من عاداني فعاده، ومن كادني فكده، ومن بغى عليّ بهلكة فأهلكه، ومن أرادني بسوء فخذه، وأطفىء عنّي نار من أشبّ لي ناره، واكفني همّ من أدخل عليّ همّه، وأدخلني في درعك الحصينة، واسترني بسترك الواقي؛ يا من كفاني كلّ شيء، اكفني ما أهمّني من أمر الدّنيا والآخرة، وصدّق قولي وفعلي بالتّحقيق؛ يا شفيق، يا رفيق؛ فرّج عنّي كلّ ضيق، ولا تحمّلني ما لا أطيق، أنت إلهي الحقّ الحقيق، يا مشرق البرهان، يا قويّ الأركان، يا من رحمته في كلّ مكان؛ وفي هذا المكان، يا من لا يخلو منه مكان، احرسني بعينك الّتي لا تنام، واكنفني في كنفك الّذي لا يرام.
إنّه قد تيقّن قلبي ألاإله إلّا أنت، وأنّي لا أهلك وأنت معي؛ يا رجائي، فارحمني بقدرتك؛ يا عليّ، يا عظيما يرجى لكلّ عظيم، يا عليم يا حليم، أنت بحاجتي عليم، وعلى خلاصي قدير، وهو عليك يسير، فامنن عليّ بقضائها؛(4/516)
الثّلاثة الأخيرة من «الحصن الحصين» .
يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، يا أسرع الحاسبين، يا قويّ يا متين، يا ربّ العالمين، ارحمني وارحم جميع المذنبين من أمّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم إنّك على كلّ شيء قدير.
اللهمّ؛ استجب لنا كما استجبت لهم برحمتك، وعجّل علينا بفرج من عندك، بجودك وكرمك، وارتفاعك في علوّ سمائك، يا أرحم الرّاحمين؛ إنّك على ما تشاء قدير.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد، خاتم النّبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين» .
وهذا الدعاء: روى الطبرانيّ بإسناد صحيح قطعة منه؛ عن أنس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بأعرابيّ ... » إلى آخر ما تقدّم. انتهى كلام «حياة الحيوان» للدّميري في الكلام على الطائر صفحة 591 ج 1 حرف الطاء.
(الثّلاثة) الأحاديث (الأخيرة) التي أوّلها: «يا وليّ الإسلام» ... الخ مأخوذة (من) كتاب ( «الحصن الحصين) من كلام سيّد المرسلين» للشيخ الحافظ المحدّث المقرىء: شمس الدين أبي الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف؛ ابن الجزري العمري؛ الدمشقيّ، ثمّ الشيرازيّ؛ الشافعيّ، المتوفى سنة 833-: ثلاث وثلاثين وثمانمائة هجريّة، رحمه الله تعالى.
وهو من الكتب الجامعة للأدعية والأوراد والأذكار الواردة في الأحاديث والآثار، وذكر فيه مقدّمة تشتمل على أحاديث في فضل الدّعاء والذكر وآدابه وأوقات الإجابة وأمكنتها، ثمّ الاسم الأعظم والأسماء الحسنى، ثمّ ما يقال في الصباح والمساء، وفي الحياة والممات، ثمّ الذكر العامّ، ثمّ الاستغفار، ثم فضل القرآن، ثمّ الدعاء، ثم ختمه بفضل الصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولقد أحسن من قال:
إن نابك الأمر المهو ... ل اذكر إله العالمينا
وإذا بغى باغ عليك ... فدونك الحصن الحصينا(4/517)
.........
