حتّى نقول لا يصلّيها.
وعن أبي أيّوب الأنصاريّ ...
ومن فوائد صلاة الضحى: أنّها تجزئ عن الصدقات التي تصبح على مفاصل الإنسان الثلاث مائة وستين مفصلا؛ كما أخرجه مسلم، وقال: «وتجزئ عن ذلك ركعتا الضّحى» .
قال الحافظ زين الدين العراقي: إنّه اشتهر بين العوامّ أنّ من صلّى الضحى ثمّ قطعها يعمى، فصار كثير منهم يتركها أصلا لذلك!! وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنّه ممّا ألقاه الشيطان على ألسنتهم ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما إجزاؤها عن تلك الصّدقات. وكذا اشتهر هذا القول بين النساء فتوهّمن أنّ تركها حالة الحيض والنفاس مما يقطعها فتركنها من أصلها؛ وقلن إنّما تصلي الضحى المرأة المنقطعة «1» . انتهى «جمع الوسائل» .
(حتّى نقول) - أي: في أنفسنا، أو يقول بعضنا لبعض- (: لا يصلّيها) ، أي: لا يعود لصلاتها أبدا لنسخها، أو اختلاف اجتهاده فيها.
والحاصل: أنه كان يحبّها، فكان يواظب عليها أيّاما؛ ويتركها أحيانا للخوف من اعتقاد فرضيّتها، وهذا الحديث قد عورض بحديث مسلم أنّه كان إذا صلّى صلاة أثبتها، وقد صلّى مرة الضحى بعد صلاة العصر؛ فلم يتركه. قال البيهقي: وهذا من خصائصه. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج أبو داود، وابن ماجه، والترمذي؛ في «الشمائل» - باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» -: (عن أبي أيّوب) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاريّ) الخزرجي النجّاري المدني الصحابي الجليل. شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة مهاجرا،
__________
(1) أي: الآيسة.(3/59)
رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشّمس، فقلت: يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟ فقال: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس، ...
وأقام عنده شهرا حتى بنيت مساكنه ومسجده.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مائة وخمسون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة.
روى عنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد الجهني، وابن عبّاس، وعبد الله بن يزيد الخطمي؛ وكلّهم صحابة. وسعيد بن المسيّب، وسالم بن عبد الله، وعروة بن الزّبير، وعطاء بن يزيد الليثي، وعبد الله بن حنين، وخلائق سواهم.
توفي بأرض الروم غازيا سنة: خمسين- وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثنتين وخمسين- وقبره بالقسطنطينية (رضي الله تعالى عنه.
أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يدمن) - من الإدمان بمعنى المداومة؛ أي: يلازم- (أربع ركعات عند زوال الشّمس؟!) ، أي: عقبه لعدم التراخي كأنّها عنده، وهذه الصلاة هي سنّة الزوال، وقيل: سنّة الظهر القبلية. ويبعد الأوّل التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلّم واظب على شيء من السنن بعد الزوال، إلّا على راتبة الظهر.
(فقلت) - أي: قال أبو أيّوب الأنصاري-: (يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟!) ؛ أي: تديمها، والقصد الاستفهام عن حكمة ذلك.
(فقال) ؛ أي رسول الله صلى الله عليه وسلّم (: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس) ؛ أي: لصعود الطاعة ونزول الرحمة، كما جاء في حديث البزار عن ثوبان أنّه صلى الله عليه وسلّم كان(3/60)
فلا ترتج حتّى يصلّى الظّهر، فأحبّ أن يصعد لي في تلك السّاعة خير» ؛ قلت: أفي كلّهنّ قراءة؟ قال: «نعم» ، قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟ قال: «لا» .
يستحبّ أن يصلّي بعد نصف النهار، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله؛ أراك تستحبّ الصلاة هذه الساعة؟! فقال: «تفتح فيها أبواب السّماء، وينظر الله إلى خلقه بالرّحمة، وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصّلاة والسّلام» . انتهى «ملّا علي قاري» .
(فلا ترتج) - بضمّ التاء الأولى، وفتح الثانية؛ بينهما راء ساكنة وآخره جيم مخففة-؛ أي: لا تغلق (حتّى يصلّى الظّهر) ؛ أي: صلاة الظهر. (فأحبّ أن يصعد) - بفتح أوله ويجوز ضمّه- أي: يطلع ويرفع (لي في تلك السّاعة خير» ) أي: عمل خير من النوافل؛ زيادة على ما كتب ليدلّ على كمال العبودية.
واستشكل هذا بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلّا بعد صلاة الصبح، ويبعد أنّ العمل يصعد قبل صعودهم!! وقد يراد بالصعود القبول.
(قلت) أي: - للنبي صلى الله عليه وسلّم- (: أفي كلّهنّ قراءة؟!) ؛ أي: قراءة سورة غير الفاتحة، وإلّا! فالنفل لا يصحّ بدون الفاتحة، كما هو معلوم.
(قال: «نعم» . قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟) ، أي: بين الركعتين الأوليين والركعتين الآخريين! (قال: «لا» ) . أي ليس فيهن تسليم فاصل.
وبهذا استدلّ من جعل صلاة النهار أربعا أربعا. ويمكن أن يقال: المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أنّ الأفضل مثنى مثنى؛ ليلا ونهارا، لخبر أبي داود وغيره: «صلاة اللّيل والنّهار مثنى مثنى» . وبه قال الأئمة الثلاثة. وقال أبو حنيفة: الأفضل أربعا أربعا مطلقا، ووافقه صاحباه في النهار؛ دون الليل.
وهذا الحديث وما في معناه حجّة لهم. انتهى «مناوي وباجوري» .(3/61)
ومعنى (لا ترتج) : لا تغلق.
وعن أمّ هانئ رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل، فسبّح- أي: صلّى ...
(ومعنى «لا ترتج» ) - بضم المثناة الفوقية الأولى وفتح الثانية وتخفيف الجيم- (لا تغلق) ؛ ذكره شرّاح «الشمائل» .
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه- باختلاف في الألفاظ-: كلّهم
(عن أمّ هانئ) - بالهمزة-: فاختة بنت أبي طالب (رضي الله تعالى عنها؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة)
لا يعارضه رواية الشيخين وغيرهما عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الفتح؛ فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب ... الحديث. لاحتمال تعدّد الواقعة؛ فمرّة كان في بيتها، ومرّة ذهبت له، أو كان في بيتها في ناحية عنها وعنده فاطمة، فمجيئها له لا ينفي كونه في بيتها، وكان ذهابها إليه لشكوى أخيها عليّ، إذ أراد أن يقتل من أجارته.
لكن وقع في «الموطأ» ومسلم؛ من طريق أبي مرة؛ عن أمّ هانئ «أنّها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم؛ وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل» .
ويجمع بينهما بأن ذلك تكرّر منه. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكّة؛ وكانت هي في بيت آخر بمكّة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل. فيصحّ القولان.
فعلى هذا يكون لها بيتان أحدهما كان صلى الله عليه وسلّم سكن فيه، والآخر سكناها، فالإضافة باعتبار مالكيّتها. انتهى. «جمع الوسائل ومناوي» .
(فاغتسل) أخذ منه الشافعية أنّه يسنّ لمن دخل مكة أن يغتسل أوّل يوم لصلاة الضحى؛ تأسّيا به صلى الله عليه وسلّم. (فسبّح؛ أي: صلى) ؛ من باب تسمية الكلّ باسم(3/62)
ثمان ركعات- ما رأيته صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قطّ أخفّ منها، غير أنّه كان يتمّ الرّكوع والسّجود.
البعض، لاشتمال الصلاة على التسبيح، وقد يطلق التسبيح على صلاة التطوّع على أنّ رواية «الصحيحين» : فصلّى (ثمان) منسوب إلى الثّمن، لأنّه الجزء الذي صيّر السبعة ثمانية؛ فهو ثمنها، ثم فتحوا أوّله، لأنّهم يغيّرون في النسبة، وحذفوا منها إحدى ياءي النسب وعوّضوا منها الألف، وقد تحذف منه الياء، ويكتفى بكسر النون، أو يفتح تخفيفا. كذا حقّقه العلّامة الكرماني. انتهى. «مناوي وملّا علي قاري»
(ركعات) زاد ابن خزيمة في روايته؛ عن أمّ هانئ: «فسلّم من كلّ ركعتين» وفيه ردّ على من تمسّك به في صلاتها موصولة، سواء صلّى ثمان ركعات؛ أو أقل.
ولمسلم أنّه صلى الله عليه وسلّم صلّى في بيتها عام الفتح ثمان ركعات في ثوب واحد؛ قد خالف بين طرفيه (: ما رأيته) ، أي: النبي (صلى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قطّ) ؛ أي: أبدا (أخفّ منها) أي: من تلك الصلاة التي صلّاها صلى الله عليه وسلّم.
زاد في رواية مسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول؛ أم ركوعه؛ أم سجوده!!.
ولا يؤخذ من هذا الحديث ندب التخفيف في صلاة الضحى؛ خلافا لمن أخذه، لأنّه لا يدلّ على أنّه واظب على ذلك، بخلافه في سنة الفجر.
بل ثبت أنّه طوّل في صلاة الضحى؛ كما رواه ابن أبي شيبة. وإنّما خفّفها يوم الفتح!! لاشتغاله بمهمّاته.
(غير أنّه) - نصب على الاستثناء-، ولعلّه لما كان ينشأ من قولها «ما رأيته صلّى صلاة قطّ أخفّ منها» توهّم أنه لم يتمّ الركوع والسجود؛ دفعت ذلك التوهّم بأنّه صلى الله عليه وسلّم (كان يتمّ الرّكوع والسّجود) يعني: لا يخفّفهما جدّا، وإلّا فهو يتمّ سائر الأركان مع التخفيف.(3/63)
[وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة في تمام] «1» .
وعن أبي واقد اللّيثيّ رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة على النّاس، وأطول النّاس صلاة لنفسه.
(و) أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» ، والترمذيّ، والنّسائي (عن أنس رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس) - لفظ رواية مسلم:
«من أخفّ الناس» - (صلاة) إذا صلّى إماما؛ لا منفردا، كما صرّح به الحديث الآتي عقبه.
(في تمام) للأركان. قيّد به!! دفعا لتوهّم من يفهم أنّه ينقص منها حيث عبّر ب «أخفّ» .
قال ابن تيمية: فالتخفيف الذي كان يفعله هو تخفيف القيام والقعود؛ وإن كان يتمّ الركوع والسجود ويطيلهما؛ فلذلك صارت صلاته قريبا من السواء.
وقال بعضهم: محمول على بعض الأحوال، وإلّا!! فقد ثبت عنه التطويل أيضا جدّا أحيانا، وفي رواية لمسلم أيضا: كان يوجز في الصلاة ويتمّ. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو يعلى بإسناد جيد؛ (عن أبي واقد) - بقاف مهملة- (اللّيثيّ) بمثلاثة بعد التحتية، واسمه: الحارث بن مالك المديني، شهد بدرا (رضي الله تعالى عنه) قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة على النّاس) - يعني: المقتدين به- (وأطول النّاس صلاة لنفسه) ، ما لم يعرض ما يقتضي التخفيف؛ كما فعل في قصّة بكاء الصبي ونحوه.
__________
(1) إضافة من الشارح.(3/64)
وعن عبد الله بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في بيتي، والصّلاة في المسجد؟
قال: «قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد؛ إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» ؛ وفيه- كالذي قبله- أنّه يندب للإمام التخفيف من غير ترك شيء من الأبعاض والهيئات، لكن لا بأس بالتطويل برضاهم؛ إن انحصروا، كما استفيد من حديث آخر. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج ابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ؛
(عن عبد الله بن سعد) الأنصاري الحرامي- وقيل: القرشي الأموي- عمّ حرام بن حكيم، صحابيّ؛ نقل أنه شهد فتح القادسية، وكان يومئذ على مقدّمة الجيش.
روى عنه حرام بن حكيم وخالد بن معدان.
وزعم الخطيب: أن حرام بن حكيم هذا هو حرام بن معاوية الأنصاري، وأنّهما متّحدان!! وقد فرّق بينهما البخاريّ، والدارقطني، والعسكري وغيرهم.
انتهى «إصابة» . (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في بيتي؛ والصّلاة في المسجد؟!) ؛ أي:
أيّتهما أفضل، والمراد صلاة النفل (قال: «قد) : للتحقيق (ترى) : الرؤية بصرية، والخطاب لعبد الله بن سعد (ما أقرب بيتي من المسجد) أي: قد ترى كأقرب بيتي من المسجد (فلأن أصلّي في بيتي) الفاء: فصيحة، و «أن» مصدرية؛ أي: إذا كنت ترى ذلك؛ فلصلاتي في بيتي مع كمال قربه من المسجد (أحبّ إليّ من أن أصلّي) ؛ أي: من صلاتي (في المسجد) أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، ولتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشيطان- كما سيأتي-.
(إلّا أن تكون) الصلاة (صلاة مكتوبة» ) ؛ أي: مفروضة، فإنّ الأحبّ إليّ(3/65)
أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، وتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشّيطان.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ البرد.. بكّر بالصّلاة، وإذا اشتدّ الحرّ.. أبرد بالصّلاة.
صلاتها في المسجد، لأنها من شعائر الإسلام، وقول (أي: لتحصل البركة للبيت وأهله) ؛ أي: بصلاة النفل فيه، (وتنزل الملائكة) لاستماع القرآن، (وليذهب عنه الشّيطان) ؛ بسبب وجود العبادة وعدم الغافلة.
ومعنى الحديث: أنّه مع كمال قرب بيتي من المسجد صلاتي في بيتي أحبّ إليّ من صلاتي في المسجد إلّا المكتوبة. وهو معنى حديث «الصحيحين» : «أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» . وفي «الصحيحين» : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتّخذوها قبورا» . وكذلك يستثنى من النفل ما تسنّ فيه الجماعة، والضحى، وسنّة الطواف، والإحرام، والاستخارة.. وغير ذلك ممّا هو مبيّن في الفروع. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج البخاري والنّسائيّ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ البرد بكّر بالصّلاة) ؛ أي: بصلاة الظهر، يعني صلّاها في أوّل وقتها، وكلّ من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه.
(وإذا اشتدّ الحرّ أبرد بالصّلاة) ؛ أي: دخل بها في البرد، بأن يؤخّرها إلى أن يصير للحيطان ظلّ فيه يمشي قاصد الجماعة.
قال المناويّ: قال الإمام البخاريّ: يعني هنا صلاة الجمعة؛ قياسا على الظهر، لا بالنصّ؛ لأن أكثر الأحاديث تدلّ على الإبراد بالظهر، وعلى التبكير بالجمعة مطلقا، وقوله- أعني البخاري- «يعني الجمعة» !! يحتمل كونه قول التابعي مما فهم، وكونه من تفقّهه؛ فترجّح عنده إلحاقا بالظهر، لأنها إما ظهر(3/66)
.........
وزيادة، أو بدل عن الظهر، لكنّ الأصحّ من مذهب الشافعي عدم الإبراد بها. انتهى.
وإنّما يسنّ الإبراد عند الشافعية بشروط: 1- كونه بصلاة الظهر، و 2- كونه في الحرّ الشديد، و 3- كونه بالبلد الحارّ، و 4- كونه لمن يصلّي جماعة، و 5- كونها تقام في موضع بعيد بأن يكون في مجيئه مشقّة تذهب الخشوع؛ أو كماله، و 6- كونهم يمشون إليها في الشمس.
فلا يسنّ الإبراد بالجمعة، ولا في غير شدّة الحرّ؛ ولو بقطر حار، ولا في قطر بارد؛ أو معتدل؛ وإن اتفق فيه شدّة حرّ، ولا لمن يصلي منفردا.
لكن اعتمد في «التحفة» و «النهاية» وغيرهما: أنّه يسنّ الإبراد لمنفرد يريد الصلاة في المسجد، ولا يسنّ الإبراد لمن يأتي من قرب، أو من بعد، لكن يجد ظلّا يمشي فيه، إذ ليس في ذلك كبير مشقّة.
وإذا سنّ الإبراد بالشروط المذكورة سنّ التأخير إلى حصول الظلّ الذي يقي طالب الجماعة من الشمس؛ وغايته نصف الوقت.
وهذا أحد المسائل المستثناة من قولهم «كلّ عبادة مؤقّتة فالأفضل تعجيلها أوّل الوقت» ، واستثنوا من ذلك فصولا؛ منها: الإبراد المذكور بشرطه، ومنها:
صلاة الضحّى أوّل وقتها طلوع الشمس، ويسنّ تأخيرها لربع النهار، ومنها: صلاة العيدين؛ يسنّ تأخيرها لارتفاع الشمس، ومنها: الفطرة أوّل وقتها غروب شمس ليلة العيد ويسنّ تأخيرها ليوم العيد، ورمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة والحلق كلّها يدخل وقتها بنصف ليلة النحر، ويستحبّ تأخيرها ليوم النحر.
وقد نظم هذه المستثنيات الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى؛ فقال:
أوّل الوقت في العبادة أولى ... ما عدا سبعة أنا المستقري
الضّحى العيد فطرة ثمّ ظهر ... حيث الابراد سائغ بالحرّ
وطواف الحجيج ثمّ حلاق ... بعد حجّ ورمي يوم النّحر(3/67)
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا.
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه- وفي رواية: حزنه- أمر.. صلّى؛ ...
(و) أخرج أبو نعيم في «أماليه الحديثية» ، والخطيب، وابن عساكر في «تاريخه» : كلّهم؛ (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) - وإسناده حسن؛ كما في العزيزي- قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا) كيف؛ وهو أعلم الناس بالله، وأعرفهم به!! ولهذا قام في الصلاة حتّى تورّمت قدماه.
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود؛ وسكت عليه (عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده «1» - وهو حديث صحيح؛ كما في العزيزي- قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه) - بحاء مهملة وزاي فموحدة مفتوحة مخففة- أي: هجم عليه، أو نزل به. (وفي رواية: حزنه) - بنون- (أمر) أي: أوقعه في الحزن، يقال: حزنني الأمر، وأحزنني الأمر؛ فأنا محزون. ولا يقال «محزن» .
(صلّى) ، لأن الصلاة معينة على دفع جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرّب إليه.
__________
(1) يجدر التنبيه أن والده ليس اسمه «اليمان» ! وإنما هو لقب له «هامش الأصل» . واسمه العلم: حسيل.(3/68)
أي: إذا نزل به همّ، وأصابه غمّ.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا.. لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين.
ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة؛ وهي ركعتان عقبها، وكان ابن عبّاس يفعل ذلك، ويقول: نفعل ما أمرنا الله به بقوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [153/ البقرة] . فينبغي لمن نزل به غمّ أن يشتغل بخدمة مولاه؛ من صلاة وذكر ونحوهما، فإنّه تعالى يفرّجه عنه. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
قال في «النهاية» : معنى إذا حزبه أمر: (أي: إذا نزل به همّ) ؛ هو الكرب يحصل بسبب ما يتوقّع حصوله من أذى، (وأصابه غمّ) الكرب: يحصل للقلب بسبب ما حصل من الأذى، وقيل: هما بمعنى واحد، وقال بالفرق بينهما القاضي عياض وغيره. انتهى شرح «القاموس» .
(و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ؛ (عن أنس) أي: ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلّم (رضي الله تعالى عنه) قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا) في سفره- لنحو استراحة؛ أو قيلولة؛ أو تعريس- (لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين) ؛ أي: نفلا غير الفريضة.
ويحتمل أنّ المراد به ركعتا الفرض؛ أي: الظهر مثلا مقصورة.
قال المناوي: قال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح السند معلول المتن؛ خرّجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة بلفظ «الظهر ركعتين» ، فظهر أنّ في رواية الأوّل وهما؛ أو سقوطا. والتقدير: حتى يصلّي الظهر ركعتين. وقد جاء صريحا في «الصحيحين» . انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.
(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في «الصلاة» وقال: على شرطهما؛ وأقرّه الذهبي، وقال العزيزي: إسناده صحيح-: كلّهم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:(3/69)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة؛ ليحافظوا عنه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارق مصلّاه سواكه ومشطه.
وروى الإمام أحمد، ...
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة) .
قال ابن حجر: وحبّ المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيء!! إما بإخباره للصحابي بذلك، وإما بالقرائن (ليحافظوا عنه) كيفية الصلاة المشتملة على فروض وأبعاض وهيئات؛ فيرشدون الجاهل وينبّهون الغافل.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي قال: (كان صلى الله عليه وسلم لا يفارق مصلّاه) موضع صلاته (سواكه) ؛ أي: آلة السواك (ومشطه) . ورمز له برمز الطبراني.
(وروى الإمام) الحافظ أبو عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي البغداديّ، الإمام البارع المجمع على جلالته وإمامته، وورعه وزهادته، وحفظه ووفور علمه، وسيادته.
خرج من مرو حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها إلى أن توفّي بها، ودخل مكّة والمدينة المنورة، والشام، واليمن، والكوفة، والبصرة، والجزيرة.
سمع سفيان بن عيينة، ويحيى القطّان، ووكيعا، وابن مهدي، وعبد الرزاق، وخلائق.
وروى عنه شيخه عبد الرزاق، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة الرازي، وبقي بن مخلد الأندلسي، وخلائق قال أبو حاتم:
كان أحمد ابن حنبل بارع الفهم بمعرفة صحيح الحديث وسقيمه.
وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة: أربع وستين ومائة، وتوفي في ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة: إحدى وأربعين ومائتين، ودفن ببغداد، وقبره مشهور معروف يتبرّك به رحمه الله تعالى.(3/70)
ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من صلاته.. استغفر (ثلاثا) ، ثمّ قال: ...
(و) الإمام (مسلم) بن الحجاج في «كتاب الصلاة» ،
(و) الإمام (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني في «الصلاة» أيضا
(و) الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) نسبة إلى «ترمذ» : مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له «جيحون» وتقدّمت ترجمته.
(و) الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار (النّسائيّ) - بفتح النون والسين المهملة المخفّفة-؛ بعدها ألف ممدودة؛ أو مقصورة؛ منسوب إلى «نسا» مدينة بخراسان، قال بعضهم:
والنّسئيّ نسبة لنسإ ... مدينة في الوزن مثل سبإ
(و) الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي «مولاهم» القزوينيّ المعروف بلقب (ابن ماجه) ؛ بسكون الهاء وصلا ووقفا لأنه اسم أعجمي، و «ماجه» لقب يزيد والد محمّد؛ لا جدّه كما في «القاموس» ، وقد تقدّمت ترجمته.
كلّهم رووه عن ثوبان مولى المصطفى صلى الله عليه وسلّم: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من صلاته) ؛ أي: سلّم منها (استغفر) ؛ أي: طلب المغفرة من ربّه تعالى (ثلاثا) من المرّات. زاد البزّار في روايته: «ومسح جبهته بيده اليمنى» .
قيل للأوزاعي- وهو أحد رواة الحديث-: كيف الاستغفار؟ قال: يقول «أستغفر الله.. أستغفر الله» .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ رحمه الله تعالى: استغفاره عقب الفراغ من الصلاة استغفار من رؤية الصلاة، أو للتشريع؛ تعليما لأمته، ويحتمل أن يكون لهما.
(ثمّ قال) ؛ بعد الاستغفار، والظاهر أنّ التراخي المستفاد من «ثمّ» غير مراد(3/71)
«اللهمّ؛ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .
هنا: ( «اللهمّ؛ أنت السّلام) - أي: المختصّ بالتنزّه عن النقائص والعيوب لا غيرك- (ومنك السّلام) ؛ أي: الأمان والسلامة من النقائص لمن أردت له ذلك. (تباركت) ؛ أي: تعظّمت وتمجّدت (يا ذا الجلال والإكرام» ) ، لا تستعمل هذه الكلمة في غير الله تعالى. انتهى عزيزي على «الجامع» .(3/72)
[الفصل الثّاني في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الثّاني في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم عن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قالت: كان يصوم حتّى نقول ...
(الفصل الثّاني) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة صومه صلى الله عليه وسلّم) والصوم والصيام كلاهما مصدر ك «صام» ، فهما بمعنى واحد.
وهو- لغة-: الإمساك؛ ولو عن الكلام ومنه إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [26/ مريم] أي: إمساكا عن الكلام.
وشرعا-: الإمساك عن المفطّرات جميع النّهار بنيّة. والمراد به هنا ما يشمل الفرض والنفل.
روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظه-: كلّهم يروونه
(عن عبد الله بن شقيق) العقيلي- مصغرا- تقدّمت ترجمته قريبا! (قال:
سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم!) ؛ أي: هل كان يديم الصيام أم لا؟! وهل كان يقلّ منه؛ أو يكثر؟ وهل كان يخصّ شهرا كاملا بالصوم؛ أم لا!؟ إلى غير ذلك مما يعرف ممّا يأتي.
(قالت: كان يصوم) - أي: يتابع صوم النفل- (حتّى نقول) - بالنون؛ أي: نحن في أنفسنا، أو: يقول بعضنا لبعض، وهذا هو الرواية؛ كما قاله(3/73)
قد صام- أي: داوم الصّوم- فلا يفطر، ويفطر حتّى نقول قد أفطر- أي: داوم الإفطار- فلا يصوم.
قالت: وما صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا كاملا منذ قدم المدينة.. إلّا رمضان.
وسئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان يصوم من الشّهر حتّى نرى ...
القسطلّاني- (قد صام) قال الباجوري: (أي: داوم الصّوم فلا يفطر) . انتهى.
(و) كان (يفطر) ؛ أي: يداوم الفطر (حتّى نقول) - بالنون؛ أي: نحن في أنفسنا، أو: يقول بعضنا لبعض- (قد أفطر) قال الباجوري: (أي: داوم الإفطار فلا يصوم) . انتهى.
(قالت) - أي عائشة- (: وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلّم شهرا كاملا) مقتضاه أنّه لم يصم شعبان كلّه، لكن في الرواية الآتية عن أمّ سلمة أنّه صامه كلّه!! ويجمع بينهما بحمل الكلّ على المعظم، حتى جاء في كلام العرب: إذا صام أكثر الشهر يقال صام الشهر كلّه، أو أنّه صامه كلّه في سنة وصام بعضه في سنة أخرى.
(منذ قدم المدينة) ، قد يفهم منه أنّه كان يصوم شهرا كاملا قبل قدومه المدينة، ويمكن أنّها قيّدته بذلك!! لأن الأحكام إنّما تتابعت وكثرت حينئذ، مع أنّ رمضان لم يفرض إلّا في المدينة في السنة الثانية من الهجرة.
(إلّا رمضان) سمّي بذلك!! لأنه حال وضع اسمه على مسمّاه وافق الرّمض؛ وهو شدّة الحرّ فسمّي ب «رمضان» ، أو لأنه يرمض الذنوب؛ أي يذهبها.
(و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ له-:
أنّه (سئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ فقال:
كان يصوم من الشّهر) أي: كان يكثر الصوم في الشهر (حتّى نرى) - بالنون(3/74)
ألايريد أن يفطر منه، ويفطر حتّى نرى ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته مصلّيا، ولا نائما إلّا رأيته نائما.
التي للجمع، أو [ترى] بالتاء التي للمخاطب؛ مبنيا للفاعل، أو [يرى] بالياء التي للغائب؛ مبنيا للفاعل، أو [يرى] للمفعول، فالروايات أربع- أي: نظنّ (ألايريد) - بنصب الفعل على كون «أن» مصدرية، وبالرفع على كونها مخفّفة من الثقيلة- (أن يفطر منه) ؛ أي: من الشهر.
(ويفطر) أي: يكثر الفطر (حتّى نرى) برواياته السابقة (ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت) - بفتح التاء على الخطاب- (لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا؛ إلّا رأيته مصلّيا؛ ولا نائما؛ إلّا رأيته نائما) ؛ أي: أنّ صلاته ونومه كان يختلف بالليل، لأنه ما كان يعيّن بعض الليل للصلاة وبعضه للنوم، بل وقت صلاته في بعض الليالي وقت نومه في بعض آخر، وعكسه، فكان لا يرتّب لتهجّده وقتا معينا، بل بحسب ما تيسّر له من القيام.
ولا يشكل عليه قول عائشة «كان إذا صلّى صلاة داوم عليها» ، وقولها «كان عمله ديمة» !! لأن اختلاف وقت التهجّد تارة في أوّل الليل؛ وأخرى في آخره! لا ينافي مداومة العمل، كما أنّ صلاة الفرض تارة تكون في أوّل الوقت، وتارة في آخره، مع صدق المداومة عليه؛ كما قاله ملّا علي قاري.
وإنّما ذكر الصلاة في الجواب؛ مع أنّ المسؤول عنه ليس إلّا الصوم!! إشارة إلى أنّه ينبغي للسائل أن يعتني بالصلاة أيضا.
والحاصل: أنّ صومه وصلاته صلى الله عليه وسلّم كانا على غاية الاعتدال، فلا إفراط فيهما؛ ولا تفريط. انتهى «باجوري» .
(و) أخرج النسائي، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» - وقال:
إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر- كلّهم؛(3/75)
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان ورمضان.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم أر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه.
(عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان) ، سمّي بذلك!! لتشعّبهم في المفازات بعد أن يخرج رجب، وقيل: لتشعّبهم في طلب الماء. وقيل غير ذلك.
(ورمضان) مقتضى هذا الحديث أنّه صام شعبان كلّه، وهو معارض لما سبق من أنّه ما صام شهرا كاملا غير رمضان، وتقدّم الجواب عن ذلك بأن المراد بالكلّ الأكثر، فإنّه وقع في رواية مسلم «كان يصوم شعبان كلّه، كان يصومه إلّا قليلا» .
قال النووي: الثاني مفسّر للأول، وبيان أن قولها «كلّه» أي: غالبه. فلعلّ أم سلمة لم تعتبر الإفطار القليل؛ وحكمت عليه بالتتابع لقلّته جدا.
(و) أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظها-:
(عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم في شهر) من الأشهر (أكثر) ؛ مفعول مطلق، وهو صفة لمحذوف: أي:
صياما أكثر (من صيامه في شعبان) .
والمعنى أنّه كان يصوم في شعبان وغيره، وكان صيامه في شعبان تطوّعا أكثر من صيامه في ما سواه.
(كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه) الإضراب بظاهره ينافي حديثها السابق أوّل الباب، فاحتيج للتوفيق بأنها أرادت صومه كلّه في سنين، فسنة يصوم من أوّله، وسنة من آخره، وسنة من وسطه، فصوم كلّه مبالغة في قلّة ما كان(3/76)
.........
يفطره، وليس على حقيقته، فكلمة «بل» للإضراب ظاهرا، وللمبالغة في كثرة الصوم باطنا، لئلا يتوهّم أن ما كان يفطره؛ وإن كان قليلا لكن له وقع كثلثه، فنبّهت عائشة رضي الله عنها بهذا الإضراب على أنه لم يفطر منه إلّا ما لا وقع له؛ كيوم أو يومين أو ثلاثة، بحيث يظنّ أنّه صامه كلّه، وفي الواقع لم يصمه كلّه؛ خوف وجوبه.
واعترض بأن «كلّ» المضافة إلى الضمير تتعيّن للتأكيد، والتأكيد ب «كلّ» لدفع توهّم عدم الشمول تجوّزا؛ فكيف يحمل المؤكّد بها على الشمول مجازا!!
واعتذر بأنّ التأكيد بها قد يقع لغير دفع المجاز، وهو؛ وإن كان فيه ما فيه؛ لكن ضرورة التوفيق بين أطراف الأخبار تحوج إلى إخراج بعض الألفاظ عن ظاهرها.
وأوضح من ذلك في التوفيق: ما ذكره ابن عبد البرّ أنّ أول أمره كان يصوم أكثره، وآخره كان يصوم كلّه. وإنما آثر المصطفى صلى الله عليه وسلّم شعبان على المحرّم؛ مع أنّه أفضل للصوم بعد رمضان- كما في مسلم؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «أفضل الصّيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرّم» -!! لأن شعبان لما اكتنفه شهران عظيمان اشتغل الناس بهما؛ فصار مغفولا عنه، مع ما انضم لذلك من رفع الأعمال فيه، أي: رفع جملة أعمال السّنة. أو أنّه لم يعلم فضل صوم المحرم إلّا في آخر حياته قبل التمكّن من صومه! أو أنّه كان يعرض له عذر يمنعه من إكثار الصوم في المحرم كمرض أو سفر! أو أنّه كان يشتغل عن صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؛ فتجتمع، فيقضيها في شعبان، كما في خبر الطبراني؛ عن عائشة رضي الله عنها «كان يصوم ثلاثة أيّام من كل شهر» ، فربما أخّر تلك حتّى يجتمع عليه صوم السنة؛ فيصوم شعبان!! أو أنّه كان يخصّ شعبان بالصيام تعظيما لرمضان، فيكون بمنزلة تقديم السنن الرواتب في الصلوات قبل المكتوبات.
ويؤيده حديث غريب عند الترمذي؛ أنّه سئل صلى الله عليه وسلّم: أيّ الصوم أفضل بعد(3/77)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيّام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة.
رمضان؟! قال: «شعبان لتعظيم رمضان» . انتهى شروح «الشمائل» .
(و) أخرج أبو داود؛ بدون قوله «وقلما ... إلى آخره» ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ وقال: حسن غريب- قال الحافظ العراقيّ: وقد صحّحه أبو حاتم، وابن حبان، وابن خزيمة، وابن عبد البرّ، وكان الترمذي اقتصر على تحسينه للخلاف في رفعه-!! كلّهم؛
(عن عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم من غرّة) - بضم الغين المعجمة وتشديد الراء؛ أي: أوّل- (كلّ شهر) والمراد هنا أوائله، لأن الغرّة أوّل يوم من الشهر. (ثلاثة أيّام) ؛ افتتاحا للشهر بما يحصل صوم كلّه، إذ الحسنة بعشر أمثالها، فقد ورد في الخبر: «صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر صوم الدّهر» أي: كصومه.
قال العراقي: ولا منافاة بين هذا الخبر وخبر عائشة الآتي «أنّه لم يكن يبالي من أيّ أيّام الشهر يصوم» ، لأن هذا الراوي حدّث بغالب ما اطّلع عليه من أحواله فحدّث بما عرف، وعائشة اطلعت على ما لم يطلع عليه.
(وقلّما كان يفطر) ؛ أي: قلّ إفطاره (يوم الجمعة) ، بل كان كثيرا ما يصومه، لكنه يضمّه إلى الخميس؛ أو السبت، فلا يخالف حديث النهي عن إفراده بالصوم، لأن النهي محمول على ما إذا لم يصم يوما قبله؛ أو بعده، فإفراد الجمعة مكروه، لأنه يوم عيد تتعلّق به وظائف كثيرة دينية، والصوم يضعف عنها، بخلاف ما لو ضمّ لغيره، ففضيلة المضموم له جابرة لما فات بسبب الضعف. هذا قصارى ما قاله علماء الشافعية؛ جمعا بين الأدلة.
والتأويل بأن صوم الجمعة من خصائصه!! يحتاج لدليل.(3/78)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتحرّى صوم الإثنين والخميس.
وقال في «جمع الوسائل» : وفيه دليل لأبي حنيفة ومالك حيث ذهبا إلى أن صوم يوم الجمعة وحده حسن، فقد قال مالك في «الموطأ» : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ممّن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن!! وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه؛ وأراه كان يتحرّاه!. انتهى كلامه.
وعند جمهور الشافعية يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلّا أن يوافق عادة له؛ متمسّكين بظاهر ما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو بعده» فتأويل الحديث عندهم: أنّه كان يصومه منضمّا إلى ما قبله [أو] إلى ما بعده. أو أنّه مختصّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم كالوصال- على ما قاله المظهري-.
ويؤيده قوله «لا يصوم أحدكم ... » المشعر بتخصيص الأمّة رحمة عليهم.
لكنه- كما قال الحافظ ابن حجر- ليس بجيّد، لأن الاختصاص لا يثبت بالاحتمال، ولم يبلغ مالكا النهي عن صوم يوم الجمعة فاستحسنه، وأطال في «موطّئه» وهو؛ وإن كان معذورا لكن السنّة مقدّمة على ما رآه هو وغيره. انتهى.
(و) أخرج الترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائيّ، وابن ماجه وإسناده حسن؛ كما في «العزيزي» -: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يتحرّى صوم الاثنين) - بهمزة وصل؛ أي: صوم يوم الاثنين- (والخميس) ؛ تحرّاه: تعمّده، أو: طلب ما هو الأحرى بالاستعمال، فالمعنى على الأول: يتعمّد صومهما؛ فيصبر عن الصوم منتظرا لهما، وعلى الثاني! معناه: يجتهد في إيقاع الصوم فيهما، لأن الأعمال تعرض فيهما؛ كما في الخبر الآتي، ولأنّه سبحانه وتعالى يغفر فيهما لكلّ مسلم إلّا المتهاجرين أي: المتقاطعين(3/79)
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم» .
حيث يحرم التقاطع. رواه الإمام أحمد، وسيأتي.
قال المناوي: واستشكل استعمال «الاثنين» بالياء مع تصريحهم بأن المثنى والملحق به يلزم الألف؛ إذا جعل علما وأعرب بالحركة!!
وأجيب بأنّ عائشة رضي الله تعالى عنها من أهل اللسان؛ فيستدلّ بنطقها على أنه لغة. وفيه ندب صوم الاثنين والخميس، وتحرّي صومهما، وهو حجّة على مالك في كراهته لتحرّي شيء من أيّام الأسبوع للصيام. انتهى.
(و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تعرض الأعمال) ؛ أي: أعمال الناس.
وهذا عرض إجمالي، فلا ينافي أنّها تعرض كلّ يوم وليلة؛ كما في حديث مسلم: «رفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النّهار، وعمل النّهار قبل عمل اللّيل» .
ولا ينافي أنّها تعرض ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر!! لأنّه عرض لأعمال السنة؛ وذاك عرض لأعمال الأسبوع.
فالعرض ثلاثة أقسام: 1- عرض لعمل اليوم والليلة؛ وهو تفصيلي، و 2- عرض لعمل الأسبوع، و 3- عرض لعمل السّنة. وهما إجماليان.
وحكمة تكرير العرض: إظهار شرف العاملين بين الملأ الأعلى، وإلّا! فهو تعالى غنيّ عن العرض، لأنه أعلم بعباده من الملائكة.
(يوم الاثنين والخميس) على الله تعالى؛ كما في «جامع الترمذي» ، وعند النسائي «على ربّ العالمين» (فأحبّ أن يعرض عملي) فيهما؛ (وأنا صائم) جملة حالية من فاعل «فأحب» ، والفاء لسببية السابق للاحق.(3/80)
وعن أبي هريرة أيضا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له.. فقال: «الأعمال تعرض كلّ إثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم.. إلّا المتهاجرين، فيقول: أخّروهما [حتّى يصطلحا] » .
تنبيه: ثبت في «صحيح مسلم» سبب آخر لصوم الاثنين؛ وهو أنّه سئل عن صومه، فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ» . ولا تعارض؛ فقد يكون للحكم سببان. انتهى (مناوي) .
(و) أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما في «العزيزي» -
(عن أبي هريرة أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر ما يصوم الاثنين والخميس) فصومهما سنّة مؤكّدة. (فقيل له) : لم تخصّهما بأكثريّة الصوم؟!.
(فقال) ؛ أي: المصطفى صلى الله عليه وسلّم (: «الأعمال تعرض) على الله تعالى (كلّ اثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم) ذنوبه المعروضة عليه بغير وسيلة طاعة، لكن الصغائر، فإن لم يوجد صغائر؛ أو كفّرت بخصال أخرى؟! فنرجو من فضل الله تعالى أن يكفّر من الكبائر بهذا.
وفي «فتح الباري» : أن كلّ نوع من الطاعات مكفّر لنوع مخصوص من المعاصي؛ كالأدوية بالنسبة للداءآت. انتهى.
(إلّا المتهاجرين) ، أي: المسلمين المتقاطعين؛ (فيقول) الله لملائكته (: أخّروهما [حتّى يصطلحا] ) » . أي: ولو بالمراسلة عند البعد.
قال المنذري: قال أبو داود: إذا كان الهجر لله تعالى؛ فليس من هذا. فإنّ النبي صلى الله عليه وسلّم هجر بعض نسائه أربعين يوما «1» !! وابن عمر هجر ابنا له حتّى مات.
__________
(1) المشهور أنه شهر. وكان تسعة وعشرين يوما!! فليحرر. (عبد الجليل) .(3/81)
.........
قال ابن رسلان: ويظهر أنّه لو صالح أحدهما الآخر؛ فلم يقبل؟ غفر للمصالح. انتهى.
وفي معناه خبر آخر رواه مسلم، والبخاري في «الأدب» ، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر فيهما لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلّا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا» .
وفي خبر آخر «اتركوا هذين حتّى يفيئا» .
وأخرج الحكيم الترمذيّ؛ عن والد عبد العزيز- كما في «الجامع الصغير» -:
«تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله تعالى، وتعرض على الأنبياء؛ وعلى الآباء والأمّهات يوم الجمعة. فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضا وإشراقا، فاتّقوا الله، ولا تؤذوا موتاكم» . انتهى.
قال المناوي: وفائدة العرض عليهم: إظهار الله للأموات عذره فيما يعامل به أحياؤهم من عاجل العقوبات وأنواع البليّات في الدنيا، فلو بلغهم ذلك من غير عرض أعمالهم عليهم لكان وجدهم أشدّ.
قال القرطبي: يجوز أن يكون الميت يبلّغ من أفعال الأحياء وأقوالهم بما يؤذيه؛ أو يسرّه بلطيفة يحدثها الله لهم في ملك يبلّغ، أو علامة، أو دليل، أو ما شاء الله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [61/ الأنعام] وعلى ما يشاء، وفيه زجر عن سوء القول في الأموات؛ وفعل ما كان يسرّهم في حياتهم، وزجر عن حقوق الأصول والفروع وبعد مماتهم بما يسؤهم من فعل؛ أو قول.
قال: وإذا كان الفعل صلة وبرّا؛ كان ضدّه قطيعة وعقوقا. انتهى كلام المناوي.(3/82)
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر صومه السّبت والأحد، ويقول: «هما يوما عيد المشركين فأحبّ أن أخالفهم» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «باب الصوم» ، والبيهقيّ في «سننه» : كلّهم؛
(عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها) ، وسببه أنّ كريبا أخبر أنّ ابن عبّاس وناسا من الصحابة بعثوه إلى أمّ سلمة يسألها؛ عن أيّ الأيام كان أكثر لها صياما؟! فقالت: يوم السبت والأحد، فأخبرهم؛ فقاموا إليها بأجمعهم؟! فقالت:
صدق، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر صومه) من الشهر (السّبت والأحد) ؛ أي: معا، لأن إفرادهما كيوم الجمعة مكروه.
وسمّي «السبت» بذلك!! لانقطاع خلق العالم فيه، لأن السبت هو القطع.
وسمّي «الأحد» بذلك!! لأنه أوّل أيّام الأسبوع عند جمع؛ ابتدأ فيه خلق العالم.
(ويقول: «هما يوما عيد المشركين) ؛ أي: اليهود والنصارى، لأن أصل كفر اليهود والنصارى بالشرك وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [30/ التوبة] .
(فأحبّ) - بصيغة المضارع- (أن أخالفهم» ) لأنهم يجعلونهما يومي لهو ولعب، فأنا أجعلهما يومي عبادة، وفيه أنّه لا يكره إفراد السبت مع الأحد بالصوم، والمكروه إنما هو إفراد السبت؛ لأن اليهود تعظّمه، والأحد؛ لأنّ النصارى تعظّمه، ففيه تشبّه بهم.
بخلاف ما لو جمعهما، إذ لم يقل أحد منهم بتعظيم المجموع. قال بعضهم:
ولا نظير لهذا في أنّه إذا ضمّ مكروه لمكروه آخر تزول الكراهة. انتهى «مناوي» .(3/83)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصوم من الشّهر السّبت والأحد والإثنين، ومن الشّهر الآخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس.
(و) أخرج الترمذي في «جامعه» ؛ من حديث خيثمة؛ وقال حسن- قال عبد الحق: والعلّة المانعة له من تصحيحه أنّه روي مرفوعا وموقوفا؛ وذا عند الترمذي علّة!! - قال ابن القطّان: وينبغي البحث (عن) سماع خيثمة من (عائشة رضي الله تعالى عنها) فإني لا أعرفه. انتهى.
(قالت) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يصوم من الشّهر السّبت) ، سمّي بذلك!! لأن السبت القطع، وذلك اليوم انقطع فيه الخلق، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستّة أيام؛ ابتدأ الخلق يوم الأحد وختمه يوم الجمعة بخلق آدم عليه السلام. وأمّا قول اليهود لعنهم الله «إنّ الله تعالى استراح فيه» !! فتولّى الله تعالى ردّه عليهم بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) [ق] . ومن ثمّ أجمعوا على أنه لا أبلد من اليهود، وكذا من تبعهم من المجسّمة!! كذا قال ملّا علي قاري.
(والأحد) سمّي بذلك!! لأنه أوّل ما بدأ الله الخلق فيه، وأول الأسبوع- على خلاف فيه-.
(والاثنين) ، سمّي بذلك!! لأنّه ثاني أيام الأسبوع- على الخلاف في ذلك-.
(ومن الشّهر الآخر الثّلاثاء) - بفتح المثلاثة مع المد-، (والأربعاء) - بتثليث الباء- (والخميس) بالنصب فيه وفيما قبله؛ على أنّه مفعول فيه ل «يصوم» .
قال المظهري: أراد صلى الله عليه وسلّم أن يبيّن سنّيّة صوم جميع أيام الأسبوع، فصام من شهر السبت والأحد والاثنين، ومن شهر الثلاثاء والأربعاء والخميس.
وإنّما لم يضمّ جميع هذه الستة متوالية!! لئلا يشقّ على الأمة الاقتداء به.(3/84)
وعن معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟ قالت: نعم، قلت: من أيّها كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟ قالت: كان لا يبالي من أيّها صام؛ أي:
من أوّله، ومن وسطه، ومن آخره.
ولم يذكر في هذا الحديث يوم الجمعة!! وقد ذكر في حديث آخر قبل هذا؛ وهو حديث ابن مسعود أنّه كان قلّما يفطر يوم الجمعة منفردا؛ أو منضمّا إلى ما قبله؛ أو ما بعده- على ما سبق تقريره هناك-.
وسمّيت «الجمعة» بذلك!! لأنّه تمّ فيه خلق العالم؛ فاجتمعت أجزاؤه في الوجود. انتهى «مناوي وجمع الوسائل» .
(و) أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه: كلّهم؛ (عن معاذة) العدوية (قالت:
قلت لعائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها (: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟! قالت) - أي- عائشة الصديقة (: نعم. قلت: من أيّها) ؛ أي: من أي الشهر (كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟!) .
لأنّ «أي» إذا أضيفت إلى جمع معرّف يكون السؤال لتعيين بعض أفراده، ك «أيّ الرجال جاء؟» أي: أزيد أم خالد؟.
(قالت) - أي- عائشة (: كان لا يبالي من أيّها صام. أي) كان يستوي عنده الصوم (من أوّله، ومن وسطه، ومن آخره) .
قال ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» : قال العلماء: ولعلّه صلى الله عليه وسلّم لم يواظب على ثلاثة معيّنة؛ لئلا يظنّ تعيينها وجوبا، فإنّ أصل السنّة يحصل بصوم أيّ ثلاثة من الشهر، والأفضل صوم أيّام البيض الثالث عشر وتالييه.
ويستحبّ صوم ثلاثة أيام من أوّل الشهر، لما سبق: من أنّه كان يصوم ثلاثة من(3/85)
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع صوم أيّام البيض في سفر ولا حضر.
و (أيّام البيض) : اليوم الثّالث عشر من الشّهر، ...
غرّة كلّ شهر، وكذا ثلاثة من آخره: السابع والعشرين؛ وتالييه، وممّن اختار صوم أيّام البيض كثير من الصحابة والتابعين.
قال القاضي: اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة المستحبّة في كلّ شهر!!! ففسّره جماعة من الصحابة والتابعين بأيّام البيض؛ وهي: الثالث عشر وتالياه؛ منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبو ذر رضي الله عنهم.
واختار إبراهيم النّخعي وآخرون ثلاثة في أوّله؛ منهم الحسن البصري.
واختارت عائشة رضي الله عنها وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر، ثمّ الثلاثاء والأربعاء والخميس من آخر.
وفي حديث رفعه ابن عمر: أوّل اثنين في الشهر وخميسان بعده. وأم سلمة أوّل خميس والاثنين بعده، ثم الاثنين.
وقيل: أوّل يوم من الشهر والعاشر والعشرون، وقيل: إنّه صام به مالك بن أنس.
وروي عنه كراهة صوم أيام البيض، ولعله مخافة الوجوب على مقتضى أصله!!
وقال ابن شعبان المالكي: أوّل يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون.
وعندي أنّه يعمل في كلّ شهر بقول، والباقي بقول الأكثر الأشهر، وهو أيام البيض، وإن قدر على الجمع بين الكلّ في كلّ شهر؛ فهو أكمل وأفضل. انتهى.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بسند حسن؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يدع صوم أيّام) الليالي (البيض في سفر ولا حضر) ؛ أي: كان يلازم صومها فيهما (وأيّام البيض) هي: (اليوم الثّالث عشر من الشّهر،(3/86)
والرّابع عشر، والخامس عشر. وسمّيت بيضا؛ لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة، ...
و) اليوم (الرّابع عشر) منه، (و) اليوم (الخامس عشر) منه.
(وسمّيت بيضا!! لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها) ؛ قاله العزيزي وغيره.
(و) أخرج البخاري، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذيّ في «الجامع» ؛ و «الشمائل» ، وابن ماجه- وهذا لفظ الترمذي-:
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء) - بالمدّ؛ وقد يقصر، وهو اليوم العاشر من المحرم- (يوما تصومه قريش) ؛ هم أولاد النضر بن كنانة، وقيل: أولاد فهر بن مالك (في الجاهليّة) ؛ أي: من قبل بعثته صلى الله عليه وسلّم المشرّفة بنعت الإسلام. والجاهلية: هي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وبشرائع الإسلام، ولعل قريشا تلقّوا صيامه من أهل الكتاب!
وقال القرطبي: ولعلّهم استندوا في صومه إلى شرع إبراهيم؛ أو نوح! فقد ورد في أخبار أنّه اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا، ولهذا كانوا يعظّمونه بكسوة الكعبة فيه.
وفي «المطامح» ؛ عن جمع من أهل الآثار: أنّه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى، وفيه استوت السفينة على الجودي، وفيه تيب على آدم، وفيه ولد عيسى، وفيه نجّي يونس من بطن الحوت، وفيه تيب على قومه، وفيه أخرج يوسف من بطن الجبّ.
وبالجملة: هو يوم عظيم شريف حتّى إنّ الوحوش كانت تصومه؛ أي:
تمسك عن الأكل فيه.(3/87)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصومه، فلمّا قدم المدينة..
صامه وأمر بصيامه، ...
وفي «صحيح مسلم» أنّ صوم عاشوراء يكفّر سنة، وصوم عرفة يكفّر سنتين.
وحكمته: أنّ عاشوراء موسويّ ويوم عرفة محمّديّ. وورد: «من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه السّنة كلّها» . وطرقه؛ وإن كانت ضعيفة؛ لكن قوّى بعضها بعضا.
وأمّا ما شاع فيه من الخضاب؛ والادّهان، والاكتحال، وطبخ الحبوب وغير ذلك!! فموضوع مفترى، حتى قال بعضهم: الاكتحال فيه بدعة ابتدعها قتلة الحسين.
لكن ذكر السيوطي في «الجامع الصغير» : «من اكتحل بالإثمد يوم عاشورا لم يرمد أبدا» . رواه البيهقي بسند ضعيف. انتهى «باجوري» .
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصومه) بمكّة كما تصومه قريش، ولا يأمر به.
(فلمّا قدم المدينة صامه وأمر) النّاس (بصيامه) . وفي الحديث اختصار يوضّحه ما رواه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم لمّا قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشورا، فسألهم عن ذلك!؟ فقالوا هذا يوم أنجى الله فيه موسى، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا؛ فنحن نصومه. فقال: «نحن أحقّ بموسى منكم» ! فصامه وأمر بصيامه.
واستشكل رجوعه إليهم في ذلك!! وأجيب باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، أو أخبره به من أسلم منهم؛ كابن سلام، على أنّه ليس في الخبر أنّه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة تصريح بأنّه كان يصومه قبل. فغاية ما في القصّة أنّه صفة حال وجواب سؤال؛ فلا تعارض بينه وبين خبر عائشة «إنّ أهل الجاهلية كانوا يصومونه» ، إذ لا مانع من توارد الفريقين مع اختلاف السبب في ذلك!!.(3/88)
فلمّا افترض رمضان.. كان رمضان هو الفريضة، وترك عاشوراء، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون صيامه صلى الله عليه وسلّم استئلافا لليهود؛ كما استألفهم باستقبال قبلتهم، وبالسدل، وغير ذلك!! وعلى كلّ حال؛ فلم يصحّ اقتداؤه بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك في الوقت الذي كان فيه يحبّ موافقة أهل الكتاب؛ فيما لم ينه عنه، فلما فتحت مكّة واشتهر أمر الإسلام أحبّ مخالفة أهل الكتاب؛ كما ثبت في «الصحيح» ، فهذا من ذلك. فوافقهم أوّلا؛ وقال:
«نحن أحقّ منكم بموسى» عليه الصّلاة والسّلام، فلما أحبّ مخالفتهم؛ قال في آخر حياته: «لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التّاسع» .
قال بعض العلماء: وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أنّه أراد نقل العاشر إلى التاسع. والثاني: أن يضيفه إليه في الصوم؛ مخالفة لليهود في إفرادهم اليوم العاشر. وهذا هو الراجح. ويشعر به بعض روايات مسلم.
ولأحمد؛ من حديث ابن عبّاس مرفوعا: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا يوما بعده» . ولذا قال بعض المحققين: صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: 1- أدناها: أن يصام وحده، 2- وفوقه: أن يصام التاسع معه، 3- وفوقه: أن يصام التاسع والحادي عشر معه. انتهى. من «جمع الوسائل» .
(فلمّا افترض) - بالبناء للمجهول- (رمضان) ؛ أي: افترض الله صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة (كان رمضان هو الفريضة) ؛ لا غيره، أي: انحصرت الفريضة فيه، فتعريف المسند مع ضمير الفصل يفيد قصر المسند على المسند إليه.
(وترك) - بالبناء للمفعول- (عاشوراء) ؛ أي: نسخ وجوب صومه، أو تأكّده الشديد؛ على الخلاف: في أنّه كان قبل فرض رمضان صوم واجب؛ أولا!! والمشهور عند الشافعية هو الثاني، والحنفية على الأوّل، فعندهم: أنّ صوم عاشوراء كان فرضا، فلما فرض رمضان نسخ وجوب عاشوراء، وهو ظاهر سياق الحديث، وعند الشافعية: أنّ صوم عاشوراء كان سنّة مؤكّدة ملتزمة تقرب من(3/89)
فمن شاء.. صامه، ومن شاء.. تركه.
وعن عليّ رضي الله [تعالى] عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ...
الفرض، فلما وجدت الفريضة الراجحة الأحقّ بالالتزام ترك عاشوراء؛ فلم يبق مؤكّدا، بل ترك إلى مطلق الندب.
(فمن شاء صامه، ومن شاء تركه) ، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة أنّه كان واجبا ثم نسخ الأمر به، ثم تأكّد بالنداء العامّ من حضرته عليه الصلاة والسلام يوم عاشوراء: «من كان لم يصم؛ فليصم، ومن كان أكل؛ فليتمّ صيامه إلى اللّيل» . ثم زيادته بأمر الأمّهات ألايرضعن فيه الأطفال، وردّ بما فيه من ركاكة وتعسّف بيّن.
قال الحافظ ابن حجر: وقول بعضهم «المتروك تأكّد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه» !! لا يخفى ضعفه، بل تأكّد ندبه باق، لا سيما مع الاهتمام به، حتّى في عام وفاته، فقد عزم في آخر عمره صلى الله عليه وسلّم أن يضمّ إليه التاسع. انتهى «مناوي» .
قال النووي في «شرح مسلم» : ويتمسّك أبو حنيفة بقوله «أمر بصيامه» والأمر للوجوب، وبقوله: فلمّا فرض رمضان؛ قال: «من شاء صامه، ومن شاء تركه» ، ويحتجّ الشافعية بقوله «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه» . وقوله «من شاء صامه، ومن شاء تركه» معناه: أنّه ليس متحتّما، فأبو حنيفة يقدّره: ليس بواجب، والشافعية يقدّرونه: ليس متأكّدا أكمل التأكيد.
وعلى المذهبين؛ فهو سنّة مستحبّة الآن؛ من حين قال النبي صلى الله عليه وسلّم هذا الكلام.
وقال في «جمع الوسائل» : قال العلماء: لا شكّ أنّ قدومه صلى الله عليه وسلّم المدينة كان في ربيع الأول، وفرض رمضان في شعبان من السنة الثانية، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلّا في سنة واحدة، ثم فوّض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» - بإسناد حسن؛ كما في «العزيزي» -
(عن) أمير المؤمنين (عليّ رضي الله عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم(3/90)
يوم عاشوراء، ويأمر به.
وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر:
أوّل إثنين من الشّهر، والخميس، والإثنين من الجمعة الآخرى.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه: ...
يوم عاشوراء) بمكّة كما تصومه قريش؛ ولا يأمر به، فلما قدم المدينة صار يصومه (ويأمر به) ؛ أي: بصومه أمر ندب، لأنّه يوم شريف أظهر الله فيه كليمه موسى على فرعون وجنوده، وفيه استوت السفينة على الجودي، وفيه تاب الله على قوم يونس، وفيه أخرج يوسف من السجن «1» ، وفيه أخرج يونس من بطن الحوت، وفيه صامت الوحوش. ولا بعد أن يكون لها صوم خاصّ!! كذا في «المطامح» .
انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي- ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، لكن قال الزيلعي: هو حديث ضعيف. وقال المنذري:
اختلف فيه على هنيدة راويه فمرّة قال-
(عن حفصة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) ، وأخرى عن أمّه؛ عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها!! وتارة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر: أوّل اثنين من الشّهر، والخميس، والاثنين من الجمعة الآخرى) . فينبغي لنا المحافظة على التأسّي به في ذلك.
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو بكر في «الغيلانيات» ؛ (عن جابر) أي: ابن عبد الله- لأنه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنه) وعن
__________
(1) الذي مرّ خروجه من الجب!!(3/91)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرّطب ما دام الرّطب، وعلى التّمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهنّ، ويجعلهنّ وترا؛ ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النّار.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أيضا: ...
والده قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرّطب؛ مادام الرّطب) موجودا، (وعلى التّمر؛ إذا لم يكن رطب) ؛ أي: إذا لم يتيسر ذلك الوقت.
(ويختم بهنّ) ؛ أي: يأكلهنّ عقب الطعام، لأنّه يصلحه، لا سيما الصّيحاني؛ فإنّه أجود تمر المدينة. كذا قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
(ويجعلهنّ وترا ثلاثا؛ أو خمسا؛ أو سبعا) . أخذ منه أنّه يسنّ الفطر من الصوم على الرطب، فإن لم يتيسر! فالتمر. والرّطب مع تيسّره أفضل ... وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم يعجبه الرّطب جدّا. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج أبو يعلى في «مسنده» ؛ (عن) إبراهيم بن حجّاج؛ عن عبد الواحد بن زياد؛ عن ثابت؛ عن (أنس) ، أي: ابن مالك- لأنه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنه) ، ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، وليس كما قال، فقد قال ابن حجر: إن عبد الواحد؛ قال فيه البخاري: إنّه منكر الحديث. وقال الحافظ الهيثمي: فيه عبد الواحد وهو ضعيف. ذكره المناوي.
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات) ؛ إن لم يجد رطبا، لأن التمر يردّ قوة البصر التي أضعفها الصوم، (أو) على (شيء) حلو (لم تصبه النّار) ؛ أي: ليس مصنوعا بنار؛ كالدبس وعسل النحل، فيندب لنا التأسّي به في ذلك.
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بإسناد صحيح- كما في العزيزي- (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه قال:(3/92)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم يكن رطبات.. فتمرات، فإن لم يكن تمرات.. حسا حسوات من ماء.
وعن أنس أيضا قال: ...
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفطر) من صومه (على رطبات قبل أن يصلّي) المغرب، (فإن لم يكن رطبات) ؛ أي: لم يتيسّر!! (فتمرات) ؛ أي: فيفطر على تمرات، والأفضل أن يكون وترا في الكلّ، (فإن لم يكن تمرات) ؛ ولا نحوها من كلّ حلو؛ أي: لم يتيسّر ذلك!! (حسا حسوات من ماء) . قال العلقمي:
الحسوات- بحاء وسين مهملتين- جمع حسوة- بالفتح-؛ وهي: المرّة من الشرب، والحسوة- بالضم-: الجرعة من الشّراب بقدر ما يحسى مرّة واحدة. انتهى.
قال ابن القيّم: في فطره عليها تدبير لطيف، فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا يجد الكبد منها ما يجذبه ويرسله إلى القوى والأعضاء؛ فيضعف، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد وأحبّه إليه، لا سيما الرطب، فيشتدّ قبولها؛ فتنتفع به هي والقوى. فإن لم يكن!! فالتمر لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن فحسوات تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم؛ فتنتبه بعده للطعام وتتلقاه بشهوة. انتهى.
وقال غيره في كلامه على هذا الحديث: هذا من كمال شفقته على أمّته وتعليمهم ما ينفعهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلوّ المعدة أدعى لقبوله وانتفاع القوى؛ لا سيما القوّة الباصرة، فإنها تقوى به. وحلاوة المدينة المنوّرة التمر، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوت وأدم وفاكهة. وأما الماء! فإنّ الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء انتفعت بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظامئ الجائع البداءة بشرب ماء قليل؛ ثم يأكل. وفيه ندب الفطر على التمر ونحوه، فلو أفطر على خمر؛ أو لحم خنزير؟ صحّ صومه. انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والبيهقي في «سننه» بإسناد صحيح؛ (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال:(3/93)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزّلت عليكم الملائكة» .
وعن ابن الزّبير رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم) ؛ أي: نزل ضيفا عند قوم وهو صائم فأفطر، (قال) في دعائه لهم (: «أفطر عندكم الصّائمون) - خبر بمعنى الدعاء بالخير والبركة، لأن إفطار الصائمين يدلّ على اتساع الحال وكثرة الخير، إذ من عجز عن نفسه؛ فهو عن غيره أعجز. انتهى «مناوي» . - (وأكل طعامكم الأبرار) - قال المظهري: دعاء أو إخبار، وهذا الوصف موجود في حقّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم؛ لأنّه أبرّ الأبرار- (وتنزّلت) - وفي رواية الطبراني: وصلّت- (عليكم الملائكة» بالرحمة والبركة.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد حسن- كما في «العزيزي» -
(عن ابن الزّبير) - هكذا هو في «الجامع الصغير» بدون تسمية لابن الزبير، وسكت عليه شارحه، والمعروف أنّ المراد عند الإطلاق ب «ابن الزبير» هو عبد الله ابن الزبير (رضي الله تعالى عنه) ؛ وعن والده، وقد صرّح بتسميته في «شرح الأذكار» في «باب ما يقول إذا أفطر عند قوم» ؛ فقال: أخرجه الحافظ ابن حجر من طريق الطبراني؛ عن مصعب بن ثابت؛ عن عبد الله بن الزبير أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا أكل عند قوم؛ قال: «أكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» مختصرا. انتهى.
(قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم؛ قال «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» ) ؛ أي: استغفرت لكم ودعت لكم بالرحمة والبركة.
وأخرج ابن ماجه؛ من طريق مصعب بن ثابت؛ عن عبد الله بن الزبير؛ قال:(3/94)
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» .
وعن معاذ بن زهرة: ...
أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ؛ فقال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . انتهى.
(و) أخرج أبو داود، والحاكم بإسناد حسن- كما في «العزيزي» -
(عن ابن عمر) أي: عبد الله- لأنّه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر) من صومه؛ (قال: «ذهب الظّمأ) مهموز الآخر؛ بلا مدّ، أي: العطش- قال تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ [120/ التوبة] . ذكره في «الأذكار» قال: وإنما ذكرته؛ وإن كان ظاهرا!! لأني رأيت من اشتبه عليه فتوهّمه ممدودا.
(وابتلّت العروق) ، لم يقل ذهب الجوع أيضا، لأن أرض الحجاز حارّة، فكانوا يصبرون على قلّة الطعام؛ لا العطش، وكانوا يتمدّحون بقلّة الأكل؛ لا بقلّة الشرب.
(وثبت الأجر) ، يعني: زال التعب وبقي الأجر (إن شاء الله تعالى» ) ثبوته؛ بأن يقبل الصوم ويتولّى جزاءه بنفسه، كما وعد إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) [الرعد] .
(و) أخرج أبو داود في «سننه» و «مراسيله» ؛ (عن معاذ بن زهرة) ويقال:
أبو زهرة الضبي التابعي؛ قال في «التقريب» كأصله: مقبول أرسل حديثا فوهم من ذكره في الصحابة مرسلا، قال: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ... الخ؛ قال ابن حجر: أخرجه في «السنن» و «المراسيل» بلفظ واحد، ومعاذ هذا ذكره البخاري في التابعين، ولكنه قال: معاذ أبو زهرة. وتبعه ابن أبي حاتم، وابن حبّان في «الثقات» ، وعدّه الشيرازي في الصحابة، وغلّطه المستغفريّ، ويمكن كون(3/95)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» .
وعن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: ...
الحديث موصولا؛ ولو كان معاذ تابعيّا!! لاحتمال كون الذي بلّغه له صحابيا، وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في «السنن» ، وبالاعتبار الآخر أورده في «المراسيل» . انتهى ذكره المناوي على «الجامع» .
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر) من صومه (قال) عند فطره: «اللهمّ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» وفي رواية زيادة: «وبك آمنت، وعليك توكّلت» ، وفي رواية «فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» كما سيأتي. قال الطّيبي: قدّم الجارّ والمجرور في القرينتين على العامل!! دلالة على الاختصاص وإظهارا للاختصاص في الافتتاح، وإبداء لشكر صنيع المختصّ به في الاختتام.
انتهى «مناوي» .
(و) أخرج ابن السّنّي، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ (عن معاذ) - أي:
ابن زهرة الضبيّ التابعي (رضي الله تعالى عنه) مرسلا؛ وهو حديث ضعيف- كما في «العزيزي» (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر؛ قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» ) أي: يسّر لي ما أفطر عليه، فيندب قول ذلك عند الفطر من الصوم؛ فرضا أو نفلا.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، وابن السنّي؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) وهو حديث حسن لغيره- كما في العزيزي-؛ (قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أفطر) - أي: من صومه؛ ولو نفلا (قال) في دعائه:(3/96)
«اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» .
وعن علقمة قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصّ من الأيّام ...
( «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) - قدّم المعمول على العامل!! دلالة على الاختصاص- (فتقبّل منّي) - وفي رواية للدار قطني: «أفطرنا وتقبّل منّا» - (إنّك أنت السّميع) لدعائي (العليم» ) بحالي وإخلاصي، ولعلّه كان يأتي بالإفراد إذا أفطر وحده، وبالجمع إذا أفطر مع غيره!!.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم في «صحيحيهما» ، وأبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أبي شبل (علقمة) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النّخع النّخعي؛ الكوفي التابعي الكبير، الجليل الفقيه البارع، أحد الأعلام.
مخضرم؛ سمع عمر بن الخطاب، وعثمان، وعليا، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وحذيفة، وخبّابا، وأبا موسى الأشعري، وعائشة وغيرهم من الصحابة.
روى عنه أبو وائل، وإبراهيم النّخعي، والشعبي، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن يزيد، وأبو الضحى، وسلمة بن كهيل، وخلق من التابعين. وأجمعوا على جلالته وعظم محلّه، ووفور علمه، وجميل طريقته.
قال إبراهيم النّخعي: كان علقمة يشبّه بابن مسعود. وقال أبو سعد ابن السمعاني: كان علقمة أكبر أصحاب ابن مسعود وأشبههم هديا ودلّا.
توفي سنة: اثنتين وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين. والله أعلم. رحمه الله تعالى.
(قال: سألت عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها: أكان) - وفي رواية: هل كان- (رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخصّ) - وفي رواية: يختصّ- (من الأيّام(3/97)
شيئا؟ قالت: كان عمله ديمة، وأيّكم يطيق ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق؟
وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي امرأة، ...
شيئا) ؛ أي: يتطوّع في يوم معيّن بعمل مخصوص؛ فلا يفعل في غيره مثله، كصلاة وصوم؟!.
(قالت: كان) وفي رواية البخاري: قالت: لا، كان (عمله ديمة) - بكسر الدال؛ مصدر- أي: دائما. وأصل «ديمة» : دومة، لأنّه من الدوام، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، والمراد بالدوام: الغالب، أو الدوام الحقيقي، لكن ما لم يمنع مانع كخشية المشقّة على الأمّة؛ أو نحو ذلك.
فلا ينافي ذلك قول عائشة «كان صلى الله عليه وسلّم يصوم حتّى نقول: قد صام. ويفطر حتى نقول: قد أفطر» . ولا ينافي أيضا عدم مواظبته على صلاة الضحى؛ كما في بعض الروايات عند الترمذي- وقد تقدّم- ومنها حديث مسلم وغيره؛ عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلّي الضحى؟
قالت: لا، إلّا أن يجيء من مغيبه.
وبالجملة فكانت المواظبة غالب أحواله، وقد يتركها لحكمة. والله أعلم.
(وأيّكم يطيق ما) ؛ أي: وأيّ واحد منكم يطيق العمل الذي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطيق) الدوام عليه من غير ضرر؛ صلاة كان، أو صوما، أو نحوهما؛ خصوصا مع كمال عمله خشوعا وخضوعا وإخلاصا. ومناسبة هذا الحديث للباب!! شمولاه للصوم، وكذا يقال في الأحاديث بعده.
(و) أخرج الشيخان وغيرهما؛ كالترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-
(عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها؛ قالت: دخل عليّ) - بتشديد الياء- (رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعندي امرأة) زاد في رواية عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن هشام:(3/98)
فقال: «من هذه؟» ، قلت: فلانة؛ لا تنام اللّيل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم ...
حسنة الهيئة. ووقع في رواية مالك؛ عن هشام أنّها من بني أسد. أخرجه البخاري، ولمسلم من رواية الزّهري؛ عن عروة في هذا الحديث: أنّها الحولاء بالمهملة والمد- وهو اسمها بنت تويت- بمثنّاتين؛ مصغر- ابن حبيب- بفتح المهملة- ابن أسد بن عبد العزى؛ من رهط خديجة أم المؤمنين (فقال) ؛ أي:
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( «من هذه؟» قلت: فلانة) كناية عن كلّ علم مؤنّث، فهي غير منصرفة للعلمية والتأنيث، فقد صرّح النحاة بأنّه يكنّى ب «فلان» و «فلانة» عن أعلام الأناسي خاصّة، فيجريان مجرى المكنّى عنه؛ أي: يكونان كالعلم فلا تدخلها اللام، ويمتنع صرف «فلانة» ، ولا يجوز تنكير «فلان» ، فلا يقال جاءني فلان وفلان آخر. ذكره الرّضيّ وغيره.
(لا تنام اللّيل!) ؛ أي: تحييه بصلاة، وذكر، وتلاوة قرآن، ونحوها.
وظاهر هذه الرواية: أنّ المرأة عند عائشة حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ووقع في رواية الزهري عند مسلم «أنّ الحولاء مرّت به» . فيجمع بينهما بأنّها كانت أوّلا عند عائشة، فلما دخل صلى الله عليه وسلّم عليها قامت؛ كما في رواية أحمد بن سلمة؛ عن هشام ولفظه: كانت عندي امرأة، فلما قامت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من هذه يا عائشة؟» . فقلت: هذه فلانة؛ وهي أعبد أهل المدينة.
والحديث أخرجه الحسن بن سفيان في «مسنده» ؛ من طريق، فيحتمل أنّها لما قامت لتخرج فمرّت به في حال ذهابها؛ فسأل عنها. وبهذا يجمع بين الروايات.
ثم ظاهر السياق أنّها مدحتها في وجهها. وفي «مسند الحسن» ما يدلّ على أنّها قالت ذلك بعد ما خرجت المرأة، فتحمل رواية الكتاب عليه. انتهى «جمع الوسائل» .
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عليكم) - عبّر بقوله «عليكم» مع أن المخاطب(3/99)
من الأعمال ما تطيقون؛ فوالله لا يملّ [الله] حتّى تملّوا» ، وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ...
النساء!! إيماء لتعميم الحكم بتغليب الذكور على الإناث، أي: خذوا والزموا- (من الأعمال ما) - أي: العمل الذي- (تطيقون) الدوام عليه بلا ضرر، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد والاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكليف ما لا يطاق.
قال الحافظ ابن حجر: سبب وروده خاصّ بالصلاة؛ لكن اللفظ عامّ، وهو المعتبر. ويؤخذ منه- كما قال القسطلاني-: وجه مناسبة هذا الحديث بما قبله وبما بعده بعنوان الباب.
(فو الله) فيه دلالة على جواز الحلف من غير استحلاف، إذا أريد به مجرّد التأكيد، وفي رواية: «فإنّ الله (لا يملّ) - وفي أخرى: «لا يملّ الله- (حتّى تملّوا» ) - بفتح أوّلهما وثانيهما؛ مع تشديد اللام فيهما- وفي رواية: «لا يسأم حتّى تسأموا» وهي مفسّرة للأولى، وإسناد الملل والسامة إلى الله تعالى من قبيل المشاكلة والازدواج؛ نحو نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [67/ التوبة] أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) [الواقعة] لأن الملل مستحيل في حقّه تعالى، فإنّه فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه.
وهذا إنّما يتصوّر في حقّ من يتغيّر، والمراد لا يعرض الله عليكم، ولا يقطع ثوابه ورحمته عنكم حتّى تسأموا العبادة وتتركوها.
فهذا الحديث يقتضي أمرهم بالاقتصاد في العمل؛ دون الزيادة، لئلا يملّوا فيعرضوا فيعرض الله عنهم. وفيه الحثّ على الاقتصاد في العمل وكمال شفقة المصطفى صلى الله عليه وسلّم ورأفته؛ حيث أرشدهم لما يصلحهم مما يمكنهم المداومة عليه مع انبساط النفس وانشراح الصدر، لئلا يطيعوا باعث الشغف فيحمّلوا أنفسهم فوق ما يطيقون؛ فيؤدّي ذلك إلى عجزهم عن الطاعة. انتهى «مناوي» .
(وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم) أحبّ- بالرفع؛ أو النصب- فالأوّل(3/100)
الّذي يدوم عليه صاحبه.
وعن أبي صالح قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله [تعالى] عنهما: ...
على أنّه اسم «كان» وخبرها قوله (الّذي) ... الخ، فهو في محلّ نصب على هذا، والثاني على أنّه خبرها مقدّم، واسمها «الّذي» ، فهو في محلّ رفع على هذا.
وقوله (يدوم عليه صاحبه) ؛ أي: مداومة عرفية؛ لا حقيقية، لأن شمول جميع الأزمنة غير ممكن لأحد من الخلق، فإنّ الشخص ينام وقتا، ويأكل وقتا، ويشرب وقتا ... وهكذا.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أبي صالح) السّمان الزيّات التابعي؛ واسمه: ذكوان، وقيل له «السمان» و «الزيّات» !! لأنّه كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة.
وهو مدني غطفاني «مولى جويرية بنت الأحمس» ؛ سمع سعد بن أبي وقّاص وابن عمر، وابن عبّاس، وجابرا، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وأبا الدرداء، وأبا عياش الزّرقيّ، وعائشة. وسمع جماعة من التابعين.
روى عنه بنوه: سهيل؛ وعبد الله؛ وصالح، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن دينار، ومحمد بن سيرين، والزّهري، وحبيب بن أبي ثابت، ورجاء بن حيوة، ويحيى الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي، وخلائق من التابعين وغيرهم، وسمع منه الأعمش ألف حديث.
واتفقوا على توثيقه وجلالته. قال الإمام أحمد ابن حنبل: هو ثقة ثقة؛ من أجلّ الناس وأوثقهم، وشهد الدار زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، وتوفي بالمدينة المنورة سنة: إحدى ومائة رحمه الله تعالى.
(قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما) - بصيغة المتكلّم وحده؛ مبنيّا(3/101)
أيّ العمل كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالتا: ما ديم عليه، وإن قلّ.
وروى البخاريّ: عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان أحبّ الدّين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما داوم عليه صاحبه.
للمعلوم- ونصب الاسمين على المفعولية، وفي رواية: سئلت- بصيغة الغائبة؛ مبنيا للمجهول، ورفع ما بعده على النيابة-:
(أيّ العمل) أي: أيّ أنواعه (كان أحبّ) - يجوز رفعه ونصبه- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟! قالتا: ما ديم) - بكسر الدال؛ وفتح الميم ك «قيل» - أي: ما ووظب (عليه؛ وإن قلّ) العمل المداوم عليه، فإنّه خير من كثير منقطع، إذ بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والإخلاص، وهذه ثمرات تزيد على الكثير المنقطع أضعافا مضاعفة.
وبهذا الحديث ينكر أهل التصوّف ترك الأوراد والنوافل؛ كما ينكرون ترك الفرائض ...
وأخّر المصنف هذه الأحاديث إلى الصوم!! لأن كثيرا يداومون عليه أكثر من غيره؛ فذكر فيه ذلك زجرا لهم عن موجب الملال فيه وفي غيره، وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص عن تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تخفيف العبادة ومجانبة التّشديد. والله أعلم.
(وروى) الإمام الحافظ الحجّة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاريّ) في «صحيحه» ؛ في باب ... ، وكذا رواه مسلم في «صحيحه» ؛ في «كتاب الصلاة؛ باب فضيلة العمل الدائم» أثناء حديث المرأة التي تذكر من صلاتها (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّه) - أي: الشّأن- (كان أحبّ الدّين) - بكسر الدال: يعني التعبّد- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما داوم عليه صاحبه) ؛ وإن قل ذلك العمل المداوم عليه، يعني: ما واظب عليه مواظبة عرفية.(3/102)
.........
وإنّما كان أحبّ إليه!! لأن المداوم يدوم له الإمداد والإسعاد من حضرة الوهّاب الجواد، وتارك العمل بعد الشروع؛ كالمعرض بعد الوصل، وكالهاجر بعدما منحه من الفضل، وبدوام العمل القليل تستمرّ الطاعة والإقبال على الله؛ بخلاف الكثير الشاقّ. انتهى «مناوي» .(3/103)
[الفصل الثّالث في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الثّالث في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه ...
(الفصل الثّالث) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة قراءته صلى الله عليه وسلّم) للقرآن والمراد بصفة القراءة: الترتيل، والمدّ، والوقف، والإسرار، والإعلان، والترجيع ... وغيرها.
أخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-:
(عن) أبي عبد الرحمن (عوف بن مالك) بن أبي عوف الأشجعيّ الغطفاني صحابيّ مشهور (رضي الله تعالى عنه) .
قال الإمام النّووي: أوّل مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلّم خيبر، وشهد معه فتح مكة، وكانت معه راية أشجع، نزل الشام وسكن دمشق، وكانت داره عند سوق الغزل العتيق، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبعة وستّون حديثا؛ روى البخاري منها واحدا، ومسلم خمسة.
روى عنه: أبو أيوب الأنصاري، والمقدام بن معدي كرب، وأبو هريرة، وروى عنه من التابعين جماعات؛ منهم أبو مسلم؛ وأبو إدريس الخولانيان، وجبير بن نفير، ومسلم بن قرضة، وشدّاد أبو عمار، وراشد بن سعد، ويزيد بن الأصم، وسليم بن عامر، وسالم أبو النضر، وأبو بردة بن أبي موسى، وشريح بن عبيدة، وضمرة بن حبيب، وكثير بن مرّة وخلق سواهم.
واتفقوا على أنّه توفي بدمشق سنة: ثلاث وسبعين؛ في خلافة عبد الملك بن(3/104)
قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فاستاك، ثمّ توضّأ، ثمّ قام يصلّي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح (البقرة) ، فلا يمرّ باية رحمة.. إلّا وقف فسأل، ولا يمرّ باية عذاب.. إلّا وقف فتعوّذ، ثمّ ركع فمكث راكعا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه:
«سبحان ذي الجبروت والملكوت، ...
مروان رضي الله تعالى عنه. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى. وقال المناوي في «شرح الشمائل» : إنّه من مسلمة الفتح، وعزاه لابن حجر والذهبي. والله أعلم.
(قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة) من الليالي (فاستاك) ؛ أي: استعمل السّواك، (ثمّ توضّأ، ثمّ قام يصلّي) ؛ أي: يريد الصلاة (فقمت معه) - أي:
للصلاة معه والاقتداء به- (فبدأ) ؛ أي: شرع فيها بالنية وتكبيرة الإحرام (فاستفتح) سورة (البقرة) أي: شرع فيها بعد قراءة الفاتحة، (فلا يمرّ باية رحمة إلّا وقف) - أي: أمسك عن القراءة- (فسأل) الله الرحمة، (ولا يمرّ باية عذاب إلّا وقف فتعوّذ) - أي- من العذاب، فيسنّ للقارئ مراعاة ذلك؛ ولو في الصلاة، فإذا مرّ باية رحمة سأل الله الرحمة، أو باية عذاب تعوّذ بالله منه، وكذا إذا مرّ باية تسبيح سبّح أو بنحو أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين] قال «بلى؛ وأنا على ذلك من الشاهدين» ، أو بنحو وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [32/ النساء] قال «اللهم؛ إنّي أسألك من فضلك» . (ثمّ ركع) عطف على «استفتح» ، ولطول قراءته المؤدّي لتراخي الركوع من ابتدائها عبّر ب «ثم» ، (فمكث) - بفتح الكاف، وضمّها، وبالوجهين قرئ قوله تعالى فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [22/ النمل]- أي: فلبث (راكعا) مكثا طويلا (بقدر قيامه) الّذي قرأ فيه سورة البقرة بكمالها.
(ويقول في ركوعه) - عبّر بالمضارع!! استحضارا لحكاية الحال الماضية، وإلّا فالمقام للماضي-: ( «سبحان ذي الجبروت) ؛ أي: صاحب الجبر والقهر، ف «جبروت» بوزن «فعلوت» ؛ من الجبر. قال ملّا علي قاري: أي الملك الظاهر فيه القهر (والملكوت) أي: الملك الظاهر فيه اللطف. والمعنى بهما(3/105)
والكبرياء والعظمة» ، ثمّ سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده:
«سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ، ثمّ قرأ (آل عمران) ، ثمّ سورة سورة. يفعل مثل ذلك في كلّ ركعة.
مصرف أحوال الظاهر والباطن. انتهى ف «ملكوت» بوزن «فعلوت» ؛ من الملك. والتاء فيهما!! للمبالغة.
(والكبرياء) أي: الترفّع عن جميع الخلق مع انقيادهم له والتنزّه عن كلّ نقص (والعظمة» ) ؛ أي: تجاوز القدر عن الإحاطة. وقيل: الكبرياء: عبارة عن كمال الذات، والعظمة: عبارة عن كمال الصفات، أي: صاحب الكبرياء والعظمة على وجه الاختصاص بهما، فلا يوصف بهما غيره تعالى، كما يدلّ عليه الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته؛ ولا أبالي» ، أي: أهلكته.
(ثمّ سجد) أي: سجودا طويلا (بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: «سبحان ذي الجبروت، والملكوت والكبرياء والعظمة» ، ثمّ) بعد تمام الركعة الأولى والقيام للثانية (قرأ) سورة (آل عمران) بعد قراءة الفاتحة، (ثمّ سورة سورة) ؛ أي: ثم قرأ سورة «النساء» في الثالثة، ثم سورة «المائدة» في الرابعة، ففيه حذف حرف العطف بقرينة ما سبق في حديث حذيفة؛ من أنّه قرأ «النساء» و «المائدة» . فزعم أنّه تأكيد لفظيّ خلاف الظاهر (يفعل مثل ذلك) ؛ أي: حال كونه يفعل مثل ما تقدّم من السؤال والتعوّذ وتطويل الركوع والسجود؛ ( [في كلّ ركعة] ) بقدر قيامها.
قال المناوي: وصلاته صلى الله عليه وسلّم كانت مختلفة باختلاف الأزمنة والأحوال؛ فتارة يؤثر التخفيف، وأخرى التطويل، وأخرى الاقتصاد؛ بحسب اقتضاء المقام مع ما فيه من بيان جواز كلّ وجه.(3/106)
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية خوف.. تعوّذ، وإذا مرّ باية رحمة.. سأل، وإذا مرّ باية فيها تنزيه الله.. سبّح.
وعن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية فيها ذكر النّار.. قال: «ويل لأهل النّار، أعوذ بالله من النّار» .
قال الباجوري: وهذه الصلاة هي التراويح، وظاهر السياق أنّه صلاها بسلام واحد. انتهى.
ولا أدري ما هو مأخذه في تعيين كونها صلاة التراويح!! فليراجع.
(و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وأصحاب «السنن الأربعة» ؛
(عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده؛ (قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية خوف، تعوّذ) بالله من النار، (وإذا مرّ باية رحمة سأل) الله الرحمة والجنة، (وإذا مرّ باية فيها تنزيه الله؛ سبّح) . قال المناوي: أي قال «سبحان ربي الأعلى» ، فينبغي للمؤمنين سواه أن يكونوا كذلك، بل هم أولى به منه، إذا كان غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وهم من أمرهم على خطر! قال النووي: فيه استحباب هذه الأمور لكلّ قارئ في الصلاة؛ أو غيرها.
(و) أخرج ابن قانع في «معجمه» ؛ (عن أبي ليلى) - بلامين- الأنصاري والد عبد الرحمن بن أبي ليلى، واسمه: بلال، أو: داود بن بلال بن أحيحة بن الجلّاح، صحابي شهد أحدا وما بعدها، نزل الكوفة، له ثلاثة عشر حديثا، روى عنه ابنه عبد الرحمن؛ وله رواية عند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ، يقال: إنّه قتل بصفّين والله أعلم.
(رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية فيها ذكر النّار؛ قال: «ويل لأهل النّار، أعوذ بالله من النّار» ) وهذا تعليم للأمّة، وإلّا فهو(3/107)
وعن يعلى بن مملك ...
معصوم من العذاب! فيسنّ لكل قارئ اقتداء به.
قال المظهري وغيره: هذه الأشياء وشبهها تجوز في الصلاة وغيرها عند الشافعي رحمه الله تعالى.
وعند الحنفية والمالكية: لا يجوز إلّا في غير الصلاة، قالوا: لو كان في الصلاة لبيّنه الراوي، ولنقله عدّة من الصحابة مع شدّة حرصهم على الأخذ منه الصلاة لبيّنه الراوي، ولنقله عدّة من الصحابة مع شدّة حرصهم على الأخذ منه والتبليغ، فإذا زعم أحد أنّه في الصلاة حملناه على التطوّع.
وأجاب الشافعية بأنّ الأصل العموم، وعلى المخالف دليل الخصوص، وبأن من يتعانى هذا يكون حاضر القلب؛ متخشّعا خائفا راجيا؛ يظهر افتقاره بين يدي مولاه، والصلاة مظنّة ذلك، والقصر على النقل تحكّم.
وقال ابن حجر: أقصى ما تمسّك به المانع حديث «إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس» !! وهو محمول على ما عدا الدعاء؛ جمعا بين الأخبار. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» وهذا لفظ «الشمائل» -: حدّثنا قتيبة بن سعيد؛ قال: حدّثنا الليث؛ عن ابن أبي مليكة؛ (عن يعلى بن مملك) - بفتح الميم الأولى وسكون الثانية؛ وفتح اللام بعدها كاف، بوزن جعفر-
حجازيّ، روى عن أمّ الدّرداء؛ وأمّ سلمة، وعنه ابن أبي مليكة، وقد وثّق.
ذكره جمع؛ منهم الذهبي.
روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري؛ في «الأدب المفرد» ، قال الترمذي في «جامعه» - بعد ذكر حديثه الآتي-: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلّا من حديث ليث بن سعد؛ عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك؛ عن أمّ سلمة، وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن أبي(3/108)
أنّه سأل أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي تنعت قراءة مفسّرة حرفا حرفا.
وعن قتادة ...
مليكة؛ عن أم سلمة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقطّع قراءته، وحديث الليث أصحّ. انتهى كلام الترمذي في «جامعه» .
(أنّه) أي: يعلى بن مملك (سأل أمّ سلمة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها، عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم) أي: عن صفتها (فإذا) - الفاء للعطف، و «إذا» للمفاجأة، والتعبير بذلك يشعر بأنها أجابت فورا لكمال ضبطها وشدّة إتقانها- (هي) أي: أمّ سلمة (تنعت) - بفتح العين- أي: تصف؛ من قولهم «نعت الرجل صاحبه: وصفه»
(قراءة مفسّرة) - بفتح السين المهملة المشدّدة-؛ من الفسر؛ وهو البيان والإيضاح، ومنه التفسير. أي: مبيّنة مشروحة واضحة؛ حال كونها مفصولة الحروف (حرفا حرفا) ؛ أي: كلمة كلمة يعني مرتّلة محقّقة.
ونعتها لقراءته صلى الله عليه وسلّم!! يحتمل وجهين:
أحدهما: أنّها قالت كانت قراءته كذا وكذا،
وثانيهما: أنها قرأت قراءة مرتّلة مبيّنة؛ وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ مثل هذه القراءة.
(و) أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-:
(عن) أبي الخطّاب (قتادة) بن دعامة- بكسر الدال المهملة- ابن قتادة السدوسي البصري التابعي، ولد أعمى.
وسمع أنس بن مالك، وعبد الله بن سرجس، وأبا الطفيل، وابن المسيب، وأبا عثمان النهدي، والحسن البصري، وابن سيرين، وعكرمة، وزرارة بن(3/109)
قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: مدّا.
أوفى، والشّعبيّ وخلائق غيرهم من التابعين.