تتمّة في آداب الدعاء: وآكدها: 1- تجنّب الحرام؛ مأكلا ومشربا وملبسا، و 2- الإخلاص لله، و 3- تقديم عمل صالح، و 4- الوضوء، و 5- استقبال القبلة، و 6- الصلاة، و 7- الجثوّ على الركب، و 8- الثناء على الله تعالى، و 9- الصلاة على نبيّه أوّلا وآخرا، و 10- بسط يديه ورفعهما حذو منكبيه وكشفها؛ مع التأدّب والخشوع والمسكنة والخضوع، و 11- أن يسأل الله تعالى بأسمائه العظام الحسنى؛ والأدعية المأثورة. و 12- يتوسّل إلى الله بأنبيائه والصالحين؛ بخفض صوت واعتراف بذنب، و 13- يبدأ بنفسه، ولا يخصّ نفسه؛ إن كان إماما، و 14- يسأل بعزم ورغبة؛ وجدّ واجتهاد، و 15- يحضر قلبه ويحسن رجاءه، و 16- يكرّر الدعاء؛ ويلحّ فيه، و 17- لا يدعو بإثم؛ ولا قطيعة رحم؛ ولا بأمر قد فرغ منه؛ ولا بمستحيل، و 18- لا يتحجّر؛ ويسأل حاجاته كلّها، و 19- يؤمّن الداعي والمستمع، و 20- يمسح وجهه بيديه بعد فراغه، و 21- لا يستعجل أو يقول:
دعوت فلم يستجب لي. ذكره في «عدّة الحصن الحصين» للعلامة ابن الجزري، رحمه الله تعالى.
وقال الغزاليّ في «إحياء علوم الدين» : آداب الدعاء عشرة:
الأول: أن يترصّد الأزمان الشريفة؛ كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من اللّيل، ووقت الأسحار.
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة؛ كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدها، وحالة رقّة القلب.
الثالث: استقبال القبلة، ورفع اليدين، ويمسح بهما وجهه في آخره.
الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر.
الخامس: ألايتكلّف السجع.(4/518)
وصلّى الله على نبيّنا محمّد.. كلّما ذكره الذّاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.
السادس: التضرّع والخشوع والرهبة.
السابع: أن يجزم بالطلب، ويوقن بالإجابة ويصدّق رجاءه فيها.
الثامن: أن يلحّ في الدعاء، ويكرّره ثلاثا، ولا يستبطىء الإجابة.
التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى، أي: وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كلّه أيضا.
العاشر: - وهو أهمّها؛ والأصل في الإجابة- هو التوبة، وردّ المظالم، والإقبال على الله تعالى. انتهى. والله أعلم.
(وصلّى الله على نبيّنا) ، الصلاة منه: رحمة مقرونة بتعظيم، ولفظها مختصّ بالمعصوم؛ من نبي وملك تعظيما لهم، وتمييزا لمراتبهم عن غيرهم.
(محمّد) : علم منقول من اسم المفعول المضعّف، سمّي به نبيّنا صلى الله عليه وسلم- مع أنّه لم يؤلف قبل أوان ظهوره- بإلهام من الله لجدّه عبد المطلب!! إشارة إلى كثرة خصاله المحمودة، ورجاء أن يحمده أهل الأرض والسماء، وقد حقّق الله تعالى رجاءه.
قيل: وكما اشتملت ذاته على كمال سائر الأنبياء والمرسلين اشتمل اسمه الشريف بحساب الجمّل على عدّة الرسل؛ بناء على أنّهم ثلثمائة وأربعة عشر.
(كلّما) : ظرف زمان، وسرت الظرفية إلى «كلّ» !! لإضافته إلى «ما» المصدريّة الظرفية؛ أي: كل وقت.
(ذكره الذّاكرون) ذكرا لسانيا، بأن أجروا اسمه الشريف على ألسنتهم في الصلاة عليه، أو الحكاية عنه، أو غير ذلك. ويحتمل: ذكره الذاكرون ذكرا قلبيا؛ وهو الاستحضار، والأوّل هو المتبادر.
(وغفل عن ذكره الغافلون) . وقوله: «عن ذكره» : يعيّن أنّ المراد الذّكر(4/519)
وصلّى عليه في الأوّلين ...
اللّسانيّ؛ أو يكاد، حيث قال ذلك ولم يقل: غفل عنه!!.
والقول بأنّ المراد الذكر القلبيّ ربّما يرشّحه مقابلة الذكر بالغافلة، ومحلّها القلب، فيكون محلّ الذكر أيضا القلب، لأن الضدّين يجب اتّحاد محلّهما.
وأمّا اللّساني!! فضدّه السكوت ومحلّه اللسان أيضا، إلّا أن يقصد بالغافلة الترك تجوزّا. والضمير في «ذكره» ؟! يحتمل عوده على النّبيّ صلى الله عليه وسلم- كما قرّرناه-، ويصح عوده على الله سبحانه.