روى عنه جماعة من التابعين؛ منهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، والأعمش، وأيوب. وخلائق من تابعي التابعين؛ منهم: مطر الورّاق، وجرير بن حازم، وشعبة، والأوزاعي؛ وغيرهم.
وأجمعوا على جلالته وتوثيقه وحفظه، وإتقانه وفضله، وقدم قتادة على ابن المسيب؛ فسأله أيّاما فأكثر، فقال: تحفظ كلّ ما سألتني عنه؟! قال: نعم؛ سألتك عن كذا؛ فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا؛ فقلت فيه كذا. وقال فيه الحسن كذا؛ فذكر حديثا كثيرا؛ فقال ابن المسيب: ما كنت أظنّ الله خلق مثلك!! وذكره أحمد ابن حنبل فأطنب في الثناء عليه، وكان أحفظ أهل البصرة، ولا يسمع شيئا إلّا حفظه.
توفي قتادة سنة: سبع عشرة ومائة، وقيل: ثمان عشرة ومائة؛ وهو ابن ستّ وخمسين. رحمه الله تعالى.
(قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كيف كانت) ؛ أي: على أيّ صفة كانت (قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟!) : هل كانت ممدودة؛ أو مقصورة؟!.
(قال) : كانت قراءته (مدّا) بصيغة المصدر؛ أي: ذات مدّ.
وفي رواية للبخاري: كان يمدّ مدّا. وفي رواية: يمدّ صوته مدّا. يعني كان يمدّ ما كان من حروف المدّ واللّين مما يستحقّ المدّ مطوّلا؛ أو مقصورا؛ أو متوسّطا، من غير إفراط؛ لأنه مذموم. وليس المراد المبالغة في المدّ بغير موجب.
وفي رواية البخاري؛ عن أنس: كانت مدّا يمدّ «بسم الله» ، ويمدّ «الرحمن» ويمدّ «الرحيم» .(3/110)
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته؛ يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، ثمّ يقف، ثمّ يقول: ...
قال الحافظ ابن حجر: أي يمدّ اللام التي قبل الهاء في الجلالة، والميم التي قبل النون من «الرحمن» ، والحاء من «الرحيم» .
قال ملّا علي قاري: ولا يخفى أنّ المدّ في كلّ من الأسماء الشريفة وصلا لا يزاد على قدر ألف؛ وهو المسمى بالمدّ: الأصلي، والذاتي، والطبيعي، ووقف توسّط أيضا فيمدّ قدر ألفين، أو يطوّل قدر ثلاث لا غير، وهو المسمّى بالمدّ العارض، وعلى هذا القياس. وتفصيل أنواع المدّ محلّه كتب القراءة.
وأما ما ابتدعه قرّاء زماننا، حتى أئمة صلاتنا: أنّهم يزيدون على المدّ الطبيعي إلى أن يصل قدر ألفين وأكثر؛ وربّما يقصرون المدّ الواجب!! فلا مدّ الله في عمرهم، ولا أمدّ في أمرهم. انتهى.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» و «الجامع» ؛ وقال: حسن غريب، والحاكم؛ وقال على شرطهما. وأقرّه الذهبي، وقال العزيزي: حديث صحيح، وهذا لفظ «الشمائل» : حدّثنا عليّ بن حجر؛ قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأموي؛ عن ابن جريج؛ عن ابن أبي مليكة؛
(عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته) بتشديد الطاء؛ من التقطيع: وهو جعل الشيء قطعة قطعة- أي: يقف على فواصل الآي ... آية آية؛ وإن تعلّقت بما بعدها، فيسنّ الوقف على رؤوس الآي؛ وإن تعلّقت بما بعدها. كما صرّح به البيهقي وغيره.
وقول بعض القرّاء «الأولى الوقف على موضع يتمّ فيه الكلام» !! إنما هو فيما لا يعلم فيه وقف للمصطفى صلى الله عليه وسلّم، وإلّا! فالفضل والكمال في متابعته في كلّ حال.
(يقول «الحمد لله ربّ العالمين» ثمّ يقف) ، بيان لقوله «يقطّع» ، (ثمّ يقول(3/111)
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، ثمّ يقف، وكان يقرأ: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ثمّ يقف) ؛ أي: يمسك عن القراءة قليلا، ثم يقرأ الآية التي بعدها ... وهكذا إلى آخر السورة.
قال العلامة ملّا علي قاري: وهذا الحديث يؤيّد أنّ البسملة ليست من الفاتحة؛ على ما هو مذهبنا ومذهب الإمام مالك. انتهى.
لكن قال العلّامة المناوي في «شرح الجامع» : رواه الإمام أحمد، وابن خزيمة؛ عن أم سلمة بلفظ: كان يقطّع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة] انتهى. واحتجّ به القاضي البيضاوي وغيره على عدّ البسملة آية من الفاتحة. قال الدارقطني: وإسناده صحيح.
(وكان يقرأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ) أي: بالألف أحيانا، وإلّا! فالجمهور على حذف الألف؛ قاله ملا علي قاري.
قال شرّاح «الشمائل» : كذا هو بالألف في جميع نسخ «الشمائل» .
قال القسطلّاني. وأظنّه سهوا من النساخ!! والصواب «ملك» بلا ألف كما أورده المؤلف- يعني الترمذي في «جامعه» - وبه كان يقرأ أبو عبيد ويختاره، قال الترمذي في «جامعه» : هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتّصل، لأن الليث بن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة؛ عن يعلى بن مملك؛ عن أمّ سلمة، وحديث الليث أصحّ.
قال العسقلاني؛ نقلا عن ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. وأجلّ من سمع منهم عائشة الصديقة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، لكن أدرك من هو أعلى منهم؛ ولم يسمع منهم، كعليّ، وسعد بن أبي وقاص.(3/112)
وعن عبد الله بن قيس قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها:
عن قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أكان يسرّ بالقراءة أم يجهر؟
قالت: كلّ ذلك قد كان يفعل؛ ...
وإذا ثبت سماع ابن أبي مليكة من أمّ سلمة؛ فلم لا يجوز أن يسمع الحديث بهذا اللفظ من أم سلمة؛ وسمع الحديث من يعلى بن مملك عنها باللفظ المتقدّم!! بل نقول: رواية الليث من «المزيد في متّصل الأسانيد» . انتهى. ذكره ملا علي قاري رحمه الله تعالى.
(و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» . - واللفظ لها-.
(عن) أبي الأسود (عبد الله بن قيس) - ويقال: ابن أبي قيس، ويقال: ابن أبي موسى- النّصري- بالنون- الحمصي، روى عن أبي ذرّ وغيره، وعنه محمد بن زياد، ومعاوية بن صالح، وهو ثقة مخضرم، وثّقه النّسائي، روى له أصحاب «السنن الأربعة» ، والبخاري في «الأدب المفرد» .
(قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: بالليل كما صرّح به الترمذي في «جامعه» ؛ ولفظه: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم بالليل-؛
(أكان) - بإثبات أداة الاستفهام، وفي رواية بحذفها لكنها مقدّرة- أي: أكان (يسرّ بالقراءة) أي: يخفيها بحيث لا يسمعه غيره (أم يجهر!؟) ، أي: يظهرها بحيث يسمعه غيره، والباء زائدة للتأكيد نحو: أخذت الخطام؛ وأخذت به، فهو من قبيل تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [1/ الممتحنة] وذلك لتصريحهم بأن «أسرّ» يتعدّى بنفسه؛ يقال: أسرّ الحديث: أخفاه.
(قالت) أي: عائشة (: كلّ ذلك قد كان يفعل) برفع «كلّ» على أنّه مبتدأ؛ خبره الجملة مع تقدير الرابط؛ أي: قد كان يفعله، ونصبه على أنّه مفعول مقدّم، وهو أولى، لأنّه لا يحوج إلى تقدير الضمير، ثم فسّرت ذلك ووضّحته بقولها:(3/113)
قد كان «1» ربّما أسرّ، وربّما جهر. فقلت: الحمد لله الّذي جعل في الأمر سعة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ من اللّيل.. رفع طورا، وخفض طورا.
( [قد كان] ربّما أسرّ) أحيانا، (وربّما جهر) أحيانا، فيجوز كلّ منهما، والأفضل منهما ما كثر خشوعه وبعد عن الرياء، (فقلت) - القائل هو: عبد الله بن أبي قيس- (: الحمد لله الّذي جعل في الأمر) - أي: أمر القراءة من حيث الجهر والإسرار- (سعة) ، ولم يضيّق علينا بتعيين أحد الأمرين، لأنه لو عيّن أحدهما؛ فقد لا تنشط له النفس؛ فتحرم الثواب!! والسّعة من الله في التكاليف نعمة يجب تلقّيها بالشكر.
والسّعة بفتح السين، وكسرها لغة؛ وبه قرأ بعض التابعين في قوله تعالى وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [247/ البقرة] .
(و) أخرج أبو داود، والحاكم في «المستدرك» ، ومحمد بن نصر في «كتاب الصلاة» وسكت عليه أبو داود، والمنذريّ، فهو صالح: كلّهم؛
(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر اليماني الدوسي (رضي الله تعالى عنه) باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ محمد بن نصر:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ من اللّيل رفع) قراءته (طورا؛ وخفض طورا) ، ولفظ أبي داود؛ عن أبي هريرة: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا. ولفظ الحاكم؛ عن أبي هريرة: كان إذا قام من الليل رفع صوته طورا وخفض طورا. انتهى.
قال ابن الأثير: الطّور الحالة، أي: تارة يجهر في بعض الركعات، وتارة
__________
(1) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من «وسائل الوصول» .(3/114)
وعن أمّ هانئ رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم باللّيل، وأنا على عريشي.
وعن معاوية بن قرّة ...
يسرّ، وفيه أنّه لا بأس بإظهار العمل للناس لمن أمن على نفسه الرياء والإعجاب.
(و) أخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها-:
(عن أمّ هانئ) - بهمز في آخره- وهي أخت علي بن أبي طالب؛ واسمها فاختة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
كنت أسمع قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: وهو في صلاته (باللّيل) عند الكعبة؛ كما في رواية، فهذه القصة كانت قبل الهجرة (وأنا على عريشي) بإثبات الياء، وفي نسخ من «الشمائل» بحذفها.
والعرش والعريش: السرير، وجمعه عرش- بضمتين- كبريد وبرد، أي:
والحال أنّي نائمة على سريري.
وفي رواية النسائي وابن ماجه بلفظ: كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلّم؛ وهو يقرأ؛ وأنا نائمة على فراشي يرجّع بالقراءة. وفي رواية للنّسائي: وأنا على عريشي.
ويؤخذ من الحديث الجهر بالقراءة، حتى النفل ليلا، لكن الأفضل عند الشافعية للمصلي ليلا التوسّط؛ بأن يسرّ تارة ويجهر أخرى، وهذا في النفل المطلق، وأما غير النفل المطلق!! فيسنّ الإسرار، إلّا في نحو الوتر في رمضان فيسنّ فيه الجهر.
(و) أخرج البخاري، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها-: (عن) أبي إياس (معاوية بن قرّة) - بضم القاف وتشديد الراء- ابن إياس المزني البصري، يروي عن ابن مغفّل وعلي مرسلا، وابن عباس وابن عمر.(3/115)
قال: سمعت عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ناقته يوم الفتح وهو يقرأ: ...
ويروي عنه قتادة وشعبة وأبو عوانة وخلق، وثّقه ابن معين وأبو حاتم، وحديثه في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي، ومات سنة: - 113- ثلاث عشرة ومائة، ومولده يوم الجمعة رحمه الله تعالى.
(قال: سمعت عبد الله بن مغفّل) - بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الفاء المشددة- المزني المدني البصري، الصحابي الجليل، من أهل بيعة الرضوان.
وكنيته «أبو سعيد» ، وقيل «أبو عبد الرحمن» ، و «أبو زياد» .
سكن المدينة ثم تحوّل إلى البصرة وابتنى بها دارا قرب الجامع.
وكان أحد البكّائين الذين نزل فيهم قوله تعالى وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) [التوبة] .
وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى البصرة يفقّهون الناس، وهو أوّل من دخل مدينة «تستر» حين فتحها المسلمون.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم باخر.
روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم الحسن البصري، وأبو العالية، ومطرّف، ويزيد بن عبد الله، وآخرون.
وتوفي بالبصرة سنة: ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلّى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته بذلك (رضي الله تعالى عنه؛ يقول:
رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) راكبا (على ناقته) العضباء؛ أو غيرها (يوم الفتح) ؛ أي:
يوم فتح مكة (وهو يقرأ) فيه دلالة إلى أنّه صلى الله عليه وسلّم كان ملازما للعبادة حتّى في حال(3/116)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1- 2] .
قال: فقرأ ورجّع.
ركوبه وسيره. وفي جهره إشارة إلى أنّ الجهر أفضل من الإسرار في بعض المواطن، وهو عند التعظيم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)) [الفتح] أي: بيّنا واضحا لا لبس فيه على أحد.
وهذا الفتح هو فتح مكّة؛ كما روي عن أنس، أو فتح خيبر؛ كما روي عن مجاهد. والأكثرون على أنّه صلح الحديبية، لأنه أصل الفتوحات كلّها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [2/ الفتح] أي: لتجتمع لك هذه الأمور الأربعة؛ وهي 1- المغفرة، 2- وإتمام النعمة، 3- وهداية الصراط المستقيم، 4- والنصر العزيز، فكأنّه قيل: يسّرنا لك الفتح ليجتمع لك عزّ الدارين، وأغراض العاجل والآجل.
والمراد بالمغفرة: العصمة- على قول تقدّم-؛ أي: عصمناك من الذنوب فيما تقدّم من عمرك قبل نزول الآية، وما تأخّر منه.
والتحقيق- كما تقدّم في أول «الباب السادس» - أن المراد بالذنب ما هو من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ، لأنه صلى الله عليه وسلّم يترقّى في الكمال، فيرى أنّ ما انتقل عنه ذنب بالنسبة إلى الذي انتقل إليه. وقيل: المراد بالذنب ترك الأفضل.
انتهى «باجوري» .
(قال) أي ابن مغفّل: (فقرأ) - أي- سورة الفتح إلى آخرها كما اقتضته رواية البخاري، (ورجّع) - بتشديد الجيم- أي: ردّد صوته بالقراءة.
وقد فسّره عبد الله بن مغافل بقوله ءآءآءآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة «ثلاث مرات» ، وذلك ينشأ غالبا عن نشاط وانبساط كما حصل له صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح.
وزعم بعضهم أنّ ذلك كان من هزّ الناقة بغير اختياره!!(3/117)
قال: وقال معاوية بن قرّة: لولا أن يجتمع النّاس عليّ..
لأخذت لكم في ذلك الصّوت، أو قال: اللّحن.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ...
وردّ بأنه لو كان كذلك لما فعله عبد الله اقتداء به، وجاء في حديث آخر أنّه «كان لا يرجّع» . وهو محمول على أنّه كان يتركه أحيانا لفقد مقتضيه، أو لبيان أنّ الأمر واسع في فعله وتركه، أو أنّ المراد لا يرجّع ترجيعا يتضمّن زيادة أو نقصا؛ كهمز غير المهموز ومدّ غير الممدود، وجعل الحرف حروفا، فيجرّ ذلك إلى زيادة في القرآن؛ وهو غير جائز؛ والتلحين والتغنّي المأمور به ما سلّم من ذلك.
وقال ابن أبي جمرة: معنى الترجيع المطلوب: هو تحسين التلاوة، ومعنى الترجيع المنفي: ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة.
وقال الحافظ ابن حجر: المراد بالترجيع: الترتيل، وقد كثر الخلاف في التطريب والتغنّي بالقرآن. والحقّ أنّ ما كان سجيّة وطبعا محمود، وما كان تكلّفا وتصنّعا مذموم، وعلى ذلك تنزّل الأخبار؛ قاله المناوي والباجوري.
(قال) - أي- «شعبة؛ الراوي» عن معاوية المذكور، (وقال معاوية بن قرّة: لولا) مخافة (أن يجتمع النّاس عليّ) لاستماع ترجيعي بالقرآن لما يحصل لهم منها من الطرب (لأخذت) - أي: لشرعت- (لكم في ذلك الصّوت) ، وقرأت مثل قراءته، (أو) - للشك- (قال) معاوية (اللّحن) ؛ بدلا عن «الصوت» ، وهو- بفتح اللام وسكون الحاء- واحد «اللحون» ؛ وهو: التطريب والترجيع وتحسين القراءة، أو الشّعر، ويؤخذ من هذا: أنّ ارتكاب ما يوجب اجتماع الناس مكروه؛ إن أدّى إلى فتنة، أو إخلال بمروءة.
(و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كان قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) - أي-:(3/118)
ربّما سمعها من في الحجرة، وهو في البيت؛ أي: كان إذا قرأ في بيته.. ربّما يسمع قراءته من في حجرة البيت من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى..
قال: «بلى» ، وإذا قرأ:
بالليل في الصلاة؛ أو في غيرها (ربّما سمعها) - بحذف الياء، وفي رواية [يسمعها] بإثبات الياء فعلا مضارعا- (من في الحجرة) أي: صحن البيت، وهي الأرض المحجورة؛ أي: الممنوعة بحائط محوط عليها؛ (وهو في البيت؛ أي) : والحال أنّه صلى الله عليه وسلّم في البيت يعني: (كان إذا قرأ في بيته ربّما يسمع قراءته من في حجرة البيت من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات) ، لكونها قراءة متوسّطة بين الجهر والإسرار، فلا هي في غاية الجهر؛ ولا في غاية الخفاء.
وأشار بتعبيره ب «ربما» إلى أنّه كان لا يسمعها من في الحجرة إلّا إذا أصغى إليها وأنصت، لكونها إلى السّر أقرب.
(و) أخرج البيهقيّ في «شعب الإيمان» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ في (التفسير) وقال: صحيح وأقرّه الذهبي.
قال المناوي: وهو عجيب؛ ففيه يزيد بن عياض! وقد أورده الذهبيّ في «المتروكين» وقال النسائي وغيره: متروك؛ عن إسماعيل بن أمية، قال الذهبي:
كوفيّ ضعيف؛ عن أبي اليسع لا يعرف، وقال الذهبي في «ذيل الضعفاء والمتروكين» : إسناده مضطرب، ورواه في «الميزان» «1» في ترجمة أبي اليسع، وقال: لا يدرى من هو، والسند مضطرب. انتهى كلام المناوي.
كلاهما؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ) قوله تعالى (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)) [القيامة] (قال: بلى، وإذا قرأ
__________
(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال.(3/119)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ.. قال: «بلى» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.. قال: «سبحان ربّي الأعلى» .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)) [التين] (قال: «بلى» ) أي: في الصلاة، أو خارجها، فيسنّ قول «بلى» عند تلاوة هاتين الآيتين ونحوهما مما فيه استفهام تقريريّ، لأنه قول بمنزلة السؤال؛ فيحتاج إلى الجواب، ومن حقّ الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كهيئة الغافل، أو كمن لا يسمع إلّا دعاء ونداء من الناعق به، ومن ثمّ ندبوا لمن مرّ باية رحمة أن يسأل الله الرحمة؛ أو آية عذاب أن يتعوّذ من النار، أو بذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو بذكر النار أن يستعيذ بالله منها. انتهى «مناوي وحفني» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في «المستدرك» ؛ في «كتاب الصلاة» ؛ وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبي. وقال العزيزي: إنّه حديث صحيح.
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
أي: سورتها ونحوها من كلّ آية فيها تنزيه؛ (قال:
«سبحان ربّي الأعلى» ) أي: يقول ذلك عقب قراءتها، ويحتمل عقب قوله «الأعلى» ، فيسنّ لنا التسبيح عند تلاوة آية فيها تنزيه.
وأخذ من ذلك أنّ القارئ أو السّامع كلّما مرّ باية تحميد أن يحمده، أو تكبير أن يكبّره وقس عليه. انتهى مناوي وحفني على «الجامع» .
(و) أخرج أبو داود في «سننه» - بسند فيه بشر بن رافع الحارثي؛ وهو ضعيف، وقال ابن القطان: بشر يرويه عن أبي عبد الله «عمّ أبي هريرة» وهو لا يعرف حاله. والحديث لا يصحّ من أجله. انتهى مناوي على «الجامع» ومن ثمّ قال العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره-.(3/120)
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ..
قال: «آمين» ؛ حتّى يسمع من يليه من الصّفّ الأوّل.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث.
(عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تلا) قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة] قال:) في صلاته عقب الفاتحة:
( «آمين» ) بقصر، أو مدّ، وهو أفصح؛ مع خفّة الميم فيهما، أي: استجب.
ويقولها رافعا بها صوته قليلا (حتّى يسمع) - بضمّ أوّله- في الجهرية (من يليه من الصّفّ الأوّل) . فيسنّ للإمام قول «آمين» بعد الفاتحة، ويسنّ الجهر بها في الصلاة الجهرية، ويقارن المأموم تأمين إمامه؛ ليوافق تأمين الملائكة. انتهى.
شروح «الجامع الصغير» .
(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» بإسناد حسن؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث) . أي:
لا يقرؤه كاملا في أقلّ من ثلاثة أيّام، لأنّها أقلّ مدّة يمكن فيها تدبّره وترتيله،
لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي- وهو حديث حسن غريب- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث» ؛ أي: لأنّه ينقص فهمه وتدبره، لأنه يحتاج إلى مراعاة الألفاظ مع ما عنده من الاستعجال الشاغل عن التدبّر والتفهّم.
وجعلت الثلاث غاية في ذلك!! لأنها محتملة. أمّا من أراد فهم معناه على حقيقته!! فقد مضى عمره في فهم آية ولا يحيط بها؛ ولا ببعضها. هذا كلّه في تفهّم معانيه.(3/121)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. جمع أهله ودعا.
أمّا الثواب على قراءته!! فحاصل لمن قرأه سواء فهمه؛ أم لا، للتعبّد بلفظه، بخلاف غيره من الأذكار، فلا ثواب فيه إلّا إن فهمه؛ ولو بوجه. انتهى «شرح الأذكار» .
(و) في «الأذكار» للإمام النووي: روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين؛ عن قتادة التابعي الجليل الإمام «صاحب أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه» قال:
كان أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: هذا موقوف صحيح، وقد وجدت له طريقا أخرى مرفوعة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ختم) القرآن (جمع أهله ودعا) .
قال أبو نعيم الحافظ: غريب من حديث مسعر. قال الحافظ ابن حجر:
قلت: رواته موثّقون. انتهى ملخصا؛ من «شرح الأذكار» . وذكره في «كنوز الحقائق» للمناوي، وعزاه لابن النجار.
وقوله «ودعا» : أي: لأن الدعاء مستجاب عند ختم القرآن، بل الدعاء مستجاب عقب تلاوة القرآن من أيّ منه. والرحمة والسكينة تنزل على المجتمعين لدراسة القرآن الشريف، كما جاء في حديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يقرؤون القرآن ويتدارسونه إلا غشيتهم السّكينة ونزلت عليهم الرّحمة» .
وأخرج ابن الضّريس وغيره بسند فيه انقطاع؛ عن ابن مسعود قال: «من ختم القرآن؛ فله دعوة مستجابة» .
وكان عبد الله إذا ختم جمع أهله؛ ثم دعا وأمّنوا على دعائه.
وجاء في حديث مرفوع أخرجه الطبراني في «معجمه» بسند ضعيف؛ عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ختم القرآن فله دعوة مستجابة» .(3/122)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. يقرأ من أوّل القرآن خمس آيات.
وينبغي أن يكون الختم في أوّل النهار، أو في أوّل الليل، فقد روي مرفوعا؛ عن مصعب بن سعد؛ عن أبيه سعد بن أبي وقاص؛ قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ختم القرآن أوّل النّهار صلّت عليه الملائكة حتّى يمسي، ومن ختم أوّل اللّيل صلّت عليه الملائكة حتّى يصبح» . انتهى.
ويستحبّ حضور مجلس الختم لمن يقرأ، ولمن لا يحسن القراءة.
قال النووي: يستحبّ الدعاء عند الختم؛ استحبابا متأكّدا شديدا، لما قدّمناه.
وروّينا في «مسند الدارمي» ؛ عن حميد الأعرج رحمه الله تعالى قال: «من قرأ القرآن ثمّ دعا أمّن على دعائه أربعة آلاف ملك» :
وينبغي أن يلحّ في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمّة والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك أو كلّه في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم؛ وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم على البرّ والتقوى، وقيامهم بالحقّ، واجتماعهم عليه، وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين. انتهى.
وقد جمع ذلك «دعاء أبي حربه» المشهور بالبركة بين أهل اليمن، فينبغي قراءته عند كلّ ختم، وهو دعاء متداول عندهم؛ خصوصا في رمضان.
قال في «حواشي الجمل على الجلالين» ؛ نقلا عن القرطبي في مقدمة تفسيره: ومن حرمة القرآن أن يفتتحه كلّما ختمه حتّى لا يكون كهيئة المهجور، (و) كذلك (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا ختم) القرآن (يقرأ من أوّل القرآن خمس آيات) ؛ لئلا يكون في هيئة الهجرة. انتهى كلام الجمل.
ولم يبيّن مخرج هذا الحديث؛ ولا صحابيّه!! وفي «كنوز الحقائق» للمناوي عزو ذلك للحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» . ثم راجعت «نوادر الأصول»(3/123)
.........
فرأيت الكلام الذي نقله الجمل عن القرطبي مذكورا في «نوادر الأصول» برمّته، ولم يذكر صحابيّ الحديث!!
وفي «الأذكار النووية» : وإذا فرغ من الختمة!! فالمستحبّ أن يشرع في أخرى متّصلا بالختم، فقد استحبّه السّلف، واحتجّوا فيه بحديث أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «خير الأعمال الحلّ والرّحلة» قيل: وما هما؟
قال: «افتتاح القرآن وختمه» . انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: حديث أنس المذكور أخرجه ابن أبي داود بسند فيه من كذّب. وعجيب للشيخ كيف اقتصر على هذا، ونسب للسّلف الاحتجاج به؛ ولم يذكر حديث ابن عباس وهو المعروف في الباب!! وقد أخرجه بعض الستّة وصحّحه بعض الحفاظ.
ثمّ أخرج الحافظ ابن حجر؛ من طريق عن ابن عبّاس؛ قال: قال رجل:
يا رسول الله؛ أيّ العمل أفضل؟ قال: «عليك بالحالّ المرتحل» . قال:
وما الحالّ المرتحل؟! قال: «صاحب القرآن يضرب من أوّله إلى آخره، ويضرب من آخره إلى أوّله؛ كلّما حلّ ارتحل» .
ثم أخرجه الحافظ ابن حجر، عن ابن عبّاس من طريق آخر، لكن قال فيه:
«أيّ الكلام أحبّ إلى الله» ، ولم يقل في آخره «كلّما حلّ» !! قال الحافظ ابن حجر: حديث غريب أخرجه الترمذيّ عن الهيثم بن الربيع؛ عن صالح، وقال:
غريب لا نعرفه من حديث ابن عبّاس إلّا من هذا الوجه.
وفي «النهاية» أنّه سئل: أيّ الأعمال أفضل؟! فقال: «الحالّ المرتحل» قيل: وما الحالّ المرتحل؟! قال: «الخاتم المفتتح» هو الذي يختم القرآن بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوّله، شبّهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحلّ فيه، ثم يفتتح سيره؛ أي: يبتدئه. وكذلك قرّاء أهل مكّة إذا ختموا القرآن ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس آيات من أوّل سورة البقرة إلى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
[البقرة] ثم يقطعون(3/124)
.........
القراءة، ويسمّون فاعل ذلك «الحال المرتحل» ؛ أي أنّه ختم القرآن وابتدأ بأوّله؛ ولم يفصل بينهما بزمان.
وقيل: أراد «بالحال المرتحل» الغازي الذي لا يفعل إلّا عقّبه بأخرى! انتهى «شرح الأذكار» للشيخ محمد بن علي بن علان الصديقي المكي رحمه الله.(3/125)
[الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أذكار وأدعية]
الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أذكار وأدعية (الباب السابع) من الكتاب المشتمل على ثمانية أبواب (في) ذكر (أخبار) بالتنوين؛ جمع خبر، وهو مرادف للحديث.
وقيل: الحديث: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم، والخبر: ما جاء عن غيره، ومن ثمّ قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها «الإخباري» ، ولمن يشتغل بالسنّة النبوية «المحدّث» .
وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس.
(شتّى) - جمع شتيت؛ كمريض ومرضى- متفرقة (من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلّم) كالكلام على ريقه وفضلاته صلى الله عليه وسلّم (و) في (بعض أذكار) جمع ذكر؛ وهو- لغة-:
كلّ مذكور، وشرعا-: قول سيق لثناء؛ أو دعاء. وقد يستعمل شرعا أيضا لكلّ قول يثاب قائله.
(و) في ذكر بعض (أدعية) جمع دعاء، وهو الطلب على سبيل التضرّع.
وقيل: رفع الحاجات إلى رافع الدرجات.
واختلف؛ هل الدعاء أفضل، أم تركه؛ والاستسلام للقضاء أفضل؟!
فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادات.
ويؤيّده ما أخرجه الترمذيّ؛ وقال: غريب لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة من طريق أنس بن مالك رفعه: «الدّعاء مخّ العبادة» . انتهى أي: خالصها، لأن(3/126)
كان يقولها في أوقات مخصوصة وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة فصول الداعي يدعو الله عند انقطاع أمله عما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص؛ ولا عبادة فوقها، فكان مخّها بهذا الاعتبار. وأيضا لما فيه من إظهار الافتقار والتبرّي من الحول والقوّة، وهو سمة العبودية واستشعار ذلّة البشرية ومتضمّن للثناء على الله تعالى، وإضافة الكرم والجود إليه. انتهى.
(كان يقولها) ؛ أي: هذه الأذكار والأدعية (في أوقات) وحالات (مخصوصة) ؛ ك: عند رؤية الهلال، وسماع الرعد، وإذا عصفت الرياح ...
ونحو ذلك.
(و) في ذكر (ثلاثمائة وثلاثة عشر حديثا) . خصّ هذا العدد!! لأنه عدّة أصحاب طالوت، وعدّة أهل بدر رضوان الله عليهم.
(من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: كلمه الجوامع، وهي: ما قلّ لفظه وكثر معناه، أو التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة.
(وفيه) ؛ أي هذا الباب (ثلاثة فصول) يأتي بيانها.(3/127)
[الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم في «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: (ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختونا، مقطوع السّرّة.
(الفصل الأوّل) من الباب السابع (في) ذكر (أخبار) - بالتنوين- (شتّى) - بتشديد المثناة الفوقية؛ أي: متفرقة- (من أحواله صلى الله عليه وسلّم) : القولية والفعلية والخلقية.
(في) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلّم» (للقاضي عياض) بن موسى اليحصبي السّبتي أبي الفضل (رحمه الله تعالى) :
(ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مختونا) - أي لا قلفة له، (مقطوع السّرّة) - بضم السين- رواه أبو نعيم، والطبراني في «الأوسط» ، وفي «دلائل البيهقي» بسند ضعيف؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه ولد معذورا مسرورا؛ أي: مقطوع السرة مختونا، يقال: عذره، وأعذره: ختنه.
وروى الخطيب؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا؛ وصحّحه أيضا في «المختارة» : «من كرامتي على ربّي أنّي ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» ؛ قاله ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» .
وقال الشهاب الخفاجي: والّذي صحّحه المحدّثون- كما في «التمهيد» لابن عبد البر- أنّ جدّه عبد المطّلب ختنه يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه «محمدا» ، وكانت العرب تختن؛ لأنّه سنة توارثوها من إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وليس ذلك لمجاورة اليهود، وقد ورد هذا في قصة هرقل التي قيل له فيها: إن ملك الختان قد ظهر.(3/128)
وقد روي عن أمّه آمنة أنّها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر.
وروي أنّه صلى الله عليه وسلم ختن يوم شقّ قلبه الشريف؛ وهو عند مرضعته حليمة، وقد ذكره ابن القيّم في كتاب «الهدي» «1» ، وهو أرجح الأقوال، وطعن في القول الأول من الأقوال الثلاثة- يعني القول بأنه ولد مختونا-؛ وقال: إنّه روي في حديث لم يصحّ، وذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات» .
ومن الغريب قول الحاكم في «المستدرك» . إن الأخبار تواترت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا!! وتعقّبه الذهبيّ؛ وقال: لا نعلم صحّة ما ذكره؛ فكيف يكون متواترا!! والقول «بأنه أراد ب «تواتره» : شهرته بين الناس لا ما اصطلح عليه المحدّثون» بعيد.
وقد وقع في هذه المسألة نزاع بين ابن طلحة والكمال ابن العديم؛ فألّف ابن العديم في تأييد أنّه صلى الله عليه وسلم ختن بعد ولادته تأليفا أوضح فيه الدلائل والنقول، إلا أنّهم لم يرضوا قول ابن الجوزي «إنّه موضوع» وردّوه. انتهى كلام الخفاجي في «شرح الشفا» .
(وقد روي) في بعض الروايات (عن أمّه آمنة) - بالمدّ على وزن: فاعلة- وهي بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب، ولم تلد غيره صلى الله عليه وسلّم، ولم يتزوّج غيرها عبد الله على الأصحّ فيها. وفي اسم آمنة أمان أمّته.
وفي حليمة حلم. وفي بركة بركة، فتلك أمنة من سائر النقم.
(أنّها) أي: أمّه آمنة؛ (قالت: ولدته) صلى الله عليه وسلّم (نظيفا) أي: نقيّا (ما به قذر) بفتحتين- أي: شيء مما يكون على المولود من الوسخ والدّرن؛ كذا رواه ابن سعد في «طبقاته» .
وروي أنّه ولدته أمّه بغير دم؛ ولا وجع.
__________
(1) هو المشهور ب «زاد المعاد في هدي خير العباد» .(3/129)
وفي حديث عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى الله عليه وسلّم نام حتّى سمع له غطيط، فقام فصلّى، ولم يتوضّأ.
وولد عليه الصلاة والسلام بمكّة على الصحيح الذي عليه الجمهور في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، وهذه الدار بنتها بعد ذلك الخيزران جارية المهدي «أمّ الهادي والرشيد» مسجدا يصلّى فيه، والمشهور أنّه ولد في ربيع الأول، وهو قول الجمهور من العلماء، يوم الاثنين: ثاني عشر ربيع الأول. والله أعلم.
(وفي) البخاريّ ومسلم وغيرهما؛ من (حديث) أبي عبد الله (عكرمة) مولى ابن عبّاس الهاشمي المدني.
أحد فقهاء المدينة المنورة وتابعيها من الأئمة المقتدى بهم في التفسير والحديث.
أصله بربري من أهل المغرب، سمع الحسن بن عليّ، وأبا قتادة، وابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وأبا هريرة، وأبا سعيد، ومعاوية وغيرهم.
روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم أبو الشعثاء، والشعبي، والنّخعي، والسبيعي، وابن سيرين، وعمرو بن دينار، وخلائق غيرهم من التابعين وخلائق من غيرهم.
قال ابن معين: عكرمة ثقة. قال: وإذا رأيت من يتكلّم في عكرمة؛ فاتّهمه على الإسلام، وقال أبو أحمد بن عدي: لم يمتنع الأئمة من الرواية عن عكرمة، وأدخله أصحاب الصحّاح صحاحهم.
وتوفي سنة: أربع ومائة. وقيل: سنة سبع ومائة. وقيل غير ذلك.
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلى الله عليه وسلّم نام حتّى سمع له غطيط) ؛ أي: صوت يخرج مع نفس النائم، (فقام فصلّى؛ ولم يتوضّأ) ، لأنه صلى الله عليه وسلّم كان لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا، بخلاف غيره، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلّم.(3/130)
قال عكرمة: لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان محفوظا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتغوّط.. انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيّبة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّك تأتي الخلاء ...
(قال عكرمة) في بيان وجه ما ذكر (: لأنّه صلى الله عليه وسلّم كان محفوظا) من أن يخامر قلبه نوم؛ وإن خامر عينيه، لحديث: «إنّا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا» أو كما قال الحديث.
قال في «نظم البهجة الوردية» :
وبعض ما أكرمه الله به ... منامه بالعين؛ دون قلبه
(وكان صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتغوّط انشقّت الأرض فابتلعت غائطه) ؛ وهو الخارج من المحلّ المعتاد، وأصل الغائط: المكان المنخفض من الأرض تقضى فيه الحاجة؛ لأنه أستر، سمّي به الخارج من الإنسان مجازا مرسلا؛ علاقته المجاورة.
(و) ابتلعت (بوله وفاحت) - بالفاء- أي: ظهرت (لذلك) المذكور من البول والغائط (رائحة طيّبة) . وهذا الحديث رواه البيهقي؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ وقال: إنه موضوع، كما في «شروح الشفاء» .
(و) أسند محمد بن سعد «كاتب الواقدي» في هذا خبرا.
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم: إنّك تأتي الخلاء) بالمدّ؛ أي: المكان الخالي البعيد عن البيوت، لأنهم كانوا قبل وضع المراحيض فيها يأتونه لقضاء الحاجة، ثم عبّر به بعد ذلك عن محلّ التغوّط مطلقا، ثم صار عرفا: اسما للبناء المعدّ لذلك.(3/131)
فلا نرى منك شيئا من الأذى؟! فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما علمت أنّ الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يرى منه شيء» .
وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين منه صلّى الله عليه وسلّم، ...
(فلا نرى منك شيئا من الأذى؟!) بالذال المعجمة والقصر، المراد به هنا:
الغائط! (فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما) ؛- أي: أجهلت وما (علمت أنّ الأرض تبتلع) - أصل البلع: إدخال الطعام والشراب في الحنجرة والمري، فاستعير لمطلق الإخفاء، كما في قوله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [44/ هود] أي: تخفي- (ما يخرج من الأنبياء) - بحيث يغيب فيها- (فلا يرى منه شيء؟!» ) !؟: تفسير للمراد من البلع وتأكيد، وإخفاؤه مع طيبه وعدم استقذاره!! لأنه ينبغي ستره لكون ذلك من المروءة، أو لأنه يخشى من أخذ الناس له.
وروى الدارقطني في «أفراده» عنها قالت: قلت: يا رسول الله؛ أراك تدخل الخلاء، ثم يجيء الرجل يدخل بعدك؛ فما يرى لما خرج منك أثرا؟! فقال: «أما علمت أنّ الله أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء» !! انتهى «شرح الشفاء» .
وقد سئل الحافظ عبد الغني المقدسي: هل روي أنّه صلى الله عليه وسلّم كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟! فقال: قد روي ذلك من وجه غريب. والظاهر المنقول يؤيّده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنّه رآه؛ ولا ذكره، فلو لم تبتلعه الأرض لرئي في بعض الأوقات.
(وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين) ؛ أي: البول والغائط (منه صلى الله عليه وسلّم) . وعبّر عن الخارج ب «الحدثين» !! استهجانا للتصريح باسمهما، بل اختار جمع متقدّمون ومتأخّرون من الشافعية طهارة جميع فضلاته صلى الله عليه وسلّم؛ منهم القاضي حسين، والبغوي، والسبكي، والبارزي، والزركشي، وابن الرّفعة، والبلقيني، والقاياتي ... وأطالوا فيه.
وقال السبكي: إنه الذي أدين الله به. واعتمده الجمال الرملي في «النهاية» ، والخطيب الشربيني في «المغني» ؛ وفاقا للشهاب الرملي. بل قال الزركشي:(3/132)
وشاهد هذا أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيّب. ومن هذا حديث عليّ رضي الله [تعالى] عنه: غسّلت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذهبت أنظر ما يكون من الميت، ...
وينبغي طرد الطهارة في فضلات سائر الأنبياء. انتهى لكن الشيخان: الرافعي والنووي على خلافه، وإنّ حكمها منه كغيره. أي: أنّ حكم فضلاته صلى الله عليه وسلّم كفضلات غيره في النجاسة، وجرى عليه ابن حجر الهيتمي في «التحفة» .
ويؤيّد الأوّل أنّه صلى الله عليه وسلّم لم ينكر على ابن الزّبير حين شرب دمه، ولا على أم أيمن حين شربت بوله، ولا على من فعل مثل فعلهما، ولا أمرهم بغسل الفم، ولا نهاهم عن العود إلى مثله، بل أخبرهم بما لعلّه يحملهم على الحرص على التبرك بفضلاته.
ومن حمل ذلك على التداوي قيل له: قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أنّ الله تعالى لم يجعل شفاء الأمّة فيما حرم عليها. رواه ابن حبان في «صحيحه» ، فلا يصحّ حمل الأحاديث التي بعضها حسن على ذلك، بل هي ظاهرة في الطهارة.
قال الحافظ ابن حجر: قد تكاثرت الأدلّة على طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلّم، وعدّ الأئمة ذلك من خصوصيّاته «1» . انتهى.
(وشاهد هذا) ؛ أي: دليل القول بالطهارة (أنّه صلى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء يكره) عند ذوي الطباع السليمة، (ولا غير طيّب) وهذا دليل عقليّ مؤيّد لنظر الشرع.
(ومن هذا) ؛ أي: ومن الشاهد بأنه لم يكن منه شيء يكره؛ ولا غير طيّب (حديث عليّ) أمير المؤمنين (رضي الله عنه) الذي رواه ابن ماجه، وأبو داود في «مراسيله» أنّه قال:
(غسّلت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم) - بتشديد السين المهملة- لأنه المستعمل في الميت، ويخفّف في غيره كالثياب، (فذهبت أنظر ما يكون من الميت) ؛ من تغيّر رائحة
__________
(1) كما نص عليه الحافظ الكبير زين الدين العراقي- رحمه الله تعالى- في باب الخصائص من «ألفيته» فقال:
وبوله ودمه إذ أتي ... من شارب تبرّكا مانهي(3/133)
فلم أجد شيئا، فقلت: طبت حيّا وميتا. وسطعت منه ريح طيّبة لم نجد مثلها قطّ.
ومثله قال أبو بكر حين قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد موته.
ومنه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد، ومصّه إيّاه، ...
وخروج فضلات (فلم أجد شيئا!) ، وقد مكث صلى الله عليه وسلّم بعد موته يومين؛ فلم يتغيّر منه شيء.
(فقلت: طبت) - بفتح تاء الخطاب- (حيّا وميتا) ونصبهما على الحال.
قال علي: (وسطعت) أي: ارتفعت وانتشرت وفاحت (منه ريح طيّبة لم نجد مثلها قطّ) ، لأن طيبه يدلّ على طيب ما يحصل منه، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
(ومثله) ؛ أي: ومثل قول علي «طبت حيا وميتا» .
(قال أبو بكر) الصدّيق رضي الله تعالى عنه (حين قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بعد موته) رواه البزار؛ عن ابن عمر بسند صحيح، وهو بعض خبر في البخاري.
(ومنه) ؛ أي: ومن الشواهد على ما ذكر (شرب مالك بن سنان) بن سنان بكسر السين المهملة- والد أبي سعيد الخدري، وهو من كبار الصحابة؛ قتل شهيدا يوم أحد رضي الله تعالى عنهما (دمه) أي: دم النبي صلى الله عليه وسلّم (يوم أحد) بضمتين-: اسم جبل وقعت عنده الوقعة العظيمة المشهورة بغزوة أحد.
(ومصّه إيّاه) . رواه البيهقي، والطبراني في «معجمه الأوسط» ؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، والمصّ- بالميم والصاد المهملة-: أخذ المائع القليل بجذب النفس. وأشار بقوله «شربه ومصّه» إلى أنّه كان يفيض أوّلا، فلذا جعل أخذه بفيه وابتلاعه إيّاه شربا، ولما قلّ وجعل يجذبه منه بالمشقة جعله مصّا.(3/134)
وتسويغه صلّى الله عليه وسلّم ذلك له، وقوله: «لن تصيبه النّار» .
ومثله شرب عبد الله بن الزّبير ...
وروي ذلك مرفوعا: «من مسّ دمه دمي لم تصبه النّار» .
(وتسويغه صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: تجويزه (ذلك) ؛ أي: شرب دمه ومصّه (له) ، أي: لمالك بن سنان رضي الله تعالى عنه؛ من غير إنكار، فلو كان دمه الشريف غير طاهر لنهاه عن ازدراده.
(وقوله) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم لمالك ( «لن تصيبه النّار» ) كناية عن فوزه بنعيم الجنان.
وفي رواية سعيد بن منصور: «من سرّه أن ينظر إلى من خالط دمه دمي؛ فلينظر إلى مالك بن سنان» .
وفي رواية: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة؛ فلينظر إلى هذا» ، فاستشهد. رواها سعيد بن منصور؛ من طريق عمرو بن السائب بلاغا.
(ومثله) - وفي نسخة من «الشفاء» : و «منه» - أي: ومن الشاهد؛ كما رواه الحاكم، والبزّار، والبيهقي، والبغوي، والطبراني، والدارقطني، وغيرهم؛ من طرق يقوّي بعضها بعضا.
والعجب من قول ابن الصلاح «إنّ هذا الحديث لم أجد له أصلا!» وهو مذكور في هذه الأصول!!.
(شرب) - بضم الشين المعجمة- (عبد الله بن الزّبير) - بضمّ الزاي والتصغير- أحد العبادلة، الإمام الزاهد العابد، الشجاع بن الشجاع، أوّل مولود ولد للمهاجرين، وحنّكه النبيّ صلى الله عليه وسلّم بتمرة لاكها بفمه؛ فخالط ريقه ريقه.
وله رضي الله عنه من شرف النسب ما لا يوصل إليه؛ لأن أمّه أسماء بنت أبي بكر «ذات النطاقين» ، وأبوه الزبير بن العوّام رضي الله تعالى عنهما «أحد العشرة؛ سيف الله» ، وجدّته صفيّة رضي الله تعالى عنها بنت عبد المطلب، وخالته عائشة رضي الله تعالى عنها، وجدّه لأمّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. وكان(3/135)
دم حجامته، وقال له عليه الصّلاة والسّلام: «ويل لك من النّاس، وويل لهم منك» ، ...
صوّاما قوّاما لا ينام ليله، وكان أطلس: لا لحية له رضي الله تعالى عنه. (دم حجامته) صلى الله عليه وسلّم.
ولفظ الحديث؛ عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن أبيه؛ قال:
احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة؛ وقال: «اذهب؛ يا عبد الله فغيّبه» .
وفي رواية: «اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد» . فذهبت فشربته، ثم أتيته صلى الله عليه وسلّم؛ فقال «ما صنعت؟» قلت: غيّبته. قال: «لعلّك شربته!!» . قلت:
شربته.
وفي رواية: قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنّه خاف عن الناس.
قال: «لعلّك شربته!!» . قلت: شربته.
(وقال له عليه [الصّلاة] والسّلام: «ويل) - للتّحسّر والتألّم- (لك من النّاس) ؛ إشارة إلى محاصرته وتعذيبه، وقتله وصلبه على يد الحجاج، وقصّته مشهورة- (وويل لهم) - أي: للناس- (منك» ) لما أصابهم من حروبه؛ ومحاصرة مكّة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمّه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم وتخريب الكعبة، فهو بيان لما تسبّب عن شرب دمه، فإنّه بضعة من النبوة نورانية قوّت قلبه حتى زادت شجاعته، وعلت همّته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحقّ إمارة؛ فضلا عن الخلافة.
وزعم أنّه «إشارة إلى ما يلحقه من قدح الجهلة فيه بسبب شرب الدم» !! مما لا ينبغي ذكره، وسقوطه مغن عن ردّه.
وقد ورد عند الدارقطني في «سننه» ؛ من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما نحوه؛ ولفظه: قالت: احتجم صلى الله عليه وسلّم فدفع دمه لابني فشربه، فأتاه(3/136)
ولم ينكره.
جبريل فأخبره؛ فقال: «ما صنعت؟» . قال: كرهت أن أصبّ دمك. فقال صلى الله عليه وسلّم «لا تمسّك النّار» ، ومسح على رأسه. وقال: «ويل للنّاس منك، وويل لك من النّاس» .
(ولم ينكره) عليه! وهذا هو محطّ الدليل. فإنّ عدم إنكاره صلى الله عليه وسلّم دليل على جوازه وطهارته.
وقد سئل الحافظ ابن حجر عن الحكمة في تنوّع القول لابن الزبير ومالك بن سنان؛ مع اتحاد السبب!؟.
فأجاب بأن ابن الزبير شرب دم الحجامة، وهو قدر كثير يحصل به الاغتذاء، وقوّة جذب المحجمة تجلبه من سائر العروق؛ أو كثير منها، فعلم صلى الله عليه وسلّم أنّه يسري في جميع جسده؛ فتكتسب جميع أعضائه منه قوى من قوى النبي صلى الله عليه وسلّم فتورثه غاية قوّة البدن والقلب، وتكسبه نهاية الشهامة والشجاعة؛ فلا ينقاد لمن هو دونه بعد ضعف العدل وقلّة ناصره، وتمكّن الظّلمة وكثرة أعوانهم، فحصل له ما أشار إليه صلى الله عليه وسلّم من تلك الحروب الهائلة التي تنتهك بها حرمته الناشئة من حرمته صلى الله عليه وسلّم؛ وحرمة البيت العتيق، فقيل له «ويل له» لقتله وانتهاك حرمته، و «ويل لهم» لظلمهم وتعدّيهم عليه وتسفيههم.
وأما مالك بن سنان!! فازدرد ما مصّه من الجرح الذي في وجهه صلى الله عليه وسلّم؛ وهو أقلّ من دم الحجامة، وكأنه علم أنه يستشهد في ذلك اليوم، فلم يبق له من أحوال الدنيا ما يخبره به، فأعلمه بالأهمّ له ممّا يتلقاه من أنواع مسرّات الجنان. انتهى.
ولا عطر بعد عروس!.
وحاصله: أنّه اقتصر لمالك على التبشير بالجنة، وأنه لا تصيبه النار؛ لعدم بقاء شيء له من الدنيا، بخلاف ابن الزبير فأخبره بما يقع له في الدنيا على سبيل الإشارة، كما أشار له أيضا بأنّه من أهل الجنة؛ بقوله «لا تمسّك النّار» .
فزعم «أن مقتضاه أنه لم يخاطب بهذا ابن الزبير؛ بل مالكا» ساقط، إذ محطّ(3/137)
وقد روي نحو من هذا عنه صلّى الله عليه وسلّم في امرأة شربت بوله، فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» .
ولم يأمر واحدا منهم بغسل فم، ولا نهاه عن عوده) انتهى ملخّصا.
الفرق إنما هو قوله «ويل لك» .. الخ. انتهى زرقاني على «المواهب» .
(وقد روي نحو من هذا) المذكور في شرب دمه صلى الله عليه وسلّم (عنه صلى الله عليه وسلّم في امرأة شربت بوله) ، واسم هذه المرأة «بركة» فقيل: هي بنت يسار «مولاة أبي سفيان بن حرب بن أمية» ، كانت تخدم أمّ حبيبة؛ وتخدم النبي صلى الله عليه وسلّم، وقيل: هي بركة المعروفة ب «أمّ أيمن» الحبشية مولاته وحاضنته ومرضعته، ورثها من أبيه؛ ثم أعتقها لمّا تزوّج خديجة؛ فتزوّجها عبيد بن زيد بن الحارث، فولدت له أيمن، وبه كنّيت، ثم تزوّجها بعد النبوة زيد بن حارثة؛ فولدت له أسامة حبّه صلى الله عليه وسلّم، وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البرّ وغيره؛ قاله في «شرح الشفاء» .
(فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» ) وفي رواية: «لن تلج النّار بطنك» والحديث صحيح رواه الحاكم؛ وأقرّه الذهبي، ورواه الدارقطني، وألزم البخاريّ ومسلما إخراجه في «الصحيح» ؛ قاله في «الشفاء» .
وفي رواية بعدها زيادة: (ولم يأمر واحدا منهم) أي: أحدا ممن شرب دمه وبوله (بغسل فم) !! ولو كان نجسا لأمر به، (ولا نهاه) ؛ أي: الأحد (عن عوده) ؛ أي: عن عود شرب بوله، ولو كان نجسا لنهاه عن عوده، ولحرم تناوله ووجب تطهير محلّه، ولم يقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم على مثله، وكونه للتداوي والعلاج!! خلاف الظاهر. والضمير في «نهاه» وكذا الضمير في «عوده» كلاهما للواحد.
وفي نسخة صحيحة من «الشفاء» : «عودة» بالتاء المربوطة ك «دولة» ، فكأنه رواية. والله أعلم. (انتهى) كلام «الشفاء» للقاضي عياض (ملخّصا) بتشديد الخاء المعجمة المفتوحة؛ على صيغة اسم المفعول- أي: مؤتى من ألفاظه بما هو المقصود.(3/138)
وأمّا ريقه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم:
فقد بصق في بئر دار أنس، ...
قال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : وقد شرب أيضا دمه عليه الصلاة والسلام أبو طيبة، وعاش مائة وأربعين سنة. وسفينة «مولى النبي صلى الله عليه وسلّم» . رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. ذكره الرافعي في «الشرح الكبير» ؛ قال ابن الملقّن: ولم أجده في كتب الحديث!! انتهى.
قال الخفاجي: وكون عليّ كرم الله وجهه شرب دمه لم يثبت؛ كما أشار إليه الدّميري في «منظومته في الفقه» ؛ يعني المسمّاة «رموز الكنوز» حيث قال:
غريبة فضلة سيّد البشر ... طاهرة على خلاف انتشر
وابن الزّبير بدم الهادي البشير ... نال الّذي رام كما له أشير
وهو الّذي خصّ بويل النّاس ... وهو بويله من الإيلاس
في «مسند البزّار» ثمّ البيهقي ... والطّبرانيّ رواه فثق
والدّارقطنيّ، وقول ابن الصّلاح ... (ليس له أصل) يفي في الاصطلاح
وأمّ أيمن استزادت شرفا ... إذ شربت بول النّبيّ المصطفى
وسقيت إذ هاجرت للسّنّة ... ماء رويّا من شراب الجنّة
فبعده ما مسّ جوفها ظما ... ولم تذق إلى الممات ألما
صحّحه الحاكم، والمرويّ في ... شرب عليّ دمه لم يعرف
وابن الصّلاح قال في شرب أبي ... طيبة: إنّه ضعيف السّبب
قال ابن سبع: ويقينا كانت ... تبلعها الأرض ومنها ازدانت
ولم تبل من تحته بهيمه ... ولم تر الدّهر به سقيمه
وهذه فائدة تفرّد بها؛ وهي: أنّ الدوابّ لم تبل وهو صلى الله عليه وسلّم راكب عليها، ولم تسقم دابّة ركبها في حياته.
(وأمّا ريقه) - أي: وصف ريقه- (الشّريف صلى الله عليه وسلّم) ، فكان يشفي الداء الحسّيّ والمعنويّ كإزالة ملوحة الماء؟! فالجواب محذوف اكتفاء بما دلّ عليه قوله (فقد بصق) بالصاد والزاي وفي لغة بالسين؛ خلافا لمن أنكرها (في بئر دار أنس) بن(3/139)
فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها.
وأتي بدلو من ماء فشرب من الدّلو، ثمّ صبّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد وابن ماجه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتفل في أفواههم؛ ويقول للأمّهات: «لا ترضعنهنّ إلى اللّيل» ، فكان ريقه يجزيهم. رواه البيهقيّ.
مالك (فلم يكن في المدينة) المنورة (بئر أعذب) : أحلى (منها) ببركة بصاقه.
رواه أبو نعيم، وغيره؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(وأتي) - بصيغة المجهول- أي: جيء (بدلو من ماء فشرب من الدّلو) . لم يقل «منه» !! لئلا يوهم أنّه شرب من الماء في غير الدلو؛ بأن صبّه في إناء غيره من الدلو (ثمّ صبّ) باقي شربه (في البئر) ، قصدا لإظهار المعجزة المصدّقة له.
(ففاح منها [مثل] رائحة المسك. رواه) الإمام (أحمد) بن حنبل.
(و) رواه (ابن ماجه) ؛ من حديث وائل بن حجر الحضرمي رضي الله تعالى عنه.
(وكان صلى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء يدعو برضعائه) ؛ أي: صبيانه الذين ينسبون إليه، (ورضعاء ابنته فاطمة) ؛ أي: أولادها. ورضيع الشخص: أخوه رضاعة، وليس مرادا هنا؛ كما هو ظاهر.
(فيتفل) - بكسر الفاء وضمّها-: يبصق، (في أفواههم، ويقول للأمّهات:
«لا ترضعنهنّ إلى اللّيل) لعله أراد مشاركتهم للصائمين في عدم تناول شيء لتعود عليهم بركة تصوّرهم بهم، ولا مانع أنّه يكتب لهم ثواب من صامه إكراما له، (فكان ريقه يجزيهم) - بفتح الياء- أي: يكفيهم إلى الليل، ويجوز [يجزئهم] ضمّ الياء مع سكون الجيم؛ آخره همزة- أي: يغنيهم عن اللبان (رواه البيهقيّ) في «الدلائل» .(3/140)
ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه- وهنّ خمس- فوجدنه يأكل قديدا، فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها، كلّ واحدة قطعة، فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف. رواه الطّبرانيّ. و (الخلوف) : تغيّر رائحة فم الصّائم.
ومسح صلّى الله عليه وسلّم بيده الشّريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة ...
(ودخلت عليه عميرة بنت مسعود) الأنصاريّة (هي وأخواتها يبايعنه؛ وهنّ خمس؛ فوجدنه يأكل قديدا) : لحما مقدّدا؛ أي: مجفّفا في الشمس (فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها؛ كلّ واحدة) ، بدل من الفاعل في «مضغنها» ، وذلك بعد أخذ عميرة لها من المصطفى، ففي رواية عنها: فمضغ لهنّ قديدة، ثم ناولني القديدة فقسمتها بينهنّ، فمضغت كلّ واحدة (قطعة فلقين الله) ؛ أي: متن (وما وجد لأفواههنّ خلوف) - بضم الخاء-: تغير ريح.
(رواه الطّبرانيّ) ، وأبو نعيم، وأبو موسى في «الصحابة» ، وفي روايتهما:
فلقين الله ما وجدن في أفواههن خلوفا ولا اشتكين من أفواههن شيئا. (والخلوف) بضم الخاء المعجمة (: تغيّر رائحة) الفم. وهذا هو المشهور الذي صرّح به أئمة اللغة، ومنه الحديث: «لخلوف (فم الصّائم) أطيب عند الله من ريح المسك» .
وحكى بعض الفقهاء والمحدّثين فتح الخاء، واقتصر عليه الدّميري في «شرح المنهاج» ، وأظنّه غلطا؛ كما صرّح به جماعة!!. وقال آخرون: الفتح لغة رديئة. والله أعلم. انتهى «شرح القاموس» .
(ومسح صلى الله عليه وسلّم بيده الشّريفة بعد أن نفث) : تفل (فيها من ريقه على ظهر) وبطن (عتبة) بن فرقد بن يربوع السّلمي، صحابيّ نزل الكوفة ومات بها، وهو الذي فتح الموصل زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وتقدّمت ترجمته.(3/141)
- وكان به شرى- فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ.
وأعطى الحسن لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي.
وروى القاضي عياض في «الشّفا» بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء: ...
(وكان به شرى) : بثور صغار حمر حكّاكة مكربة؛ تحدث دفعة غالبا وتشتدّ ليلا لبخار حارّ يثور في البدن دفعة؛ قاله في «القاموس» .
(فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ) في «الكبير» و «الصغير» ؛ من طريق أمّ عاصم زوجة عتبة بن فرقد عنه؛ قال: أخذني الشّرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فأمرني فتجرّدت فوضع يده على بطني وظهري، فعبق الطيب من يومئذ.
قالت أمّ عاصم: كنا عنده أربع نسوة فكنّا نجتهد في الطيب؛ وما كان هو يمسّ الطيب؛ وإنّه لأطيب ريحا منّا.
(وأعطى الحسن) بن عليّ سبطه صلى الله عليه وسلّم (لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي) - بفتح الراء وكسر الواو-: زال ظمؤه. رواه ابن عساكر.
وروى الطبراني أنّ امرأة بذيئة اللسان جاءته صلى الله عليه وسلّم؛ وهو يأكل قديدا، فقالت:
ألا تطعمني!! فناولها من بين يديه. فقالت: لا؛ إلّا الّذي في فيك!!. فأخرجه فأعطاه لها؛ فأكلته، فلم يعلم منها بعد ما كانت عليه من البذاءة.
ولله درّ إمام العارفين سيّدي محمد وفا الشاذلي المالكي رحمه الله تعالى حيث يقول:
جنى النّحل في فيه، وفيه حياتنا ... ولكنّه من لي بلثم لثامه
رحيق الثّنايا والمثاني تنفّست ... إذا قال في فيح بطيب ختامه
(وروى القاضي عياض في «الشّفاء» ) في «فصل خلقه في الوفاء وحسن العهد» (بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء) - بمهملتين بينهما ميم ساكنة فألف(3/142)
قال: بايعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقيّة، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثمّ ذكرت بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه. فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك» .
وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، ...
ممدودة- العامريّ الصحابي، وقد روى حديثه هذا أبو داود، وهو من أفراده، وأخرجه أيضا ابن منده في «المعرفة» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» .
(قال) ؛ أي: عبد الله (: بايعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ببيع) ؛ أي: بعقد بيع (قبل أن يبعث) بالرسالة، (وبقيت له بقيّة) ، إمّا من الثمن؛ أو المثمّن، فإن البيع من الأضداد، (فوعدته أن آتيه بها) ؛ أي: البقية (في مكانه) الذي وقع فيه البيع، (فنسيت) الوعد الذي جرى بيننا، (ثمّ ذكرت بعد ثلاث) ؛ أي: ثلاث ليال، أو ثلاثة أيام. ولم يلحق التاء به!! لحذف المعدود. وإنما تلزم قاعدة العدد إذا ذكر المعدود، (فجئت، فإذا هو في مكانه) - أي مستقرّ صلى الله عليه وسلّم في مكانه لم يفارقه- (فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ!!) - بتشديد الياء- (أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك!!» ) وهذا دليل على وفائه صلى الله عليه وسلّم بعهده ووعده، وهو من جملة أخلاق جدّه النبي إسماعيل حيث قال تعالى في حقّه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [54/ مريم] قال مجاهد: لم يعد شيئا إلّا وفّى به.
(و) أخرج البيهقيّ بإسناد حسن؛ كما في العزيزي، لكن قال المناوي:
قضية صنيع المصنف- يعني: السيوطي- أنّ البيهقي خرّجه وسكت عليه، وهو باطل! فإنه خرّجه من حديث إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن أيوب؛ عن ابن أبي مليكة؛
(عن عائشة) ، وعن محمد بن أبي بكر؛ عن أيوب؛ عن إبراهيم بن ميسرة؛ عن عائشة (أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها) .(3/143)
قالت: كان أبغض الأشياء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكذب.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلع على أحد من ...
ثم عقّبه بما نصّه: قال البخاري: هو مرسل- يعني بين إبراهيم بن ميسرة وعائشة- ولا يصحّ حديث ابن أبي مليكة؛ قال البخاري: ما أعجب حديث معمر عن غير الزهري، فإنّه لا يكاد يوجد فيه حديث صحيح. انتهى.
فأفاد بذلك أنّ فيه ضعفا؛ أو انقطاعا. فاقتطاع المصنف- يعني السيوطي- لذلك من كلامه وحذفه: من سوء التصرّف. وإسحاق الدبري يستبعد لقيّه لعبد الرزاق!! كما أشار إليه ابن عدي، وأورده الذهبي في «الضعفاء» . انتهى كلام المناوي.
(قالت) - أي: عائشة- (: كان أبغض الأشياء) كذا في «كنوز الحقائق» .
وفي «الجامع الصغير» : كان أبغض الخلق (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: أبغض أعمال الخلق إليه (: الكذب) لكثرة ضرره وجموم «1» ما يترتّب عليه من المفاسد والفتن، فهو إثم كلّه إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين، ومن ثمّ كان أشدّ الأشياء ضررا، ولهذا كان يزجر أصحابه وأهل بيته عنه، ويهجر على الكلمة من الكذب المدّة الطويلة. وذلك لأنّه قد يا بني عليه أمورا ربّما ضرّت ببعض الناس.
وفي كلام الحكماء: إذا كذب السفير بطل التدبير. ولهذا لما علم الكفّار أنّه أبغض الأشياء إليه نسبوه إليه؛ فكذّبوا بما جاءهم به من عند الله ليغيظوه بذلك، لأنه يوقف الناس عن قبول ما جاء به من الهدى، ويذهب فائدة الوحي.
وروي أنّ حذيفة قال: يا رسول الله؛ ما أشدّ ما لقيت من قومك؟ قال: «خرجت يوما لأدعوهم إلى الله، فما لقيني أحد منهم إلّا وكذّبني» . انتهى «مناوي» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح- كما في العزيزي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا اطّلع على أحد من
__________
(1) هي بمعنى (العموم) مع الوفرة والكثرة.(3/144)
أهل بيته كذب كذبة.. لم يزل معرضا عنه حتّى يحدث توبة.
أهل بيته) ، أي: من عياله وخدمه (كذب كذبة) واحدة- بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما- (لم يزل معرضا عنه) ؛ إظهارا لكراهته الكذب، وتأديبا له، وزجرا عن العود لمثلها (حتّى يحدث توبة) من تلك الكذبة الواحدة التي كذبها، وذلك لشدّة بغضه صلى الله عليه وسلم الكذب، لما يترتّب عليه من المفاسد، وإن كان نحو الزّنا أشدّ منه.
وفي رواية البزار: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الكذب! ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما يزال في نفسه حتّى يعلم أنّه أحدث منها توبة.
وقبح الكذب مشهور معروف، إذ ترك الفواحش بتركه، وفعلها بفعله فموضعه من القبح كموضع الصدق من الحسن، ولهذا أجمع على حرمته إلّا لضرورة؛ أو مصلحة.
قال الغزالي: وهو من أمّهات الكبائر. قال: وإذا عرف الإنسان بالكذب؛ سقطت الثقة بقوله، وازدرته العيون، واحتقرته النفوس. وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب؛ فانظر إلى قبح كذب غيرك، ونفور نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه، واستقباحك ما جاء به. قال: ومن الكذب الذي لا إثم فيه ما اعتيد في المبالغة ك «جئت ألف مرّة» فلا يأثم؛ وإن لم يبلغ ألفا.
قال: ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل فيه أن يقال «كل الطعام» فيقول «لا أشتهيه» . وذلك منهيّ عنه. وهو حرام؛ إن لم يكن فيه غرض صحيح.
وقال الراغب: الكذب عار لازم، وذلّ دائم، وحقّ الإنسان أن يتعوّد الصدق، ولا يترخّص في أدنى الكذب، فمن استحلاه عسر عليه فطامه.
وقال بعض الحكماء: كلّ ذنب يرجى تركه بتوبة إلّا الكذب، فكم رأينا شارب خمر أقلع، ولصّا نزع؛ ولم نر كذّابا رجع.
وعوتب كذّاب في كذبه؛ فقال: لو تغرغرت به وتطعّمت حلاوته ما صبرت عنه طرفة عين. ذكره المناوي في شرح «الجامع الصغير» .(3/145)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم.. لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول:
«السّلام عليكم.. السّلام عليكم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه الفيء.. قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظّين، وأعطى العزب حظّا.
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود في «الأدب» بسند حسن- كما في العزيزي- عن عبد الله بن بسر- بضم الموحدة وسين مهملة ساكنة- رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم) لنحو عيادة؛ أو زيارة؛ أو غير ذلك من المصالح (لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه) كراهة أن يقع النظر على ما لا يراد كشفه مما هو داخل البيت، لأن الدّور يومئذ لم تكن عليها ستور كالآن، (ولكن) يستقبله (من ركنه الأيمن؛ أو الأيسر) ، فكان يجعل وجهه جهة يمين الباب؛ أو شماله، (ويقول: «السّلام عليكم.. السّلام عليكم» ) أي: يكرّر ذلك ثلاثا، أو مرّتين عن يمينه وشماله.
(و) أخرج أبو داود في «الخراج» وسكت عليه، والحاكم في «المستدرك» كلاهما؛ عن عوف بن مالك قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه الفيء) بالهمز؛ ولا يجوز الإبدال والإدغام- والمراد به هنا ما يشمل خراج الأرض، وما أخذ من الكفار بلا قتال. وتخصيصه بالثاني عرف الفقهاء.
(قسمه) بين مستحقّيه (في يومه) ، أي: في اليوم الذي يصل إليه فيه، (فأعطى الآهل) - بالمد؛ أي- الذي له أهل زوجة، أو زوجات (حظّين) - بفتح الحاء؛ أي: نصيبين- نصيبا له، ونصيبا لزوجته أو زوجاته؛ لأنه أكثر حاجة، (وأعطى العزب) الذي لا زوجة له- وهو أفصح من لغة «الأعزب» الواقعة في بعض الأحاديث- (حظّا) واحدا.(3/146)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بالسّبي.. أعطى أهل البيت جميعا؛ كراهية أن يفرّق بينهم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل فرأى في وجهه بشرا..
أخذ بيده.
ويؤخذ من التعليل ما عليه الشافعية من أنّ كلّ واحد يعطى قدر كفايته وكفاية من يمون، من ولد وزوجة وعبد. وخصّوا ذلك بمن أرصد للقتال.
وفيه مبادرة الإمام إلى القسمة ليصل كلّ واحد إلى حقّه، ولا يجوز التأخير إلّا لعذر. قاله العزيزي على «الجامع» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتي) - بالبناء للمفعول- (بالسّبي) :
النهب عبيد، وإماء (أعطى أهل البيت) المسبيّين الآباء والأمهات والأولاد، والمراد أعطى الأقارب الذين سبوا (جميعا) لمن شاء؛ (كراهية أن يفرّق بينهم) يعني: أنه إذا كان في السبي امرأة وابنها، أو رجل وابنه، أو أخت وأختها، أو أخ وأخوه؛ لا يعطي المرأة لشخص وابنها لآخر، ولا الأب لشخص وابنه لآخر، ولا الأخ لشخص وأخاه لآخر، بل يعطي الاثنين لشخص واحد؛ كراهة التفريق بينهما، لما جبل عليه من الرأفة والرحمة.
فاستفدنا من فعله أنّه يسنّ للإمام؛ ولكلّ من ولي أمر السبي أن يجمع عليهم ولا يفرقهم؛ لأنه أدعى إلى إسلامهم، وأقرب إلى الرحمة والإحسان بهم.
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عكرمة مولى ابن عبّاس مرسلا قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل) أي: متى قدم عليه رجل من أيّ محلّ (فرأى في وجهه بشرا) - بكسر الباء وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة وجه وأمارة سرور (أخذ بيده) إيناسا له وتودّدا ليعرف ما عنده من الأخبار الحسنة؛ مما يسرّه من نصرة الدين، وقيام شعار الإسلام، وتأييد المؤمنين. قال ابن العربي: الأخذ باليد نوع من التودّد والمعروف؛ كالمصافحة. انتهى «مناوي» .(3/147)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع بالاسم القبيح.. حوّله إلى ما هو أحسن منه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل ولا يتطيّر ...
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عروة بن الزبير مرسلا- وفي العزيزي: إنه حديث صحيح- قال (كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع بالاسم القبيح حوّله إلى ما هو أحسن منه) ، فمن ذلك تبديله «عاصية» ب «جميلة» ، والعاصي بن الأسود ب «مطيع» ، لأن الطباع السليمة تنفر عن القبيح، وتميل إلى الحسن المليح، وكان المصطفى يتفاءل ولا يتطيّر.
قال القرطبي: وهذه سنّة ينبغي الاقتداء به فيها. وفي أبي داود: كان لا يتطيّر وإذا بعث غلاما سأله عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح؛ ورئي بشره في وجهه، فإن كره اسمه رئي كراهته في وجهه.
قال القرطبي: ومن الأسماء ما غيّره وصرفه عن مسمّاه، لكن منع منه؛ حماية واحتراما لأسماء الله وصفاته عن أن يسمّى بها، فقد غيّر اسم «حكم» و «عزيز» ؛ كما رواه أبو داود، لما فيها من التشبه بأسماء الله تعالى. ذكره المناوي.
قال: وقد روي هذا الحديث بنحوه بزيادة الطبراني في «الصغير» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بسند؛ قال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ولفظه:
كان إذا سمع اسما قبيحا غيّره، فمرّ على قرية يقال لها «عفرة» فسماها «خضرة» .
هذا لفظه. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني- بسند قال الحافظ الهيثمي: فيه ليث بن أسلم، وهو ضعيف بغير كذب- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتفاءل) - بالهمز- أي: إذا سمع كلمة حسنة تأوّلها على معنى يوافقها (ولا يتطيّر) ؛ أي: لا يتشاءم بشيء كما كانت الجاهلية تفعله من تفريق الطير من أماكنها، فإن ذهبت إلى الشمال تشاءموا، وذلك لأن من تفاءل فقد فهم خيرا؛ وإن غلط في جهة الرجاء، ومن تطيّر؛ فقد أساء الظنّ بربّه، ولله درّ من قال:(3/148)
وكان يحبّ الاسم الحسن.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا وجد الرّجل راقدا على وجهه ليس على عجزه شيء.. ركضه برجله، وقال: «هي أبغض الرّقدة إلى الله تعالى» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالباه،
وكان لا يعتاف إلّا أنّه ... يعجبه الفأل إذا عنّ له
(وكان يحبّ الاسم الحسن) ، وليس هو من معاني التطير، بل هو كراهة الكلمة القبيحة نفسها؛ لا لخوف شيء وراءها، كرجل سمع لفظ «خنا» فكرهه، وإن لم يخف على نفسه منه شيئا؛ ذكره الحليمي.
(و) أخرج الإمام أحمد- بسند رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن الشّريد بن سويد رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا وجد الرّجل) - الظاهر أن الرجل وصف طردي، وأن المراد الإنسان؛ ولو أنثى، إذ هي أحقّ بالستر؛ قاله المناوي- (راقدا على وجهه) ؛ أي: منبطحا (ليس على عجزه) - بفتح العين وضمّها، ومع كلّ فتح الجيم وسكونها، والأفصح كرجل؛ وهو من كلّ شيء: مؤخّره- (شيء) يستره من نحو ثوب.
وظاهره أن كراهة هذه الرّقدة من حيث كشف العورة؛ وإن كانت مكروهة من حيث الهيئة أيضا؛ كما ثبت في غير هذا الحديث، وأشار له في هذا الحديث بقوله «الرّقدة» أي: الهيئة.
(ركضه) - بالتحريك-؛ أي ضربه (برجله) ليقوم، (وقال: هي أبغض الرّقدة) - بكسر الراء- (إلى الله تعالى) . ومن ثمّ قيل: إنّها نوم الشياطين.
(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الأوسط» ، وابن حبّان: كلّهم؛ من حديث حفص بن عمر؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه- وقد ذكره ابن أبي حاتم وروى عنه جمع، وبقية رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي-
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأمر بالباه) - يعني: النكاح- وهل المراد هنا العقد(3/149)
وينهى عن التّبتّل نهيا شديدا؛ أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر من أسلم أن يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة.
الشرعي؛ أو الوطء!! فيه احتمالان. قال المناوي: والصواب أن المراد الوطء لتصريح الأخبار بأن حثّه على التزوج لتكثير أمّته. وذا لا يحصل بمجرّد العقد.
(وينهى عن التّبتّل) ؛ أي: رفض الرجل للنساء؛ وترك التلذّذ بهنّ، وعكسه، فليس المراد هنا مطلق التبتل الذي هو ترك الشهوات، والانقطاع إلى العبادة، بل تبتّل خاصّ، وهو انقطاع الرجال عن النساء؛ وعكسه.
قال الحفني: فينبغي للشخص أن يجامع زوجاته مادام فيه قوّة لأجل التناسل.
وما ورد أنّ السيدة مريم تسمّى «البتول» ، وكذا السيدة فاطمة!!
فالمراد أنّ لهما نوع انقطاع للعبادة؛ لا الإعراض عن الشهوة بالكلية، فالسيدة فاطمة لم تترك الشهوة بالمرّة، وإلّا! لم يحصل لها نسل، بل المراد أنّها ليست ملتفتة لذلك كغيرها من النساء؛ لاشتغالها بمولاها. انتهى.
(نهيا شديدا) تمامه عند الإمام أحمد: ويقول: «تزوّجوا الودود الولود، فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . وكان التبتّل من شريعة النصارى فنهى عنه أمّته. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
(أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه) . والمراد من التزوّج الوطء المؤدّي لتكثير النسل- كما تقدّم-.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد حسن- كما في العزيزي- عن قتادة بن عياض الرّهاوي- بضم الراء وخفة الهاء- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأمر من أسلم) من الرجال (أن يختتن؛ وإن كان) قد كبر وطعن في السن، كما إذا كان (ابن ثمانين سنة) ، فقد اختتن إبراهيم الخليل بالقدوم؛ وهو ابن ثمانين سنة.(3/150)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّر الخيل.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره الشّكال من الخيل.
قال العزيزيّ: فسّره في بعض طرق الحديث عند ...
(و) أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلى الله عليه وسلّم يضمر) - قال الحفني: من «أضمر» ، ويصحّ أن يقرأ من «ضمر» من باب «دخل» انتهى- (الخيل) . قال المناوي على «الجامع» : أراد بالإضمار: التضمير؛ وهو: أن يعلف الفرس حتى يسمن ثم يردّه إلى القلّة ليشتدّ لحمه. كذا ذكره جمع، لكن في «شرح الترمذي» للزين العراقي: هو أن يقلّل علف الفرس مدّة ويدخل بيتا كنّا، ويجلّل ليعرق ويجفّ عرقه؛ فيخفّ لحمه؛ فيقوى على الجري، قال: وهو جائز اتفاقا، للأحاديث الواردة فيه.
(و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وأصحاب السنن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يكره الشّكال) لأنه يدلّ على عدم جودة الفرس، إلّا إذا كان أغرّ، أي: له بياض في جبهته. فإنّه حينئذ لا يكون الشّكل فيه دليلا على عدم جودته.
وقال القرطبي: يحتمل أن يكون كره اسم الشّكال من جهة اللفظ، لأنّه يشعر بنقيض ما تراد له الخيل، أو لكونه يشبه الصليب، بدليل أنّه كان يكره الثوب الذي فيه تصليب، وليس هذا من الطّيرة- كما حققه الحليمي-.
(من) - وفي رواية: «في» - (الخيل.
قال) العلّامة الشيخ علي بن أحمد بن محمد (العزيزيّ) الشافعي المتوفى سنة:
سبعين وألف هجرية- وتقدّمت ترجمته في أوّل الكتاب- في كتابه «السراج المنير شرح الجامع الصغير» : (فسّره) - أي: الشكال- (في بعض طرق الحديث عند(3/151)
مسلم: بأن يكون في رجله اليمنى وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى.
وكرّهه لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل: يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة.
وقال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغرّ.. زالت الكراهة.
مسلم؛ بأن يكون في رجله اليمنى) بياض، (وفي يده اليسرى بياض، أو) يكون البياض (في يده اليمنى ورجله اليسرى) .
وقال الزمخشري: هو أن يكون ثلاث قوائم محجّلة وواحدة مطلقة، أو عكسه. شبه ذلك بالعقال؛ فسمّي به. انتهى. ووراء ذلك أقوال عشرة مذكورة في المطوّلات.
(وكرّهه!! لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل:) كرّهه لأنه (يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس) الذي فيه الشكال؛ (فلم يكن فيه نجابة) .
والنجيب: الفاضل من كلّ حيوان.
(وقال بعض العلماء) - كما حكاه في «شرح مسلم» للنووي وأقرّه-: (إذا كان) الفرس (مع ذلك) الشّكال (أغرّ) - الغرّة في الجبهة: بياض فوق الدرهم، وفرس أغرّ، ومهرة غرّاء؛ مثل: أحمر، وحمراء- (زالت الكراهة) لزوال الإشكال لكن توقّف فيه الزين العراقي. انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج ابن ماجه؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه- قال المناوي: ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، وليس كما قال! فقد قال الزيلعي: حديث واه.
وسأل عنه ابن أبي حاتم أباه؛ فقال: هذا موضوع. وقال الحافظ ابن حجر: سنده ضعيف جدّا. انتهى. وكيفما كان؛ فكان الأولى للمصنف حذفه من الكتاب؛ فضلا عن رمزه لحسنه. انتهى. كلام المناوي على «الجامع» -.(3/152)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر.. سلّم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. قال: «أمّا بعد» .
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر) للخطبة ( [سلّم] ) . قال العلقمي: يسنّ للإمام السلام على الناس عند دخوله المسجد؛ يسلّم على من هناك، وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه، وإذا وصل أعلى المنبر وأقبل على الناس بوجهه يسلّم عليهم، ولزم السامعين الردّ عليه، وهو فرض كفاية.
وسلامه بعد الصعود؛ هو مذهبنا ومذهب الأكثرين، وبه قال ابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والإمام أحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة: يكره. انتهى. ذكره العزيزي.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز الطبراني:
(كان صلى الله عليه وسلّم إذا خطب؛ قال «أمّا بعد» ) وقد عقد البخاري في «صحيحه» لذلك بابا؛ فقال: باب من قال في الخطبة بعد الثناء «أما بعد» . رواه عكرمة؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم ذكر بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلّون، قلت: ما شأن الناس؟
فأشارت برأسها إلى السماء. فقلت: آية!! وفيه، فخطب الناس؛ وحمد الله بما هو أهله ثم قال: «أمّا بعد» ... الخ.
ثم ذكر البخاري بسنده إلى الحسن البصري، عن عمرو بن تغلب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتي بمال أو سبي فقسمه.. إلى أن قال: فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال «أمّا بعد؛ فو الله إنّي لأعطي الرّجل ... الخ» .
ثم ذكر البخاريّ بسنده إلى عروة بن الزبير أنّ عائشة رضي الله عنها أخبرته أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج ذات ليلة من جوف الليل؛ فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته ... إلى أن قال: فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهّد، ثم قال: «أمّا بعد؛ فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ... الخ» .(3/153)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. يعتمد على عنزة؛ أو عصا. و (العنزة) : العصا الصّغيرة.
ثم ذكر البخاريّ بسنده؛ عن عروة أيضا؛ عن أبي حميد الساعدي أنّه أخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام عشيّة بعد الصلاة؛ فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أمّا بعد» ... وفيه قصّة ابن اللّتبيّة لمّا استعمله على الصدقة.
ثم ذكر البخاريّ بسنده؛ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ... إلى أن قال «أمّا بعد؛ فإنّ هذا الحيّ من الأنصار يقلّون ويكثر النّاس ... الخ» .
فائدة: أفاد قطب الدين الحلبي في «شرحه على البخاري» أنّ المواضع التي ثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أمّا بعد» خمسة وثلاثون موضعا. انتهى.
(و) أخرج الإمام الشافعيّ في «مسنده» باب إيجاب الجمعة؛ عن عطاء بن أبي رباح مرسلا- قال في العزيزي: وهو حديث صحيح-:
(كان صلى الله عليه وسلّم إذا خطب يعتمد على عنزة) - بالتحريك: رمح صغير- (أو عصا، و) هو عطف عامّ على خاصّ؛ إذ (العنزة) - محركة؛ كقصبة-: (العصا الصّغيرة) ؛ في أسفلها زجّ- بالضم: أي: سنان-. وعبّر عنها بعكّازة في طرفها سنان، وبعضهم بحربة قصيرة.
وفي «طبقات ابن سعد» أنّ النجاشي كان أهداها له، وكان يصحبها ليصلّي إليها في الفضاء، أي: عند فقد السترة، ويتّقي بها كيد الأعداء، ولهذا اتّخذ الأمراء المشي أمامهم بها.
ومن فوائدها: اتقاء السباع، ونبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خوف الرشاش، وتعليق الأمتعة بها، والركزة عليها ... وغير ذلك.
قال ابن القيّم: ولم يحفظ عنه أنّه توكّأ على سيف، وكثير من الجهلة يظنّ أنه كان يمسك السيف على المنبر؛ إشارة إلى قيام الدّين به، وهو جهل قبيح، لأن الوارد العصا والقوس، ولأن الدّين إنما قام بالوحي، وأمّا السيف!! فلمحق(3/154)
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالهديّة؛ صلة بين النّاس.
المشركين المعارضين للدعوة. والمدينة التي كانت خطبته فيها إنّما افتتحت بالقرآن. انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج ابن ماجه؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه- وهو حديث ضعيف- قال: (كان صلى الله عليه وسلّم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث) ؛ من الأيّام، تمضي من ابتداء مرضه. قال المناوي في «شرح الجامع» : قال في «الميزان» : قال أبو حاتم: هذا باطل موضوع. وقال الدميري: الأحاديث الصحيحة تدلّ بعمومها على خلاف حديث الباب، وقال الحفني: هذا حديث ضعيف؛ وقيل: منكر؛ فلا يعمل به، لأن الأحاديث الصحيحة مصرّحة بطلب العيادة قبل الثلاث وبعدها، ولو من رمد- على المعتمد-. انتهى.
وقال الزركشي: هذا يعارضه أنّه عاد زيد بن أرقم من رمد به قبلها؛ أي: قبل ثلاث. قال في «شرح الإلمام» : وقع لبعض العوامّ بأن الأرمد لا يعاد!! وقد أخرج أبو داود أنّه صلى الله عليه وسلّم عاد زيد بن أرقم من وجع كان في عينيه. ورجاله ثقات.
قال العلقمي: وفي إطلاق الحديث- أي حديث البخاري: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني» - أنّ العيادة لا تتعيّن بوقت دون وقت، لكن جرت بها العادة طرفي النهار. انتهى. ذكر جميع ذلك شرّاح «الجامع الصغير» .
(و) في «كنوز الحقائق» : (كان صلى الله عليه وسلّم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه) .
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، والطبراني في «الكبير» ، وابن عساكر بسند حسن- كما في العزيزي-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يأمر) أصحابه (بالهديّة) - يعني بالتهادي- (صلة) أي:
محبّة (بين النّاس) ، لأنها تذهب وحر الصدر «تهادوا تحابّوا» فالهديّة من أعظم أسباب التّحابب بينهم.(3/155)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بقطع المراجيح.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ هذه السّورة: (سبح اسم ربك الأعلى) .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الصّدقة، ...
(و) في «كنوز الحقائق» - ورمز له برمز الحكيم الترمذي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلّم يأمر بقطع المراجيح) .
قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : مرجح ومرجاح لغتان، فمرجح جمعه: مراجح، ومرجاح جمعه: مراجيح؛ ك «مفتح ومفاتح، ومفتاح ومفاتيح» ؛ وهو لهو ولعب كان يفعله العجم في أيّام النيروز؛ تفرّجا وتلهّيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب، وكره لهم أن يتزيّوا بزيّ من اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فلا خلاق له هناك. انتهى كلام الحكيم الترمذي.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبزار بسند ضعيف: كلاهما؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحبّ هذه السّورة) سورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) أي: نزّه اسم ربّك عن أن يبتذل، أو يذكر إلّا على جهة التعظيم.
قال الفخر الرازي: وكما يجب تنزيه ذاته عن النقائص؛ يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. قاله المناوي؛ على «الجامع» .
(و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحثّ على الصّدقة) ، كقوله: «تصدّقوا، فسيأتي على النّاس زمان يمشي بصدقته فلا يجد من يقبلها» . رواه البخاري، ومسلم؛ عن حارثة بن وهب رضي الله عنه.
وكقوله: «المرء في ظلّ صدقته» .
وكقوله: «اتّقوا النّار؛ ولو بشقّ تمرة» .(3/156)
وينهى عن المسألة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يسمر عند أبي بكر اللّيلة في الأمر من أمور المسلمين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّؤيا الحسنة.
وكقوله: «يا معشر النّساء تصدّقن؛ فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار» .
(وينهى عن المسألة) ، كقوله: «لا تسأل النّاس شيئا؛ ولا سوطك؛ وإن سقط منك حتّى تنزل إليه فتأخذه» . رواه الإمام أحمد؛ عن أبي ذر.
وكقوله: «لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا» . رواه النسائي، وأبو داود؛ عن عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه.
وذلك لأن السؤال للمخلوق ذلّ للسائل، وهو ظلم من العبد لنفسه، وفيه إيذاء المسؤول؛ وهو من جنس ظلم العباد، وفيه خضوع العبد لغير الله تعالى؛ وهو من جنس الشرك. ففيه أجناس الظلم الثلاثة: الظلم المتعلّق بحقّ الله، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه. ومن له أدنى بصيرة لا يقدم على مجامع الظلم وأصوله بغير الاضطرار. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
(و) في «كنوز الحقائق» ورمز له رمز الترمذي:
(كان صلى الله عليه وسلّم يسمر عند أبي بكر) الصدّيق (اللّيلة) الكاملة (في الأمر) الّذي يعرض (من أمور المسلمين) ؛ اهتماما به.
(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي- بسند صحيح؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يعجبه الرّؤيا الحسنة) تمامه عند أحمد: وربّما قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟!» ، فإذا رأى الرجل الرؤيا سأل عنه، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه، فجاءت امرأة؛ فقالت:
رأيت كأنّي دخلت الجنة فسمعت بها وجبة ارتجّت لها الجنّة، فنظرت فإذا قد جيء بفلان وفلان ... حتّى عدّت اثني عشر رجلا. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سريّة قبل ذلك، فجيء بهم؛ وعليهم ثياب بيض تشخب أوداجهم. فقيل: اذهبوا بهم «إلى(3/157)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اشتدّي أزمة تنفرجي» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يبيع ...
أرض البيدخ» ، أو قال «نهر البيدخ» فغمسوا به فخرجوا وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم أتوا بكراسيّ من ذهب؛ فقعدوا عليها.
فأتت تلك السرية؛ وقالوا: أصيب فلان وفلان ... حتّى عدّوا الاثني عشر الذين عدّتهم المرأة. ذكره المناوي؛ على «الجامع» .
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يقول) مخاطبا لما لا يعقل بعد تنزيله منزلة من يعقل، كقوله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [44/ هود]
(: «اشتدّي) يا (أزمة) أي: شدة؛ وهي: ما يصيب الإنسان من الأمور المغلقة من الأمراض وغيرها. (تنفرجي» ) - بالجزم- جوابا للأمر، أي: تذهبي بمعنى يذهب همّك عنا، وليس المراد حقيقة أمر الشدّة بالاشتداد ولا ندائها، بل المراد طلب الفرج لتزول الشدّة، لكن لما ثبت بالأدلة أن اشتداد الشدّة سبب الفرج، كقوله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح] ، وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [28/ الشورى] . وقوله عليه الصلاة والسلام: «وإنّ الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرا» . أمرها وناداها؛ إقامة للسبب مقام المسبّب، وفيه تسلية وتأنيس بأن الشدّة نوع من النعمة، لما يترتّب عليها. والله أعلم؛ ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يبيع) .
أخرج الترمذي بسنده؛ قال: حدّثنا عبد المجيد بن وهب؛ قال: قال لي العدّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟!. قال: قلت: بلى.
فأخرج لي كتابا «هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ اشترى منه عبدا؛ أو أمة؛ لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة؛ بيع المسلم للمسلم» .(3/158)
ويشتري، ...
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وأخرج الترمذي أيضا بسنده؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم باع حلسا وقدحا؛ وقال: «من يشتري هذا الحلس والقدح» !!. فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من يزيد على درهم!! من يزيد على درهم!!» فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. والحلس: كساء يوضع على ظهر البعير تحت القتب لا يفارقه. انتهى.
وروى الطبراني؛ وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي وغيرهم؛ عن زيد بن سعنة «أجلّ أحبار اليهود الذين أسلموا» أنّه اشترى من النبي صلى الله عليه وسلّم تمرا إلى أجل؛ وأعطاه الثمن، ثم جاءه قبل حلول الأجل بيومين أو ثلاثة، فأخذ بمجامع قميصه، ونظر إليه بوجه غليظ. ثم قال له: ألا تقضيني يا محمد حقي! فو الله إنّكم يا بني عبد المطلب مطل ... الحديث المتقدّم في الفصل الأول؛ من الباب الخامس من هذا الكتاب.
(ويشتري) روى البخاريّ وغيره؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فلما أن أقبلنا قال النبي صلى الله عليه وسلّم:
«من أحبّ أن يتعجّل إلى أهله فليتعجّل» . قال جابر: فأقبلنا؛ وأنا على جمل لي أرمك «1» ليس فيه شية، والناس خلفي. فبينا أنا كذلك إذ قام علي؛ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا جابر استمسك» . فضربه بسوطه ضربة، فوثب البعير مكانه؛ فقال: «اتبيع الجمل!!» قلت: نعم. فلما قدمنا المدينة؛ ودخل النبي صلى الله عليه وسلّم المسجد في طوائف أصحابه؛ فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط. فقلت له: هذا جملك. فخرج فجعل يطيف بالجمل؛ ويقول: «الجمل جملنا» فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم أواق من ذهب؛ فقال: «أعطوها جابرا» ، ثم قال: «استوفيت
__________
(1) وهو الذي في لونه كدورة؛ أي: يخالط حمرته سواد. «النهاية» .(3/159)
ولكن كان شراؤه أكثر.
الثّمن!!» . قلت: نعم. قال: «الثّمن والجمل لك» .
وروى أبو داود، وابن خزيمة؛ عن عمارة بن خزيمة بن ثابت الأوسي؛ عن عمّه- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم- أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم ابتاع من أعرابي فرسا فاستتبعه «1» ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلّم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي ويساومونه بالفرس؛ ولا يشعرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه، فنادى الأعرابيّ؛ فقال: «إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه، وإلّا بعته» . فقال النبي صلى الله عليه وسلّم حين سمع نداء الأعرابي: «أو ليس قد ابتعته منك» !!. قال الأعرابي: لا؛ والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلى، قد ابتعته» . قال: فطفق الأعرابي يقول: هلّم شهيدا؛ يشهد أنّي بعتك!! فمن جاء من المسلمين يقول: ويلك؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكن ليقول إلّا الحقّ. حتى جاء خزيمة بن ثابت؛ فاستمع المراجعة؛ فقال: أنا أشهد أنّك قد بايعته ...
الحديث. وفيه: فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة برجلين.
وعند الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ؛ من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم اشترى من أعرابيّ فرسا، فجحده الأعرابيّ، فجاء خزيمة؛ فقال: يا أعرابي؛ أتجحد!! أنا أشهد أنّك قد بعته. فقال: أن شهد عليّ خزيمة فأعطني الثمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا خزيمة؛ إنّا لم نشهدك! كيف تشهد!!» . قال: أنا أصدّقك على خبر السماء، ألا أصدّقك على ذلك الأعرابي!! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم شهادته بشهادة رجلين. انتهى؛ ذكره في «المواهب» .
(ولكن كان شراؤه) صلى الله عليه وسلّم أي: مباشرته الشراء (أكثر) من مباشرة البيع.
روى البخاريّ؛ عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلّم ثم جاء رجل مشرك مشعانّ «2» طويل بغنم يسوقها، فقال
__________
(1) أي: طلب المصطفى صلى الله عليه وسلّم من الأعرابي أن يتبعه ليقبضه الثمن.
(2) ثائر الرأس أشعث.(3/160)
وآجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم، ولخديجة في سفر التّجارة.
النبي صلى الله عليه وسلّم: «بيعا أم عطيّة!» . أو قال «هبة!» . قال: لا؛ بل بيع. فاشترى منه شاة.
(وآجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم) . روى البخاري في «صحيحه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» . فقال أصحابه: وأنت!! فقال: «نعم؛ كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» .
قال في «فتح الباري» : قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرّن برعيها على ما يكلّفونه من القيام بأمر أمّتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنّهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرّقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوّها من سبع وغيره؛ كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها وشدّة تفرّقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة؛ ألفوا من ذلك الصبر على الأمّة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها؛ فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمّلهم لمشقّة ذلك أسهل ممّا لو كلّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.
وخصّت الغنم بذلك!! لكونها أضعف من غيرها، ولأنّ تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرّبط؛ دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. انتهى.
(و) آجر نفسه قبل النبوة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة (لخديجة) بنت خويلد بن أسد (في سفر التّجارة) ، وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة؛ تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامّة عير قريش، وكانت تستأجر(3/161)
.........
الرجال؛ وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قوما تجّارا، ومن لم يكن منهم تاجرا؛ فليس عندهم بشيء.
وسبب ذلك- كما رواه الواقديّ، وابن السّكن-: أنّ أبا طالب قال: يا ابن أخي؛ أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا وألحّت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادّة، ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام؛ وخديجة تبعث رجالا من قومك يتّجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك!! وإن كنت أكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود؛ ولكن لا نجد من ذلك بدّا. فقال صلى الله عليه وسلّم: «لعلّها ترسل إليّ في ذلك» . فقال أبو طالب: أخاف أن تولّي غيرك.
فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، وقبل ذلك صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه. فقالت: ما علمت أنّه يريد هذا!! وأرسلت إليه؛ وقالت:
دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم اخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك.
فذكر ذلك صلى الله عليه وسلّم لعمّه. فقال: إنّ هذا الرزق ساقه الله إليك.
فخرج ومعه ميسرة «غلام خديجة» في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظلّ شجرة في سوق بصرى قريبا من صومعة نسطور الراهب. فقال نسطور الراهب: «ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبي» .
ثمّ حضر سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى.. وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى. فقال: «ما حلفت بهما قطّ» . فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة- وخلا به-: هذا نبيّ، والّذي نفسي بيده؛ إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم. فوعى ذلك ميسرة.(3/162)
واستدان برهن، وبغير رهن، واستعار، وضمن، ووقف أرضا كانت له.
ثم انصرف أهل العير جميعا، وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلّانه في الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علّيّة لها؛ رأت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو على بعير، وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها صلى الله عليه وسلّم فأخبرها بما ربحوا؛ فسرّت، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت! فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بقول نسطوراء، وقول الآخر الذي خالفه في البيع. وقدم صلى الله عليه وسلّم بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما كانت سمّته له، وتزوّج صلى الله عليه وسلّم خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما.
انتهى؛ من «المواهب» و «شرحها» .
(واستدان) صلى الله عليه وسلّم (برهن) . روى البخاريّ، ومسلم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل؛ ورهنه درعا من حديد.
(و) استدان صلى الله عليه وسلّم (بغير رهن) . روى البخاريّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعطوه» .
فقالوا: ما نجد إلّا سنّا أفضل من سنّه!! فقال الرجل: أوفيتني؛ أوفاك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعطوه؛ فإنّ من خيار النّاس أحسنهم قضاء» .
(واستعار) صلى الله عليه وسلّم. روى البخاري، ومسلم؛ عن قتادة؛ قال: سمعت أنسا يقول: كان فزع بالمدينة. فاستعار النبي صلى الله عليه وسلّم فرسا من أبي طلحة؛ يقال له «المندوب» ، فلما رجع قال: «ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا» .
واستعار صلى الله عليه وسلّم أدرعا من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال: أغصب؛ يا محمّد!! فقال: «لا؛ بل عاريّة مضمونة» . رواه أبو داود، والنسائي.
(وضمن) . روى الحاكم بإسناد صحيح أنّه صلى الله عليه وسلّم تحمّل عن رجل عشرة دنانير؛ ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «شرح الروض» .
(ووقف) صلى الله عليه وسلّم (أرضا كانت له) من أموال مخيريق النّضري الإسرائيلي؛ من(3/163)
وحلف في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله تعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، في قوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي، وقوله تعالى:
قُلْ بَلى وَرَبِّي،
بني النضير، كان عالما؛ وكان أوصى بأمواله في السنة الثالثة للنبي صلى الله عليه وسلّم؛ وهي سبع حوائط، وذلك أوّل وقف في الإسلام؛ كما في «الأوائل» للشيخ علاء الدين علي دده. لكن هذا خلاف المصرّح به في كتب الفقه، والمشهور- كما في «التحفة» ؛ و «شرح الروض» - أنّ أوّل وقف في الإسلام هو وقف سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أرضه التي أصابها بخيبر، وشرط فيها شروطا؛ منها أنّه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، وأنّ من وليها يأكل منها بالمعروف؛ أو يطعم صديقا غير متموّل فيه. كما رواه الشيخان.
(وحلف في أكثر من ثمانين موضعا) بصيغ مختلفة؛ فتارة يقول «لا؛ ومقلّب القلوب» ، وتارة يقول «والّذي نفسي بيده» ، وطورا يقول «والّذي نفس أبي القاسم بيده» ، وأكثر أيمانه «لا ومصرّف القلوب» كما سيأتي.
(وأمره الله تعالى) في كتابه المبين (بالحلف في ثلاثة مواضع) من القرآن:
الأول (في قوله تعالى) في سورة يونس وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي:
ما وعدتنا به من العذاب والبعث. (قُلْ إِي) - نعم- (وربّى) إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: قل لهم في الجواب هذه الأمور الثلاثة إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ عطف على «إي» ، فهو من مقول القول.
(و) الثاني في سورة سبأ في (قوله تعالى) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (قُلْ) - لهم- (بَلى) - ردّ لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلّا إتيانها- (وَرَبِّي) لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فقوله «لتأتينكم» تأكيد لما(3/164)
وقوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى.
نفوه على أتمّ الوجوه وأكملها، وقوله «عالم الغيب ... » الخ تقوية للتأكيد، لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه؛ وقوّة إثباته، وصحّته، لما أنّ ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر.
(و) الثالث، في سورة التغابن في (قوله) تعالى زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا (قُلْ بَلى) - من المعلوم أنّ «بلى» تنقض النفي وتثبت المنفيّ. فالمعنى هنا: قل بلى تبعثون (وَرَبِّي) . فقوله (لَتُبْعَثُنَّ) هو المفاد بها، وإنما أعيد!! توصّلا لتوكيده بالقسم، ولعطف قوله ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) .
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يستثني في يمينه تارة) ؛ أي: يعقّب اليمين بقول «إن شاء الله» ونحوه، كقوله في حديث أبي موسى الأشعري: «إنّي- والله- إن شاء الله؛ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير، وتحلّلتها» متفق عليه.
قال في «شرح مسلم» : ويشترط لصحّة هذا الاستثناء شرطان؛
أحدهما: أن يقوله متّصلا باليمين.
والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول «إن شاء الله»
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن قوله «إن شاء الله» يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متّصلا. انتهى.
(ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى) ؛ بأن لا يحنث.
روى البخاريّ؛ عن أنس رضي الله عنه: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من نسائه؛ وكانت انفكّت رجله، فأقام في مشربة «1» تسعا وعشرين ليلة، ثم نزل. فقالوا: يا رسول
__________
(1) العلّيّة.(3/165)
ومدحه بعض الشّعراء فأثاب عليه، ومنع الثّواب في حقّ غيره، وأمر أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب.
الله؛ آليت شهرا!! فقال: «إنّ الشّهر يكون تسعا وعشرين» .
(ومدحه) صلى الله عليه وسلّم (بعض الشّعراء) من الصّحابة، ومنهم كعب بن زهير بن أبي سلمى في قصيدته المشهورة «بانت سعاد» ؛ (فأثاب) صلى الله عليه وسلّم (عليه) ؛ أي:
المدح، فقد ذكر العلماء أنّ كعب بن زهير لما أنشد قصيدة «بانت سعاد» بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يسمع، ولما وصل إلى قوله:
إنّ الرّسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول
ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بردته التي كانت عليه، ولذا قال أهل العلم: هذه القصيدة هي التي حقّها أن تسمّى ب «البردة» ، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلّم أعطى كعبا بردته الشريفة. وأمّا قصيدة البوصيري!! فحقّها أن تسمّى ب «البرأة» ، لأنه كان أصابه داء الفالج؛ فأبطل نصفه، وأعيا الأطباء، فلما نظمها رأى المصطفى صلى الله عليه وسلّم فمسح بيده عليه فبرئ لوقته.
وقد بذل معاوية رضي الله عنه لكعب في هذه البردة عشرة آلاف من الدراهم؛ فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا من الدراهم فأخذها منهم؛ وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم. ويقال: إنها التي يلبسها الخلفاء في الأعياد. قال الشامي: ولا وجود لها الآن، لأن الظاهر أنّها فقدت في وقعة التتار.
قال الزرقاني في «شرح المواهب» : وقد جمع اليعمريّ شعراءه الذين مدحوه بالشعر من رجال الصحابة ونسائهم؛ فقارب بهم مائتين. انتهى.
(ومنع الثّواب) ؛ أي: المكافأة والمجازاة (في حقّ غيره) ؛ أي: غير البعض المثاب، لما رأى من المصلحة في المنع.
(وأمر) صلى الله عليه وسلّم (أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب) ؛ بقوله: «احثوا التّراب(3/166)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف.. قال: «والّذي نفس محمّد بيده» .
في وجوه المدّاحين» رواه الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ واستغربه، ورواه ابن عدي، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب.
وبقوله «احثوا في أفواه المدّاحين التّراب» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ عن المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه. انتهى؛ ذكره المناوي في «شرح الجامع» .
وفيه: الحثي: كناية عن الحرمان والردّ. يريد: لا تعطوهم على المدح شيئا، وقيل: هو على ظاهره، فيرمى في وجوههم التراب، وجرى عليهم ابن العربي قال: وصورته: أن يأخذ كفّا من تراب وترمى به بين يديه، ويقول:
ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا!! ومن أنا، وما قدري!! توبّخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرّف المادح قدرك وقدره؛ هكذا فليحث التراب في وجوههم.
وعبّر بصيغة المبالغة في قوله «المدّاحين» !! إشارة إلى أنّ الكلام فيمن تكرّر منه المدح حتّى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكّل بها الناس؛ وجازف في الأوصاف، وأكثر من الكذب.
قال الشافعية: ويحرم مجاوزة الحدّ في الإطراء في المدح؛ إذا لم يمكن حمله على المبالغة، وتردّ به الشهادة إن أكثر منه؛ وإن قصد إظهار الصنعة.
قال ابن عبد السلام في «قواعده» : ولا تكاد تجد مدّاحا إلّا رذلا، ولا هجّاء إلّا نذلا. انتهى.
(و) أخرج ابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن رفاعة بن عرابة الجهني رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا حلف) على شيء وأراد تأكيد اليمين؛ (قال «والّذي نفس محمّد بيده» ) ؛ أي: بقدرته وتصريفه.
وفيه جواز تأكيد اليمين بما ذكر. أي: إذا عظم المحلوف عليه؛ وإن لم يطلب ذلك المخاطب.(3/167)
وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر أيمانه: «لا ومصرّف القلوب» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اجتهد في اليمين.. قال: «لا والّذي نفس أبي القاسم بيده» .
(و) أخرج ابن ماجه- بسند حسن؛ كما في العزيزي- عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم أكثر أيمانه) - بفتح الهمزة- جمع يمين، وهو بالرفع اسم «كان» ، وخبرها قوله ( «لا؛ ومصرّف القلوب» ) ويصحّ العكس؛ وهو أحسن، لأن المحدّث عنه الثاني؛ قاله الحفني.
قال المناوي: وفي رواية البخاري: «لا؛ ومقلّب القلوب» أي: لا أفعل، أو:
لا أقول وحقّ مقلّب القلوب، ومصرّف القلوب. وفي نسبة تقلّب القلوب، أو تصرّفها إليه!! إشعار بأنه يتولّى قلوب عباده، ولا يكلها إلى أحد من خلقه.
قال الطيبي: «لا» نفي للكلام السابق، و «مصرّف القلوب» إنشاء قسم.
وفيه: أنّ أعمال القلب من الأدوات والدواعي وسائر الأعراض بخلق الله تعالى، وجواز تسمية الله بما صحّ من صفاته على الوجه اللائق، وجواز الحلف بغير تحليف.
قال النووي: بل يندب، إذا كان لمصلحة كتأكيد أمر مهمّ، ونفي المجاز عنه. وفي الحلف بهذه اليمين زيادة تأكيد، لأن الإنسان إذا استحضر أنّ قلبه وهو أعزّ الأشياء عليه- بيد الله يقلّبه كيف يشاء؛ غلب عليه الخوف؛ فارتدع عن الحلف على ما لا يتحقق. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد بسند صحيح، وأبو داود في «الأيمان» ، وابن ماجه في (الكفارة) بألفاظ مختلفة؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا) حلف و (اجتهد في اليمين) أي: أراد تأكيده؛ (قال «لا؛ والّذي نفس أبي القاسم) - أي: ذاته وجملته- (بيده» ) . أي:
بقدرته وتدبيره.(3/168)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحلف: «لا ومقلّب القلوب» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف على يمين.. لا يحنث؛ حتّى نزلت كفّارة اليمين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استراث الخبر؛ ...
قال الطيبي: وهذا في علم البيان من أسلوب التجريد، لأنّه جرّد من نفسه شخصا يسمّى «أبا القاسم» وهو هو، وكان يعبّر بذلك في بعض الأوقات. وأصل الكلام: «والذي نفسي بيده» ، ثم التفت من التكلّم إلى الغيبة.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «التوحيد» وغيره، والترمذي؛ والنسائي في «الأيمان» وغيره، وابن ماجه في «الكفارة» : كلهم؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحلف) فيقول: ( «لا؛ ومقلّب القلوب» ) قال العلقمي:
«لا» نفي للكلام السابق، «ومقلّب القلوب» هو المقسم به، والمراد ب «تقليب القلوب» : تقليب أعراضها وأحوالها؛ لا تقليب ذاتها. انتهى «عزيزي» .
(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» ؛ في «كتاب الأيمان» - وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا حلف على يمين) أي: بيمين واحتاج إلى فعل المحلوف عليه (لا يحنث) ، أي: لا يفعل ذلك المحلوف عليه؛ وإن احتاجه (حتّى نزلت كفّارة اليمين) أي: الآية المتضمّنة مشروعية الكفارة؛ وهي قوله تعالى فَكَفَّارَتُهُ ... [89/ المائدة] .
قال المناوي على «الجامع» : وتمامه عند الحاكم: فقال: «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا كفّرت عن يميني، ثمّ أتيت الذّي هو خير» انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد- بسند قال فيه الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. قال: ورواه الترمذي أيضا، لكن جعل مكان طرفة ابن رواحة. انتهى (مناوي) - قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا استراث الخبر) الذي يتطلّع له،(3/169)
أي: استبطأه.. تمثّل ببيت طرفة:
... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وكان صلّى الله عليه وسلّم يتمثّل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا ...
وأصل هذا الشّطر:
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا ...
ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تمثّل به على الوجه المذكور.
(أي: استبطأه) - وهو استفعل من الريث؛ وهو الاستبطاء، يقال: راث ريثا:
أبطأ، واسترثته: استبطأته- (تمثّل ببيت طرفة) - بفتحات- ابن العبد؛ أي:
بعجزه، وهو قوله (ويأتيك بالأخبار) - بفتح الهمزة جمع خبر- (من لم تزوّد) أي: من لم تصنع له زادا. وأوّل البيت:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا ...
وجاء في بعض الروايات أنّه ينشد البيت بتمامه.
والتمثيل: إنشاد بيت، ثمّ آخر، ثمّ آخر. وتمثّل بشيء ضربه مثلا، كذا في «القاموس» . والمثل: الكلام الموزون في مورد خاصّ، ثم شاع في معنى يصحّ أن تورده باعتبار أمثال مورده؛ قاله شرّاح «الجامع الصغير» .
(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن الحسن البصري مرسلا:
(كان صلى الله عليه وسلّم يتمثّل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا) أي: زاجرا ورادعا.
(وأصل هذا الشّطر) موزونا هكذا: (كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا.
ولكنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم تمثّل به على الوجه المذكور) ؛ فقدّم وأخرّ فيه؛ فصيّره غير موزون، إذ ملحظه المعاني فقط. وقد كان سيّدنا عمر رضي الله عنه يعترض على(3/170)
قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ صلّى الله عليه وسلّم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يسافر يوم الخميس.
الشاعر، ويقول: الأولى تقديم «الإسلام» .
قال المناوي: وإنما كان صلى الله عليه وسلّم يتمثّل به!! لأن الشيب نذير الموت، والموت يسنّ إكثار ذكره؛ لتتنبّه النفس من سنة الغافلة، فيسنّ لمن بلغ سنّ الشيب أن يعاتب نفسه ويوبّخها بإكثار التمثّل بذلك، وفيه جواز إنشاد الشعر له صلى الله عليه وسلّم؛ لا إنشاؤه.
(قال تعالى وَما عَلَّمْناهُ) - أي: النبي صلى الله عليه وسلّم- (الشّعر) - ردّ لقولهم «إنّ ما أتى به من القرآن شعر» ، فالمعنى ليس القرآن بشعر، لأن الشعر كلام متكلّف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع؛ منسوج على منوال الوزن والقافية، مبنيّ على خيالات وأوهام واهية، فأين ذلك من التنزيل الجليل المنزّه عن مماثلة كلام البشر، المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة، الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة!! - (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي: لا يصحّ منه، ولا يتأتّى له، أي: جعلناه بحيث لو أراد إنشاءه لم يقدر عليه، أو أراد إنشاده لم يقدر عليه أيضا بالطبع والسجية، لأنّه لو كان ممن يقول الشعر لتطرّقت إليه التّهمة عقلا في أنّ ما جاء به من عند نفسه.
قال العلماء: ما كان يتّزن له (صلى الله عليه وسلّم) بيت شعر، وإن تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه مكسّرا.
قال القرطبي: وإصابة الوزن منه صلى الله عليه وسلّم في بعض الأحيان!! لا توجب أنّه يعلم الشعر، كقوله «أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب» . على أن التمثل بالبيت لا يوجب أن يكون قائله عالما بالشعر، ولا أن يسمّى «شاعرا» باتفاق العلماء، كما أنّ من خاط ثوبا على سبيل الاتفاق لا يكون خيّاطا. انتهى.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» - بسند فيه خالد بن إياس وهو متروك؛ كما قال الحافظ الهيثمي وغيره- عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحبّ أن يسافر يوم الخميس) ، لأنّه بورك له ولأمّته(3/171)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه.
فيه، أو لأنه أتمّ أيام الأسبوع عددا، لأنه تعالى بثّ الدواب في أصل الخلق؛ فلاحظ الحكمة الربانية، والخروج فيه نوع من بثّ الدوابّ الواقع في يوم المبدأ.
ومحبّته لا تستلزم المواظبة عليه، فقد خرج مرّة يوم السبت!! ولعله كان يحبّه أيضا، كما ورد في خبر آخر: «اللهمّ؛ بارك لأمّتي في سبتها وخميسها» . وفي البخاري أيضا: أنّه كان قلّما يخرج إذا خرج في السّفر إلّا يوم الخميس. وفي رواية للشيخين معا: ما كان يخرج إلّا يوم الخميس. قاله المناوي في «شرح الجامع» .
(و) في «الصحيحين» وغيرهما في «حديث الإفك» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وروي عن غيرها أيضا- أنّه (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا) لنحو غزو (أقرع بين نسائه) ؛ تطييبا لنفوسهنّ، وحذرا من الترجيح بلا مرجّح؛ عملا بالعدل، لأن المقيمة؛ وإن كانت في راحة لكن يفوتها الاستمتاع بالزوج، والمسافرة؛ وإن حظيت عنده بذلك تتأذّى بمشقّة السفر، فإيثار بعضهنّ بهذا وبعضهنّ بهذا اختيارا عدول عن الإنصاف. ومن ثمّ كان الإقراع واجبا، لكن محلّ الوجوب في حقّ الأمّة؛ لا في حقّه عليه الصلاة والسلام، لعدم وجوب القسم عليه؛ كما نبّه عليه ابن أبي جمرة؛ قاله المناوي. وفيه أن المقرّر في كتب الفقه الشافعي: أنّ القسم واجب عليه. (فأيّتهنّ) - بتاء التأنيث- أي: أيّة امرأة منهن (خرج سهمها خرج بها معه) في صحبته، وهذا أوّل حديث الإفك، وبقيّته- كما في البخاري-: وكان يقسم لكلّ امرأة منهنّ يومها وليلتها، غير أنّ سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم؛ تبتغي بذلك رضاء الله ورسوله. هكذا ذكره في «كتاب الهبة» .
وفيه حلّ السفر بالزوجة، وخروج النساء في الغزوات، وذلك مباح إذا كان العسكر تؤمن عليه الغلبة، وكان خروج النساء مع المصطفى صلى الله عليه وسلّم في الجهاد فيه مصلحة بيّنة لإعانتهنّ على ما لا بدّ منه.(3/172)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتخلّف في المسير، فيزجي الضّعيف ويردف، ويدعو لهم. ومعنى (يزجي الضّعيف) : يسوقه سوقا رفيقا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر.. بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ...
وفيه مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء ... ونحو ذلك.
والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبارها؛ قاله المناوي.
(و) أخرج أبو داود، والحاكم- وقال: على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي.
وسكت عليه أبو داود-: كلاهما في «الجهاد» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتخلّف) أي: يتأخّر (في المسير) ؛ أي في السّفر (فيزجي) - بضمّ أوّله- (الضّعيف، ويردف) نحو العاجز على ظهر الدابّة، أي: دابّته، أو دابة غيره (ويدعو لهم) بالإعانة ونحوها.
ونبّه به على أدب أمير الجيش؛ وهو الرفق بالسير؛ بحيث يقدر عليه أضعفهم، ويحفظ به قوّة أقواهم، وأن يتفقّد خيلهم وحمولهم، ويراعي أحوالهم، ويعين عاجزهم، ويحمل ضعيفهم ومنقطعهم، ويسعفهم بماله وحاله، وقاله ودعائه، ومدده وأمداده.
(ومعنى «يزجي) - بمثناة تحتية مضمومة وزاي معجمة فجيم- (الضّعيف» :
يسوقه سوقا رفيقا) ليلحق بالرّفاق.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» والحاكم- بسند فيه يزيد بن سفيان أبو فروة وهو مقارب الحديث مع ضعف؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر) - زاد البخاري في رواية: ضحى؛ بالضمّ والقصر- (بدأ بالمسجد) . وفي رواية لمسلم: كان لا يقدم من سفر إلّا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد (فصلّى فيه ركعتين) . زاد البخاري:
قبل أن يجلس. انتهى. وذلك للقدوم من السفر تبرّكا به، وليستا تحيّة المسجد!(3/173)
ثمّ يثنّي بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس.
واستنبط منه ندب الابتداء بالمسجد عند القدوم قبل بيته، وجلوسه للناس عند قدومه ليسلّموا عليه، ثمّ التوجّه إلى أهله. وهذه الجملة الأولى «وهي الصلاة في المسجد عند القدوم» رواه البخاريّ في «الصحيح» في نحو عشرين موضعا.
(ثمّ يثنّي بفاطمة) الزهراء البضعة الطاهرة رضي الله تعالى عنها.
(ثمّ يأتي أزواجه) فقدم من سفر فصلّى في المسجد ركعتين، ثم أتى فاطمة فتلقّته على باب القبّة؛ فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي، فقال: «ما يبكيك» ؟
قالت: أراك شعثا نصبا، قد اخلولقت ثيابك!! فقال لها: «لا تبكي، فإنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر: لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر؛ ولا حجر؛ ولا وبر؛ ولا شعر إلّا أدخله الله به: عزّا؛ أو ذلّا، حتّى يبلغ حيث بلغ اللّيل» . انتهى.
هذا تمام الحديث؛ كما قاله المناوي رحمه الله تعالى.
(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي؛ عن أنس رضي الله عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم لا يطرق) - بضم الراء؛ من باب: دخل- (أهله ليلا) أي: لا يقدم عليهم من سفر؛ ولا غيره في الليل على غفلة؛ فيكره ذلك لأنّ القادم إمّا أن يجد أهله على غير أهبة من نحو تنظّف، أو يجدهم بحالة غير مرضيّة.
قال المناوي: وتمام الحديث عند الشيخين: وكان يأتيهم غدوة؛ أو عشية. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «الجهاد» ؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس) .
قال العلقمي: وسبب الخروج يوم الخميس ما روي من قوله صلى الله عليه وسلّم: «بورك لأمّتي في بكورها يوم الخميس» وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني، أو أنّه إنّما أحبّه؛ لكونه وافق الفتح له والنصر فيه، أو لتفاؤله بالخميس على أنه ظفر على(3/174)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يودّع الجيش.. قال:
«أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سريّة ...
«الخميس» ؛ وهو الجيش، ومحبّته لا تستلزم المواظبة عليه، فقد خرج في بعض أسفاره يوم السبت- كما تقدّم-.
(و) أخرج أبو داود، والحاكم في «الجهاد» ، وكذا النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عبد الله بن يزيد الخطمي- بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة- قال في «الأذكار» : حديث صحيح. وقال في «رياض الصالحين» : رواه أبو داود بإسناد صحيح؛ قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يودّع الجيش) الذي يجهّزه للغزو؛ (قال:
«أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» ) ؛ أي: أطلب من الله تعالى أن يكون دينكم وما بعده وديعة عنده تعالى؛ وهو تعالى خير من يحفظ الودائع، وفيه نوع مشاكلة للتوديع، إذ جعل دينهم وأمانتهم من الودائع، لأن السفر يصيب الإنسان فيه المشقّة والخوف؛ فيكون ذلك سببا لإهمال بعض أمور الدين، فدعا المصطفى صلى الله عليه وسلّم لهم بالمعونة في الدين والتوفيق فيه، ولا يخلو المسافر من الاشتغال بما يحتاج فيه إلى نحو أخذ وعطاء وعشرة، فدعا لهم بحفظ الأمانة؛ وتجنّب الخيانة، ثم بحسن الاختتام، ليكون مأمون العاقبة عما سواه في الدنيا والدين، فيسنّ قول هذا الذكر عند المسافر؛ وإن كان الحديث في سفر الغزاة؛ فمثله غيره من بقية الأسفار.
(و) أخرج أبو داود في «الجهاد» ، والترمذي في «البيوع» ، وابن ماجه في «التجارة» : كلّهم؛ من حديث عمارة بن حديد؛ عن صخرة بن وداعة العامري الأزدي- وهو حديث حسن؛ كما في العزيزي- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا بعث) ؛ أي: إذا أراد أن يرسل (سريّة) - بفتح(3/175)
أو جيشا.. بعثهم من أوّل النّهار.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا قال: «أقصر الخطبة، وأقلّ الكلام، فإنّ من البيان لسحرا» ...
السين وكسر الرّاء المهملتين- وهي: قطعة من الجيش من مائة إلى خمس مائة، (أو جيشا) هو العدد من الجند مما زاد على ثمان مائة إلى أربعة آلاف، فإن زاد على أربعة آلاف فهو «جحفل» ، وما زاد على ذلك يقال له «جيش جرّار» . وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال:
سريّة سمّ إذا كانت فئه ... من مائة إلى انتها خمس مائه
فإن تزد ف «منسر» ، فإن تزد ... على ثمان مائة «جيش» يعدّ
فإن على أربعة آلاف ... زادت ف «جحفل» بلا خلاف
ما زاد جيش صفه ب «الجرّار» ... دونكها عن شارح «الأذكار»
(بعثهم من أوّل النّهار) ، لأنه بورك له ولأمّته في البكور.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والخطيب في «تاريخه» - بسند فيه جميع بن ثور وهو متروك؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا) على جيش؛ أو نحو بلدة (قال) فيما يوصيه: «أقصر الخطبة) - بضم الخاء- أي: التي يقدّمها المتكلم أمام كلامه على عادتهم في تقديم خطبة على مقصودهم، فليس المراد خطبة نحو الجمعة؛ كما هو جليّ، (وأقلّ الكلام، فإنّ من الكلام لسحرا» ؛ أي: نوعا تستمال به القلوب كما تستمال بالسّحر، وذلك هو السّحر الحلال.
(و) أخرج البخاريّ في «غزوة تبوك» وغيرها، ومسلم في «التوبة» ، وكذا أخرجه أبو داود في «سننه» ؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:(3/176)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد غزوة.. ورّى بغيرها.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يلقى العدوّ عند زوال الشّمس.
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد غزوة ورّى) - بتشديد الراء- أي: سترها وكنّى عنها (بغيرها) ؛ أي: بغير تلك الغزوة التي أرادها. يعني يذكر لفظا يوهم السامعين التوجّه إلى ناحية؛ مع أن مراده غيرها، كما إذا أراد غزوة خيبر مثلا؛ وقال «ما أحلى ماء مكّة، وما أطيب مالها» !! موهما أنّه يريد غزو مكّة، فهذا ليس بكذب، بل إيهام غير المراد؛ لئلا يتفطّن العدوّ فيستعدّ للدفع وللحرب، والمقصود أخذ العدوّ بغتة.
والتوراة: أن يذكر لفظا يحتمل معنيين: أحدهما أقرب من الآخر، فيسأل عنه وعن طريقه؛ فيفهم السامع بسبب ذلك أنّه يقصد المحلّ القريب، والمتكلّم صادق، لكن الخلل وقع في فهم السامع خاصّة. انتهى «شروح «الجامع الصغير» .
ولفظ «الصحيحين» : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها حتّى كانت تلك الغزوة- يعني تبوك- غزاها في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا، وغزوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بجهته التي يريد.
انتهى. وهو حديث طويل؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه.
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» - بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه؛ قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يعجبه أن يلقى العدوّ) للقتال (عند زوال الشّمس) ، لأنّه وقت تفتح فيه أبواب السماء؛ كما ثبت في الحديث؛ أنّه كان يستحبّ أن يصلّي بعد نصف النهار. فقالت عائشة: أراك تستحبّ الصلاة في هذه الساعة؟! قال:
«تفتح فيها أبواب السّماء، وينظر الله تبارك وتعالى بالرّحمة إلى خلقه، وهي صلاة(3/177)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت عند القتال.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج يوم العيد في طريق.. رجع في غيره.
كان يحافظ عليها آدم، وإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى» . رواه البزار؛ عن ثوبان. وهذا بخلاف الإغارة على العدو، فإنّه يندب أن يكون أوّل النهار، لأنّه وقت غفلتهم؛ كما فعل في خيبر.
(و) أخرج أبو داود، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «الجهاد» وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبيّ- كلّهم؛ عن أبي موسى الأشعري- وقال ابن حجر: إنّه حديث حسن؛ كما في المناوي- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت عند القتال) ، كأن ينادي بعضهم بعضا؛ أو يفعل أحدهم فعلا له أثر فيصيح ويعرّف نفسه؛ فخرا وإعجابا، وذلك لأنّ الساكت أهيب، والصمت أرعب، ولهذا كان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يحرّض أصحابه يوم صفين ويقول: استشعروا الخشية وعنّوا بالأصوات؛ أي:
احبسوها وأخفوها؛ من التعنّن: الحبس عن اللّغط ورفع الأصوات. أمّا إذا كان رفع الأصوات لغير الإعجاب!! فلا بأس به، ولذا أخبر صلى الله عليه وسلّم أنّ صوت بعض أصحابه في الحرب خير من ألف مقاتل لإرهاب الكفار، إذ قال صلى الله عليه وسلّم: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» . انتهى؛ من شروح «الجامع الصغير» .
(و) أخرج الترمذي، والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح؛ كما قال العزيزي- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا خرج يوم العيد) أي: عيد الفطر؛ أو الأضحى (في طريق) لصلاته (رجع في غيره) ؛ أي: غير طريق الذهاب إلى المصلّى فيذهب في أطولهما تكثيرا للأجر، ويرجع في أقصرهما، لأن الذهاب أفضل من الرجوع؛ لتشهد له الطريقان.
وفي رواية البخاري؛ عن جابر قال: كان إذا كان يوم عيد خالف الطريق.(3/178)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. نكّس رأسه، ونكّس أصحابه رؤوسهم، فإذا أقلع عنه.. رفع رأسه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل.
وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ أنّه كان يخرج في العيدين من طريق الشّجرة، ويدخل من طريق المعرّس، وإذا دخل مكة دخل من الثنيّة العليا، ويخرج من الثنيّة السّفلى.
(و) أخرج مسلم في «المناقب» ؛ عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي) ؛ أي: حامل الوحي.
أسند النزول إلى الوحي!! للملابسة بين الحامل والمحمول، ويسمّى «مجازا عقليا» تارة، و «استعارة بالكناية» تارة أخرى، بمعنى أنّه شبّه الوحي برجل مثلا، ثم أضيف إلى المشبّه الإتيان الذي هو من خواصّ المشبّه به، لينتقل الذهن منه إليه.
والوحي- لغة-: الكلام الخفيّ، وعرفا-: إعلام الله نبيّه الشرائع بوجه ما.
(نكّس) - بشدّ الكاف- (رأسه) أي: أطرق كالمتفكّر؛ لثقل الوحي إذا نزل عليه الملك في غير صورة رجل، حتى إنّه يحصل له مزيد العرق؛ وإن كان في شدّة البرد.
(ونكّس أصحابه رؤوسهم) لإدراكهم نزول الوحي عليه بسبب إطراقه رأسه.
(فإذا أقلع) - أي: الوحي بمعنى حامله- أي: سرّي وكشف (عنه رفع رأسه) صلى الله عليه وسلّم.
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، والخطيب، والبزار- بسند فيه أبو بكر الهذلي، قال فيه ابن حبان: يروي عن الأثبات أشياء موضوعة. وقال غندر: كان يكذب- وأخرجه ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- قال في العزيزي: وهو حديث ضعيف- قالت:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل) - في رواية: حضر- (رمضان أطلق كلّ أسير) كان مأسورا عنده قبله، (وأعطى كلّ سائل) ، فإنه كان أجود ما يكون في(3/179)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره، ثمّ لم يأت فراشه حتّى ينسلخ.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. تغيّر لونه، وكثرت صلاته، وابتهل في الدّعاء، وأشفق لونه؛ أي: تغيّر وصار كلون الشّفق.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر
رمضان. وفيه ندب العتق في رمضان، والتوسعة على الفقراء والمساكين.
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» بإسناد حسن؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره) بكسر الميم-: إزاره، وهو كناية عن الاجتهاد في العبادة واعتزال النساء (ثمّ لم يأت فراشه) أي: غالب الليل (حتّى ينسلخ) ؛ أي: يمضي.
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» - بسند فيه عبد الباقي بن قانع، قال الذهبي فيه: قال الدارقطني: يخطئ كثيرا. انتهى- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل) شهر (رمضان، تغيّر لونه) إلى الصفرة، أو الحمرة؛ خوفا من عدم الوفاء بحقّ العبودية فيه، وهو تعليم لأمّته، ولأنه على قدر علم المرء يعظم خوفه.
(وكثرت صلاته، وابتهل) أي: اجتهد (في الدّعاء، وأشفق لونه) أخصّ مما قبله؛ لخصوص هذا بالحمرة؛ كما قال: (أي: تغيّر) لونه (وصار) في الحمرة (كلون الشّفق) الأحمر.
(و) أخرج الشيخان في «الصوم» ، وأبو داود؛ والنسائي في (الصلاة) ، وابن ماجه في (الصوم) : كلّهم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر) - زاد في رواية ابن أبي شيبة-(3/180)
الأخير من رمضان.. شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مقيما.. اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا سافر.. اعتكف من العام المقبل عشرين.
(الأخير من رمضان) - والمراد الليالي- (شدّ مئزره) . قال القاضي: المئزر:
الإزار، ونظيره ملحف ولحاف، وشدّه كناية عن التشمير والاجتهاد، أراد به الجدّ في الطاعة، أو كناية عن اعتزال النساء وتجنّب غشيانهنّ، (وأحيا ليله) : أي:
ترك النوم الذي هو أخو الموت وتعبّد معظم الليل؛ لا كله، بقرينة خبر عائشة «ما علمته قام ليلة حتّى الصباح» ، فلا ينافي ذلك ما عليه الشافعية من كراهة قيام الليل كلّه.
(وأيقظ أهله) ؛ أي: زوجاته المعتكفات معه في المسجد، واللّاتي في بيوتهن إذا دخلها لحاجة؛ أي: يوقظهنّ للصلاة والعبادة، فيسنّ إيقاظ من وثق بقيامه للتهجّد.
(و) أخرج الإمام أحمد- بسند حسن؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا كان مقيما اعتكف العشر الأواخر من رمضان) ؛ طلبا لليلة القدر، لأنّها محصورة فيها عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
(وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين) : العشر الوسطى بدل ما فاته في السفر، والعشر الأخيرة على عادته. وفيه أنّ فائت الاعتكاف يقضى؛ أي: يشرع قضاؤه.
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، والبزار: كلّهم من حديث زائدة بن أبي الرقاد؛ عن زياد النّميري؛ عن أنس بن مالك.(3/181)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة الجمعة.. قال: «هذه ليلة غرّاء، ويوم أزهر» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاء الشّتاء.. دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف.. خرج ليلة الجمعة.
قال العزيزيّ: الظّاهر أنّ المراد ...
قال النووي في «الأذكار» : إسناده ضعيف، وقال البيهقيّ: تفرّد به زياد النميري، وعنه زائدة بن أبي الرقاد، وقال البخاري: زائدة عن زياد منكر الحديث وجهّله جماعة، وجزم الذهبي في «الضعفاء» بأنه منكر الحديث؛ قاله المناوي.
ولفظ الحديث- كما في «الجامع الصغير» -:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) إذا دخل رجب؛ قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان؛ وبلّغنا رمضان» . وكان (إذا كانت) ؛ أي: وجدت (ليلة الجمعة؛ قال: «هذه ليلة غرّاء) - ك «حمراء» ؛ أي: سعيدة صبيحة مضيئة- (ويوم أزهر» ) ؛ أي: يومها يوم أزهر، أي: نيّر مشرق، ولذا طلب فيه أعمال صالحة كالكهف، وكذا ليلتها، وكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلّم.
(و) أخرج الخطيب في «تاريخه» في ترجمة الربيع «حاجب المنصور» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ كلاهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- وهو من رواية الربيع المذكور عن الخليفة المنصور؛ عن أبيه؛ عن جدّه. وبه عرف حال السند- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا جاء الشّتاء) ؛ أي: زمن الشتاء (دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف) ؛ أي: زمن الصيف (خرج ليلة الجمعة) ، وتمام الحديث: وإذا لبس ثوبا جديدا حمد الله وصلّى ركعتين، وكسا الخلق.
(قال) المناويّ: يحتمل أنّ المراد بيت الاعتكاف، ويحتمل أنّ المراد بالبيت: الكعبة. وقال العلامة علي بن أحمد (العزيزيّ) في كتابه «السّراج المنير شرح الجامع الصغير» : (الظّاهر أنّ المراد) بالدخول والخروج في الزمنين:(3/182)
ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في الشّتاء، والخروج منها في الصّيف.
(ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في) زمن (الشّتاء) للكنّ من البرد، (والخروج منها) ؛ أي: البيوت (في) زمن (الصّيف) إلى المحلّ الذي هو أعلى الدار مثلا؛ الذي يقال له «السطوح» لكونه مكشوفا، أو الخروج إلى فناء الدار المكشوف أمامها مثلا؛ كما يقع في بعض البلدان، ولذا عبّر ب «دخل» المناسب للكنّ وب «خرج» المناسب للكشف، ويكون ابتداء الخروج والدخول ليلة الجمعة، أشار إلى ذلك الحفني.(3/183)
[الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة]
الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سأل الله تعالى.. جعل باطن كفّيه ...
الفصل الثّاني) ؛ من الباب السابع (في) ذكر (بعض أذكار) جمع ذكر؛ وهو- لغة-: كلّ مذكور. وشرعا-: قول سيق لثناء؛ أو دعاء، وقد يستعمل شرعا لكلّ قول يثاب قائله؛ قاله ابن حجر في «التحفة» .
(و) في ذكر بعض (أدعية) ؛ جمع: دعاء، وهو: الطلب على سبيل التضرّع، وهو أفضل من تركه عند جمهور العلماء، وهو من أعظم العبادات.
(كان يقولها) أي: هذه الأذكار والأدعية
النبيّ (صلى الله عليه وسلّم في أوقات) وحالات (مخصوصة) ك: عند الكرب، وعند الخروج من بيته، وفي الصباح والمساء ... ونحو ذلك.
أخرج الإمام أحمد- بسند فيه ابن لهيعة، وقال الهيثمي: رواه أحمد مرسلا بإسناد حسن، وفيه إيذان بضعف هذا المتصل المرويّ- عن السائب بن خلّاد رضي الله تعالى عنه؛ قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سأل الله تعالى) خيرا (جعل باطن كفّيه) بالتثنية- وفي(3/184)
إليه، وإذا استعاذ.. جعل ظاهرهما إليه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابته شدّة فدعا.. رفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه.
نسخة بالإفراد- (إليه، وإذا استعاذ) من شرّ (جعل ظاهرهما إليه) ؛ لدفع ما يتصوّره من مقابلة العذاب والشرّ، فيجعل يديه كالتّرس الواقي عن المكروه، ولما فيه من التفاؤل بردّ البلاء؛ قاله المناوي.
(و) أخرج أبو يعلى بإسناد حسن؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أصابته شدّة) - بالتشديد ك: عدّة- (فدعا) في الصلاة برفع الشّدّة (رفع يديه) حال الدعاء، ففيه أنّه يندب رفع اليدين حال الدعاء، إذ قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه رفع يديه حال الدّعاء في مواطن كثيرة، وعلى ذلك قول بعضهم:
رفع اليدين سنّة حال الدّعا ... فدع لمن يتركه مبتدعا
فخمسة وأربعون أثرا ... فيه أتت عن أحمد خير الورى
فيها الضّعيف والصّحيح والحسن ... فليس من يتركه على سنن «1»
قال المناوي: وحكمة الرفع: اعتياد العرب رفعهما عند الخضوع في المسألة؛ والذّلّة بين يدي المسؤل، وعند استعظام الأمر، والداعي جدير بذلك لتوجّهه بين يدي أعظم العظماء. ومن ثمّ ندب الرفع عند تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول؛ إشعارا بأنه ينبغي أن يستحضر عظمة من هو بين يديه حتى يقبل بكليّته عليه. انتهى.
فكان صلى الله عليه وسلّم يرفع يديه (حتّى يرى) - بالبناء للمجهول- (بياض إبطيه) ؛ أي:
لو كان بلا ثوب لرئي، أو كان ثوبه واسعا فيرى بالفعل، وذكر بعض الشافعية أنّه لم يكن بإبطيه شعر. قال في «المهمات» : وبياض الإبط كان من خواصّه صلى الله عليه وسلّم، وأما
__________
(1) بل ذكر الحافظ السيوطي- رحمه الله تعالى- أن أصل الرفع بلغ حد التواتر، ولا القضايا التي ورد فيها بأعيانها.(3/185)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه في الدّعاء.. لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له.. بدأ بنفسه.
إبط غيره!! فأسود لما فيه من الشعر، وردّه الحافظ الزين العراقي بأن ذلك لم يثبت، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من بياض إبطه ألايكون له شعر، فإنّ الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض؛ وإن بقي فيه آثار الشعر. انتهى.
(و) أخرج الترمذي في «الدعوات» وقال: صحيح غريب، لكن جزم النووي في «الأذكار» بضعف سنده. وأخرجه أيضا الحاكم: كلاهما؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدّعاء لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه) ؛ تفاؤلا بحصول المراد.
قال المناوي في «شرح الجامع» : ففعل ذلك سنّة كما جرى عليه جمع شافعية؛ منهم النووي في «التحقيق» ؛ تمسّكا بعدّة أخبار هذا منها، وهي؛ وإن ضعفت أسانيدها؛ تقوّت باجتماعها، فقوله في «المجموع» «لا يندب» ؛ تبعا لابن عبد السلام، وقال: لا يفعله إلّا جاهل!! في حيّز المنع. انتهى كلام المناوي.
لكن قال الحفني: هذا المسح في غير الصلاة، أمّا في الصلاة! فلا يطلب المسح أصلا. انتهى. وكأنّ فيه جمعا بين القولين. والله أعلم.
(و) أخرج أصحاب السنن الثلاثة، وابن حبّان، والحاكم؛ عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه- وقال الترمذي: حسن صحيح، والحاكم: صحيح- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له) بخير (بدأ بنفسه) ؛ ثمّ ثنّى بغيره، ثم عمّم؛ اتباعا لملّة أبيه إبراهيم، فتتأكّد المحافظة على ذلك وعدم الغافلة عنه، وإن كان لا أحد أعظم من الوالدين، ولا أكبر حقّا على المؤمن منهما، ومع(3/186)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل.. أصابته الدّعوة، وولده وولد ولده.
وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب؛ ثبّت قلبي على دينك» ، فقيل له في ذلك؟ قال: «إنّه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله؛ فمن شاء.. أقام، ومن شاء.. أزاغ» .
ذلك قدّم الدعاء للنفس عليهما في القرآن في غير موضع، فغيرهما أولى. انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج الإمام أحمد؛ عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما- قال العلقمي بجانبه علامة الصحة- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل؛ أصابته الدّعوة، و) أصابت (ولده وولد ولده) ؛ أي: ذريته؛ أي: استجيب دعاؤه للرجل وذريته من بعده، وسكت عمّا لو دعا عليه!! لأنه قد سأل الله تعالى أن يجعل دعاءه رحمة على المدعوّ عليه.
(و) أخرج الترمذي- بسند فيه شهر بن حوشب؛ كما قال الهيثمي- عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب) - المراد: تقليب أعراضها وأحوالها؛ لا ذواتها- (ثبّت قلبي على دينك» ) - بكسر الدال- وهذا تعليم للأمّة، وإلّا! فقلبه ثابت ودائم له ذلك لعصمته.
(فقيل له في ذلك!!) - يعني: قالت له أمّ سلمة لما رأته يكثر ذلك: إن القلوب لتتقلب؟!. (قال: «إنّه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله) يقلّبه الله كيف يشاء- (فمن شاء أقام) - قلبه على الدين الحقّ- (ومن شاء أزاغ» ) قلبه، أي: أماله إلى الدين الباطل.
قال المناويّ على «الجامع» : وتمامه عند الإمام أحمد: «فنسأل الله أن لّا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأل الله أنّ يهب لنا من لدنه رحمة؛ إنّه هو الوهّاب» . انتهى.(3/187)
وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها: «ربنا؛ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ» .
قال الغزالي: إنّما كان ذلك أكثر دعائه! لاطّلاعه على عظيم صنيع الله تعالى في عجائب القلب؛ وتقلّبه، فإنّه هدف يصاب على الدوام من كلّ جانب، فإذا أصابه شيء وتأثّر؛ أصابه من جانب آخر ما يضادّه فيغيّر وصفه. وعجيب صنع الله في تقلّبه لا يهتدي إليه إلّا المراقبون بقلوبهم، والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى.
وقال ابن عربي: تقليب الله القلوب هو ما خلق فيها من الهمّ بالحسن والهمّ بالسوء. فلما كان الإنسان يحسّ بترادف الخواطر المتعارضة عليه في قلبه الذي هو عبارة عن تقليب الحقّ، وهذا لا يقتدر الإنسان على دفعه؛ كان ذلك أكثر دعائه.
يشير إلى سرعة التقليب من الإيمان إلى الكفر وما تحتهما فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) [الشمس] وهذا قاله للتشريع والتعليم. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال صهيب: سأل قتادة أنسا: أيّ دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلّم أكثر؟!. قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها: ربّنا) بإحسانك (آتنا في الدّنيا) حالة (حسنة) لنتوصّل بها إلى الآخرة على ما يرضيك.
قال الحرالي: هي الكفاف من مطعم ومشرب وملبس ومأوى وزوجة؛ لا سرف فيها. (وفي الآخرة حسنة) من رحمتك التي تدخلنا بها جنّتك، (وقنا عذاب النّار» ) بعفوك وغفرانك.
قال الطيبي: إنما كان يكثر من هذا الدعاء!! لأنه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والآخروية. وبيان ذلك: أنّه كرّر الحسنة؛ ونكّرها: تنويعا، وقد تقرّر في علم المعاني: أنّ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى، فالمطلوب في الأولى: الحسنات الدنيوية من الاستعانة والتوفيق والوسائل التي بها(3/188)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من خمس: من الجبن، والبخل، ...
اكتساب الطاعات والمبرّات، بحيث تكون مقبولة عند الله تعالى، والمطلوب في الثانية: ما يترتّب من الثواب والرضوان في العقبى.
وقوله «وقنا عذاب النّار» تتميم، أي: إن صدر منا ما يوجبها من التقصير والعصيان؛ فاعف عنا، وقنا عذاب النار. فحقّ لذلك أن يكثر من هذا الدعاء.
قال قتادة: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها. انتهى. كذا قرّره المناوي على «الجامع» رحمه الله تعالى.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والنسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد) - بفتح الجيم وضمّها-: مشقّة (البلاء) - بالفتح والمد، ويجوز الكسر مع القصر- (ودرك) - بفتح الدال والراء وتسكّن-؛ وهو: الإدراك واللّحاق (الشّقاء) - بمعجمة ثم قاف-: الهلاك، ويطلق على الأمر الشاقّ المؤدّي إلى الهلاك (وسوء القضاء) ؛ أي: المقضي، والّا! فحكم الله كلّه حسن لا سوء فيه، (وشماتة الأعداء) : فرحهم ببليّة تنزل بالمعادي تنكأ القلب، أو تبلغ من النفس أشدّ مبلغ.
وقد أجمع العلماء في كلّ عصر ومصر على ندب الاستعاذة من هذه الأشياء، وردّوا على من شذّ من الزهّاد؛ قاله المناوي على «الجامع» .
(و) أخرج أبو داود في «الصلاة» ، والنسائي في «الاستعاذة» ، وابن ماجه في «الدعاء» - وسكت عليه أبو داود-: كلّهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتعوّذ من خمس؛ من 1- الجبن) - بضم الجيم وسكون الموحدة-؛ هو البخل بالنفس خوفا من الموت، فلا يقاتل الأعداء.
(و 2- البخل) ؛ أي: منع بذل الفضل لا سيما للمحتاج، وحبّ الجمع والادّخار.(3/189)
وسوء العمر، وفتنة الصّدر، وعذاب القبر.
وكان يتعوّذ من الجانّ، وعين الإنسان.. حتّى نزلت المعوّذتان، فأخذ بهما وترك ما سواهما.
(و 3- سوء العمر) ؛ أي: عدم البركة فيه، بأن يخلّ بالواجبات ولا يصرفه في الطاعات:
من بارك الله له في عمره ... أدرك في مديدة من برّه
ما لم تكن تحصره العباره ... ولم تكد تلحقه الإشاره
(و 4- فتنة الصّدر) - بفتح الصاد وسكون الدال المهملتين- أي: القلب، أي: الأمور القبيحة التي تكون في القلب؛ كالحقد، والكبر، والغلّ، والحسد، والعقيدة الزائغة. وهذا تعليم للأمة، وإلّا! فهو صلى الله عليه وسلّم معصوم من ذلك.
(و 5- عذاب القبر» ) أي: التعذيب فيه بنحو ضرب، أو نار، أو غيرهما على ما وقع التقصير فيه من المأمورات أو المنهيّات، والقصد بذلك تعليم الأمّة كيف يتعوّذون.
(و) أخرج الترمذي- وقال: حسن غريب- والنسائي، وابن ماجه، والضياء في «المختارة» ؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم (كان يتعوّذ من الجانّ) ، أي: يقول: «أعوذ بالله من الجانّ (وعين الإنسان) ، من: ناس ينوس إذا تحرّك، وذلك يشترك فيه الجنّ والإنس، وعين كلّ ناظر (حتّى نزلت المعوّذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما) ؛ أي: ممّا كان يتعوّذ به من الكلام غير القرآن، لما ثبت أنّه كان يرقي بالفاتحة، وفيهما الاستعاذة بالله، فكان يرقي بها تارة، ويرقي بالمعوّذتين أخرى؛ لما تضمّنتاه من الاستعاذة من كلّ مكروه، إذ الاستعاذة من شرّ ما خلق تعمّ كلّ شرّ يستعاذ منه في الأشباح والأرواح، والاستعاذة من شر الغاسق- وهو الليل وآفته؛ أو القمر إذا غاب- يتضمّن الاستعاذة من شرّ ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة، والاستعاذة من شرّ(3/190)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من موت الفجاءة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. يدعو بهذه الدّعوات: « (اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير، ...
النفّاثات تتضمّن الاستعاذة من شرّ السواحر وسحرهنّ، والاستعاذة من شرّ الحاسد تتضمّن الاستعاذة من شرّ النفوس الخبيثة المؤذية.
والسورة الثانية تتضمّن الاستعاذة من شرّ الإنس والجنّ.
فجمعت السورتان الاستعاذة من كل شرّ، فكانتا جديرتين بالأخذ بهما وترك ما عداهما.
قال ابن حجر: هذا لا يدلّ على المنع من التعوّذ بغير هاتين السورتين، بل يدلّ على الأولوية؛ لا سيما مع ثبوت التعوّذ بغيرهما.
وإنما اكتفى بهما!! لما اشتملتا عليه من جوامع الكلم، والاستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلا؛ قاله المناوي على «الجامع» .
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يتعوّذ من موت الفجاءة) - بالضمّ والمدّ، و [الفجأة] يفتح ويقصر: البغتة-.
(وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت) ، وقد وقع ذلك، فإنه مرض في ثاني ربيع الأول؛ أو ثامنه؛ أو عاشره، ثمّ امتدّ مرضه اثني عشر يوما.
(و) أخرج أبو يعلى، وابن السنّي- بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى) ؛ أي إذا دخل في الصباح والمساء (يدعو بهذه الدّعوات: «اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير) - بضم(3/191)
وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) ؛ فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. قال:
«أصبحنا على فطرة ...
الفاء والمد- كذا الرواية؛ وإن صحّ القصر في لغة؛ على وزان «تمرة» أي: من الخير الذي يأتي بغتة، ويقال مثل ذلك فيما بعد؛ قاله الحفني.
(وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) . هذا آخر الدعاء.
قال ابن القيّم: من جرّب هذا الدعاء عرف قدر فضله، وظهر له جموم «1» نفعه، وهو يمنع وصول أثر العائن، ويدفعه بعد وصوله؛ بحسب قوة إيمان العبد القائل وقوّة نفسه واستعداده وقوّة توكّله وثبات قلبه، فإنّه سلاح والسلاح يضارب به. انتهى، ذكره المناوي؛ على «الجامع» .
وأما قوله (فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» ) ، فإنّما هو بيان منه صلّى الله عليه وسلّم لوجه طلب الدعاء، فلا يقوله الداعي؛ بل يقتصر على حدّ «من فجاءة الشرّ» ، فمن قال ذلك حفظ من بغتة الشرّ إلى المساء أو الصباح.
(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ، وابن السنّي في «اليوم والليلة» -؛
وقال النووي في «الأذكار» : إسناده صحيح، وقال العراقي في «المغني» :
إسناده صحيح، وقال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح-:
كلهم؛ من طريق عبد الرحمن بن أبزى- بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالزاي وألف مقصورة- الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث- مختلف في صحبته- قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى؛ قال: «أصبحنا على فطرة)
__________
(1) هكذا في الأصل، وكذا في المناوي؛ على «الجامع» !!. وهو بمعنى العموم مع الوفرة والكثرة.(3/192)
الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» .
- بكسر الفاء- (الإسلام) ؛ أي: دينه الحق، وقد ترد الفطرة بمعنى السّنّة.
(وكلمة الإخلاص) ، هي كلمة الشهادة، (ودين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم) ، الظاهر أنّه قال [ذلك] تعليما لغيره. ويحتمل أنّه جرّد من نفسه نفسا يخاطبها.
قال ابن عبد السلام في «أماليه» : و «على» في مثل هذا تدلّ على الاستقرار والتمكّن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئا تمكّن منه واستقرّ عليه، ومنه أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [5/ البقرة] . قال النووي في «الأذكار» : لعله صلى الله عليه وسلّم قال ذلك جهرا ليسمعه غيره؛ فيتعلّمه منه. انتهى مناوي على «الجامع» .
(وملّة أبينا إبراهيم) الخليل (حنيفا) : مائلا إلى الدين المستقيم، (مسلما؛ وما كان من المشركين» ) .
قال العلقمي في «شرح الجامع الصغير» : قال شيخنا- يعني السيوطي-:
فائدة؛ وهي عزيزة النقل: فرع أوّل المساء: من الزوال. ذكره الفقهاء عند كلامهم على كراهة السّواك للصائم بعد الزوال، أما الصباح!! فقلّ من تعرّض له، وطالما فحصت عنه!! إلى أن وقفت عليه في ذيل «فصيح ثعلب» للعلّامة موفق الدين البغدادي قال: الصباح عند العرب: من نصف الليل الأخير إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول. انتهى ما نقله.
قلت: ومن فوائده أنه يشرع ذكر الألفاظ الواردة في الأذكار المتعلّقة بالصباح والمساء، وهذا واضح في «الأذكار» التي فيها ذكر المساء والصباح، أمّا التي فيها ذكر اليوم والليلة!! فلا يتأتّى فيها ذلك إذ أوّل اليوم شرعا من طلوع الفجر، والليل من غروب الشمس. انتهى.
وقال ابن حجر في «شرح المشكاة» - بعد كلام الموفّق-: والظاهر أنّ المراد في الأحاديث بالمساء: أوائل الليل، وبالصباح: أوائل النهار.(3/193)
.........
ثم رأيتني في «شرح سيد الاستغفار» ذكرت لذلك زيادة؛ وهي قوله: ومن إطلاقه المساء على ما ذكر- أي: من غروب شمس اليوم، والصباح على ما يأتي، أي: طلوع الفجر- يؤخذ ما قرّرناه سابقا أنّ الأذكار المقيّدة بالصباح والمساء ليس المراد منها حقيقتهما من نصف الليل إلى الزوال في الأول، ومنه إلى نصف الليل في الثاني؛ كما نقل عن ثعلب! وإنما المراد بهما العرف: من أوائل النهار في الأول، وآخره في الثاني.
ويؤيّده أنّ ابن أمّ مكتوم الأعمى مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يؤذّن الأذان الثاني الذي هو علامة على الفجر الصادق حتى يقال له «أصبحت ... أصبحت» . وفي الصباح ابتداؤه من هذا الوقت وما قرب منه؛ لا من نصف الليل، وشروع الأذان منه عندنا لا يدلّ على أنّه من حينئذ لا يسمّى «صباحا» . انتهى.
وسبقه لذلك ابن الجزري؛ فقال: من قال «إنّ ذكر المساء يدخل بالزوال» ؛ فكيف يعمل في قوله «أسألك خير هذه اللّيلة وما بعدها» !! وهل تدخل الليلة إلّا بالغروب!؟ انتهى.
وسبقه أيضا لذلك العلامة الرداد؛ وزاد بيان آخر الوقت في كلّ منهما؛ فقال في «موجبات الرحمة وعزائم المغفرة» : وقت أذكار الصباح: من طلوع الفجر إلى أن تكون الشمس من ناحية المشرق كهيئتها من ناحية المغرب عند العصر، ووقت أذكار المساء: من بعد صلاة العصر إلى المغرب إلى أن يمضي ثلث الليل أو نصفه.
والله أعلم.
وقال ابن حجر في «شرح المشكاة» ؛ في الكلام على حديث عثمان «ما من عبد يقول في صباح كلّ يوم ومساء كلّ ليلة ... » الخ. قال «ثمّ» في صباح ومساء، وحين يصبح وحين يمسي أنّه لو قال أثناء النهار؛ أو الليل لا تحصل له تلك الفائدة، وعظيم بركة الذكر يقتضي الحصول. انتهى. ذكر جميع ذلك الشيخ العلامة محمد بن علي بن علّان الصديقي في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى آمين.(3/194)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابه غمّ أو كرب.. يقول:
«حسبي الرّبّ من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أهمّه الأمر.. رفع رأسه إلى السّماء (و) أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب «الفرج بعد الشدة» ؛ من طريق الخليل بن مرّة الضبعي؛ عن فقيه أهل الأردن بلاغا؛ أي قال:
بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه (كان صلى الله عليه وسلّم إذا أصابه غمّ) ؛ أي: حزن، سمّي به!! لأنه يغطّي السرور. (أو كرب) أي: همّ (يقول: «حسبي الرّبّ من العباد) أي: كافيني من شرّهم- (حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي ... حسبي الله ونعم الوكيل) - أي: نعم من يفوّض له الأمر هو- (حسبي الله؛ لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» ) الذي ضمّني إليه وقرّبني منه، ووعدني بالجميل والرجوع إليه.
قال الحكيم: قد جعل الله في كلّ موطن سببا وعدة لقطع ما يحدث فيه من النوائب، فمن أعرض عن السبب والعدة ضرب عنه صفحا، ومن اغتنى بالله كافيا وحسيبا وأعرض عما سواه؛ وقال «حسبي الله» عند كل موطن؛ ومن كلّ أحد كفاه الله، وكان عند ظنّه؛ إذ هو عبد تعلّق بربّه، ومن تعلّق به لم يخيّبه، وكان في تلك المواطن محفوظا، فإذا ردّد العبد هذه الكلمات بإخلاص عند الكرب نفعته نفعا عظيما، وكنّ له شفيعا إلى الله تعالى في كفايته شرّ الخلق، ورزقه من حيث لا يحتسب، وكان الله بكل خير إليه أسرع. انتهى.
(و) أخرج الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أهمّه الأمر رفع رأسه إلى السّماء) ، لأنها قبلة(3/195)
وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء.. قال: «يا حيّ يا قيّوم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل به همّ أو غمّ.. قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» .
الدعاء؛ (وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء قال: «يا حيّ يا قيّوم» ) .
أخذ منه أنه الاسم الأعظم، والراجح أنه لفظ «الله» . وعدم الاستجابة فورا! لنقص في الدعاء. و «قيّوم» من أبنية المبالغة، ومعنى القيوم: القائم بمصالح عباده.
وأخذ الحليمي من الخبر أنّه يندب أن يدعو الله بأسمائه الحسنى، قال:
ولا يدعوه بما لا يخلص ثناء؛ وإن كان في نفسه حقا.
(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» في «الدعاء» ؛ عن وضّاح؛ عن النضر بن إسماعيل البجلي؛ عن عبد الرحمن بن إسحاق؛ عن القاسم بن عبد الرحمن؛ عن أبيه؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- وقال الحاكم:
صحيح. وردّه الذهبي؛ بأن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه!! وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة!!. انتهى. ذكره المناوي؛ على «الجامع» - قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا نزل به همّ أو غمّ؛ قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» ) : أستعين وأستنصر، يقال: أغاثه الله: أعانه ونصره، وأغاثه الله برحمته: كشف شدّته.
وقد روى هذا الحديث الترمذيّ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بلفظ:
إذا كربه أمر؛ قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك استغيث» .
قال المناوي على «الجامع» : في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهمّ والغمّ مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمّنة لجميع صفات الكمال؛ مستلزمة لها،(3/196)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يدعو عند الكرب: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض وربّ العرش الكريم» .
وصفة القيّوميّة متضمّنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا قيل: إن الاسم الأعظم هو «الحي القيوم» ، والحياة التامّة تضادّ جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم همّ ولا غمّ، ونقصان الحياة يضرّ بالأفعال وينافي القيومية. فكمال القيومية بكمال الحياة، فالحيّ المطلق التامّ الحياة لا يفوته صفة كمال البتّة. والقيّوم لا يتعذّر عليه فعل ممكن البتة، فالتوسّل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضادّ الحياة ويغيّر الأفعال؛ فاستبان أن لاسم «الحيّ القيّوم» تأثيرا خاصّا في كشف الكرب وإجابة الدعاء.
انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه؛ كلهم في (الدعوات) ؛ عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم يدعو عند الكرب) ؛ أي: عند حلوله يقول:
( «لا إله إلّا الله العظيم) : الذي لا شيء يعظم عليه، (الحليم) : الذي يؤخّر العقوبة مع القدرة، (لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض، وربّ العرش الكريم» ) روي برفع «العظيم» و «الكريم» على أنهما نعتان ل «ربّ» ، والثابت في رواية الجمهور: الجرّ نعت العرش.
قال المناوي في «شرح الجامع» : هذا دعاء جليل ينبغي الاعتناء به، والإكثار منه عند العظائم؛ فيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة الدالّة على تمام القدرة، والحلم الدالّ على العلم، إذ الجاهل لا يتصوّر منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية.
قال الإمام ابن جرير: كان السلف يدعون به ويسمّونه «دعاء الكرب» ؛ وهو؛(3/197)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا راعه شيء.. قال: «الله.. الله ربّي لا شريك له» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أمرا.. قال: «اللهمّ؛ خرلي واختر لي» .
وإن كان ذكرا! لكنه بمنزلة الدعاء، لخبر: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائل» .
فائدة: قال ابن بطّال؛ عن أبي بكر الرازي: كنت بإصبهان عند أبي نعيم، وهناك شيخ يسمى «أبا بكر» عليه مدار الفتيا، فسعي به عند السلطان فسجن، فرأيت المصطفى صلى الله عليه وسلّم في المنام وجبريل عن يمينه؛ يحرّك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي المصطفى صلى الله عليه وسلّم: قل لأبي بكر يدعو ب «دعاء الكرب» الذي في «صحيح البخاري» حتى يفرّج الله عنه، فأصحبت فأخبرته، فدعا به؛ فلم يكن إلّا قليلا حتى أخرج. والمدار على صدق النية. انتهى.
(و) أخرج النسائي- بسند حسن؛ كما في العزيزي، لكن قال المناوي: فيه سهل بن هاشم الشامي؛ قال في «الميزان» عن الأزدي: منكر الحديث، ثم ساق له هذا الخبر، وقال أبو داود: هو فوق الثقة لكن يخطئ في الأحاديث. انتهى عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا راعه شيء) من الرّوع: الفزع والخوف، أي: إذا أفزعه شيء؛ (قال «الله ... الله؛ ربّي لا شريك له» ) أي: لا مشارك له في ملكه، وهذا تعليم للأمّة، فيسنّ قول ذلك عند الفزع والخوف.
(و) أخرج الترمذي- بسند ضعيف؛ كما قال ابن حجر والنووي- عن أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أمرا) ؛ أي:
فعل أمر من الأمور؛
(قال: «اللهمّ؛ خر لي) - أي: فوّضت أمري إليك أن تختار لي ما فيه خير، وتدفع عني ما فيه شرّ- ( «واختر لي» ) . أصلح الأمرين واجعل لي الخيرة(3/198)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل به أمر.. فوّض الأمر فيه إلى الله عزّ وجلّ، وتبرّأ من الحول والقوّة، وسأله الهدى واتّباعه، وسأله البعد عن الضّلالة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءه أمر يسرّ به.. خرّ ساجدا شكرا لله تعالى.
فيه؛ أي: إذا كان الأمران خيرا فاختر لي الأكثر خيرا منهما، فالخيرات كلّها من خيرته، والصفوة من الخيرات مختاره، فلا تكرار.
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى:
(كان صلى الله عليه وسلّم إذا نزل به أمر) أي: هجم عليه حزن أو همّ؛ (فوّض الأمر فيه إلى الله عزّ وجلّ) ؛ أي: ردّه إليه وجعله الحاكم فيه، (وتبرّأ من الحول والقوّة) إلى حول الله وقوّته، (وسأله الهدى) إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم (واتّباعه) ، وأطلق «الهدى» !! ليتناول كلّ ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، (وسأله البعد عن الضّلالة) أي: الهلاك بعدم التوفيق للرشاد، وهذا تشريع وتعليم للأمّة ما ينفعها.
(و) أخرج الترمذيّ في آخر «الجهاد» - وقال: حسن غريب؛ لا يعرف إلّا من هذا الوجه- وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم في «الصلاة» ؛ كلّهم من حديث بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أبي بكرة رضي الله تعالى عنه- قال الحاكم: وبكّار صدوق، وللخبر شواهد. وقال عبد الحق: فيه بكار؛ وليس بقويّ. وقال ابن القطّان: لكنه مشهور مستور، وقد عهد قبول المستورين.
انتهى مناوي على «الجامع» . وقال العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره، - قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا جاءه) - لفظ رواية الحاكم: «إذا أتاه» - (أمر) أي: أمر عظيم كما يفيده التنكير (يسرّ به) أي: بغتة، فلا يسنّ سجود الشكر لكلّ نعمة كدوام العافية والجاه، وإلّا! لزم استغراق العمر في سجود الشكر. وقوله (خرّ ساجدا شكرا لله تعالى) ؛ أي: سقط على الفور هاويا إلى إيقاع سجدة الشكر لله تعالى؛ على ما أحدث له من السرور، فسجدة الشكر سنّة عند حدوث نعمة، وكذا عند اندفاع نقمة، والسجود أقصى حالة العبد في التواضع لربّه؛ وهو: أن(3/199)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته.. قال: «باسم الله، التّكلان على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . رواه أبو هريرة ...
يضع مكارم وجهه بالأرض، وينكّس جوارحه. وهكذا يليق بالمؤمن كلّما زاده ربّه محبوبا ازداد له تذلّلا وافتقارا، فبه ترتبط النعمة ويجتلب المزيد لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [7/ إبراهيم] .
والمصطفى صلى الله عليه وسلّم أشكر الخلق للحقّ لعظم يقينه؛ فكان يفزع إلى السجود.
وفيه 1- حجّة للشافعي في ندب سجود الشكر عند حدوث سرور؛ أو دفع بلية.
2- وردّ على أبي حنيفة في عدم ندبه. وقوله «لو ألزم العبد بالسجود لكلّ نعمة متجدّدة كان عليه ألايغافل عن السجود طرفة عين، فإنّ أعظم النعم نعمة الحياة؛ وهي متجدّدة بتجدّد الأنفاس» .
وردّ بأن المراد سرور يحصل عند هجوم نعمة ينتظر أن يفجأ بها مما يندر وقوعه، ومن ثمّ قيّدها في الحديث بالمجيء على الاستعارة؛ قاله المناوي على «الجامع» رحمه الله تعالى.
(وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته؛ قال: «باسم الله) أي: أعتصم، زاد الغزالي في «الإحياء» : «الرّحمن الرّحيم» ، (التّكلان) - بضم التاء:
الاعتماد- (على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ) ؛ أي: لا تحوّل لنا عن المعصية، ولا قوّة لنا على الطاعة إلّا بتيسير الله وإقداره.
قال الحفني على «الجامع» : وقد ورد أنّ الشخص إذا خرج إلى السفر؛ فقال أوّل توجّهه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم توكّلت على الله» ، وقرأ آية الكرسي؛ كان محفوظا في سفره إلى أن يرجع إلى محلّه.
وإنّما أمر الشخص بقول ذلك عند الخروج من منزله!! لأن مخالطة الناس ربّما توقع فيما لا يليق. انتهى.
وهذا الحديث (رواه أبو هريرة) : عبد الرحمن بن صخر اليماني الدّوسي(3/200)
رضي الله تعالى عنه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته.. قال:
«باسم الله، توكّلت على الله، اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ أو نضلّ، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا» . روته أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها.
(رضي الله تعالى عنه) فيما أخرجه ابن ماجه وابن السّنّي، والحاكم- وفي العزيزي: قال الشيخ: حديث حسن، لكن قال المناوي؛ عن العراقي: فيه ضعف انتهى-:
(وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته؛ قال: «باسم الله، توكّلت على الله) ؛ أي: اعتمدت عليه في جميع أموري، (اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ) بفتح النون وكسر الزاي-، من الزّلل؛ أي: من أن نقع في معصية.
(أو نضلّ) - بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- عن الحق؛ من الضلالة.
(أو نظلم) - بفتح النون وكسر اللام- (أو نظلم) - بضم النون وفتح اللام- (أو نجهل) - بفتح النون- على أحد. (أو يجهل) - بضم الياء- (علينا» ) أي:
أن نفعل بغيرنا ما يضرّه؛ أو يفعل بنا غيرنا ما يضرّنا. والقصد من ذلك تعليم الأمة، وإلّا! فهو صلى الله عليه وسلّم معصوم من الظلم والجهل وغيرهما.
(روته أمّ سلمة) زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، وتقدّمت ترجمتها (رضي الله تعالى عنها) ؛ فيما أخرجه عنها الترمذي في «الدعوات» ، وابن السنّي، والنسائي في «الاستعاذة» لكن ليس في لفظه «توكّلت على الله» !!. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وقال في «رياض الصالحين» : حديث صحيح؛ رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. انتهى.
(و) أخرج أبو داود بإسناد جيّد- كما في «الأذكار» ، وفي العزيزي: إنه حديث حسن- عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال:(3/201)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم؛ من الشّيطان الرّجيم» . وقال: «إذا قال ذلك.. حفظ منه سائر اليوم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. يقول:
«باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي ...
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد؛ قال) حال شروعه في دخوله:
( «أعوذ بالله العظيم) أي: ألوذ بملاذه، وألجأ إليه مستجيرا به،
(وبوجهه الكريم) أي: ذاته، إذ الوجه يعبّر به: 1- عن الذات بشهادة كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [88/ القصص] أي: ذاته، و 2- عن الجهة؛ كما في قوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [115/ البقرة] أي: جهته؛ قاله المناوي على «الجامع» .
(وسلطانه القديم) على جميع الخلائق قهرا وغلبة (من الشّيطان الرّجيم» ) أي: المرجوم.
(وقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم: ( «إذا قال) ؛ أي: ابن آدم (ذلك؛ حفظ منه) ؛ أي: من الشيطان؛ أي: من وسوسته (سائر اليوم» ) أي: جميع ذلك اليوم الذي يقول فيه هذا الذكر.
(وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد؛ يقول: «باسم الله، والسّلام على رسول الله) أبرز اسمه الميمون على سبيل التجريد عند ذكره، التجاء إلى منصب الرسالة، ومنزل النبوة!! تعظيما لشأنها كأنّه غيره امتثالا لأمر الله في قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [56/ الأحزاب] . قاله المناوي؛ على «الجامع» . (اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» ، وإذا خرج؛ قال: «باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي(3/202)
أبواب فضلك» . روته فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنها.
أبواب فضلك» ) .
خصّ الرحمة بالدخول؛ والفضل بالخروج!! لأنّ من دخل اشتغل بما يزلفه إلى الله تعالى وثوابه؛ فناسب ذكر الرحمة، فإذا خرج انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله من الرزق؛ فناسب ذكر الفضل.
وطلب المغفرة في هذا الخبر تشريع لأمّته، لأن الإنسان محلّ التقصير في سائر الأحيان؛ قاله المناوي، على «الجامع» .
(روته) البضعة الطاهرة (فاطمة) بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأشبه الناس به، سيّدة نساء العالمين، ولقبها (الزّهراء) !! قيل: لأنها لم تحض أصلا، ولقبها «البتول» !! لتبتّلها؛ أي: انقطاعها إلى الله عز وجل.
ولدت قبل النبوة بخمس سنين، روى الدولابي: أن العبّاس دخل على عليّ وفاطمة وهما يتراجعان في مواليدهما؛ فقال العباس: ولدت يا علي قبل بناء الكعبة بسنوات، وولدت فاطمة وهي تبنى.
وقيل: ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلّم.
وتزوّجها في السنة الثانية من الهجرة. قيل: ولها يومئذ خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، ولعليّ يومئذ إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر.
وكان تزوّجها في صفر، وبنى بها في ذي الحجة بعد وقعة أحد، ولم يتزوّج عليّ غيرها حتّى ماتت؛ كأمّها خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلّم.
واشتهر أن عليّا أصدقها درعه التي منحه النبي صلى الله عليه وسلّم؛ وتسمّى «الحطميّة» وقيل: أصدقها أربعمائة مثقال فضة، واشتهر في كتب الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم لم يزد في صداق بناته وأزواجه على خمسمائة درهم.
وحضر عقدها جماعة من النبلاء، ودعا صلى الله عليه وسلّم برطب وزبيب؛ وقال «انتهبوا» .(3/203)
.........
وروي أنّه خطبها قبل علي جمع من الصحابة، وأنّ تزويجها من عليّ كان بوحي من الله، ودعا لهما النبي صلى الله عليه وسلّم حين اجتمعا؛ وقال: «جمع الله شملكما، وسعد جدّكما وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيّبا» . قال جابر: رضي الله عنهما؛ فوالله؛ لقد أخرج الله منهما الكثير الطيّب.. ولدت الحسن والحسين، قيل:
ومحسن، وأم كلثوم، وزينب.
وتوفيت رضي الله تعالى عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلّم بستّة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر.
وقيل غير ذلك؛ ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة- 11- إحدى عشرة. واختلف في سنّها يوم وفاتها!! فقيل: ثمان وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون. وقطع الحافظ ابن حجر أنّها ماتت؛ وقد جاوزت العشرين بقليل، والخلاف في عمرها بحسب الخلاف في ميلادها.
وغسّلها عليّ وأسماء بنت عميس، وكانت أوصتها بذلك؛ وقالت لها: يا أسماء! إني أستقبح أن يطرح على المرأة ثوب وتحمل على النعش كالرجل، فوصفت لها أسماء فعل أهل الحبشة، ودعت بجرائد رطبة فأرتها ذلك، فأوصتها أن يعمل لها مثله، فهي أوّل من غطّي نعشه.
ودفنت ليلا، وتولّى ذلك عليّ والعبّاس وأخفي قبرها.
وذكر ابن عبد البرّ: أن الحسن دفن إلى جنب أمّه. انتهى.
وقبر الحسن معروف في قبّة واحدة هو والعبّاس بن عبد المطلب.
ويؤيّد ذلك ما ذكره المحبّ الطبري في «تاريخ المدينة المنورة» : أنّ الشيخ أبا العباس المرسيّ كان يسلّم على فاطمة أمام قبّة العباس، ويذكر أنّه كشف له عن قبرها ثمّ. ذكر هذه الترجمة الشيخ محمد بن علي بن علّان الصدّيقي المكي في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى، و (رضي الله تعالى عنها) فيما أخرجه عنها الإمام أحمد، وابن ماجه، والطبراني.
قال مغلطاي: حديث فاطمة هذا حسن، لكن إسناده ليس بمتّصل. انتهى؛(3/204)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. قال:
«باسم الله، اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» . رواه أنس رضي الله تعالى عنه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل السّوق.. قال:
«باسم الله، اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق وخير ما فيها، نقله المناوي؛ على «الجامع» رحمه الله تعالى.
(وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد؛ قال: «باسم الله، الّلهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» ) ، أورده المصنف عقب ما تقدّم!! إشعارا بندب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم وأزواجه كما يشرع السلام عليه أيضا عند دخول المسجد، لأنّه محلّ الذكر.
(رواه أنس رضي الله تعالى عنه) فيما أخرجه ابن السّنّي في كتاب «عمل اليوم والليلة» بدون ذكر الأزواج. قال السخاوي: وفي سنده من لا يعرف. قال النووي في «الأذكار» : وروينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد والخروج منه، من رواية ابن عمر أيضا. انتهى كلامه.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» في «باب الدعاء» بإسناد ضعيف: كلاهما؛ عن بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل السّوق) أي: أراد دخولها؛ (قال) عند الأخذ فيه: « (باسم الله) - ادخلها- (اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق) بضمّ المهملة، مؤنّث سماعي وقد يذكّر؛ كما أشار إليه الكرماني.
سمّيت بذلك!! لسوق البضائع إليها، وقيل: لقيام الناس فيها على سوقهم؛ جمع ساق، وقيل: لتصاكك السّوق فيها من الازدحام-.
(وخير ما فيها) - مما ينتفع به من الأمور الدنيوية، ويستعان به على القيام بوظائف العبودية، وللوسائل حكم المقاصد-.(3/205)
وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الخلاء ...
(وأعوذ بك من شرّها) في ذاتها؛ أو مكانها لكونها مكان إبليس.
(وشرّ ما فيها) أي: من شر ما خلق ووقع فيها، وسيق إليها مما يشغل عن ذكر الربّ سبحانه، أو مخالفة من غشّ، أو خيانة، أو ارتكاب عقد فاسد ...
وأمثال ذلك.
وقد ورد أن الشيطان يدخل السوق مع أول داخل؛ ويخرج مع آخر خارج.
(اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة) ؛ أي: حلفا كاذبا، (أو صفقة خاسرة» ) ، أي: عقدا فيه خسارة دنيوية؛ أو دينية، وذكرهما تخصيص بعد تعميم، لكونهما أهمّ، ووقوعهما أغلب.
قال المناوي على «الجامع» : وإنما سأل خيرها واستعاذ من شرّها!! لاستيلاء الغافلة على قلوب أهلها حتّى اتخذوا الأيمان الكاذبة شعارا، والخديعة بين المتبايعين دثارا، فأتى بهذه الكلمات ليخرج من حال الغافلة. فيندب لمن دخل السوق أن يحافظ على قول هذا الذكر، فإذا نطق الرجل بهذه الكلمات؛ كان فيه تحرّزا عمّا يكون من أهل الغافلة فيها، وهذا مؤذن بمشروعية دخول السوق، أي:
إذا لم يكن فيه حال الدخول معصية كالصّاغة، وإلّا! حرم. انتهى.
(و) أخرج ابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» ؛ من طريق إسماعيل بن رافع؛ عن دريد بن نافع؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما- وقال المنذري: هذا حديث ضعيف. وقال العراقي: إسماعيل مختلف فيه، ورواية دريد بن نافع عن ابن عمر منقطعة، وفي العزيزي: إنّ هذا الحديث حسن لغيره قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل) أي: أراد أن يدخل (الخلاء) أصله المحلّ(3/206)
قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس، الخبيث المخبث، الشّيطان الرّجيم» . وإذا خرج.. قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته، وأبقى فيّ قوّته، وأذهب عنّي أذاه» .
الذي لا أحد به، ويطلق على المعدّ لقضاء الحاجة، ويكنّى به عن إخراج الفضلة المعهودة، قال الوليّ العراقيّ: والأوّلان حقيقيان، والثالث مجازي. قال:
فيحتمل أن المراد في الحديث الأول؛ ويوافقه أن الإتيان بهذا الذكر لا يختصّ بالبنيان عند الفقهاء. وأن المراد الثاني؛ ويوافقه لفظ «الدخول» . انتهى. نقله المناوي على «الجامع» .
(قال) عند شروعه في الدخول: ( «الّلهمّ؛ إنّي أعوذ) أي: ألوذ وألتجئ (بك من الرّجس النّجس) - قال العلقمي: بكسر الراء والنون وسكون الجيم فيهما، لأنه من باب الإتباع؛ وهو أنواع. فمنه: إتباع حركة فاء كلمة حركة فاء أخرى، لكونها قرنت معها. وسكون عين كلمة لسكون عين كلمة أخرى، أو حركتها كذلك. انتهى؛ نقله العزيزي-.
(الخبيث) في نفسه (المخبث) لغيره- بضمّ الميم فسكون الخاء المعجمة؛ فكسر الموحدة- أي: الذي يوقع الناس في الخبائث والنجاسات الحسيّة والمعنوية؛ أي: يفرح بوقوعهم فيها (الشّيطان الرّجيم» ) ؛ أي: المرجوم.
(وإذا خرج؛ قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته) - أي: المأكول والمشروب- (وأبقى فيّ) - بتشديد الياء- (قوّته، وأذهب عنّي أذاه» ) بإذهاب فضلته.
وخصّ هذا الدعاء بالخارج من الخلاء!! للتوبة من تقصيره في شكر النعمتين المنعم على العبد بهما، وهما: 1- ما أطعمه ثم هضمه ثم سهّل خروج الأذى منه. و 2- أبقى فيه قوّة ذلك.(3/207)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الجبّانة.. يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانية، والأبدان البالية، والعظام النّخرة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بالله مؤمنة، اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا منك وسلاما منّا» .
(و) أخرج ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل الجبّانة) - بالجيم والموحدة المشدّدة المفتوحتين-: محلّ الدفن. سمّي به!! لأنه يجبن ويفزع عند رؤيته، ويذكر الحلول فيه.
وقال ابن الأثير: الجبّانة الصحراء، وتسمّى بها المقابر!! لأنها تكون في الصحراء؛ تسمية للشيء باسم موضعه. ذكره المناوي؛ على «الجامع» .
(يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانيّة) ؛ أي: الفاني أجسادها، إذ الأرواح لا تفنى، ولذا أتى بالجملة بعدها مفسّرة لذلك، أعني قوله:
(والأبدان البالية) ؛ أي: في غير نحو الشهداء ممن لا تبلى أجسادهم؛ المنظومة في قول بعضهم:
لا تأكل الأرض جسما للنّبيّ ولا ... لعالم وشهيد قتل معترك
ولا لقارئ قرآن ومحتسب ... أذانه لإله مجري الفلك
وزيد من صار صدّيقا كذلك من ... غدا محبّا لأجل الواحد الملك
ومن يموت بطعن والرّباط ومن ... كثير ذكر وهذا أعظم النّسك
(والعظام النّخرة) : المتفتّتة، تقول: نخر العظم نخرا من باب «تعب» :
بلي وتفتّت؛ فهو نخر وناخر (الّتي خرجت) - صفة للأرواح- (من الدّنيا؛ وهي بالله) ؛ لا بغيره كما يؤذن به تقديم الجارّ والمجرور على قوله (مؤمنة) أي:
مصدّقة موقنة. (اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا) - بفتح الراء-؛ أي سعة واستراحة ورحمة (منك وسلاما منّا) .(3/208)
قوله: (الأرواح الفانية) أي: الفانية أجسادها.