روى جماعة؛ عن عبد الله بن عبد الحكم أنّه قال:
رأيت الشافعيّ رحمه الله تعالى في النّوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال:
رحمني وغفر لي، ورفعت إلى الجنّة كما يزفّ العروس، ونثر عليّ كما ينثر عليه.
فقلت له: بم بلغت هذه الحالة!؟ فقال: قال لي قائل: «بقولك في كتاب «الرسالة» : وصلى الله على محمّد كلّما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون» .
قال: فلمّا أصبحت نظرت «الرسالة» ؛ فوجدتّ الأمر كما رأيت.
وفي «الإحياء» لحجّة الإسلام الغزاليّ رضي الله تعالى عنه:
روي عن أبي الحسن الشافعيّ قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت:
يا رسول الله؛ بم جوزي الشافعيّ عنك، حيث يقول في كتاب «الرسالة» : وصلى الله على سيدنا محمّد كلّما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون!؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
جوزي عنّي أنّه لا يوقف للحساب؛ ذكره الفاسي في «شرح الدلائل» .
(وصلّى) الله (عليه) ؛ أي: رحمه رحمة مقرونة بالتعظيم.
(في الأوّلين) ؛ أي: المتقدّمين بالزمان على هذه الأمّة من أهل الإيمان في الأمم الماضية، أو المراد أوّل هذه الأمّة، هذا إذا كانت الأوّليّة باعتبار زمان وجودهم.(4/520)
والآخرين.. أفضل وأكثر وأزكى ما صلّى على أحد من خلقه.
وزكّانا بالصّلاة عليه.. أفضل ما زكّى أحدا من أمّته بصلاته عليه.
والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنّا.. أفضل ما جزى مرسلا عمّن أرسل إليه.
ويحتمل أن تكون الأوّليّة باعتبار الصلاة، والمعنى: صلّ عليه في أوّل من تصلي عليه، وفي آخر من تصلّي عليه، وإن كان المذكورون مصلى عليهم!!
(والآخرين) : هم هذه الأمّة، أو آخرها على مقابلة ما تقدّم في الأوّلين.
(أفضل وأكثر) : أوفر (وأزكى) : أنمى (ما) صلاة (صلّى) - بحذف الضمير المنصوب- (على أحد من خلقه، وزكّانا) ؛ أي: طهّرنا وصفّانا من كدورات البشريّة بتنوير قلوبنا (بالصّلاة عليه) ؛ أي: بسبب الصلاة عليه، حتّى ننسب إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعة (أفضل ما زكّى أحدا من أمّته) صلى الله عليه وسلم (بصلاته عليه. والسّلام) : مرفوع مبتدأ، وخبره قوله: (عليه) ؛ أي: كائن عليه.
وأتى بالسلام بعد الصلاة!؟ خروجا من كراهة إفراد أحدهما عن الآخر- كما قيل-.
(ورحمة الله) عليه. وفيه دليل للدّعاء له بالرحمة، لكن بالتّبع لغيرها كما هنا. (وبركاته) عليه.
(وجزاه) ؛ أي: أعطاه (الله) في مقابلة ما قام به من هدايتنا وإرشادنا.
(عنّا) معشر أهل الإسلام، لأنّه هو السبب في نجاتنا ومعرفة ربّنا.
(أفضل ما جزى مرسلا عمّن أرسل إليه) ؛ أي: عن أمّته التي أرسل إليها فاتّبعته فأفلحت.(4/521)
.........
والمطلوب هنا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: أن يجزى أفضل ما جري به مرسل عمّن أرسل إليهم، فالمسؤول له: إعطاء مثل أفضل جزائهم.
يبقى أنّه صلى الله عليه وسلم أفضلهم ومستحقّ لأفضل من جزائهم، فكيف يطلب له أفضل جزائهم فقط؛ لا أفضل من جزائهم؟!
فيحتمل أن يقال: إنّه لا بأس بالدّعاء له صلى الله عليه وسلم بنحو هذا، إذ هو صلى الله عليه وسلم أهل أن يعطى ما ذكر؛ ولأن يعطى أكثر منه. واقتصر على سؤال ما ذكر له صلى الله عليه وسلم!؟ لأنّه لا يلزم منه نفي الأكثر.