قال المناوي على «الجامع» : أي دعاء مقبولا، وأخذ ابن تيمية من مخاطبته للموتى أنّهم يسمعون، إذ لا يخاطب من لا يسمع، ولا يلزم منه أن يكون السمع دائما للميت، بل قد يسمع في حال؛ دون حال، كما يعرض للحيّ، فإنّه قد لا يسمع الخطاب لعارض، وهذا السمع سمع إدراك لا يترتّب عليه جزاء؛ ولا هو السمع المنفيّ في قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [80/ النمل] ، إذ المراد به سمع قبول وامتثال أمر، ولذلك قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى:
سماع موتى كلام الخلق قاطبة ... جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النّفي معناها سماع هدى ... لا يهتدون ولا يصغون للأدب
قال الحفني: وفي رواية: «إنّ من دخل الجبّانة؛ فقال (السّلام عليكم ورحمة الله دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، الّلهمّ ربّ هذه الأرواح الفانية، والأجساد البالية، والعظام النّخرة، والجلود الممزّقة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بك مؤمنة؛ أنزل عليها رحمة من عندك وسلاما منّي) غفر له بعدد من مات من لدن خلق آدم إلى أن تقوم السّاعة» .
قال شيخنا: وهذا الغفران حاصل أيضا برواية المتن. انتهى كلام الحفني.
وقال المناوي على «الجامع» : جاء في كثير من الروايات أنّه كان إذا وقف على القبور؛ قال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . قال البطليوسي: وهنا مما استعملت فيه «إن» مكان «إذا» ، فإنّ كلّا منهما يستعمل مكان الآخر. انتهى.
(قوله) في الحديث ( «الأرواح الفانية» ؛ أي: الفانية أجسادها) ، إذ الأرواح لا تفنى كما تقدّم، بل هي من الثمانية المستثناة في قول بعضهم:
ثمانية حكم البقاء يعمّها ... من الهلك والباقون في حيّز العدم
هي العرش والكرسيّ نار وجنّة ... وعجب وأرواح كذا الّلوح والقلم(3/209)
و (الرّوح) : السّعة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ بالمقابر.. قال: «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون» .
(والرّوح) - بفتح الراء-؛ في قوله «روحا منك» المراد به: (السّعة) والاستراحة.
(و) أخرج ابن السنّي- بإسناد ضعيف؛ كما قال الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا مرّ بالمقابر) أي: مقابر المسلمين؛ (قال:
«السّلام عليكم أهل الدّيار) - بحذف حرف النداء، وسمّيت القبور «ديارا» !! تشبيها لها بديار الأحياء في الدنيا، لاجتماع الموتى فيها وإقامتهم بها- (من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون» ) أي: لا حقون بكم في الوفاة، وقيّد المشيئة!! للتبرّك والتفويض إلى الله تعالى.
قال الخطّابي: وفيه أنّ السلام على الموتى كهو على الأحياء، خلاف ما كانت الجاهلية عليه.
قال المناوي على «الجامع» : وقد ورد بمعنى هذا الحديث في «مسلم» ؛ فقال: كان يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» .
وفي خبر الترمذي: كان إذا مرّ بقبور المدينة؛ قال: «السّلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» . انتهى.
(و) أخرج أبو داود وسكت عليه، - وأقرّه المنذري، وفي العزيزي: إن(3/210)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت.. وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التّثبيت؛ فإنّه الآن يسأل» .
إسناده حسن. انتهى- وكذا رواه الحاكم والبزّار: كلّهم؛ عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت) أي: المسلم.
قال الطيبيّ: والتعريف للجنس، وهو قريب من النّكرات.
(وقف عليه) أي: على قبره هو وأصحابه صفوفا؛ (فقال: «استغفروا لأخيكم) - في الإسلام- (وسلوا له التّثبيت) - أي: اطلبوا له من الله تعالى أن يثبّت لسانه وجنانه لجواب الملكين- (فإنّه الآن يسأل» ) - بضمّ أوّله-؛ أي: يسأله الملكان: منكر ونكير، فهو أحوج ما كان إلى الدعاء والاستغفار، وذلك لكمال رحمته صلى الله عليه وسلّم بأمّته، ونظره إلى الإحسان إلى ميتهم ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده.
قال الحكيم الترمذي: الوقوف على القبر وسؤال التثبيت للميت المؤمن في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة، لأنّ الصلاة بجماعة المؤمنين كالعسكر له اجتمعوا بباب الملك يشفعون له، والوقوف على القبر بسؤال التثبيت مدد العسكر، وتلك ساعة شغل المؤمن، لأنّه يستقبله هول المطلع والسؤال وفتنته، فيأتيه منكر ونكير؛ وخلقهما لا يشبه خلق الآدميين، ولا الملائكة، ولا الطير، ولا البهائم، ولا الهوام، بل خلق بديع، وليس في خلقهما أنس للناظرين!! جعلهما الله مكرمة للمؤمن لتثبيته ونصرته، وهتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحلّ عليه العذاب.
وإنما كان مكرمة للمؤمن!! لأن العدوّ لم ينقطع طمعه بعد، فهو يتخلّل السبيل إلى أن يجيء إليه في البرزخ، ولو لم يكن للشيطان عليه سبيل هناك؛ ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالدعاء بالتثبيت!!.(3/211)
.........
وقال الإمام النووي: قال الشافعي والأصحاب: يسنّ عقب دفنه أن يقرأ عنده من القرآن، فإن ختموا القرآن كلّه فهو أحسن. قال:
ويندب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل البقرة وخاتمتها. وقال المظهري: فيه دليل على أنّ الدعاء نافع للميت، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن؛ كما هو العادة.
لكن قال النووي: اتفق كثير من أصحابنا على ندبه!!.
قال الآجرّيّ في «النصيحة» : يسنّ الوقوف بعد الدفن قليلا، والدعاء للميت مستقبل وجهه- بالثبات، فيقال «اللهمّ؛ هذا عبدك وأنت أعلم به منا، ولا نعلم منه إلّا خيرا، وقد أجلسته تسأله، اللهمّ؛ فثبّته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبّتّه في الدنيا، اللهمّ؛ ارحمه وألحقه بنبيّه، ولا تضلّنا بعده، ولا تحرمنا أجره» ) .
انتهى. ذكر ذلك كلّه المناويّ رحمه الله تعالى على «الجامع» .
واستدلّ الشافعيّة على ندب التلقين بعد الدفن: بما رواه الطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال: إذا أنا متّ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فقال:
«إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التّراب على قبره؛ فليقم أحدكم على رأس قبره، ثمّ ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنّه يسمعه ولا يجيب، ثمّ يقول يا فلان بن فلانة فإنّه يقول: أرشدنا رحمك الله!. ولكن لا تشعرون؛ فليقل أذكر ما كنت عليه في الدّنيا من شهادة أن لّا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وأنّك رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، وبالقرآن إماما فإنّ منكرا ونكيرا يأخذ كلّ واحد منهما بيد صاحبه؛ فيقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند من لقّن حجّته!!» .
فقال رجل: يا رسول الله؛ فإن لم يعرف أمّه!؟ قال: ينسبه إلى أمّه حواء:
يا فلان بن حوّاء.(3/212)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شيّع جنازة.. علا كربه، ...
قال في «سبل السلام» للسيد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى:
قال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح، لكن قال الهيثميّ بعد سياقه: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم! وجزم ابن القيم في «الهدي» بوضع حديث التلقين.
وأما في «كتاب الروح» !! فإنه جعل حديث التلقين من أدلّة سماع الميت لكلام الأحياء، وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من غير نكير كافيا في العمل به، ولم يحكم له بالصحّة، بل قال في «كتاب الروح» : إنّه حديث ضعيف.
قال السيد الصنعاني في «سبل السلام» : ويتحصّل من كلام أئمة التحقيق: أنّه حديث ضعيف، وبه جزم النووي- كما ذكره في «شرح الروض» - وقال: لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث «اسألوا الله له التّثبيت» ، ووصية عمرو بن العاصي إذ قال حين حضرته الوفاة: فإذا دفنتموني فشنّوا علي التراب شنّا، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي. رواه مسلم. لكن في «سبل السلام» : إن قصة عمرو بن العاصي وحديث «اسألوا له التّثبيت» لا شهادة فيهما على التلقين.
قال في «شرح الأذكار» للشيخ محمد بن علّان الصدّيقي المكي رحمه الله تعالى: وقد ألّف الحافظ السخاوي جزآ في التلقين نقل فيه عن أئمة من أئمة المذاهب الأربعة استحبابه؛ وأطال في ذلك، وتكلّم فيه على حديث التلقين وشواهده؛ وبلغ فيه بضعة عشر شاهدا. والله أعلم.
(و) أخرج الحاكم في كتاب «الكنى والألقاب» ؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا شيّع جنازة علا كربه) - بفتح الكاف وسكون الراء بعدهما موحدة؛ هو ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمّه(3/213)
وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه.
ويحزنه- (وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه) . تفكّرا في أهوال الموت وما بعده؛ من القبر والظلمة وأحوال القيامة، وما إليه المصير. ولعل مستند الراوي في ذلك إخباره صلى الله عليه وسلّم، وإلّا! فهو أمر خفيّ لا يطّلع عليه.
وقد أخرج هذا الحديث الطبراني في «الكبير» بسند فيه ابن لهيعة- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- بلفظ: كان إذا شهد جنازة رئيت عليه كابة، وأكثر حديث النفس.
وأخرجه أيضا ابن المبارك وابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عبد العزيز بن أبي رواد مرسلا بلفظ: كان إذا شهد جنازة أكثر الصّمات وأكثر حديث نفسه.
قال المناوي في «شرح الجامع» : قال في «فتح القدير» : ويكره لمشيّع الجنازة رفع الصوت بالذكر والقراءة، ويذكر في نفسه. انتهى.
وقال النووي في «الأذكار» : يستحبّ للماشي مع الجنازة أن يكون مشتغلا بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه الميت، وما يكون مصيره، وحاصل ما كان فيه، وأنّ هذا آخر الدنيا، ومصير أهلها، وليحذر كلّ الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإنّ هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغافلة واللهو، والاشتغال بالحديث الفارغ، فإنّ الكلام بما لا فائدة فيه منهيّ عنه في جميع الأحوال؛ فكيف في هذا الحال!!
واعلم أنّ الصواب والمختار ما كان عليه السّلف رضي الله عنهم من السكوت في حال السّير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك.
قال ابن علّان في «شرح الأذكار» : لأن الصحابة كرهوا ذلك حينئذ. رواه البيهقي، وكره الحسن وغيره «استغفروا لأخيكم» ، ومن ثمّ قال ابن عمر لقائله:
لا غفر الله لك.
لكن رأيت السيد طاهر الأهدل نقل عن جدّه السيد حسين بن عبد الرحمن الأهدل ما لفظه:(3/214)
وكان صلّى الله عليه وسلّم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز.
اعلم أنّه؛ وإن كانت السّنّة السكوت؛ فقد اعتاد الناس كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم ورفع أصواتهم بذلك، فلا ينبغي أن ينهوا عن ذلك؛ ويقال إنها بدعة مكروهة، فإنّ المكروه ما ورد فيه نهي مقصود، ولأن دواعيهم لا تتوفّر على السكوت، والفكر في أمر الموت، بل يفيضون في حديث الدنيا بأهلها فيقعون في محذور أعظم من الذي يحاوله الناهي، وقد قالوا: إنّ الناهي يترك النهي عن المنكر إذا لزم عليه الوقوع في منكر أقوى منه. انتهى.
ونقله ابن زياد في «فتاويه» ؛ وقال بعد نقله:
وقد جرت العادة في بلدنا «زبيد» بالجهر بالذكر أمام الجنازة بمحضر من العلماء والفقهاء والصلحاء، وقد عمّت البلوى بما شاهدناه من اشتغال غالب المشيّعين بالحديث الدنيوي، وربّما أدّاهم ذلك إلى الغيبة أو غيرها من الكلام المحرّم.
فالذي أختاره أنّ شغل أسماعهم بالذكر المؤدّي إلى ترك الكلام وتقليله أولى من استرسالهم في الكلام الدنيوي؛ ارتكابا لأخفّ المفسدتين، كما هو القاعدة الشرعية، وسواء الذكر والتهليل وغيرهما من أنواع الذكر. والله اعلم. انتهى كلام «شرح الأذكار» .
(و) في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز ابن سعد في «الطبقات» :
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز) .
وقد أخرج الطبراني والبيهقي في «سننه» ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما:
«ليس للنّساء في اتّباع الجنائز أجر» .
وأخرج الطبراني في «الكبير» ، والبزّار؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «ليس للنّساء في الجنازة نصيب» .(3/215)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عزّى.. قال: «يرحمه الله ويؤجركم» .
وفي «الصحيحين» ؛ عن أمّ عطيّة رضي الله تعالى عنها: نهينا عن اتباع الجنائز؛ ولم يعزم علينا. أي: نهيا غير محتّم، فهو نهي تنزيه يفيد الكراهة في حقّهنّ فقط.
وأما ما رواه ابن ماجه وغيره مما يدلّ على التحريم!! فضعيف، ولو صحّ، حمل على ما يتضمّن حراما. أمّا اتباع الجنازة للرجال إلى أن تدفن!! فسنّة متأكّدة، لخبر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز أبي نعيم في «الحلية» :
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا عزّى) التعزية معناها- لغة-: التصبير لمن أصيب بما يعزّ عليه. وقد يطلق على الصبر على المكروه. وشرعا-: الحمل على الصبر بوعد الأجر والتذكير بأن الأمور جميعها مرجعها لله تعالى، وأنّ له ما أخذ وما أعطى، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت المسلم بالمغفرة ...
ونحو ذلك.
وهي مستحبّة على سبيل التأكيد، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة في قوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] .
وثبت في «الصحيحين» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
وروى الترمذي والبيهقي في «سننه الكبرى» ؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من عزّى مصابا فله مثل أجره» . وإسناده ضعيف، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا عزّى (قال: «يرحمه الله) - أي:
يرحم الله الميت- (ويؤجركم» ) معاشر الأقارب، ويدخل وقت التعزية من حين يموت، والتعزية بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه.
وتحصل التعزية بأيّ لفظ. واستحبّ الشافعية أن يقول:(3/216)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا هنّأ.. قال: «بارك الله لكم، وبارك عليكم» .
1- في تعزية المسلم بالمسلم «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميّتك» .
و2- في المسلم بالكافر «أعظم الله أجرك وأحسن عزاك» .
و3- في الكافر بالمسلم «أحسن الله عزاءك وغفر لميّتك» .
و4- في الكافر بالكافر «أخلف الله عليك» .
وأحسن ما يعزّى به ما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما في حديث بنت النبي صلى الله عليه وسلّم التي أرسلت تدعوه وتخبره أنّ ابنا لها في الموت فقال للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أنّ لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ... » وذكر تمام الحديث؛ قاله النووي رحمه الله تعالى.
(و) في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز ابن منيع؛
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا هنّأ) - بالتشديد والهمزة آخره- والتهنئة: الدعاء بالهنا لمن فاز بخير ديني؛ أو دنيوي لا يضرّه في دينه؛ قاله في «شرح الأذكار» .
(قال) في تهنئته ( «بارك الله لكم) - أي: كثّر لكم النموّ والإنعام والأمن من كلّ مؤذ في هذا الأمر المهم الذي يحتاج إلى الإمداد- (وبارك عليكم» ) أعاد العامل!! لزيادة الابتهال.
قال الكرماني في أواخر «كتاب الدعوات» ؛ من «شرح البخاري» : أراد بقوله «بارك الله لك» اختصاص البركة، وبقوله «عليك» استعلاء عليه. انتهى.
وهذا الذكر ورد الدعاء به للمتزوّج، فقد قال صلى الله عليه وسلّم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين أخبره أنّه تزوّج: «بارك الله لك وبارك عليك» أخرجه الشيخان، والترمذي، والنسائي عنه.(3/217)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل على مريض يعوده.. قال:
«لا بأس، طهور إن شاء الله تعالى» .
قال النووي: وروّينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفّأ الإنسان إذا تزوّج، قال: «بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال المناوي: وأخرج النسائي، وابن ماجه؛ عن عقيل بن أبي طالب أنّه تزوّج بامرأة من بني جشم، وقالوا «بالرفاء والبنين» ؛ فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «بارك الله لهم وبارك عليهم» .
وأخرج الحارث بن أبي أسامة، والطبراني في «الكبير» ؛ عن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إذا تزوّج أحدكم؛ فليقل له «بارك الله لك وبارك عليك» .
قال المناوي على «الجامع» : وكانت عادة العرب إذا تزوّج أحدهم، قالوا له «بالرفاء والبنين» فنهى عن ذلك وأبدله بالدعاء المذكور.
قال النووي: ويكره أن يقال «بالرفاء والبنين» لهذا الحديث. انتهى.
وقد ألّف الحافظ السيوطي في هذا المعنى جزآ سمّاه «حصول الأماني بأصول التهاني» ، وأورد فيه أحاديث وأثارا في التهنئة بأحوال عالية وأزمنة فاضلة وأعمال كاملة وحوادث مسفرة.
(وكان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده، قال: «لا بأس) - أي:
لا ضرر ولا مشقّة عليك هو- (طهور) - بفتح الطاء؛ أي مرضك مطهّر لك من ذنوبك- (إن شاء الله تعالى» ) . وذلك يدلّ على أن «طهور» دعاء لا خبر فيه.
وفيه أنّه لا نقص على الإمام في عيادة بعض رعيّته؛ ولو أعرابيا جاهلا جافيا، ولا نقص على العالم في عيادة الجاهل ليعلّمه ويذكّره ما ينفعه، ويأمره بالصبر(3/218)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم.. قال:
«اللهمّ؛ صلّ على آل فلان» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. قال: ...
ويسلّيه ... إلى غير ذلك مما يجبر خاطره وخاطر أهله.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في «الطب» وغيره؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلّم على أعرابي يعوده؛ فقال: «لا بأس، طهور» .
فقال الأعرابي: كلّا؛ بل هي حمّى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فنعم؛ إذن» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ كلهم في «الزكاة» ؛ عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم) أي: بزكاة أموالهم؛ (قال) امتثالا لقول ربه له وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [103/ التوبة] : ( «اللهمّ؛ صلّ على آل فلان» ) كناية عمن ينسبون إليه، أي: زكّ أموالهم التي بذلوا زكاتها، واجعلها لهم طهورا، واخلف عليهم ما أخرجوه منها، واعطف عليهم بالرحمة، واغفر لهم؛ إنّك أنت الغفور الرحيم.
وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام؛ إذ يكره تنزيها إفراد الصلاة على غير نبي؛ أو ملك، لأنّه صار شعارا لهم إذا ذكروا، فلا يقال لغيرهم؛ وإن كان معناه صحيحا. وتمام الحديث عن ابن أبي أوفى؛ قال: فأتاه أبي بصدقته؛ فقال:
«اللهمّ؛ صلّ على آل أبي أوفى» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والبزّار بسند رجاله ثقات؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا) لغزو ... أو نحوه (قال) عند خروجه له:(3/219)
«اللهمّ؛ بك أصول، وبك أحول، وبك أسير» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا.. قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قفل من غزو، أو حجّ، أو عمرة ...
( «اللهمّ؛ بك أصول) - أي: أسطو على العدو وأحمل عليه- (وبك أحول) أي: أتحوّل عن المعصية، أو أتحوّل وأنتقل عن مكاني؛ أي ذهابي إلى العدو إنما هو بقدرتك- (وبك أسير» ) إلى العدو فانصرني عليه.
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود في «الجهاد» ، والترمذي، وابن ماجه في «الدعوات» ، وابن حبان، والضياء المقدسي في «المختارة» بأسانيد صحيحة؛ كلّهم عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا غزا) ؛ أي: خرج للغزو (قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي) - أي: معتمدي في جميع أموري، لا سيما في الحرب، فأنا أتقوّى بك كما يتقوّى الشخص بعضده- (وأنت نصيري) ؛- أي: كثير النصر على أعدائي.
(بك أحول) - بحاء مهملة، من حال يحول، بمعنى: احتال، والمراد: كيد العدو- (وبك أصول) - بصاد مهملة؛ أي: أقهر. قال القاضي: الصّول:
الحمل على العدو، ومنه الصائل- (وبك أقاتل» ) العدو.
(و) أخرج الإمام مالك في «الموطأ» ، والإمام أحمد، والشيخان في «الحج» ، وأبو داود، والترمذي في «الجهاد» ؛ كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا قفل) - بقاف ثم فاء- أي: رجع وزنا ومعنى، ومنه القافلة؛ أي: الراجعة (من غزو؛ أو حجّ؛ أو عمرة) .
قال الحافظ في «الفتح» : ظاهره اختصاص الذكر الآتي بهذه الأمور الثلاثة،(3/220)
يكبّر على كلّ شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ...
وليس الحكم كذلك عند الجمهور، بل يشرع قول ذلك في كلّ سفر إذا كان سفر طاعة؛ وإن كان المسافر فيه لا ثواب له، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب من غيره، وهذا التعليل متعقّب، لأن الذي يخصّه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح أو معصية من الإكثار من ذكر الله تعالى، وإنّما النزاع في خصوص استحباب هذا الذكر بسفر الطاعة، فذهب قوم إلى الاختصاص لكونه عبادة مخصوصة شرع له ذكر مخصوص، فيختصّ به كالذكر المأثور عقب الأذان والصلاة، وإنما اقتصر الصحابيّ على الثلاث!! لانحصار سفره صلى الله عليه وسلّم فيها. انتهى.
(يكبّر على كلّ شرف) - بفتحتين: مكان عال- (من الأرض ثلاث تكبيرات) . هذا غاية ما كان يقول صلى الله عليه وسلّم، فالتقييد بالثلاث لبيان الواقع؛ لا للاختصاص، فإنّ الزيادة على الثلاث زيادة خير.
قال الطيبيّ: وجه التكبير على الأماكن العالية هو ندب الذكر عند تجدّد الأحوال والتقلّبات، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلّم يراعي ذلك في الزمان والمكان. انتهى.
وقال الحافظ العراقي: مناسبة التكبير على المرتفع: أنّ الاستعلاء محبوب للنفس، وفيه ظهور وغلبة، فينبغي للمتلبّس به أن يذكر عنده أنّ الله أكبر من كلّ شيء، ويشكر له ذلك ويستمطر منه المزيد.
(ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله) بالرفع على البدلية؛ من الضمير المستتر في الخبر المقدّر، أو من اسم «لا» ؛ باعتبار محلّه قبل دخولها.
(وحده) ؛ نصب على الحال، أي: لا إله منفرد إلّا هو وحده.
(لا شريك له) عقلا ونقلا.
أمّا الأول!! فلأن وجود إلهين محال كما تقرّر في الأصول.
وأمّا الثاني!! فلقوله تعالى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [163/ البقرة] ، وذلك يقتضي أن(3/221)
له الملك وله الحمد؛ وهو على كلّ شيء قدير، آئبون، ...
لا شريك له، وهو تأكيد لقوله «وحده» لأن المتّصف بالوحدانية لا شريك له.
(له الملك) - بضم الميم-: السلطان والقدرة وأصناف المخلوقات
(وله الحمد) . زاد الطبراني في رواية: «يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير، (وهو على كلّ شيء قدير)
هذه الجملة الأخيرة عدّها بعضهم من العمومات في القرآن التي لم يدخلها تخصيص؛
وهي كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185/ آل عمران] ، وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [6/ هود] وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) [الحجرات] وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) [البقرة] ونوزع في الأخيرة بتخصيصها بالممكن.
قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنّه المنفرد بإيجاد كلّ موجود، وأنّه المعبود في كلّ مكان.
(آئبون) بهمزة ممدودة فهمزة مكسورة. فموحّدة؛ واحده: آئب؛ وهو:
الراجع. قال في «مفتاح الحصن» : بكسر الهمزة بعد الألف، وكثير من الناس يلفظ بياء بعد الألف، وهو لحن. ومعناه: راجعون.
قال في «الحرز» : وكون الياء لحنا إنما هو في الوصل، أما في الوقف عليه!! فهو صحيح بلا خلاف. انتهى.
ثم هو خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن راجعون، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع، فإنّه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة، وهي تلبّسهم بالعبادة المخصوصة، والاتصاف بالأوصاف المذكورة؛ أشار إليه العلقمي.
وفي «الحرز» : الأولى أن يفسّر «آئبون» براجعون عن الغافلة. فإنّ الأوّاب وصف الأنبياء، ومنه قوله تعالى إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) ونعت الأولياء، ومنه فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) [الإسراء] ويقال للصلاة بين العشاءين «صلاة الأوّابين» . انتهى.(3/222)
تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
(تائبون) قال الغزالي في «المنهاج» ؛ نقلا عن شيخه: التوبة ترك اختيار ذنب سبق عنك مثله؛ تعظيما لله تعالى.
قال الأبّي: وأصلها الرجوع عما هو مذموم شرعا إلى ما هو محمود شرعا.
وفي قوله «تائبون» إشارة إلى التقصير في العبادة، أو قاله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التواضع، أو تعليما لأمّته!! أو المراد أمّته.
وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة، فيكون المراد ألايقع منهم ذنب؛ قاله العلقمي.
(عابدون، ساجدون، لربّنا) ؛ متعلّق ب «ساجدون» ، أو بسائر الصفات على سبيل التنازع، وهو مقدّر بعد قوله (حامدون) أيضا.
وقال الحفني: يقدّر مع كلّ من هذه الأوصاف «لربّنا» فيكون حذف من الأوّل لدلالة الثاني. انتهى. ومعنى «حامدون» : أي مثنون عليه بصفات الكمال، وشاكرون حوارف الإفضال.
(صدق الله وعده) فيما وعد به من إظهار دينه وكون العاقبة للمتقين؛ وذلك في نحو قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [55/ النور] .
قال العلقمي: وهذا في سفر الغزو، ومناسبته لسفر الحجّ والعمرة قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [27/ الفتح] .
(ونصر عبده) محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الخندق، فهو يعني به نفسه، إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل.
(وهزم الأحزاب) أي: الطوائف المتفرّقة الذين تجمّعوا عليه للقتال يوم الخندق.
ويحتمل عموم الكفار في ذلك اليوم وغيره (وحده» ) بغير فعل أحد من(3/223)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رجب.. قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان، وبلّغنا رمضان» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن.. قال مثل ما يقول؛ حتّى إذا بلغ (حيّ على الصّلاة ... حيّ على الفلاح) ...
الآدميين، ولا سبب من جهتهم، فقوله «وهزم الأحزاب وحده» نفي لما سبق ذكره.
وهذا معنى الحقيقة، فإنّ فعل العبد خلق لربّه، والكلّ منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد أهل الكفر بلا قتال لفعل، وفيه دلالة على التفويض إلى الله تعالى واعتقاد أنّه مالك الملك، وأنّ له الحمد ملكا واستحقاقا، وأنّ قدرته تتعلّق بكلّ شيء من الممكنات.
(و) أخرج البيهقي؛ في «شعب الإيمان» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، وكذا البزّار- بإسناد ضعيف؛ كما تقدّم- كلّهم رووه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا دخل رجب) أي: الشهر المسمّى بذلك الذي هو فرد من أفراد الأشهر الحرم؛ (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلّم:
( «اللهمّ) ؛ أي: يا الله (بارك لنا في رجب) - بالتنوين- (وشعبان) أي:
وفّقنا للأعمال الصالحة فيهما- (وبلّغنا رمضان» ) . لم يقل «ورمضان» ؛ بل زاد «وبلّغنا» !! لبعده عن أول رجب؛ كذا قاله الحفني.
قال ابن رجب: وفيه دليل على ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمنة الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإنّ المؤمن لا يزيده عمره إلّا خيرا.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبزّار، والطبراني- بسند؛ قال الهيثمي: فيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف، لكن روى عنه مالك- كلّهم رووه عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن قال مثل ما يقول) ذلك المؤذّن، (حتّى إذا بلغ) أي: ذلك المؤذّن (حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح) أي: هلمّوا(3/224)
قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن يتشهّد.. قال:
«وأنا.. وأنا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن قال:
(حيّ على الفلاح) ...
إليها، وأقبلوا وتعالوا مسرعين، (قال: «لا حول) ؛ أي: لا تحوّل لنا عن معصية الله. (ولا قوّة) لنا على طاعة الله تعالى (إلّا بالله» ) تعالى.
قال ابن الأثير: المراد بهذا ونحوه: إظهار الفقر إلى الله تعالى بطلب المعونة منه على ما يحاول من الأمور كالصلاة هنا، وهو حقيقة العبودية. انتهى.
(و) أخرج أبو داود، والحاكم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن يتشهّد) ؛ أي: ينطق بالشهادتين في أذانه؛ (قال: «وأنا.. وأنا» ) أي: يقول عند أشهد ألاإله إلّا الله: «وأنا» ، ويقول عند أشهد أنّ محمدا رسول الله: «وأنا» .
فقوله «وأنا» مبتدأ خبره محذوف؛ أي: وأنا أشهد كما تشهد، فتكرير «أنا» راجع إلى الشهادتين.
وفيه أنّه كان مكلّفا أن يشهد على رسالته كسائر الأمة.
وفيه أنّه لو اقتصر على قوله «وأنا» حصل له فضل متابعة الأذان كلّه؛ ذكره المناوي على «الجامع» ، وقال: رواه ابن حبّان وبوّب عليه «باب إباحة الاقتصار عند سماع الأذان على وأنا ... وأنا» . انتهى.
لكن قال الحفني في «حواشي الجامع الصغير» : لا تحصل سنّة الإجابة على لفظ «وأنا» ، بل لا بدّ من أن يقول «وأنا أشهد ... الخ» ، أو يقتصر على «أشهد ... الخ» بدون لفظ «أنا» . انتهى.
(و) أخرج ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» بسند ضعيف؛ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن؛ قال) في أذانه (حيّ على الفلاح) ؛(3/225)
قال: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر ...
أي: هذه الجملة؛ (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا له: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» أي: فائزين بكلّ خير، ناجين من كل ضير.
فيسنّ لمن سمع المؤذن أن يقول مثل قوله، فيأتي بكلّ كلمة عقب فراغ المؤّذن منها حتّى في الترجيع؛ وإن لم يسمعه. إلّا في قوله «حي على الصلاة.. حي على الصلاة، حي على الفلاح.. حي على الفلاح» فإنّه يقول «لا حول ولا قوة إلا بالله» .
قال في «حواشي فتح المعين» ويسنّ أن يجيب كلّا من الحيعلة بلفظه أيضا، ثم يحوقل ويزيد مع حيّ على الفلاح: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» . انتهى. قال في «فتح المعين» : ولو سمع بعض الأذان!! أجاب فيه وفيما لم يسمعه. ولو ترتّب المؤذّنون؟! أجاب الكلّ.
وفي «حواشي فتح المعين» . ومما عمّت به البلوى ما إذا أذّن المؤذنون، واختلطت أصواتهم على السامع؛ وصار بعضهم يسبق بعضا! وقد قال بعضهم:
لا يستحبّ إجابة هؤلاء. والذي أفتى به الشيخ عز الدين أنّه يستحبّ إجابتهم؛ أي: إجابة واحدة؛ ويتحقق ذلك بأن يتأخّر بكلّ كلمة حيث يغلب على ظنّه أنهم أتوابها، بحيث تقع إجابته متأخرة؛ أو مقارنة، فلو سكت حتى فرغ كلّ الأذان؛ ثم أجاب قبل فاصل طويل عرفا؟! كفى في أصل سنة الإجابة. انتهى.
وفي «فتاوي السمهودي» : لا يستحبّ للمؤذّن أن يجيب أذان نفسه؛ وإن تردّد في ذلك الإسنوي في «تمهيده» . وصنّف فيه السمهودي «جزآ» أودعه فتاويه المشرقة. وتردّد الأشخر في إجابة أذان غير الصلاة: هل يطلب؛ أم لا؟
واستظهر الثاني. قال: لأنّ الجواب إنّما هو للدّعاء إلى الصلاة، وغيره ذكر قد يطلب إجابته. قال: ولم أر فيه شيئا. انتهى «شرح الأذكار» .
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد ضعيف؛ عن حذيفة بن أسيد- بفتح الهمزة والتنوين-: الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي (صلى الله عليه وسلّم إذا نظر(3/226)
إلى البيت.. قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى ما يحبّ.. قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ، وإذا رأى ما يكره.. قال: «الحمد لله على كلّ حال، ...
إلى البيت) - أي: الكعبة- (قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا) أضافه إليه! لمزيد التشريف، وأتى باسم الإشارة! تفخيما (تشريفا) ؛ أي: ترفيعا وإعلاء (وتعظيما) ؛ أي: تبجيلا (وتكريما) ، أي: تفضيلا.
وكأنّ حكمة تقديم التعظيم على التكريم في البيت؛ وعكسه في قاصده: أنّ المقصود بالذّات في البيت إظهار عظمته في النفوس حتّى يخضع لشرفه ويقوم بحقوقه، ثم كرامته بإكرام زائريه بإعطائهم ما طلبوه، وإنجازهم ما أمّلوه. وفي زائره وجود كرامته عند الله تعالى بإسباغ رضاه عليه، وعفوه عمّا جناه واقترفه؛ ثم عظمته بين أبناء جنسه بظهور تقواه وهدايته أيضا!!.
ويرشد إلى هذا ختم دعاء البيت بالمهابة الناشئة عن تلك العظمة، إذ هي التوقير والإجلال، وختم دعاء الزائر بالبرّ الناشئ عن ذلك التكريم، إذ هو الاتساع في الإحسان. فتأمّله. أشار إليه بعض المتأخّرين؛ قاله ابن علّان.
(وبرّا ومهابة» ) إجلالا وعظمة، وتمام هذا الدّعاء في حديث الطبراني؛ كما في شرح «الأذكار» : «وزد من عظّمه وشرّفه ممّن حجّه؛ أو اعتمره، تشريفا وتكريما ومهابة وبرّا» . انتهى.
(و) أخرج ابن ماجه وابن السنّيّ: كلاهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال في «الأذكار» : وإسناده جيّد- قالت:
(كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّ قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ) قال الحسن: ما من رجل يرى نعمة الله عليه؛ فيقول: الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات إلّا أغناه الله. وزاد: (وإذا رأى ما يكره قال: «الحمد لله على كلّ حال(3/227)
ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرّعد ...
ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» ) بيّن به أنّ شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها، لأنّ تلك الشدائد نعم في الحقيقة؛ لأنّها تعرّضه لمنافع عظيمة ومثوبات جزيلة، وأعواض كريمة في العاقبة؛ تتلاشى في جنبها مشقّة هذه الشدائد فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) [النساء] ، وما سمّاه الله خيرا فهو أكثر مما يبلغه الوهم.
نحمده على شمول النّعم ... حتّى لقد أبطنها في الألم
والنعمة ليست هي اللّذة، وما اشتهته النّفس بمقتضى الطّبع، بل هي ما يزيد في رفعة الدّرجة؛ ذكره الإمام الغزالي؛ ونقله المناوي رحمهم الله تعالى. آمين.
(و) أخرج الإمام أحمد، والترمذي؛ في «كتاب الدعاء» - قال الصدر المناوي: بسند جيّد- وأخرجه الحاكم في «الأدب» : كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب- قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ. وفي العزيزي: قال الشيخ حديث صحيح، لكن قال النووي في «الأذكار» بعد عزوه للترمذي: إسناده ضعيف. وقال الحافظ العراقي: وسنده حسن؛ ذكره المناوي على «الجامع» - قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرّعد) بإضافة العامّ إلى الخاصّ للبيان، فالرّعد: هو الصوت الّذي يسمع من السّحاب؛ كذا قاله ابن الملك.
والصحيح: أن الرعد ملك موكّل بالسّحاب. وقد نقل الشافعي؛ عن الثّقة؛ عن مجاهد: أنّ الرّعد ملك، والبرق أجنحته يسوق السحاب بها، ثمّ قال:
وما أشبه ما قاله بظاهر القرآن!!. قال بعضهم: وعليه فيكون المسموع صوته، أو صوت سوقه على اختلاف فيه.
ونقل البغوي عن أكثر المفسرين: أنّ الرّعد ملك يسوق السحاب، والمسموع(3/228)
والصّواعق ...
تسبيحه. وعن ابن عباس: أنّ الرّعد ملك موكل بالسّحاب؛ وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه، وأنّه يسبح الله تعالى؛ فلا يبقى ملك إلّا يسبح، فعند ذلك ينزل المطر.
وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعث الله السّحاب فنطقت أحسن النّطق، وضحكت أحسن الضّحك، فالرّعد نطقها، والبرق ضحكها» .
وقيل: البرق لمعان صوت الرّعد يزجر به السّحاب.
وأما قول الفلاسفة: إن الرّعد صوت اصطكاك أجرام السّحاب، والبرق ما يقدح من اصطكاكها!! فهو من حزرهم وتخمينهم؛ فلا يعوّل عليه. انتهى.
ذكر جميع ذلك العلّامة محمد بن علي بن علّان في «شرح الأذكار» .
(والصّواعق) بالنصب، فيكون التقدير: وأحسّ الصّواعق، من باب:
«علفتها تبنا وماء باردا» . أو أطلق السّمع وأريد به الحسّ؛ من باب: إطلاق الجزء وإرادة الكلّ. وفي نسخة: بالجر؛ عطفا على الرّعد، وهو إنّما يصحّ على بعض الأقوال في تفسير الصّاعقة. قال بعضهم: قيل. هي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصحّ عطفه على شيء ممّا قبله.
وقيل: الصّاعقة صيحة العذاب أيضا، وتطلق على صوت شديد غاية الشّدة يسمع من الرّعد، وعلى هذا يصحّ عطفه على صوت الرعد، أي: صوت السحاب، فالمراد بالرّعد: السّحاب؛ بقرينة إضافة الصوت، أو الرعد: صوت السّحاب.
وقال الطيبيّ: هي قصفة رعد تنقضّ معها قطعة من نار، يقال: صعقته الصّاعقة: إذا أهلكته فصعق؛ أي: مات. إمّا لشدة الصوت، وإمّا بالإحراق، ولعلّ اختيار الجمع في قوله: الصواعق؛ موافقته للآية. انتهى.
ذكر ذلك كلّه الشيخ محمد علي بن علّان في «شرح الأذكار» النووية.(3/229)
قال: «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرّعد.. قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده» .
(قال «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك) الغضب استعارة، والمشبّه به الحالة التي تعرض للملك عند انفعاله، وغليان دم القلب، ثم الانتقام من المغضوب عليه، وأكثر ما ينتقم به القتل، فرشّح الاستعارة به عرفا.
(ولا تهلكنا بعذابك) الإهلاك والعذاب جاريان على الحقيقة في حقّه تعالى، وقيل: الغضب هنا من صفة الذّات، أي: إرادة الهلاك ونحوه، والعذاب من صفة الأفعال. ولمّا لم يكن تحصيل المطلوب إلّا بمعافاة الله تعالى كما أخبر: «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك» ؛ قال: (وعافنا) من البلايا والخطايا المقتضية للعذاب والغضب (قبل ذلك» ) أي: قبل وقوع ما ينتظر، والمراد الدّعاء بأن لا يقع شيء من ذلك.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي ورمز له برمز البخاريّ: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرّعد؛ قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد) هو: ملك موكّل بالسّحاب على ما ثبت في الأحاديث، فنسبة التسبيح إليه حقيقة، أي: ينزّهه متلبّسا (بحمده» ) .
وفي «الأذكار النووية» : روّينا بالإسناد الصحيح في «الموطأ» ؛ عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان إذا سمع الرّعد ترك الحديث؛ وقال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته» . انتهى.
قال في «شرحه» ؛ نقلا عن الحافظ ابن حجر: وهو حديث موقوف؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب المفرد» ، عن إسماعيل بن أبي أويس؛ عن مالك.
وقوله: «ترك الحديث» ؛ أي: الكلام مع الأنام.(3/230)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى المطر.. قال: «اللهمّ؛ صيّبا نافعا» .
وزاد الحافظ في روايته بعد قوله «جثا وترك الحديث» قوله: «وما كان فيه» ، فإن كان في صلاة أتمّ الصلاة؛ وقال: إنّ هذا لوعيد شديد لأهل الأرض، سبحان الّذي يسبح الرّعد بحمده ... الخ.
وأخرج الطبراني بإسناده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق ومطر، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته «ثلاثا» ؛ عوفي من ذلك الرعد، فقلنا فعوفينا، ثم لقيت عمر في بعض الطريق، فإذا بردة أصابت أنفه، فقلت: ما هذا؟ فقال: بردة أصابت أنفي، فأثّرت فيّ، فقلت: إن كعبا قال ... فذكره. فقلنا فعوفينا، فقال عمر:
فهلّا أعلمتمونا حتى نقول!! قال الحافظ: هذا موقوف حسن الإسناد، وهو؛ وإن كان عن كعب؛ فقد أقرّه ابن عباس وعمر، فدلّ على أنّ له أصلا.
قال: وقد وجدت بعضه بمعناه من وجه آخر عن ابن عباس أخرجه الطبراني أيضا؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا سمعتم الرّعد فاذكروا الله فإنّه لا يصيب ذاكرا» وفي سنده ضعف. انتهى. وقد جاء عن ابن عباس أيضا قال: ومن قال هذا الذكر فأصابته صاعقة؛ فعليّ ديته. انتهى كلام «شرح الأذكار» .
(و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «اللهمّ صيّبا) أي: اسقنا «صيّبا» أي: مطرا (نافعا) لا مغرقا كطوفان نوح؛ قاله ابن مالك.
وقال الطيبيّ: هو تتميم في غاية الحسن؛ لأنّ «صيّبا» مظنّة الضّرر، وتبعه عليه ابن حجر الهيتمي المكيّ. ويجوز أن يكون احترازا عن مطر لا يترتّب عليه نفع، أعمّ من أن يترتّب عليه ضرر؛ أم لا، وقد روى هذا الحديث النسائيّ وابن ماجه، لكن قال: «سيّبا» بإبدال الصّاد في «صيبا» سينا.(3/231)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سال السّيل.. قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا، فنتطهّر منه، ونحمد الله عليه» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل.. قال:
«اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت فيها» .
قال الحافظ العراقي: وسند الكلّ صحيح، فينبغي- كما نقل في «المرقاة» عن النووي- الجمع بين ذلك كلّه، أو يأتي بما في كلّ رواية. والله أعلم.
(و) أخرج الإمام الشافعي في «مسنده» ، والبيهقي في «سننه» : كلاهما عن يزيد بن الهاد مرسلا، ونقل المناوي عن الذّهبيّ أنه مع إرساله منقطع أيضا:
(كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا سال السّيل قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا) أي: جعل ما سال فيه مطهرا (فنتطهّر منه) الطهارة: تشمل الغسل والوضوء، والأفضل عند الشافعية الجمع بين الغسل والوضوء، ثم الغسل، ثم الوضوء، فيسنّ فعل ذلك لكلّ أحد. قالت الشافعية: ويسنّ لكلّ أحد أن يبرز للمطر، ولأول مطر آكد، ويكشف له من بدنه غير عورته، ويغتسل ويتوضّأ في سيل الوادي، فإن لم يجمعهما توضأ.
(ونحمد الله عليه» ) ؛ أي: على حصوله.
(و) أخرج ابن السنيّ والبزار والطبراني في «الكبير» كلّهم؛ عن عثمان بن أبي العاصي رضي الله تعالى عنه- وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق وأبو شيبة؛ وكلاهما ضعيف كما قال الحافظ الهيثمي، قال الحافظ ابن حجر: لكن تقوى بشواهده-.
(كان) النبي (صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل) - قال العزيزي: بسكون الميم؛ مقابل الجنوب-.
(قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت) - بفتح التاء المثناة- (فيها» )(3/232)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ اجعلها لقحا لا عقيما» ؛ ...
وفي رواية بدله: «من شرّ ما أرسلت به» ؛ على صيغة المجهول، والمراد: أنها قد تبعث عذابا على قوم، فتعوّذ من ذلك، فتندب المحافظة على قول ذلك عند اشتدادها وعدم الغافلة عنه.
قال النووي في «الأذكار» : روّينا في «سنن أبي داود» وابن ماجه بإسناد حسن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«الرّيح من روح الله تعالى، تأتي بالرّحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها» . قلت: قوله صلى الله عليه وسلّم «من روح الله» هو- بفتح الراء- قال العلماء، أي: من رحمة الله بعباده. انتهى.
فائدة: ذكر شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ وغيره: أنّ الرياح أربع: التي تجيء من تجاه الكعبة: الصّبا، ومن ورائها: الدّبور، ومن جهة يمينها: الجنوب، ومن جهة شمالها: الشمأل. ولكلّ منها طبع، فالصّبا: حارّة رطبة، والدّبور:
باردة رطبة، والجنوب: حارّة رطبة، والشمأل: باردة يابسة، وهي من ريح الجنة التي تهبّ عليهم؛ كما في «مسلم» انتهى. ذكره ابن علان في «شرح الأذكار» .
(و) أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ، وابن حبان في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» ، وابن السنّي كلّهم؛ عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح؛ كما قال الحافظ ابن حجر- قال:
(كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّت الرّيح قال: «اللهمّ [اجعلها] لقحا) - بفتح اللام والقاف-؛ من باب تعب، قال في «السلاح» - بفتح اللام مع فتح القاف وسكونها، وبالحاء المهملة-: الحاملة للسحاب، والعقيم بعكسه انتهى.
أي: اجعلها حاملة للماء كاللّقحة من الإبل؛ (لا عقيما» ) هو تأكيد لما قبله؛ أي: لا تجعلها خالية عن الماء كالعقيم من الحيوان؛ لا ولد له، شبّه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك(3/233)
أي: حاملا للماء كاللّقحة من الإبل.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها؛ وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، وشرّ ما أرسلت به» ...
بالعقيم. قال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [22/ الحجر] .
ثم بيّن المصنف معنى قوله في الحديث «لقحا» ؛ فقال: (أي: حاملا للماء كاللّقحة) - بكسر اللام وفتحها- أي: الناقة (من الإبل) القريبة العهد بالنتاج، والجمع: لقح، وقد لقحت الناقة لقحا ولقاحا، وناقة لاقح إذا كانت حاملا، ونوق لواقح، واللّقاح: ذوات الألبان، الواحدة: لقوح. كذا في «النهاية» .
(وكان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا عصفت) - بفتح أوّليه المهملتين وبالفاء- (الرّيح) أي: اشتدّ هبوبها (قال) داعيا إلى الله ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها) أي: الخير العارض منها من المنافع كلّها.
(و) أسألك (خير ما أرسلت به) ؛ أي: بخصوصها في وقتها، وهي بصيغة المجهول. (وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها؛ وشرّ ما أرسلت به» ) - على صيغة المجهول- قال المناوي كالعلقمي: - وتمامه عند مخرّجه مسلم- قالت: أي:
عائشة، وإذا تخيّلت السماء تغيّر لونه، وخرج؛ ودخل، وأقبل؛ وأدبر، فإذا أمطرت سرّي عنه فعرفت ذلك فسألته!، فقال: «لعلّه يا عائشة كما قال الله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» [24/ الأحقاف] الآية. انتهى.
قال الحفني: ففيه الاستعداد بالمراقبة لله تعالى والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه صلى الله عليه وسلّم أن يعاقبوا بعصيان العصاة، وسروره بزوال الخوف. وهذا لا ينافي قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال] !! لأنه يخاف أن يكون عذابا مخصوصا أو معلقا على شيء، كما قال بعض المبشرين بالجنة: لو كانت إحدى رجليّ داخل الجنّة والآخرى خارجها(3/234)
روته عائشة رضي الله تعالى عنها.
ما أمنت مكر الله. انتهى.
قال العزيزي: قال أبو عبيد وغيره: «تخيلت السماء» من المخيلة- بفتح الميم-: وهي سحابة فيها رعد وبرق تخيّل إليه أنها ماطرة، ويقال: أخالت إذا تغيّرت. انتهى.
(روته عائشة) أم المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) فيما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عنها.
تنبيه: قال في «شرح الأذكار» : وقع في «المشكاة» أن الحديث متفق عليه!! فنظر فيه في «المرقاة» بأنه من أفراد مسلم، كما يفهم من كلام ابن الجزري في «التصحيح» حيث قال: رواه مسلم، وأبو داود ... الخ.
وقد عزاه السيوطي في «الجامع الصغير» إلى تخريج الترمذي أيضا؛ ولم يذكر أبا داود فيمن خرّجه!! وراجعت «باب ما يقول: إذا هاجت الريح» ؛ من «سنن أبي داود» فلم أره فيه، فلعلّ ما نقله ابن الجزري عنه في بعض النسخ، ثم رأيت ما يؤيد ما ذكره صاحب «المشكاة» ؛ وهو «تيسير الوصول إلى جامع الأصول» لابن الدّيبع بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور، وقال: أخرجه الشيخان هكذا، والترمذي. انتهى. وأخرجه الترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح، والإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا الرّيح، فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا: اللهمّ؛ إنّا نسألك خير هذه الرّيح وخير ما فيها؛ وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شرّ هذه الرّيح؛ وشرّ ما فيها؛ وشرّ ما أمرت به» .
وأخرج ابن السنّي؛ عن أنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا وقعت كبيرة؛ أو هاجت ريح عظيمة فعليكم بالتّكبير؛ فإنه يجلو العجاج الأسود» . ذكره النووي في «الأذكار» . وقوله:(3/235)
وروى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا هاجت ريح ...
«كبيرة» الله أعلم أنّ التقدير: مصيبة كبيرة؛ أي: من موت، أو حريق، فالتكبير يدفع حرّ النار، وإذا استحضر العبد مضمون التكبير هان عليه ما لاقاه من مصيبة.
وقوله: «العجاج الأسود» !! قال النووي في «التهذيب» ؛ نقلا عن أبي عبيد: العجاج غبار تثور به الريح، الواحدة: عجاجة؛ أي: أنّ التكبير يجلو؛ أي: يذهب عن مرآة الجوّ العجاج الأسود من الظلمة والقتام. والله أعلم.
ثم يحتمل أن يكون ذلك على حقيقته بما خصّ الله به التكبير من رفع ذلك، ويحتمل أن يكون المراد يجلو عن القلب التعب الحاصل من القتام الأسود؛ أي:
لردّه الأمر حينئذ إلى فاعله، وعلمه بالفاعل المختار الّذي لا يخلو فعل من أفعاله عن حكمة والله أعلم. انتهى. ذكره في «شرح الأذكار» .
(وروى ابن عبّاس) حبر الأمّة وترجمان القرآن- وقد تقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما) فيما أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «سننه» عنه بسند فيه حسين بن قيس الملقب ب «حنش» ، وهو متروك؛ وبقية رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي-.
ورواه ابن عدي في «الكامل» من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي، وذكره المناوي؛ فقال: ثم رأيت الحافظ في «الفتح» عزاه لأبي يعلى وحده؛ عن أنس رفعه، وقال: إسناده صحيح. انتهى.
قال:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلّم إذا هاجت ريح) ؛ أي: اشتدّ هبوبها، والريح المفردة في القرآن للشرّ، والمجموعة للخير، ولم ترد في القرآن مفردة في الخير إلّا في موضع واحد، وهو قوله تعالى وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [22/ يونس] ذكره العزيزي والحفني وغيرهما. قال المناوي: وفي رواية: «الريح» معرّفا.(3/236)
استقبلها بوجهه، وجثا على ركبتيه، ومدّ يديه، وقال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، اللهمّ؛ اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» .
(استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه) أي: قعد عليهما وعطف ساقيه إلى تحته، وهو قعود المستوفز الخائف الّذي إذا احتاج إلى النهوض نهض سريعا، وهو قعود الصغير بين يدي الكبير، وفيه نوع أدب مع الله تعالى، فكان هذا منه صلى الله عليه وسلّم تواضعا لله وخوفا على أمّته، وتعليما لهم في تبعيّته كأنّه لمّا هبت الريح وأراد أن يخاطب ربّه بالدعاء قعد قعود المتواضع لربّه الخائف من عذابه.
(ومدّ يديه) للدعاء (وقال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، [وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به] ، اللهمّ؛ اجعلها رحمة) لنا (ولا تجعلها عذابا) علينا، (اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» ) .
لأنّ الريح من الهواء، والهواء أحد العناصر الأربع التي بها قوام الحيوان والنبات، حتّى لو فرض عدم الهواء دقيقة لم يعش حيوان، ولم ينبت نبات.
والريح: اضطراب الهواء وتموّجه في الجوّ؛ فيصادف الأجسام فيحللها، فيوصل إلى دواخلها من لطائفها ما يقوم لحاجته إليه، فإذا كانت الريح واحدة جاءت من جهة واحدة، وصدمت جسم الإنسان والنبات من جانب واحد، فتؤثّر فيه أثرا أكثر من حاجته؛ فتضرّه، ويتضرّر الجانب المقابل لعكس مهبّها بفوت حظّه من الهواء؛ فيكون داعيا إلى فساده، بخلاف ما لو كانت رياحا تعمّ جوانب الجسم، فيأخذ كلّ جانب حظّه؛ فيحدث الاعتدال. ذكره المناوي.
وفي «شرح الأذكار» لابن علان رحمه الله تعالى: قال ابن الجوزي في «المنتخب» : قال ابن عباس: الرّياح ثمان؛
أربع للرحمة: المبشرات، والمثيرات، والمرسلات، والرّخاء. قلت:(3/237)
.........
وفي «المرقاة» بدل «المبشرات والرخاء» بدلهما «الذاريات، والناشرات» .
وأربع للعذاب: العاصف، والقاصف- وهما في البحر-. والصّرصر، والعقيم- وهما في البرّ-.
قال عبيد بن عمر: يبعث الله تعالى ريحا فتقمّ الأرض، ثمّ يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثمّ يبعث المؤلّفة فتؤلّفه، ثمّ يبعث اللّواقح؛ فتلقّح الشجر. انتهى كلام «المنتخب» .
قال المناوي: استشكل ابن العربي خوفه أن يعذّبوا؛ وهو فيهم، مع قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال] !!؟.
ثمّ أجاب بأن الآية نزلت بعد القصة.
واعترضه ابن حجر بأن آية الأنفال كانت في المشركين من أهل بدر، ولفظ «كان» في الخبر يشعر بالمواظبة على ذلك. ثمّ أجاب بأنّ في الآية احتمال التخصيص بالمذكورين، أو بوقت دون وقت، أو بأنّ مقام الخوف يقتضي عدم أمن المكر، أو خشي على من ليس فيهم أن يقع بهم العذاب، فالمؤمن شفقة عليه، والكافر يودّ إسلامه، وهو مبعوث رحمة للعالمين. انتهى.
ثمّ قال: قال ابن المنيّر: هذا الحديث مخصوص بغير الصّبا من جميع أنواع الريح؛ لقوله في الحديث: «نصرت بالصّبا» .
ويحتمل إبقاء هذا الحديث على عمومه ويكون نصرها له متأخّرا عن ذلك، أو أنّ نصرها له بسبب إهلاك أعدائه، فيخشى من هبوبها أن تهلك أحدا من عصاة المؤمنين؛ وهو كان بهم رؤوفا رحيما.
وأيضا فالصّبا يؤلّف السحاب ويجمعه، ثمّ يقع المطر غالبا، وقد جاء في خبر: أنه كان إذا أمطرت سرّي عنه، وذلك يقتضي أن يكون الصّبا مما يقع التخوف عند هبوبها، فيعكّر ذلك على التخصيص المذكور!. انتهى ما ذكره المناوي رحمه الله تعالى.(3/238)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال.. قال: «هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك» (ثلاثا) .
(و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛ في «كتاب الأدب» عن قتادة بلاغا، قال الحافظ: ورجاله ثقات، فإن كان المبلّغ صحابيا فهو صحيح. انتهى.
وأخرجه ابن السنّي أيضا؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال الحافظ العراقي: وأسنده أيضا الدارقطني في «الأفراد» ، والطبراني في «الأوسط» ؛ عن أنس، قال أبو داود: ليس في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديث مسند صحيح. قال:
(كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال) الهلال: اسم للقمر لليلتين من أول الشهر، ثمّ هو قمر، لكن في «الصحاح» : أنه اسم لثلاث ليال من أول الشهر.
(قال: «هلال) الظاهر أنه منصوب بمقدر؛ أي: اللهمّ اجعله هلال (خير) أي: بركة (ورشد) أي: صلاح، كما يدلّ على ذلك رواية ابن السنيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه: كان إذا نظر إلى الهلال قال: «اللهمّ اجعله هلال يمن ورشد، آمنت بالّذي خلقك فعدلك، تبارك الله أحسن الخالقين» . ففي هذه الرواية التصريح بالفعل المقدر.
(آمنت ب) الله (الّذي خلقك» ثلاثا) أي: يكرّر ذلك ثلاثا، فيقول: «هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك، آمنت بالّذي خلقك، آمنت بالّذي خلقك» ، والتّكرار! للاعتناء بالمقام، والثلاث! لأنها آخر القلّة ومبدأ الكثرة.
وقد ورد في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا دعا دعا ثلاثا. وإضافة الخير والرشد! رجاء أن يقعا فيه، وتعليما لأمته.
وظاهر مخاطبته صلى الله عليه وسلّم له!! أنّه ليس بجماد، بل حيّ دارك يعقل ويفهم.
قال حجّة الإسلام: وليس في أحكام الشريعة ما يدفعه؛ ولا ما يثبته!! فلا(3/239)
ثمّ يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» .
ضرر علينا في إثباته. ذكره المناوي على «الجامع» والعزيزي أيضا.
(ثمّ يقول) بعده ( «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» ) .
ولأبي داود عن قتادة مرسلا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه.
قال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه: ووجدت لمرسل قتادة شاهدا مرسلا أيضا؛ أخرجه مسدد في «مسنده الكبير» ورجاله ثقات،
قال: ووجدت له شاهدا موصولا؛ من حديث أنس بن مالك قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أقاويل يقولها في الهلال إذا رآه؛
منها أنّه كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه؛ وقال: «هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك» . يردّدها ثلاثا.
ومنها: كان يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» .
وكان يقول: «اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسّلامة والإسلام» .
وكان يقول: «الحمد لله الّذي بدأكم ثمّ يعيدكم» .
وكان يقول: «الحمد لله الّذي خلقك وسوّاك فعدلك، ربّي وربّك الله» .
قال الحافظ بعد تخريجه: هذا غريب أخرجه أبو نعيم في «عمل اليوم والليلة» ، ورجاله ثقات إلّا عمر بن أيوب- يعني: الغفاري- فإنّه ضعيف جدّا، ونسبه الدّارقطني مرّة إلى الوضع. انتهى ذكره في «شرح الأذكار» .
(و) أخرج الإمام أحمد والترمذي في «الدعوات» ؛ وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمي في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» في «الأدب» : كلّهم من حديث سليمان بن سفيان، عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه يحيى، عن جدّه طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ المكيّ ثم المدنيّ، أحد العشرة رضي الله تعالى عنه.(3/240)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال.. قال: «اللهمّ؛ أهلّه علينا باليمن والإيمان والسّلامة والإسلام، ربّي وربّك الله» .
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ونوزع بأن الحديث عدّ من منكرات سليمان المذكور!! وقد ضعفه ابن المديني، وأبو حاتم، والدارقطني، وقال: ليّن ليس بثقة. وذكره ابن حبان في «الثقات» ؛ وقال: يخطئ!!
وقال الحافظ ابن حجر: صحّحه الحاكم وغلط في ذلك، فإن فيه سليمان بن سفيان ضعّفوه، وإنّما حسّنه الترمذيّ!! لشواهده. انتهى. قال:
(كان) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال؛ قال: «اللهمّ؛ أهلّه) قال الطيبي: روي بالفكّ والإدغام. (علينا) ؛ أي: أطلعه علينا مقترنا (باليمن) ؛ أي: البركة (والإيمان) ؛ أي: بدوامه وكماله (والسّلامة والإسلام) ؛ أي: الانقياد للأحكام.
قال الحكيم الترمذيّ: «اليمن» : السعادة، و «الإيمان» : الطمأنينة بالله، كأنّه سأل دوامهما، و «السلامة والإسلام» : أن يدوم له الإسلام ويسلم له شهره، فإنّ لله في كلّ شهر حكما وقضاء في الملكوت، وفيه تنبيه على ندب الدعاء؛ لا سيّما عند ظهور الآيات وتقلّب أحوال النيرات: وعلى أنّ التوجّه فيه إلى الربّ؛ لا إلى المربوب، والالتفات في ذلك إلى صنع الصانع؛ لا إلى المصنوع. ذكره التوربشتي. انتهى من المناوي على «الجامع» .
وزاد قوله: (ربّي وربّك الله» ) لأن أهل الجاهلية فيهم من يعبد القمرين؛ فكأنه يناغيه ويخاطبه؛ فيقول: أنت مسخّر لنا لتضيء لأهل الأرض؛ ليعلموا عدد السنين والحساب.
وقال الطّيبي: لما قدّم الدعاء في قوله: «اليمن والإيمان، والسلامة والإسلام» طلب في كلّ من الفقرتين دفع ما يؤذيه من المضارّ، وجلب ما يرفعه من المنافع. وعبّر بالإيمان والإسلام عنها!! دلالة على أنّ نعمة الإيمان والإسلام(3/241)
وفي رواية: «بالأمن» بدل «اليمن» .
وكان آخر كلامه صلّى الله عليه وسلّم: ...
شاملة للنّعم كلّها، ومحتوية على المنافع بأسرها، فدلّ على عظم شأن الهلال حيث جعل وسيلة لهذا المطلوب، فالتفت إليه قائلا: «ربي وربك الله» مقتديا بأبيه إبراهيم حيث قال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) ؛ بعد قوله هذا رَبِّي [76/ الأنعام] .
وفيه من اللطائف أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم جمع بين طلب دفع المضارّ وجلب المنافع في ألفاظ يجمعها معنى الاشتقاق؛ ذكره المناوي في «كبيره على الجامع» رحمه الله تعالى. آمين.
(وفي رواية) للدارمي في «مسنده» ، والطبراني في «الكبير» بسند ضعيف (بالأمن بدل) قوله: (اليمن) الواقع في الرواية السابقة.
ولفظ الرواية هذه: عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر، اللهم؛ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسّلامة والإسلام، والتّوفيق لما تحبّ وترضى، ربّنا وربّك الله» .
انتهى. ذكرها في «الأذكار» و «الجامع الصغير» .
(و) أخرج أبو داود في الأدب، وابن ماجه في «الوصايا» ؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه- وفي العزيزي: إنه حديث صحيح- قال:
(كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلّم) ؛ أي: ممّا يتعلّق بنصح الأمة والأعمال المطلوبة منهم، وكذا ما بعده، فإنّ فيه نهيا للأمّة عن مثل فعل اليهود من اتّخاذهم قبور أنبيائهم مساجد كما سيأتي. أما آخر كلامه على الإطلاق: ف «جلال ربّي الرّفيع» كما سيأتي، وقيل: «الرّفيق الأعلى» . وجمع بأنه نطق بهما معا؛ بأن قال:
«جلال ربّي الرّفيع.. الرّفيق الأعلى» ! قاله الحفني على «الجامع» .(3/242)
«الصّلاة ... الصّلاة، اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» .
وكان آخر ما تكلّم به صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «قاتل الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ...
وقوله: ( «الصّلاة الصّلاة) ؛ أي: احفظوها بالمواظبة عليها، والإتيان بها في أوقاتها، فهو منصوب على الإغراء، وكرّره للتأكيد.
(اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» ) ؛ أي: فيما ملكتم من الأرقّاء بالإنفاق عليهم، والرّفق بهم، وخصّ اليمين!! لأنّ أكثر تصرّف الشخص فيما يملك بيده اليمنى، فأضيف الملك إليها لذلك، وقرن الوصيّة بالصّلاة الوصيّة بالمملوك!! إشارة إلى وجوب رعاية حقّه على سيّده كوجوب الصلاة. قالوا: وذا من جوامع الكلم، لشمول الوصية بالصلاة لكلّ مأمور ومنهي إذ هي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وشمول ما ملكت أيمانكم لكلّ ما يتصرّف فيه ملكا وقهرا، لأنّ «ما» عامّ في ذوي العلم وغيرهم، فلذا جعله آخر كلامه. انتهى. ذكره شرّاح «الجامع الصغير» .
(و) أخرج البيهقي في «سننه» ؛ عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه قال: (كان آخر ما تكلّم به) النبيّ (صلى الله عليه وسلّم أن قال «قاتل الله اليهود والنّصارى) ؛ أي: قتلهم وأهلكهم. (اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) هذا ظاهر في اليهود؛ دون النّصارى، إذ ليس لهم نبيّ مدفون، لأن سيدنا عيسى رفع وليس بينه وبين نبيّنا نبيّ أصلا!! فإمّا أن يكون ضمير «اتخذوا» راجعا لليهود فقط، وإما يكون راجعا للنصارى أيضا باعتبار إطلاق لفظ الأنبياء على أحبارهم تجوّزا، لأنّهم كانوا يعظّمونهم كتعظيم الأنبياء ويسجدون إلى قبورهم، وهذا نهي لأمّته عن مثل فعلهم. ويؤيده قوله في رواية لمسلم: «قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» .
ولهذا لما أفرد النّصارى في حديث قال: «إذا مات فيهم الرجل الصّالح» ، ولما أفرد اليهود في حديث قال: «قبور أنبيائهم» .(3/243)
لا يبقينّ دينان بأرض العرب» .
وكان آخر ما تكلّم به صلّى الله عليه وسلّم: «جلال ربّي الرّفيع، فقد بلّغت» ، ثمّ قضى صلّى الله عليه وسلّم.
(لا يبقينّ دينان) - بكسر الدال- (بأرض العرب» ) .
قال المناوي: وفي رواية: «بجزيرة العرب» انتهى.
أي: فهو نهي عن إقامة الكفّار فيها.
وفي المناوي على «الجامع» : وقد أخذ الأئمّة بهذا الحديث؛ فقالوا: يخرج من جزيرة العرب من دان بغير ديننا، لكنّ الشافعي خصّ المنع بالحجاز: وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها؛ دون اليمن من أرض العرب. انتهى.
(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
(كان آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وسلّم) مطلقا ( «جلال ربّي) - بالنصب- أي: أختار جلال ربّي (الرّفيع، فقد بلّغت» ) جميع ما أمرت بتبليغه فلا عذر لكم.
(ثمّ قضى) ؛ أي: مات (صلى الله عليه وسلّم) . ولا يناقضه ما سبق، لأنّ ذلك آخر وصاياه لأهله وأصحابه وولاة الأمور من بعده؛ وذا آخر ما نطق به.
قال السهيليّ: وجه اختيار هذه الكلمة من الحكمة أنّها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرّخصة لغيره في النّطق، وأنّه لا يشترط الذكر باللّسان.
وأصل هذا الحديث في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله تعالى عنها:
كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول وهو صحيح: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة» ، ثمّ أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثمّ قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فعلمت أنّه لا يختارنا، وعرفت أنّه الحديث الّذي كان يحدّثنا وهو صحيح، والذي دعاه إلى ذلك رغبته في لقاء محبوبه، فلما عيّن للبقاء محلا خاصّا؛ ولا ينال إلا بالخروج من هذه الدّار التي تنافي ذلك اللّقاء اختار الرفيق الأعلى.(3/244)
.........
تتمة: ذكر السهيليّ عن الواقدي: أنّ أول كلمة تكلّم بها المصطفى صلى الله عليه وسلّم لمّا ولد: «جلال ربّي الرفيع» ، لكن روى عائذ: أنّ أوّل ما تكلّم به لما ولدته أمّه حين خروجه من بطنها: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا» . انتهى.
ذكره المناوي في «شرح الجامع الصغير» رحمه الله تعالى. آمين.(3/245)
[الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وهي على عدد الرّسل الكرام، وأهل بدر شموس الإسلام.
(الفصل الثّالث) من الباب السابع (في) ذكر (ثلاث مائة وثلاثة عشر حديثا) تقريبا (من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم) .
من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: كلمه الجوامع للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ بنظم لطيف لا يعثر الفكر في طلبه، ولا يلتوي الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذّهن إلّا معناها إليه أسبق، كما قال صلى الله عليه وسلّم: «أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . رواه أبو يعلى والبيهقي عن ابن عمر، والدارقطني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم. قاله الزرقاني على «المواهب» .
(وهي على عدد الرّسل الكرام) صلوات الله وسلامه عليهم، إذ قيل: إنهم ثلثمائة وثلاثة عشر، وقيل: وأربعة عشر، وقيل: وخمسة عشر، والأسلم الإمساك عن ذلك، لقوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [78/ غافر] .
(و) هي أيضا على عدد (أهل بدر) الكبرى (شموس الإسلام) رضوان الله عليهم. في «السّيرة الشامية» بدر: قرية مشهورة على نحو أربع مراحل من المدينة المنورة، وكان أهل غزوة بدر ثلثمائة وسبعة عشر رجلا، وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا، ويؤيّد هذه الرواية أنّه صلى الله عليه وسلّم أمر بعدّهم فأخبر بأنهم ثلثمائة وثلاثة عشر؛ ففرح بذلك، وقال: «عدّة أصحاب طالوت» انتهى. ذكره الباجوري.(3/246)
اخترتها من «الشّفا» للقاضي عياض، و: «المواهب اللّدنّيّة» للعلّامة القسطلّانيّ، و: «الجامع الصغير» و: «الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» كلاهما للحافظ السّيوطيّ، و: «كنوز الحقائق» و: «طبقات الأولياء» كلاهما للعلّامة المناويّ.
(اخترتها) ؛ أي: انتقيتها وجمعتها (من) كتاب ( «الشّفاء) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلّم» (للقاضي) أبي الفضل (عياض) بن موسى اليحصبي المالكي رحمه الله تعالى رحمة واسعة. آمين.
(و) من كتاب ( «المواهب اللّدنّيّة) بالمنح المحمدية» (للعلّامة) شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر الخطيب (القسطلّانيّ) - بضم القاف، وسكون السين. وضم الطاء المهملتين، وتشديد اللام- كذا أخذناه عن المشايخ شرقا وغربا، ووجدناه بخط من يقتدى به. انتهى من «هدى الأبرار شرح منظومة طلعة الأنوار» ؛ نقله شيخنا الشيخ حسن المشاط في تعليقه على «رفع الأستار» .
(و) من كتاب ( «الجامع الصّغير) من أحاديث البشير النّذير» .
(و) من كتاب ( «الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» ) على ألسنة العامة ومن ضاهاهم من الفقهاء الذين لا علم لهم بالأحاديث كما ذكر ذلك في مقدمتها.
(كلاهما) ؛ أي: «الجامع» و «الدرر» (للحافظ) وليّ الله تعالى جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (السّيوطيّ) رحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
(و) من كتاب ( «كنوز الحقائق) في حديث خير الخلائق» ، (و) من كتاب ( «طبقات الأولياء» ) وهي الطبقات الكبرى المسمّاة «الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية» (كلاهما) ؛ أي: «كنوز الحقائق» و «الطبقات» (للعلّامة) الحبر الفهامة صاحب القلم السّيّال: عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الملقّب «زين الدين» الحدادي (المناويّ) - بضم الميم-: صاحب التصانيف السائرة رحمه الله تعالى ورضي عنه، وقد تقدّمت ترجمتهم جميعا في أول(3/247)
ومن المعلوم عند النّاس كافّة، ...
الكتاب رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار، وأسكنهم أعلى فراديس القرار، ونفعنا بعلومهم، وأعاد علينا من فهومهم بمنه وكرمه. آمين.
(ومن المعلوم) المقرّر (عند النّاس) : اسم وضع للجمع كالقوم والرّهط، وواحده إنسان من غير لفظه، مشتق من: ناس ينوس؛ إذا تدلى وتحرك، فيطلق على الجنّ والإنس. قال تعالى الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) [الناس] ، ثمّ فسّر الناس بالجنّ والنّاس، فقال مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) [الناس] ، وسمّى الجنّ ناسا كما سموا رجالا، قال تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [6/ الجن] وكانت العرب تقول: رأيت ناسا من الجنّ، ويصغر الناس على «نويس» ، لكن غلب استعماله في الإنس؛ قاله في «المصباح» .
(كافّة) ؛ أي: جميعا، قال سيبويه: إنّ «كافّة» يلزم التنكير والنصب على الحالية؛ كعامّة، وقاطبة، وطرّا، ونحوه، وزاد غيره: أنّها لا تثنى ولا تجمع ولا تطلق على غير العقلاء، ولم يرد ذلك في كلام الله تعالى، ولا في كلام العرب!.
ووهّموا من استعملها على خلاف ذلك: كابن نباته في «خطبه» وصاحب «الكشاف» في «كشافه» ، وفي قوله في خطبة «المفصل» : «محيط بكافّة الأبواب» لإخراجه لها عن النصب والتنكير، واستعمالها فيما لا يعقل.
وأما قول الجوهري « «الكافة» الجميع من الناس» !! فلا وهم فيه؛ لأن النكرة إذا أريد لفظها يجوز أن تعرّف فلا وهم فيه، كما توهّم صاحب «درة الغواص» للحريري؛ ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في «شرح الشفا» على قول المتن: «ما روته الكافّة عن الكافة» . وتعقّبه بقوله: هذا وإن اتفقوا عليه لا وجه له رواية ودراية.
أما الأوّل: فلأن العرب إذا استعملت لفظا في معنى وضعته له على وجه مخصوص من الإعراب؛ لم يلزم غيرهم اتّباعهم فيه، ولو قلنا بذلك لأدّى إلى(3/248)
موافقين ومخالفين، مسلمين وغير مسلمين.. أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفصح النّاس على الإطلاق، ولم يخالف في ذلك أحد.
التضييق على الناس في استعمال الألفاظ العربية. وعدّ هذا ونحوه لحنا- كما قاله الحريري- لا وجه له.
وأما الثاني: فلأنّه روي عن عمر رضي الله تعالى عنه استعماله في كتابه لبني كاكله المرويّ عنه رواية ثابتة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك أيضا حيث كتبه بعينه بين جمع من الصّحابة وناهيك بهم فصاحة!!
فإن أردت تفصيله فانظره في شرحنا ل «درة الغواص في أوهام الخواص» .
انتهى كلام الخفاجي رحمه الله تعالى.
والمراد بقوله «كافّة» : عموم الناس كما بيّنه بقوله: (موافقين) لنا في الدّين والعقيدة، (ومخالفين) فيهما (مسلمين؛ وغير مسلمين) ، فجميع الطوائف وجميع الفرق على اختلاف أديانهم وعقائدهم ومذاهبهم ومشاربهم كلّهم معترفون (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أفصح النّاس على الإطلاق) أي: أقدرهم على الإتيان بالكلام الفصيح؛ أي: البليغ، فالفصاحة قد تطلق ويراد بها البلاغة، وهو أحسنهم بيانا، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب، ويسلب الأرواح، لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة.
(ولم يخالف في ذلك أحد) من سائر الطوائف، فكيف وهو الذي شدّت به الفصاحة نطاقها، ومدّت إليه البلاغة رواقها، وقد كان يقول: «أنا أفصح العرب» !! ذكره في «المواهب» ؛ أي: والعرب أفصح الناس، فهو أفصح الفصحاء، وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله؛ مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟!. فقال: «كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاءني بها جبريل فحفظتها» . رواه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» بإسناد ضعيف، وفي رواية ابن عساكر: «فحفّظنيها» ؛ أي: جبريل، فلذا كنت أفصح العرب. ينطق بأفصح(3/249)
وهاكها مرتّبة على الحروف:
اللّغات وأتمّ البلاغات، وأفحم بلغاء العرب قاطبة، فلم يدع منهم أحدا إلّا أعجزه وأدلّه، وحيّره في أمره وأعلّه؛ قاله الزرقاني على «المواهب» قال:
وأما ما يروى: «أنا أفصح من نطق بالضّاد» !! فقال ابن كثير: لا أصل له.
انتهى، لكن معناه صحيح.
وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند.
وقد جمع العلماء كابن السنّي، والقضاعيّ، وابن الصّلاح في آخرين من كلامه الفرد الموجز البديع الذي لم يسبق إليه كتبا مستقلة، وتبعهم المصنف فذكر منها جملة وافرة في هذا الفصل، (وهاكها) ؛ أي: خذها، لأن «ها» اسم فعل أمر بمعنى «خذ» . وفيه: لغتان: القصر والمدّ، ويستعمل مجرّدا، فيقال: للواحد المذكر وغيره «ها» بالقصر، و «هاء» بالمد، ويستعمل متلوا بكاف الخطاب بحسب المخاطب، فيقال: «هاك، وهاك، وهاكما، وهاكم، وهاكن» ، ويستعمل مقتصرا على تصرف الهمزة فيقال: «هاء وهاؤما وهاؤم وهاؤن» .
وهذه أفصح اللّغات فيها، وبها ورد القرآن؛ قاله السيوطي في «شرح جمع الجوامع» النحوي.
(مرتّبة على الحروف) فما كان أوله همزة ففي حرف الهمزة، وما كان أوله باء موحدة ففي حرف الباء، وهكذا قال المصنف:(3/250)
[ (حرف الهمزة) ]
(حرف الهمزة) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
1- «أوتيت جوامع الكلم» .
(حرف الهمزة) ؛ أي: هذا باب الأحاديث المبدوءة بحرف الهمزة، وصدّرها بحديث «أوتيت جوامع الكلم» !! لما فيه من المناسبة للفصل الذي عقده، إذ تضمّن ذلك الحديث براعة الاستهلال، وحسن المطلع، وهي أن يأتي المتكلم في طالعة كلامه بما يشعر بمقصوده.
ومراد المصنف التنويه بفصاحته صلى الله عليه وسلّم بذكر شيء من جوامع كلمه الدّالة على أنّه صلى الله عليه وسلّم أحرز قصب السبق في مضمار الفصاحة والبلاغة مع ملاحظة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الأحكام ومكارم الأخلاق المطلوب من الشخص التخلّق بها والعمل بما فيها، كيما يتمّ له الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم في أفعاله وأقواله وأخلاقه الذي هو موضوع الكتاب، فرحم الله المصنف رحمة واسعة، وجمعنا به في مستقرّ رحمته بمنّه وكرمه. آمين.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: 1- «أوتيت جوامع الكلم) واختصر لي الكلام اختصارا» رواه العسكري في «الأمثال» عن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلا بهذا اللفظ، لكن في سنده من لا يعرف.
ورواه الديلمي بلا سند عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه بلفظ:
«أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.
ورواه الشيخان لكن بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم» .
وفي خبر آخر رواه أحمد: «أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه» .
وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب أنّه مرّ برجل يقرأ كتابا من التوراة فذكر(3/251)
2- «اتّق الله فيما تعلم» .
للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال: «إنّما بعثت فاتحا وخاتما، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصرلي الحديث اختصارا» .
ولأبي يعلى عن خالد بن عرفطة قال: كنت عند عمر فجاء رجل فذكره..
وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا أيّها النّاس، أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصرلي الكلام اختصارا» .
وفي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة: «أعطيت فواتح الكلم» . وفي أخرى:
«أعطيت مفاتيح الكلم» . وفي أخرى: أعطيت جوامع الكلم» .
وفي حديث أبي موسى: «أعطيت فواتح الكلم وخواتمه» ، قلنا:
يا رسول الله؛ علّمنا مما علمك الله! فعلمنا التشهد.
ورواه أيضا في «المختارة» عن عمر بن الخطاب بلفظ آخر، مع بيان سبب وروده. ومعناه: أنّه صلى الله عليه وسلم أوتي ملكة يقتدر بها على إيجاز اللفظ مع سعة المعنى، بنظم لطيف، لا تعقيد فيه؛ يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذّهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه. وقيل: أراد القرآن، وقيل: أراد أنّ الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الأمور المتقدمة جمعت له في الأمر الواحد والأمرين، والله أعلم.
2- ( «اتّق) - بكسر الهمزة وشد المّثناة فوق- (الله) أمر من التقوى: فعلى من الوقاية: ما يتقى به مما يخاف، فتقوى العبد لله: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه، وهي هنا الحذر (فيما تعلم» ) ؛ أي: احذره وخفه في العمل، أو في تركب العمل بالذي تعلمه- وحذف المفعول للتعميم- وذلك بأن تتجنب المنهي وتفعل المأمور.
وخاطب العالم! لأن الجاهل لا يعرف كيف يتقي من جانب الأمر، ولا من جانب النهي. والمراد أصالة العلم العيني الذي لا رخصة للمكلّف في تركه وما عداه(3/252)
3- «اتّق الله في عسرك ويسرك» .
من كمال التقوى. قال ابن القيم: وللمعاصي من الآثار القبيحة ما لا يعلمه إلّا الله، فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذف في القلب، والمعصية تطفئه؛
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأنّ العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي
وكتب رجل إلى أخيه: إنّك أوتيت علما فلا تطفئنّ نوره بظلمة الذّنوب؛ فتبقى في الظّلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم.
أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: «يا داود أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي» .
وقال بشر: التّلذّذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم من كل تنعم في الدنيا؛ فمن أجاب شهوته فيه فما اتقى فيما علم. انتهى ذكره المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث رواه البخاري في «التاريخ» ، والترمذي: كلاهما عن زيد بن مسلمة الجعفي قال: قلت: يا رسول الله؛ سمعت منك حديثا كثيرا فإني أخاف أن ينسيني آخره أوّله فمدّني بكلمة جامعة؛ فقال: «اتق الله فيما تعلم» . قال الترمذي في «العلل» : سألت عنه محمدا- يعني البخاري- فقال: سعيد بن أشوع لم يسمع من زيد، فهو عندي مرسل. وقال السيوطي في «الجامع الكبير» : منقطع. انتهى ذكره المناوي في «شرح الجامع» وقال: رواه أيضا الطبراني من حديث سعيد بن أشوع عن زيد بن مسلمة الجعفي. انتهى
3- ( «اتّق الله) : خفه واحذره (في عسرك) - بضم فسكون-: الضيق، والصعوبة، والشدّة. (ويسرك» ) : الغنى والسهولة؛ أي: خف الله واحذره في ضيقك وشدّتك، وضدّهما بأن تجتنب ما نهى عنه وتفعل ما أمر به في جميع أحوالك يعني: إذا كنت في ضيق وشدّة وفقر؛ فخف الله أن تفعل ما نهى عنه، أو تهمل ما أمر به، وإن كنت في سرور وغنى؛ فاحذره أن تطغى وتقتحم(3/253)
.........
ما لا يرضاه، فإنّ نعمته إذا زالت عن إنسان قلّما تعود إليه، وقدّم العسر على اليسر!! لأن اليسر يعقبه، كما دلّ عليه قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) [الانشراح] ، أو اهتماما بشأن التقوى فيه.
قال بعض العارفين: من علامات التحقق بالتقوى: أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يحتسب، وإذا أتاه من حيث يحتسب ما تحقق بالتقوى، ولا اعتمد على الله؛ فإن معنى التقوى أن تتخذ الله وقاية من تأثير الأسباب في قلبك باعتمادك عليها، والإنسان أبصر بنفسه، وهو يعلم من نفسه بمن هو أوثق، وبما تسكن إليه نفسه، ولا تقل: إنّ الله أمرني بالسعي على العيال، وأوجب مؤنتهم، فلا بدّ من الكدّ في السبب الذي جرت العادة أن يرزقه فيه، فإنا ما قلنا لك لا تعمل فيها؛ بل نهيناك عن الاعتماد عليها والسكون عندها، فإن وجدت القلب يسكن إليها؛ فاتّهم إيمانك، وإن وجدت قلبك ساكنا مع الله تعالى، واستوى عندك وجود السبب المعين وفقده؛ فأنت الذي لم تشرك بالله شيئا، فإن أتى رزقك من حيث لا تحتسب! فذلك بشرى أنك من المتقين.
تنبيه: قال ابن عربي: طريق الوصول إلى علم القوم التقوى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ [96/ الأعراف] ؛ أي: أطلعناهم على العلوم المتعلّقة بالعلويات والسفليّات، وأسرار الجبروت وأنوار الملك والملكوت. وقال الله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [2- 3/ الطلاق] .
والرزق: روحانيّ وجسمانيّ، وقال وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [282/ البقرة] أي: يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية انتهى؛ ذكره المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث قال في «الجامع الصغير» أخرجه أبو قرّة الزبيدي- نسبة إلى زبيد المدينة المشهورة باليمن- في «سننه» واسم أبي قرة: موسى بن طارق، عن طليب- بالتصغير- ابن عرفة. قال المناوي: له وفادة، ولم يرو عنه إلا ابنه كليب وهما مجهولان، ذكره الذهبي كابن الأثير. انتهى.(3/254)
4- «اتّقوا مواضع التّهم» .
5- «أتمّكم عقلا.. أشدّكم لله خوفا» .
4- ( «اتّقوا مواضع التّهم» ) ذكره في «كنوز الحقائق» . ورمز له برمز البخاري في «التاريخ» . وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلّم كيف نتقي مواضع التّهم؛ حيث قال لمن أبصره مع زوجته صفيّة: «إنّها أمّكما صفيّة» فاستعظما ذلك! فقال: «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
فأشفق عليهما فحرسهما، وأشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التّهمة حتى لا يتساهل العالم الورع في أحواله؛ ظنّا منه أنه لا يظّنّ به إلا الخير؛ إعجابا منه بنفسه، وهي زلة عظيمة، إذ أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا بدّ له من منقّص ومبغض! فتعيّن الاحتراز عن تهمة الأعداء والأشرار، فإنّهم لا يظنّون بالناس كلّهم إلا الشرّ.
5- ( «أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا» ) ذكره في «كنوز الحقائق» ، ورمز له برمز الغزالي، وعزاه في «شرح الإحياء» إلى داود بن المحبّر في «كتاب العقل» قال: حدثنا ميسرة، عن محمد بن زيد، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت قول الله عزّ وجلّ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [2/ الملك] فقال صلى الله عليه وسلّم: «أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه، وإن كانوا أقلّكم تطوّعا» .
وأخرج داود بن المحبّر في «كتاب العقل» أيضا عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «جدّ الملائكة واجتهدوا في طاعة الله سبحانه بالعقل، وجدّ المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله عزّ وجلّ أوفرهم عقلا» .
وأخرج داود في كتابه المذكور عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت:
يا رسول الله؛ بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: «بالعقل» . قلت: وفي الآخرة؟ قال: «بالعقل» . قلت: أليس إنما يجزون بقدر أعمالهم؟ فقال صلى الله عليه وسلّم:(3/255)
6- «اجتنبوا الخمر؛ فإنّها مفتاح كلّ شرّ» .
7- «الأجر على قدر النّصب» .
«يا عائشة؛ وهل عملوا إلّا بقدر ما أعطاهم الله عزّ وجلّ من العقل!. فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» . قال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في «نوادره» . ذكر ذلك كله في «الإحياء» و «شرحه» .
6- ( «اجتنبوا الخمر) ؛ مصدر خمره؛ إذا ستره، سمّي به عصير العنب إذا اشتدّ!! لأنه يخمر العقل، ولها نحو أربعمائة اسم، وتذكّر وتؤنث، والتأنيث أفصح، وهو حرام مطلقا، وكذا كلّ ما أسكر عند الأكثر؛ وإن لم يسكر لقلّته، بل الشافعي وأحمد ومالك على وصفها بذلك، فعندهم الخمر كلّ مسكر، وخالف أبو حنيفة. فالمعنى؛ على رأي الجماعة: اجتنبوا كلّ مسكر؛ أي: - ما من شأنه الإسكار-، فشمل العصير، والاعتصار، والبيع، والشراء، والحمل، والمسّ، والنظر، وغيرها. ذكره المناوي على «الجامع» .
أي: اجتنبوا تعاطيها؛ (فإنّها مفتاح كلّ شرّ» ) كان مغلقا من زوال العقل، والوقوع في المنهيات، وحصول الأسقام والآلام.
والحديث المذكور ذكره في «الجامع الصغير» ، ورمز له برمز الحاكم في «الأطعمة» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قال في العزيزي: وهو حديث صحيح.
7- ( «الأجر على قدر النّصب» ) متفق عليه؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. قال النجم الغزي: وربما قيل: على قدر المشقة» .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم لعائشة بعد اعتمارها: «أجرك على قدر نفقتك أو نصبك» وفي لفظ: «أو تعبك» وفي آخر: «إنّ لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك» بالواو.
وروى ابن الإمام أحمد في «زوائده» عن ابن المبارك عن سفيان من قوله: إنما الأجر على قدر الصّبر.(3/256)
.........
قال الإمام النووي: وظاهره أن الثّواب والفضل في العبادة بكثرة النصب والنفقة. قال الحافظ ابن حجر: وهو كما قال، لكنّه ليس بمطّرد، فقد يكون بعض العبادة أحقّ من بعض، وهي أكثر فضلا وثوابا بالنسبة للزمان؛ كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام رمضان، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وإلى شرف العبادة المالية، والبدنية؛ كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها وأطول من قراءتها ... ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر من التطوع!! أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في «القواعد» ، وقال أيضا: وقد كانت الصلاة قرّة عين النبيّ صلى الله عليه وسلّم وهي شاقّة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقّتها مساوية لصلاته مطلقا. والله أعلم.
انتهى؛ ذكره العجلوني في «الكشف» .
وقد جعل الفقهاء هذا الحديث أساسا لقاعدة قرّروها في كتبهم وعبّروا عنها بقولهم: ما كان أكثر فعلا كان أكثر فضلا، واستثنوا منها مسائل مذكورة في «الأشباه والنظائر» ، وقد نظمها السيد العلّامة الولي سراج الدين أبو بكر بن أبي القاسم الأهدل المتوفى سنة: - 1035- خمس وثلاثين وألف هجرية رحمه الله تعالى آمين؛ فقال:
اعلم بأنّي كنت قد نظمت ... لهذه فيما مضى فقلت:
قاعدة: ما كان أربى فعلا ... فإنّه يكون أزكى فضلا.
وأصلها من الحديث المنتخب ... عن النبي: «الأجر على قدر النّصب»
وأخرجوا عن ذاك بضع عشر ... فهاكها منظومة كدرّ
وذلك القصر على الإتمام ... يفضل في الثّلاثة الأيّام
ثمّ الضّحى ثمان ركعات أبر ... وإن يكن أكثرها ثنتي عشر
والوتر مهما بثلاث يفعل ... فإنّها ممّا يزيد أفضل
لكن على قول ضعيف نقلا ... عن «البسيط» والإمام ذي العلا(3/257)
.........
كذا صلاة الصّبح كانت أفضلا ... من غيرها وإن يكنّ أطولا
وركعة الوتر لديهم أفضل ... من سنّة الفجر وأيضا تفضل
تهجّد اللّيل وإن كانت أقل ... وهو مع الكثرة والطّول حصل
كذا صلاة العيد من كسوف ... أزكى ولو مع طولها المعروف
وسنّة الفجر بلا تطويل ... أفضل منها معه للدّليل
وفي الصّلاة سورة كمالا ... أفضل من بعض ولو قد طالا
وقيل بل من قدرها وذاك ما ... لم يرد البعض وإلّا قدّما
والجمع في مضمضة وما تلا ... أفضل من فصل بستّ حصلا
كذلك الفصل بغرفتين ... أزكى من السّت بغير مين
والحجّ والوقوف ممن ركبا ... أفضل منه ماشيا تأدّبا
كذلك الميقات للإهلال ... أفضل من دويرة الأهالي
ومرّة جماعة إن صلّى ... أفضل من صلاته وأعلى
منفردا خمسا وعشرين جعل ... وهكذا تصدّق وقد أكل
البعض من أضحيّة تبرّكا ... فهو على بذل الجميع قد زكا
وينبغي عدّك كلّ ما أتى ... فيه الدّليل للقليل مثبتا
كركعتي تحيّة المساجد ... أفضل من إتيانه بزائد
واللّفظ في استعاذة بما ورد ... في الذّكر من زيادة في المعتمد
وقس على ذلك بالتّأمّل ... والحمد لله على التّفضّل
قال سيّدي أحمد زرّوق رحمه الله تعالى: قاعدة: الأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة، لفضل الإيمان والمعرفة والذّكر والتلاوة على ما هو أشدّ منها بكثير من الحركات الجسمانيّة. وقوله عليه الصلاة والسلام: «أجرك على قدر نصبك» !! إخبار خاصّ في خاصّ لا يلزم عمومه، لا سيّما: وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما. مع قوله: «إنّ أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا» . وكذا جاء:
«خير دينكم أيسره» ... إلى غير ذلك. والله أعلم. انتهى كلام سيدي زروق(3/258)
8- «أجملوا في طلب الدّنيا؛ ...
المغربي في «قواعده» .
وهو موافق لما انتقده الشيخ أحمد بن حجر في «تحفته» حيث قال بعد استثناء هذه الصّور المنظومة سابقا: ولك أن تقول: لا يرد شيء من ذلك على القاعدة، لأن هذه كلّها لم تحصل الأفضلية فيها من حيث عدم أشقّيّتها؛ بل من حيثية أخرى اقترنت بها؛ كالاتّباع الذي يربو على ثواب الكثرة والمشقّة. فتأمله لتعلم ما في كلام الزركشي وغيره، فإنّ المجتهد قد يرى من المصالح المختصّة بالقليل ما يفضله على الكثير. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى.
لكن قال العلّامة المحقّق الفقيه عبد الله بن سليمان الجرهزيّ اليمنيّ الزّبيديّ المتوفّى سنة: - 1201- إحدى ومائتين وألف هجرية رحمه الله تعالى آمين؛ معقّبا على كلام ابن حجر ما نصّه:
قلت: فيه ما فيه!! إذ تفضيل القليل للاتباع مناف لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأجر على قدر النّصب» ، فإن لم يحمل على الاستثناء لم يزل الإشكال. انتهى كلام الجرهزي رحمه الله تعالى.
8- ( «أجملوا) - بهمزة قطع مفتوحة، فجيم ساكنة، فميم مسكورة- أي:
ترفقوا (في طلب الدّنيا) بأن تطلبوا الرّزق طلبا جميلا؛ أي: تحسنوا السعي في نصيبكم منها بلا كدّ وتعب وتكالب، فلم يحرّم الطّلب بالكلّية، بل أمر بالإجمال فيه، وهو ما كان جميلا في الشرع؛ محمودا في العرف، فيطلب من جهة حلّه ما أمكن.
ومن إجماله اعتماد الجهة التي هيّأها الله ويسّرها له، ويسّره لها، فينتفع بها ولا يتعدّاها. ومنه ألايطلب بحرص وقلق وشره ووله، حتى لا ينسى ذكر ربّه ولا يتورّط في شبهة؛ فيدخل فيمن أثنى عليهم بقوله تعالى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [37/ النور] ... الآية. قاله المناوي على «الجامع» .(3/259)
فإنّ كلّا ميسّر لما كتب له منها» ...
ثم وجه الأمر بذلك بقوله: (فإنّ كلّا) ؛ أي: كلّ أحد من الخلق (ميسّر) بوزن معظّم- أي: مهيّأ مصروف مسهل (لما كتب) : قدّر (له منها» ) يعني:
الرزق المقدّر له سيأتيه ولا بدّ، فإنّ الله تعالى قسم الرزق وقدّره لكلّ أحد بحسب إرادته؛ لا يتقدّم ولا يتأخّر، ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه الأزليّ، وإن كان يقع ذلك بتبديل في اللّوح أو الصحف بحسب تعليق بشرط.
وقال: «أجملوا» ، وما قال: «اتركوا» !! إشارة إلى أنّ الإنسان؛ وإن علم أنّ رزقه المقدّر له لا بدّ له منه لكن لا يترك السعي رأسا، فإن من عوائد الله في خلقه تعليق الأحكام بالأسباب، وترتيب الحوادث على العلل، وهذه سنته في خلقه مطّردة، وحكمته في ملكه مستمرة، وهو وإن كان قادرا على إيجاد الأشياء اختراعا وابتداعا؛ لا بتقديم سبب وسبق علة؛ بأن يشبع الإنسان بلا أكل، ويرويه بغير شرب، وينشئ الخلق بدون جماع.. لكنّه أجرى حكمته بأنّ الشبع والرّي والولد يحصل عقب الطّعم والشرب والجماع. فلذا قال: «أجملوا» ؛ إيذانا بأنّه وإن كان هو الرزّاق، لكنه قدر حصوله بنحو سعي رفيق، وحالة كسب من الطلب جميلة، فجمع هذا الخبر بالنظر إلى السبب، والمسبب، والمسبّب له؛ وذلك هو: الله، والرزق، والعبد، والسعي.
وجمع بين المسبب والسبب!! لئلا يتّكل من تلبّس بأهل التّوكل وليس منهم، فيهلك بتأخّر الرزق؛ فربّما أوقعه في الكفر!! ولئلا ينسب الرزق لسعيه؛ فيقع في الشرك. وقد عرف بذلك أن من اجتهد في طلب الدّنيا وتهافت عليها شغل نفسه بما لا يجدي، وأتعبها فيما لا يغني، ولا يأتيه إلّا المقدور؛ فهو فقير وإن ملك الدنيا بأسرها، فالواجب على المتأدّب باداب الله تعالى أن يكل أمره إلى الله تعالى، ويسلّم له، ولا يتعدّى طوره، ولا يتجرّأ على ربّه ويترك التكلّف؛ فإنه ربّما كان(3/260)
9- «الإحسان: ...
خذلانا، ويترك التدبير فإنه قد يكون هوانا:
والمرء يرزق لا من حيث حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الدّاهي
قال بزرجمهر: وكل الله تعالى الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل؛ ليعلم أنّه لو كان الرزق بالحيل؛ لكان العاقل أعلم بوجوه مطلبه والاحتيال لكسبه. قال بعضهم:
لو كان بالعقل الغنى لوجدتني ... بنجوم أفلاك السّماء تعلّقي
لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... شيئان مفترقان أيّ تفرّق
التقى ملكان فتساءلا؛ فقال أحدهما: أمرت بسوق حوت اشتهاه فلان اليهودي، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. انتهى ملخصا بعضه من المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث رمز له في «الجامع الصغير» بأنه رواه ابن ماجه، والحاكم، والطبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «سننه» ؛ عن أبي حميد السّاعدي، قال في العزيزي: وهو حديث صحيح.
وقال المناوي على «الجامع» : قال الحاكم: على شرطهما. وأقرّه الذهبي.
لكن فيه هشام بن عمار! أورده الذهبي في «ذيل الضعفاء» ، وقال أبو حاتم:
صدوق تغيّر، فكلّما لقّن تلقّن. وقال أبو داود: حدّث بأرجح من أربعمائة حديث لا أصل لها. وفيه إسماعيل بن عياش! أورده في «الضعفاء» ؛ وقال: مختلف فيه وليس بقوي. وفيه عمارة بن غزية! أورده في «الذيل» أيضا وقال: ثقة، ضعفه ابن حزم. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
9- ( «الإحسان) قال ابن حجر الهيتمي: «أل» فيه للعهد الذهني المذكور في الآيات الكثيرة نحو* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [26/ يونس] ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) [البقرة] ، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [الرحمن] .(3/261)
أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنّه يراك» .
فلمّا كثر تكّرره وعظم ثوابه سأل عنه جبريل ليعلمهم بعظم ثوابه وكمال رفعته، وهو مصدر «أحسنت كذا» ، و «وفي كذا» إذا أحسنته وكمّلته؛ متعديا بهمزة، من حسن كذا، وبحرف الجر ك «أحسنت إليه» إذا فعلت معه ما يحسن فعله، والمراد هنا الأول إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات بأدائها على وجهها المأمور به مع رعاية حقوق الله تعالى فيها ومراقبته واستحضار عظمته وجلاله! ابتداء واستمرارا.
وهو على قسمين:
أحدهما غالب عليه مشاهدة الحقّ كما قال صلى الله عليه وسلم:
(أن تعبد الله) من عبد: أطاع، والتعبّد: التنسّك، والعبودية: الخضوع والذّلّ. (كأنّك تراه) . وهذا من جوامع الكلم لأنّه جمع مع وجازته بيان مراقبة العبد ربّه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال، والإخلاص له في جميع الأعمال، والحثّ عليهما مع بيان سببهما الحامل عليهما لملاحظة أنّه لو قدّر أنّ أحدا قام في عبادة وهو يعاين ربّه تعالى لم يترك شيئا ممّا يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن الصّمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها.
والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه وتعالى مطّلع عليه ومشاهد له وقد بيّنه صلى الله عليه وسلّم بقوله: (فإن لم تكن تراه! فإنّه يراك» ) مشيرا إلى أنّه ينبغي للعبد أن يكون حاله مع فرض عدم عيانه لربه تعالى كهو مع عيانه؛ لأنّه تعالى مطّلع عليه في الحالين؛ إذ هو قائم على كلّ نفس بما كسبت، مشاهد لكلّ أحد من خلقه في حركته وسكونه؛ فكما أنّه لا يقدم على تقصير في الحال الأول؛ كذلك لا ينبغي له أن يقدم عليه في الحال الثاني، لما تقرر من استوائهما بالنسبة إلى اطّلاع الله تعالى وعلمه وشهود عظيم كماله، وباهر جلاله.(3/262)
10- «اختلاف أمّتي رحمة» .
وقد ندب أهل الحقائق 1- إلى مجالسة الصالحين لأنه لاحترامه لهم وحيائه منهم لا يقدم على تقصير في حضرتهم. و 2- إلى أنّ العبد ينبغي له أن يكون في عبادة ربه كضعيف بين يدي جبّار؛ فإنه حينئذ يتحرّى ألايصدر منه سوء أدب بوجه. انتهى كلام ابن حجر في «شرح الأربعين» .
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام مسلم والثلاثة: أبي داود والترمذي والنسائي؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وهو قطعة من حديث طويل، أوله: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ... الحديث وهو مذكور بطوله في «كتاب الأربعين النووية» وكذا رمز له برمز أحمد والشيخين وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
10- ( «اختلاف أمّتي رحمة» ) اعلم أن هذا الحديث قد تكلّم عليه العلماء قديما وحديثا من جهة معناه، ومن جهة عزوه، وأنا أنقل كلامهم؛ وإن وقع فيه تكرار في بعض المواضع لأجل حصول الفائدة بالوقوف على ما قيل فيه ...
قال العجلوني في كتاب «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» ما نصّه:
قال في «المقاصد» : رواه البيهقي في «المدخل» بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى؛ فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله! فسنّة منّي ماضية، فإن لم تكن سنّة منّي! فما قال أصحابي، إنّ أصحابي بمنزلة النّجوم في السماء، فأيّما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» .
ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي بلفظه، وفيه ضعيف، وعزاه الزركشي وابن حجر في «اللآلئ» لنصر المقدسي في «الحجة» مرفوعا، من غير(3/263)
.........
بيان لسنده؛ ولا لصحابيّه، وعزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بغير بيان لسنده أيضا؛ بلفظ: «اختلاف أصحابي رحمة لأمّتي» وهو مرسل ضعيف.
وبهذا اللفظ أيضا ذكره البيهقي في «رسالته الأشعرية» بغير إسناد.
وفي «المدخل» له عن القاسم بن محمد من قوله: اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم رحمة لعباد الله.
وفيه أيضا عن عمر بن عبد العزيز: أنّه كان يقول: ما سرّني لو أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.
وفيه أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون؛ فيحلّل هذا ويحرّم هذا. فلا يعيب هذا على هذا.
ثمّ قال في «المقاصد» أيضا: قرأت بخط شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- أنّه حديث مشهور على الألسنة. وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس» ، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمّة أنّه لا أصل له، لكنّه ذكره الخطّابي في «غريب الحديث» مستطردا؛ فقال:
اعترض هذا الحديث رجلان: أحدهما ماجن، والآخر ملحد؛ وهما إسحاق الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا: لو كان الاختلاف رحمة؛ لكان الاتفاق عذابا، ثمّ تشاغل الخطابي بردّ كلامهما، ولم يشف في عزو الحديث؛ لكنّه أشعر بأن له أصلا عنده.
ثمّ قال الخطّابي: والاختلاف في الدّين ثلاثة أقسام:
الأول: في إثبات الصانع ووحدانيّته، وإنكاره كفر.
والثاني: في صفاته ومشيئته، وإنكارهما بدعة.
والثالث: في أحكام الفروع المحتملة وجوها؛ فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث: «اختلاف أمتي رحمة» انتهى.(3/264)
.........
وقال النووي في «شرح مسلم» ج 11 ص 92: ولا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضدّه عذابا، ولا يلتزم هذا ولا يذكره إلّا جاهل أو متجاهل، وقد قال تعالى وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا [73/ القصص] فسمّى اللّيل رحمة، ولا يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا انتهى.
ومثله يقال: فيما رواه ابن أبي عاصم في «السنة» عن أنس مرفوعا:
«لا تجتمع أمتي على ضلالة» ، ورواه الترمذي عن ابن عمر بلفظ: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» .
ورواه أحمد، والطبراني في «الكبير» عن أبي نصر الغفاري في حديث رفعه:
«سألت ربّي ألاتجتمع أمتي على ضلالة» . فقد قيل مفهومه: إن اختلاف هذه الأمة ليس رحمة ونعمة، لكن فيه ما تقدم نظيره عن النووي وغيره.
وفي «الموضوعات» للعلامة ملا علي قاري: أن السيوطي قال- يعني في «الجامع الصغير» -: أخرجه نصر المقدسي في «الحجة» ، والبيهقي في «الرسالة الأشعرية» بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي الحسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعلّه خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا!!.
ثمّ قال السيوطي؛ عقب ذكره لكلام عمر بن عبد العزيز: وهذا يدلّ على أنّ المراد اختلافهم في الأحكام الفرعية، وقيل: في الحرف والصنائع، والأصحّ الأول، فقد أخرج الخطيب في رواة مالك؛ عن إسماعيل بن أبي المجالد قال:
قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله؛ نكتب هذه الكتب- يعني مؤلفات الإمام مالك- ونفرّقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمّة؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمّة، كلّ يتبع ما صحّ عنده، وكل على هدى، وكلّ يريد الله تعالى.
وفي «مسند الفردوس» عن ابن عباس مرفوعا: «اختلاف أصحابي لكم رحمة» . وذكر ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن القاسم بن محمد أنه قال: كان(3/265)
.........
اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم رحمة للناس.
وأخرجه أبو نعيم بلفظ: كان اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم رحمة لهؤلاء الناس. انتهى كلام «كشف الخفا ومزيل الإلباس» .
وذكر في «شرح الإحياء» في كتاب العلم ج 1 ص 205 بعضا مما نقلناه عن «كشف الخفاء» ، وزاد أنّه رواه أبو نصر السّجزي في «الإبانة» ؛ وقال: غريب، والخطيب، وابن عساكر في «تاريخهما» .
وقال ابن السبكي في «تخريج أحاديث المنهاج» : هذا شيء لا أصل له. وقال والده: لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع! انتهى.
وقال ابن الملقّن في «تخريج أحاديث المنهاج» : لم أر من خرّجه مرفوعا بعد البحث الشديد عنه، وإنّما نقله ابن الأثير في مقدمة «جامعه» من قول مالك.
انتهى كلام «شرح الإحياء» ملتقطا.
وفي المناوي على «الجامع الصغير» : «اختلاف» افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور؛ ذكره الحراني.
«أمّتي» ؛ أي: مجتهدي أمتي في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها، فالكلام في الاجتهاد في الأحكام؛ كما في «تفسير القاضي» قال: فالنهي مخصوص بالتفرّق في الأصول؛ لا الفروع. انتهى.
قال السبكي: ولا شكّ أن الاختلاف في الأصول ضلال؛ وسبب كلّ فساد؛ كما أشار إليه القرآن.
وأمّا ما ذهب إليه جمع؛ من أنّ المراد الاختلاف في الحرف والصنائع!
فردّه السّبكي بأنّه كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة؛ إذ لا خصوص للأمة بذلك، فإنّ كلّ الأمم مختلفون في الحرف والصنائع! فلا بدّ من خصوصية!!(3/266)
.........
قال: وما ذكره إمام الحرمين في «النهاية» كالحليمي؛ من أنّ المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب؛ فلا ينساق الذهن من لفظ «الاختلاف» إليه.
«رحمة» للناس. كذا هو ثابت في رواية من عزا المصنف الحديث إليه، فسقطت اللفظة منه سهوا؛ أي: اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعدّدة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلّم بكلّها؛ لئلا تضيق بهم الأمور من إضافة الحقّ الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم، ولم يكلّفوا ما لا طاقة لهم به توسعة في شريعتهم السمحة السهلة، فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة، خصّت بها هذه الأمّة، فالمذاهب التي استنبطها أصحابه فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوّعها كشرائع متعددة، وقد وعد بوقوع ذلك فوقع، وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم: أما الاختلاف في العقائد فضلال ووبال كما تقرّر، والحقّ ما عليه أهل السّنة والجماعة فقط. فالحديث إنّما هو في الاختلاف في الأحكام.
و «رحمة» نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي عموما فيكفي في صحّته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت مّا في حال مّا على وجه مّا.
وأخرج البيهقي في «المدخل» عن القاسم بن محمد؛ أو عمر بن عبد العزيز:
لا يسرّني أنّ أصحاب محمد؛ لم يختلفوا، لأنّهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.
ويدلّ لذلك ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فبأيّهم اقتديتم اهتديتم: واختلاف أصحابي لكم رحمة» .
قال السّمهوديّ: واختلاف الصّحابة في فتيا اختلاف الأمّة.
وما روي من أن مالكا لما أراده الرشيد على الذّهاب معه إلى العراق؛ وأن يحمل الناس على «الموطأ» كما حمل عثمان الناس على القرآن؟ فقال مالك: أمّا حمل الناس على «الموطأ» فلا سبيل إليه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم افترقوا بعد موته صلى الله عليه وسلّم في الأمصار، فحدّثوا، فعند أهل كلّ مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(3/267)
.........
«اختلاف أمتي رحمة» كالصّريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام، كما نقله ابن الصلاح؛ عن مالك من أنّه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد.
قال: وليس كما قال ناس: فيه توسعة على الأمّة بالاجتهاد إنّما هو بالنّسبة إلى المجتهد، لقوله: فعليك بالاجتهاد، فالمجتهد مكلّف بما أدّاه إليه اجتهاده؛ فلا توسعة عليهم في اختلافهم، وإنّما التوسعة على المقلّد، فقول الحديث «اختلاف أمّتي رحمة للناس» أي: لمقلديهم، ومساق قول مالك «مخطئ ومصيب ... الخ» إنّما هو الردّ على من قال: من كان أهلا للاجتهاد له تقليد الصحابة دون غيرهم.
وفي «العقائد» لابن قدامة الحنبلي: «إن اختلاف الأئمة رحمة واتفاقهم حجة» . انتهى.
فإن قلت: هذا كلّه لا يجامع نهي الله تعالى عن الاختلاف، بقوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [103/ آل عمران] وقوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [105/ آل عمران] ؟! الآية.
قلت: هذه دسيسة ظهرت من بعض من في قلبه مرض، وقد قام بأعباء الردّ عليه جمع جمّ؛ منهم: ابن العربي وغيره بما منه أنّه سبحانه وتعالى إنما ذمّ كثرة الاختلاف على الرسل كفاحا، كما دلّ عليه خبر: «إنّما أهلك الّذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم» .
وأما هذه الأمّة! فمعاذ الله تعالى أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين؛ لأنه أوعد الّذين اختلفوا بعذاب عظيم. والمعترض موافق على أنّ اختلاف هذه الأمّة في الفروع مغفور لمن أخطأ منهم، فتعيّن أنّ الآية فيمن اختلف على الأنبياء؛ فلا تعارض بينها وبين الحديث.
وفيه ردّ على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض، وقد عمّت به البلوى وعظم به الخطب.(3/268)
.........
قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كثير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلفات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأنّ غرضهم ليس إلا اتّباع الكتاب والسّنة، وكلّ ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل.
قال: وإذا رأيت فقيها خالف حديثا، أو ردّ حديثا، أو حرّف معناه، فلا تبادر لتغليطه؛ فقد قال عليّ كرّم الله وجهه- لمن قال له: أتظنّ أنّ طلحة والزّبير كانا على باطل!؟ -: يا هذا إنّه ملبوس عليك، وإن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله.
وما زال الاختلاف بين الأئمة واقعا في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكلّ على تعظيم الباري جلّ جلاله، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حقّ، وأن كتابهم واحد، ونبيّهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحقّ، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف، فإن داخلها زهو من الأكمل، وانكسار من الأصغر! فذلك دأب النفوس الزكية في بعض الأحيان غفلة عن الله تعالى؛ فما الظّنّ بالنفوس الشريرة المنطقية. انتهى.
ويجب علينا أن نعتقد أنّ الأئمة الأربعة والسّفيانين والأوزاعي وداود الظاهري وإسحاق بن راهواه وسائر الأئمة على هدى، ولا التفات لمن تكلّم فيهم بما هم بريئون منه. والصحيح- وفاقا للجمهور- أن المصيب في الفروع واحد، ولله تعالى فيما حكم عليه أمارة، وأنّ المجتهد كلّف بإصابته، وأن مخطئه لا يأثم؛ بل يؤجر، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.
نعم؛ إن قصّر المجتهد أثم اتفاقا، وعلى غير المجتهد أن يقلّد مذهبا معيّنا.
وقضية جعل الحديث «الاختلاف رحمة» جواز الانتقال من مذهب لآخر.
والصحيح عند الشافعية جوازه، لكن لا يجوز تقليد الصحابة وكذا التابعين- كما قاله إمام الحرمين- من كلّ من لم يدوّن مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحرّرت؛ حتى ظهر تقييد مطلقها(3/269)
.........
وتخصيص عامّها، بخلاف غيرهم؛ لانقراض أتباعهم.
وقد نقل الإمام الرازي رحمه الله تعالى إجماع المحققين على منع العوامّ من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم. انتهى.
نعم؛ يجوز لغير عامّي من الفقهاء المقلّدين تقليد غير الأربعة في العمل لنفسه؛ إن علم نسبته لمن يجوز تقليده وجمع شروطه عنده.
لكن بشرط ألايتتبع الرّخص بأن يأخذ من كلّ مذهب بالأسهل بحيث تنحلّ ربقة التكليف من عنقه. وإلا! لم يجز. خلافا لابن عبد السلام حيث أطلق جواز تتبّعها، وقد يحمل كلامه على ما إذا تتبّعها على وجه لا يصل إلى الانحلال المذكور.
وقول ابن الحاجب كالآمدي «من عمل في مسألة بقول إمام ليس له العمل فيها بقول غيره اتفاقا» !! إن أراد به اتفاق الأصوليين، فلا يقضي على اتفاق الفقهاء والكلام فيه. وإلا! فهو مردود، أو مفروض فيما لو بقي من آثار العمل الأول ما يستلزم تركّب حقيقة لا يقول بها كلّ من الإمامين؛ كتقليد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس؛ والإمام مالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة؛
فعلم أنّه إنما يمتنع تقليد الغير في تلك الواقعة نفسها، لا مثلها.
كأن أفتي ببينونة زوجته بنحو تعليق فنكح أختها، ثم أفتي بأن لا بينونة ليس له الرجوع للأولى بغير إبانتها «1» . وكأن أخذ بشفعة جوار تقليدا للحنفي، ثم استحقت عليه فيمتنع تقليده للشافعي في تركها؛ لأنّ كلّا من الإمامين لا يقول به، فلو اشترى بعده عقارا وقلّد الإمام الشافعي في عدم القول بشفعة الجوار لم يمنعه ما تقدّم من تقليده في ذلك، فله الامتناع من تسليم العقار الثاني، وإن قال الآمدي وابن الحاجب ومن على قدمهما- كالمحلّي- بالمنع في هذا، وعمومه في جميع صور
__________
(1) أي الأخت الثانية.(3/270)
.........
ما وقع العمل به أوّلا؛ فهو ممنوع، وزعم الاتفاق عليه باطل.
وحكى الزركشي أنّ القاضي أبا الطيّب أقيمت صلاة الجمعة فهمّ بالتكبير؛ فذرق عليه طير، فقال: أنا حنبلي، فأحرم، ولم يمنعه عمله بمذهبه من تقليد المخالف عند الحاجة!!.
وممن جرى على ذلك السبكي فقال: المنتقل من مذهب لآخر له أحوال.
الأول: أن يعتقد رجحان مذهب الغير، فيجوز عمله به! اتباعا للراجح في ظنّه.
الثاني: ألايعتقد رجحان شيء، فيجوز.
الثالث: أن يقصد بتقليده الرخصة فيما يحتاجه؛ لحاجة لحقته أو ضرورة أرهقته، فيجوز.
الرابع: أن يقصد مجرّد الترخّص فيمتنع، لأنّه متبع لهواه؛ لا للدّين.
الخامس: أن يكثر ذلك ويجعل اتباع الرّخص ديدنه، فيمتنع؛ لما ذكر ولزيادة فحشه.
السادس: أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع! فيمتنع.
السابع: أن يعمل بتقليد الأوّل كحنفيّ يدّعي شفعة جوار فيأخذها بمذهب الحنفيّ! فتستحق عليه؛ فيريد تقليد الإمام الشافعي، فيمتنع لخطئه في الأولى أو الثانية؛ وهو شخص واحد مكلّف. قال: وكلام الآمدي وابن الحاجب منزّل عليه.
وسئل البلقيني عن التقليد في المسألة السريجيّة فقال: أنا لا أفتي بصحة الدور، لكن إذا قلّد من قال بعدم وقوع الطلاق كفى، لا يؤاخذه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها؛ أي مع التقليد. وهو ذهاب منه إلى جواز تقليد المرجوح وتتبعه.(3/271)
.........
قال بعضهم: ومحل ما مرّ من منع تتبّع الرّخص إذا لم يقصد به مصلحة دينيّة، وإلا! فلا منع؛ كبيع مال الغائب، فإن السبكيّ أفتى بأن الأولى تقليد الشافعي فيه، لاحتياج الناس غالبا في نحو مأكول ومشروب إليه، والأمر إذا ضاق اتسع.
وعدم تكرير الفدية بتكرر المحرم اللّبس، فالأولى تقليد الشافعي لمالك فيه. كما أفتى به الأبشيطي رحمه الله تعالى.
وذهب الحنفية إلى منع الانتقال مطلقا. قال في «فتح القدير» : المنتقل من مذهب لمذهب باجتهاد وبرهان آثم، عليه التعزير وبدونهما أولى.
ثم حقيقة الانتقال إنما تتحقق في حكم مسألة خاصّة قلّد فيها وعمل بها، وإلا! فقوله «قلّدت أبا حنيفة فيما أفتى به من المسائل أو التزمت العمل به» على الإجمال وهو لا يعرف صورها! ليس حقيقة التقليد بل وعد به، أو تعليق له كأنّه التزم العمل بقوله فيما يقع له، فإذا أراد بهذا الالتزام؛ فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد بالزامه نفسه بذلك! قولا أو نيّة شرعا، بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما يحتاجه بقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) [الأنبياء] ، والمسؤول عنه إنّما يتحقّق عند وقوع الحادثة!!. قال: والغالب أنّ مثل هذه الالتزامات لكفّ الناس عن تتبّع الرّخص، إلا أنّ أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، ولا يدرى ما يمنع هذا من النقل والعقل. انتهى.
وذهب بعض المالكية إلى جواز الانتقال بشروط: ففي «التنقيح» للقرافي؛ عن الزناتي: التقليد يجوز بثلاثة شروط
1- ألايجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع؛ كمن تزوّج بلا صداق، ولا وليّ ولا شهود؛ فإنه لم يقل به أحد. و 2- أن يعتقد في مقلّده الفضل، و 3- ألايتتبع الرخص والمذاهب.
وعن غيره: يجوز فيما لا ينقض فيه قضاء القاضي، وهو ما خالف الإجماع، أو القواعد الكليّة، أو القياس الجليّ.(3/272)
11- «اخزن لسانك ...
ونقل عن الحنابلة ما يدلّ للجواز.
وقد انتقل جماعة من المذاهب الأربعة من مذهبه لغيره؛
منهم عبد العزيز بن عمران كان مالكيا؛ فلمّا قدم الإمام الشافعيّ- رحمه الله تعالى- مصر تفقّه عليه.
وأبو ثور من مذهب الحنفيّ إلى مذهب الشافعيّ.
وابن عبد الحكم من مذهب مالك إلى الشافعيّ، ثم عاد إلى مذهب مالك.
وأبو جعفر بن نصر من الحنبليّ إلى الشافعيّ.
والطحاويّ من الشافعيّ إلى الحنفيّ. والإمام السّمعاني من الحنفي إلى الشافعيّ.
والخطيب البغدادي والآمدي وابن برهان من الحنبلي إلى الشافعيّ،
وابن فارس صاحب «المجمل» من الشافعيّ إلى المالكيّ،
وابن الدّهان من الحنبلي للحنفيّ؛ ثم تحول شافعيا.
وابن دقيق العيد من المالكي إلى الشافعيّ،
وأبو حيان من الظّاهريّ للشافعيّ! ذكره الإسنوي وغيره. وإنما أطلنا وخرجنا عن جادة الكتاب!! لشدّة الحاجة لذلك، وقد ذكر جمع أنه من المهمات التي يتعيّن اتقانها. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى في شرح «الجامع الصغير» .
11- ( «اخزن لسانك) ؛ أي: صنه واحفظه عن التكلم فيما لا يعنيك، فإن الكلام ترجمان يعبّر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، ولا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على دفع شوارده، فحقّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه، أو الإقلال منه.
قال عليّ كرّم الله وجهه: اللسان معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل.(3/273)
.........
ولله درّ القائل:
احفظ لسانك أيّها الإنسان ... لا يلدغنّك إنّه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشّجعان
قال ابن الأعرابي: أمراض النفس قولية وفعلية، وتفاريع القولية كثيرة، لكن عللها وأدويتها محصورة في أمرين:
الأول: ألاتتكلم إذا اشتهيت أن تتكلم.
والآخر: ألاتتكلم إلا فيما إن سكتّ عنه عصيت، وإلّا! فلا، وإيّاك والكلام عند استحسان كلامك، فإن حالتئذ من أكبر الأمراض، وما له دواء إلّا الصمت، وقد نسب إلى الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى في آفات اللسان هذه المنظومة:
تعلّم حفظ آفات اللّسان ... لتحظى بالأمان وبالأماني
وخذها إنّها سبعون شيئا ... حكت في نظمها عقد الجمان
فكفر والخطامع خوف كفر ... وكذب ثمّ سبّ في هوان
وفحش غيبة ونميمة مع ... مراء والجدال وطعن جاني
وسخرية وتعريض ولعن ... ونوح واشتغال بالأغاني
مخاصمة وإفشاء لسرّ ... وخوض في محلّ بافتتان
سؤال المال والدّنيا، نفاق ... بقول والكلام لدى الأذان
سؤالك عن أغاليط وأيضا ... عوام النّاس عن صعب المعاني
وتغليظ الكلام وأمر نكر ... ونهي العرف عن خطأ اللّسان
سؤال عن عيوب النّاس أخذ ... لذي الوجهين في أمر الدّهان
كلام حالة القرآن يتلى ... وبعد طلوع فجر للعيان
وحالة خطبة وبمسجد مع ... دخول خلا لحاجات تعاني
وفي حال الصّلاة وفي جماع ... وفتح القول عند كبير شان(3/274)
إلّا من خير» .
وبالألقاب نبز مع يمين ... غموس أو بغير الله دان
إخافة مؤمن وفضول قول ... وإكثار اليمين بلا توان
على غير الدّعاء كأهل ظلم ... بدون صلاح حال كلّ آن
سؤال إمارة ووصيّة مع ... تولّيه على دار وخان
وردّ كلام متبوع وقطع ... لقول الغير شعر ذو امتهان
تناجي اثنين مدح مع مزاح ... ونطق بالّذي هو غير عاني
على النّفس الدّعاء وردّ عذر ... أتى بالرّأي تفسير القران
سؤالك عن حلال أو طهور ... بغير محلّه قصد امتحان
وسجع والفصاحة مع سلام ... على الذّمي وذي فسق مهان
كذا متغوّط أو بائل مع ... كلام الأجنبيّة في مكان
وإرشاد لنحو طريق سوء ... وإذن في المعاصي للمدان
وآفات العبادات اللّواتي ... تعدّت والّتي قصرت لفان
كذا الآفات ضمن معاملات ... وآفات السّكوت بلا بيان
وقد تمّت بعون الله فاخلص ... لناظمها دعاءك بالجنان
وقد ذكر الإمام الغزالي في «إحياء علوم الدين» آفات اللّسان مفصّلة بما يشفي العليل فراجعها إن شئت.
(إلّا من خير» ) كقراءة القرآن، وذكر الله تعالى، ومذاكرة العلم، والأمر بالمعروف، وذلك أن قول الخير خير من السكوت؛ لأن قول الخير ينتفع به من يسمعه، والصّمت لا يتعدّى نفعه.
وهذا الحديث رواه الطبراني في «الصغير» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وتمام الحديث: «فإنّك بذلك تغلب الشّيطان» وقد جاءت أحاديث كثيرة في التحذير من خطر اللّسان، ولا نجاة من خطره إلّا بالصّمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحثّ عليه؛ فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم(3/275)
12- «أخلص العمل ...
من قوله: «من صمت نجا» رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو- بسند فيه ضعف- وقال: غريب، وهو عند الطبراني- بسند جيّد-.
وروى الإمام أحمد والترمذيّ- وصححه- والنسائيّ وابن ماجه؛ عن عبد الله بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الثقفي، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ قال: «قل آمنت بالله ثمّ استقم» . قال: قلت فما أتقي؟ فأومأ بيده إلى لسانه.
وهو عند مسلم دون آخر الحديث الذي فيه ذكر اللّسان.
وأخرج الترمذي- وقال: حسن- عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: قلت:
يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك» .
وأخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه أضمن له الجنّة» .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم أنّه قال «من سرّه أن يسلم فليلزم الصّمت» .
رواه ابن أبي الدّنيا في «الصمت» ، وأبو الشيخ في «فضائل الأعمال» ، والبيهقي في «الشعب» كلّهم من حديث أنس رضي الله عنه- بإسناد فيه ضعف-.
وأخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رفعه قال: «إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلّها تكفّر اللّسان تقول: اتّق الله فينا، فإنّك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» .
وروى ابن أبي الدنيا في «الصمت» ؛ من طريق وهيب بن الورد قال: كان يقال: الحكمة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصمت، والعاشر: عزلة الناس.
12- ( «أخلص) - بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجّمة، وكسر اللام- (العمل) ، الإخلاص الكامل: أن تعبد ربك امتثالا لأمره، وقياما بحقّ ربوبيته،(3/276)
يجزك منه القليل» .
لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره، ولا للسلامة من عضّة الدّهر ونكبته؛ وذلك لأن الإخلاص ثلاث درجات:
عليا: وهو أن يعمل العبد لله وحده! امتثالا لأمره وقياما بحق ربوبيّته.
ووسطى: وهو أن يعمل لثواب الآخرة.
ودنيا: وهو أن يعمل للإكرام في الدنيا والسلامة من آفاتها.
وما عدا هذه الثلاث المراتب؛ فهو من الرّياء، فإذا اخلصت العمل لله تعالى
(يجزك منه) ؛ أي: من العمل الخالص لله (القليل» ) وتكون تجارتك رابحة، وفي «التوراة» : ما أريد به وجهي فقليله كثير، وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل.
ومن كلامهم: لا تسع في إكثار الطاعة بل إخلاصها.
وقال الغزالي: أقلّ طاعة سلمت من الرياء والعجب وقارنها الإخلاص يكون لها عند الله تعالى من القيامة ما لا نهاية له. وأكثر طاعة إذا أصابتها هذه الآفة لا قيمة لها، إلّا أن يتداركها الله تعالى بلطفه.
قال ابن الكمال: الإخلاص- لغة-: ترك الرياء في الطاعة.
واصطلاحا-: تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدّر لصفائه، وكلّ شيء تصوّر أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه فخلص منه سمّي خالصا.
قال بعضهم: ولا شكّ أن كلّ من أتى بفعل اختياري فلا بدّ له فيه من غرض، فمهما كان الباعث واحدا سمّي الفعل الصادر عنه إخلاصا؛ فمن تصدّق وغرضه محض الرياء؛ فهو غير مخلص، ومن كان غرضه محض التقرّب إلى الله تعالى! فهو مخلص، لكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرّب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل، لكن خصّصته العادة(3/277)
13- «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ...
بالميل عن الحقّ. ومن كان باعثه مجرّد الرّياء فهو معرّض للهلاك، فالإخلاص شرط لقبول كلّ طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أخلصوا أعمالكم لله، فإنّ الله لا يقبل إلا ما خلص له» رواه الدارقطني عن الضحّاك بن قيس رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: ولكلّ عمل من المأمورات خصوص اسم في الإخلاص، كإخلاص المنفق بأن الإنعام من الله؛ لا من العبد، وكإخلاص المجاهد بأن النّصر من الله؛ لا من العبد المجاهد، قال الله تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [126/ آل عمران] وكذا سائر الأعمال. انتهى كلام المناوي في «شرح الجامع» .
وهذا الحديث أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» ؛ من حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه- وإسناده منقطع-، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب «الإخلاص» ، وابن أبي حاتم، والحاكم، وأبو نعيم في «الحلية» من حديث معاذ؛ قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اليمن قلت: أوصني، فقال: «أخلص دينك يكفك القليل من العمل» . وقال الحاكم: صحيح، وتعقّبه الذهبي. انتهى ذكره في «شرح الإحياء» .
13- ( «أدّ) - بفتح الهمزة، وكسر الدّال- وجوبا في الواجب، وندبا فيما تطلب فيه المعاونة من الأداء. قال الراغب: وهو دفع ما يجب دفعه وتوفيته؛ أي: أوصل. (الأمانة) وهي: كلّ حقّ لزمك أداؤه وحفظه، ومن قصرها على حقّ الحقّ أو حقّ الخلق! فقد قصّر.
قال القرطبي: الأمانة تشمل أعدادا كثيرة، لكن أمهاتها: الوديعة، واللقطة، والرهن، والعاريّة. (إلى من ائتمنك) عليها، ولا مفهوم له؛ بل غالبيّ، فإنّ حفظها أثر كمال الإيمان، فإذا نقص نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت.
والمراد: من جعل لك الشرع على ماله يدا؛ فشمل ما إذا ألقت الريح ثوبا في بيتك، أو دخل فيه جائع. والمراد بأدائها: إيصالها إليه بالتخلية بينه وبينها؛(3/278)
ولا تخن من خانك» .
فليست الأمانة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء؛ من أنّها الوديعة التي لم يضمنها ذو اليد إذا لم يقصر.
وقال النووي: الظاهر أن المراد بالأمانة: التكليف الذي كلّف الله به عباده، والعهد الذي أخذه الله عليهم، وهي التي في قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [72/ الأحزاب] ... الآية.
وفي «النهاية» الأمانة: تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان.
وقال الفخر الرازيّ: قيل: هي التكليف، سمّي أمانة!! لأنّ من قصّر فعليه الغرامة، ومن وفّى فله الكرامة. وقيل: هي لا إله إلّا الله، وهو بعيد. فالأكوان ناطقة بأن الله واحد. وقيل: هي الأعضاء، فالعين أمانة ينبغي حفظها، والأذن كذلك، وبقيّة الأعضاء. وقيل: هي معرفة الله تعالى.
ولما كانت النفوس نزّاعة إلى الخيانة روّاغة عند مضائق الأمانة، وربّما تأوّلت جوازها مع من لم يلتزمها أعقبه بقوله:
(ولا تخن من خانك» ) ؛ أي: لا تعامله بمعاملته، ولا تقابل خيانته بخيانتك؛ فتكون مثله، وليس منها ما يأخذه الإنسان من مال من جحده حقّه إذ لا تعدّي فيه. أو المراد: إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته، وإن كان حسنا؛ أي: جائزا، بل قابله بالأحسن الذي هو العفو، وادفع بالّتي هي أحسن، وهذا- كما قاله الطيبي- أحسن.
وهذه مسألة تتكرّر على ألسنة الفقهاء ولهم فيها أقوال؛
الأول: لا تخن من خانك مطلقا، وهذا ظاهر الحديث.
الثاني: خن من خانك! قاله الشافعي، وهو مشهور مذهب مالك!!
وأجابوا عن هذا الحديث بأنّه لم يثبت، أو المعنى: لا تأخذ منه أزيد من حقك، أو هو إرشاد إلى الأكمل كما مرّ، واحتجّوا بقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ(3/279)
.........
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [194/ البقرة] ، وبحديث هند وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
الثالث: إن كان ممّا ائتمنك عليه من خانك فلا تخنه، وإن كان ليس في يدك فخذ حقّك منه؛ قاله مالك.
الرابع: إن كان من جنس حقّك فخذه، وإلّا فلا! قاله أبو حنيفة.
قال ابن العربي: والصحيح منها جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه؛ أو غير جنسه إذا عدلت؛ لأنّ ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت.
انتهى من الزرقاني على «المواهب» ، والمناوي على «الجامع» .
وهذه المسألة تلقّب عند الفقهاء ب «مسألة الظّفر» .
وتحرير القول فيها أنّ الحقّ إمّا أن يكون عينا؛ أو دينا؛ أو منفعة.
1- فالعين إن خشي من أخذها ممّن هي عنده ضررا؛ فلا بدّ فيها من الرفع إلى الحاكم؛ تحرزا عن الضّرر، وإلّا! فله أخذها استقلالا للضرورة.
2- والدّين إن كان على غير ممتنع من أدائه طالبه به؛ فلا يأخذ شيئا له من غير مطالبة، ولو أخذه! لم يملكه، ويلزمه ردّه، فإن تلف؟ ضمنه، وإن كان على ممتنع من أدائه! ولو مقرّا؟ جاز له أخذ جنس حقه بصفته بطريق الظّفر. ويملكه بمجرّد الأخذ؛ فلا يحتاج إلى صيغة تملك، فإن تعذّر عليه الجنس المذكور؛ بأن وجد غير جنس حقّه، أو جنس حقّه بغير صفته؟ أخذه مقدّما النقد على غيره.
ويبيعه مستقلّا كما يستقل بالأخذ؛ لما في الرفع إلى الحاكم من المؤنة والمشقّة وتضييع الزمان حيث لا حجّة له، وإلّا! فلا يبيع إلا بإذن الحاكم، ولا يبيعه إلّا بنقد البلد، فإن كان جنس حقّه! تملّكه، وإن كان غير جنس حقّه؟ اشترى به جنس حقّه ثمّ تملكه.
ولا يأخذ فوق حقّه إن أمكن الاقتصار على حقّه، فإن لم يمكن؟ أخذ فوق(3/280)
.........
حقّه، ولا تضمن الزيادة لعذره، وباع منه بقدر حقّه إن أمكن تجزّؤه، وإلّا! باع الكلّ وأخذ من ثمنه قدر حقّه، وردّ الباقي بصورة هبة ونحوها.
وله أخذ مال غريم غريمه؛ إن لم يظفر بمال غريمه، وكان غريم الغريم ممتنعا أيضا.
وله فعل ما لا يصل للمال إلّا به؛ ككسر باب ونقب جدار وقطع ثوب، ولا يضمن ما فوّته بذلك، ومحلّ ذلك إذا كان ما يفعل به ذلك ملكا للمدين؛ ولم يتعلق به حقّ لازم؛ كرهن وإجارة. وما ذكر في دين آدميّ.
إمّا دين الله تعالى؟ كزكاة امتنع المالك من أدائها! فليس للمستحق الأخذ من ماله إذا ظفر به لتوقّفه على النيّة.
3- والمنفعة إن كانت واردة على عين؛ فهي كالعين، فله استيفاؤها منها بنفسه إن لم يخش من ذلك ضررا، وإلّا! فلا بد من الرّفع إلى الحاكم.
وإن كانت واردة على ذمّة؟ فهي كالدّين، فإن كانت على غير ممتنع طالبه بها، ولا يأخذ شيئا من ماله بغير مطالبة، وإن كانت على ممتنع؛ وقدر على تحصيلها بأخذ شيء من ماله؟ فله ذلك بشرطه.
هذا تفصيل «مسألة الظّفر» في كتب الفقه الشافعي، والله أعلم.
وهذا الحديث رواه البخاري في «التاريخ» ، وأبو داود والترمذيّ في «البيوع» ؛ من رواية شريك بن عبد الله النخعي، ومن رواية قيس بن الربيع:
كلاهما عن أبي صالح السمان.
ورواه الحارث بن أبي أسامة من رواية الحسن البصري: كلاهما- أي: الحسن البصري وأبي صالح السمان- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقال الترمذي:
حديث حسن غريب.
وأخرجه الدارمي في «مسنده» والحاكم! وقال: إنه صحيح على شرط(3/281)
14- «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» .
مسلم، ولكن أعلّه ابن حزم، وكذا ابن القطان والبيهقي، وقال أبو حاتم: إنّه منكر؛ أي: ضعيف.
وقال الإمام الشافعي: إنّه ليس بثابت عند أهله؛ أي: ضعيف.
وقال الإمام أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم من وجه صحيح، ولعلّ كلام الإمام أحمد باعتبار ما وقف عليه! وإلّا؛ فليس في رواته وضّاع ولا كذّاب، ويحتمل أن يكون ليس مراد الإمام أحمد حقيقة البطلان بل الضعف، بدليل قوله لا أعرفه ... الخ.
وقال ابن ماجه: له طرق ستّة كلّها ضعيفة. قال السخاوي: لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى. أي: لأنّ تباين الطّرق وكثرتها يفيد قوّة؛ وأن للحديث أصلا.
وقد رواه الدارقطني، والطبراني في «الكبير» و «الصغير» ؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، ورجاله ثقات، وصحّحه الضياء في «المختارة»
ورواه الطبراني في «الكبير» وابن عساكر والبيهقي من حديث أبي أمامة- بإسناد ضعيف-، والدارقطني عن أبيّ بن كعب بإسناد ضعيف، والطبراني أيضا عن رجل من الصحابة.
فحديث أبي هريرة لا يقصر عن درجة الحسن، وقد صحّحه ابن السّكن.
وسبب الحديث كما رواه إسحاق بن راهواه في «مسنده» أن رجلا زنى بامرأة آخر، ثمّ تمكّن الآخر من زوجة الزّاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر ... فذكر الحديث؛ قاله الزرقاني على «المواهب» .
14- ( «أدّبني ربّي) ؛ أي: علّمني رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة. (فأحسن تأديبي» ) بإفضاله عليّ بالعلوم الوهبيّة ممّا لم يقع نظيره لأحد من البريّة.(3/282)
.........
قال بعضهم: أدّبه باداب العبوديّة، وهذّبه بمكارم أخلاق الربوبيّة؛ لما أراد إرساله ليكون ظاهر عبوديّته مرآة للعالم؛ كقوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» وباطن حاله مرآة للصادقين في متابعته، وللصديقين في السير إليه؛ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [31/ آل عمران] .
وقال القرطبي: حفظه الله من صغره، وتولّى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كرّه إليه أحوال الجاهلية وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كلّ ذلك لطف به وعطف عليه، وجمع للمحاسن لديه. انتهى.
وقال بعضهم: أدّب الله روح رسوله وربّاها في محل القرب قبل اتصالها ببدنه باللّطف والهيبة؛ فتكامل له الأنس باللّطف، والأدب بالهيبة، واتصلت بعد ذلك بالبدن ليخرج من اتّصالها كمالات أخرى من القوّة إلى الفعل، وينال كلّ من الروح والبدن بواسطة الآخر من الكمال ما يليق بالحال، ويصير قدوة لأهل الكمال.
والأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا. أو الأخذ بمكارم الأخلاق. أو الوقوف مع المستحسنات، أو تعظيم من فوقه مع الرفق بمن دونه، وقيل: غير ذلك.
والحديث المذكور رواه الإمام أبو سعد ابن السمعاني في كتاب «أدب الإملاء» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أدّبني فأحسن تأديبي، ثمّ أمرني بمكارم الأخلاق؛ فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) » [الأعراف] .
قال السخاوي: سند هذا الحديث ضعيف جدّا، وإن اقتصر شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- على الحكم عليه بالغرابة؛ في بعض «فتاويه» !!. ولكن معناه صحيح.
ولذا جزم بحكايته ابن الأثير في خطبة «النهاية» وغيرها، ثمّ قال:(3/283)
15- «إذا أراد الله بعبد خيرا.. فقّهه في الدّين، ...
وبالجملة فهو كما قال ابن تيمية: لا يعرف له إسناد ثابت. وقال السيوطي في «الدرر» : ضعّفه ابن السّمعاني وابن الجوزي، وصحّحه أبو الفضل ابن ناصر رحمهم الله تعالى، آمين.
15- ( «إذا أراد الله بعبد خيرا) كاملا (فقّهه في الدّين) ؛ أي: فهّمه الأحكام الشرعية بتصوّرها والحكم عليها، أو باستنباطها من أدلّتها، وكلّ ميسّر لما خلق له، هذا ما عليه الجمهور.
وقال الغزالي: أراد العلم بالله وصفاته الّتي تنشأ عنها المعارف القلبيّة؛ لأنّ الفقه المتعارف؛ وإن عظم نفعه في الدّين؛ لكنّه يرجع إلى الظواهر الدينيّة، إذ غاية نظر الفقيه في الصّلاة مثلا الحكم بصحّتها عند توفّر الواجبات والمعتبرات.
وفائدته: سقوط الطلب في الدنيا. وأما قبولها وترتّب الثواب فليس من تعقّله، بل يرجع إلى عمل القلب وما تلبّس به من نحو خشية ومراقبة، وحضور وعدم رياء ونحو ذلك؛ فهذا لا يكون أبدا إلا خالصا لوجه الله، فهو الّذي يصحّ كونه علامة على إرادة الخير بالعبد.
وأما الفقهاء فهم في واد والمتزوّدون للآخرة بعلمهم في واد. ألا ترى إلى قول مجاهد «إنّما الفقيه من يخاف الله» ، وقول الحسن- لمن قال «قال الفقهاء» -:
وهل رأيت فقيها؛ إنّما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة!! والفقه في المعرفة أشرف كلّ معلوم، لأن كلّ صفة من صفاته توجب أحوالا ينشأ عنها التلبّس بكلّ خلق سنيّ، وتجنّب كلّ خلق رديّ.
فالعارفون أفضل الخلق، فهم بالإرادة أخلق وأحقّ. وأمّا تخصيص الفقه بمعرفة الفروع وعللها! فتصرّف حادث بعد الصدر الأول.
انتهى؛ من المناوي على «الجامع» .
وقال الحفني على «الجامع الصغير» : الظاهر أن المراد في هذا الحديث ونظيره بالفقه: العلم بالله تعالى وصفاته والتخلّق بمقتضى ما علم؛ إذ هذا هو الذي(3/284)
وزهّده في الدّنيا، وبصّره عيوبه» .
ينفع القلب. وعلم الفقه المعلوم! وإن كان خيرا كبيرا! لا دخل له في تطهير القلب، إذ هو مجرد أحكام ووقائع. انتهى.
(وزهّده) - بالتشديد-: صيّره زاهدا (في الدّنيا) ؛ أي: جعل قلبه معرضا عنها، مبغضا محقرا لها؛ رغبة به عنها، تكريما له، وتطهيرا عن أدناسها، ورفعة عن دناءتها.
(وبصّره) - بالتشديد- (عيوبه» ) ؛ أي: عرّفه بها وأوضحها له؛ ليتجنّبها كأمراض القلب؛ من نحو حسد وحقد، وغلّ وغش، وكبر ورياء، ومداهنة وخيانة، وطول أمل وقسوة قلب، وعدم حياء وقلّة رحمة.. وأمثالها.
وفيه دلالة على أنّ الزهد في الدنيا علامة إرادة الله الخير بعبده.
قال الغزالي: والزهد فيها: أن تنقطع همّته عنها ويستقذرها ويستنكرها؛ فلا يبقى لها في قلبه اختيار ولا إرادة، والدنيا وإن كانت محبوبة مطلوبة للإنسان؛ لكن لمن وفّق التوفيق الخاصّ وبصّره الله بافاتها تصير عنده كالجيفة، وإنما يتعجّب من هذا الراغبون في الدنيا، العميان عن عيوبها وآفاتها، المغترّون بزخرفها وزينتها، ومثل ذلك: إنسان صنع حلوى من أغلى السكر وعجنها بسمّ قاتل، وأبصر ذلك رجل ولم يبصره آخر. ووضعه بينهما، فمن أبصر ما جعل فيه من السّمّ زهده، وغيره يغترّ بظاهره فيحرص عليه، ولا يصبر عنه؛ قاله المناوي على «الجامع» .
والحديث رواه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وعن محمد بن كعب القرظي مرسلا، ورواه الديلمي في «مسند الفردوس» عن أنس أيضا، قال العراقي: وإسناده ضعيف جدّا، وقال غيره:
واه؛ قاله المناوي على «الجامع» .(3/285)
16- «إذا أسأت.. فأحسن» .
17- «إذا لم تستح.. فاصنع ما شئت» .
16- ( «إذا أسأت) بفعل كبيرة، أو صغيرة، أو ما لا ينبغي مع شخص (فأحسن» ) - بفتح الهمزة- أي: بالتوبة في الأول، وبفعل ما يكفّر الصغيرة في الثاني، وبالاعتذار للشخص في الثالث. قاله الحفني على «الجامع» .
وقال المناوي على «الجامع» ؛ أي: قابل الفعلة السّيّئة بخصلة حسنة، كأن تقابل الخشونة باللّين، والغضب بالكظم، والسّورة بالأناة، وقس عليه؛ ذكره الزمخشري، وشاهده إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [114/ هود] .
وهذا إشارة إلى أن الإنسان مجبول على الشهوات، ومقتضى البهيميّة والسبعيّة والملكيّة، فإذا ارتكب من تلك الرذائل رذيلة يطغيها بمقتضى الملكيّة: «أتبع السّيّئة الحسنة تمحها» . ومن البيّن أنّ الكبيرة لا يمحوها إلّا التوبة.
قال الراغب: والحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال المرء في نفسه وبدنه، والسيئة تضادّها، وهما من الألفاظ المشتركة؛ كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة. انتهى.
والحديث رواه الحاكم، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال: أراد معاذ بن جبل سفرا فقال: يا رسول الله؛ أوصني ... فذكره. ورواه عنه أيضا الطبراني وغيره، وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. انتهى. والله أعلم.
17- ( «إذا لم تستح) - بحذف الياء المثناة التحتيّة، وإثباتها- ويكون الجازم حذف الياء الثانية؛ لأنه من «استحيا» ، والأول من «استحى» .
(فاصنع ما شئت» ) الأمر للتهديد والتوبيخ؛ أي: إذا نزع منك الحياء وكنت لا تستحي من الله ولا تراقبه في فعل أوامره واجتناب نواهيه (فاصنع ما شئت» ) أي: ما تهواه نفسك من الرذائل، فإنّ الله مجازيك عليه، ونظيره قوله تعالى(3/286)
.........
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [40/ فصلت] ، وقوله تعالى فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [15/ الزمر] فإذا ارتفع الحياء صنعت النفس ما تهوى، وأنشد بعضهم:
إذا لم تخش عاقبة اللّيالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
وقال آخر:
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ... وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع
أو الأمر للإباحة؛ أي: انظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ممّا لا يستحى من الله ومن الناس في فعله؛ فافعله، وإن كان ممّا يستحى من الله ومن الناس في فعله؛ فدعه.
وعلى هذا مدار الأحكام من حيث إن الفعل إمّا أن يستحيا منه؛ وهو 1- الحرام و 2- المكروه و 3- خلاف الأولى، واجتنابها مشروع. أو لا يستحيا منه وهو 1- الواجب و 2- المندوب، و 3- المباح، وفعل الأوّلين مطلوب. والثالث جائز.
والحياء- بالمدّ- لغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به.
وقيل: انقباض وخشية يجدها الإنسان من نفسه عندما يطّلع منه على قبيح.
واصطلاحا: خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ.
وأمّا الحيا- بالقصر-! فيطلق على المطر، وعلى فرج الناقة.
وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «الحياء خير كلّه؛ لا يأتي إلّا بخير» .
وحكي أنّ رجلا رأى «1» النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: أنت قلت «الحيا خير كلّه» ؟
بالقصر- فقال: لا. ثمّ رآه ثانيا فسأله مثل ذلك؛ فقال: لا، فأخبر بذلك بعض
__________
(1) الظاهر أنه في المنام!!.(3/287)
.........
العلماء، فقال: الحيا- بالقصر- فرج الناقة، والذي في الحديث- بالمدّ- فرآه الثالثة وسأله: وقال: أنت قلت: «الحياء خير كلّه» ؟. فقال: نعم.
وينبغي أن يراعى فيه القانون الشرعي، فإنّ منه ما يذمّ كالحياء المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود شروطه. فإن هذا جبن لا حياء، ومثله الحياء في العلم المانع من سؤاله عن مهمات الدّين إذا أشكلت عليه، ومن ثمّ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: نعم النّساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين، ولذا جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت: إنّ الله لا يستحي من الحقّ؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: «نعم؛ إذا رأت الماء» . وروى البيهقي عن الأصمعي أنه قال: من لم يتحمل ذلّ التّعلم ساعة بقي في ذلّ الجهل أبدا.
ومن لم يذق ذلّ التّعلّم ساعة ... تجرّع ذلّ الجهل طول حياته
وروى أيضا عن عمر قال: لا تتعلّم العلم لثلاث، ولا تتركه لثلاث: لا تتعلم العلم لتماري به، ولا لترائي به، ولا لتباهي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بجهالة.
وروى الترمذي أنّه صلى الله عليه وسلّم قال: «استحيوا من الله حقّ الحياء» ، قالوا: إنّا نستحي والحمد لله!! فقال: «ليس ذلك، ولكنّ الاستحياء من الله حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء» .
وأهل المعرفة في ذلك يتفاوتون بحسب تفاوت أحوالهم، وقد جمع الله سبحانه وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم كمال الحياء بنوعيه، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وكان في الكسبيّ واصلا إلى أعلى غايته وذروتها، والله أعلم.
والحديث المذكور رواه البخاريّ في ذكر بني إسرائيل عن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه بلفظ:(3/288)
.........
«إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه؛ عن أبي مسعود المذكور بلفظ:
«آخر ما أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
وكذا رواه ابن عساكر عن أبي مسعود أيضا.
وكذا رواه الإمام أحمد عن حذيفة لكن بلفظ: «إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
ورواه الطبراني في «الأوسط» عن أبي الطّفيل مرفوعا بلفظ: «كان يقال إنّ ممّا أدرك النّاس ... » الحديث، ورواه ابن عدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا الدمياطي عنه، وقال غريب.
انتهى ذكره العجلوني رحمه الله تعالى في «كشف الخفا» .
تنبيه: حكي أنّ بعضهم وافى البصرة نحو شعبة يسمع منه ويكثر، فصادف المجلس قد انقضى؛ وانصرف شعبة إلى منزله، فحمله السرف إلى أن سأل عن منزل شعبة؛ فأرشد إليه، فجاء فوجد الباب مفتوحا فدخل من غير استئذان، فوجد شعبة جالسا على البالوعة يبول، فقال: السلام عليكم؛ رجل غريب قدمت من بلدة بعيدة لتحدّثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأعظم شعبة ذلك، فقال: يا هذا؛ دخلت منزلي بغير إذني، وتكلّمني على مثل هذه الحال!!. فقال: إني خشيت الفوت. فقال: تأخّر عنّي حتى أصلح من شأني، فلم يفعل واستمر في إلحاح، قال: وشعبة يخاطبه وذكره في يده يستبرئ. فلما أكثر قال:
اكتب: حدثنا منصور بن المعتمر، عن ربعيّ بن حراش، عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إن ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . ثم قال:
والله؛ لا أحدّثك بعد هذا الحديث، ولا حدّثت قوما تكون فيهم. والله أعلم.(3/289)
18- «إذا نزل القضاء.. عمي البصر» .
18- ( «إذا نزل القضاء) ؛ أي: المقضيّ (عمي البصر) ؛ أي: غطّي عنه نور العقل حتّى لا يرى بنوره المنافع فيطلبها، ولا المضارّ فيجتنبها، فهو محجوب بحجاب القدرة مع بقاء صورته، فكم من متردّ في مهلكة وهو يبصرها، ومفوّت منفعة في دينه أو دنياه وهو مشرف عليها. قال تعالى وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) [الأعراف] ومنه علم: أن العبد لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنّه لا رادّ لقضائه بالنقض، ولا معقّب لحكمه بالرّد.
وهذا الحديث رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرجه البيهقي من قول ابن عباس بلفظ: إنّ القدر إذا جاء حال دون البصر.
قاله جوابا عن قول نافع بن الأزرق في معناه «أرأيت الهدهد كيف يجيء فينقر الأرض فيصيب موضع الماء، ويجيء إلى الفخّ؛ وهو لا يبصره حتى يقع في عنقه» ؟!
ورواه الترمذي بلفظ: «إذا جاء القدر عمي البصر، وإذا جاء الحين غطّى العين» . ورواه ابن أبي شيبة والحاكم- وصححه- من طرق عن ابن عباس أنّه قيل له: كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطّير؛ قال: إنّ سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه فتفقّده.
قيل: «كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخّ، ويلقى عليه التراب، ويضع له الصبيّ الحبالة؛ فيغيّبها فيصيده» ؟! فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر.
وفي رواية سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن يوسف بن ماهك: أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ذكر يوما الهدهد، فقال: يعرف بعد مسافة الماء في الأرض.
فقال نافع بن الأزرق: قف.. قف يا ابن عباس، كيف تزعم أنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض؛ وهو ينصب له الفخّ فيذر عليه التراب فيصاد؟!(3/290)
19- «ارحموا ترحموا» .
فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: كذا وكذا، لم أقل له شيئا! إنّ البصر ينفع ما لم يأت القدر؛ فإذا جاء القدر حال دون البصر. فقال ابن الأزرق:
لا أجادلك بعدها في شيء. وأنشد غلام ثعلب لنفسه:
إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا رأي وعقل وبصر
وحيلة يعملها في كلّ ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر
أغواه بالجهل وأعمى عينه ... فسلّه عن عقله سلّ الشّعر
حتّى إذا أنفذ فيه حكمه ... ردّ عليه عقله ليعتبر
وهذا الشعر تضمّن معنى حديث: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتّى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره، فإذا مضى أمره؛ ردّ إليهم عقولهم ووقعت النّدامة» .
رواه الديلمي في «مسند الفردوس» عن أنس وعليّ رضي الله تعالى عنهما.
وقال في «الدرر» : رواه الديلمي والخطيب؛ عن ابن عباس بسند ضعيف.
وقال في «المقاصد» : رواه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ، ومن طريقه الديلمي في «مسنده» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا، وكذا الخطيب وغيره بسند فيه لا حق بن حسين كذّاب وضّاع؛ بلفظ: «إنّ الله إذا أحبّ إنفاذ أمر سلب ذوي العقول عقولهم» . انتهى من «كشف الخفا» للعجلوني.
وفي «الميزان» : إنه خبر منكر؛ أي: لأن فيه سعيد بن سماك بن حرب متروك كذّاب؛ ذكره المناوي.
19- ( «ارحموا) من في الأرض (ترحموا» ) - بضمّ أوله، مبنيا للمجهول- أي: يرحمكم الله سبحانه لأنّ الرحمة من صفات الحقّ الّتي شمل بها عباده، فلذا كانت أعلى ما اتّصفت بها البشر، فندب إليها الشارع في كلّ شيء، حتّى في قتال الكفّار والذّبح وإقامة الحجج وغير ذلك.(3/291)
20- «ازهد في الدّنيا.. يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس.. يحبّك النّاس» .
وتمام الحديث: «واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرّين الّذين يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون»
أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري في «الأدب» . والبيهقي في «شعب الإيمان» والطبراني بسند جيّد؛ كما قال المنذري والعراقي.
وقال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد الشرعبي وثّقه ابن حبان؛ قاله المناوي.
وقوله: «لأقماع القول» : - بفتح الهمزة جمع قمع؛ بكسر القاف وفتح الميم كضلع-: وهو الإناء الذي ينزل في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات، ومنه ويل لأقماع القول شبّه أسماع الّذين يستمعون القول؛ ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع الّتي لا تعي شيئا ممّا يفرغ فيها، فكأنه يمرّ عليها مجتازا كما يمرّ الشراب في الأقماع!! والله أعلم.
20- ( «ازهد) من الزّهد- بضم أوله وقد تفتح-، وهو- لغة-: الإعراض عن الشيء احتقارا له، وشرعا-: الاقتصار على قدر الضّرورة من المال المتيقّن الحلّ فهو أخصّ من الورع؛ إذ هو ترك الحرام والمشتبه. (في الدّنيا) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها؛ أي: أعرض عنها بقلبك ولا تحصّل منها إلّا ما تحتاج إليه، فإنّك إن فعلت ذلك (يحبّك) - بفتح الباء المشددة- (الله) تعالى لكونك أعرضت عمّا أعرض عنه؛ ولم ينظر إليه منذ خلقه، ولأنّ الله تعالى يحبّ من أطاعه، وطاعته تعالى لا تجتمع مع محبة الدّنيا، كما دلّت عليه النصوص والتجربة والتواتر؛ لأنّ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» ، والله لا يحبّ الخطايا ولا أهلها.
(وازهد فيما في أيدي النّاس) ؛ أي: فيما عندهم من الدنيا (يحبّك) - بفتح الموحدة المشددة- (النّاس» ) لأنّ قلوبهم مجبولة على حبّها مطبوعة عليها.(3/292)
.........
ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبّه واصطفاه.
ولهذا قال الحسن البصري: لا يزال الرجل كريما على الناس حتى يطمع في دنياهم؛ فيستخفّون به ويكرهون حديثه.
وقيل لبعض أهل البصرة: من سيّدكم؟ قالوا: الحسن البصري، قيل: بم سادكم؟ قال: احتجنا لعلمه، واستغنى عن دنيانا. انتهى.
وقال النووي في «شرح الأربعين» قوله: «ازهد في الدنيا.. الخ» الزّهد:
ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا؛ وإن كان حلالا، والاقتصار على الكفاية.
والورع: ترك الشبهات. قالوا: وأعقل الناس الزهاد؛ لأنّهم أحبوا ما أحبّ الله، وكرهوا ما كره الله تعالى من جمع الدنيا، واستعملوا الراحة لأنفسهم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو «أوصي لأعقل الناس» ! صرف إلى الزّهاد.
ولبعضهم:
كن زاهدا فيما حوت أيدي الورى ... تضحى إلى كلّ الأنام حبيبا
أو ما ترى الخطّاف حرّم زادهم ... فغدا رئيسا في الجحور قريبا
وللشافعي رضي الله تعالى عنه في ذمّ الدّنيا:
ومن يذق الدّنيا فإنّي طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلّا غرورا وباطلا ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلّا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همّهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فدع عنك فضلات الأمور فإنّها ... حرام على نفس التّقيّ ارتكابها
قوله: «حرام على نفس التقي ارتكابها» يدلّ على تحريم الفرح بالدّنيا، وقد صرّح بذلك البغوي في تفسير قوله تعالى وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا [26/ الرعد] .(3/293)
.........
ثمّ المراد بالدنيا المذمومة: طلب الزّائد على الكفاية، أمّا طلب الكفاية! فواجب.
قال بعضهم: وليس ذلك من الدنيا. وأمّا الدنيا فالزائدة على الكفاية، واستدلّ بقوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ [14/ آل عمران] ... الآية، فقوله تعالى ذلك إشارة إلى ما تقدم من طلب التوسع والتبسط.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: طلب الزائد من الحلال عقوبة ابتلى الله بها أهل التوحيد. ولبعضهم:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ... إلّا الّتي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه ... وإن بناها بشرّ خاب بانيها
النّفس ترغب في الدّنيا وقد علمت ... أنّ الزّهادة فيها ترك ما فيها
فاغرس أصول التّقى ما دمت مجتهدا واعلم بأنّك بعد الموت لاقيها ثمّ بعد ذلك إذا فرح بها لأجل المباهاة والتفاخر والتطاول على الناس؛ فهو مذموم، ومن فرح بها لكونها من فضل الله تعالى؛ فهو محمود.
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اللهم لا نفرح إلّا بما رزقتنا.
انتهى كلام النووي ملخصا.
والحديث!! قال السخاوي وغيره: رواه ابن ماجه، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم، وابن حبان، وأبو نعيم والبيهقي وآخرون؛ من حديث خالد بن عمر القرشي، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أنّه قال:
جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله؛ دلّني على عمل إذا عملته أحبّني الله وأحبّني الناس!! فقال: «ازهد ... » وذكر الحديث.
وحسّنه الترمذي، وتبعه النّوويّ، وصحّحه الحاكم، وتعقّبه الذّهبي؛ بأن فيه خالد بن عمر وضّاع، ومحمد بن كثير المصيصي ضعّفه أحمد.(3/294)
21- «استعينوا على الحاجات بالكتمان؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» .
وقال المنذري عقب عزوه لابن ماجه: وقد حسّن بعض مشايخنا إسناده! وفيه بعد، لأنّه من رواية خالد القرشي وقد ترك واتّهم!!.
قال: لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النّبوّة، ولا يمنع كونه من رواية الضعفاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم قاله. انتهى.
وقال السخاوي: فيه خالد هذا مجمع على تركه، بل نسبوه إلى الوضع.
قال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات.
وقال ابن عدي: خالد وضع هذا الحديث. وقال العقيلي: لا أصل له.
لكن رواه غير الحاكم عن الثوري، وأخرجه أبو نعيم من طريق مجاهد عن أنس مرفوعا، لكن في سماع مجاهد من أنس نظر!! وقد رواه الثقات فلم يجاوزوا به مجاهدا، وكذا يروى عن الربيع بن خثيم رفعه مرسلا.
وبالجملة فقد حسّن الحديث النووي؛ ثم العراقي، وكلام شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- ينازع فيه كما بيّنته في تخريج «الأربعين» . انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في «شرح الأربعين» : التحسين إنّما جاء باعتبار تعدد الطّرق، فهو حسن لغيره؛ لا لذاته، وهو أحد الأحاديث الأربعة الّتي عليها مدار الإسلام. انتهى.
21- ( «استعينوا على) قضاء (الحاجات بالكتمان) - بكسر الكاف- أي:
إخفائها عن الغير قبل الشروع فيها مستعينين بالله على الظّفر بها، فالكتمان؛ وإن كان سببا عاديّا لقضائها؛ لكنّه في الحقيقة لله تعالى.
وعلّل طلب الكتمان بقوله: (فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» ) يعني: إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم.(3/295)
.........
قال السخاوي وغيره: والأحاديث الواردة في التحدث بالنّعم محمولة على ما بعد وقوعها؛ فلا تعارض هذا!!
نعم إن ترتب على التّحدث بها حسد فالكتمان أولى. انتهى.
وأخذ من الحديث أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه؛ والاجتهاد في طيّ سرّهم.
قال الشافعي: من كتم سرّه كانت الخيرة في يده. قال: وروي لنا عن عمرو بن العاصي أنّه قال: ما أفشيت إلى أحد سرّا فأفشاه فلمته، لأنّي كنت أضيق منه سرّا.
وقال بعض الحكماء: من كتم سرّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وكم من إظهار سرّ أراق دم صاحبه ومنع من بلوغ مأربه!! ولو كتمه كان من سطواته آمنا! ومن عواقبه سالما، وبنجاح حوائجه فائزا!
وقال بعضهم: سرّك من دمك، فإذا تكلّمت فقد أرقته.
وقال أنوشروان: من حصّن سرّه فله بتحصينه خصلتان: الظّفر بحاجته، والسّلامة من السّطوات.
وفي «منثور الحكم» : انفرد بسرّك، ولا تودعه حازما فيزول، ولا جاهلا فيحول؛ لكن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق ومشورة ناصح فيتحرّى له من يأتمنه عليه ويستودعه إيّاه؛ فليس كلّ من كان على الأموال أمينا كان على الأسرار أمينا، والعفّة عن الأموال أيسر من العفّة عن إذاعة الأسرار.
قال الراغب: إذاعة السّرّ من قلّة الصّبر وضيق الصّدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء، والسبب في صعوبة كتمان السّر أنّ للإنسان قوّتين: آخذة؛ ومعطية، وكلتاهما تتشوّف إلى الفعل المختصّ بها، ولولا أنّ الله وكّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوّة تتشوّف إلى(3/296)
22- «استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» .
فعلها الخاصّ بها، فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلّا حيث يجب إطلاقها.
انتهى.
مناوي على «الجامع» ، وزرقاني على «المواهب» .
والحديث أخرجه الطبراني في «معاجمه» الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه، لكن بلفظ: «استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان» ... والباقي سواء.
وكذا أخرج الحديث البيهقيّ في «الشعب» ، وأبو نعيم وابن أبي الدنيا والعسكري والقضاعي وابن عديّ: كلّهم؛ عن معاذ بن جبل وفيه عند الجميع سعيد بن سلّام العطار كذّبه أحمد وغيره، وقال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وقال فيه العجلي: لا بأس به.
ولكن أخرجه العسكري أيضا من غير طريقه بسند ضعيف مع انقطاعه بلفظ:
«استعينوا على طلب حوائجكم بالكتمان لها، فإنّ لكلّ نعمة حسدة، ولو أنّ امرأ كان أقوم من قدح لكان له من الناس غامز» .
ويستأنس له بما أخرجه الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس مرفوعا: «إنّ لأهل النّعم حسّادا فاحذروهم» .
وفي الباب عن جماعة منهم عمر؛ عند الخرائطي، وابن عباس؛ عند الخطيب، وعلي بن أبي طالب؛ عند الخلعي، فلا يسوغ دعوى وضعه كما صنع ابن الجوزي، وقد جزم الحافظ العراقي بأنه ضعيف فقط. انتهى من الزرقاني.
لكن قال العلامة الحفني في حاشية «الجامع الصغير» : الجمهور على أن هذا الحديث موضوع، والله أعلم.
22- ( «استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» ) ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز الحاكم، وذكره في «كشف الخفا» بلفظ: «استعينوا على كلّ صنعة بصالح أهلها» ، وقال: قال في «الأصل» : قد يستأنس له بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من أمر دنياكم فإليكم» .(3/297)
23- «استفت قلبك وإن أفتاك النّاس وأفتوك» .
وقال في «التمييز» : ويشهد له ما ثبت في «سنن أبي داود» عن سعد قال:
مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعودني، فوضع يده بين ثدييّ حتّى وجدت بردها على فؤادي، وقال لي: «إنّك رجل مفؤد فأت الحارث بن كلدة من ثقيف، فإنّه رجل يطبّ ... » الحديث.
23- ( «استفت قلبك) ؛ أي: اطلب الفتوى من قلبك، وعوّل على ما فيه؛ لأنّ للنفس شعورا من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته فيه وما تذمّ؛ فيطمئن القلب للعمل الصالح طمأنينة تبشّره بأمن العاقبة، ولا يطمئنّ للإثم بل يورثه نفرة وتندّما وحزازة؛ لأن الشرع لا يقرّ عليه، وفي رواية: «استفت نفسك» (وإن) غاية لمقدّر دلّ عليه ما قبله، أي: فالتزم العمل بما في قلبك وإن (أفتاك النّاس) ؛ أي: علماؤهم كما في رواية: وإن أفتاك المفتون (وأفتوك» ) بخلافه، فرّخصوا لك فيه، لأنهم إنما يطّلعون على الظّواهر لا السّرائر.
والجمع للتأكيد!! كما في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ [17/ الطارق] فأتى بالثاني تأكيدا للأول، قال النووي في «شرح الأربعين» مثاله: الهدية إذا جاءتك من شخص غالب ماله حرام وتردّدت النفس في حلّها وأفتاك المفتي بحلّ الأكل، فإن الفتوى لا تزيل الشّبهة، وكذلك إذا أخبرته امرأة بأنه ارتضع مع فلانة، فإن المفتي إذا أفتاه بجواز نكاحها لعدم استكمال النّصاب لا تكون الفتوى مزيلة للشبهة، بل ينبغي الورع؛ وإن أفتاه الناس.
لكن قال المناوي: قال حجة الإسلام الغزالي: ولم يردّ كلّ أحد لفتوى نفسه، وإنّما ذلك ل «وابصة» في واقعة تخصّه. انتهى.
قال البعض: وبفرض العموم؛ فالكلام فيمن شرح الله صدره بنور اليقين فأفتاه غيره بمجرّد حدس أو ميل من غير دليل شرعي، وإلّا! لزمه اتباعه، وإن لم ينشرح له صدره. انتهى.(3/298)
.........
وبما بحثه صرّح حجّة الإسلام، لكن بزيادة بيان وإحسان، فقال ما محصوله:
ليس للمجتهد أو المقلّد إلّا الحكم بما يقع له أو لمقلّده. ثمّ يقال للورع:
استفت قلبك وإن أفتوك، إذ للإثم حزازات في القلوب، فإذا وجد قابض مال في نفسه شيئا منه؛ فليتّق الله، ولا يترخّص تعلّلا بالفتوى من علماء الظاهر، فإن لفتاويهم قيودا من الضّرورات، وفيها تخمينات واقتحام شبهات، والتّوقي عنها من شيم ذوي الدّين وعادات السالكين لطريق الآخرة. انتهى كلام المناوي.
والحديث المذكور رواه الإمام أحمد ابن حنبل والدارمي في «مسنديهما» بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى وأبو نعيم والطبراني مرفوعا؛ كلّهم عن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله تعالى عنه قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا لا أريد أن أدع شيئا من البّر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي: «ادن يا وابصة» . فدنوت منه حتى مسّت ركبتي ركبته، فقال: «يا وابصة؛ أخبرك بما جئت تسأل عنه، أو تسألني عنه؟» قلت: يا رسول الله، أخبرني، قال: «جئت تسأل عن البّر والإثم» . فقلت: نعم، قال: فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري؛ ويقول: «يا وابصة؛ استفت نفسك، البّرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر؛ وإن أفتاك الناس وأفتوك» . قال النووي: حديث حسن.
قال العلّامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: وفي جوابه صلى الله عليه وسلّم لوابصة بهذا إشارة إلى متانة فهمه وقوّة ذكائه وتنوير قلبه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلّم أحاله على الإدراك القلبيّ، وعلم أنّه يدرك ذلك من نفسه، إذ لا يدرك ذلك إلّا من هو كذلك.
وأما الغليظ الطبع الضعيف الإدراك! فلا يجاب بذلك، لأنّه لا يتحصّل منه على شيء، وإنما يفصّل له ما يحتاج إليه من الأوامر والنواهي الشرعية.
وهذا من جميل عاداته صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه، فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يخاطبهم على قدر(3/299)
24- «أسلم.. تسلم» .
عقولهم، ومن ثمّ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم. انتهى.
قال في «كشف الخفا ومزيل الإلباس» : وفي الباب عن النّواس وواثلة وغيرهما رضي الله تعالى عنهم. انتهى.
24- ( «أسلم) - بكسر اللام- (تسلم» ) - بفتحها-: فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني مع ما فيه من البديع؛ وهو الجناس الاشتقاقي: وهو رجوع اللّفظين في الاشتقاق إلى أصل واحد.
وهذا قطعة من كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى هرقل مذكور في حديث طويل مشهور ب «حديث هرقل» ، رواه البخاري في مواضع كثيرة من «صحيحه» ، وأخرجه مسلم في «المغازي» وغيرها، ولفظ الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفي رواية البخاري في «الجهاد، وبدء الوحي» : من محمد عبد الله ورسوله- إلى هرقل عظيم الرّوم؛ سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد؛ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) » [آل عمران] انتهى «1» .
وفي رواية للبخاري في «الجهاد» : «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله ... »
الخ بتكرار «أسلم» مع زيادة الواو في الثانية، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه. كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [136/ النساء] قاله الحافظ؛ نقله عنه الزّرقاني ثمّ قال:
__________
(1) في اللفظ النبوي اقتباس من الآية لا تصريح بنصها! فتنبه.(3/300)
25- «اسمح.. يسمح لك» .
قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمّنها بعض هذا الكتاب على الأمر بقوله «أسلم» ، والترغيب بقوله. «تسلم، ويؤتك» ، والزجر بقوله «فإن توليت» ، والترهيب بقوله «فإن عليك» والدلالة بقوله «يا أهل الكتاب» .
وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا! وهو من كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
قال: واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام- يعني: السراج البلقيني-: أن كلّ من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذّبائح، لأنّ هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، بل ممّن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال لهم «يا أهل الكتاب» ، فدلّ على أنّ لهم حكمهم، خلافا لمن خصّ ذلك بالإسرائيليّين؛ أو بمن علم أن سلفه دخل اليهوديّة أو النصرانيّة قبل التبديل.
انتهى.
25- ( «اسمح) أمر من السماح؛ قاله المناوي على «الجامع» .
وقال الحفني: «اسمح» من المسامحة وهي ترك المال؛ لا في مقابلة شيء.
فالمسامحة ترك، والسماح بذل، فثمّ فرق بينهما. انتهى.
(يسمح) - بالبناء للمفعول، والفاعل-؛ أي: يسمح الله (لك» ) في الدنيا بالإنعام، وفي العقبى بعدم المناقشة في الحساب وغير ذلك.
والمعنى: عامل الناس بالمسامحة والمساهلة يعاملك الله بمثله في الدنيا والآخرة، «كما تدين تدان» ، وهو حثّ على المساهلة في المعاملة وحسن الانقياد، وهو من سخاوة الطبع وحقارة الدنيا في القلب، فمن لم يجده من طبعه فليتخلّق به، فعسى أن يسامحه الحقّ فيما قصّر فيه من طاعته وعسر عليه في الانقياد إليه في معاملته إذا أوقفه بين يديه لمحاسبته.
ولا يخفى كمال المسامحة على ذي لبّ، فجمع بهذا اللفظ الموجز المضبوط(3/301)
26- «أصحابي كالنّجوم؛ ...
بضابط العقل الذي أقامه الحقّ حجّة على الخلق ما لا يكاد يحصى من المصالح والمطالب العالية؛ قاله المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بسند رجاله رجال الصحيح؛ كما قاله الحافظ الهيثمي.
ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» كلّهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وخطّئوا من حكم عليه بالوضع. ورواه عبد الرزاق عن عطاء مرسلا بلفظ:
«اسمحوا يسمح لكم» .
وروى الشيخان وأحمد؛ عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال:
«أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك» .
وعندهم أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قال: «قال الله: أنفق أنفق عليك» ، وفي معناه ما في «المجالسة» من طريق عون أنّه قال: أخذ الحسن شعره فأعطى الحجام درهمين، فقيل له: يكفيه دانق، فقال: لا تدنّقوا فيدنّق عليكم.
انتهى من المناوي على «الجامع» ، ومن العجلوني.
26- ( «أصحابي كالنّجوم) في الهداية، لأنّ كلّا منهما يهتدى به؛ فالنجوم يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، والصحابة يهتدى بهم من ظلمات الجهل؛ لكن الاهتداء بالصّحابة أقوى من الاهتداء بالنّجوم، لأنّه ينجي من الهلاك الآخروي ومن الدنيوي، بخلاف الاهتداء بالنّجوم.
ولا يقال: إذا كان كذلك فكيف يشبه الصّحابة بالنجوم؛ مع أن القاعدة أن وجه الشبه يكون أقوى في المشبّه به!!
لأنّا نقول: التشبيه إنّما هو باعتبار الحسّ والمألوف. وبهذا الاعتبار يكون الاهتداء في المشبّه به أقوى من المشبّه.
وهذا لا ينافي أنّه أقوى في المشبّه باعتبار آخر.(3/302)
فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» .
وفي تشبيههم بالنّجوم إشارة إلى علوّ مرتبتهم جميعا؛ كعلوّ مرتبة النجوم.
وفيه إشارة إلى تفاوت مراتب الصحابة كتفاوت مراتب النجوم.
(فبأيّهم) ؛ أي: بأيّ واحد منهم (اقتديتم) ؛ فيما اختلفوا فيه (اهتديتم» )
يوضّح ذلك ما روي من أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم سأل الربّ عما يختلف فيه أصحابه؟
فقال: «يا محمد؛ أصحابك عندي كالنجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض؛ فمن أخذ بشيء ممّا اختلفوا فيه فهو على هدى عندي» ؛ قاله الباجوري على «السّلّم المنورق» قال:
وظاهر هذين الحديثين: أنّ الصّحابة كلّهم مجتهدون، وهو ما جرى عليه ابن حجر في «شرح الهمزية» ، وعلّله بتوفّر شروط الاجتهاد في جميعهم.
قال: ولذلك لم يعرف أنّ واحدا منهم قلّد غيره في مسألة من المسائل، لكن رجّح بعضهم أن فيهم المقلّدين والمجتهدين. ثم قال- أي: الباجوري-:
فإن قيل: خطابه صلى الله عليه وسلّم في قوله «بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ؛ لا يصحّ أن يكون للصّحابة كما هو ظاهر، ولا لغيرهم؛ لعدم حضورهم حين الخطاب؟!
أجيب بأنه لغيرهم على طريق استحضارهم؛ وفرضهم حاضرين؛ كذا قال بعض المحققين. ثمّ ذكر الباجوري أن الشيخ تقي الدين السبكي نقل عن تاج الدين بن عطاء الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كانت له تجليات يرى في بعضها سائر أمّته الآتية بعده؛ فيقول: مخاطبا لهم: «لا تسبّوا أصحابي؛ فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» .
قال: ومثله يقال في الخطاب الذي نحن بصدده. انتهى كلام الباجوري في «شرح السّلّم المنورق» .
قال السيد عبد الله الغماري- عافاه الله تعالى-: هذا الحديث رواه الدارقطني في «غرائب مالك» ، وابن عبد البر في «كتاب العلم» ؛ من حديث جابر بن عبد الله(3/303)
27- «أعجل الأشياء عقوبة.. البغي» .
بإسنادين ضعيفين، ورواه عبد بن حميد في «مسنده» من حديث ابن عمر بإسناد واه، والقضاعي في «مسند الشهاب» ؛ من حديث أبي هريرة بإسناد فيه كذّاب، وأبو ذرّ الهروي في «السنة» ؛ من طريق الضحّاك معضلا، وإسناده ضعيف جدّا.
وقد ثبت ما يؤدي معنى صدره كما قال البيهقي؛ وهو ما في «صحيح مسلم» عن أبي موسى مرفوعا: «النّجوم أمنة أهل السّماء، فإذا ذهب النّجوم أتى أهل السّماء ما يوعدون، وأصحابي أمنة أمّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يوعدون» .
وفيه- كما قال الحافظ- الإشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة.
انتهى كلام الغماري في تعليقاته على كتاب «تأييد الحقيقة العلية» للسيوطي رحمه الله تعالى.
وقال في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» : رواه البيهقي وأسنده الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «أصحابي بمنزلة النّجوم في السّماء؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم» انتهى.
وقال الباجوري في حواشي «السلّم المنورق» : وتكلّم بعضهم في سنده حتى قال الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» : إنه روي من طرق كلّها ضعيفة، بل قال ابن حزم: إنه موضوع. لكن نقل العارف بالله الشعراني في «الميزان» : إنه صحيح عند أهل الكشف؛ وإن كان فيه مقال. انتهى.
27- ( «أعجل) : أسرع (الأشياء) ؛ أي: الذنوب (عقوبة) - بالنصب- (البغي» ) : مجاوزة الحدّ والتعدي بلا حقّ، و «عقوبة» تمييز؛ محوّل عن المضاف، و «البغي» حذف منه المضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقامه!! أي:
أسرع عقوبات الأشياء عقوبة البغي.
والمعنى: لكل ذنب عقوبة، لكنها قد تتأخر إلّا البغي فينجّز للباغي في الدّنيا إن لم يعف الله تعالى عنه، وما أحسن ما قيل:(3/304)
28- «أعدى عدوّك.. نفسك الّتي بين جنبيك» .
لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السّهل والجبل
وهذا الحديث ذكره في «المواهب» ولم يعزه إلى أحد!! وكذلك شارحه الزرقاني لم يذكر من رواه! ولعلّه مرويّ بالمعنى، فكان ينبغي للمصنف حذفه، لكنّه تبع «المواهب» في ذكره، ويدلّ لما قلناه أن الزرقاني ذكر لفظ الحديث الوارد في هذا المعنى؛ فقال:
روى الطبراني في «الكبير» ، والبخاري في «التاريخ» ؛ عن أبي بكرة مرفوعا: «اثنان يعجّلهما الله تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» .
قال في «الفائق» : وأصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [150/ الأعراف] ؛ سبقتموه. انتهى.
قال المناوي- بعد ذكر الحديث الذي أورده الزرقاني-: وفيه أن البغي والعقوق من الكبائر. وخصّ هاتين الخصلتين من بين خصال الشرّ بذكر التعجيل فيهما!! لا لإخراج غيرهما؛ فإنه قد يعجل أيضا، بل لأنّ المخاطب بذلك كان لا يحترز من البغي؛ ولا يبرّ والديه، فخاطبه بما يناسب حاله؛ زجرا له، وكثيرا ما يخصّ بعض الأعمال بالحثّ عليها بحسب حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر ممّا سواها؛ إمّا لمشقتها عليه، وإمّا لتساهله في أمرها. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
28- ( «أعدى عدوّك) ؛ أي: أشد أعدائك عداوة لك (نفسك) ؛ الأمّارة بالسّوء (الّتي بين جنبيك» ) ؛ لأنّها عدوّ ملازم من داخل تعين الشّيطان على هلاكك، والعدوّ يكون للواحد والجمع والمؤنث والمذكر، وقد يثنّى، وقد يجمع، وما أحسن ما قيل:
إنّي بليت بأربع ما سلّطوا ... إلّا لأجل شقاوتي وعنائي
إبليس والدّنيا ونفسي والهوى ... كيف الخلاص وكلّهم أعدائي
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ؛ معزوّا للبيهقي- يعني في(3/305)
29- «أعظم النّاس خطايا.. أكثرهم خوضا في الباطل» .
30- «أعظم الخطايا.. اللّسان الكذوب» .
«الزّهد» بإسناد ضعيف؛ كما قاله العجلوني- قال: وله شاهد من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. انتهى.
29- ( «أعظم النّاس خطايا) : جمع خطيئة؛ وهي الذنب الواقع عن عمد (أكثرهم خوضا) ؛ أي: كلاما (في الباطل» ) ؛ الذي لا فائدة فيه تعود على الإنسان. و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» فلا ينبغي للشخص أن يصرف أوقاته في الخوض في الباطل، فإن ذلك ضياع لعمره، وكلّ نفس من أنفاسك جوهرة؛ إن صرفته فيما ينفعك في الآخرة، أو حسرة؛ إن صرفته في الأمور التي لا خير فيها ولا ثواب تناله منها.
30- ( «أعظم الخطايا) ؛ أي: الذنوب الصّادرة عن عمد، والخطايا: جمع خطيئة، أصلها خطائي، بوزن فعائل؛ فأبدلت الياء بعد ألف الجمع همزة فصار خطائئ بهمزتين، ثمّ أبدلت الثانية ياء لتطرّفها، ثم قلبت الكسرة قبلها فتحة على حدّ عذاري، ثم قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ فصار خطاآ بألفين بينهما همزة، فاجتمع شبه ثلاث ألفات؛ فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال.
والخطيئة: - فعيلة- من الخطي- بكسر أوله-: وهو الذنب. انتهى ذكره ابن علان في «شرح رياض الصالحين» .
(اللّسان) ؛ أي: خطيئة اللّسان (الكذوب» ) ؛ أي: الكثير الكذب الذي تكرّر كذبه حتى صار صفة له، حتى يأتي بالكبائر كلّها؛ كالقذف والبهتان وشهادة الزور وغيرها، وربّما أفضى إلى الكفر، ذلك لأنّ اللّسان أكثر الأعضاء عملا من سائر الجوارح. وما من معصية إلّا وله فيها مجال، وإذا تعوّد الكذب أورد صاحبه(3/306)
31- «أعمى العمى.. الضّلالة بعد الهدى» .
المهالك؛ فمن أهمله مرخيّ العنان؛ ينطق بما شاء من البهتان؛ سلك به في ميدان الخطايا والطّغيان، وما ينجى من شرّه إلّا أن يقيّده بلجام الشرع، ولكون جريمته عظيمة جعل له حاجزان: الأسنان والشفتان.
والحديث أخرجه ابن لال والديلمي؛ كلاهما عن ابن مسعود، وأخرجه ابن عديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وإسناده ضعيف؛ كما في العزيزي.
31- ( «أعمى العمى الضّلالة بعد الهدى» ) ؛ أي: الكفر بعد الإسلام، فهو العمى على الحقيقة، والمرتد أسوء حالا من الكافر الأصلي؛ لأنّه لا يرث ولا يورث، وماله فيء، فإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ماله ... إلى غير ذلك من أحكام يخالف فيها الكافر الأصليّ.
وهذا الحديث هو قطعة من حديث طويل رواه البيهقي في «دلائل النبوّة» وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال:
خرجنا في غزوة تبوك فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ كان منها على ليلة؛ فلم يستيقظ حتى كانت الشمس كرمح؛ فقال: «ألم أقل لك يا بلال إكلأ لنا الفجر» فقال:
يا رسول الله ذهب بي الّذي ذهب بك! فانتقل غير بعيد، ثمّ صلّى، ثمّ حمد الله، ثمّ أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله ... » وهو مذكور بطوله في «الجامع الصغير» ، وكذا رواه العسكري، والديلمي؛ عن عقبة بن عامر، ورواه أبو نصر السجزي في «الإبانة» ؛ عن أبي الدرداء مرفوعا، ورواه ابن أبي شيبة، وأبو نعيم في «الحلية» ، والقضاعي في «الشهاب» ؛ عن ابن مسعود موقوفا. قال بعض شراح «الشهاب» : إنه حسن غريب؛ قاله المناوي على «الجامع» .(3/307)
32- «اعمل لوجه واحد.. يكفك الوجوه كلّها» .
33- «أفضل الأعمال.. سرور تدخله على مسلم» .
32- ( «اعمل لوجه واحد يكفك) - بحذف الياء- من الكفاية؛ لأنّه مجزوم في جواب الأمر، والفاعل المعمول له المدلول عليه بالفعل؛ أي: اعمل لله تعالى وحده خالصا لوجهه يكفك المعمول له (الوجوه كلّها» ) ؛ أي: جميع مهماتك في حياتك وبعد مماتك.
قال الغزالي: اعمل لأجل من إذا عملت لأجله ووحّدته بقصدك وطلبت رضاه بعملك؛ أحبّك وأكرمك وأغناك عن الكلّ، ولا تشرك بعبادته عبدا حقيرا مهينا لا يغني عنك شيئا.
وهذا الحديث أخرجه ابن عديّ والديلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وفي سنده أبو عبد الرحمن السّلمي وضاع للصوفية.
ومحمد بن أحمد بن هارون؛ قال: الذهبي في «الضعفاء» : متّهم بالوضع، ونافع بن هرمز أبو هرمز قال في «الميزان» : كذّبه ابن معين، وتركه أبو حاتم وضعفه أحمد. انتهى. وبه يعرف أنّ سنده هلهل بالمرّة، فكان ينبغي للمصنف حذفه؛ قاله المناوي على «الجامع» .
وبه يعلم أنّ مصنّفنا تبع «الجامع الصغير» في ذكره هذا الحديث والأولى حذفه.
33- ( «أفضل الأعمال) ؛ أي: من أفضلها بعد الفرائض، والمراد الأعمال التي يفعلها المؤمن مع إخوانه (سرور) ؛ أي: سبب سرور (تدخله على مسلم» ) من المسلمين، والمراد أن تدخل على أخيك المسلم سببا ينشرح به صدره؛ إمّا من جهة الدّين، أو من جهة الدّنيا، كأن تقضي عنه دينا لزمه أداؤه، أو تطعمه طعاما لا سيّما إذا كان ممّا يشتهيه.(3/308)
34- «أفضل الأعمال.. العلم بالله تعالى» .
قيل لابن المنكدر: ما بقي ممّا يستلذّ؟ قال: الإفضال على الإخوان.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللّفظ الّذي أورده المصنف ورمز له برمز ابن عديّ، وهو موجود في «الجامع الصغير» بلفظ: «أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا» . انتهى
وعزاه لابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج» والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن عديّ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
قال المناوي: وظاهر صنيع المصنف أنّ البيهقي خرّجه وسكت عليه، والأمر بخلافه، بل قال: عمّار فيه نظر، وللحديث شاهد مرسل ثمّ ذكره.
وضعّفه المنذري؛ وذلك لأنّ فيه الوليد بن شجاع! قال أبو حاتم: لا يحتجّ به، وفيه عمّار بن محمد مضعّف، ثمّ قال: والحاصل أنّه حسن لشواهده. انتهى
34- ( «أفضل الأعمال العلم بالله تعالى» ) ؛ أي معرفة ما يجب له، ويستحيل عليه سبحانه من الصفات والسلوب والإضافات، فالعلم بذلك أفضل الأعمال وأشرف العلوم وأهمّها، فإنّه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلّف مرسل للرّسل منزّل للكتب؛ لم يتصوّر علم فقه ولا حديث ولا تفسير، فجميع العلوم متوقّفة على علم الأصول، وتوقفها عليه ليس بطريق الخدمة، بل بالإضافة والرئاسة. ومن ثمّ عدّ رئيس العلوم كلّها؛ فمعرفة الله تعالى والعلم به أول واجب مقصود لذاته على المكلّف، لكن ليس المراد بالمعرفة الحقيقية لأنّ حقيقته تعالى غير معلومة للبشر، ولا العيانيّة لأنّها مختصّة بالآخرة، ولا الكشفيّة فإنّها منحة إلهيّة، ولا نكلّف بمثلها إجماعا. بل البرهانيّة أي: التي تنشأ عن البراهين، وهي الّتي كلّفنا بها.
وإيضاح ذلك أنّ المعرفة أربعة أقسام:
1- المعرفة الحقيقية؛ أي: الإحاطة بذاته تعالى وهذا مستحيل لا نكلّف به،(3/309)
35- «أفضل الجهاد.. أن تجاهد نفسك وهواك» .
ومنه: ما عرفناك حقّ معرفتك؛ أي: ما أحطنا بذاتك.
و2- المعرفة التي لا تكون في الدنيا إلّا لنبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ وهي معرفة العيان؛ أي:
المعرفة الناشئة عن إدراك البصر؛ فإنها لا تقع لغير نبيّنا إلا في الآخرة، فلسنا مكلّفين بها أيضا.
و3- المعرفة عن كشف؛ وهي خاصّة بأولياء الله تعالى بأن يكشف عن لطيفة قلوبهم بحيث يدركون بواطن الأمور، حتى لو كشف لهم الحجاب في الآخرة لم يزدادوا يقينا. وهذه الجنّة المعجّلة في الدنيا، ولسنا مكلّفين بها أيضا، لأنها تقع بالفيض الإلهي، وإن كان لها أسباب ذكرها القوم في كتب التصوّف.
و4- المعرفة البرهانية؛ أي: الّتي تنشأ عن البراهين وهي الّتي كلّفنا بها، وذلك بأن يعلم بالدّليل وجوده تعالى وما يجب له وما يستحيل عليه كما تقرّر.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» وقال: رواه ابن عبد البر.
وذكره في «الجامع» معزوّا للحكيم الترمذي، عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: «أفضل الأعمال العلم بالله، إنّ العلم ينفعك معه قليل العمل وكثيره، وإنّ الجهل لا ينفعك معه قليل العمل ولا كثيره» .
قال المناوي: وسبب هذا الحديث: أنّ رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «العلم بالله» . ثمّ أتاه فسأله، فقال مثل ذلك، فقال:
يا رسول الله: إنّما أسألك عن العمل؟ فقال: «إنّ العلم ينفعك ... » الخ
قال ابن حجر الهيتمي: وفيه أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقّه أعظم قدرا من مجرّد العبادة البدنيّة. انتهى كلام المناوي؛ ملخصا.
35- ( «أفضل الجهاد) بالمعنى اللّغوي: وهو ارتكاب المشاقّ، إذ الجهاد شرعا: قتال الكفار (: أن تجاهد) أيّها الإنسان (نفسك وهواك» ) في ذات الله بأن تكفّها عن الشهوات، وتمنعها عن الاسترسال في اللّذات، وتلزمها فعل الأوامر(3/310)
36- «افتضحوا فاصطلحوا» .
37- «أفضل الدّين.. الورع» .
وتجنب المناهي؛ فإنه الجهاد الأكبر، والهوى أكبر أعدائك؛ وهو ونفسك أقرب الأعداء إليك، لما أنّ ذلك بين جنبيك؛ والله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [123/ التوبة] ، ولا أكفر عندك من نفسك؛ فإنها في كلّ نفس تكفر نعمة الله تعالى عليها، وإذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك جهاد الأعداء الّذي إن قتلت فيه كنت شهيدا من الأحياء الذين عند ربهم يرزقون!!.
ولعمري إنّ جهاد النّفس لشديد! بل لا شيء أشدّ منه؛ فإنها محبوبة، وما تدعو إليه محبوب، فكيف إذا دعيت إلى محبوب؛ فإذا عكس الحال وخولف المحبوب اشتدّ الجهاد، بخلاف جهاد أعداء الدين والدنيا!.
ولهذا قال الغزالي: وأشدّ أنواع الجهاد الصّبر على مفارقة ما يهواه الإنسان ويألفه، إذ العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله، ولا يقوى باعث الدين على قمعهما؛ فلذا كان أفضل الجهاد. انتهى ذكره المناوي على «الجامع» ؛ قال:
والحديث أخرجه الحافظ أبو نعيم والديلمي؛ من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وذكره في «الجامع الصغير» معزوّا إلى ابن النجار؛ عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه بلفظ: «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه» . انتهى.
36- ( «افتضحوا فاصطلحوا» ) هو من الأمثال السائرة، وليس بحديث، وقد رواه الخطابي في «العزلة» ، من طريق محمد بن حاتم المظفري.
قال النجم الغزي: وفي معناه: «تعالوا نقتبح ساعة ونصطلح» انتهى. ذكره العجلوني في «كشف الخفا» فكان ينبغي للمصنف ألايذكره.
37- ( «أفضل الدّين الورع» ) : الذي هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النّفس مع كل طرفة. والورع: يكون في خواطر القلوب وسائر أعمال الجوارح،(3/311)
38- «أفضل الصّدقة.. جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول» .
وإنّما كان أفضل! لما فيه من التخلّي عن الشبهات، وتجنّب المحتملات.
والحديث رواه الطبراني في «معاجيمه» الثلاثة؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع» وفيه محمد بن أبي ليلى ضعّفوه لسوء حفظه؛ كما قاله المنذري، ثمّ الهيثمي. نقله المناوي، وقد ذكره أيضا في «كنوز الحقائق» مقتصرا على الجملة التي في المتن.
38- ( «أفضل الصّدقة) ؛ أي: من أفضلها (جهد) - قال المناوي: روي بضم الجيم وفتحها! فبالضم-: الوسع والطّاقة وهو الأنسب هنا. وبالفتح:
المشقة والمبالغة والغاية (المقلّ) - بضمّ الميم فكسر القاف-: أي: مجهود قليل المال، يعني: قدرته واستطاعته، ولا شك أن الصّدقة بشيء مع شدّة الحاجة إليه والشهوة له أفضل من صدقة الغني، وهو أفضل الناس بشهادة خبر: «أفضل النّاس رجل يعطي جهده» .
وإنّما كان ذلك أفضل!! لدلالته على الثقة بالله والزّهد. والمراد بالمقلّ:
الغني القلب؛ ليوافق حديث مسلم وغيره: «أفضل الصّدقة ما كان عن ظهر غنى» .
(وابدأ) - بالهمز، وتركه- (بمن تعول» ) ؛ أي: بمن تلزمك مؤنته وجوبا، ثمّ بعد ذلك تدفع الصّدقة لغيرهم، لأنّ القيام بكفاية العيال واجب عليك، والصّدقة مندوب إليها، ولا يدخل في ذلك ترفّه العيال وتشهيتهم وإطعامهم لذائذ الأطعمة بما زاد على كفايتهم من التّرفّه؛ لأنّ من لم تندفع حاجته أولى بالصّدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع.
والحديث أخرجه أبو داود في «الزكاة» وسكت عليه، وأقرّه المنذري، وأخرجه الحاكم في «الزكاة» أيضا: كلاهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقرّه الذّهبي. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .(3/312)
39- «أفضل النّاس.. أتقاهم لله، وأوصلهم للرّحم» .
40- «أفلح من رزق لبّا» .
39- ( «أفضل النّاس أتقاهم لله) ؛ أي: أخوفهم فيما أمر ونهي (وأوصلهم للرّحم» ) ؛ أي: القرابة. وقد تقدم الكلام على صلة الرحم. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
40- ( «أفلح) بصيغة الماضي (من رزق) - بالبناء للمفعول- (لبّا» ) - بضم اللّام وبالباء الموحدة المشددة-: يعني فاز وظفر من رزقه الله تعالى عقلا راجحا؛ اهتدى به إلى الإسلام، وفعل المأمور، وتجنّب المنهيّ.
وكلّما كان العقل في العبد أوفر؛ فسلطان الدّلالة فيه على الرشد والنهي عن الغيّ أنفذ وأظهر، ولذلك كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم إذا ذكر له عن رجل شدّة اجتهاده وعبادته سأل عن عقله؛ لأنه مناط الفلاح.
والعقل هو الكاشف عن مقادير العبودية، ومحبوب الله ومكروهه. والعقل:
نور خلقه الله وقسمه بين عباده على قدر مشيئته فيهم، وعلمه بهم.
وأول ما فات ابن آدم من دينه العقل، فإن كان ثابت العقل يكون خاشع القلب لله، متواضعا بريئا من الكبر؛ قائما على قدميه ينظر إلى اللّيل والنّهار يعلم أنّهما في هدم عمره؛ لا يركن إلى الدنيا ركون الجاهل؛ لعلمه أنّه إذا خلف الدنيا خلف الهموم والأحزان.
قال بعض العارفين: ما قسم الله لخلقه حظّا أفضل من العقل واليقين.
قال الراغب: والفلاح: الظّفر. وإدراك البغية أربعة أشياء: 1- بقاء بلا فناء، و 2- غنى بلا فقر. و 3- عزّ بلا ذلّ. و 4- علم بلا جهل.
وقال الزمخشري: المفلح الفائز بالبغية كأنّه الّذي انفتحت له وجوه الظّفر ولم تستغلق عليه. والمفلج- بالجيم-: مثله. انتهى.(3/313)
41- «الاقتصاد في النّفقة.. نصف المعيشة، والتّودّد إلى النّاس وقال بعضهم: ليس شيء أجمع لخصال الخير من خصال الفلاح.
واللّب: العقل الخالص من الشوائب. سمي به! لأنّه خالص بما في الإنسان من قواه كاللبّاب من الشيء، وقيل: هو ما زكى من العقل، وكلّ لبّ عقل، ولا عكس. انتهى ذكره المناوي في «شرح الجامع» .
وهذا الحديث رمز له في «الجامع الصغير» برمز البخاري في «التاريخ» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن قرّة بن هبيرة بن عامر القشيري- من وجوه الوفود- قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلّم فقلنا: إنّه كان لنا أرباب نعبدهنّ فودعناهنّ ...
فذكره. قال الهيثمي: فيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. انتهى من المناوي على «الجامع» .
41- ( «الاقتصاد) ؛ أي: التوسط (في النّفقة) وتجنّب الإفراط والتفريط فيها. (نصف المعيشة) قال الطيبي: وذلك لأنّ كلا طرفي التبذير والتقتير ينغّص المعيشة، والتوسّط فيه هو العيش.
والعيش نوعان: عيش الدنيا، وعيش الآخرة. كما أن العقل صنفان:
مطبوع، ومسموع.
والمسموع: صنفان؛ معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق.
وقال غيره: التوسّط في النفقة يحصل به راحة للعبد وحسن حال، وذلك نصف ما به الحياة. فقد قيل:
كمال المعيشة شيئان: مدة الأجل، وحسن الحال. فمدّة الأجل لا دخل للعبد فيها بوجه، وحسن الحال؛ وإن كان من الله؛ لكنّه جعل للعبد مدخلا فيه بالسّعي في أسبابه المحصّله له عادة. ذكره الزرقاني على «المواهب» .
(والتودّد) ؛ أي: التحبب (إلى النّاس) بالأخذ في أسباب المحبة؛(3/314)
نصف العقل، وحسن السّؤال نصف العلم» .
كملاقاتهم بالبشر وطلاقة الوجه، وحسن الخلق، والرفق، وغير ذلك (نصف العقل) لأنّه يبعث على محبتهم، وعلى السلامة من شرّهم؛ أي: نصف ما يرشد إليه العقل ويحصّله.
وجعله نصفين! مبالغة حتّى كأنّ ما يرشد إليه من المحاسن هو نفسه.
(وحسن السّؤال نصف العلم» ) فإن السائل الفطن يسأل عما يهمّه وهو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسؤول ومسؤول؛ فإذا ظفر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعليه يحمل قوله: «- لا أدري- نصف العلم» ذكره الطيبيّ.
وقال غيره: إذا أحسن سؤال شيخه أقبل عليه بقلبه وقالبه، وأوضح له ما أشكل، وأبان له ما أعضل؛ لكونه وجد استعدادا وقابلا، وإذا لم يحسن السؤال أعرض عنه وضنّ بإلقاء النفائس إليه، وفتح من الجواب بنزر يسير ممّا يورده عليه.
ذكره الزّرقاني على «المواهب» .
وهذا الحديث رواه البيهقي في «الشّعب» ، والطبراني في «مكارم الأخلاق» ، والعسكري في «الأمثال» ، وابن السني والديلمي من طريقه، والقضاعي: كلّهم من طريق نافع؛ عن ابن عمر مرفوعا.
وضعّفه البيهقي لكن له شاهد عند العسكري من حديث خلّاد بن عيسى الصّفّار أبي مسلم الكوفي، عن ثابت البناني، عن أنس رفعه: «الاقتصاد نصف المعيشة، وحسن الخلق نصف الدّين» .
وكذا أخرجه الطبراني، والخطيب، وابن لال «1» .
ومن شواهده أيضا للعسكري عن أنس رفعه: «السؤال نصف العلم، والرّفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ في اقتصاد» .
__________
(1) اسمه أحمد بن علي. و «لال» : معناه أخرس. «هامش الأصل» .(3/315)
42- «الله في عون العبد.. ما دام العبد في عون أخيه المسلم» .
وورد: «الرّفق في المعيشة خير من بعض التّجارة» ؛ رواه الدارقطني والطبراني وغيرهما، ويروى كما في «الفردوس» : «الرّفق خير من كثير من التّجارة» .
وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: «السؤال نصف العلم، والرّفق نصف المعيشة» . وفي «صحيح ابن حبان» من حديث طويل عن أبي ذرّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال له: «يا أبا ذرّ؛ لا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق» . وهذا اللفظ عند البيهقي في «الشعب» .
وله أيضا، وللعسكريّ عن عليّ مرفوعا: «التّودّد نصف الدّين، وما عال امرؤ قطّ على اقتصاد» ؛ أي: ما افتقر من أنفق قصدا ولم يجاوزه إلى الإسراف.
وورد في حديث عند الديلمي؛ عن أنس رفعه: «إنّ أحدكم يأتيه الله عزّ وجلّ برزق عشرة أيّام في يوم واحد، فإن هو حبس عاش تسعة أيّام بخير، وإن هو وسّع وأسرف قتّر عليه تسعة أيّام» . وجاء في خبر: «من فقه الرّجل رفقه في معيشته» .
قال مجاهد: ليرفق أحدكم بما في يده، ولا يتأوّل قوله وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [39/ سبأ] فإنّ الرّزق مقسوم، فلعلّ رزقه قليل فينفق نفقة الموسّع ويبقى فقيرا حتّى يموت، بل معنى الآية: أنّ ما كان من خلف فمنه سبحانه، فلعلّه إذا أنفق بلا إسراف ولا إقتار كان خيرا من معاناة بعض التجارة. انتهى من «المواهب» وشرحها.
42- ( «الله في عون العبد) ؛ أي: إعانته وتسديده، ومثل العبد الأمة.
فالمراد الذّكر والأنثى، وإنّما عبّر بالعبد! تنبيها على شرف العبوديّة.
(ما دام العبد) كرّر «العبد» بوضع الظاهر موضع المضمر!! تفخيما لشأنه وترغيبا في سرعة الامتثال، و «ما» مصدرية ظرفية؛ أي: مدة دوام كون العبد
(في عون أخيه المسلم» ) ؛ أي: إعانة بقلبه أو بدنه أو ماله أو جاهه.(3/316)
.........
قيل: وهذا إجمال لا يسع بيانه الطّروس، فإنّه مطلق في سائر الأحوال والأزمان. ومنه أنّ العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي له ألايجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحقّ، وتأمّل دوام هذه الإعانة، فإنه صلى الله عليه وسلّم لم يقيّدها بحالة خاصّة، بل أخبر أنّها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه.
وروى الإمام أحمد: «من كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته» .
والطبراني: «أفضل الأعمال إدخال السّرور على المؤمن فكسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» .
وورد: «من سعى في حاجة أخيه المسلم؛ قضيت له أو لم تقض؛ غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وكتب له براءة من النّار وبراءة من النّفاق» .
وعن الحسن رضي الله تعالى عنه: أنّه أمر ثابتا البناني بالمشي في حاجة، فقال: أنا معتكف! فقال له: يا أعمش؛ أما علمت أنّ مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجّة بعد حجّة؟!» .
وروى الإمام أحمد: أنّ خبّاب بن الأرتّ خرج في سرية فكان صلى الله عليه وسلّم يحلب عنزا لعياله، فيملأ الجفنة حتى يفيض زيادة على حلابها؛ فلما قدم وحلبها عاد إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصّدّيق يحلب للحيّ أغنامهم؛ فلما استخلف؛ قيل: الآن لا يحلبها!، فقال: بلى؛ وإنّي لأرجو ألايغيّرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وذلك لأن العرب كانوا يستقبحون حلب النّساء.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يتعاهد الأرامل فيستقي لهنّ الماء باللّيل، ورآه طلحة داخلا بيت امرأة ليلا فدخل لها نهارا؛ فإذا هي عجوز عمياء مقعدة! فقال: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ فقالت له: منذ كذا وكذا يتعاهدني بما يقوم بي من البرّ، وما يصلح لي شأني، ويخرج عنّي الأذى ويقمّ لي بيتي! فقال(3/317)
43- «أمت أمر الجاهليّة ...
طلحة لنفسه: ثكلتك أمّك يا طلحة؛ أعثرات عمر تتبع!!. انتهى من «شرح الأربعين» للعلامة ابن حجر رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الذي أورده المصنف؛ مرموزا له برمز متفق عليه.
لكن رأيت في «شرح رياض الصالحين» وغيره: أنه جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وابن عساكر، وأبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ، وأبو عوانة في «مستخرجه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولم أر الحديث معزوّا للبخاري في شيء من المصنفات التي راجعتها، كما أنّي لم أر فيها زيادة لفظ «المسلم» ؛ بعد لفظة «أخيه» .
وهذا لفظ الحديث بطوله: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنّة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلّا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» هذا لفظ مسلم في «صحيحه» في «كتاب الدعوات» .
43- ( «أمت) - بإسكان التاء-: أمر من «أمات» ، والخطاب لمعاذ من جملة وصيته له، والمراد توصيته بأن يحيل (أمر الجاهليّة) بنقض أحكامها، وخفض أعلامها، حتى ينسى ذكرها، ويعفو أثرها؛ فتكون كالميت الذي نسي ذكره وانقطع خبره.(3/318)
.........
وفي «بلوغ الأرب» للألوسي: الجاهلية الذي كثر فيه الجهّال وهي ما قبل الإسلام. وعن ابن خالويه: أنّ هذا اللفظ اسم حدث في الإسلام للزّمن الذي كان قبل البعثة.
قال الحافظ ابن حجر في «شرحه على البخاري» : وهذا هو الغالب، ومنه يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [154/ آل عمران] . ثم قال: وأما جزم النووي في عدّة مواضع في «شرح مسلم» أنّ هذا هو المراد حيث أتى!! ففيه نظر، فإنّ هذا اللّفظ- وهو «الجاهلية» - يطلق على ما مضى، والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره فتح مكّة. انتهى كلام «الفتح» . أي: فلفظ «الجاهلية» لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها قبل الإسلام؛ لما كانوا عليه من مزيد الجهل في كثير من الأعمال والأحكام.
ومما أبطله الشرع من عوائدهم: أنّهم كانوا يطلّقون النساء حتى إذا قرب انقضاء عدّتهنّ راجعوهن؛ لا عن حاجة ولا لمحبّة، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مدة الانتظار، وكان الرجل يطلق امرأته أو يتزوج أو يعتق ويقول «كنت لاعبا» فأبطل الله تعالى ذلك، وردّه عليهم بقوله سبحانه وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [231/ البقرة] .
وفي الحديث: «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: النكاح، والطلاق، والرّجعة» .
ومن ذلك: أنهم كانوا يمنعون النساء أن يتزوجنّ من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ؛ حميّة جاهلية، كما يقع كثيرا من نحو الملوك؛ غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، فإنهم بسبب ما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النّخوة والكبرياء؛ يتخيّلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع، وقد أبطل الله ذلك ونهى عنه بقوله وَإِذا(3/319)
.........
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) [البقرة] .
ومن ذلك: أنهم كانوا إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء أن يتزوّجها بعضهم، وإن شاؤا زوّجوها، وإن شاؤا لم يزوّجوها. فهم أحقّ بامرأته من أهلها، فنهى الله تعالى عن ذلك بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [19/ النساء] أي: لتأخذوا ميراثهن أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح.
قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت؛ أو تردّ إليه صداقها. وفي رواية: إن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
وحاصل معنى الآية: لا يحل لكم أن تأخذوهنّ بطريق الإرث؛ فتزعمون أنّكم أحقّ بهنّ من غيركم، وتحبسونهنّ لأنفسكم، وكان الرجل من العرب إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه، فإن كان له حاجة فيها طرح ثوبه عليها، وإن لم يكن له حاجة فيها تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، وقد أبطل الله ذلك بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22) [النساء] وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية «نكاح المقت» ، ويسمى الولد الحاصل منه «مقتي» ،
ولهم في هذا الباب غير ذلك من المنكرات، وقد ذكرت في كتب الحديث والتفسير!!.
وروى البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال:
إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما(3/320)
إلّا ما حسّنه الإسلام» .
44- «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» .
كانُوا مُهْتَدِينَ (140) [الأنعام] .
(إلّا ما حسّنه الإسلام» ) وأقرّه كالقسامة والدية مئة من الإبل.
وكانت العرب في الجاهلية تحرّم أشياء نزل القرآن بتحريمها، فكانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات، إلّا ما يحكى عن حاجب بن زرارة وهو سيّد بني تميم: تزوج بنته وأولدها.
وإنما تنزّهت العرب، ولا سيّما قريش عن هذه المناكح!! حفظا لحرمة الأرحام الدّانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة، فتضعف الحميّة وتقل الغيرة، وهم أخصّ الناس بالمناكح الطاهرة، وكان أقبح ما يصنع بعضهم أن يجمع بين الأختين.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» .
44- ( «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» ) رواه الديلمي- بسند ضعيف- عن ابن عباس مرفوعا. وفي «اللآلئ» بعد عزوه ل «مسند الفردوس» عن ابن عباس مرفوعا قال: وفي إسناده ضعيف ومجهول. انتهى.
وقال في «المقاصد» : وعزاه الحافظ ابن حجر ل «مسند الحسن بن سفيان» عن ابن عباس بلفظ: «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» قال: وسنده ضعيف جدّا.
ورواه أبو الحسن التميمي من الحنابلة في «العقل» له؛ عن ابن عباس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي أيضا بلفظ: «بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب النّاس على قدر عقولهم» .
وله شاهد عن سعيد بن المسيب مرسلا بلفظ: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا ... »
وذكره.(3/321)
.........
ورواه في «الغنية» للشيخ عبد القادر الجيلاني قدّس سرّه بلفظ: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدّث النّاس على قدر عقولهم» .
وفي «صحيح البخاري» ؛ عن عليّ موقوفا: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله!!
ونحوه ما في «مقدمة صحيح مسلم» عن ابن مسعود قال: ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة.
وروى العقيلي في «الضعفاء» وابن السنّي وأبو نعيم في «الرياضة» وغيرهم عن ابن عباس مرفوعا: «ما حدّث أحدكم قوما بحديث لا يفهمونه إلّا كان فتنة عليهم» .
ورواه الديلمي أيضا من طريق حمّاد بن خالد، عن ابن عباس رفعه:
«لا تحدّثوا أمّتي من أحاديثي إلّا ما تحمله عقولهم» .
وروى البيهقي في «الشعب» عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا: «إذا حدّثتم النّاس عن ربّهم فلا تحدّثوهم بما يعزب عنهم ويشقّ عليهم» .
وصحّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: حفظت عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم وعاءين؛ فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.
وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعا: «عاقبوا أرقّاءكم على قدر عقولهم» .
وأخرجه الدارقطني عن عائشة مثله.
وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين؛ عن أبي ذرّ مرفوعا:
«خالقوا الناس بأخلاقهم» .
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود مرفوعا: «خالط الناس بما يشتهون؛ ودينك فلا تكلمنّه» .
ونحوه عن عليّ رفعه: «خالق الفاجر مخالفة، وخالص المؤمن مخالصة،(3/322)
45- «إنّ الله تعالى بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع أقوام وخفض آخرين» .
46- «إنّ الله تجاوز لأمّتي عن النّسيان، وما أكرهوا عليه» .
ودينك لا تسلمه لأحد» . انتهى.
ذكر جميع ذلك العجلونيّ في «كشف الخفا» رحمه الله تعالى.
45- ( «إنّ الله تعالى بعثني) أرسلني (رحمة مهداة) - بضم الميم وسكون الهاء-: أي: هدية للمؤمنين والكافرين بتأخير العذاب. (بعثت برفع أقوام) وهم المؤمنون (وخفض آخرين» ) وهم من أبى واستكبر، وإن بلغ من الشرف المقام الأفخر، بمعنى: أنه يضع قدرهم ويذلّهم باللّسان والسّنان؛ فكان عنده مزيد الرحمة للمؤمنين، وغاية الغلظة على الكافرين؛ فاعتدل فيه الإنعام والانتقام.
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
46- ( «إنّ الله تجاوز) ؛ أي: عفا «من جازه يجوزه» : إذا تعدّاه وعبر عليه (لأمّتي) أمة الإجابة (عن النّسيان) - بكسر النون-: ضد الذّكر والحفظ؛ أي:
عن إثم النّسيان، (وما أكرهوا) ؛ أي: الأمة، وذكّره «1» !! نظرا للمدلول؛ لا للفظ (عليه» ) ؛ أي: حملوا على فعله قهرا. قال المناوي: والمراد رفع الإثم، وفي ارتفاع الحكم خلف، والشافعي كالجمهور على الارتفاع.
قال العلقمي: وحدّه الإكراه: أن يهدّد قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقوبات؛ يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه، وقد غلب على ظنّه أنه يفعل به ما هدّد به؛ إن امتنع ممّا أكرهه عليه، وعجز عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره ونحوهما من أنواع الدّفع.
__________
(1) أي ضمير «أكرهوا» .(3/323)
47- «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» .
ويختلف الإكراه باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها. انتهى «عزيزي» .
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الّذي أورده المصنف؛ مرموزا له برمز الطبراني في «الكبير» عن ثوبان الهاشمي «مولى المصطفى صلى الله عليه وسلم» ، وقال الحاكم: إنّه صحيح على شرطهما. ذكره المناوي.
وأطال العجلوني في «كشف الخفا» في تخريجه وما قيل فيه من قدح، إلى أن قال: وأصل الباب: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في «الصحيحين» ؛ عن زرارة بن أوفى يرفعه: «إنّ الله تجاوز لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلّم به» . انتهى.
47- ( «إنّ الله جعل الحقّ) يعني: أجراه (على لسان عمر) بن الخطاب، فكان كالسّيف الصّارم والحسام القاطع. قال الطيبي: «جعل» بمعنى «أجرى» ، فعدّاه ب «على» وفيه معنى ظهور الحقّ واستعلائه على لسانه، ووضع «جعل» موضع أجراه!! إيذانا بأنّ ذلك كان خلقيّا ثابتا لازما مستقرا (وقلبه» ) فكان الغالب على قلبه جلال الله؛ فكأنّ الحقّ معتمله حتى يقوم بأمر الله وينفّذ بقاله وحاله؛ وفاء بما قلّده الله الخلق من رعاية هذا الدين الذي ارتضاه لهم. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال الحفني: أي هو زائد عن غيره في ذلك؛ وإن كان أفضل منه كأبي بكر، إذ قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فالغالب على سيّدنا أبي بكر الرأفة، والغالب على سيّدنا عمر الشدّة في دين الله تعالى، ولذا لما أسلم ووجد الناس مختفين فقال: ألسنا على الحقّ؛ يا رسول الله!! فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقال:
ففيم الاختفاء؟. فأمر بالصّلاة والطّواف جهارا فظهر الإسلام من حينئذ، وإنما قيل هو زائد ... الخ!! لأنّ جميع الصّحابة كذلك لا يجري على ألسنتهم وقلوبهم إلّا الحق. انتهى كلام الحفني.(3/324)
48- «إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ...
وفي «سنن أبي داود» في «كتاب الخراج» أنّ عمر بن عبد العزيز كتب: أنّ من سأل عن مواضع الفيء، فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فرآه المؤمنون عدلا موافقا لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الحقّ على لسان عمر وقلبه» .
فرض الأعطية وعقد لأهل الأديان ذمّة بما فرض عليهم من الجزية لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم. انتهى.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما؛ وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وأخرجه أبو يعلى والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن بلال بن رباح الحبشي المؤذن، وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما.
وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود في «الخراج» ، وابن ماجه، والحاكم، وصحّحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه بلفظ: «إنّ الله وضع الحقّ على لسان عمر يقول به» . وفي «كشف الخفا» للعجلوني: حديث: «الحقّ بعدي مع عمر حيث كان» قال الصغاني: موضوع. انتهى.
وأقول رواه في «الجامع الكبير» عن الحكيم الترمذي، وابن عساكر؛ عن الفضل بن عباس بلفظ: «الحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان» . انتهى كلام العجلوني رحمه الله تعالى.
48- ( «إنّ الله) عزّ وجلّ (لا ينظر إلى أجسامكم) المجرّدة عن السّير المرضية، وفي «صحيح مسلم» : «أجسادكم» بدل «أجسامكم» ؛ أي:
لا يجازيكم على ظاهرها (ولا إلى صوركم) الظاهرة.(3/325)
ولكن ينظر إلى قلوبكم» .
(ولكن ينظر إلى قلوبكم» ) التي هي محلّ التقوى، وأوعية الجواهر، وكنوز المعرفة؛ أي: إنّما تكون المجازاة على ما في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته؛ دون الصّور الظّاهرة، فمعنى النظر هنا: الإحسان والرحمة والعطف.
ومعنى نفيه: نفي ذلك، فعبّر عن الكائن عند النظر بالنظر مجازا، وذلك لأن النظر في الشاهد دليل المحبّة، وترك النظر دليل البغض والكراهة، وميل الناس إلى الصّور المعجبة، والله منزّه عن ذلك، فجعل نظره إلى ما هو السرّ واللّبّ؛ وهو القلب.
والجمال قسمان: ظاهري، وباطني؛ كجمال علم وعقل وكرم، وهذا هو محلّ نظر الله من غيره، وموضع محبته؛ فيرى صاحب الجمال الباطني، فيكسوه من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات؛ فإن المؤمن يعطى حلاوة ومهابة بحسب إيمانه؛ فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبّه؛ وإن كان أسود مشوها، وهذا أمر مشهود بالعيان.
قال الغزالي: قد أبان هذا الحديث أن محلّ القلب موضع نظر الرّبّ، فيا عجبا ممن يهتمّ بوجهه الّذي هو محل نظر الخلق؛ فيغسله وينظفه من القذر والدّنس، ويزيّنه بما أمكن لئلا يطّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتمّ بقلبه الذي هو محلّ نظر الخالق فيطهّره ويزيّنه لئلا يطّلع ربّه على دنس أو غيره فيه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
وهذا الحديث رواه مسلم في «صحيحه» في «كتاب الأدب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ورواه مسلم أيضا في «الأدب» عنه بلفظ: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
ورواه ابن ماجه بمثله عن أبي هريرة في «باب الزهد» بلفظ: «إنما ينظر ...
الخ» .(3/326)
49- «إنّ الله يحبّ معالي الأمور، ويكره سفسافها» .
49- ( «إنّ الله) تعالى (يحبّ معالي الأمور) قال المناوي على «الجامع» :
هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينيّة. انتهى.
قال الحفني: كالصلاة والصوم وتعليم العلم ونحو ذلك. انتهى.
أي: لا الأمور الدنيويّة، فإن العلوّ فيها نزول؛ كما في المناوي.
(ويكره سفسافها» ) - بفتح أوله-؛ أي: حقيرها ورديئها كالعجب والكبر.
فمن اتصف بالأخلاق الزكية أحبّه، ومن تحلّى بالأوصاف الرديّة كرهه.
والإنسان يضارع الملك بقوة الفكر والتمييز، ويضارع البهيمة بالشهوة والدناءة. فمن صرف همّته إلى اكتساب معالي الأخلاق أحبّه الله، فحقيق أن يلتحق بالملائكة لطهارة أخلاقه. ومن صرفها إلى السفاسف ورذائل الأخلاق التحق بالبهائم، فيصير إمّا ضاريا ككلب، أو شرها كخنزير، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو رواغا كثعلب، أو جامعا لذلك كشيطان.
وشرف النفس صونها عن الرذائل والدّنايا، والمطامع القاطعة لأعناق الرجال؛ فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك.
من نفسه شريفة أبيّه ... يربأ عن أموره الدّنيّه
ولم يزل يجنح للمعالي ... يسهر في طلابها اللّيالي
والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفا» بلفظ: «إنّ الله يحبّ معالي الأمور ويبغض سفسافها» ، وقال: رواه الحاكم عن سهل بن سعد.
ورواه أبو نعيم والطبراني وابن ماجه؛ عن سهل أيضا بلفظ: «إنّ الله كريم يحبّ الكرم، ويحبّ معالي الأخلاق؛ ويكره سفسافها» .
ورواه ابن ماجه عن طلحة، وأبو نعيم عن ابن عباس بلفظ: «إنّ الله جواد يحبّ الجود، ويحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها» .(3/327)
50- «إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» .
ورواه الطبراني عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب بلفظ: «إنّ الله يحبّ معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها» . انتهى.
50- ( «إنّ الله) تعالى (يحبّ الرّفق) - بكسر فسكون-: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والدفع بالأخفّ (في الأمر كلّه» ) ؛ أي: في أمر الدّين وأمر الدنيا في جميع الأحوال والأفعال حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكّد ذلك في معاشرة من لا بدّ من معاشرته؛ كزوجته وخادمه وولده.
فالرّفق محبوب مطلوب مرغوب، وكلّ ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشرّ.
قال الغزالي: فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به؛ رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به؛ حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به؛ فقيه فيما ينهى عنه.
وعظ المأمون واعظ بعنف؛ فقال له: يا هذا ارفق، فقد بعث من هو خير منك إلى من هو شرّ منّي.
قال تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [44/ طه] . أخذ منه أنه يتعيّن على العالم الرفق بالطالب، وألايوبّخه ولا يعنّفه. انتهى.
قال العلقمي: وسببه كما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
دخل رهط من اليهود على النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقالوا: السام عليكم؛ قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السّام واللّعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة؛ إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» ، فقلت: يا رسول الله؛ أو لم تسمع ما قالوا!؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلت: وعليكم» . انتهى من المناوي على «الجامع» ، ومن العزيزي على «الجامع» .
والحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم في «الاستئذان» ؛ كلاهما عن(3/328)
.........
عائشة رضي الله تعالى عنها، وروى مسلم رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه» .
وفي رواية له؛ من حديث شعبة عنها: ركبت بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردّده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرّفق إنّ الرّفق ... » الحديث.
وعزاه في «اللآلي» ل «مسند الإمام أحمد» عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وأحمد وآخرون بلفظ: كنت على بعير فيه صعوبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرّفق فإنّه لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» .
ورواه العسكري عن عائشة بلفظ: «ما كان الرّفق في قوم إلّا نفعهم، ولا كان الخرق في قوم إلّا ضرّهم» .
وله من حديث حجاج بن سليمان الرعيني قال: قلت لابن لهيعة: كنت أسمع عجائز المدينة يقلن «إنّ الرّفق في المعيشة خير من بعض التّجارة» ، فقال: حدّثنيه محمد بن المنكدر، عن جابر، رفعه.
وله أيضا عن عروة بن الزبير قال: مكتوب في التوراة: الرّفق رأس الحكمة.
وأثر عروة عند أبي الشيخ بلفظ: بلغني أنه مكتوب في التوراة: ألا إنّ الرّفق.. الخ.
وأخرج الطبراني عن جرير مرفوعا: «الرفق زيادة تبركة» .
وروى العسكري والقضاعي عن عائشة مرفوعا: «من أعطي حظّه من الرّفق فقد أعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظّه من الرّفق فقد حرم حظّه من خير الدنيا والآخرة» .(3/329)
51- «إنّ الله ينزل الرّزق على قدر المؤونة» .
وفي رواية للعسكري عنها بلفظ: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق» . ومثله للقضاعي عن أبي الدرداء مرفوعا.
وروى العسكري عن أنس مرفوعا: «ما كان الرّفق في شيء قطّ إلّا زانه، ولا كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه» .
ورواه عن جرير رفعه: «من يحرم الرّفق يحرم الخير كلّه» .
وروى البيهقي في «مناقب الشافعي» عن ابنه محمد أنّه قال: رآني أبي وأنا أعجل في بعض الأمور، فقال: يا بنيّ؛ رفقا، فإنّ العجلة تنقض الأعمال، وبالرفق تدرك الآمال.
ثمّ ساق الشافعي سنده إلى أبي هريرة رفعه: «إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» .
وقال النجم: وعند الطبراني عن ابن مسعود: «الرفق يمن، والخرق شؤم وهو عند البيهقي- وإذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق؛ فإنّ الرفق لم يكن في شيء قطّ إلّا زانه، وإنّ الخرق لم يكن في شيء قطّ إلّا شانه» .
وعند الدارقطني في «الأفراد» عن أنس: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا نفعهم في الدّين، ووقّر صغيرهم كبيرهم، ورزقهم الرّفق في معيشتهم، والقصد في نفقاتهم، وبصّرهم عيوبهم فيتوبوا منها، وإذا أراد بهم غير ذلك تركهم هملا» .
انتهى من «كشف الخفا» .
51- ( «إنّ الله) تعالى (ينزل الرّزق) - كذا في «كنوز الحقائق» ! قال العجلوني: والمشهور على الألسنة: «المعونة- (على قدر المؤونة» ) .
وهو في «الجامع الصغير» كما قال العجلوني: إنه مشهور على الألسنة.
قال العزيزي في «شرح الجامع» : ومعناه: أنّ الله يعين الإنسان على قدر ما يحتاج إليه من المؤونة؛ بحسب حاله، وما يناسبه.(3/330)
.........
وقال المناوي؛ يريد أن العبد إذا لزمه القيام بمؤونة من تلزمه مؤونته شرعا، فإن كانت تلك المؤن قليلة قلّل له، وإن كانت كثيرة وتحمّلها على قدر طاقته وقام بحقّها وعانى من فنون الدنيا ما أمر به لأجلها؛ أمدّه الله بمعونته، ورزقه من حيث لا يحتسب بقدرها. وعماد ذلك طلب المعونة من الله تعالى بصدق وإخلاص، فهو حينئذ مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شيء فاستعان الله عليها جاءته المعونة على قدر المؤونة، فلا يقع لمن اعتمد ذلك عجز عن مرام أبدا.
وفي ذلك ندب إلى الاعتصام بحول الله وقوّته وتوجيه الرّغبات إليه بالسؤال والإبتهال، ونهي عن الإمساك والتقتير على العيال؛ فلا يخشى الإنسان الفقر من كثرة العيال، فإنّ الله يعينه على مؤونتهم، بل يندب له أن يعمل على ما فيه تكثيرهم؛ اعتمادا على الله. ولذا لما شكا بعض التلامذة لشيخه ضيق العيش أمره بالزّواج؛ فتعجب لكونه على مؤونة نفسه، لكنه امتثل ثمّ شكا له بعد ذلك؛ فأمره بالسكنى في بيت، ثمّ باتخاذ دابة، ثمّ باتّخاذ خادم، فوسّع الله عليه بعد ذلك، فالشيخ أخذ ذلك من هذا الحديث. انتهى كلام المناوي على «الجامع» ، مع زيادة من غيره.
وتمام الحديث- كما في «الجامع الصغير» -: «وينزل الصّبر على قدر البلاء» ، ورمز له بأنّه أخرجه ابن لال في «مكارم الأخلاق» وابن عدي.
قال المناوي: وكذا البيهقي في «الشعب» : كلّهم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفيه عبد الرحيم بن رافد! أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال:
ضعفه الخطيب، عن وهب بن وهب. قال أحمد وغيره: كذّاب، لكن يأتي ما يقوّيه بعض قوة. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
وكأنه يعني بما يقوّيه حديث: «إنّ المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤونة، وإنّ الصّبر يأتي من الله للعبد على قدر المصيبة» .
أخرجه الحكيم الترمذي في «النوادر» ، والبزار في «المسند» ، والحاكم في(3/331)
52- «إنّ أخسر النّاس صفقة ...
كتاب «الكنى والألقاب» ، والطبراني في «الكبير» : كلهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قال الهيثمي: وفيه طارق بن عمّار! قال البخاري: لا يتابع على حديثه.
وبقية رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته محتجّ بهم في «الصحيح» إلا طارق بن عمّار ففيه كلام قريب؛ ولم يترك. قال: والحديث غريب. انتهى؛ نقله المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث وهو حديث: «إنّ المعونة تأتي من الله للعبد» ... الخ
ذكره العجلوني في «الكشف» ؛ وقال: رواه البيهقي في «الشعب» ، والعسكري في «الأمثال» ، والبزار وابن شاهين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
ورواه البيهقي أيضا بلفظ: «أنزل الله عزّ وجلّ المعونة على قدر المؤونة، وأنزل الصّبر عند البلاء» . ورواه ابن الشخير بلفظ: «أنزل المعونة مع شدة المؤونة، وأنزل الصّبر عند البلاء» .
ورواه عمر بن طلحة من حديث أبي الحواري؛ حدثنا: عبد العزيز بن عمر أنه قال: أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه الصّلاة والسلام: يا داود اصبر على المؤونة تأتك المعونة، وإذا رأيت لي طالبا؛ فكن له خادما.
انتهى كلام العجلوني في «الكشف» رحمه الله تعالى.
52- ( «إنّ أخسر النّاس صفقة) هي في الأصل: ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، والخسر في الأصل: نقص رأس المال، ثمّ استعمل في المقتنيات الخارجة؛ كالمال والجاه، وأكثر استعماله في النفيس منها؛ كصحة وسلامة وعقل وإيمان وثواب، وهو المراد هنا؛ ذكره الراغب.
أي: من أشد الناس خسرانا لعظيم الثواب، وأعظمهم حسرة يوم الماب.(3/332)
من أذهب آخرته بدنيا غيره» .
53- «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين ...
(من أذهب آخرته) بترك الواجب أو المندوب (بدنيا غيره» ) ؛
أي: بسبب اشتغاله بجلب دنيا غيره؛ كخدام العظماء يشتغلون بنفع مخاديمهم، والقيام بمصالحهم، ويتركون الصّلوات، ويحلفون الأيمان الفاجرة، ويأخذون أموال الناس لاسترضاء مخاديمهم؛ كذا قاله الزرقاني على «المواهب» .
وفي القليوبي على «المنهاج» الفقهي: وأخسّ الأخسّاء: من باع دينه بدنيا غيره كالمكّاس. انتهى. أي: وكالقاضي الذي يحكم لغيره بملك غيره ظلما؛ كما قاله شيخنا.
وفي «المواهب مع الشرح» : أن ابن النّجار في «تاريخ بغداد» روى من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة العتري «حليف بني عديّ» أبي محمد المدني ولد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثّقه العجلي.
روى عن أبيه عامر صحابيّ مشهور حديثا لفظه: «أخسّ الناس صفقة: رجل أخلق يديه في آماله، ولم تساعده الأيام على أمنيّته؛ فخرج من الدّنيا بغير زاد، وقدم على الله بغير حجة» . وهو مما بيّض له الديلمي لعدم وقوفه له على سند.
انتهى ملخصا، ومثله في «الجامع الصغير وشرحه» .
53- ( «إنّ الدّين) - بكسر الدال- أي: دين الإسلام (يسر) أي: ذو يسر؛ نقيض العسر، أو هو يسر، مبالغة لكثرة اليسر- بالنسبة للأديان قبله- كأنّه نفسه، لأنّ الله رفع عن هذه الأمة الإصر الّذي كان على من قبلهم.
ومن أوضح الأمثلة له أنّ توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمّة بالإقلاع والعزم على عدم العود والنّدم.
(ولن يشادّ) : أي: يقاوم (الدّين) بأن يتعمّق بكثرة العبادة كأن يصوم كلّ(3/333)
أحد إلّا غلبه» .
يوم، ويقوم جميع اللّيل، فإنه يعجز، فيترك جميع ذلك، فيصير معرضا عن الله بعد الإقبال، أو بالمبالغة في الطهارة والصّلاة وإخراج الحروف من مخارجها.
و «الدّين» منصوب على المفعولية، وفاعله قوله: (أحد) الثابت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عند الأصيلي، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم، وأكثر رواة البخاري بإسقاط لفظ «أحد» على إضمار الفاعل للعلم به، و «الدين» نصب على المفعولية أيضا.
وحكى صاحب «المطالع» أن أكثر الروايات برفع «الدّين» على أنّ «يشادّ» مبنيّ لما لم يسمّ فاعله، وعارضه النووي بأنّ أكثر الروايات: بالنصب.
قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما بأنّه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيّد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: «إنه من يشادّ هذا الدين يغلبه» . ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب. انتهى زرقاني
(إلّا غلبه» ) قال العلقمي: المعنى لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينيّة ويترك الرّفق إلّا عجز وانقطع، فيغلب. قال في «الفتح» : وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، والمبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلّي اللّيل ويغالب النّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللّيل؛ فنام عن صلاة الصّبح؛ أي: عن وقت الفضيلة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس؛ فخرج وقت الفريضة.
وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: «إنّكم لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره» .
وقد يستفاد من هذا، الإشارة إلى الأخذ بالرّخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرّخصة تنطّع، كمن يترك التيمّم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعمال الماء إلى حصول الضّرر.(3/334)
54- «إنّ الصّبر عند الصّدمة الأولى» .
قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوّة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدّين ينقطع. انتهى عزيزي.
وقال الطيبيّ: بناء المفاعلة في «يشادّ» ليس للمغالبة، بل للمبالغة نحو طارقت النّعل، وهو من جانب المكلّف، ويحتمل أن يكون للمبالغة على سبيل الاستعارة، والمستثنى منه عامّ الأوصاف؛ أي: لم يحصل ويستقرّ ذلك المشادّ على وصف من الأوصاف إلّا على وصف المغلوبيّة. انتهى زرقاني.
وتمام هذا الحديث: «فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» . انتهى من «الجامع الصغير» . ورمز له برمز البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وفي الزرقاني: قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث من أفراد البخاري؛ عن مسلم. انتهى.
54- ( «إنّ الصّبر) ؛ الكامل المحبوب ما كان (عند الصّدمة الأولى» ) ؛ أي: عند زمن ابتداء المصيبة وشدّتها بخلاف زمن آخرها؛ فإنّه وإن كان فيه ثواب إلّا أنه دون الأوّل؛ لأنّ آخر المصيبة يهوّن الأمر شيئا فشيئا؛ فيحصل له التّسلّي.
والصّبر: حبس النفس على كريه تتحمّله أو لذيذ تفارقه، وهو لفظ عامّ ربّما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف موقعه. فحبس النفس لمصيبة يسمّى «صبرا» ؛ لا غير، ويقابله: الجزع، وحبسها في محاربة يسمى «شجاعة» ويقابله:
الجبن، وفي إمساك عن الكلام يسمّى «صمتا وكتمانا» ويقابله: القلق.
وأصل الصّدم: ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» باللّفظ الّذي أورده المصنف مرموزا له برمز الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.(3/335)
55- «إنّك لن تدع لله شيئا.. إلّا عوّضك الله خيرا منه» .
وسببه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم مرّ بامرأة تبكي على صبيّ لها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها:
«اتقي الله واصبري» فقالت: إليك عنّي، فإنّك لم تصب بمصيبتي!، ولم تعرفه.
فقيل لها: إنّه النبيّ صلى الله عليه وسلم! فأتت بابه فلم تجد عنده بوّابين فقالت: لم أعرفك ...
فذكره.
وفي رواية: «إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى» وفي رواية: «إنّما الصّبر عند أوّل صدمة» ، وفي رواية: «الصّبر عند الصّدمة الأولى» .
( «إنّك لن تدع لله) ؛ أي: لمحض الامتثال من غير مشاركة غرض من الأغراض (شيئا) ؛ بأن لا تشدّد في طلبه لكون تركه فيه رفق بالمسلمين (إلّا عوّضك الله خيرا منه» ) في الدين والدنيا، لأنّك لما قهرت نفسك وهواك لأجل الله جوزيت بما هو أفضل وأنفع.
والحديث ذكره المناوي في «الطبقات» باللفظ الذي أورده المصنف.
وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلّا له؛ إلّا عوّضه الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه» وقال: رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا، وقال: غريب.
لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في «ترغيبه» عن أبي بن كعب مرفوعا بلفظ: «لا يترك عبد شيئا لا يدعه إلّا لله، إلّا آتاه الله ما هو خير له منه» .
ولأحمد عن قتادة وأبي الدهماء: أنّهما نزلا على رجل من البادية، فقالا له:
هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا؟ قال: نعم سمعته يقول: «إنّك لن تدع شيئا لله إلّا أبدلك الله به ما هو خير لك منه» . وفي لفظ له أيضا: «إنّك لن تدع شيئا اتّقاء الله إلّا أعطاك الله خيرا منه» . ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا: «ما ترك عبد لله أمرا لا يتركه إلّا لله؛ إلّا عوّضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه» .(3/336)
56- «إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم.. فسعوهم بأخلاقكم» .
وللطبراني وأبي الشيخ عن أبي أمامة مرفوعا: «من قدر على طمع من طمع الدّنيا فأدّاه ولو شاء لم يؤدّه؛ زوّجه الله من الحور العين حيث شاء» . انتهى.
56- ( «إنّكم لن تسعوا) - بفتح السين المهملة- وفي رواية: «لا تسعون» بالفتح أيضا- أي: لا تطيقون أن تعمّوا (النّاس بأموالكم) لعزّة المال وكثرة الناس فلا يمكنكم ذلك (فسعوهم بأخلاقكم» ) بحيث تقبلون على كلّ منهم بالبشاشة وإظهار المودّة، وكأنّه جعل المال محلّا لطالبيه لاستراحة من حصل له منك مال، فاطمأنّ به كما يطمئنّ من هيّء له منزل يدفع عنه الضّرر.
وهذا الحديث ذكره في «المواهب» ، وقال: رواه أبو يعلى والبزار من طرق؛ أحدها حسن عن أبي هريرة رفعه بلفظ: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» .
قال الزرقاني: أي: لا تتسع أموالكم لعطائهم، فوسّعوا أخلاقكم لصحبتهم.
والوسع والسّعة: الجدة والطّاقة، وذلك لأن استيعاب عامّتهم بالإحسان بالفعل لا يمكن، فأمر بجعل ذلك بالقول. كما قال تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [83/ البقرة] .
وروى العسكري عن الصّولي: لو وزنت كلمة النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأحسن كلام الناس كلّهم لرجحت على ذلك، وهي قوله: «إنكم..» الخ. قال: وقد كان ابن عبّاد كريم الوعد، كثير البذل، سريعا إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه.
وقال إبراهيم بن أدهم: إنّ الرجل ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه بماله؛ لأنّ المال عليه فيه زكاة وصلة أرحام وأشياء أخر، وخلقه ليس عليه فيه شيء.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم باللّيل الظامىء بالهواجر» رواه الطبراني. انتهى. وذكر حديث المتن في «الجامع الصغير» بلفظ «المواهب» مرموزا له برمز البزار، وأبي نعيم في «الحلية» ، والحاكم، والبيهقي(3/337)
57- «إنّ لصاحب الحقّ مقالا» .
58- «إنّما الأعمال بالنّيّات» .
في «شعب الإيمان» . زاد المناوي: رواه الطبراني؛ كلّهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
57- ( «إنّ لصاحب الحقّ) ؛ أي: الدّين (مقالا» ) صولة الطلب، وقوّة الحجة.
وأخذ منه الغزالي أنّ المظلوم من جهة القاضي له أن يتظلّم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم، وكذا يقول المستفتي للمفتي: قد ظلمني أبي.. أو أخي.. أو زوجي. فكيف طريقي في الخلاص!؟. والأولى التعريض بأن يقول: ما قولكم في رجل ظلمه أبوه أو أخوه، لكن التعيين مباح؛ لما ذكر.
والحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: إن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال:
«دعوه، فإنّ لصاحب الحقّ مقالا» وهو من غرائب الصحيح، فإنه لا يروى عن أبي هريرة إلا بإسناد مداره على سلمة بن كهيل، وقد صرّح بأنّه سمعه من أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى حين حجّ.
وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبرمز أبي نعيم في «الحلية» عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه.
58- ( «إنّما الأعمال) : جمع عمل، وهو حركة البدن؛ فيشمل القول ويتجوّز به عن حركة النفس، والمراد هنا عمل الجوارح الصّادرة من المؤمنين، أي: إنما صحتها (بالنّيّات) من مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: كل عمل بنيّته.
وقال الحربي: كأنه إشارة إلى تنويع النيّة كالأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل وعده، أو اتقاء وعيده.(3/338)
.........
وفي معظم الرّوايات: «بالنّيّة» بالإفراد لأن محلّها القلب؛ وهو متّحد، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر؛ وهي متعدّدة فناسب جمعها، أو لأنّ النّيّة ترجع إلى الإخلاص؛ وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.
وفي «صحيح ابن حبان» : «الأعمال بالنّيّات» بحذف «إنّما» وجمعهما، وللبخاري في «الإيمان والعتق والهجرة» : «الأعمال بالنّيّة» بجمع «الأعمال» وإفراد «النّيّة» . وله في «النكاح» : «العمل بالنّيّة» بإفرادهما.
وهذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين؛ لأنّ «أل» في الأعمال للاستغراق، وهو مستلزم للحصر؛ لأنّ معناه: كلّ عمل بنيّة، فلا عمل إلّا بنية.
أو لأنّ «إنّما» للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق؛ أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع؛ أو بالعرف، أو تفيده بالحقيقة، أو بالمجاز؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخ الإسلام البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلّا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية.
وعبّر بالأعمال دون الأفعال!! لأن الفعل قد يكون زمانه يسيرا ولا يتكرر، قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) [الفيل] ، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [45/ إبراهيم] حيث كان إهلاكهم في زمن يسير ولم يتكرر، بخلاف العمل فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد بالاستمرار والتكرار الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [25/ البقرة] طلب منهم العمل الدائم المتجدد لا نفس العمل، قال تعالى فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) [الصافات] ولم يقل الفاعلون.
و «النيات» جمع نية؛- بكسر النون وشدّ المثناة التحتية في المشهور، وفي لغة: تخفيفها.
قال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض؛ من جلب نفع أو دفع ضرّ حالا أو مالا. والشرع خصّه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل؛ لابتغاء رضاء(3/339)
59- «إنّما البيع عن تراض» .
60- «إنّما العلم بالتّعلّم، ...
الله تعالى وامتثال حكمه. وهي محمولة في الحديث على المعنى اللّغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده من بقية الحديث وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل.
والحديث أخرجه الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة: البخاري؛ في سبعة مواضع من «صحيحه» ، ومسلم، والترمذي في «الجهاد» ، وأبو داود في «الطلاق» ، والنسائي في «الأيمان» ، وابن ماجه في «الزهد» ؛ كلهم من حديث عمر بن الخطاب. ولم يخرجه في «الموطأ» رواية الأكثرين، وخرّجه في رواية محمد بن الحسن عنه، ذكره في آخر «باب النوادر» قبيل آخر الكتاب بورقات.
59- ( «إنّما البيع) ؛ أي: الجائز الصحيح شرعا الذي يترتب عليه أثره؛ الذي هو انتقال الملك وحلّ الانتفاع: هو ما وقع (عن تراض» ) من المتعاقدين مع باقي أركانه وشروطه، بخلاف ما لو صدر بنحو إكراه بغير حقّ، فلا أثر له، بل المبيع باق على ملك البائع؛ وإن صدرت صورة البيع.
وأفاد الحديث بإناطة الانعقاد بالرضى؛ اشتراط الصيغة لوجود صورته الشرعية في الوجود، لأنّ الرضى أمر خفيّ لا يطّلع عليه، فاعتبر ما يدلّ عليه وهو الصّيغة.
والحديث أخرجه ابن ماجه والضّياء؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قدم يهودي بتمر وشعير وقد أصاب الناس جوع، فسألوه أن يسعّر لهم فأبى ... وذكر الحديث.
60- ( «إنّما العلم) ؛ أي: اكتسابه في الابتداء، وإدراك الأحكام ووصولها إلى الذّهن (بالتّعلّم) من العلماء؛ أي: بالأخذ في أسبابه من سؤال العلماء العارفين، والاعتناء بالتّلقّي عنهم، وإنّما بقاؤه وعدم ضياعه بمذاكرته وعدم الغافلة عنه، ولا يستحي من السؤال عمّا أشكل.(3/340)
وإنّما الحلم بالتّحلّم» .
قال مجاهد: لا يتعلّم العلم مستحي ولا مستكبر.
وقيل لابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول.
والحصر في الحديث بالنّظر للغالب، وإلّا! فقد يحصل العلم بسبب الرياضة المقتضية لإفاضة العلوم على القلب من غير تعلم.
(وإنّما الحلم) ؛ أي: المكتسب (بالتّحلّم» ) ؛ أي: بحمل النفس عليه.
قال الراغب: الحلم: إمساك النفس عن هيجان الغضب. والتّحلّم: إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب. انتهى.
وفيه إشارة إلى أنّ الملكة قد تحصل بالاكتساب، فإذا كان عادته الغضب والانتقام؛ وعالج نفسه ومنعها من الانتقام المرّة بعد الآخرى، تعوّدت على الحلم حتى صار ملكة له، وكذا معالجة نحو الكبر والبخل والعجب والحسد تقتضي تبدّل الوصف الذميم بالوصف الجميل.
والحديث قال العجلوني في «الكشف» : رواه الطبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم والعسكري عن أبي الدرداء رفعه بلفظ: «إنّما العلم بالتعلم والحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه. لم يسكن الدرجات العلى؛ ولا أقول لكم من الجنة: من استقسم، أو تطيّر طيرا يردّه من سفره» .
وفي سنده محمد بن الحسن الهمذاني: كذاب. ولكن رواه البيهقي في «المدخل» عن أبي الدرداء موقوفا.
وفي رواية للطبراني؛ وكذا البيهقي عن أبي الدرداء بزيادة بعد قوله «يوقه» :
«ثلاث من كنّ فيه لم يسكن الدّرجات العلى، ولا أقول لكم الجنّة من تكهّن، أو استقسم؛ أو ردّ من سفر تطيّرا» .
وأخرجه العسكري عن أنس مرفوعا، وعن معاوية مرفوعا بلفظ: «يا أيها الناس؛ إنّما العلم بالتّعلّم والفقه بالتّفقّه، ومن يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين،(3/341)
61- «إنّما المرء بخليله، ...
وإنّما يخشى الله من عباده العلماء» .
وأخرجه الطبراني في «الكبير» وابن أبي عاصم في «العلم» عن معاوية أيضا.
وجزم البخاري بتعليقه؛ فقال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين» ، وقال: «إنّما العلم بالتّعلم» .
وأخرجه الدارقطني في «الأفراد» والخطيب؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والخطيب عن أبي الدرداء بلفظ: «إنّما العلم بالتّعلم، وإنّما الحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه»
وأخرجه أبو نعيم عن شداد بن أوس بلفظ: إنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ ماذا يزيد في العلم؟ قال: «التّعلم» . وفي سنده كذّاب، وهو عمر بن صبيح.
وأخرجه البزار بسند في حديث طويل رجاله ثقات عن ابن مسعود مرفوعا أنّه كان يقول: «فعليكم بهذا القرآن فإنه مأدبة الله، فمن استطاع منكم أن يأخذ من مأدبة الله فليفعل، فإنّما العلم بالتّعلم» .
وروى البيهقي في «المدخل» ، والعسكري في «الأمثال» : كلاهما عن أبي الأحوص أنه قال: «إنّ الرجل لا يولد عالما، وإنّما العلم بالتّعلم» .
وروى العسكري أيضا عن حميد الطويل أنّه قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلّم، وإذا لم تكن عليما فتعلّم، فقلما تشبّه رجل بقوم إلّا كان منهم.
وروى العسكري أيضا من وجه آخر عن عمرو البجلي أنه قال: الحسن هو الله، والله أحسن منك رداء، وإن كان رداؤك حبرة رداؤه الحلم، فإن لم يكن حلم لا أبالك- فتحلّم، فإنّ من تشبّه بقوم لحق بهم. انتهى.
61- ( «إنّما المرء) : يعني الإنسان (بخليله) ؛ أي: صاحبه، يعني: هو على عادته وطريقته وسيرته، لأن الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يشعر،(3/342)
فلينظر المرء من يخالل» .
(فلينظر) ؛ أي: فليتأمّل ويتدبّر (المرء) بعين بصيرته إلى أمور (من يخالل» ) ؛ أي: الذي يريد صداقته، فمن رآه ورضي دينه وخلقه صادقه، ومن سخط دينه فليجتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له؛ صحبه، فأقلّ درجات الأخوّة والصّداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ، وفي معنى الحديث قول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
فإن كان ذا شرّ فجنّبه سرعة ... وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردا فتردى مع الرّدي
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الذي أورده المصنف.
وذكره النووي في «رياض الصالحين» بلفظ: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ؛ وقال: رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الترمذي: حديث حسن. ومثله في «الجامع الصغير» .
وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» . وقال: رواه أبو داود والترمذي وحسّنه، والبيهقي، والقضاعي عن أبي هريرة رفعه، وتساهل ابن الجوزي فأورده في «الموضوعات» ومن ثمّ خطّأه الزركشي، وتبعه في «الدرر» .
وقال الحافظ في «اللآلئ» : والقول ما قال الترمذي. يعني: أن الحديث حسن.
ورواه العسكري عن أنس رفعه بلفظ: «المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الخير؛ أو من الحقّ مثل الذي ترى له» ورواه ابن عدي في «كامله» بسند ضعيف. وأورده جماعة؛ منهم البيهقي في «شعبه» بلفظ: من يخالّ- بلام مشددة-. انتهى كلام «الكشف» .(3/343)
62- «إنّ من البيان لسحرا» .
وفي «دليل الفالحين» : قال السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.
قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن؛ كما قال الترمذي، ولا ينتهي إلى الضعف فضلا عن الوضع.
قال الحافظ العسقلاني في ردّه عليه: قد حسّنه الترمذي، وصححه الحاكم.
انتهى كلام «دليل الفالحين» . ملخصا.
ثم قال ابن علان: وبه يعلم ما في قول المصنف- يعني النووي- بإسناد صحيح، إلا أن يريد به المقبول مجازا، فيشمل الحسن، والله أعلم.
62- ( «إنّ من البيان) هو: المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير. وقال القاضي: البيان: جمع الفصاحة في اللفظ والبلاغة باعتبار المعنى. (لسحرا» ) بفتح لام التوكيد-؛ أي: إنّ من البيان لنوعا يحلّ من العقول والقلوب في التمويه محلّ السّحر، والسّحر- في الأصل-: الصّرف، قال تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) [المؤمنون] وسمّي السحر سحرا!! لأنه مصروف عن جهته. والساحر بسحره يزيّن الباطل في عين المسحور حتى يراه حقّا، فكذا المتكلم بمهارته في البيان وتفنّنه في البلاغة وترصيف النظم؛ يسلب عقل السامع، ويشغله عن التفكر فيه والتدبّر له؛ حتى يخيّل إليه الباطل حقّا والحقّ باطلا، وهذا معنى قول ابن قتيبة «إن منه ما يقرب البعيد، ويبعد القريب، ويزين الباطل القبيح، ويعظم الصغير؛ فكأنه سحر» .
والقصد النهي عن ذلك كالنهي عن السحر؛ إن كان ذلك البيان لأجل ستر حقّ ونصرة باطل. ويحتمل أنه مدح إن كان زخرفة العبارة لأجل قبول حقّ ونصره؛ فيكون تشبيهه بالسحر من حيث استمالة القلوب فقط، لا في النهي.
وهذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلّم حين قدم وفد تميم وفيهم الزّبرقان وعمرو بن الأهيم فخطبا(3/344)
.........
ببلاغة وفصاحة، ثمّ فخر الزبرقان فقال: يا رسول الله؛ أنا سيّد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك. فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدنيه؛ فقال الزّبرقان: والله لقد علم مني أكثر ممّا قال؛ ما منعه أن يتكلم إلّا الحسد!!
فقال عمرو: أنا أحسدك! والله إنّك للئيم الخال، حديث المال، ضيّق العطن، أحمق الولد، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أوّلا، وما كذبت فيما قلت ثانيا؛ لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والآخرى جميعا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» . قال الميداني: هذا المثال في استحسان النطق وإيراد الحجة البالغة.
قال التوربشتي: وحقّه أن يقال إن بعض البيان كالسّحر، لكنّه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا. انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه الإمام مالك، والإمام أحمد، والبخاري في «النكاح والطّبّ» ، وأبو داود في «الأدب» ، والترمذي في «البرّ» : كلهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إنّ من البيان سحرا، وإن من الشّعر حكما» . ورمز له برمز الإمام أحمد وأبي داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والجملة الثانية في البخاري بلفظ: «إنّ من الشّعر لحكمة» من حديث أبيّ رضي الله عنه.
وذكره في «الجامع الصغير» أيضا بلفظ: «إنّ من البيان سحرا، وإنّ من العلم جهلا، وإنّ من الشّعر حكما، وإن من القول عيالا» ورمز له برمز أبي داود في «الأدب» ؛ من حديث صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جدّه: بريدة بن الحصيب رضي الله عنهم آمين.(3/345)
63- «أنا مدينة العلم، وعليّ بابها» .
63- ( «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» ) الذي يدخل منه إلى المدينة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلّم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها، ولا بدّ للمدينة من باب، فأخبر أن بابها هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى، وقد شهد له بالأعلميّة الموافق والمخالف، والمعادي والمحالف؛
أخرج الكلاباذي: أن رجلا سأل معاوية رضي الله تعالى عنه عن مسألة، فقال: سل عليا؛ هو أعلم مني. فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعزّه بالعلم عزّا!!.
وقد كان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر بن الخطاب يسأله عمّا أشكل عليه؛ جاءه رجل فسأله، فقال: ههنا عليّ فاسأله؛ فقال: أريد أسمع منك؛ يا أمير المؤمنين!! قال: قم؛ لا أقام الله رجليك. ومحا اسمه من الدّيوان.
وصحّ عنه من طرق أنه كان يتعوّذ من قوم ليس فيهم عليّ بن أبي طالب حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئا من البعوث لمشاورته في المشكل.
وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء: أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟! قال: لا والله.
قال الحرالي: قد علم الأولون والآخرون أنّ فهم كتاب الله تعالى منحصر إلى علم عليّ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه؛ ذكره المناوي.
وفيه أيضا: وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم أن المراد «وعلي بابها» أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تنحّل لغرضه(3/346)
.........
الفاسد بما لا يجديه، ولا يسمنه ولا يغنيه.
أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعا: ما أنزل الله عز وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا وعليّ رأسها وأميرها.
وأخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن عليّ كرم الله وجهه! فقال: «قسمت الحكمة عشرة أجزاء؛ فأعطي عليّ تسعة أجزاء، والناس جزآ واحدا» .
وعنه أيضا: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله بطن وظهر، وأما عليّ؛ فعنده منه علم الظاهر والباطن» .
وأخرج أيضا عن سيّد المرسلين وإمام المتقين: «أنا سيّد ولد آدم؛ وعليّ سيّد العرب» . وأخرج أيضا: «عليّ راية الهدى» .
وأخرج أيضا: «يا عليّ؛ إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتسعى» ، وأنزلت عليه هذه الآية وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
[الحاقة] .
وأخرج عن ابن عباس: كنا نتحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد إلى عليّ كرم الله وجهه سبعين عهدا لم يعهده إلى غيره. والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى.
انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، مرموزا له برمز العقيلي، وابن عدي، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» وصحّحه، زاد المناوي:
وكذا أبو الشيخ في «السنة» : كلّهم عن ابن عباس «ترجمان القرآن» مرفوعا مع زيادة: «فمن أراد العلم فليأت الباب» . ورمز له أيضا برمز ابن عدي والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.
قال المناوي: ورواه الإمام أحمد بدون الزيادة يعني قوله: «فمن أراد العلم فليأت الباب» . قال الذهبي- كابن الجوزي-: موضوع، وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا به. وقال ابن معين: لا أصل له. وقال الدارقطني: غير ثابت،(3/347)
.........
وقال الترمذي؛ عن البخاري: منكر، وتعقّبه جمع من الأئمة منهم الحافظ العلائي فقال: من حكم بوضعه فقد أخطأ، والصواب أنه حسن باعتبار طرقه؛ لا صحيح ولا ضعيف. وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو كخبر:
«أرأف أمّتي بأمتي أبو بكر» . قال الزركشي: الحديث ينتهي إلى درجة الحسن المحتجّ به، ولا يكون ضعيفا، فضلا عن كونه موضوعا!!
وفي «لسان الميزان» : هذا الحديث له طرق كثيرة في «المستدرك» أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل، فلا ينبغي إطلاق القول عليه بالوضع. انتهى.
ورواه الخطيب في «التاريخ» باللفظ المذكور من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس ثم قال: قال القاسم: سألت ابن معين عنه؛ فقال: هو صحيح. قال الخطيب: قلت: أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية؛ وليس بباطل، إذ رواه غير واحد عنه، وأفتى بحسنه ابن حجر، وتبعه السخاوي؛ فقال: هو حديث حسن. انتهى؛ كلام المناوي على «الجامع» .
وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «أنا دار الحكمة، وعليّ بابها» . ورمز له برمز الترمذي عن علي بن أبي طالب، أي: من رواية إسماعيل بن موسى الفزاري؛ عن محمد بن عمر الرومي، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن أبي عبد الضياء، عن عليّ وقال: غريب. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال في «المقاصد» : إنه رواه الترمذي في «المناقب» من «جامعه» ، وأبو نعيم في «الحلية» وغيرهما من حديث عليّ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أنا دار الحكمة وعليّ بابها» قال الدارقطني في «العلل» : إنّه حديث مضطرب غير ثابت.
وقال الترمذي: إنه منكر، وكذا قال شيخه البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح. وقال ابن معين- فيما حكاه الخطيب في «تاريخ بغداد» -: إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في «الموضوعات» ووافقه(3/348)
.........
الذهبي وغيره على ذلك. انتهى كلام «المقاصد» .
وقال المناوي في «شرح الجامع» بعد ذكر حديث عليّ من رواية شريك المذكور: وزعم القزويني كابن الجوزي وضعه، وأطال العلائي في ردّه. وقال:
لم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّة قادحة في هذا الخبر؛ سوى دعوى الوضع دفعا بالصّدر.
وسئل عنه الحافظ ابن حجر في «فتاويه» فقال: هذا حديث صحّحه الحاكم، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ؛ وقال: إنه كذب.
والصواب خلاف قولهما معا، وأنه من قسم الحسن: لا يرتقي إلى الصحة؛ ولا ينحطّ إلى الكذب. قال: وبيانه يستدعي طولا لكن هذا هو المعتمد. انتهى كلام المناوي.
وقال الحافظ السيوطي في «الدرر» : وقد بسطت كلام العلائي وابن حجر في «التعقبات على الموضوعات» ، وقال في «اللآلئ» بعد كلام طويل:
والحاصل أن الحديث ينتهي بمجموع طريقي أبي معاوية وشريك إلى درجة الحسن المحتجّ به. انتهى.
وقال في «شرح الهمزية» لابن حجر المكي عند قولها «كم أبانت عن علوم» :
إنّه حسن خلافا لمن زعم وضعه. انتهى.
وقال في «الفتاوى الحديثية» : رواه جماعة وصححه الحاكم، وحسّنه الحافظان العلائي وابن حجر. انتهى.
وقد ألّف العلامة حافظ العصر أبو الفيض أحمد بن الصّدّيق الغماري المتوفى سنة 1382 رحمه الله تعالى مؤلفا خاصّا في هذا الحديث؛ سمّاه «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ» وقد طبع بمصر فليطلبه من أراده.
وما ذكرناه هو خلاصة ما قيل في هذا الحديث، ومن أراد المزيد فليراجع(3/349)
64- «أنت ومالك لأبيك» .
«المقاصد» و «الكشف» و «اللآلئ المصنوعة» مع مؤلّف السيد أحمد الغماري رحمه الله تعالى. آمين.
64- ( «أنت) أيّها الرجل القائل «إنّ أبي يريد أن يجتاح مالي» ؛ أي:
يستأصله (ومالك لأبيك» ) يعني: إنّ أباك كان سببا في وجودك، ووجودك سبب وجود مالك، فإذا احتاج فله الأخذ منه بقدر الحاجة؛ كما يأخذ من مال نفسه إذا كان المأخوذ فاضلا عن حاجة الابن، ومثل الأب سائر الأصول؛ ولو من جهة الأم، ومثل الابن سائر الفروع؛ ولو من جهة البنت.
وسببه- كما في ابن ماجه عن جابر بن عبد الله- أنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ إنّ لي مالا وولدا، وإن أبي يجتاح مالي، فذكره حملا له على برّ أبيه، وعدم عقوقه، فليس المراد إباحة ماله له حتى يستأصله بلا حاجة.
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن ماجه في «التجارة» ؛ عن جابر بن عبد الله. قال ابن حجر الحافظ في «تخريج أحاديث الهداية» : رجاله ثقات لكن قال البزار: إنما يعرف عن هشام، عن ابن المنكدر مرسلا، وقال البيهقي: أخطأ من وصله عن جابر.
انتهى مناوي على «الجامع» .
ورمز له في «الجامع» أيضا برمز الطبراني في «الكبير» .
قال المناوي: وكذا البزار، كلاهما عن سمرة بن جندب وابن مسعود. قال الحافظ الهيثمي: ومن طريق سمرة فيه عبد الله بن إسماعيل الحوداني، قال أبو حاتم: ليّن، وبقية رجال البزار ثقات. انتهى. ومفهومه: أنّ رجال الطبراني ليسوا كذلك، ومن طريق ابن مسعود فيه إبراهيم بن عبد الحميد؛ ولم أجد من ترجمه!! وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: فيه من طريق ابن مسعود هذا: معاوية بن يحيى وهو(3/350)
.........
ضعيف. وأما حديث سمرة، فإن العقيلي بعد تخريجه عنه قال: وفي الباب أحاديث فيها لين، وبعضها أحسن من بعض.
وقال البيهقي: روي من وجوه موصولا لا يثبت مثلها، وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: قد أشار البخاري في «الصحيح» إلى تضعيف هذا الحديث.
انتهى؛ نقله المناوي على «الجامع الصغير» .
وقال في «كشف الخفا» : وله طرق أخرى عند البيهقي في «الدلائل» ، والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بسند فيه المنكدر- ضعّفوه- عن جابر؛
قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إنّ أبي أخذ مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب فأتني بأبيك» ، فنزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرئك السلام؛ ويقول لك: إذا جاء الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه؛ ما سمعته أذناه. فلما جاء الشيخ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما بال ابنك يشكوك؛ تريد أن تأخذ ماله» ؟ قال: سله يا رسول الله؛ هل أنفقته إلّا على إحدى عمّاته أو خالاته؛ أو على نفسي!! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إيه دعنا من هذا؛ أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك» . فقال الشيخ: والله يا رسول الله؛ ما يزال الله يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. فقال: «قل وأنا أسمع، فقال: قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسّقم لم أبت ... لسقمك إلّا ساهرا أتململ
كأنّي أنا المطروق دونك بالّذي ... طرقت به دوني فعينيّ تهمل
تخاف الرّدى نفسي عليك؛ وإنّها ... لتعلم أنّ الموت وقت مؤجّل
فلمّا بلغت السّنّ والغاية الّتي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنّك أنت المنعم المتفضّل
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدّا للخلاف كأنّه ... بردّ على أهل الصّواب موكّل(3/351)
.........
ويروى بدل البيت الأخير قوله:
فأوليتني حقّ الجوار فلم تكن ... عليّ بمال دون مالك تبخل
قال: فحينئذ أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلّم بتلابيب ابنه؛ وقال: «أنت ومالك لأبيك» .
وذكره في «الكشاف» في تفسير سورة الإسراء بلفظ:
شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أباه وأنّه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكّأ على عصا، فسأله فقال: إنّه كان ضعيفا وأنا قويّ، وفقيرا وأنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ؛ وهو يبخل عليّ بماله.
فبكى عليه الصلاة والسلام وقال: «ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلّا بكى» ، ثمّ قال للولد: «أنت ومالك لأبيك» وقال مخرّجه: لم أجده.
وقال في «المقاصد» قال شيخنا: أخرجه في «معجم الصحابة» من طريق وبيّض له. قال: قلت: وكأنه رام ذكر الذي قبله.
والحديث عند البزار في «مسنده» ؛ عن عمر أنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أبي يريد أن يأخذ مالي ... فذكره، وهو منقطع.
وأخرجه الطبراني في «معاجيمه» الثلاثة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يستعدي على والده، قال: إنه أخذ منّي مالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أنّك ومالك من كسب أبيك» .
وأخرج ابن ماجه؛ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:
جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أبي اجتاح مالي؛ قال: «أنت ومالك لأبيك، إنّ أولادكم من طيب كسبكم فكلوا من أموالكم» . وأخرجه أحمد عنه، وكذا ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قال في «المقاصد» : والحديث قويّ.(3/352)
65- «أن تفعل الخير خير لك» .
66- «أنزلوا النّاس منازلهم» .
65- ( «أن تفعل الخير خير لك» ) «أن» حرف مصدري فهو بفتح الهمزة، أي: فعلك الخير واشتغالك به خير لك من خلافه الّذي هو الترك؛ أو الاشتغال بالشرّ، فإنّ النّفس إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشرّ؛ فينبغي للإنسان أن يوجّه اهتمامه إلى وجوه الخير وأعمال البرّ؛ ليكون ذلك شغلا شاغلا له عن التوجّه إلى الشّر والتفكير فيه. والحديث المذكور لم أقف على من ذكره؛ ولا من خرّجه.
66- ( «أنزلوا) الخطاب للأئمة أو عامّ (النّاس) ؛ من مسلم وكافر، وولي وصالح وعالم، وغني وفقير، وكبير وصغير وأشيب وغيره (منازلهم» ) ؛ أي:
احافظوا حرمة كلّ أحد على قدره، وعاملوه بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف؛ فلا تسوّوا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس، فإنه يورث عداوة وحقدا في النفوس؛ لأن الإكرام غذاء الآدمي، والتارك لتدبير الله في خلقه لا يستقيم حاله، وقد دبّر الله تعالى الأحوال لعباده غنى وفقرا، وعزّا وذلّا، ورفعة وضعة؛ ليبلوكم أيّكم أشكر، فالعامل عن الله يعاشر أهل دنياه على ما دبّر الله لهم، فإذا لم ينزله المنزلة الّتي أنزله الله، ولم يخالقه بخلق حسن؛ فقد استهان به وجفاه، وترك موافقة الله في تدبيره.
فالمراد بالحديث الحضّ على مراعاة مقادير النّاس ومراتبهم ومناصبهم، وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس وفي القيام ... وغير ذلك من الحقوق.
فمنزلة العالم فوق منزلة الجاهل، ومنزلة الغني فوق منزلة غيره الّتي اعتادها بحيث لو ترك ذلك لأورث حقدا.
ومن ذلك قبول هديته، فينبغي عدم الردّ، إلّا إذا بلغ رتبة الزهد والورع. وإلّا إذا كانت في المعنى جعالة على قضاء حاجة، فالأولى الردّ صونا للمروءة، وبعضهم حرّمها إذا كانت بهذه الصّفة.(3/353)
.........
فإذا سوّيت بين شريف ووضيع وغنيّ وفقير في مجلس أو عطية؛ كان ما أفسدت أكثر ممّا أصلحت.
فالغنيّ إذا أقصيت مجلسه، أو حقرت هديته يحقد عليك، لما أنّ الله تعالى لم يعوّده ذلك، وإذا عاملت الولاة بما عاملت به الرّعية؛ فقد عرّضت نفسك للبلاء.
وقد عدّ العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم، وقال: هذا ممّا أدّب به المصطفى صلى الله عليه وسلّم أمته من إيفاء الناس حقوقهم؛ من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة المسلم، وإجلال الكبير وما أشبهه.
انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث رواه مسلم تعليقا في مقدمة «صحيحه» فقال: ويذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم. ووصله أبو نعيم في «المستخرج» وأبو داود، وابن خزيمة، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي في «الأدب» ، والعسكري في «الأمثال» وغيرهم من حديث ميمون بن أبي شبيب أنه قال:
جاء سائل إلى عائشة رضي الله تعالى عنها فأمرت له بكسرة، وجاء رجل ذو هيئة فأقعدته معها، فقيل لها: لم فعلت ذلك؟ قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم.