ويحتمل أن يكون المراد طلب ذلك مضافا إلى ما يستحقّه هو، وما هو أهل له. والله أعلم.
قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: ما من خير عمله أحد من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم إلّا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم أصل فيه.
قال في «المواهب» : قال في «تحقيق النصرة» : فجميع حسنات المؤمنين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلّا الله تعالى، لأنّ كلّ مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدّد لشيخه مثل ذلك، ولشيخ شيخه مثلاه، وللشّيخ الثالث أربعة، وللرّابع ثمانية، وهكذا تضعيف كلّ مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يعلم تفضيل السّلف على الخلف، فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر؛ صار أجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا كلّما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدا- كما قال بعض المحققين-. انتهى.
ولله درّ القائل- وهو سيّدي محمّد وفا- نفعنا الله ببركاته:
فلا حسن إلّا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلّا له حسناته(4/522)
والحمد لله ربّ العالمين على جميع نعمه، ما علمت منها وما لم أعلم، ولا سيّما نعمة ...
انتهى الغرض من كلام صاحب «المواهب» .
وقال البوصيري رحمه الله تعالى:
والمرء في ميزانه أتباعه ... فاقدر إذن قدر النّبيّ محمّد!!
(والحمد) ؛ أي: الوصف بالجميل ثابت (لله ربّ) : مالك (العالمين) :
الأنس والجنّ والملائكة وغيرهم.
(على جميع نعمه؛ ما علمت منها، وما لم أعلم، ولا سيّما نعمة) - ذكروا في الاسم الواقع بعد «لا سيّما» : جواز الرّفع والنّصب والجرّ؛ إن كان نكرة، أمّا إن كان معرفة- كما هنا-! فيجوز رفعه وجرّه، ولا يجوز نصبه.
وتوجيه ذلك: أنّ «لا» : عاملة عمل «إنّ» و «سيّ» : بمعنى؛ مثل:
اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: موجود، و «ما» : اسم موصول بمعنى «الذي» مضاف إلى «سيّ» ، أو نكرة موصوفة، والاسم المرفوع بعد «سيّما» :
خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير لا مثل الذي هو نعمة الإيمان والإسلام ... الخ، أو لا مثل شيء هو نعمة الإيمان والإسلام، فالجملة صلة؛ أو صفة.
وأمّا على جرّ ما بعد «سيّما» - سواء كان معرفة؛ أو نكرة-!! فتكون «ما» :
زائدة، و «سيّ» مضاف إلى ما بعده، ولكون «سيّ» بمعنى مثل؛ لا تتعرّف بالإضافة صحّ عمل «لا» فيها، والجرّ أرجح من الرفع، لما في الرفع من حذف صدر الصّلة بلا طول وفتحة «سيّ» إعراب، لأنّها مضافة.
وأمّا النصب! فلا يجوز، إلّا إن كان ما بعد «سيّما» نكرة، لأنّه على التمييز، والتمييز لا يكون إلّا نكرة، وحينئذ تكون «ما» كافّة عن الإضافة، والفتحة في «سيّ» فتحة بناء مثلها في «لا رجل» ، وأمّا نصب المعرفة! فمنعه الجمهور.(4/523)
الإيمان والإسلام، ...
(الإيمان والإسلام) اللّذين هما أجلّ النّعم الدنيويّة والآخرويّة، وأساسها كما هو ظاهر لا يخفى-، وفيه التبرّي ممّا قد يتوهّم نسبته لأوصاف العبد، وقد قال تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [17/ الحجرات] ، وقال تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [7/ الحجرات] ، وقال تعالى وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ [56/ الروم] ، وقال تعالى أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [22/ المجادلة] .
وقال أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [22/ الروم] ... إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدّالّة على أنّ هداية الإيمان بيد الله وحده لا شريك له.
قال الشيخ أبو طالب المكّيّ في «قوت القلوب» : وادّعاء أنّ الإيمان عن كسب معقول، واستطاعة بقوّة وحول هو كفر نعمة، وأخاف على من توهّم ذلك أن يسلب الإيمان، لأنّه بدّل شكر نعمة الله كفرا!!. انتهى.
والإيمان- لغة-: هو التّصديق، وشرعا-: تصديق القلب بما علم مجيء الرّسول صلى الله عليه وسلم به؛ من عند الله ضرورة، أي: الإذعان والقبول له، ولا يعتبر التصديق إلّا بالعمل بتلك الأحكام.
والإسلام: هو الخضوع والانقياد، ولا يتحقّق إلّا بقبول الأحكام، وهي أعمال الجوارح، وإنّما يظهر قبولها في العمل بها؛ فلذلك يفسّر بها فيقال:
الإسلام شرعا: أعمال الجوارح من الطّاعات؛ كالتّلفّظ بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك. فلو لم يقبل أحكام الشريعة وأبى من التزامها لم يكن خاضعا للألوهيّة، ولا منقادا مستسلما لتدبيرها وأحكامها؛ فلم يكن مسلما.
ولا تعتبر الأعمال المذكورة إلّا مع التصديق المذكور الذي هو الإيمان، فلا يصحّ الإيمان إلّا بالإسلام، ولا الإسلام إلّا بالإيمان، فأحدهما مستلزم للآخر، والإيمان والإسلام شرعا واحد، والمؤمن شرعا مسلم، والمسلم شرعا مؤمن، فتساويا مصدوقا؛ وإن تغايرا مفهوما!!.(4/524)
وتوفيقه لجمع هذا الكتاب.
وأسأله سبحانه أن ينفعني به ...
وإنّما ذكرهما المؤلّف معا!؟ اعتبارا بحقيقتهما ومفهومهما، لأنّه في مقام الحمد، وهو مقام بسط وإطناب وإكثار من عدّ النّعم، ولا شكّ أنّهما باعتبار المفهوم متغايران، وكذا باعتبار ما يفسّر به الإسلام، لأنّ نعمة التصديق محلّها القلب، ونعمة الإقرار والأعمال الصالحات محلّها الجوارح، فهي متعددة ضرورة.
على أنّ الإيمان شرعا يقال بالاشتراك «1» ؛
1- فتارة يطلق ويراد به العمل القلبيّ بمجرّده.
و2- تارة يطلق عليه مع الإقرار باللّسان، وهو: إمّا شطر منه؛ أو شرط فيه!!
و3- تارة يطلق على سائر الطاعات؛ بدنيّة أو قلبيّة.
والحاصل: أنّه قد يطلق على ما هو الأساس في النّجاة والشّرط في مطلق السعادة، وعلى الكمال المنجي بالأخلاق الذي هو شرط في كمال السعادة.
والإسلام له إطلاقات: أحدها: على مجموع الدين؛ وهو: ما يعمّ المقامات الثلاثة من الظاهر والباطن والإحسان في ذلك.
والآخر: على جزئه؛ وهو المتقدّم الذكر، وهو أيضا له:
مفهوم: وهو الخضوع والانقياد والاستسلام.
ومظهر: وهو عمل الجوارح. فأتى المؤلّف باللّفظين!! ليشملها بجميع الإطلاقات، ويعم الظاهر والباطن. والله أعلم.
(و) نعمة (توفيقه) ؛ أي: إلهامه وإقداره (لجمع) ؛ أي: تأليف (هذا الكتاب) وبقصد قارئه جمعه له قراءة.
(وأسأله سبحانه أن ينفعني به) بأن يثيا بني على جمعه، ويوفّقني للعمل بما فيه.
__________
(1) يعني: لفظ مشترك بين معان متعددة.(4/525)
وكلّ من نظر فيه من المسلمين نفعا عظيما، يصاحبنا في الدّنيا، ويلازمنا في البرزخ، ولا يفارقنا يوم الدّين؛ بجاه خير الوسائل إليه، وأقرب المقرّبين لديه، حبيبه الأكرم، ...
(و) ينفع به (كلّ من نظر فيه من المسلمين) بالمطالعة والدراسة؛ (نفعا عظيما يصاحبنا في الدّنيا) : بأن نعمل بما اشتمل عليه؛ ونتخلّق بما فيه، (ويلازمنا في البرزخ) ؛ وهو: ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر، من وقت الموت إلى القيامة، ومن مات فقد دخله.
والمراد بملازمته في البرزخ: حصول الثّواب لمؤلّف الكتاب والنّاظر فيه، ومؤانسته لهما مدّة مقامهما في البرزخ، ولا يزال مصاحبا لهما حتّى يكون سببا لحلولهما في دار النّعيم، كما قال:
(ولا يفارقنا يوم الدّين) ؛ أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة.