قال في «اللآلئ» : وأعلّه أبو داود بأن ميمونا لم يدرك عائشة، وردّ عليه بأن ميمونا هذا كوفي قديم أدرك المغيرة، والمغيرة مات قبل عائشة، ومجرّد المعاصرة كاف عند مسلم، وقد حكم الحاكم بصحّته، وتبعه ابن الصلاح في «علومه» .
انتهى ما في «اللآلئ» .
ورواه أبو نعيم في «الحلية» بلفظ: إن عائشة كانت في سفر فأمرت لناس من قريش بغداء؛ فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة؛ فقالت: ادعوه فنزل، فأكل ومضى، وجاء(3/354)
67- «انظري أين أنت منه، فإنّما هو جنّتك ونارك» ؛ يعني:
الزّوج.
سائل فأمرت له بكسرة. فقالت: إن هذا الغنيّ لم يجمل بنا إلّا ما صنعنا به، وإن هذا السائل سأل فأمرت له بما يترضاه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
ولفظ أبي داود: أنزلوا الناس منازلهم. وقد صحّحه الحاكم وغيره.
قال في «المقاصد» : تعقّب بالانقطاع، وبالاختلاف في رفعه ووقفه كما بسطت ذلك في أول ترجمة شيخنا مع الإلمام بمعناه.
وورد عن غير عائشة أيضا:
1- كمعاذ، فروى حديثه مرفوعا الخرائطي في «مكارم الأخلاق» بلفظ:
«أنزل الناس منازلهم من الخير والشرّ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصّالحة» .
و2- كجابر، فروى حديثه مرفوعا في «جزء» الغسولي بلفظ: «جالسوا الناس على قدر أحسابهم، وخالطوا الناس على قدر أديانهم، وأنزلوا الناس على قدر منازلهم، وداروا الناس بعقولكم» .
و3- كعليّ، فروى حديثه موقوفا في «تذكرة الغافل» بلفظ: «من أنزل الناس منازلهم رفع المؤونة عن نفسه، ومن رفع أخاه فوق قدره فقد اجترّ عداوته» .
وبالجملة فحديث عائشة حسن، وقال في «التمييز» : وذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه «معرفة علوم الحديث» وقال: حديث صحيح.
انتهى من «كشف الخفا» للعجلوني رحمه الله تعالى.
67- ( «انظري) ؛ أي: تأملي أيتها المرأة الّتي هي ذات بعل (أين أنت منه) ؛ أي: في أي منزلة أنت من زوجك!! أقريبة من مودته؛ مسعفة له عند شدّته، ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه؛ كافرة لعشرته وإنعامه؟!
(فإنّما هو) ؛ أي الزوج (جنّتك ونارك» . يعني: الزّوج) أي: هو سبب(3/355)
68- «أنهاكم عن قيل، وقال، ...
لدخولك الجنّة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فاعرفي حقّه وأحسني عشرته، ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلّم للمرأة الّتي جاءت تسأله عن شيء؛ فقال: «أذات زوج أنت» ؟ قالت: نعم، قال:
«كيف أنت منه؟!» قالت: لا آلوه إلّا ما عجزت عنه. فذكر الحديث.
وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أنّ النشوز كبيرة.
والحديث رواه النسائي من طريقين، وعزاه له جمع جمّ؛ منهم الذهبي في «الكبائر» ، ولفظه: قالت عمة حصين ... وذكرت زوجها للنبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال:
«أين أنت منه! فإنّه جنّتك ونارك» أخرجه الذهبي من وجهين؛ نقله المناوي.
وذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز الطبراني في «الكبير» وابن سعد في «الطبقات» كلاهما عن عمة حصين- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين مصغرا-:
ابن محصن- بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الصاد-. وفي العزيزي قال الشيخ:
حديث صحيح.
68- ( «أنهاكم عن قيل وقال) قال في «شرح مسلم» : هو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم.
وقال في «رياض الصالحين» : معناه: الحديث بكلّ ما يسمعه فيقول «قيل كذا» ، و «قال فلان كذا» ممّا لا يعلم صحته ولا يظنّها، و «كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكلّ ما سمع» . انتهى.
وقال في «شرح مسلم» : واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين:
أحدهما: أنهما فعلان، ف «قيل» : مبنيّ لما لم يسمّ فاعله، و «قال» : فعل ماض.
والثاني: أنهما [ «قيل وقال» ] اسمان مجروران منوّنان؛ لأن القيل والقال والقول والقالة؛ كلّه بمعنى، ومنه قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) [النساء] ومنه(3/356)
وكثرة السّؤال» .
قولهم: كثرة القيل والقال. انتهى.
(وكثرة السّؤال» ) قال في «شرح مسلم» : قيل المراد به القطع في المسائل والإكثار من السؤال عمّا لم يقع ولا تدعو إليه حاجة.
وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنّهي عن ذلك، وكان السّلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف المنهيّ عنه.
وفي «الصحيح» : كره رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسائل وعابها.
وقيل: المراد به سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك.
وقيل: يحتمل أن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وما لا يعني الإنسان، وهذا ضعيف، لأنّه قد عرف هذا من النهي عن قيل وقال.
وقيل: يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره فيدخل في ذلك سؤاله عما لا يعنيه ويتضمّن ذلك حصول الحرج في حقّ المسؤول، فإنّه قد لا يؤثر إخباره بأحواله، فإن أخبره شقّ عليه، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقّة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب. انتهى.
قال في «دليل الفالحين» : والأولى حمل السؤال في الخبر على ما يعمّ الجميع، وذلك لأنّه اسم جنس محلّى ب «أل» فيعمّ، أمّا سؤال المال للغير!! فالظاهر اختلافه باختلاف الأحوال، ولنفسه لحاجة فلا كراهة؛ بشرط عدم الإلحاح، وذلّ نفسه زيادة على ذلّ السؤال والمسؤول؛ فإن فقد شرط حرم. انتهى ملخصا.
والحديث ذكره بهذا اللفظ في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى الموصلي، وأخرجه الشيخان: البخاري في ثلاثة مواضع: «الزكاة والاستقراض والأدب» ، ومسلم في «الأحكام» ؛(3/357)
69- «ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تعالى حرّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعا، وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» وهذا لفظ البخاري في «الأدب» .
69- ( «ألا لا طاعة) خبر بمعنى النهي (لمخلوق) من المخلوقين كائنا من كان ولو أبا أو أما أو زوجا (في معصية الخالق» ) بل كلّ حقّ؛ وإن عظم، ساقط إذا جاء حقّ الله، إنّما الطّاعة فيما رضيه الشارع واستحسنه، فإذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
قال مسلمة بن عبد الملك لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [59/ النساء] قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59/ النساء] . قال ابن الأثير: يريد طاعة ولاة الأمور إذا أمروا بما فيه إثم كقتل ونحوه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» باللفظ الذي أورده المصنف.
ورواه الإمام أحمد، والحاكم عن عمران بن الحصين، وعن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله تعالى عنهم بلفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» قال الحافظ الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال في العزيزي: إسناده حسن.
ورواه البغوي عن النوّاس، وابن حبان عن عليّ بلفظ: «لا طاعة لبشر في معصية الله» ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله تعالى عنه بلفظ «لا طاعة لأحد في معصية الله ... » ، إنما الطّاعة في المعروف» .
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه في رواية: «لا طاعة لمن لم يطع الله» . وفي رواية لأحمد أيضا: «لا طاعة لمن عصى الله» . قال الحافظ(3/358)
70- «الإسلام حسن الخلق» .
الهيثمي: فيه عمرو بن زبيب لم أعرفه! وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، وقال ابن حجر: سنده قوي. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
70- ( «الإسلام) الكامل (حسن الخلق) ؛ الذي يرجع حسنه إلى اعتدال قوّة العقل بكمال الحكمة، وإلى اعتدال القوّة الغضبيّة والشهويّة، وإطاعة كلّ منهما للعقل مع الشرع.
ثمّ هذا الاعتدال إمّا أن يكون بجود إلهي وكمال فطري، وإمّا أن يكون باكتساب أسبابه من المجاهدة والرياضة؛ بأن يحمل نفسه على كلّ عمل يوجب حسن خلقها ويضادّ سوء طويّتها، إذ هي لا تألف ربّها ولا تأنس بذكره؛ إلّا إذا فطمت عن عاداتها وحفظت عن شهواتها بالخلوة والعزلة أوّلا، ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثمّ بإدمان الذكر والدعاء في تلك الخلوة إلى أن يغلب عليه الأنس بالله وبذكره؛ فحينئذ يتنعّم به في نهايته؛ وإن شق عليه في بدايته. وربمّا ظنّ من جاهد نفسه أدنى مجاهدة بترك فواحش المعاصي أنه قد هذّبها وحسّن خلقها؛ وأنى له بذلك؛ ولم توجد فيه صفات الكاملين ولا أخلاق المؤمنين!!
قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [2- 4/ الأنفال] .
وقال تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) إلى أن قال:
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) [المؤمنون] .
وقال تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) [التوبة] .
وقال عز وجل وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [62/ الفرقان] إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حال نفسه فليعرضها على هذه الآيات ونظائرها، فوجود جميع(3/359)
.........
هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق الذي هو أصل لكثير من المعاصي والذنوب، ووجود البعض يدلّ على البعض.
وقد أشار صلى الله عليه وسلّم إلى مجامع محاسن الأخلاق؛ بقوله:
«المؤمن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» ، وبأمره بإكرام الضيف والجار.
وبأن المؤمن إمّا أن يقول خيرا أو يصمت.
وبما جاء: «إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة» .
«لا يحلّ لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظر يؤذيه» .
«لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما» .
«إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره» .
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الفضول، قليل الزلل، وهو برّ، وصول، وقور، صبور، رضيّ، شكور، حليم، رفيق، عفيف، شفيق، لا لمّاز، ولا سبّاب، ولا نمّام، ولا مغتاب، ولا عجول، ولا حقود، ولا بخيل، ولا حسود، هشاش بشاش، يحب في الله؛ ويبغض في الله، ويرضى في الله؛ ويغضب في الله.
فهذا هو حسن الخلق وفقنا الله تعالى للتحلّي بمعاليه، وأدام علينا سوابغ أفضاله، وموانح قربه، والاندراج في سلك أوليائه وأحبابه ومواليه. آمين. قاله ابن حجر في «الزواجر» رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» .(3/360)
71- «الإسلام يجبّ ما قبله، والهجرة تجبّ ما قبلها» .
71- ( «الإسلام يجبّ) - بفتح المثناة التحتية وضم الجيم- (ما قبله) من الكفر والمعاصي وما يترتب عليهما من حقوق الله تعالى؛ أي: يقطع ذلك ويمحو أثره، أما حقّ الآدمي فلا يسقط، وظاهر الخبر أن مجرّد الإسلام مكفّر للسوابق، سواء أساء أو أحسن بعد.
وأمّا خبر: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» !! فوارد على منهج التحذير. انتهى مناوي 3/ 77؛ على «الجامع» .
(والهجرة) ؛ أي: الانتقال من أرض الكفر إلى بلاد الإسلام (تجبّ) بالمثناة الفوقية والجيم- أي: تمحو (ما قبلها» ) من الخطايا المتعلقة بحقّ الله تعالى من العقوبات، أمّا الحقّ الماليّ؛ كزكاة، وكفارة يمين! ففي سقوطها خلاف بين العلماء.
والمراد بالهجرة: ما كان قبل الفتح. وفيه: عظم موقع كلّ واحد من الخصلتين. وفي تكرير «يجبّ» في كلّ منهما دلالة على أن كلّ واحد منهما يكفّر بمفرده؛ قاله المناوي.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» بهذا اللفظ مرموزا له برمز الطبراني.
وذكره العجلوني في «كشف الخفا» بلفظ: «الإسلام يجبّ ما قبله» ، وقال: رواه ابن سعد في «طبقاته» عن الزبير، وجبير بن مطعم.
ورواه الإمام أحمد والطبراني عن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنه.
انتهى.
ونحو ذلك في «الجامع الصغير» والمناوي.
وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب «الإيمان» من حديث ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاصي وهو في سياقة الموت؛ فبكى طويلا(3/361)
72- «الإسلام يعلو ولا يعلى» .
وحول وجهه إلى الجدار فجعل ولده يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا! أما بشرك بكذا! فأقبل بوجهه؛ فقال: إنّ أفضل ما نعدّ شهادة (ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله) إني كنت على أطباق ثلاث؛ لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا للمصطفى صلى الله عليه وسلّم منّي، ولا أحبّ إليّ أن أكون استمكنت منه فقتلته؛ فلو متّ على ذلك كنت من أهل النار؛ فلما جعل الله في قلبي الإسلام أتيته؛ فقلت: ابسط يمينك أبايعك؛ فبسطها، فقبضت يدي، قال: «ما لك» ؟
قلت: أشترط. قال: «تشترط ماذا؟» قلت: أن يغفر لي، فقال: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله» ، فما كان أحد أحبّ إليّ ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه؛ إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، ولو متّ على تلك الحالة رجوت أن أكون من أهل الجنة. ثمّ ولّينا أشياء ما أدري حالي فيها!!. انتهى.
72- ( «الإسلام يعلو ولا يعلى) عليه. قال البيهقي: قال قتادة: يعني: إذا أسلم أحد أبوين فالولد مع المسلم، فلا يتبع الفرع أحد أبويه الكافر؛ بل المسلم، فالعلوّ في نفس الإسلام.
وقال ابن حزم: معناه إذا أسلمت يهودية أو نصرانية تحت كافر يفرّق بينهما، ويحتمل العلو بحسب الحجّة، أو بحسب النصرة في العاقبة، فإنها للمسلمين.
انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وفي «كشف الخفاء» وقالا: رواه الدارقطني والضياء في «المختارة» ، والخليلي في «فوائده» ، والروياني كلّهم عن عائذ بن عمرو المزني رفعه. ورواه الطبراني في «الصغير» ، والبيهقي في «الدلائل» عن معاذ رفعه. وعلّقه البخاري في «صحيحه» .(3/362)
73- «إيّاك ودعوة المظلوم» .
والمشهور على الألسنة زيادة: «عليه» آخرا، بل هي رواية الإمام أحمد، والمشهور أيضا على الألسنة: «الحقّ يعلو ولا يعلى عليه» . قال ابن حجر:
وسنده ضعيف. انتهى.
73- ( «إيّاك) - منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره- من قبيل قولهم: إياك والأسد، وتقديره هنا: باعد نفسك (ودعوة) - بفتح الدال-: المرّة من الدعاء؛ أي: احذر الظلم لئلا يدعو عليك.
(المظلوم» ) ؛ أي: من ظلمته بأيّ وجه كان من نحو استيلاء على ما يستحقه، أو إيذاء له. فأقام المسبب الذي هو الدعاء مقام السبب الذي هو الظلم.
وخلاصك من الظلم بأن تردّ إليه حقّه، أو تمكّنه من استيفائه، فإنك إن ظلمته ودعا عليك استجيب له؛ وإن كان عاصيا مجاهرا، لأنّه إنما يسأل الله حقّه الواجب على خصمه. وربّ العالمين لا يمنع صاحب حقّ من حقّه لأنّه الحاكم العادل.
نعم ورد أنّ الله سبحانه وتعالى: يرضي خصوم بعض عباده بما شاء.
وفي خبر رواه ابن لال والديلمي وغيرهما: أنّ في صحف إبراهيم: أيها الملك المسلّط المبتلى المغرور؛ إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها لبعض، لكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم؛ فإني لا أردّها؛ ولو كانت من كافر.
وقال عمر بن عبد العزيز: إنّ الله يأخذ للمظلوم حقّه من الظّالم، فإيّاك أن تظلم من لا ينتصر عليك إلّا بالله تعالى، فإنه تعالى إذا علم التجاء عبده بصدق واضطرار انتصر له ولا بدّ! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [62/ النمل] انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إياكم ودعوة المظلوم؛ وإن كانت من كافر، فإنها ليس لها حجاب دون الله عزّ وجلّ» أخرجه سمويه عن أنس(3/363)
.........
رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: وله شواهد كثيرة سبقت؛ ويجيء كثير منها.
وذكره في «الجامع» بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم؛ فإنّما يسأل الله تعالى حقّه، وإنّ الله تعالى لن يمنع ذا حقّ حقّه» . ورمز له برمز الخطيب عن عليّ أمير المؤمنين، وهو حديث ضعيف.
وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «اتّقوا دعوة المظلوم» وقال: رواه أحمد وأبو يعلى عن أنس مرفوعا؛ بزيادة: «وإن كانت من كافر، فإنّه ليس بينها وبين الله تعالى حجاب» .
ورواه الطبراني عن خزيمة رفعه بزيادة: فإنها تحمل على الغمام، ويقول الله جلّ جلاله: «وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» .
ورواه الحاكم وقال: إنّه على شرط مسلم، والضياء في «المختارة» عن ابن عمر مرفوعا بزيادة: «فإنها تصعد إلى السماء كأنّها الشّرار» .
ورواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ: «اتّقوا دعوة المظلوم فإنّها تصعد إلى السماء كأنّها شرارة» .
ورواه أبو يعلى عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله تعالى حجاب» . واتفق عليه الشيخان بهذا اللفظ عن ابن عباس مرفوعا.
ورواه الخطيب عن عليّ بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم فإنّما يسأل الله حقّه، وإنّ الله لم يمنع ذا حقّ حقّه» انتهى كلام العجلوني.
وذكره أيضا في موضع آخر بلفظ: «اتّقوا الظّلم فإنّه ظلمات يوم القيامة» ، وقال: رواه الإمام أحمد، والطبراني، وابن ماجه عن ابن عمر.
وأخرجه أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، ومسلم عن جابر بزيادة:(3/364)
74- «إيّاك وقرين السّوء، فإنّك به تعرف» .
75- «إيّاك والخيانة، ...
«واتّقوا الشّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» . انتهى.
وقد ألّف العلامة القاضي محمد بن أحمد مشحم اليمانيّ الصّعديّ كتاب:
«تحذير الظّلوم من سهام دعوات المظلوم» . رسالة مطوّلة جمع فيها كثيرا من الأحاديث المتعلقة بالتحذير من الظّلم مع ذكر حكايات وأشعار تتعلق بذلك، وهي مخطوطة لم تطبع.
74- ( «إيّاك وقرين السّوء) - بالفتح-: مصدر (فإنّك به تعرف» ) أي:
تشتهر بما اشتهر من السوء. قال تعالى وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) [النساء] .
ومن ثمّ قالوا: الإنسان موسوم بسيما من يقارن، ومنسوب إليه أفاعيل من صاحب؛ أي: فإن صاحب الفاجر كان دليلا على فجوره، وعكسه بعكسه.
وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: الصاحب مناسب. ما شيء أدلّ على شيء؛ ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب.
وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك، وقال آخر: يظنّ بالمرء ما يظنّ بقرينه.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
ومقصود الحديث: التحرّز من أخلاق السوء، وتجنّب صحبة أهل الرّيب؛ ليكون موفر العرض سليما من العيب؛ فلا يلام بلائمة غيره.
والحديث أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قاله في «الجامع» مع المناوي. وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. والله أعلم.
75- ( «إيّاك والخيانة) ؛ أي: خيانة الغير؛ كالخيانة في الوديعة، وخيانة(3/365)
فإنّها بئست البطانة» .
76- «إيّاك وما يسوء الأذن» .
النفس كأن لا تمتثل المأمورات، وكأن لا تجتنب المنهيات؛ قاله الحفني.
والخيانة: تكون في المال والنفس والعدد والكيل والوزن والزرع ... وغير ذلك. وفي العزيزي: قال بعضهم: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدّي الأمانة فيه.
قال أبو عبيد: لا نراه خصّ به الأمانة في أمانات الناس؛ دون ما افترض الله على عباده وائتمنهم، فإنه قد سمّى ذلك أمانة؛ فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [27/ الأنفال] فمن ضيّع شيئا ممّا أمر الله به، أو ارتكب شيئا ممّا نهى الله عنه؛ فقد خان نفسه، إذ جلب إليها الذمّ في الدّنيا والعقاب في الآخرة. انتهى.
(فإنّها بئست البطانة» ) - بالكسر-؛ أي: بئس الشيء الذي يستبطنه من أمره ويجعله بطانة.
قال في «المغرب» : بطانة الرجل أهله وخاصّته؛ مستعار من بطانة الثوب.
وقال الراغب: تستعار البطانة لمن تخصّه بالاطلاع على باطن أمرك.
وقال القاضي: البطانة أصلها في الثوب؛ فاستعيرت لما يستبطن الرجل من أمره ويجعله بطانة حاله؛ قاله المناوي.
وقال الحفني: البطانة في الأصل: الثوب الملاصق للجسد، والجهة التي لا تلاصقه تسمّى ظهارة، فاستعيرت لكلّ شيء ملازم، يقال: بطانة الرجل أهله وعياله، والمراد هنا الصّفة الملازمة للشخص. انتهى.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطبراني.
76- ( «إيّاك) - بكسر الكاف-: خطاب لامرأة (وما يسوء الأذن» ) قال ذلك(3/366)
.........
ثلاثا، وهو نهي عن الغيبة؛ أي: احذري النطق بكلام يسوء غيرك؛ إذا سمعه عنك، فإنّه موجب للتنافر والعداوة.
والحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي الغادية- بغين معجمة-؛ قال: خرجت أنا وحبيب بن الحارث وأم العلاء؛ مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلمنا، فقالت المرأة: أوصني ... فذكره.
وأخرجه أبو نعيم في «المعرفة» ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي؛ عن العاصي بن عمرو الطفاوي، عن حبيب بن الحارث، قلت: يا رسول الله أوصني ... فذكره.
قال في «الإصابة» : والعاصي مجهول.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن عمّه العاصي بن عمرو الطفاوي، قال:
حدثتني عمّتي؛ قالت: دخلت مع ناس على النبيّ صلى الله عليه وسلّم قلت: حدّثني حديثا ينفعني الله به ... فذكره. قال الهيثمي: فيه العاصي بن عمرو الطفاوي؛ وهو مستور، روى عنه محمد بن عبد الرحمن الطّفاوي وتمّام بن السريع، وبقية رجال المسند رجال الصحيح. انتهى.
وقال السخاوي: هذا مرسل، فالعاصي لا صحبة له، وقال شيخي «يعني ابن حجر» : مجهول، لكن ذكره ابن حبان في «الثقات» . انتهى.
ولذلك لم يذكره الذهبي في «الصّحابة» !! انتهى مناوي.
وفي «الكشف» : إنّه رواه عبد الله بن أحمد في «زوائده» ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي قال: سمعت العاصي قال: خرج أبو الغادية وحبيب بن الحارث وأم الغادية مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلموا، فقالت المرأة: أوصني يا رسول الله؛ قال: «إيّاك وما يسوء الأذن» وهو مرسل، إذ العاصي لا صحبة له.(3/367)
77- «إيّاكم وخضراء الدّمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السّوء» .
وأخرجه ابن منده في «المعرفة» ، والخطيب في «المؤتلف» عن العاصي، عن عمّته «أم غادية» قالت: خرجت مع رهط من قومي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فلما أردت الانصراف؛ قلت: يا رسول الله أوصني. قال: «إياك وما يسوء الأذن» . انتهى ملخصا.
77- ( «إيّاكم وخضراء الدّمن) - بكسر الدال المهملة، وفتح الميم- جمع:
دمنة، مثل سدر وسدرة، وهي البعر؛ أي: احذروا المرأة الحسناء ومنبتها سوء؛ كالشجرة الخضراء النابتة في الزبل.
ومعناه: أنه كره نكاح ذات الفساد في أصلها، فإن أعراق السّوء تنزع أولادها؛ أي: لشبههم بها. وتفسير حقيقته: أنّ الريح يجمع الدّمن؛ وهي البعر في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي فإذا أصابه المطر أنبت نباتا غضّا ناعما يهتزّ، وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنا؛ وباطنه قبيحا فاسدا. قال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
ومعنى البيت: أن الرجلين قد يظهران الصلح أو المودة وينطويان على البغضاء والعداوة؛ كما ينبت المرعى على الدّمن. وهذا أكثريّ، أو كلّيّ- في زماننا-، والله المستعان.
والحديث رواه الدارقطني في «الأفراد» ، والرامهرمزي والعسكري كلاهما في «الأمثال» ، وابن عدي في «الكامل» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» وأبو بكر بن دريد في «المجتنى» ، والخطيب في «إيضاح الملتبس» ، والديلمي في «الفردوس» : كلّهم من حديث الواقدي؛ قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا باللفظ المزبور مع زيادة: قيل: يا رسول الله؛ وماذا؟ قال:
( «المرأة الحسناء) الجميلة (في المنبت) - بالميم- (السّوء» ) قال ابن عدي:(3/368)
78- «الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر، ونصف في الصّبر» .
تفرّد به الواقدي وهو متروك، وذكره أبو عبيد في «الغريب» ، وقال الدارقطني:
لا يصح من وجه.
78- ( «الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر) أي: العمل بالطاعة (ونصف في الصّبر» ) عن المحارم. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: وفيه يزيد الرّقاشي، قال الذهبي وغيره: متروك، ورواه القضاعي بهذا اللفظ، وذكر بعض شرّاحه أنه حسن. انتهى كلام المناوي.(3/369)
[ (حرف الباء) ]
(حرف الباء) 79- «البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك ...
(حرف الباء) أي: هذا باب الأحاديث التي أولها حرف الباء الموحدة.
79- ( «البرّ) - بكسر الموحدة-؛ أي: الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبرّ في تغذية البدن، أي: معظم البرّ (حسن الخلق) - بضم اللام-:
فالحصر مجازيّ، وضدّه الفجور، والإثم، ولذا قابله به، والبرّ بهذا المعنى عبارة عما اقتضاه الشارع؛ وجوبا أو ندبا، والإثم ما ينهى عنه، وتارة يقابل البرّ بالعقوق فيكون هو الإحسان، والعقوق الإساءة.
وأمّا حسن الخلق! فهو التخلّق مع الحقّ والخلق، والمراد هنا المعروف، وهو طلاقة الوجه، وكفّ الأذى، وبذل الندى، وأن يحبّ للناس ما يحب لنفسه، وهذا راجع لتفسير البعض له بأنه الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والإحسان في العسر واليسر ... إلى غير ذلك من الخصال الحميدة.
قال النووي: قال العلماء: البرّ يكون بمعنى الصلة، وبمعنى الصدق، وبمعنى اللّطف، والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق. انتهى.
ففعل أنواع الخير ناشئ عن حسن الخلق، وفعل الشرور يدلّ على سوء الخلق وعدم استقامة الطبيعة. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
(والإثم ما حاك) - بحاء مهملة وكاف- (في صدرك) ؛ أي: تحرّك فيه وتردّد، ولم ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه الشكّ وخوف كونه ذنبا.(3/370)
وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» .
80- «برّوا آباءكم.. تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا.. تعفّ ...
(وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» ) ؛ أي: أماثلهم الذين يستحيا منهم كالعلماء والصلحاء، بخلاف من لا يبالى باطلاعهم، والمراد بالكراهة هنا الدينية الخارمة، فخرج العادية؛ كمن يكره أن يرى آكلا لنحو حياء أو بخل، وغير الخارمة؛ كمن يكره أن يركب بين مشاة لنحو تواضع.
وإنما كان التأثير في النفس علامة للإثم!! لأنه لا يصدر إلّا لشعورها بسوء عاقبته.
وظاهر الخبر أن مجرّد خطور المعصية إثم لوجود الدلالة ولا مخصص، وذا من جوامع الكلم. لأن البرّ كلمة جامعة لكلّ خير، والإثم جامع للشرّ. انتهى «مناوي» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، ومسلم في «الأدب» ، والترمذي في «الزهد» ؛ عن النّوّاس بن سمعان رضي الله تعالى عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإثم والبر ... فذكره. واستدركه الحاكم فوهم، وعجيب ذهول الذهبي عنه في اختصاره.
80- ( «برّوا آباءكم) ؛ أي: وأمهاتكم، وكأنّه اكتفى به عنه من قبيل سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [81/ النحل] ، أو أراد بالآباء ما يشمل الأمهات تغليبا؛ كالأبوين
فإنكم إن فعلتم ذلك (تبرّكم) - بفتح الموحدة- (أبناؤكم) ؛ أي: وبناتكم، و «كما تدين تدان» . عن ثابت البناني قال: رأيت رجلا يضرب أباه في موضع؛ فقيل له ما هذا؟ فقال الأب: خلّوا عنه، فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع؛ فابتليت بابن يضربني في هذا الموضع.
(وعفّوا) - بكسر العين المهملة-: من عفّ يعفّ من «باب ضرب» ، يقال:
عفّ عن كذا فهو لازم؛ أي: لا تزنوا بنساء الغير (تعفّ) - بكسر العين- قال(3/371)
نساؤكم» .
البرماوي في (شرحه على «لامية ابن مالك» ) : والحاصل: أنّ مضارع المضاعف اللازم: الكسر، والمتعدي: الضم، وما سمع من المضموم في الأول نادر، وما سمع من المكسور في الثاني نادر؛ فيحفظ في كلّ منهما ولا يقاس عليه.
(نساؤكم» ) أي: حلائلكم عن الرجال الأجانب؛ أي لا يزنين.
قال الراغب: دخلت امرأة يزيد بن معاوية وهو يغتسل؛ فقالت: ما هذا!؟
قال: جلدت عميرة «1» ، ثم دخل وهي تغتسل، فقال: ما هذا؟ قالت: جلدني زوج عميرة. انتهى «مناوي» .
والحديث رواه الطبراني في «الأوسط» عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وقال المنذري: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني أحمد «غير منسوب» !! والظاهر أنّه من المتكثرين من شيوخه؛ فلذلك لم ينسبه. انتهى.
وبالغ ابن الجوزي فجعله موضوعا.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» ، والخطيب في «التاريخ» ، والحاكم في «المستدرك» : كلّهم من طريق علي بن قتيبة عن مالك، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه بلفظ: «برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا عن النّساء تعفّ نساؤكم، ومن تنصّل إليه فلم يقبل؛ فلن يرد عليّ الحوض» . قال الحاكم:
صحيح. وقال ابن الجوزي: موضوع، لأن عليّ بن قتيبة يروي عن الثقات البواطيل. انتهى.
وتعقبه السيوطي بأن له شاهدا. انتهى، وأورده في «الميزان» في ترجمة عليّ بن قتيبة الرفاعي وقال: قال ابن عدي: له أحاديث باطلة عن مالك، ثم أورده في هذا الخبر. انتهى مناوي رحمه الله تعالى.
__________
(1) هو اسم لفرج الرجل. والمراد الاستمناء بالكف. وكذا يحمل خبرها بعده. (عبد الجليل) .(3/372)
81- «بعثت بمداراة النّاس» .
82- «البلاء موكّل بالمنطق» .
81- ( «بعثت بمداراة) - بلا همز- (النّاس» ) : كلين الكلام، وخفض الجناح، وترك الإغلاظ عليهم، والقيام لمن يحصل له حقد إذا لم يقم له، وذلك من أسباب الألفة واجتماع الكلمة وانتظام الأمر، ولهذا قيل: من لانت كلمته وجبت محبته، وحسنت أحدوثته، وظمئت القلوب إلى لقائه، وتنافست في مودته.
والمداراة: تجمع الأهواء المتفرقة، وتؤلّف الآراء المتشتتة، وهي غير المداهنة المنهيّ عنها.
والفرق بينهما: أن المداراة بذل الدنيا لسلامة الدين، والمداهنة: بذل الدين لأجل الدنيا، وهي محرمة؛ والمداراة مطلوبة؛ لأنّها من أخلاق المؤمنين. ولذا لما طرق بعض الناس «1» بابه صلى الله عليه وسلّم فسأل عنه؛ فقيل له: فلان، فقال: بئس أخو العشيرة، فلما فتح له ودخل عظّمه وفرش له رداءه، وأظهر له البشر؛ فلما ذهب الرجل قيل له: كيف ذلك؟ قال: «إنّا لنبشّ في وجوه قوم- أي: لأجل التأليف- وقلوبنا تلعنهم» أي: لعلمنا بنفاقهم-: أي: تلعنهم ما داموا لم يرجعوا للحقّ.
انتهى (شروح «الجامع الصغير» ) .
والحديث أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف؛ كما قاله العزيزي.
82- ( «البلاء موكّل بالمنطق» ) قال الديلمي: البلاء: الامتحان والاختبار، ويكون حسنا ويكون سيئا، والله يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بما يكره ليمتحن صبره.
ومعنى الحديث: أنّ العبد في سلامة ما سكت، فإذا تكلم عرف ما عنده بمحنة
__________
(1) هو السيد المطاع: الأقرع بن حابس كما سيأتي في الجزء الرابع.(3/373)
.........
النطق؛ فيتعرض للخطر؛ أو للظفر، ولذا قال صلى الله عليه وسلّم لمعاذ «أنت في سلامة ما سكتّ، فإذا تكلّمت فلك؛ أو عليك» . ويحتمل أن يريد التحذير من سرعة النطق بلا تثبت؛ خوف بلاء لا يطيق دفعه، وقد قيل: اللسان ذئب الإنسان، وما من شيء أحقّ بسجن من اللسان. وعلى ذلك أنشدوا:
لا تنطقنّ بما كرهت فربّما ... نطق اللّسان بحادث فيكون
وقال آخر:
لا تمزحنّ بما كرهت فربّما ... ضرب المزاح عليك بالتّحقيق
وفي «تاريخ الخطيب» : اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فقدموا الكسائي يصلي جهريّة فأرتج عليه في قراءة «الكافرون» ، فقال اليزيدي: قارئ الكوفة يرتجّ عليه في هذه!!، فحضرت جهرية أخرى؛ فقام اليزيدي: فأرتج عليه في الفاتحة، فقال الكسائي:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إنّ البلاء موكّل بالمنطق
والحديث رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ من رواية إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود مرفوعا بهذا اللفظ، وزيادة: «لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا» .
ورواه الخطيب والديلمي وأبو نعيم والعسكري مرفوعا: «البلاء موكّل بالمنطق، فلو أنّ رجلا عيّر كلبة برضاع كلبة لرضعها» وسنده ضعيف.
وهو عند أحمد في «الزهد» ؛ موقوفا على ابن مسعود. قاله السخاوي.
ورواه الديلمي عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة: «ما قال عبد لشيء: والله لا أفعله إلّا ترك الشيطان كلّ شيء وولع به حتى يؤثّمه» . وقد رواه القضاعي وابن السمعاني عن عليّ، والديلمي عن ابن مسعود، والعسكري عن أبي الدرداء رفعوه، وابن لال في «المكارم» عن ابن عباس عن أبي بكر الصديق موقوفا، وابن(3/374)
81- «البيّنة على المدّعي، واليمين ...
أبي الدنيا من مرسل الحسن: خمستهم بلفظ: «البلاء موكّل بالقول» .
وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» من حديث أبي الدرداء وابن مسعود.
قال السخاوي في «المقاصد» :
ومع مجموع ما ذكرناه- يعني هذه الطرق التي لخصت من كلامه- لا يحسن الحكم عليه بالوضع؛ لأن تعدّد الطّرق وتباين مخارجها دليل على أنّ للحديث أصلا، ويشهد لمعناه قوله صلى الله عليه وسلّم للأعرابي الذي دخل عليه يعوده، وقال له:
«لا بأس طهور» ، فقال الأعرابي: كلّا بل هي حمى تفور على شيخ كبير، تزيره القبور، قال: «فنعم إذا» . انتهى من الزرقاني على «المواهب» وغيره.
83- ( «البيّنة) قال البيضاوي: البينة في الأصل: الدلالة الواضحة التي تفصل الحقّ من الباطل. وقال غيره: هي ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل، بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده، والمراد هنا ما يثبت به الحقّ من شاهد أو شاهدين، أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو أربع نسوة.
وسمّي الشهود «بيّنة» !! لأن بهم يتبيّن الحقّ.
وقوله: (على المدّعي) هو: من يخالف قوله الظاهر، والمدّعى عليه: من يوافق قوله الظاهر. وقيل: المدعي من لو سكت خلّي ولم يطالب بشيء، والمدعى عليه من لا يخلّى؛ ولا يكفيه السكوت. وفي رواية: «على من ادعى» .
(واليمين) قال الإمام النووي: هذه اليمين تسمى يمين الصّبر، وتسمى يمين الغموس، وسميت يمين الصبر!! لأنها تحبس صاحب الحقّ عن حقّه، والحبس:
الصبر، ومنه قيل للقتيل والمحبوس عن الدفن «مصبّر» ، قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان» . وهذه اليمين لا تكون إلّا على الماضي.(3/375)
على من أنكر» .
ووقعت في القرآن العظيم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [74/ التوبة] ، ومنها قوله تعالى إخبارا عن الكفرة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام] ومنها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [77/ آل عمران] .. الآية.
ويستحبّ للحاكم أن يقرأ هذه الآية عند تحليفه للخصم لينزجر. انتهى.
(على من) ؛ أي: الذي (أنكر» ) المدّعى به عليه، لأنّ جانب المدعي ضعيف، فكلّف حجة قويّة وهي البيّنة، وجانب المدعى عليه قويّ؛ فقنع منه بحجة ضعيفة، وهي اليمين.
قال الإمام النووي: وإنما كانت اليمين في جانب المدعى عليه! لأنه يدعي ما وافق الأصل؛ وهو براءة الذّمة. ويستثنى مسائل فيقبل فيها قول المدعي بلا بيّنة فيما لا يعلم إلّا من جهته،
كدعوى الأب حاجة إلى الإعفاف. ودعوى السّفيه التوقان إلى النكاح مع القرينة. ودعوى الخنثى الأنوثة أو الذكورة. ودعوى الطفل البلوغ بالاحتلام.
ودعوى القريب عدم المال ليأخذ النفقة. ودعوى المدين الإعسار في دين لزمه بلا مقابل كصداق الزوجة والضمان وقيمة المتلف. ودعوى المرأة انقضاء العدة بالأقراء؛ أو بوضع الحمل. ودعواها أنها استخلت وطلقت، ودعوى المودع تلف الوديعة؛ أو ضياعها بسرقة ونحوها.
ويستثنى أيضا القسامة، فإن الأيمان تكون في جانب المدعي مع اللّوث.
واللّعان، فإن الزّوج يقذف ويلاعن ويسقط عنه الحدود، ودعوى الوطء في مدة العنّة، فإنّ المرأة إذا أنكرته يصدّق الزوج بدعواه، إلّا أن تكون الزوجة بكرا، وكذا لو ادّعى أنّه وطئ في مدّة الإيلاء. وتارك الصلاة إذا قال: صليت في البيت، ومانع الزكاة إذ قال: أخرجتها؛ إلّا أن ينكر الفقراء وهم محصورون؛ فعليه البيّنة، وكذا(3/376)
.........
لو ادّعى الفقر وطلب الزكاة أعطي؛ ولا يحلّف. بخلاف ما إذا ادّعى العيال، فإنّه يحتاج إلى البيّنة. انتهى ملخصا.
قال ابن العربي: وهذا الحديث من قواعد الشريعة الّتي ليس فيها خلاف، وإنّما اختلف في تفاصيل الوقائع. انتهى.
وهذا الحديث أخرجه عبد الرزاق والبيهقي في «سننه» وابن عساكر في «التاريخ» والدارقطني عن ابن عمرو بن العاصي بزيادة: «إلّا في القسامة» .
قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث غريب معلول.
وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمرو أيضا بلفظ: «البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه» ، وله شاهد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما.(3/377)
[ (حرف التّاء) ]
(حرف التّاء) 84- «ترك الشّرّ صدقة» .
85- «تعرّف إلى الله في الرّخاء.. يعرفك في الشّدّة، ...
(حرف التّاء) أي: هذا باب الأحاديث التي أولها حرف التاء- المثناة الفوقية-:
84- ( «ترك الشّرّ) : السّوء والفساد والظلم، وجمعه شرور.
وهذا شرّ من ذاك أصله: أشرّ؛ بالألف على «أفعل» ، واستعمال الأصل لغة لبني عامر. قال ابن مالك في «الكافية» :
وغالبا أغناهم خير وشر ... عن قولهم أخير منه وأشر
وقرئ شاذا: مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [26/ القمر] على هذه اللغة.
(صدقة» ) معنى ذلك: أن من ترك الشرّ وترك أذى الناس فكأنّه تصدّق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشرّ كفضل الصّدقة؛ أي: في الجملة.
والحديث ذكره في «المواهب» بغير عزو.
85- ( «تعرّف) - بالمثناة الفوقية وتشديد الراء المفتوحتين- أي: تحبب وتقرّب (إلى الله) تعالى بطاعته والشكر على سابغ نعمته، والصّبر تحت مرّ أقضيته، وصدق الالتجاء الخالص قبل نزول بليّته (في الرّخاء) ؛ أي: في حالة الغنى وصحة البدن والأمن، فالتّعرف في حال الغنى بالصّدقات ونفع الناس بماله، والتعرف في حال الصّحة بالعبادات، والتعرف في حالة الأمن بالاشتغال بموالاته تعالى؛ لخلوّ ذهنه عن العدوّ والخوف، فإن فعلت ذلك (يعرفك في الشّدّة) بتفريجها عنك، وجعله لك من كلّ ضيق مخرجا، ومن كلّ همّ فرجا بما سلف من ذلك التعرّف؛ فإذا تعرّفت إليه في الاختيار جازاك به عند الاضطرار بمدد توفيقه(3/378)
واعلم أنّ ما أخطأك.. لم يكن ليصيبك، وما أصابك.. لم يكن ليخطئك، ...
وخفيّ لطفه؛
كما أخبر تعالى عن يونس عليه الصلاة والسلام بقوله فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصافات] يعني: قبل البلاء، فلما عرف الله تعالى في الرّخاء بالتسبيح وغيره؛ نجّاه من بطن الحوت.
وكما وقع للثلاثه الذين انطبقت عليهم الصخرة؛ ففرج الله عنهم، فإنهم تعرّفوا إليه في الرخاء فعرفهم في الشدّة، بخلاف فرعون فإنّه لما تنكّر لربّه في حال رخائه؛ لم ينجه اللجوء عند بلائه، وقيل له آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) [يونس] .
وأمّا أهل الله فتعرّفهم الاشتغال به على الدوام وترك ما سواه؛ فيعرفهم وقت الموت، والقبر، والقيامة، وغيرها. قال الصوفية: ينبغي للعبد أن يكون بينه وبين ربّه معرفة خاصّة بقلبه بحيث يجده قريبا للاستغناء له منه، فيأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته، ولا يزال العبد يقع في شدائد وكرب في الدنيا، والبرزخ، والموقف؛ فإذا كان بينه وبين ربّه معرفة خاصّة كفاه ذلك كلّه. انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
(واعلم) : يا من يتأتّى منك العلم (أنّ ما أخطأك) من المقادير؛ أي:
جاوزك فلم يصل إليك (لم يكن ليصيبك) لأنّه بان بكونه أخطأك أنّه غير مقدّر عليك، (وما أصابك) منها (لم يكن) قدّر (ليخطئك) ؛ أي: محال أن يتجاوزك إلى غيرك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلّا ما قدّر عليه.
ومعنى ذلك: أنّه قد فرغ ممّا أصابك، أو أخطأك من خير أو شرّ، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك فسلامتك منه محتومة؛ فلا يمكن أن يصيبك، لأنّها سهام صائبة وجّهت من الأزل، فلا بدّ أن تقع مواقعها،(3/379)
واعلم أنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ الفرج مع الكرب، ...
ومن ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» . رواه الإمام أحمد.
ففي ذلك حضّ على تفويض الأمور كلّها إلى الله تعالى، مع شهود أنّه الفاعل لما يشاء، وأن ما قضاه وأبرمه لا يمكن أن يتعدّى حدّه المقدّر له، وهذا راجع لقوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) [الحديد] ، وقُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [154/ آل عمران] .
(واعلم) : تنبيه على أنّ الإنسان في هذه الدار؛ لا سيّما الصالحون معرّضون للمحن والمصائب وطروق المنغّصات والمتاعب. قال الله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) [البقرة] الآيات.
فينبغي للإنسان أن يصبر ويحتسب ويرضى بالقضاء والقدر، وينتظر وعد الله تعالى له بأنّ عليه صلوات من ربّه ورحمة، وبأنّه من المهتدين. (أنّ النّصر) من الله للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه إنّما يوجد (مع الصّبر) على طاعته وعن معصيته.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ولا تفرّوا، فإنّ الله مع الصّابرين» ، وكذلك الصبر على الأذى في مواطن يعقبه النّصر، قال تعالى وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) [النحل] ، وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) [البقرة] ومن خيريّته لهم كونه سببا لنصرهم على أعدائهم ونفوسهم.
(وأنّ الفرج) - بفتحتين-: وهو كشف الغمّ يحصل سريعا (مع الكرب) ؛ أي: يعقبه لا محالة، فلا دوام للكرب، وهو شدّة البلاء، فإذا اشتدّ البلاء أعقبه الله تعالى الفرج، كما جاء: اشتدّي أزمة تنفرجي.
وفيه إشارة إلى أنّ الله تعالى إذا أراد أن يفتح لعبده بابا من فضله ابتلاه بشيء من(3/380)
وأنّ مع العسر يسرا» .
بلائه، ثمّ يخصّه بنعمة من نعمائه، وما رأيت شيئا من الامتحان إلّا ورأيت معه أو بعده من بوادر برّه ولطائف امتنانه سبحانه ما ينسيك ما أصابك من طوارق الحدثان.
نحمده على شمول النّعم ... حتّى لقد أبطنها في الألم
والحكمة في ذلك: أن يعرف قدر النّعمة وشرف الكرامة، فبمرارة الفراق يعرف حلاوة الوصال، وبحرارة الهجران يدرك راحة العرفان؛ فيحسن لمن نزل به كرب أن يكون صابرا محتسبا؛ راجيا سرعة الفرج ممّا نزل به، حسن الظّنّ بمولاه في جميع أموره، فالله سبحانه وتعالى أرحم به من كلّ راحم حتّى أمّه وأبيه؛ إذ هو سبحانه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
(وأنّ مع العسر يسرا» ) كما نطق به قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الانشراح] ، وقال تعالى سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) [الطلاق] .
وتنوين «يسرا» للتعظيم مبالغة، و «اليسر» هو السهولة، ومنه اليسار للغنى، لأنّه تسهل به الأمور، واليد اليسرى لأنّ الأمور تسهل بمعاونتها لليمنى، والعسر:
نقيضه.
فإن قلت: النّصر والفرج، واليسر بعد الصّبر، والكرب والعسر؛ لأنّهما يتواردان على المحل بالتناوب؛ فما معنى الاصطحاب المستفاد من «مع» ؟
فالجواب: أنّ المقصود المبالغة في معاقبة أحدهما الآخر واتصاله به، حتّى جعله كالمقارن له، وزيادة في التسلية والتنفيس.
فإن قلت: كيف الجمع بين قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [185/ البقرة] وبين قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) [الانشراح] ، فإنّ الآية الأولى تدلّ على عدم إرادة العسر، وما لا يريده الله تعالى لا يكون ولا يقع؛ إجماعا من أهل السنة، والآية الثانية تدلّ على وقوع العسر قطعا؟
فالجواب: أنّ المراد ب «العسر» في الآية الأولى: العسر في الأحكام(3/381)
.........
والتكاليف الشاقّة، بدليل قوله تعالى وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [78/ الحج] .
وقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [286/ البقرة] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت بالحنيفيّة السمحة» مع أنّ صدر الآية يدلّ على ذلك، وهو قوله تعالى وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [185/ البقرة] . وأمّا الآية الثانية فالمراد بالعسر فيها العسر في العوارض الدنيويّة؛ كضيق الأرزاق، وتوالي المحن والفتن، وأخذ الأموال ظلما.
وقد ذكر الله تعالى اليسر في القرآن مرتين، وذكر العسر مرتين. لكن عند العرب أن المعرفة إذا أعيدت معرفة توحدت؛ لأنّ اللام الثانية للعهد، وإذا أعيدت النكرة نكرة تعدّدت، فالعسر ذكر مرتين معرفا، فهو عسر واحد، واليسر ذكر مرتين منكرا فكان اثنين.
فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لن يغلب عسر يسرين» . أخرجه الحاكم عن الحسن البصري مرسلا.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» . أخرجه البزار وابن أبي حاتم، واللفظ له.
وما أحسن قول القائل:
لا تجزعنّ لعسرة من بعدها ... يسران وعدا ليس فيه خلاف
كم عسرة ضاق الفتى لنزولها ... لله في أعطافها ألطاف
وقال الشاعر:
إذا اشتدّت بك البلوى ... ففكّر في «ألم نشرح»
فعسر بين يسرين ... إذا فكّرته تفرح
والحديث أخرجه عبد بن حميد في «مسنده» عن ابن عباس رضي الله تعالى(3/382)
86- «تعس عبد الزّوجة» .
87- «تمسّكوا بالعروة الوثقى؛ قول: (لا إله إلّا الله) » .
88- «تهادوا تحابّوا» .
عنهما، وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ، والعسكري في «الأمثال» كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
86- ( «تعس عبد الزّوجة» ) لم أقف على من رواه.
87- ( «تمسّكوا بالعروة الوثقى) ؛ أي: العقدة المحكمة الّتي لا انقطاع ولا زوال لها حتّى تؤدّيه إلى الجنّة، وهي (: قول: (لا إله إلّا الله) » ) ؛ أي: مع قرينتها محمّد رسول الله، بأن تعتقدوا ما تضمّنته من التّوحيد وعموم الرّسالة لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، و «العروة» في الأصل: موضع شدّ اليد، وأصل المادّة تدلّ على التّعلّق، ومنه: عروته إذا ألممت به متعلقا به، واعتراه الهمّ: تعلّق به.
و «الوثقى» فعلى للتفصيل؛ تأنيث الأوثق، كفضلى تأنيث الأفضل، وجمعها على: وثق، نحو: كبرى وكبر. وأمّا «وثق» بضمتين: فجمع وثيق.
والكلام إمّا من باب التمثيل مبنيّ على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحقّ بالهيئة الحسيّة المنتزعة من التمسّك بالحبل المحكم، وإمّا من باب الاستعارة المفردة، حيث استعيرت العروة الوثقى للاعتقاد الحق. انتهى «جمل» .
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» ، وقد روى الطبراني في «الدعاء» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «العروة الوثقى هي شهادة ألاإله إلّا الله» . انتهى «شرح الإحياء» .
88- ( «تهادوا) - بفتح الدال المهملة-؛ أي: ليهد بعضكم لبعض (تحابّوا» ) ؛ أي: يحبّ بعضكم بعضا، لأنّ الهديّة خلق من أخلاق الإسلام دلّت(3/383)
.........
عليه الأنبياء، وحثّ عليه خلق الأولياء، وهي تؤلّف القلوب، وتنفي البغضاء من الصدور.
قال الغزالي: قبول الهدية سنّة، لكن الأولى ترك ما فيه منّة، فإن كان البعض تعظم منّته دون البعض ردّ ما تعظم منّته. انتهى.
ويسنّ المكافأة عن الهديّة بردّ مثلها أو زيادة إن قدر على ذلك، ولا يكلّف نفسه ما لا يطيق. والتهادي: تفاعل، فيكون من الجانبين.
وينبغي للمهدي أن يقصد بالهدية امتثال أمر الشارع وما ندب لأجله، ولا يقصد بذلك الدنيا. قال حسّان رضي الله عنه:
إنّ الهدايا تجارات اللّئام وما ... يبغي الكرام لما يهدون من ثمن
والحديث ذكره في الجامع الصغير مرموزا له برمز أبي يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال المناوي: أخرجه النسائي في الكنى وسلطان المحدثين البخاري في الأدب المفرد، قال الزين العراقي: والسند جيد، وقال ابن حجر: سنده حسن. انتهى وذكره في المقاصد والكشف وأطالا في تخريجه وبيان اختلاف ألفاظه بالزيادة والنقص فراجعه إن شئت.(3/384)
[ (حرف الثّاء) ]
(حرف الثّاء) 89- «ثلاث من كنّ فيه.. وجد حلاوة الإيمان: 1- أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ...
(حرف الثّاء) 89- ( «ثلاث) ؛ نكرة، وهي صفة لموصوف محذوف، ومن ثمّ وقعت مبتدأ؛ أي: خصال ثلاث، والخبر جملة، قوله: (من كنّ) ؛ أي: حصلن (فيه وجد) ؛ أي: أصاب (حلاوة الإيمان) ؛ أي: التلذّذ بالطاعة وتحمّل المشقة في رضا الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا.
وهذا استعارة بالكناية؛ شبّه الإيمان بنحو العسل للجهة الجامعة، وهو الالتذاذ؛ فأطلق المشبّه وأضاف إليه ما هو من خصائص المشبّه به ولوازمه، وهو الحلاوة على جهة التخييل. وادّعى بعض الصّوفيّة أنّها حلاوة حسيّة، لأنّ القلب السليم من أمراض الغافلة والهوى يجد طعم الإيمان كذوق الفم طعم العسل. ذكره المناوي رحمه الله تعالى.
(1- أن يكون الله ورسوله أحبّ) ؛ أي: كون الله ورسوله في محبته إيّاهما أكثر محبّة (إليه ممّا سواهما) من نفس وأهل ومال وكلّ شيء.
قال النووي: وعبّر ب «ما» دون «من» ! لعمومها «1» ، وجمعه بين اسم الله ورسوله في ضمير لا ينافيه إنكاره [صلى الله عليه وسلم] على الخطيب: «ومن يعصهما» !! لأنّ المراد في الخطب الإيضاح لا الرمز، وهنا المطلوب إيجاز اللّفظ ليحفظ.
وأولى منه قول البيضاوي: ثنّى الضمير هنا إيماء إلى أنّ المعتبر هو المجموع المركب من المحبّتين لا كلّ واحدة؛ فإنّها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث
__________
(1) للعاقل وغيره.(3/385)
2- وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، ...
الخطيب؛ إشعارا بأنّ كلّ واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرار، والأصل استقلال كلّ من المعطوفين في الحكم. انتهى.
ومحبّة العبد ربّه بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبّة رسوله.
ومحبّة العبد ربّه تنقسم باعتبار سببها والباعث عليها إلى قسمين:
أحدهما: ينشأ عن مشاهدة الإحسان ومطالعة الآلاء والنظر في النّعم، فإن الإحسان سبب لميل النفس إلى حبّ من أحسن إليها، والقلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها، ولا إحسان أعظم من إحسان الربّ تقدّس، وهذا القسم يدخل فيه كلّ أحد.
والثاني: يتعلّق بالخواصّ؛ وهي محبّة الجلال والجمال ولا شيء أكمل ولا أجمل منه، فلا يحدّ كماله، ولا يوصف جلاله، ولا ينعت جماله.
وأسباب محبة النبيّ صلى الله عليه وسلّم كثيرة منها: أنّه أنقذنا به من النار، وأوجب لنا باتباعه الفلاح الأبديّ والنعيم السرمديّ.
(و 2- أن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله) ؛ أي: لا يحبّه لغرض، إلا لغرض رضا الله حتى تكون محبّته لأبويه؛ لكونه سبحانه أمر بالإحسان إليهما، ومحبته لولده لكونه ينفعه في الدعاء الصالح له.
وهكذا ذكره المناوي في «شرح الجامع» .
وفي «النصائح الدينية» للحبيب الولي السيد عبد الله الحداد رحمه الله تعالى.
آمين:
فإذا أحبّ الإنسان الإنسان وألفه وصاحبه؛ لأنّه يحبّ الله ويعمل بطاعته؛ كان ذلك من المحبة في الله.
وإذا أحبّه وصحبه؛ لأنّه يعينه على دينه ويساعده على طاعة ربّه؛ فقد أحبه في الله.(3/386)
3- وأن يكره أن يعود في الكفر- بعد إذ أنقذه الله منه- كما يكره أن يلقى في النّار» .
وإذا أحبّه وصحبه؛ لأنه يعينه على دنياه الّتي يستعين بها على أخراه؛ فقد أحبّه في الله تعالى.
وإذا أحبّه وصحبه؛ لأنه وجد طبعه يميل إليه ونفسه تأنس به، أو لأنّه يعينه على دنياه وأسباب معاشه الّتي يتمتع بها؛ فتلك محبّة طبيعية ليست من المحبة لله في شيء، وتلك صحبة نفسانيّة اقتضاها ميل الطّبع، ولكنّها مباحة، ولعلّها لا تخلو من خير إن شاء الله تعالى.
وأمّا إذا أحبّه وصحبه؛ لأنّه يعينه على المعصية والظلم ويساعده على أسباب الفسق والمنكر؛ فتلك محبّة وصحبة مذمومة قبيحة، وهي في سبيل الشيطان، وليست من الله في شيء، وهي التي تنقلب في الآخرة عداوة، وربما انقلبت في الدنيا قبل الآخرة. قال الله تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) [الزخرف] انتهى كلام الحداد.
(و 3- أن يكره أن يعود في الكفر) ؛ أي: يصير إليه، واستعمال العود بمعنى الصيرورة غير عزيز. (بعد إذ أنقذه الله) ؛ أي: نجّاه (منه) بالإسلام؛ إن كان كافرا، وبأن خلقه من أمّة الإجابة؛ إن كان مسلما أصالة. قاله: «الحفني على الجامع»
(كما يكره أن يلقى) - بالبناء للمفعول- (في النّار» ) لثبوت إيمانه، وتمكّنه في جنانه.
والحديث أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم في «كتاب الإيمان» ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
قال النووي رحمه الله تعالى: هذا حديث عظيم، أصل من أصول الإسلام.(3/387)
90- «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا، وأدخله الجنّة برحمته: 1- تعطي من حرمك، 2- وتعفو عمّن ظلمك، 3- وتصل من قطعك» .
91- «ثلاث منجيات: 1- خشية الله تعالى في السّرّ والعلانية، 90- ( «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا) يوم القيامة، فلا يناقشه، ولا يشدّد عليه، ولا يطيل وقوفه. (وأدخله الجنّة) مع السابقين (برحمته) ؛ أي: بإحسانه تعالى، وإن كان عمله لا يبلّغه ذلك لقلته.
(1- تعطي من حرمك) : إعطاءه أو مودته أو معروفه.
(و 2- تعفو عمن ظلمك) في نفس أو مال أو عرض.
(و 3- تصل من قطعك» ) من ذوي قرابتك وغيرهم.
والحديث أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا القرشي في كتاب «ذم الغضب» ، والطبراني في «الأوسط» ، والحاكم في «التفسير» ؛ من حديث سليمان بن داود اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال الحاكم: صحيح، وردّه الذهبي، فقال: سليمان ضعيف، وفي «الميزان» : قال البخاري: سليمان منكر الحديث، قال: ومن قلت فيه: منكر الحديث لا تحلّ رواية حديثه، ثم ساق له أخبارا هذا منها، وقال العلائي: فيه سليمان؛ ضعفه غير واحد. وقال الهيثمي: فيه سليمان متروك. انتهى «مناوي» .
91- ( «ثلاث منجيات) للعبد في الدنيا والآخرة:
(1- خشية الله) ؛ أي: خوفه (تعالى في السّرّ والعلانية) فهذا أكمل من خوفه في العلن فقط، أو في السّرّ فقط إلّا إذا كان عالما يقتدى به فأظهر الخشية لهذا(3/388)
2- والعدل في الرّضا والغضب، 3- والقصد في الفقر والغنى.
وثلاث مهلكات: 1- هوى متّبع، 2- وشحّ مطاع، 3- وإعجاب المرء بنفسه» .
القصد، أو خاف من الإظهار الرياء؛ فالأمور بمقاصدها.
(و 2- العدل) ؛ العادل: من لا يميل به الهوى فيجور في الحكم (في) ؛ حال (الرّضا والغضب) كما قال تعالى اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [8/ المائدة] ، وقال تعالى كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [135/ النساء] .
(و 3- القصد) ؛ أي: التوسط (في) الإنفاق في حال (الفقر والغنى) ؛ فلا يقتّر جدّا لفقره، ولا يسرف لغناه، بل يتوسّط. قال تعالى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان] .
(وثلاث مهلكات) ؛ أي: موقعات لفاعلهن في الهلاك.
(1- هوى) - بالقصر- (متّبع) - بالتشديد، وفتح الموحدة-: يعني اتباع هوى النفس دائما، فكلّما مال إلى شهوة أتاها وحرص على غيرها، فهذا هواه موقع له في الرّدى دنيا وأخرى. أمّا مطاوعة الهوى في بعض الأوقات مع الرجوع إليه تعالى عقب ذلك! فليست من المهلكات.
(و 2- شحّ) ؛ أي: بخل (مطاع) وهو: أن يطيعه صاحبه في منع الحقوق الّتي أوجبها الله عليه في ماله.
وقيّد الشّحّ بالمطاع! لأنّه إنّما يكون مهلكا إذا كان مطاعا؛ أمّا لو كان موجودا في النفس غير مطاع فلا يكون كذلك، لأنّه من لوازم النّفس.
(و 3- إعجاب المرء بنفسه» ) ؛ أي: ملاحظته إيّاها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله تعالى، وتحسينه فعل نفسه على غيره؛ وإن كان قبيحا، بأن يرى فعل نفسه خيرا من فعل غيره، وكثيرا ما يقع ذلك في أهل العلم، وقد قال أهل الله تعالى:(3/389)
.........
لا يتمّ حال العبد إلّا إذا رأى نفسه دون كلّ مخلوق.
وما وقع لبعض أهل الله تعالى من التّكلم بكلام يقتضي الإعجاب!! فهو من أهل الأحوال في حال السّرّ والغيبة؛ بحيث لو استيقظوا لتابوا من ذلك، كما نتوب من الذّنوب. ومن الكمّل في حال شهود وحدة الوجود والاشتغال به عن كلّ ما سواه؛ فيكون من التحدّث بنعمة الله تعالى؛ لا عجبا وافتخارا. قاله الحفني على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه أبو الشيخ في «التوبيخ» ، والبزار، وأبو نعيم، والبيهقي، والطبراني في «الأوسط» كلهم عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف. انتهى مناوي على «الجامع» .(3/390)
[ (حرف الجيم) ]
(حرف الجيم) 92- «الجار قبل الدّار، والرّفيق قبل الطّريق» .
(حرف الجيم) 92- ( «الجار) ؛ أي: التمسوا الجار الصّالح (قبل) شراء (الدّار) ؛ والدار مؤنثة، وقد سئل عن ذلك العلامة عبد الملك العصامي المكي رحمه الله تعالى:
وهذا نصّ السؤال:
ماذا يقول إمام العصر سيّدنا ... ومن لديه ينال القصد طالبه
في الدّار: هل جائز تذكير عائدها ... في قولنا مثلا «في الدّار صاحبه»
ومن إبانة همز ابن أراد فهل ... يكون موصوفه اسما يطالبه
أم كونه علما كاف ولو لقبا ... أو كنية إن أراد الحذف كاتبه
أفد، فما قد رأينا الحقّ منخفضا ... إلّا وأنت على التّمييز ناصبه
فأجاب بما نصّه:
يا فاضلا لم يزل يهدي الفرائد من ... علومه وتروّينا سحائبه
تأنيثك الدّار حتم لا سبيل إلى التّ ... ذكير فامنع إذا «في الدّار صاحبه»
والابن موصوفه عمّم فإن لقبا ... أو كنية فارتكاب الحذف واجبه
هذا جوابي فاعذر إن ترى خللا ... فمصدر العجز والتّقصير كاتبه
لا زلت تاجا لهامات الهدى علما ... في العلم يحوي بك التّحقيق طالبه
(و) التمسوا (الرّفيق) ؛ الذي تحصل به المعاونة والمرافقة على قطع السّفر (قبل) السلوك في (الطّريق» ) وكلّ من «الجار» و «الرّفيق» يجوز نصبه ورفعه؛ فنصبه بفعل مقدّر؛ أي: التمس أو اتّخذ. ورفعه بالابتداء والله أعلم.
والحديث أخرجه الخطيب في «الجامع» عن عليّ ورافع بن خديج بأسانيد ضعيفة، وتمامه: «والزّاد قبل الرّحيل» .(3/391)
93- «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب» .
ورواه العسكري في «الأمثال» عن عليّ قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكر حديثا طويلا في آخره: «الجار ثمّ الدّار، والرّفيق ثمّ الطّريق»
ورواه الطبراني في «الكبير» وابن أبي خيثمة، والعسكري في «الأمثال» عن رافع بن خديج بلفظ: «التمسوا الرّفيق قبل الطريق، والجار قبل الدّار» .
ورواه القضاعي بلفظ: «التمسوا الجار قبل شراء الدّار، والرّفيق قبل الطّريق» وكلها ضعيفة، لكن بانضمامها يقوى الحديث؛ فيصير حسنا. قاله في «الكشف» للعجلونيّ.
93- ( «الجماعة رحمة) ؛ أي: لزوم جماعة المسلمين موصل إلى الرحمة، أو سبب للرحمة. (والفرقة) عن جماعة المسلمين بأن لا ينصرهم ببدنه أو اعتقاده (عذاب» ) ؛ أي: سبب للعذاب، لأنّه تعالى جمع المؤمنين على معرفة واحدة، وشريعة واحدة؛ ليألف بعضهم بعضا بالله وفي الله؛ فيكونون كرجل واحد على عدوّهم، فمن انفرد عن حزب الرّحمن انفرد به الشّيطان، وأوقعه فيما يؤدّيه إلى عذاب النيران.
قال العامريّ في «شرح الشهاب» : لفظ الجماعة ينصرف لجماعة المسلمين لما اجتمع فيهم من جميل خصال الإسلام، ومكارم الأخلاق، وترقّي السابقين منهم إلى درجة الإحسان؛ وإن قلّ عددهم، حتّى لو اجتمع التقوى والإحسان اللّذان معهما الرحمة في واحد كان هو الجماعة، فالرحمة في متابعته، والعذاب في مخالفته. انتهى.
والحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: «الجماعة..» ... الخ.
قال الزركشي- بعد عزوه لأحمد والطبراني-: فيه [أبو وكيع الجراح بن مليح] «1» ؛ قال
__________
(1) في الأصل: (الجراح بن وكيع) . والله أعلم.(3/392)
94- «جفّ القلم بما أنت لاق» .
الدارقطني: ليس بشيء. وقال السّيوطيّ في «الدرر» سنده ضعيف.
وقال السخاوي: سنده ضعيف؛ لكن له شواهد،
منها: ما روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه: «يد الله على الجماعة، اتّبعوا السّواد الأعظم، فإنّ من شذّ شذّ في النّار» .
ومنها: ما روى الطبراني عن أسامة بن شريك رفعه: يد الله على الجماعة، فإن شذّ الشّاذّ منهم اختطفته الشّياطين» ... الحديث.
ومنها ما رواه أيضا؛ عن عرفجة رفعه: «يد الله مع الجماعة، والشّيطان مع من فارق الجماعة يركض» . ومنها ما رواه الديلمي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «الشّيطان يهمّ بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهمّ بهم» .
انتهى مناوي على «الجامع الصغير» ، مع زيادة من «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» للعجلوني رحمهم الله. آمين.
94- ( «جفّ القلم بما أنت لاق» ) ؛ أي: نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ؛ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه، لفراغ ما كتب به.
قال القاضي عياض: كتاب الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. وهذا اللفظ لم يوجد في كلام العرب، بل هو من الألفاظ التي لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية.
وهذا الحديث رواه البخاري، والنسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوّج به النساء، فأذن لي أختصي. فسكت عنّي، ثم قلت مثل ذلك؛ فسكت، ثم قلت مثل ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة؛ جفّ القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك، أو ذر» .
ورواه الطبراني في «الكبير» عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «جفّ(3/393)
95- «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» .
القلم بما هو كائن» وهو حسن. ورواه القضاعي؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «جفّ القلم بالشّقيّ والسّعيد، وفرغ من أربع: من الخلق، والخلق، والأجل، والرّزق» وكذا رواه الديلمي؛ عن ابن مسعود بلفظ «جرى القلم بما حكم» .
95- ( «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» ) يعني: التواضع لهنّ وترضّيهن وإطاعتهن في خدمتهنّ، وعدم مخالفتهن إلا فيما حظره الشرع سبب لدخول الجنة، وتمام الحديث: «من شئن أدخلن، ومن شئن أخرجن» .
قال العامري: المراد أنّه يكون في برّها وخدمتها كالتراب تحت قدميها؛ مقدّما لها على هواه، مؤثرا برّها على برّ كلّ عباد الله، لتحمّلها شدائد حمله ورضاعه وتربيته. انتهى.
فينبغي التواضع جدا للأمّهات حتى يكون كالتراب الذي تحت أقدامهنّ ليدخل الجنة مع السابقين، لأن لها ثلثي البرّ.
قال بعض الصوفية: هذا الحديث له ظاهر وباطن، وحقّ وحقيقة، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلّم أوتي جوامع الكلم فقوله «الجنة» ... الخ
ظاهره: أن الأمّهات يلتمس رضاهنّ المبلّغ إلى الجنة بالتواضع لهنّ، وإلقاء النّفس تحت أقدامهنّ، والتذلّل لهنّ.
والحقيقة فيه: أنّ أمّهات المؤمنين هنّ معه عليه الصلاة والسلام أزواجه في أعلى درجة في الجنة، والخلق كلّهم تحت تلك الدرجة، فانتهاء رؤوس الخلق في رفعة درجاتهم في الجنة؛ وآخر مقام لهم في الرفعة: أوّل مقام أقدام أمّهات المؤمنين، فحيث انتهى الخلق فهنّ ثمّ ابتداء درجاتهنّ، فالجنة كلها تحت أقدامهن. وهذا قاله لمن أراد الغزو معه؛ وله أمّ تمنعه، فقال: «الزمها ... ثم ذكره.(3/394)
96- «الجنّة تحت ظلال السّيوف» .
قال الذهبي: فيه أن عقوق الأمهات من الكبائر وهو إجماع. انتهى «مناوي» .
والحديث أخرجه الخطيب في «جامعه» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» ؛ عن أنس رفعه، وهو منكر لأن في سنده مجهولين.
وذكره الخطيب أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما وضعفه.
قال في «المقاصد» : وقد عزاه الديلمي لمسلم عن أنس فلينظر!! ومثله في «الدرر» انتهى «كشف الخفا» .
وفي المناوي على «الجامع» : أنه أخرجه النسائي وابن ماجه، وكذا الإمام أحمد والحاكم وصححه. ومثله في «كشف الخفا» ؛ قال: عن معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله عنه.
96- ( «الجنّة تحت ظلال) - وفي رواية للبخاري: تحت بارقة- (السّيوف» ) ؛ أي: الجهاد ماله الجنة، يعني: أنّ ظلال السّيوف والضرب بها في سبيل الله تعالى سبب للفوز بظلال بساتين الجنّة ونعيمها.
وفي «النّهاية» : هو كناية عن الدّنوّ من الضّرب في الجهاد حتى يعلوه السّيف ويصير ظلّه عليه؛ وخصّ السّيوف! لكونها أعظم آلات الحرب وأنفعها إذ ذاك.
والحديث رواه الحاكم في «المستدرك» في «الجهاد» ؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذّهبي.
وفي رواية للبخاري؛ عن ابن أبي أوفى مرفوعا بلفظ: «اعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف» . ورواه مسلم في «المغازي» ؛ عن أبي موسى بلفظ: أنّه قال بحضرة العدوّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السّيوف» .
فقام رجل رثّ الهيئة، فقال: يا أبا موسى؛ أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه؛ فقال: أقرأ عليكم السلام؛ ثمّ كسر جفن سيفه وألقاه، ثمّ مشى بسيفه إلى العدوّ، فضرب به حتى قتل. وأخرجه أبو داود في «الجهاد» .(3/395)
[ (حرف الحاء) ]
(حرف الحاء) 97- «حبّ الدّنيا.. رأس كلّ خطيئة» .
(حرف الحاء) 97- ( «حبّ الدّنيا) ؛ أي: تعلّق القلب بها، والانهماك في تحصيلها بأي وجه كان، كالمكاسين والتجّار الّذين يحلفون كذبا لترويج السلعة.
(رأس كلّ خطيئة» ) بشاهد التجربة والمشاهدة، فإنّ حبّها يوقع في الشّبهات ثم في المكروهات، ثم في المحرمات، وطالما أوقع في الكفر، بل جميع الأمم المكذّبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم حبّ الدنيا، فكل خطيئة في العالم أصلها حبّ الدنيا، ولا تنس خطيئة الأبوين، فإن سببها حبّ الخلود في الدنيا؛ ولا تنس خطيئة إبليس، فإن سببها حب الرّياسة التي هي شرّ من حبّ لدنيا، وكفر فرعون وهامان وجنودهما ... فحبّ الدّنيا هو الذي عمر النّار بأهلها، وبغضها هو الذي عمر الجنّة بأهلها، ومن ثمّ قيل: الدّنيا خمر الشّيطان، فمن شرب منها لم يفق من سكرتها إلّا في عسكر الموتى، خاسرا نادما.
نعم؛ إذا أحبّ جمع الدنيا لصرفها في مصارفها كإطعام الجائع؛ فهو محمود لا خطيئة، فضلا عن كونه رأس كل خطيئة، ولذا ورد: «نعمت الدّنيا مطيّة المؤمن، بها يصل إلى الخير وينجو من الشّرّ» ، وهذه نصيحة منه صلى الله عليه وسلّم لأمّته.
وإلّا! فكل واحد لا غنى له عن الدنيا، ولو لم يحبّ الناس الدنيا هلك العالم وبطل المعاش، إلّا أنّه علم صلى الله عليه وسلّم أن حبّ الدنيا مهلك؛ وأنّ ذكر كونه مهلكا لا ينزع الحبّ من قلب الأكثر، إلّا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم؛ فلم يترك النصح؛ وذكر ما في حب الدنيا من الخطر، ولم يترك ذكره؛ خوفا من أن يترك ثقة بالشهوات المهلكة التي سلّطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنّم تصديقا لقوله وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [13/ السجدة] . الآية(3/396)
.........
تنبيه: أخذ بعضهم من الحديث أنّه ينبغي ألايؤخذ العلم إلّا عن أقلّ الناس رغبة في الدنيا، فإنه أنور قلبا وأقلّ إشكالات في الدّين؛ فكيف يؤخذ علم عمّن جمع في قلبه رأس خطيئات الوجود!! كيف وذلك يمنع من دخول حضرة الله وحضرة رسوله؟! فإنّ حضرته تعالى كلامه وحضرة رسوله كلامه، ومن لم يتخلّق بأخلاق صاحب الكلام لا يمكنه دخول حضرته؛ ولو في صلاته، إذ لا يفهم أحد عن أعلى صفة إلّا إن صلح لمجالسته؛ فمن زهد في الدنيا كما زهد فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فقد أهّل لفهم كلامه، ولو رغب فيها كغالب الفقهاء! لا يؤهّل لذلك، ولا يفهم مراد الشارع إلّا إن فسر له بكلام مغلق قلق ضيق؛ كذا في «إرشاد الطالبين» .
قال: وسمعت نصرانيّا يقول لفقيه: كيف يزعم علماؤكم أنّهم ورثة نبيّهم؛ وهم يرغبون فيما زهد فيه رهباننا؟! قال: كيف؟. قال: لأنّهم يأخذون في إقامة شعار دينهم؛ من تدريس وخطابة وإمامة ونحوها عرضا من الدنيا؛ ولو منعوه لعطّلوها، وجميع الرّهبان يقومون بأمر ديننا مجّانا. فانظر قوّة يقين أصحابنا وضعف يقين أصحابكم، فلو صدقوا ربّهم أنّ ما عنده خير وأبقى؛ لزهدوا في الدنيا كما زهد فيها نبيّهم والرهبان.
وشكا بعضهم كثرة خواطر الشّيطان؛ فقال: طلّق بنته يهجر زيارتك، وهي الدنيا، تريد أن يقطع رحمه لأجلك. قال: هو يأتي من لا دنيا عنده، قال: إن لم تكن عنده؟؛ فهو خاطب لها، ومن خطب بنت رجل فتح باب مودّته؛ وإن لم يدخل بها.
وكان الرّبيع بن خثيم يقول: أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم يدخلها حبّ الآخرة. انتهى. مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث رواه البيقهي في «شعب الإيمان» ؛ عن الحسن البصري مرسلا؛ ثم قال- أعني البيهقي-: ولا أصل له من حديث النّبي صلى الله عليه وسلم.(3/397)
98- «الحبّ في الله والبغض في الله من أفضل الأعمال» .
قال الحافظ الزّين العراقي: ومراسيل الحسن عندهم شبه الرّيح، ومثل به في «شرح الألفية» للموضوع من كلام الحكماء، وقال: هو من كلام مالك بن دينار؛ كما رواه ابن أبي الدنيا، أو من كلام عيسى، كما رواه البيهقي في «الزهد» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، أو من قول سعيد بن سعود؛ كما ذكره ابن يونس في «تاريخ مصر» .
وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي، وعدّ ابن الجوزي الحديث في الموضوعات، وتعقّبه الحافظ ابن حجر بأن ابن المديني أثنى على مراسيل الحسن، والإسناد إليه حسن. وأورده الديلمي من حديث علي وبيّض لسنده. وقال ابن الغرس: الحديث ضعيف.
وللديلمي؛ عن أبي هريرة رفعه: «أعظم الآفات تصيب أمّتي: حبّهم الدّنيا، وجمعهم الدّنانير والدّراهم، لا خير في كثير ممّن جمعها إلّا من سلّطه الله على هلكتها في الحقّ» انتهى مناوي على «الجامع» ، و «كشف الخفا» للعجلوني، رحمهما الله تعالى. آمين.
98- ( «الحبّ في الله) ؛ أي: في ذات الله، لا لشوب رياء ولا هوى، (والبغض في الله من أفضل الأعمال» ) . قال الطيبي: «في» هنا بمعنى اللام في الحديث الآخر «من أحبّ لله» ؛ إشارة إلى الإخلاص، لكن «في» هنا أبلغ، أي: الحب في جهته ووجهه، كقوله تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [69/ العنكبوت] . أي: في حقنا، ومن أجلنا، ولوجهنا خالصا.
فمن أفضل الأعمال أن يحبّ الرجل للإيمان والعرفان، لا لحظ نفساني كإحسان، وأن يكرهه للكفر والعصيان؛ لا لإيذائه له.
والحاصل: ألايكون معاملته مع الخلق إلا لله؛
ومن البغض في الله بغض النفس الأمّارة بالسّوء وأعداء الدّين، وبغضهما(3/398)
99- «حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» .
مخالفة أمرهما، والمجاهدة مع النّفس بحبسها في طاعة الله تعالى بما أمر ونهى، ومع أعدائه تعالى بالمصابرة معهم والمرابطة لأجلهم.
وهذا الحديث من تدبّره وقف على سلوك طريق الله وفناء السالك في الله.
قال ابن رسلان: فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله؛ كما يكون له أصدقاء يحبّهم في الله: بيانه أنّك إذا أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عصاه فلا بدّ أن تبغضه؛ لأنه عاص لله وممقوت عند الله، فمن أحبّ لسبب فبالضرورة يبغض لضدّه؛ وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطّرد في الحب والبغض في العادات، والله أعلم.
انتهى. من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» باللّفظ الذي أورده المصنف معزوا لأبي داود.
وذكره في «الجامع الصّغير» بلفظ: «أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله» . معزوّا لأبي داود؛ من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وهو الموافق لما في «سنن أبي داود» ، لكن في سنده راو لم يسمّ.
99- ( «حبّك الشّيء) - بلام ودونها روايتان- (يعمي) عن عيوب المحبوب، (ويصمّ» ) عن سماعها، فلا تبصر قبيح فعله، ولا تسمع فيه نهي ناصح، بل ترى قبيحه حسنا وتسمع منه الجفا قولا جميلا، وهذا شامل لمحبّة النّفس، فإذا أحبّ الشخص نفسه وفعلها؛ رضي بكل أفعال نفسه، وأثنى على نفسه، فلا يرى لنفسه فعلا سيّئا، وهذا من سوء الحال. انظر قول سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [53/ يوسف] فما بالك بغيره!! فالحبّ لذّة تعمي عن رؤية غير المحبوب، وتصمّه عن سماع العذل فيه، والمحبة إذا استولت على القلب سلبته عن صفاته، ولذا قال بعض الشّعراء:(3/399)
100- «الحرب خدعة» .
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ مرموزا له برمز الإمام أحمد والبخاري في «التاريخ» ، وأبي داود في «الأدب» عن أبي الدرداء مرفوعا وموقوفا، قال الحافظ العراقيّ: وإسناده ضعيف. وقال الزركشي: روي من طرق في كلّ منها مقال. وقال السيوطي في «الدرر» : الوقف أشبه.
وقال في «المقاصد» : رواه أبو داود والعسكري؛ عن أبي الدرداء مرفوعا وموقوفا، والوقف أشبه؛ وفي سنده ابن أبي مريم، ورواه أحمد؛ عن ابن أبي مريم؛ فوقفه، والرفع أكثر. ولم يصب الصّغاني حيث حكم عليه بالوضع.
وكذا قال العراقي: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سرق له حليّ فأنكر عقله! وقال الحافظ ابن حجر- تبعا للعراقي-: ويكفينا سكوت أبي داود عليه. فليس بموضوع، ولا شديد الضعف؛ فهو حسن. انتهى.
وقال القاري- بعد أن ذكر ما تقدم-: فالحديث؛ إما صحيح لذاته أو لغيره، مرتقي عن درجة الحسن لذاته إلى [الصحة] لصحة معناه؛ وإن لم يثبت مبناه.
انتهى. من المناوي على «الجامع» و «كشف الخفاء» للعجلوني.
100- ( «الحرب خدعة» ) ؛ بفتح الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة، وهي أشهر اللغات وأفصحها، حتى قال ثعلب وغيره: هي لغة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي المرّة الواحدة من الخداع، أي: الحرب خدعة واحدة؛ من تيسرت له حقّ له الظّفر.
أو المعنى: أنها تخدع أهلها؛ من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنّها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي: مضروبه.
وفيها لغة ثانية: [خدعة] بضم الخاء وإسكان الدال، ومعناها أنها تخدع الرّجال؛ أي: هي محلّ الخداع وموضعه؛ وفيها لغة ثالثة: [خدعة] بضمّ الخاء وفتح الدال، صيغة مبالغة: ك هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) [الهمزة] . والمعنى: إنّها تخدع(3/400)
101- «الحسب.. المال، والكرم.. التّقوى» .
الرّجال؛ أي: تمنّيهم الظّفر، ولا تفي لهم، كالضّحكة إذا كان يضحك بالناس.
قال العسكري: أراد بالحديث أن المماكرة في الحرب أنفع من الطعن والضرب؛ والمثل السّائر: إذا لم تغلب فاخلب. أي: اخدع.
قال العزيزي: وأصل الخدع: إظهار أمر وإضمار خلافه، يعني: الحرب الكامل إنما هو المخادعة؛ لا المواجهة، وحصول الظّفر مع المخادعة بغير خطر.
وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفّار، إلّا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان؛ فلا يجوز.
ويقع الخداع بالتعريض والتوراة واليمين وإخلاف الوعد ونحو ذلك؛ قال النووي:
اتفقوا على حلّ خداع الكفّار في الحرب كيف كان، حيث لا نقض عهد ولا أمان.
وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشّجاعة، فينبغي قدح الفكر وإعمال الرأي، واستعمال المكيدة في الحرب حسب الاستطاعة، فإن ذلك أنفع من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، كما في قوله: «الحجّ عرفة» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي في «الجهاد» ؛ عن جابر بن عبد الله، والبخاري ومسلم؛ عن أبي هريرة، والإمام أحمد؛ عن أنس بن مالك، وأبي داود؛ عن كعب بن مالك الأنصاري، وابن ماجه؛ عن ابن عباس، وعن عائشة. والبزّار في مسنده؛ عن الحسين بن علي؛ والطبراني في «الكبير» ؛ عن الحسين بن علي وعن زيد بن ثابت وعبد الله بن سلام وعوف بن مالك، وعن نعيم بن مسعود وعن النواس بن سمعان. وابن عساكر عن خالد بن الوليد؛ وهو حديث متواتر.
101- ( «الحسب: المال، والكرم: التّقوى» ) ، أي: الشيء الذي يكون به المرء عظيما عند الناس؛ هو المال، والذي يكون به عظيما عند الله؛ هو التقوى، والتفاخر بالآباء ليس واحدا منهما فلا فائدة له؛ أو المراد: إن الغني يعظم ما لا يعظم الحسيب، فكأنه لا حسب إلّا المال؛ وإنّ الكريم هو المتّقي، لا من يجود بماله ويخاطر بنفسه ليعدّ جوادا شجاعا. وقال العلقمي: الحسب- في الأصل- الشّرف بالآباء،(3/401)
102- «حسبك بالصّحّة والسّلامة داء قاتلا لابن آدم» .
وما يعده الإنسان من مفاخره، والمعنى: إنّ الفقير ذا الحسب لا يوقّر ولا يحتفل به، والغنيّ الذي لا حسب له يوقّر ويجلل في العيون؛ وقال العامري في شرح الشهاب: أشار بالخبر إلى أن الحسب الذي يفتخر به أبناء الدنيا اليوم المال، فقصد ذمّهم بذلك حيث أعرضوا عن الأحساب الخفية ومكارم الأخلاق الدينية، ألا ترى أنه أعقبه بقوله: والكرم التقوى؛ والتقوى تشمل المكارم الدينيّة والشيم المرضيّة التي فيها شرف الدارين. انتهى.
من شروح «الجامع الصغير» .
ومما ينسب للإمام الشافعي- رحمه الله تعالى-:
قيمة المرء فضله عند ذي الفض ... ل وما في يديه عند الرّعاع
فإذا ما حويت علما ومالا ... كنت عين الزّمان بالإجماع
وإذا منهما غدوت خليّا ... صرت في النّاس من أخسّ المتاع
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ مرموزا له برمز الإمام أحمد والترمذي في «التفسير» ، وابن ماجه في «الزهد» ، والحاكم في «النكاح» ؛ عن سمرة بن جندب؛ وقال الترمذي: حسن صحيح؛ وقال الحاكم: على شرط البخاري، وأقرّه الذّهبي.
لكن قيل: إنّه من حديث الحسن عن سمرة؛ وقد تكلموا في سماعه منه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
102- ( «حسبك بالصّحّة) في البدن، (والسّلامة) عن المنغّصات؛ في النفس والأهل والمال (داء قاتلا لابن آدم» ) ، لأنّ ذلك يدعوه إلى الغرور وارتكاب الشّرور، ويورثه البطر والعجب، وينسيه الآخرة، ويحبّب إليه الدّنيا لما يألفه من الشّهوات؛ «وحبّ الدّنيا رأس كلّ خطيّة» ! والتمتّع بالشّهوات المباحات يحجب القلوب عن الآخرة، وكل ذلك يسقم الدين؛ وهو دليل على عدم محبّة الله له، لأنّ المؤمن كخامة الزرع يتكفّؤها البلاء، وإذا أحبّ الله عبدا ابتلاه ليسمع تضرّعه، ويكره العفريت النّفريت الذي لا يمرض ولا يرمد.
فالمؤمن كثير المشوّشات والمنغّصات في بدنه وماله وأهله، فيمرض ويصاب غالبا، ويخلو من ذلك أحيانا ليكفّر عنه سيئاته، ولا يخلو المؤمن من قلّة أو علّة أو ذلّة.
وأمّا دوام السّلامة للعبد فيخشى منه الاستدراج؛ وهو من علامة الكفّار، لأن الغالب(3/402)
103- «حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النّار بالشّهوات» .
عليهم الصحّة ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة.
وهذا لا ينافي طلب العافية المأمور به في عدة أحاديث، لأن المطلوب العافية السليمة العاقبة مما ذكر.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» ، وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «كفى بالسّلامة داء» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإسناده ضعيف؛ قال الديلمي: وفي الباب؛ عن أنس رضي الله عنه.
103- ( «حفّت الجنّة بالمكاره) أي: أحاطت بها.
والمراد بالمكاره: ما يكرهه المرء ويشقّ عليه من القيام بحقوق العبادة على وجهها؛ كإسباغ الطّهر في الشّتاء وتجرّع الصّبر على المصائب والتسليم لأمر الله فيها واجتناب المنهيات قولا وفعلا، وأطلق عليها مكاره!! لمشقّتها على العامل وصعوبتها؛ (وحفّت النّار بالشّهوات» ) أي: ما يستلذّ من أمور الدّنيا مما منع الشرع من تعاطيه، وهذا تمثيل حسن، ومعناه يوصل إلى الجنّة بارتكاب المكاره من الجهد في الطاعة، والصبر عن الشهوة؛ كما يوصل المحجوب عن الشيء إليه بهتك حجابه، ويوصل إلى النّار بارتكاب الشهوات ...
ومن المكاره: الصبر على المصائب بأنواعها، فكلّ من صبر على واحدة قطع حجابا من حجب الجنّة، ولا يزال يقطع حجبها حتى لا يبقى بينه وبينها إلا مفارقة روحه بدنه؛ فيقال يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) [الفجر] .
قال الغزالي: بيّن بهذا الحديث أن طريق الجنّة وعر، وسبيل صعب كثير العقبات شديد المشقّات، بعيد المسافات عظيم الآفات، كثير العوائق والموانع، خفيّ المهالك والقواطع، عزيز الأعداء والقطّاع، عزيز الأتباع والأشياع؛ وهكذا يجب أن يكون.
قال ابن حجر: وهذا من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلّم وبديع بلاغته في ذمّ الشّهوات؛ وإن مالت إليها النّفوس، والحث على الطاعات؛ وإن كرهتها وشقّت عليها.
والحديث متفق عليه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. لكن للبخاري «حجبت» بدل «حفّت» في الموضعين؛ ورواه القضاعي؛ عن أبي هريرة بلفظ مسلم؛ وأخرج الإمام(3/403)
104- «الحكمة ضالّة المؤمن» .
أحمد، ومسلم، والترمذي؛ عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه الإمام أحمد في «الزهد» ؛ عن ابن مسعود موقوفا.
104- ( «الحكمة) - التي هي العلم بالأشياء على ما هي عليه، والعمل كما ينبغي.
وقال ابن دريد: كلّ كلمة وعظتك أو زجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة (ضالّة المؤمن» ) ؛ أي: بمنزلة الضّالّة التي هو ناشد لها وساع في طلبها.