(بجاه) الباء- في هذا ونحوه- تشبه أنّها للاستعانة.
والجاه: هو القدر والمنزلة والحرمة.
(خير الوسائل [إليه] ) ؛ أي: خير من يتوسّل به ويتقرّب به إلى الله تعالى، فمن توسّل به إلى الله كان أسرع في نيل مطلوبه والظفر بمرغوبه.
(وأقرب المقرّبين لديه) ؛ أي: عنده (حبيبه الأكرم) على الله من جميع المخلوقات؛ فيدخل الملائكة.
والإجماع على أنّه صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، وإن اختلف في التّفاضل بين الأنبياء والملائكة، فقد صرّحوا بأنّه صلى الله عليه وسلم خارج من الخلاف، وأنّه أفضل الخلق عموما.
وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبيّنا فمل عن الشّقاق(4/526)
ورسوله الأعظم: سيّدنا محمّد سيّد المرسلين صلّى الله عليه وعليهم،
(ورسوله الأعظم) منزلة ومكانة وحظّا؛ (سيّدنا محمّد) هذا الاسم الكريم الشريف هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وأخصّها وأعرفها.
وبه يناديه الله، ويسمّيه في الدّنيا والآخرة، وهو مختصّ بكلمة التّوحيد.
وبه كنّي آدم عليه السّلام، وبه تشفّع، وعليه صلّى من مهر حواء.
وبه كان يسمّي نفسه صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: «أنا محمّد بن عبد الله» ، «والّذي نفس محمّد بيده» ، و «فاطمة بنت محمّد» ، ويكتب «من محمّد رسول الله» .
وهو الثّابت في تعليم كيفيّة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وبه يصلّي عليه المصلّون.
وبه يسمّيه عيسى عليه الصلاة والسلام في الآخرة حين يدلّ عليه للشّفاعة.
وبه كان يسمّيه جبريل عليه السّلام في حديث المعراج وغيره.
وبه سمّاه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في حديث المعراج أيضا.
وبه سمّاه جدّه عبد المطلب حين ولد، وبه كان يدعوه قومه.
وبه ناداه ملك الجبال، وبه صعد ملك الموت إلى السماء باكيا لما قبض روحه ينادي (وا محمّداه) .
وبه يسمّي نفسه لخازن الجنان حين يستفتح فيفتح له ... إلى غير ذلك ممّا لا يحضرني الآن، والله أعلم.
(سيّد المرسلين) : رئيسهم وزعيمهم، والمتقدّم عليهم، وعظيمهم وشريفهم وكريمهم، صلى الله عليه وسلم. روى البزّار: «أنّه صلى الله عليه وسلم قال:
ليلة أسري بي انتهيت إلى قصر من لؤلؤة يتلألأ نورا، وأعطيت ثلاثة: قيل لي:
إنّك 1- سيّد المرسلين، و 2- إمام المتّقين، و 3- قائد الغرّ المحجّلين» . انتهى.
(صلّى الله عليه وعليهم) فيه الصّلاة على المرسلين، وقد ورد: «صلّوا على أنبياء الله ورسله؛ فإنّهم بعثوا كما بعثت» . أخرجه الطّبرانيّ وغيره.(4/527)
وعلى آلهم وأصحابهم الكرام.
(وعلى آلهم) آل نبيّنا- عند الشافعيّ-: مؤمنو بني هاشم والمطلب، هذا بالنّسبة لنحو الزّكاة؛ دون مقام الدعاء، ومن ثمّ اختار الأزهريّ وغيره من المحققين: أنّهم هنا كلّ مؤمن تقيّ، لحديث فيه؛ أخرجه الطبرانيّ بسند واه جدّا، ولفظه: «آل محمّد كلّ مؤمن تقيّ» . وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وغيرهما من المسلمين من ذرّيّته.
(وأصحابهم) : واحده «صاحب» بمعنى الصحابيّ: وهو من اجتمع مؤمنا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو لحظة ومات على الإيمان- وإن لم يره- كابن أمّ مكتوم؛ ولم يرو عنه، وسواء كان مميّزا؛ أو غير مميّز- كمحمد بن الصديق رضي الله تعالى عنهما وأمثاله. (الكرام) - جمع كريم- والمراد به هنا: من خرج عن نفسه وماله لله تعالى، وكلّ الصحابة كذلك، رضوان الله عليهم أجمعين؛ قاله ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى.(4/528)
ونجز ذلك في شهر رجب من السّنة التّاسعة بعد الثّلاث مئة «1» وألف من هجرته عليه الصّلاة والسّلام.
(ونجز) ؛ أي: انقضى وتمّ (ذلك) ؛ أي: هذا التّأليف المسمّى: «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول صلى الله عليه وسلم» .
(في شهر رجب) الحرام (من السّنة التّاسعة) - بتقديم المثنّاة على السين المهملة- (بعد الثّلثمائة وألف من هجرته عليه الصّلاة والسّلام) .
وهذا آخر ما قصدتّ وتمام ما أردتّ من شرح هذا الكتاب المشتمل على ما تقرّ به أعين ذوي الألباب، ولا آمن من أن أكون أسقطت؛ أو حرّفت شيئا من متن الكتاب سهوا، ورحم الله امرأ رأى خللا فأصلح، أو عاين زللا فسمح، فإنّ الخطأ والخلل غير مستغرب من الإنسان المطبوع على عدم الإحسان، وخصوصا مثلي، قليل العلم، قصير الباع في الحفظ والفهم.
وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه ممّا جنيته في سواد اللّيل وبياض النّهار، وأسأله العفو والغفران عن سائر المخالفات والأوزار.
وأستودعه الإسلام والإيمان، وما أنعم به عليّ وعلى سائر الإخوان، إذ كلّ نعمة بنا أو بسائر المخلوقات؛ إيجادا أو إمدادا، دينا ودنيا، ظاهرا وباطنا، إنّما هي منه وحده لا شريك له.
فكما أحسن أوّلا من غير سؤال؛ نسأله أن يحسن إلينا فيما بعد ذلك.
وكما ابتدأنا بنعمته من غير أهليّة ولا استحقاق؛ نسأله أن يتمّم علينا نعمته، ولا ينزع منّا صالح ما أعطانا، وأن يجعلنا لسنّة نبيّه من المتّبعين، ولذاته الكاملة من المحبّين، فإنّه على ذلك قدير، لا إله غيره، ولا خير إلّا خيره، وهو نعم المولى ونعم النّصير.
__________
(1) في «وسائل الوصول» : المائتين، وهو خطأ مطبعي.(4/529)
.........
والحمد لله أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا، والصلاة على نبيّه وحبيبه، وصفيّه وخليله: سيّدنا محمّد الأمين، وخاتم النبيّين؛ عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، كلّما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وعلى جميع آله وصحبه، ووارثيه العلماء وأتباعه وحزبه. آمين.
والحمد لله ربّ العالمين؛ حمدا كثيرا طيّبا.
وكان انتهى تبييضه بين العشاءين؛ ليلة الثّلاثاء، الموافق الخامس عشر من شهر محرّم الحرام، سنة- 1400- أربعمائة وألف هجريّة، بمنزلي في جبل الحفائر؛ المطل على الشبيكة بمكّة المكرّمة، جعلها الله آمنة مطمئنّة رخيّة وسائر بلاد المسلمين، ووفّقنا لما يحبّه ويرضاه بمنّه وكرمه. آمين.
ونسأله حسن الختام، والموت على دين الإسلام، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، وصلّى الله وسلم على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه مؤلّفه، الفقير إلى الله تعالى ورحمته:
عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي رحمة الله تعالى عليه- المدرّس بالمدرسة الصولتية، وبالمسجد الحرام بمكّة المكرّمة.(4/530)
فهرسة الجزء الرابع من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
الموضوع صفحة
حرف الميم 5
حرف النون 67
حرف الهاء 74
حرف الواو 76
حرف اللام ألف 84
حرف الياء 104
الباب الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم وسنه ووفاته ورؤيته في المنام وفيه ثلاثة فصول 117
الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم 118
الفصل الثاني: في سنه صلى الله عليه وسلم ووفاته 206
الفصل الثالث: في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام 332
الخاتمة: تشتمل على سبعين حديثا من أدعيته صلى الله عليه وسلم 363(4/531)