والحديث ذكره في «الكشف» ؛ وقال: رواه القضاعي في مسنده مرسلا؛ عن زيد بن أسلم رفعه بزيادة: «حيث ما وجد المؤمن ضالّته فليجمعها إليه» .
ورواه الترمذي والعسكري والقضاعي أيضا؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه- وفي سندهم إبراهيم بن الفضل ضعيف-؛
ولفظ العسكري والقضاعي: «كلمة الحكمة ضالّة كلّ حكيم، فإذا وجدها فهو أحقّ بها» . ولفظ الترمذي: «الكلمة الحكيمة ضالّة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها» ؛ وقال: غريب.
ورواه العسكري أيضا عن أنس رفعه بلفظ: «العلم ضالّة المؤمن حيث وجده أخذه» .
ورواه أيضا؛ عن ابن عباس من قوله؛ بلفظ: خذوا الحكمة ممّن سمعتموها، فإنّه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرّمية من غير رام» .
وهذا عند البيهقي في «المدخل» ؛ عن عكرمة بلفظ: خذ الحكمة ممّن سمعت، فإنّ الرّجل يتكلّم بالحكمة وليس بحكيم؛ فيكون كالرّمية خرجت من غير رام» ..
وعنده أيضا؛ عن سعيد بن أبي بردة قال: كان يقال: الحكمة ضالّة المؤمن؛ يأخذها حيث وجدها. وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان يقال: العلم ضالّة المؤمن يغدو في طلبها، فإن أصاب منها شيئا حواه حتى يضمّ إليه غيره.
وفي معناه ما رواه الديلمي؛ عن علي مرفوعا: «ضالّة المؤمن العلم، كلّما قيّد حديثا طلب إليه آخر» . وللديلمي أيضا؛ عن ابن عباس مرفوعا: «نعم الفائدة الكلمة من الحكمة؛ يسمعها الرّجل فيبديها لأخيه» .(3/404)
105- «الحلال بيّن والحرام بيّن» .
وله أيضا بلا سند؛ عن ابن عمر رفعه: «خذ الحكمة؛ ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» . ويروى نحو هذا من قول علي رضي الله عنه. انتهى.
ولله در من قال:
خذ العلوم ولا تنظر لقائلها ... من أين كان، فإنّ العلم ممدوح
كدرّة أنت تلقاها بمزبلة ... ألست تأخذها؛ والزّبل مطروح!!
105- ( «الحلال) ، ضد الحرام- لغة؛ وشرعا- (بيّن) : ظاهر واضح؛ لا يخفى حله، وهو ما نص الله أو رسوله، أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه أو جنسه؛ ومنه: ما لم يرد فيه منع في أظهر الأقوال.
(والحرام بيّن» ) واضح لا تخفى حرمته، وهو ما نص الله أو رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه بعينه أو جنسه، أو بورود عقوبة أو وعيد عليه.
ثم التحريم. إمّا لمفسدة أو مضرة خفية: كالزّنا ومذكّى المجوس؛ وإما لمفسدة أو مضرة واضحة: كالسّمّ والخمر ... وتفصيله يطول.
والحديث طويل، أخرجه البخاري في «كتاب الإيمان» ، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي في «البيوع» ، وابن ماجه في «الفتن» ؛ كلهم من حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكره مطولا.(3/405)
[ (حرف الخاء) ]
(حرف الخاء) 106- «خذ الحكمة، ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» .
107- «خصلتان لا يجتمعان إلّا في مؤمن: السّخاء، وحسن الخلق» .
108- «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق» .
(حرف الخاء) 106- ( «خذ الحكمة؛ ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» ) أخرجه الدّيلمي بلا سند؛ عن ابن عمر رفعه، وقد تقدّم في «الحكمة ضالّة المؤمن» .
107- ( «خصلتان لا يجتمعان) ، مع بلوغ النّهاية فيهما؛ (إلّا في مؤمن) كامل الإيمان (: 1- السّخاء) - بالمد-: الجود والكرم والإعطاء بطيب نفس.
(و 2- حسن الخلق» ) ؛ وهو هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال الحسنة بسهولة. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» .
108- ( «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن) ، أي: كامل الإيمان؛ فلا يرد أن كثيرا من الموحدين موجودتان فيه؛ (: 1- البخل، و 2- سوء الخلق» ) . قال العلقمي: قال شيخنا: قال في «النهاية» : المراد من ذلك: اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النّهاية فيهما، بحيث لا ينفكّ عنهما؛ ولا ينفكان عنه، فأمّا من فيه بعض هذا وبعض هذا؛ وينفك عنه في بعض الأوقات! فإنّه بمعزل عن ذلك. انتهى «عزيزي» .
وفي المناوي على «الجامع الصغير» : «خصلتان لا يجتمعان» : مبتدأ(3/406)
109- «الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» .
موصوف، والخبر محذوف، أي: فيما أحدثكم به خصلتان، كقوله سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [1/ النور] . أي: فيما أوحينا إليك.
والبخل وسوء الخلق: مبتدأ تقديره: هما. وأفرد البخل عن سوء الخلق؛ وهو بعضه، وجعله معطوفا عليه يدلّ على أنه أسوؤها وأبشعها!! لأنّ البخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس.
والحديث ذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه الترمذي وأبو داود الطيالسي؛ عن أبي سعيد الخدري. وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الترمذي والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي سعيد أيضا: قال الترمذي:
غريب، لا نعرفه إلّا من حديث صدقة بن موسى. انتهى. قال الذهبي: وصدقة ضعيف؛ ضعّفه ابن معين وغيره. وقال المنذري: ضعيف. انتهى من المناوي على «الجامع الصغير» .
109- ( «الخلق كلّهم عيال الله) ؛ أي: فقراؤه، وهو الذي يعولهم.
(وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» ) بالهداية إلى الله، والتعليم لما يصلحهم، والعطف عليهم، والترحم والشفقة والإنفاق عليهم من فضل ما عنده ... وغير ذلك من وجوه الإحسان الآخروية والدنيوية.
والعادة أنّ السّيّد يحب الإحسان إلى عبيده وحاشيته، ويجازي عليه.
وفيه حثّ على فضل قضاء حوائج الخلق ونفعهم بما تيسّر؛ من علم أو مال أو جاه أو إرشاد أو نصح، أو دلالة على خير، أو إعانة أو شفاعة أو غير ذلك.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز أبي يعلى، والبزار في «مسنده» ، وكذا البيهقي في «الشعب» ؛ عن أنس. قال السيوطي كالزركشي:
سنده ضعيف؛ وأخرجه الديلمي وابن عدي؛ من حديث ابن مسعود؛ قال ابن(3/407)
110- «خير الأمور.. أوساطها» .
الجوزي: حديث لا يصح. انتهى مناوي على «الجامع» ، و «درر» .
110- ( «خير الأمور أوساطها» ) أي: التوسّط فيها بين الإفراط والتفريط في الأخلاق؛ كالكرم بين التبذير والبخل؛ والشّجاعة بين التهوّر والجبن؛ وفي الأحوال كالاعتدال بين الخوف والرّجاء، والقبض والبسط؛ وفي الاعتقاد بين التشبيه والتعطيل، وبين القدر والجبر، فكلّ إنسان مأمور أن يجتنب كلّ وصف مذموم بالبعد عنه، وأبعد الجهات والمقادير من كلّ طرفين وسطهما؛ فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة.
ويشهد لما تقدم قوله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [29/ الإسراء] . وقوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان] . وقوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) [الإسراء] . وقوله تعالى بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [68/ البقرة] .
وكذا حديث الاقتصاد؛ ولقد أجاد بعضهم حيث قال:
عليك بأوساط الأمور فإنّها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وقال الحريري:
حبّ التّناهي غلط ... خير الأمور الوسط
وقال:
خير الأمور عندنا الأوساط ... ويكره التفريط والإفراط
والحديث ذكره في «الكشف» باللّفظ المذكور، قال: وفي لفظ «أوسطها» وقال: قال ابن الغرس: ضعيف، انتهى.
وقال في «المقاصد» : رواه ابن السّمعاني في ذيل «تاريخ بغداد» ، لكن بسند فيه مجهول؛ عن علي مرفوعا.(3/408)
111- «خير الرّزق.. ما لا يطغيك ولا يلهيك» .
112- «خير العمل.. أن تفارق الدّنيا ولسانك رطب من ذكر الله» .
وللدّيلمي بلا سند؛ عن ابن عبّاس مرفوعا: «خير الأعمال أوسطها» ؛ في حديث أوّله: «دوموا على أداء الفرائض» .
وللعسكري عن الأوزاعي أنّه قال: ما من أمر أمر الله إلّا عارض الشّيطان فيه بخصلتين؛ لا يبالي أيّهما أصاب: الغلوّ، أو التقصير.
ولأبي يعلى بسند جيّد؛ عن وهب بن منبّه قال: إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء. انتهى.
111- ( «خير الرّزق ما) - يعني: الكفاف الذي- (لا يطغيك ولا يلهيك» ) ، لأنّ ذلك هو الاقتصاد المحمود، فإنّ الزّيادة ربّما تطغي الإنسان، والنّقص عن ذلك ربما يورثه السّخط؛ والمراد بالرزق: الحلال. والحديث ذكره المناوي؛ في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبرانيّ.
112- ( «خير العمل أن تفارق الدّنيا) يعني تموت (ولسانك) ؛ أي: والحال أنّ لسانك (رطب من ذكر الله» ) ، هذا مسوق للحثّ على لزوم الذّكر؛ ولو باللّسان مع عزوب القلب، إذ ذكر اللّسان خير؛ وإن كان قلبه مشغولا، فلا يشترط حضور القلب في الذّكر، ولذلك قال تلميذ لأبي عثمان البنانيّ: في بعض الأحيان يجري الذّكر على لساني؛ وقلبي غافل! فقال: اشكر الله أن استعمل جارحة منك في خير وعوّدك الذّكر، ومن عجز عن الحضور بالقلب، فترك تعويد اللّسان بالذّكر فقد أسعف الشّيطان، فتدلّى بحبل غروره. فتمّت بينهما المشاكلة والموافقة.
ولهذا قال التاج ابن عطاء الله: لا تترك الذّكر مع عدم الحضور؛ فعسى أن ينقلك منه إلى ذكر مع الحضور، ومنه إلى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور،(3/409)
113- «خيركم.. خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» .
وما ذلك على الله بعزيز.
قال ناظم «الحكم العطائيّة» :
لا تترك الذكر إذا لم تحضر ... فيه مع المولى الجليل الأكبر
فغافلة منك عن الذّكر أشدّ ... من غفلة في الذّكر يا أخا الرّشد
لكنّ أكمل الذّكر وأنفعه هو ما كان بالقلب واللّسان. أي: استحضار القلب لمعنى ما يجري على لسانه، وأكمل منه: أن يغيب عن الذّكر بالمذكور.
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ؛ عن عبد الله بن بسر- بضمّ الموحّدة وسكون المهملة- رضي الله تعالى عنه، وفي «العزيزي» : إنّه حديث ضعيف.
113- ( «خيركم) ؛ أي: من خيركم (خيركم لأهله) ؛ يعني: من خياركم وأفاضلكم: من كان معظم برّه لأهله، كما يقال: فلان أعقل النّاس، أي: من أعقلهم، فلا يصير بذلك خير النّاس مطلقا.
والأهل: قد يخصّ الزّوجة وأولادها، وقد يطلق على جملة الأقارب، فهم أولى من الأجانب.
قال ابن الأثير: هو إشارة إلى صلة الرّحم والحثّ عليها.
قال الحفني: والأولى حمله على العموم من كلّ ذي رحم.
(وأنا خيركم لأهلي» ) برّا ونفعا لهم دينا ودنيا، وكان أحسن النّاس عشرة لهم، حتى أنّه كان يرسل بنات الأنصار لعائشة يلعبن معها. وكانت إذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه. وإذا شربت شرب من موضع فمها، ويقبّلها وهو صائم. وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد؛ وهي متّكئة على منكبه. وسابقها في السّفر مرتين فسبقها وسبقته؛ ثم قال: «هذه بتلك» . وتدافعا في خروجهما من المنزل مرّة.(3/410)
114- «خيركم.. خيركم لأهلي من بعدي» .
وفي «الصحيح» : أنّ نساءه كنّ يراجعنه ... الحديث. وتهجره الواحدة منهنّ يوما إلى الليل، ودفعته إحداهنّ في صدره؛ فزجرتها أمّها؛ فقال لها:
«دعيها فإنّهنّ يصنعن أكثر من ذلك» ؛ كذا في «الإحياء» .
وجرى بينه وبين عائشة كلام؛ حتى أدخل بينهما أبا بكر حكما؛ كما في خبر «الطّبرانيّ» ، وقالت له عائشة مرّة في كلام غضبت عنده: وأنت الذي تزعم أنّك نبيّ الله!! فتبسّم، كما في خبر أبي يعلى، وأبي الشّيخ؛ عنها.
وكان يعتني بهنّ ويهتمّ بتفقّد أحوالهنّ، فكان إذا صلّى العصر دار على نسائه، فدنا منهنّ، واستقرأ أحوالهنّ، فإذا جاء اللّيل انقلب إلى صاحبة النّوبة.
وكان إذا شربت عائشة من الإناء؛ أخذه فوضع فمه على موضع فمها. رواه مسلم.
ولمّا أراد أن يحمل صفيّة بنت حييّ على بعير؛ نصب لها فخذه لتضع رجلها عليه؛ فلوت ساقها عليه.
فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلّم في تلك الملاطفة. وفي «تذكرة ابن عراق» ؛ عن الإمام مالك: يجب على الرّجل أن يتحبّب إلى أهل داره حتّى يكون أحبّ النّاس إليهم.
وذكر نحوه يوسف الصّدفي المالكي رحمهم الله تعالى.
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الترمذي في «المناقب» ؛ عن عائشة رضي الله عنها. وابن ماجه؛ عن ابن عباس. والطبراني في «الكبير» ؛ عن معاوية. وصحّحه الترمذي؛ وتمام الحديث: «وإذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه» . انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
114- ( «خيركم) ؛ أيّها الصّحب، (خيركم لأهلي) : زوجاتي وأقاربي وعيالي، (من بعدي» ) ؛ أي: من بعد وفاتي وقد قبل أكثر الصحابة وصيّته، فقابلوهم بالإكرام والاحترام.(3/411)
115- «خير النّاس.. أنفعهم للنّاس» .
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال المناوي: ورواه أيضا أبو يعلى وأبو نعيم والدّيلمي، ورجاله ثقات، ولكنّ شذّ راويه بقوله: «لأهلي» . والكلّ إنما قالوه: «لأهله» ذكره ابن أبي خيثمة. انتهى.
115- ( «خير النّاس أنفعهم للنّاس» ) بالإحسان إليهم بماله وجاهه، فإنّهم عباد الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعباده، أي: أشرفهم عنده؛ أكثرهم نفعا للنّاس، بنعمة يسديها، أو نقمة يزويها عنهم دينا ودنيا.
ومنافع الدّين أشرف قدرا وأبقى نفعا، قال بعضهم: هذا يفيد أنّ الإمام العادل خير الناس؛ أي: بعد الأنبياء لأنّ الأمور التي يعمّ نفعها، ويعظم وقعها؛ لا يقوم بها غيره، وبه نفع العباد والبلاد، وهو القائم بخلافة النّبوّة في إصلاح الخلق؛ ودعائهم إلى الحقّ، وإقامة دينهم، وتقويم أودهم، ولولاه لم يكن علم ولا عمل. انتهى «مناوي» .
والحديث أخرجه القضاعي في «مسند الشّهاب» ؛ عن جابر رضي الله عنه، وفيه عمرو بن أبي بكر السّكسكيّ الرّمليّ؛ قال في «الميزان» : واه. وقال ابن عديّ: له مناكير؛ وابن حبّان: يروي عن الثّقات الطّامات.
ثم أورد له أخبارا هذا منها. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
وفي «العزيزي» : إنه حديث حسن لغيره.(3/412)
[ (حرف الدّال) ]
(حرف الدّال 116- «الدّالّ على الخير.. كفاعله، والدّالّ على الشّرّ..
كفاعله» .
(حرف الدّال) 116- ( «الدّالّ على الخير كفاعله» ) في حصول الثّواب؛ وإن تفاوت المقدار، كما إذا أمرت شخصا بنحو صدقة، أو صوم يوم، أو صلاة، أو صلة رحم، أو غير ذلك؛ فإن حصل ذلك الخير فله مثل ثوابه، وإلّا فله ثواب دلالته.
قال القرطبيّ: ذهب بعض الأئمّة إلى أنّ المثل المذكور إنّما هو بغير تضعيف؛ لأنّ فعل الخير لم يفعله الدّالّ! وليس كما قال!! بل ظاهر اللّفظ المساواة، ويمكن أن يصار إلى ذلك، لأنّ الأجر على الأعمال إنّما هو بفضل الله؛ يهب لمن يشاء على أيّ فعل شاء، وقد جاء في الشّرع كثير. انتهى «مناوي» .
ويدخل في ذلك دخولا أوّليّا أولويّا: من يعلّم النّاس العلم الشّرعيّ، ويتحمّلون عنه؛ قاله في شرح «الإحياء» .
(والدّالّ على الشّرّ كفاعله» ) ؛ أي: لإعانته عليه، فله كفعله من الإثم؛ وإن لم يحصل بمباشرته.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه البزّار؛ عن ابن مسعود وعن أنس، والطّبرانيّ في «الكبير» ؛ عن سهل بن سعد السّاعدي وعن أبي مسعود؛ وفي إسناده ضعيف [جدا] .
وأخرجه أحمد والضّياء؛ عن بريدة بن الحصيب، وابن أبي الدّنيا في «قضاء الحوائج» ؛ عن أنس بإسناد حسن، بلفظ: «الدّالّ على الخير كفاعله، والله يحبّ إغاثة اللهفان» انتهى.(3/413)
117- «الدّعاء.. مخّ العبادة» .
118- «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ...
ورواه ابن عبد البرّ؛ عن أبي الدرداء من قوله بلفظ: الدّالّ على الخير وفاعله شريكان. ورواه التّرمذيّ؛ عن أنس وقال: غريب. ورواه مسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، وصحّحه؛ عن أبي مسعود البدريّ؛ بلفظ: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله. انتهى «كشف الخفا» .
117- ( «الدّعاء مخّ العبادة» ) ؛ أي: خالصها، لأنّ الدّاعي إنّما يدعو الله عند انقطاع أمله ممّا سواه، وذلك حقيقة التّوحيد، والإخلاص، ولا عبادة فوقها، فكان مخّها بهذا الاعتبار. وأيضا لما فيه من إظهار الافتقار، والتّبرّي من الحول والقوّة وهو سمت العبوديّة، واستشعار ذلّة البشريّة، ومتضمّن للثّناء على الله؛ وإضافة الكرم والجود إليه.
وبقية الحديث: ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [60/ غافر] .
وهذا استدلال بالآية، فإنّها تدلّ على أنّه مأمور به؛ إذا أتى به المكلّف قبل منه لا محالة، وترتّب عليه المقصود ترتّب الجزاء على الشّرط، والمسبّب على السّبب، وما كان كذلك كان أتمّ العبادة وأكملها. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث رواه الترمذي في (الدّعوات) ؛ عن أنس رضي الله عنه وقال:
غريب؛ لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح.
انتهى.
118- ( «دع ما يريبك) - بضمّ الياء، وفتحها أكثر رواية-؛ أي: اترك ما تشكّ في كونه حسنا، أو قبيحا، أو حلالا، أو حراما (إلى ما لا يريبك) ؛ أي: واعدل إلى ما لا شكّ فيه؛ يعني: ما تيقّنت حسنه وحلّه.
والأمر للنّدب، لما أنّ توقّي الشّبهات مندوب لا واجب على الأصحّ. «ومن(3/414)
فإنّ الصّدق.. طمأنينة، وإنّ الكذب.. ريبة» .
اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه» .
قال القاضي: هذا الحديث من دلائل النّبوّة، ومعجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنّه أخبر عمّا في ضمير وابصة قبل أن يتكلم به!.
والمعنى: أنّ من أشكل عليه شيء والتبس؛ ولم يتبيّن أنّه من أيّ القبيلين هو فليتأمل فيه؛ إن كان من أهل الاجتهاد، ويسأل المجتهدين؛ إن كان من المقلدين، فإن وجد ما يسكن إليه نفسه، ويطمئنّ به قلبه، وينشرح صدره، فليأخذ به، وإلّا! فليدعه، وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة؛ (فإنّ الصّدق طمأنينة) ؛ أي: يطمئنّ إليه القلب ويسكن. وفيه إضمار، أي: محلّ طمأنينة أو سبب طمأنينة.
(وإنّ الكذب ريبة» ) ؛ أي: يقلق القلب ويضطرب.
وقال الطّيبيّ: جاء هذا القول ممهّدا لما تقدّمه من الكلام. ومعناه: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشّيء فاتركه، فإنّ نفس المؤمن تطمئنّ إلى الصّدق، وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشّيء منبئ عن كونه مظنّة للباطل فاحذره، وطمأنينتك للشّيء مشعر بحقيقته؛ فتمسك به.
والصّدق والكذب يستعملان في الأقوال والأفعال، وما يحقّ أو يبطل من الاعتقاد. وهذا مخصوص بذوي النّفوس الشّريفة، القدسيّة المطهّرة عن دنس الذّنوب؛ ووسخ العيوب. انتهى.
والحاصل: أنّ الصّدق إذا مازج قلب الكامل؛ امتزج نوره بنور الإيمان، فاطمأنّ وانطفأ سراج الكذب، فإنّ الكذب ظلمة، والظّلمة لا تمازج النّور. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود الطّيالسيّ، وأبو يعلى في «مسانيدهم» ، والتّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم، وآخرون؛ عن الحسن بن(3/415)
119- «الدّنيا.. سجن المؤمن وجنّة الكافر» .
علي، وقال التّرمذيّ: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وصحّحه ابن حبّان، وهو طرف من حديث طويل. انتهى «كشف الخفاء» ، ومناوي على «الجامع الصغير» .
119- ( «الدّنيا) قال القرطبيّ: وزنها فعلى وألفها للتّأنيث، وهو من الدّنوّ بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران] غير أنّه كثر استعمالها استعمال الأسماء؛ فاستغني عن موصوفها. والمراد: الدّار الدّنيا والحياة الدّنيا الّتي تقابل الدار الآخرة؛ أو الحياة الآخرى. انتهى.
وقيل: هي ما على الأرض من الهواء والجوّ. وقيل: كلّ المخلوقات من الجواهر والأعراض، ويطلق على كلّ جزء من ذلك مجازا. انتهى عزيزي على «الجامع الصغير» .
(سجن المؤمن) ؛ بالنّسبة لما أعدّ له في الآخرة من النّعيم المقيم.
(وجنّة الكافر» ) ؛ بالنّسبة لما أمامه من عذاب الجحيم، وعما قريب يحصل في السّجن المستدام؛ نسأل الله السلامة يوم القيامة.
وقيل: المؤمن صرف نفسه عن لذّاتها؛ فكأنّه في السّجن لمنع الملاذّ عنه، والكافر سرّحها في الشّهوات؛ فهي له كالجنّة.
قال السّهرورديّ: والسّجن والخروج منه يتعاقبان على قلب المؤمن على توالي السّاعات، ومرور الأوقات، لأنّ النّفس كلما طهرت صفاتها أظلم الوقت على القلب؛ حتى ضاق وانكمد. وهل السّجن إلا تضييق وحجر من الخروج؛ فكلما همّ القلب بالتّبرّي عن مشائم الأهواء الدّنيويّة، والتخلّص عن قيود الشّهوات العاجلة؛ تشهّيا إلى الآجلة، وتنزّها في فضاء الملكوت، ومشاهدة للجمال الأزلي؛ حجزه الشّيطان المردود من هذا الباب بالاحتجاب، فتدلّى بحبل النّفس(3/416)
120- «الدّنيا.. عرض حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة.. وعد صادق، ...
الأمّارة إليه، فتكدّر صفو العيش عليه، وحال بينه وبين محبوب طبعه، وهذا من أعظم السّجون وأضيقها، فإنّ من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه.
تتمة: ذكروا أنّ الحافظ شهاب الدّين؛ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله، لما كان قاضي القضاة مرّ يوما بالسّوق، في موكب عظيم، وهيئة جميلة؛ فهجم عليه يهوديّ يبيع الزيت الحارّ، وأثوابه ملطّخة بالزّيت، وهو في غاية الرّثاثة والشّاعة، فقبض على لجام بغلته؛ وقال: يا شيخ الإسلام؛ تزعم أنّ نبيّكم قال: «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» فأي: سجن أنت فيه؟!! وأي:
جنّة أنا فيها؟!! فقال: أنا بالنّسبة لما أعدّ الله لي في الآخرة من النّعيم؛ كأنّي الآن في السّجن، وأنت بالنسبة لما أعدّ لك في الآخرة من العذاب الأليم؛ كأنّك في جنّة. فأسلم اليهوديّ. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
وقيل: إنّ صاحب القصّة هو أبو سهل الصّعلوكيّ الفقيه الخراساني، وكان ممّن جمع رياسة الدّين والدّنيا، وقيل: إنّه الإمام الشّافعي؛ ولا مانع من تعدّد الواقعة.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد؛ ومسلم في «الرّقائق» ، والتّرمذيّ؛ وابن ماجه في «الزهد» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، والطّبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ عن سلمان، والبزّار؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
120- ( «الدّنيا عرض حاضر) ؛ أي: متاع عاجل (يأكل منها البرّ والفاجر) : الطائع والعاصي.
(والآخرة وعد) من الله (صادق) ؛ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) [آل عمران] .(3/417)
يحكم فيها ملك عادل، يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدّنيا، فإنّ كلّ أمّ يتبعها ولدها» .
121- «الدّنيا.. كلّها متاع، وخير متاعها: المرأة الصّالحة» .
(يحكم فيها ملك عادل) ؛ لا يتصوّر منه الجور والظلم؛ (يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.
فكونوا أبناء الآخرة) ؛ أي: عاملين بأعمال الآخرة وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) [الإسراء] .
(ولا تكونوا أبناء الدّنيا) ؛ أي: مشتغلين بها، منهمكين فيها، بحيث تشغلكم عن الآخرة، وعما يقرّبكم إلى الله تعالى.
(فإنّ كلّ أمّ يتبعها ولدها» ) فمن كان من أبناء الدّنيا مشتغلا بها معرضا عن الله والآخرة؛ فذلك حظّه وهو في الآخرة من الخاسرين، ومن كان من أبناء الآخرة، مشتغلا بما يقرّبه إلى الله؛ متزوّدا لآخرته؛ فعسى أن يكون من المفلحين.
ولله درّ من قال:
عتبت على الدّنيا لرفعة جاهل ... وخفض لذي علم، فقالت: خذ العذرا
بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم ... وأهل التّقى أولاد للضّرّة الآخرى
121- ( «الدّنيا كلّها متاع) أي: شيء يتمتّع به؛ أي: ينتفع به أمدا قليلا.
وعبّر بلفظ المتاع! إفهاما لخسّتها، لكونه من أسماء الجيفة؛ الّتي هي للمضطرّ يأخذ منها قدر الحاجة والضرورة.
(وخير متاعها المرأة الصّالحة» ) التي فسّرت في الحديث؛ بقوله:
«الّتي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته؛ في نفسها، وماله» .
وقيّد بالصّالحة!! إيذانا بأنّها شرّ المتاع؛ لو لم تكن صالحة، وهو كذلك.(3/418)
122- «الدّنيا.. مزرعة الآخرة» .
فشرّ متاع الدّنيا المرأة غير الصالحة. قال الطّيبيّ: المتاع من التمتّع بالشّيء؛ وهو الانتفاع به، وكلّ ما ينتفع به من عروض الدّنيا: متاع. والظّاهر أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر: بأنّ الاستمتاعات الدّنيويّة كلّها حقيرة؛ ولا يؤبه لها، وذلك أنّه تعالى لمّا ذكر أصنافها وملاذّها في آية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أتبعه بقوله ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا. ثمّ قال بعده وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) [آل عمران] . انتهى.
وفيه إيماء إلى أنّ المرأة أطيب حلال في الدّنيا، أي: لأنّه سبحانه زيّن الدّنيا بسبعة أشياء ذكرها بقوله زُيِّنَ لِلنَّاسِ.. الآية؛ وتلك السّبعة هي ملاذّها وغاية آمال طلّابها؛ وأعمّها زينة وأعظمها شهوة النّساء، لأنّها تحفظ زوجها عن الحرام، وتعينه على القيام بالأمور الدّنيويّة والدّينيّة، وكلّ لذّة أعانت على لذّات الآخرة فهي محبوبة مرضية لله تعالى؛ فصاحبها يلتذّ بها من جهة تنعّمه وقرّة عينه بها، ومن جهة إيصالها إلى مرضاة ربّه، وإيصاله إلى لذّة أكمل منها. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، في «الرّضاع» ، والنّسائي في «النّكاح» ، وابن ماجه وغيره؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما رفعه. ولم يخرّجه البخاريّ!!.
122- ( «الدّنيا مزرعة الآخرة» ) الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الدّيلميّ في «الفردوس» ، وذكره العجلوني في «الكشف» .
وقال: قال في «المقاصد» : لم أقف عليه. مع إيراد الغزالي له في «الإحياء» !!.
وقال القاري: قلت: معناه صحيح، مقتبس من قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [20/ الشورى] . وقال ابن الغرس: لا يعرف.
وأنشدوا:(3/419)
123- «دوروا مع كتاب الله حيثما دار» .
124- «الدّين.. النّصيحة» .
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التّفريط في زمن البذر
ورواه في «الفردوس» بلا سند، عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: «الدّنيا قنطرة الآخرة» ، وذكره الصّغاني بإسقاط الآخرة «فاعبروها؛ ولا تعمروها» .
وفي «الضّعفاء» للعقيلي و «مكارم الأخلاق» لابن لال؛ عن طارق بن أشيم رفعه: «نعمت الدّار الدّنيا لمن تزوّد منها لآخرته» ... الحديث.
وذكره الحاكم وصحّحه، ولكن تعقّبه الذّهبيّ بأنّه منكر، وراويه عبد الجبّار لا يعرف.
ولابن عساكر، عن يحيى بن سعيد؛ قال: كان عيسى عليه الصّلاة والسلام يقول: اعبروا الدّنيا ولا تعمروها، وحبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة، والنّظر يزرع في القلب الشّهوة» . انتهى كلام «الكشف» .
123- ( «دوروا مع كتاب الله حيثما دار» ) المراد- كما في حديث آخر-:
«أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه، فإنّه الكتاب المبين والصراط المستقيم» .
وهذا الحديث يوضّحه ما رواه الطّبراني عن معاذ: «خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدّين؛ فلا تأخذوه، ألا إنّ رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا وإنّ الكتاب والسّلطان سيفترقان؛ فلا تفارقوا الكتاب» .
انتهى.
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح.
124- ( «الدّين النّصيحة» ) أي: عماده وقوامه النّصيحة، على وزان «الحجّ عرفة» ، فبولغ في النّصيحة حتى جعل الدّين كله إيّاها.(3/420)
.........
وهي- لغة-: الإخلاص والتّصفية. وشرعا-: إخلاص الرّأي من الغشّ للمنصوح، وإيثار مصلحته، ومن ثمّ كانت هذه الكلمة مع وجازة لفظها كلمة جامعة؛ معناها: حيازة الخير للمنصوح له.
وليس في كلام العرب أجمع منها، ومن كلمة الفلاح لخيري الدنيا والآخرة.
ودلت هذه الجملة على أنّ النّصيحة تسمّى «دينا» و «إسلاما» وعلى أنّ الدّين يقع على العمل كما يقع على القول.
قال ابن بطّال: والنّصيحة فرض يجزئ فيه من قام به ويسقط عن الباقين.
قال:
والنّصيحة واجبة على قدر الطّاقة؛ إذا علم الناصح أنّه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى! فهو في سعة. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: ففي «صحيح البخاري» : أنّه صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له» . وهو يدلّ على تعليق الوجوب بالاستنصاح؛ لا مطلقا. ومفهوم الشّرط حجّة في تخصيص عموم المنطوق!؟
فجوابه: أنّه يمكن حمل ذلك على الأمور الدّنيويّة؛ كنكاح امرأة ومعاملة رجل ... ونحو ذلك. والأوّل يحمل بعمومه في الأمور الدّينيّة الّتي هي واجبة على كلّ مسلم. والله أعلم.
وبقيّة الحديث: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمّة المسلمين وعامّتهم» . أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث تميم الدّاريّ مرفوعا.
ورواه البخاريّ في الترجمة معلّقا؛ فقال: باب قول النّبي صلى الله عليه وسلم: «الدّين النّصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم» .
وعزاه ابن حجر إلى مسلم، وأبي داود، وأحمد موصولا، وإلى البخاريّ.(3/421)
125- «دين المرء.. عقله، ومن لا عقل له لا دين له» .
وعزاه النّوويّ في «الأذكار» إلى مسلم.
ونسبه النّجم لأحمد عن ابن عبّاس، وله ولمسلم وأبي داود والنّسائي؛ عن تميم الدّاريّ. وللتّرمذيّ والنّسائيّ؛ عن أبي هريرة.
وذكره في «الجامع الصّغير» مقتصرا على الجملة الّتي في المتن هنا رامزا لها برمز البخاريّ في «التّاريخ» ؛ عن ثوبان «مولى النّبيّ صلى الله عليه وسلم» ؛ والبزّار في «مسنده» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب. قال الهيثمي: رجاله رجال الصّحيح، وهو في «الأربعين النّوويّة» ؛ الحديث السّابع. انتهى من المناوي وغيره.
125- ( «دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له» ) لأنّ العقل هو الكاشف عن مقادير العبوديّة، ومحبوب الله ومكروهه، وهو الدّليل على الرّشد، والناهي عن الغيّ، وكلّما كان حظّ العبد من العقل أوفر فسلطان الدّلالة فيه أبعد، فالعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فأتمر بما أمر وانزجر عما نهاه؛ فتلك علامة العقل.
وصورة العبادة قد تكون عادة، ومن ثمّ كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم إذا ذكر له عبادة رجل سأل عن عقله. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه أبو الشّيخ بن حيّان في كتاب «الثّواب على الأعمال» ، وابن النجار في «تاريخ بغداد» ؛ عن جابر؛ ورواه عنه الدّيلمي أيضا.
وفي «العزيزي» : إنّه حديث ضعيف.(3/422)
[ (حرف الذّال) ]
(حرف الذّال) 126- «ذكر الله.. شفاء القلوب» .
127- «الذّنب لا ينسى، ...
(حرف الذّال) 126- ( «ذكر الله) من تسبيح وتهليل (شفاء القلوب» ) من أمراضها، أي:
هو دواء لها مما يلحقها من ظلمة الذّنوب، ويدنّسها من درن الغافلة، ولهذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلّم أكمل النّاس ذكرا، بل كان كلامه كلّه في ذكر الله وما والاه؛ أمره ونهيه وتشريعه وأخباره عن أسماء الرّبّ، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، ووعده ووعيده، وتمجيده وتسبيحه وتحميده، ورغبته ورهبته ذكرا منه بلسانه، وصمته ذكر منه بقلبه في كل أحيانه.
تنبيه: قال الرّاغب: ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته فيتولّد منه الهيبة والإجلال، وتارة لقدرته فيتولّد منه الخوف والحزن، وتارة لفضله ورحمته فيتولّد منه الرّجاء، وتارة لنعمته فيتولّد منه العزّ، فحقّ المؤمن ألاينفكّ أبدا عن ذكره على أحد هذه الوجوه. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره.
127- ( «الذّنب) أي: الإثم، بمعنى: المؤثم، أي: ما يحصل به لوم، أو إثم على فاعله. (لا ينسى) ، بل هو محفوظ في صحف الملائكة، ولا بدّ أن يجازى عليه؛ إن لم يحصل عفو؛ لا يضلّ ربّي ولا ينسى.
ونّبّه به على شيء دقيق، يغلط النّاس فيه كثيرا؛ وهو أنّهم لا يرون تأثير الذّنب؛ فينساه الواحد منهم، ويظنّ أنّه لا يضرّه ذلك، وأنّه كما قال:(3/423)
والبرّ لا يبلى، والدّيّان لا يموت.. فكن كما شئت» .
إذا لم يغبّر حائط في وقوعه ... فليس له بعد الوقوع غبار
قال ابن القيّم: وسبحان الله؛ ما أهلكت هذه البليّة من الخلق، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة!! وما أكثر المغترّين بها من العلماء فضلا عن الجهّال، ولم يعلم المغترّ أنّ الذّنب ينقض؛ ولو بعد حين، كما ينقض السّمّ والجرح المندمل على دغل.
(والبرّ) - بالكسر-: الخير والفضل (لا يبلى) أي: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باق عند الله تعالى. وقيل: أراد الإحسان؛ وفعل الخير لا يبلى ثناؤه، وذكره في الدّنيا والآخرة، فهو بمنزلة الثّوب الجديد الذي لا يفنى ولا يتغيّر. (والدّيّان لا يموت) ، بل هو سبحانه حيّ باق، عالم بأحوال عباده فيجازيهم عليها.
وإذا علمت هذا (فكن كما شئت» ) من أحوال وأفعال، خير؛ أو شرّ، فإنّ الدّيّان يجازيك عليها، ففيه وعيد شديد وتهديد، وفيه جواز إطلاق الدّيّان على الله لو صحّ الخبر.
وفي رواية عبد الرزاق وغيره: «اعمل ما شئت، كما تدين تدان» ، أي: كما تجازي تجازى. يقال: دنته بما صنع؛ أي: جزيته. ذكره الدّيلميّ.
ومن مواعظ الحكماء: عباد الله؛ الحذر الحذر، فو الله لقد ستر، حتى كأنّه غفر، ولقد أمهل حتى كأنّه أهمل. انتهى «زرقاني» .
والحديث ذكره في «المواهب» ؛ وقال رواه الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ، وأبو نعيم عن عمر بن الخطاب، وفيه محمد بن عبد الملك الأنصاري ضعيف.
وقد رواه عبد الرزّاق في «جامعه» ، والبيهقيّ في «الزّهد» ؛ وفي «الأسماء والصفات» ، له عن أبي قلابة رفعه مرسلا: «البرّ لا يبلى ... الخ» . ووصله أحمد في «الزّهد» ؛ فرواه عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء من قوله لكنّه منقطع مع وقفه.(3/424)
128- «ذهب حسن الخلق بخير الدّنيا والآخرة» .
129- «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» .
وللدّيلمي عن أنس رفعه: الذّنب شؤم على غير فاعله؛ إن عيّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه» . انتهى زرقاني رحمه الله تعالى.
128- ( «ذهب حسن الخلق) الذي جاء تفسيره في حديث آخر بقوله: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك» ، وقد مرّ الكلام على حسن الخلق غير مرّة.
(بخير الدّنيا والآخرة» ) وهو أثقل ما يوضع في الميزان، وهو الدّين كما جاء ذلك في أحاديث أخر، وهذا الحديث قاله النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لأمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان «إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنها» حين قالت له: يا رسول الله؛ أرأيت المرأة يكون لها زوجان في الدّنيا؛ فتموت، ويموتان ويدخلون الجنة، لأيهما تكون هي؟ قال: لأحسنهما خلقا كان عندها في الدّنيا؛ يا أمّ حبيبة، ذهب حسن الخلق بخير الدّنيا والآخرة» .
قال العراقيّ: أخرجه البزّار، والطبراني في «الكبير» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» بإسناد ضعيف؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
129- ( «ذو) أي: صاحب (الوجهين) : هو الذي يأتي كلّ قوم بما يرضيهم؛ خيرا كان أو شرّا، فيظهر لأهل المنكر أنّه راض عنهم؛ فيستقبلهم ببشر منه وترحيب. ويظهر لأهل الحقّ أنّه عنهم راض، فيريد إرضاء كلّ فريق منهم، ويظهر أنّه معهم؛ وإن كان ليس كذلك باطنا. كذا في «الشهاب الخفاجي» .
وقال ابن حجر: ذو اللّسانين هو: ذو الوجهين الذي لا يكون عند الله وجيها.
ثم قال: قال الغزالي: ذو اللّسانين: من يتردّد بين متعاديين؛ ويكلّم كلّا بما يوافقه، وقلّ من يتردّد بين متعاديين إلّا وهو بهذه الصفة! وهذا عين النّفاق.
ثم قال الغزالي: واتفقوا على أنّ ملاقاة اثنين بوجهين نفاق. وللنفاق علامات(3/425)
.........
كثيرة؛ وهذه من جملتها، ثم قال:
فإن قلت: فبماذا يصير ذا لسانين! وما حدّ ذلك؟ فأقول: إذا دخل على متعاديين وجامل كلّ واحد منهما؛ وكان صادقا فيه لم يكن منافقا، ولا ذا لسانين.
فإنّ الواحد قد يصادق متعاديين؛ ولكنّ صداقته ضعيفة لا تنتهي إلى حدّ الأخوّة، إذ لو تحققت الصداقة لا قتضت معاداة الأعداء.
نعم؛ لو نقل كلام كلّ واحد إلى الآخر فهو ذو لسانين، وذلك شرّ من النّميمة لأنّه يصير نمّاما بمجرّد نقله من أحد الجانبين.
فإذا نقل من كلّ منهما؛ فقد زاد على النميمة.
وإن لم ينقل كلاما؛ ولكن حسّن لكلّ واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه؛ فهو ذو لسانين أيضا.
وكذا إن وعد كلّا منهما بأنّه ينصره، أو أثنى على كلّ في معاداته، أو على أحدهما مع ذمّه له؛ إذا خرج من عنده، فهو ذو لسانين في كلّ ذلك. انتهى من «الزواجر» .
وفي «الشهاب الخفاجي» أنّه يقال له «ذو الوجهين» و «ذو اللّسانين» ، ويقال له «ذو الأوجه» كما قال:
وكم من فتى يعجب النّاظرين ... له ألسن وله أوجه
وهذا القول مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد تثنية الوجه الّذي هو العضو المخصوص على الحقيقة، لأنّ استحالة ذلك في الإنسان معلوم ضرورة.
وإنّما أراد ذمّ المنافق الّذي ظاهره يخالف باطنه، وحاضره يضادّ غائبه، فكأنّه يلقى أخاه في مشهده بصفحة المودّة، ويتناوله في مغيبه بلسان الذمّ والعصبيّة.
فشبّه عليه الصلاة والسلام هاتين الحالتين لاختلافهما بالوجهين المختلفين، لتباين ما بينهما. وقوله (لا يكون عند الله وجيها» ) ! أي: ذا قدر ومنزلة. يعني:(3/426)
.........
أنّ الله لا يرضاه ولا يحبّه لقباحة فعله، لما يتفرّع عليه من الفساد بين العباد.
أما لو فعل ذلك لإصلاح ذات البين وإزالة ضغائن القلوب.. ونحو ذلك! فهو أمر حسن ليس داخلا فيما مرّ.
وإذا كان «ذو الوجهين» هذا حاله ف «ذو الأوجه» معلوم بطريق الأولى، وبين الوجه والوجيه جناس اشتقاق كقوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [43/ الروم] .
والحديث ذكره القاضي عياض في «الشفاء» ، قال الشهاب الخفاجي: هذا حديث رواه أبو داود عن عمّار بلفظ: «ذو الوجهين وذو اللّسانين في النّار.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه؛ عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ من شرّ النّاس ذا الوجهين؛ الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» أخرجه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه؛ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من كان ذا لسانين في الدّنيا؛ جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة» . انتهى.
وفي رواية الطبراني في «الأوسط» عن أبي سعيد: «ذو الوجهين في الدّنيا يأتي يوم القيامة له وجهان من نار» . وأخرج الشيخان وغيرهما؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون النّاس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار النّاس في هذا الشّأن أشّدهم له كراهية، وتجدون شرّ النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» انتهى. من «الزواجر» . وقد عدّ ذلك من الكبائر! فانظره.(3/427)
[ (حرف الرّاء) ]
(حرف الرّاء) 130- «رأس الحكمة.. مخافة الله» .
(حرف الرّاء) 130- ( «رأس الحكمة مخافة) - وفي رواية: خشية- (الله» ) ومعنى كون ذلك رأسا أنّه أصل ينبغي أن يترتّب عليه الثمرات؛ أي: أصل الحكمة وأسّها الخوف منه تعالى، لأنّ الحكمة تمنع النّفس عن المنهيّات، والشّهوات، والشّبهات، ولا يحمل على العمل بها إلا الخوف منه تعالى، فيحاسب النفس على كل خطرة ونظرة ولذّة، ولأنّ الخشية تدعوه إلى الزّهد في الدّنيا، فيفرّغ قلبه، فيعوّضه الله في قلبه حكمة ينطق بها، فالخوف سبب وأصل لورود الحكم.
والحكمة: العلم بأحوال الموجودات على ما هي عليه بقدر الطّاقة البشريّة، ويطلق على المعلومات، وعلى إحكام الأمور وسلامتها من الآفات، وعلى منع النّفس من الشهوات.. وغير ذلك. وأوثقها العمل بالطّاعات؛ بحيث يكون خوفه أكثر من رجائه؛ فيحاسب نفسه على كل خطرة ونظرة.
ومخافة الله تعالى آكد أسباب النّجاة. قال الغزالي: وقد جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرّحمة والعلم والرّضوان، وناهيك بذلك!! فقال تعالى هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] ، وقال إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) [البينة] . انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال أخرجه الحكيم الترمذي، وأبو بكر بن لال في «المكارم» ، والقضاعيّ في «الشّهاب» ، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ورواه عنه أيضا البيهقيّ في «الشّعب» وضعّفه، انتهى من المناوي. وفي العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره.(3/428)
131- «رأس الدّين.. الورع» .
132- «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى.. التّودّد إلى النّاس» .
131- ( «رأس الدّين) ؛ أي: قوّة الدّين واستحكام قواعده الّتي بها ثباته (الورع» ) بالكفّ عن أسباب التوسّع في الأمور الدّنيويّة؛ صيانة لدينه، وحراسة لعرضه، ومروءته والمتورّع دائم المراقبة للحقّ؛ حذرا من مزج حقّ بباطل، وبذلك قوام الدّين ونظامه.
قال يحيى بن معاذ: كيف يكون زاهدا من لا ورع له!!. تورّع فيما ليس لك ثمّ ازهد فيما لك!
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن عديّ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. وفي «العزيزي» إنّه حديث حسن لغيره.
132- ( «رأس العقل) ؛ أي: ثمرة العقل الكامل (بعد الإيمان بالله تعالى:
التّودّد إلى النّاس» ) ؛ أي: التسبّب في محبّة النّاس له؛ ولو عدوّا بالبشر، والطلاقة، والهداية، والإحسان، والزّيادة، ولا يكون قصده ذلك؛ أي المحبة؛ بل الأكمل أن يقصد بالتودّد القيام بحقّهم، وإن ترتب عليه محبتهم له وتعظيمه، لكنّه يكون في غاية الحذر من العدوّ باطنا، وربما كان إكرامه والتودّد إليه سببا في انقلاب عداوته محبّة. قال الشاعر:
إلق العدوّ بوجه باسم طلق ... واجعل له في الحشا جيشا يحاربه
والحديث ذكره في «كشف الخفاء» ، وقال: رواه البيهقيّ في «الشعب» والعسكريّ والقضاعيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه، ورواه أبو نعيم؛ عن أنس وعليّ.
ورواه البيهقيّ؛ عن علي بن زيد مرسلا، وزاد فيه: «وما يستغني رجل عن مشهورة، وإنّ أهل المعروف في الدّنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإنّ أهل(3/429)
133- «رحم الله عبدا قال خيرا.. فغنم، أو سكت.. فسلم» .
المنكر في الدّنيا هم أهل المنكر في الآخرة» . قال البيهقي: إنّه المحفوظ.
ورواه العسكري أيضا عن علي بن زيد بن جدعان بلفظ: و «لن يهلك» بدل قوله: «وما يستغني» . وقال الغدّانيّ: إنّ هشيما حدّث به الرّشيد فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ورواه العسكري أيضا عن جابر بن عبد الله رفعه مثل الذي قبله، وزاد:
«وما سعد أحد برأيه؛ ولا شقي عن مشورة، وإذا أراد الله بعبد خيرا فقّهه في دينه؛ وبصّره عيوبه» . انتهى ملخّصا.
ثمّ قال: وقال ابن العرس: قال شيخنا: حديث حسن لغيره.
قلت: وأورده في «الجامع الصغير» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعزاه للبزّار والبيهقي. زاد الطّبراني؛ من حديث علي: «واصطناع الخير إلى كلّ برّ وفاجر» .
وعند الطّبراني؛ من حديث علي أيضا بلفظ: «رأس العقل بعد الإيمان التّحبّب إلى النّاس» . انتهى.
ورواه الدّيلمي عن ابن عباس بلفظ: رأس العقل التّحبّب إلى النّاس في غير ترك الحقّ» . انتهى كلام «كشف الخفا» مع حذف شيء منه.
133- ( «رحم الله عبدا قال خيرا) ؛ كالذّكر والعلم والموعظة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، (فغنم) الأجر والذّكر الجميل، (أو سكت) عن شوء؛ (فسلم» ) من وباله وما يندم عليه بسبب صمته.
قال الماوردي: يشير به إلى أنّ الكلام ترجمان يعبّر عن مستودعات الضّمائر، ويخبر بمكنونات السّرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على دفع شوارده، فحقّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه؛ أو الإقلال منه.
قال علي- كرّم الله وجهه-: اللّسان معيار إطاشة الجهل وأرجحة العقل.(3/430)
134- «رضيت لأمّتي ما رضي لها ابن أمّ عبد» .
قال ابن عربي: أمراض النّفس قوليّة وفعليّة، وتفاريع القولية كثيرة، لكن عللها وأدويتها محصورة في أمرين:
الأوّل: ألاتتكلّم إذا اشتهيت أن تتكلّم.
والثّاني: ألاتكلم إلا فيما إن سكتّ عنه عصيت، وإلّا! فلا، وإيّاك والكلام عند استحسان كلامك، فإنّه حالتئذ من أكبر الأمراض، وماله دواء إلّا الصّمت، إلّا أن تجبر على رفع السّتر، وهذا هو الضّابط. انتهى من المناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الشّفا» للقاضي عياض، و «الجامع الصغير» للسيوطي، وقال: أخرجه ابن المبارك في «الزّهد» ، وكذا الخرائطي في «مكارم الأخلاق» ؛ عن خالد بن أبي عمران مرسلا.
ورواه أبو الشّيخ ابن حيان؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه.
ورواه عنه أيضا الدّيلمي، ثمّ قال: وفي الباب عن أنس.
ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس بن مالك رفعه، وعن الحسن البصري مرسلا بلفظ: «رحم الله امرأ تكلّم فغنم؛ أو سكت فسلم» .
قال الحافظ العراقي في سند المرسل: رجاله ثقات، والمسند فيه ضعف.
قال الشّهاب الخفاجي: وله شواهد وروايات تقوّيه وتصحّحه.
134- ( «رضيت لأمّتي ما) ؛ أي: كل شيء (رضي لها) به أبو عبد الرحمن عبد الله (ابن) مسعود الهذليّ، ويقال له: ابن (أمّ عبد) الهذليّة؛
أسلم قديما، وشهد المشاهد كلّها، وهاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين.
وكان النّبي صلى الله عليه وسلّم يقرّبه؛ ولا يحجبه، وهو صاحب سواكه ونعليه وطهوره، وبشّره بالجنّة.(3/431)
135- «رياض الجنّة.. المساجد» .
ولكونه شبيها به صلى الله عليه وسلّم في سمته وأخلاقه ورحمته على الأمة وبذل النّصح لها رضي بما يرضاه للأمّة، وكان نحيفا قصيرا جدا، طوله نحو ذراع.
ولي قضاء الكوفة وما يليها في خلافة عمر، ومات بها؛ أو بالمدينة سنة:
اثنتين وثلاثين، عن بضع وستين سنة. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
ورواه عنه البزّار وزاد: «وكرهت لها ما كره ابن أمّ عبد» .
قال الهيثمي: وفيه محمد بن حميد الرّازي، وهو ثقة، وبقيّة رجاله وثقوا.
وفي العزيزي: إسناده صحيح.
135- ( «رياض الجنّة) ؛ جمع روضة: وهي الموضع المعجب بالزّهر، سمّيت به لاستراضة الماء السّائل إليها (المساجد» ) ؛ لأنّ العبادة فيها سبب للحصول في رياض الجنّة.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي الشّيخ (ابن حيان) ، وله شاهد عند التّرمذي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رفعه:
«إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا» قيل: وما رياض الجنّة؟ قال: «المساجد» .
قيل: وما الرّتع؟ قال: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر» .(3/432)
[ (حرف الزّاي) ]
(حرف الزّاي) 136- «زر غبّا.. تزدد حبّا» .
(حرف الزّاي) 136- ( «زر) ؛ يا أبا هريرة أخاك (غبّا) - منصوب على الظرفية- أي: وقتا بعد وقت، ولا تلازم زيارته كل يوم (تزدد) عنده (حبّا» ) .
وبقدر الملازمة تهون عليه و «حبّا» : منصوب على التّمييز.
قال بعضهم: فالإكثار من الزّيارة مملّ، والإقلال منها مخلّ. ونظم البعض هذا المعنى؛ فقال:
عليك بإغباب الزّيارة إنّها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
فإنّي رأيت الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا كان ممسكا
وقال آخر:
وقد قال النّبيّ وكان يروي:
«إذا زرت الحبيب فزره غبّا»
وقال آخر:
أقلل زيارتك الصّدي ... ق يكون كالثّوب استجدّه
وأملّ شيء لامرئ ... أن لّا يزال يراك عنده
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البزّار في «مسنده» ، والطّبراني في «الأوسط» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي ذر.
والطّبراني في «الكبير» والحاكم؛ عن حبيب بن مسلمة الفهري.
والطّبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي. والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب، والخطيب؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(3/433)
.........
زاد في «الكشف» : وأخرجه أبو نعيم، والعسكري في «الأمثال» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أيضا أنس وجابر وابن عباس وعلي وأبو الدرداء وغيرهم، حتى قال ابن طاهر: إن ابن عدي أورده في أربعة عشر موضعا من «كامله» كلها معلّلة، وضعّفها كلّها، وأفرد أبو نعيم طرقه.
ثمّ الحافظ ابن حجر في «الإنارة بطرق غبّ الزيارة» .
وقال في «المقاصد» - وتبعه النّجم بعد ذكرهما طرقه-: وبمجموعها يتقوّى الحديث؛ وإن قال البزّار: «إنّه ليس فيه حديث صحيح» ، فهو لا ينافي ما قلناه.
انتهى ونحوه في المناوي على «الجامع الصغير» .(3/434)
[ (حرف السّين) ]
(حرف السّين) 137- «السّعيد.. من وعظ بغيره» .
(حرف السّين) 137- ( «السّعيد) المبارك المرضيّ عند الله وعند الناس (من وعظ بغيره» ) ؛ أي: تصفّح أفعال غيره فاقتدى بأحسنها، وانتهى عن سيّئها. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال الزّرقاني: أي تأمّل عواقب الأمور فلم يفعل ما يضرّه لما رأى ما أصاب غيره من فعلها. قال الشّاعر:
إنّ السّعيد له من غيره عظة ... وفي التّجارب تحكيم ومعتبر
وقال حجّة الإسلام الغزاليّ: المراد أنّ الإنسان يشاهد من خبائث من اضطر إلى مرافقته وأحواله وصفاته ما يستقبحه فيجتنبه. قيل لعيسى عليه الصّلاة والسّلام: من أدّبك؟ فقال: ما أدّبني أحد، رأيت جهل الجاهل فجانبته.
قال الحجّة: ولقد صدق، فلو اجتنب النّاس ما يكرهونه من غيرهم لكملت آدابهم؛ واستغنوا عن مؤدّب، فاطّلع في القبور واعتبر بالنّشور، وانظر إلى مصارع آبائك وفناء إخوانك. انتهى «مناوي» .
قال الزّرقاني: ومفهومه: والشّقيّ من وعظ به غيره.
وهذا الحديث رواه الدّيلمي؛ عن عقبة بن عامر، والعسكريّ؛ عن زيد بن خالد بهذا اللفظ مختصرا، وصحّحه الحافظ وشيخه العراقيّ؛ خلافا لقول ابن الجوزي في أمثاله «لا يثبت» !!
وأخرجه العسكري والقضاعي والبيهقي في «المدخل» ؛ عن ابن مسعود رفعه بزيادة: «والشّقيّ من شقي في بطن أمّه» . ورواه «مسلم» عنه موقوفا بالزّيادة.(3/435)
138- «السّفر.. قطعة من العذاب» .
139- «سيّد القوم.. خادمهم» .
وللبزّار بسند صحيح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رفعه: «السّعيد من سعد في بطن أمّه، والشّقيّ من شقي في بطن أمّه» . انتهى كلام الزرقاني.
138- ( «السّفر قطعة من العذاب» ) ؛ أي: جزء منه؛ لما فيه من التّعب ومعاناة الرّيح والشّمس والبرد والخوف والخطر وأكل الخشن وقلّة الماء والزّاد وفراق الأحبّة.
ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث ابن عمر مرفوعا: «سافروا تصحّوا» ؛ لأنّه لا يلزم من الصّحّة بالسّفر؛ لما فيه من الرّياضة؛ ألايكون قطعة من العذاب؛ لما فيه من المشقّة!! فصار كالدّواء المرّ المعقب للصّحّة، وإن كان في تناوله الكراهة!. انتهى «عزيزي» .
وبما تقرّر علم أنّ المراد العذاب الدنيويّ الّذي هو الألم النّاشئ عن المشقّة:
لما يحصل بذلك من ترك المألوف أو نقصه؛ يدل له بقيّة الحديث: «يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه؛ فليعجّل الرّجوع إلى أهله» .
أخرجه الإمام مالك في آخر «الموطّأ» ، والإمام أحمد، والشّيخان، وابن ماجه: كلهم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ولله درّ من قال:
وإنّ اغتراب المرء من غير خلّة ... ولا همّة يسمو بها لعجيب
وحسب الفتى ذلّا؛ وإن أدرك العلا ... ونال الثّريّا: أن يقال غريب
لطيفة: لمّا جلس إمام الحرمين للتّدريس محلّ أبيه بعد موته سئل: لم كان السّفر قطعة من العذاب؟! فأجاب على الفور: لأنّ فيه فراق الأحباب. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
139- ( «سيّد القوم خادمهم» ) ؛ لأنّ السّيّد هو الّذي يفزع إليه في النّوائب(3/436)
140- «السّيوف.. مفاتيح الجنّة» .
فيحمل الأثقال، فلمّا تحمّل الخادم عنهم الأمور وكفاهم المؤنة وقام بأعباء ما لا يطيقونه؛ كان سيّدهم بهذا الاعتبار.
ف «خادم» : مبتدأ مؤخّر، وأصله: خادم القوم كسيّدهم، فبولغ فيه بالقلب المكاني، وبحذف أداة التّشبيه؛ حتّى جعل السّيّد خادما.
قال الزّرقاني: رواه أبو عبد الرحمن السّلمي في كتاب «آداب الصّحبة» له؛ عن عقبة بن عامر رفعه، وفي سنده ضعف أو انقطاع، ورواه غيره أيضا كابن عساكر؛ من حديث ابن عبّاس؛ عن جرير مرفوعا، وأبو نعيم في «الحلية» بسند ضعيف جدّا مع انقطاعه؛ عن أنس رفعه بلفظ: «ويح الخادم في الدّنيا! سيّد القوم في الآخرة!» . والحاكم في «تاريخه» .
ومن طريقه البيهقي والدّيلمي؛ عن سهل بن سعد رفعه: «سيّد القوم في السّفر خادمهم، فمن سبقهم لخدمة لم يسبقوه بعمل إلّا الشّهادة» .
وعزاه الديلميّ للتّرمذيّ وابن ماجه؛ عن أبي قتادة فوهم؛ أفاده السّخاوي.
انتهى زرقاني على «المواهب» .
140- ( «السّيوف) ؛ أي: سيوف الغزاة في سبيل الله (مفاتيح الجنّة» ) ؛ أي: سبب لفتح الجنّة يوم القيامة والدّخول فيها، ومعناه: أنّ الضّرب بها ينتج دخول الجنّة مع السّابقين؛ لأنّ أبواب الجنّة مغلقة لا يفتحها إلّا الطّاعة؛ والجهاد من أعظمها.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: أخرجه أبو بكر الشّافعي في كتاب «الغيلانيّات» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن يزيد بن شجرة الرّهاوي؛ صحابيّ مشهور من أمراء معاوية، وفي سنده بقيّة «1» !.
وأخرجه أيضا الحاكم في «المستدرك» عن يزيد المذكور؛ قاله المناوي.
__________
(1) ابن الوليد: علم.(3/437)
[ (حرف الشّين) ]
(حرف الشّين) 141- «الشّاهد.. يرى ما لا يرى الغائب» .
(حرف الشّين) 141- ( «الشّاهد) ؛ أي: الحاضر (يرى ما لا يرى الغائب» ) .
قال ابن جرير: أراد رؤية القلب لا العين. أي: الشّاهد للأمر يتبيّن له من الرّأي والنّظر فيه ما لا يظهر للغائب؛ لأنّ الشّاهد للأمر يتّضح له ما لا يتّضح للغائب عنه! فمعه زيادة علم.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «الكشف» ، وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن علي قال: قلت: يا رسول الله، إذا بعثتني أكون لأمرك كالسّكّة المحمّاة، أو الشّاهد يرى ما لا يرى الغائب، قال: «بل الشّاهد ... الخ» ..
ورواه الضّياء في «المختارة» ، والعسكري في «الأمثال» ، وأبو نعيم؛ عن علي.
ورواه العسكريّ أيضا؛ عن ابن مسعود، ورواه القضاعي بسند فيه ابن لهيعة؛ عن أنس مرفوعا. انتهى.(3/438)
[ (حرف الصّاد) ]
(حرف الصّاد) 142- «الصّبر.. خير مركب» .
143- «الصّبر.. مفتاح الفرج، والزّهد.. غنى الأبد» .
(حرف الصّاد) 142- ( «الصّبر خير مركب» ) يوصل إلى المقصود، يوصل إلى المقصود، فالتّحقّق بالصّبر يفتح باب الوصول إلى الله تعالى، وينتج النّجاح وحسن العواقب، ثمّ هذا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النّفوس والأموال ومشاقّ التّكليف، ومقيّد بما إذا صبر ابتغاء وجه الله تعالى؛ لا ليقال: «ما أصبره وأحمله للنّوازل وأوقره عند الزّلازل» ! ولا لئلّا يعاب بالجزع! ولا لئلّا يشمت به الأعداء! كقوله «1» :
وتجلّدي للشّامتين، أريهم ... أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «مسند الفردوس» .
143- ( «الصّبر) على المكروه، وترك الشّكاية (مفتاح الفرج) ؛ أي: سبب في حصول الفرج من الله، فإن النّصر مع الصّبر، والفرج مع الكرب، وهذا حيث لا مخلص ولا مفزع إلا بالصّبر. أما من جعل الله له إلى الخلاص طريقا!! فليسلكها متوكّلا على الله أن يؤدّيه ذلك إلى الخلاص ممّا هو فيه؛ ألا ترى أنّ الأسير لو أمكنه الانفلات من الكفّار فعليه الانفلات. ويتوكّل على الله!؟ وكذا نحو المحبوس على ظلم؛ إذا أمكنه الهرب لزمه ذلك. ولا يقال له: اصبر؛ فالصّبر مفتاح الفرج!.
(والزّهد) الّذي هو خلوّ القلب من الدّنيا (غنى الأبد» ) ؛ لأنّه يتفرغ لعمارة
__________
(1) الشاعر أبو ذؤيب الهذلي رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل.(3/439)
144- «الصّلاة.. عماد الدّين» .
وقته، ويجتمع قلبه على ما هو بصدده من الاشتغال بعبادة الله، ويتعلّق قلبه بالله عز وجل في جميع الأوقات.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي، وذكره في «الكشف» ؛ وقال: رواه الديلمي بلا إسناد؛ عن الحسين بن علي مرفوعا.
ورواه القضاعي عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: «انتظار الفرج بالصّبر عبادة» ، ورواه ابن أبي الدّنيا في «الفرج بعد الشّدّة» ، وأبو سعيد الماليني؛ عن ابن عمر، بلفظ: «انتظار الفرج عبادة» . انتهى.
144- ( «الصّلاة عماد الدّين» ) ؛ أي: أصله وأسّه، وهي أمّ العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة ربّ العالمين، وفيها أسرار لأجلها كانت عمادا، منها:
ما فيها من التّواضع بالمثول قائما بالرّكوع والسّجود، وهي خدمة الله في الأرض، والملوك لا تخدم بالكسل والتّهاون!! بل بالجدّ والتّذلّل؛ فلذلك كانت عمادا.
ولذا كان سعيد بن المسيّب دائم الإقبال على الصّلاة، حتّى قيل فيه «لو قيل له: إنّ جهنم لتسعر لك وحدك» ما قدر على أن يزيد في عمله شيئا! وكان يقول لنفسه إذا دخل اللّيل: «قومي إلى خدمة ربّك؛ يا مأوى كلّ شرّ، تريدين أن تغافلي بالنّهار وتنامي باللّيل!! والله لأدعنّك تزحفي زحف البعير» فيصبح وقدماه منتفختان؛ وصلّى رضي الله عنه الصّبح بوضوء العشاء خمسين سنة.
وكان ثابت البنانيّ يقوم اللّيل كلّه خمسين سنة، فإذا جاء السّحر قال: اللهمّ إن كنت أعطيت أحدا أن يصلّي في قبره فأعطني ذلك. فلمّا مات وسدّوا لحده وقعت لبنة؛ فإذا هو قائم يصلّي حالا! وشهد ذلك من حضر جنازته.
وكان يقول: الصّلاة خدمة لله في الأرض، ولو كان شيء أفضل منها لما قال تعالى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [39/ آل عمران] . انتهى مناوي على «الجامع» .(3/440)
145- «الصّلاة.. مفتاح كلّ خير، والنّبيذ.. مفتاح كلّ شرّ» .
146- «صوموا.. تصحّوا» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عمر بن الخطّاب، ثمّ قال البيهقي: عكرمة لم يسمع من عمر!! قال: وأظنّ عن ابن عمر.
قال الحافظ العراقي في حاشية «الكشاف» : فيه ضعيف وانقطاع.
ولم يقف عليه ابن الصّلاح؛ فقال في «مشكل الوسيط» : إنّه غير معروف.
وقول النّوويّ في «التنقيح» حديث منكر باطل! رده ابن حجر، وشنّع.
وأخرجه أيضا الديلمي في «مسند الفردوس» من حديث علي. انتهى مناوي على «الجامع» . وذكره في «كشف الخفاء» ، وأطال في ذكر مخرّجيه، فراجعه.
145- ( «الصّلاة مفتاح كلّ خير) يحصل للعبد، (والنّبيذ مفتاح كلّ شرّ» ) ؛ أي: أصله ومنبعه؛ والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا برمز الإمام أحمد، وذكره في «كشف الخفاء» ، وقال: رواه الدّيلمي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
146- ( «صوموا تصحّوا» ) من الأمراض، لما ورد: «المعدة بيت الدّاء، والحمية رأس الدّواء» . والصّوم أعظم حمية؛ لأنّه يخلي الجوف من العفونات، وهذا فيمن يتناول عند فطوره وسحوره اللائق!! أمّا من يخلط ويأكل عند ذلك قدر ما يأكله وهو مفطر أو أكثر!! فلا تحصل له الصّحة؛ لوجود العفونات في جوفه.
وقد أجمع مجرّبة أعمال الدّيانة من: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ [52/ الأنعام] ؛ على أنّ مفتاح الهدى والصّحّة: الجوع؛ لأنّ الأعضاء إذا وهنت لله نوّر الله القلب، وصفّى النّفس، وقوّى الجسم؛ ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة هي لأوليائه أجل في القوى من عادته في الدّنيا لعامّة خلقه.
انتهى من شروح «الجامع الصغير» .(3/441)
.........
والحديث ذكره في «الجامع» ، وقال: أخرجه ابن السّنّي وأبو نعيم معا في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال الزّين العراقي:
كلاهما سنده ضعيف.
وذكره في «كشف الخفاء» بلفظ: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحّوا، واغزوا تغنموا» . وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
ورواه الطّبرانيّ بلفظ: «اغزوا تغنموا، وصوموا تصحّوا، وسافروا تستغنوا» .
وفي رواية لابن نجيب: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحّوا، واغزو تغنموا» .
وللطّبراني، والحاكم؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: «سافروا تصحّوا وتغنموا» . وبهذا اللّفظ رواه أيضا القضاعي، والطّبراني؛ عن ابن عمر رفعه.
ورواه أبو نعيم في «الطب» أيضا؛ عن ابن عمر رفعه بلفظ: «سافروا تصحّوا وتسلموا» . ورواه أيضا؛ عن أبي سعيد الخدري رفعه: «سافروا تصحّوا» .
ومثله في «الدرر» معزوّا لأحمد؛ عن أبي هريرة، والطّبراني؛ عن ابن عباس، والقضاعي؛ عن ابن عمر. وعزاه في «الّلآلي» ل «مسند أحمد» ؛ عن أبي هريرة بلفظ: «سافروا تصحّوا، واغزوا تغنموا» . انتهى بحذف.(3/442)
[ (حرف الضّاد) ]
(حرف الضّاد) 147- «ضالّة المؤمن.. العلم» .
(حرف الضّاد) 147- ( «ضالّة المؤمن) ؛ الكامل الإيمان (العلم» ) ؛ يعني: يسعى في تحصيله كما يسعى صاحب الضّالّة في تحصيلها؛
شبهّه بالضّالّة بجامع الحفظ والتّقييد في كلّ.
وتمام الحديث: «كلّما قيّد حديثا طلب إليه آخر» . ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن عليّ أمير المؤمنين، وأخرجه أبو نعيم وابن لال أيضا. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» . وقد تقدم: «الحكمة ضالّة المؤمن» .(3/443)
[ (حرف الطّاء) ]
(حرف الطّاء) 148- «طاعة المرأة.. ندامة» .
149- «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» .
(حرف الطّاء) 148- ( «طاعة المرأة ندامة» ) ؛ لنقصان عقلها ودينها، وتقصير رأيها، والنّاقص لا ينبغي طاعته إلّا فيما أمنت غائلته وهان أمره، فإنّ أكثر ما يفسد الملك والدّول طاعة النّساء، ولهذا قال عمر- فيما رواه العسكري-: خالفوا النّساء، فإنّ في خلافهنّ البركة.
قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلّا أمّ سلمة في صلح الحديبية. انتهى. واستدرك عليه ابنة شعيب في أمر موسى. انتهى.
وأمّا ما اشتهر على الألسنة من خبر «شاوروهنّ وخالفوهنّ» !! فلا أصل له.
انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن عدي؛ عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه.
قال الحفني: وهذا الحديث قد تكلّم فيه بالوضع. انتهى.
149- ( «طوبى) - تأنيث أطيب، أي: راحة وطيب عيش (لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» ) ؛ فلم يشتغل بها، فعلى العاقل أن يتدبّر في عيوب نفسه، فإن وجد بها عيبا! اشتغل بعيب نفسه، فيستحي من أن يترك نفسه ويذمّ غيره، بل يعلم أنّ عجز غيره عن نفسه في التنزّه عن ذلك العيب كعجزه، هذا إن كان ذلك عيبا يتعلّق بفعله واختياره، فإن كان خلقيا! فالذّمّ له ذمّ للخالق. فإنّ من ذمّ صنعة فقد ذمّ صانعها.(3/444)
150- «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» .
وإذا لم يجد بنفسه عيبا! فليعلم أن ظنّه بنفسه أنّه عري من كلّ عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم العيوب.
ومن علامة بعد العبد عن حضرة ربّه نسيان عيوبه ونقائصه؛ وذلك لأنّ حضرة الحقّ نور، وشأن النّور أن يكشف عن الأشياء بخلاف الظلام!!
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «كشف الخفاء» وقالا: رواه الدّيلمي؛ عن أنس مرفوعا، وتمامه: «وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السّنّة؛ ولم يعدل عنها إلى البدعة» .
ورواه العسكريّ عنه أيضا، وعدّه من الحكم والأمثال.
ورواه أيضا أبو نعيم من حديث الحسين بن علي، قال الحافظ العراقي: وكلّها ضعيفة، قال في التمييز: وأخرجه البزّار؛ عن أنس مرفوعا بإسناد حسن. انتهى.
150- ( «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» ) . قاله جوابا لمن سأل: أيّ النّاس خير؟ و «طوبى» كلمة إنشاء؛ لأنّها دعاء، معناها: أصاب الخير من طال عمره وحسن عمله. وكان الظّاهر أن يجاب بقوله «من طال» . فالجواب من الأسلوب الحكيم؛ أي: غير خاف أنّ خير النّاس من طال عمره وحسن عمله.
قال القاضي: لما كان السّؤال عمّا هو غيب لا يعلمه إلّا الله؛ عدل عن الجواب إلى كلام مبتدأ، ليشعر بأمارات تدلّ على المسؤول عنه؛ وهو طول العمر مع حسن العمل، فإنّه يدلّ على سعادة الدّارين والفوز بالحسنيين.
قال الإمام علي بن أبي طالب: موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربّه خير من موته طفلا بلا حساب في الآخرة. ذكره الطيبي. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
قال العجلوني في «كشف الخفاء» : ومفهوم الحديث أنّ شرّ النّاس من طال عمره وقبح عمله، وهو كذلك.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» في «كتاب المرضى» أحاديث(3/445)
.........
تدلّ للأمرين، وجمع بينهما باختلاف الحالين. وقلت في ذلك:
طول الحياة حميدة ... إن راقب الرّحمن عبده
وبضدّه فالموت خي ... ر والسّعيد أتاه رشده
انتهى.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطبراني في «الكبير» ، وأبي نعيم في «الحلية» بسند فيه بقيّة! عن عبد الله بن بسر مرفوعا.
وفي العزيزي: إنّ إسناده حسن. وأخرجه التّرمذي؛ عن أبي بكر بلفظ:
«خير النّاس من طال عمره وحسن عمله» . وقال: حسن صحيح. انتهى «كشف الخفاء» .(3/446)
[ (حرف الظّاء) ]
(حرف الظّاء) 151- «ظهر المؤمن.. حمى؛ إلّا بحقّه» .
(حرف الظّاء) 151- ( «ظهر المؤمن) ، وكذا جميع بدنه (حمى) ؛ أي: محميّ معصوم من الإيذاء (إلا بحقّه» ) ؛ أي: حقّ الله، أو بحقّه؛ أي: المؤمن، أي: الحقّ المتوجّه عليه من حدّ أو تعزير أو تأديب معلّم، فيحرم ضرب المسلم بغير حقّ، وقد عدّ ذلك كبيرة.
وكذا يحرم ضرب أهل الذّمّة؛ لكن إثم ضرب أهل الذّمة دون إثم ضرب المؤمن. وهذا الحديث له شاهد خرّجه أبو الشّيخ، والعسكري في «الأمثال» ؛ عن عائشة بلفظ: «ظهر المؤمن حمى إلّا في حدّ من حدود الله» . نظير المعاصي حمى الله. والمعنى: لا يضرب ظهره إلا في حدّ من الحدود.
والحديث المذكور في المتن ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ، وكذا الدّيلمي؛ عن عصمة بن مالك الخطمي الأنصاري رضي الله عنه وجزم المنذري بضعفه. انتهى مناوي على «الجامع» .(3/447)
[ (حرف العين) ]
(حرف العين) 152- «العدة.. دين» .
(حرف العين) 152- ( «العدة دين» ) ؛ أي: هي في مكارم الأخلاق كالدّين الواجب أداؤه في لزوم الوفاء، فيكره الخلف في الوعد بلا عذر، لما ورد فيه من التّشديد والحثّ على الوفاء بالوعد؛ وإن كان مندوبا.
فمن ذلك: ما رواه الطّبراني في «الأوسط» وغيره؛ عن علي أمير المؤمنين.
ولفظه: «العدة دين، ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل ثمّ ويل له» فالمخلف يستوجب بالمنع لوم الخلف، ومقت الغادر، وهجنة الكذوب.
وقد أثنى الله على إسماعيل عليه الصّلاة والسّلام بأنّه كان صادق الوعد. قال الشّاعر:
لسانك أحلى من جنى النّحل وعده ... وكفّاك بالمعروف أضيق من قفل
تمنّى الّذي يأتيك حتّى إذا انتهى ... إلى أمد ناولته طرف الحبل
وقال كعب:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلّا الأباطيل
وقال آخر:
وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
وقال النّجم الغزّي: وممّا كتبته لبعضهم مستجيزا:
قد وعدتم بالجميل أنجزوا ... ما وعدتم فنجاز الوعد زين
في حديث قد روينا لفظه ... عن ثقات العلماء: «الوعد دين»
والحديث ذكره في «كشف الخفاء» وقال: رواه القضاعي بلفظ التّرجمة(3/448)
153- «العزلة.. سلامة» .
فقط، ورواه الطّبراني في «الأوسط» والقضاعي وغيرهما؛ عن ابن مسعود بلفظ:
قال: لا يعد أحدكم صبيّه ثمّ لا ينجز له، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «العدة دين» .
ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيّه فلينجز له، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره بلفظ: «العدة عطيّة» . ورواه البخاريّ في «الأدب المفرد» موقوفا، ورواه الطبراني والدّيلمي؛ عن عليّ مرفوعا بلفظ: «العدة دين، ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل له- ثلاثا-» .
وللدّيلمي أيضا بلفظ: «الوعد بالعدة مثل الدّين أو أشدّ» ؛ أي: وعد الواعد، وفي لفظ له: «عدة المؤمن دين، وعدة المؤمن كالأخذ باليد» . انتهى ملخصا.
153- (العزلة سلامة) ؛ في الدّين والدّنيا، والسّلامة هي رأس المال، وقد قيل: لا يعدل بالسّلامة شيء.
وفيه حثّ على إيثار العزلة إذا تعذّرت صحبة الصّالحين، وحجة لمن فضّل العزلة، وقد ترجم البخاريّ «باب: العزلة راحة من خلّاط السّوء» .
وذكر حديث أبي سعيد رفعه: «ورجل في شعب من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه» ؛ وأخرج ابن المبارك؛ عن عمر: خذوا حظّكم من العزلة.
وما أحسن قول الجنيد «مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطاء» .
قال الغزالي: عليك بالتفرّد عن الخلق؛ لأنّهم يشغلونك عن العبادة.
وما أحسن ما قيل:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السّرور
وأدّبني الزّمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور
فلست بسائل ما دمت يوما ... أسار الجيش أم قدم الأمير!
وفي «إتمام الدّراية لقراء النّقاية» للحافظ جلال الدين السّيوطي رحمه الله(3/449)
154- «العرق.. دسّاس» .
تعالى: ومخالطة النّاس وتحمّل أذاهم أفضل من اعتزالهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم خير من الّذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم» . رواه البخاري في «الأدب المفرد» ، وغيره.
وهو- أي: اعتزالهم- أفضل حيث خاف الفتنة في دينه بموافقتهم على ما هم عليه، وعليه يحمل حديث عقبة السّابق: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك» .
وحديث البخاري: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» . انتهى ملخصا.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «مسند الفردوس» .
154- ( «العرق دسّاس» ) ؛ أي: دخّال- بالتّشديد- لأنّه ينزع في خفاء ولطف، يقال: دسست الشّيء إذا أخفيته وأخملته، ومنه وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) [الشمس] أي: أخمل نفسه وأبخس حظّها، وقيل: معنى دسّاس: خفيّ قليل، وكل من أخفيته وقلّلته فقد دسسته.
والمعنى: أنّ الرجل إذا تزوّج في منبت صالح يجيء الولد يشبه أهل الزّوجة في العمل والأخلاق ونحوهما، وعكسه بعكسه، فعلى العاقل أن يتخيّر لنطفته ولا يضعها إلّا في أصل أصيل، وعنصر طاهر، فإنّ الولد فيه عرق ينزع إلى أمّه، فهو تابع لها في الأخلاق والطّباع. انتهى مناوي على «الجامع» .
فمن أراد التزوّج بامرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها؛ فإنّها تأتيه بأحدهما؛ لأنّ الخلال تتبع الخال، فينبغي التزوّج بأصيلة النّسب؛ تباعدا بأولاده عن المنبت السّوء، وتقدم حديث: «إيّاكم وخضراء الدّمن» . ولله درّ من قال:(3/450)
155- «عفو الملوك.. أبقى للملك» .
156- «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» .
لا تنكحنّ سوى كريمة معشر ... فالعرق دسّاس من الطرفين
أو ما ترى أنّ النّتيجة دائما ... تبع الأخسّ من المقدّمتين
والحديث ذكره العجلوني في «الكشف» ، وقال: رواه الدّيلميّ والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ كلاهما عن ابن عباس مرفوعا في حديث أوّله: «النّاس معادن، والعرق دسّاس، وأدب السّوء كعرق السّوء» .
وللمديني في كتاب «تضييع العمر والأيام في اصطناع المعروف إلى اللّئام» عن أنس بلفظ: «تزوّجوا في الحجز الصالح فإنّ العرق دسّاس» ذكره النجم الغزي.
انتهى. ونحو ذلك في «الجامع الصغير» ، ورمز للحديث الأخير برمز ابن عدي عن أنس.
قال المناوي ورواه- يعني الحديث الأخير- الدّيلميّ في «مسند الفردوس» والمديني في كتاب «تضييع العمر» ؛ عن ابن عمر وزاد: «وانظر في أيّ نصاب تضع ولدك» ! قال الحافظ العراقيّ: وكلّها ضعيفة.
155- ( «عفو الملوك) - بضم الميم؛ جمع «ملك» بفتح الميم وكسر اللام- (أبقى) - بالموحدة والقاف- (للملك» ) ؛ أي: أدوم وأثبت، ويمدّ في العمر أيضا؛ كما في حديث الحكيم؛ أي: يبارك فيه بصرفه في الطاعات؛ فكأنّه زاد، وأفاد بمفهومه أنّ التّسارع إلى العقوبة لا يطول معه الملك. قيل: وهذا مجرّب، انتهى «عزيزي» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: أخرجه الرافعيّ في «تاريخ قزوين» ؛ عن علي أمير المؤمنين كرم الله وجهه. آمين.
156- ( «على اليد) ؛ أي: على صاحبها ضمان (ما) - أي: الّذي- (أخذت) ؛ أي: أخذته اليد (حتّى تؤدّيه» ) إلى صاحبه، فحينئذ تبرأ من(3/451)
157- «العين.. حقّ» .
الضمان، والإسناد إلى اليد على المبالغة لأنّها هي المتصرّفة، فمن أخذ مال غيره بغصب أو عاريّة أو نحو ذلك! لزمه ردّه إلى مالكه إن كان باقيا، وإن تلف! لزمه ردّ بدله، وأخذ بظاهره المالكيّة، فضمّنوا الأجراء مطلقا.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «الكشف» وقالا: أخرجه الإمام أحمد، والأربعة، والحاكم بهذا اللفظ، ولفظ أبي داود والترمذي «حتّى تؤدّي» بدون الهاء؛ وكلهم رووه عن الحسن البصريّ، عن سمرة مرفوعا.
قال: في «التمييز» : وصحّحه الحاكم وحسّنه الترمذي.
والحسن البصري راويه عن سمرة مختلف في سماعه منه!! وزاد فيه أكثرهم:
ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه. انتهى.
157- ( «العين حقّ» ) ؛ يعني: الضرر الحاصل عنها حقّ، أي: ثابت وجوديّ مقضيّ به في الوضع الإلهي، لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال. هذا قول عامة الأمة ومذهب أهل السّنّة.
وأنكره قوم مبتدعة!! وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود، فكم من رجل أدخلته العين القبر!! وكم من جمل أدخلته القدر!!
لكنه بمشيئة الله تعالى، ولا يلتفت إلى معرض عن الشّرع والعقل تمسكا باستبعاد لا أصل له! فإنّا نشاهد من خواصّ الأحجار وتأثير السّحر ما يقضي معه العجب، وتحقق أنّ ذلك فعل مسبّب الأسباب.
وقرّب ذلك بالمرأة الحائض؛ تضع يدها في إناء اللّبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد!! وتدخل البستان فتضرّ بكثير من العروش بغير مسّ! والصحيح ينظر إلى الأرمد فقد يرمد!! ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو! وقد ذكروا أنّ جنسا من الأفاعي إذا وقع بصره على الإنسان هلك!
وحينئذ فالعين قد تكون من سمّ يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون.(3/452)
.........
وقد أجرى الله عادته بوجود كثير من القوى والخواصّ والأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيحدث في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل. وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وذلك بواسطة ما خلق الله في الأرواح من التأثيرات. ولشدّة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة!! إنّما التأثير للرّوح، والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصها.
فمنها ما يؤثّر في البدن بمجرّد الرؤية بغير اتصال، ومنها ما يؤثّر بالمقابلة، ومنها ما يؤثر بتوجه الروح؛ كأحاديث من الأدعية والرّقى والالتجاء إلى الله، ومنها ما يقع بالتوهّم والتخييل.
فالخارج من عين العائن سهم معنوي؛ إن صادف البدن ولا وقاية؛ لأثّر فيه، وإلا، فلا، كالسّهم الحسّي. وقد يرجع على العائن.
وقد اختلف في جريان القصاص في القتل بالعين!!
فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص؛ أو الدّية إذا تكرّر ذلك منه بحيث يصير عادة.
ومنع الشّافعيّة القصاص في ذلك؛
وقال النّوويّ في «الرّوضة» : ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأنّ الحكم إنّما يترتّب على منضبط عامّ؛ دون ما يختصّ ببعض النّاس في بعض الأحوال ممّا لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا!؟
ثمّ قال: قال القاضي: في هذا الحديث من الفقه ما قاله بعض العلماء: أنّه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويحترز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة النّاس ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرا!! رزقه ما يكفيه، ويكفّ أذاه عن النّاس. انتهى. شروح «الجامع الصغير» .(3/453)
.........
وقد ورد الشّرع بالاستغسال للعين، في حديث سهل بن حنيف لمّا أصيب بالعين فأمر النّبي صلى الله عليه وسلم عائنه بالاغتسال.
وصفته أن العائن يغتسل في قدح من ماء؛ يدخل يده فيه، فيمضمض ويمجّه في القدح، ويغسل وجهه فيه، ثمّ يصبّ بيده اليسرى على كفّه اليمنى، ثمّ باليمنى على كفّه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليسرى فيصبّ بها على مرفق يده اليمنى، ثمّ بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثمّ يغسل قدمه اليمنى، ثمّ يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيغسل الركبتين، ثمّ يأخذ داخلة إزاره، فيصبّ على رأسه صبّة واحدة، ويضع القدح حين يفرغ.
هكذا رواه ابن أبي ذئب؛ عن الزّهري عند ابن أبي شيبة. وهو أحسن ما فسّر به؛ لأن الزّهري رواي الحديث. وزاد ابن حبيب في قول الزّهري هذا: يصبّ من خلفه صبّة واحدة يجري على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه المذكورة كلها وداخلة الإزار في القدح. قال الزّهري: هذا من العلم. وأخبر أنّه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه العلماء، ومضى به العمل. وجاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثله؛ إلّا أنّ فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، وفيه غسل القدمين أنّه لا يغسل جميعهما، وإنّما قال: ثمّ يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى عند أصول أصابعه. واليسرى كذلك، وهو أقرب لقول الحديث: وأطراف رجليه.
وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النّظرة، أمّا عند الإصابة به وقبل الاستحكام! فقد أرشد الشارع إلى دفعه بقوله «ألا برّكت!!» أي: دعوت له بالبركة؛ بأن تقول: «ما شاء الله، تبارك الله» ، أو «اللهمّ بارك فيه ولا تضرّه» .
واختلف العلماء في العائن؛ هل يجبر على هذا الغسل للمعين، أم لا؟
احتجّ من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلّم في رواية «مسلم» : «وإذا استغسلتم فاغسلوا» .
وبرواية «الموطّأ» أمره بالوضوء؛ والأمر للوجوب. قال المازري: والصّحيح(3/454)
.........
عندي الوجوب، ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك. انتهى. فواجب على العائن الغسل.
والحديث أخرجه الإمام أحمد، والشّيخان، وأبو داود، والنّسائي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ وابن ماجه، عن عامر بن ربيعة؛ وفي رواية لأحمد؛ عن أبي هريرة أيضا بزيادة: «ويحضرها الشّيطان، وحسد ابن آدم» .
قال الهيثميّ: رجاله رجال الصّحيح.
وأخرجه الإمام أحمد، ومسلم في «الطّب» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بزيادة: «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» .
وأخرجه الإمام أحمد، والطّبراني في «الكبير» ، والحاكم في «الطّب» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بزيادة: «تستنزل الحالق» ، أي: الجبل العالي.
وقال الحاكم: صحيح. وأقرّه الذّهبي. انتهى من «كشف الخفاء» و «الجامع الصغير» وشرحه.
فائدة: أخرج ابن السّنّي والبزّار؛ عن أنس رفعه: «من رأى شيئا فأعجبه؛ فقال «ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله» ؛ لم يضرّه» . وفي لفظ: «لم تضرّه العين» .
وأخرج ابن عساكر أنّ سعيدا السّاجيّ من كراماته أنّه قيل له: احفظ ناقتك من فلان العائن، فقال: لا سبيل له عليها، فعانها، فسقطت تضطرب؛ فأخبر السّاجي، فوقف عليه؛ فقال: باسم الله، حبس حابس، وشهاب قابس،
رددتّ عين العائن عليه، وعلى أحبّ النّاس إليه، وعلى كبده وكلوتيه وشيق، وفي ماله يليق، تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك] . فخرجت حدقة العائن وسلمت النّاقة. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» رحمه الله تعالى.(3/455)
[ (حرف الغين) ]
(حرف الغين) 168- «الغنى.. غنى النّفس، والفقر.. فقر النّفس» .
(حرف الغين) 158- ( «الغنى) - بكسر الغين، والقصر-: ضد الفقر (غنى النّفس) ؛ أي:
ليس الغنى الحقيقي هو كثرة العرض والمال، بل هو غنى النّفس وقنعها بما قسم لها، فيستغني بما حصل له، لعلمه بأنّه لم يتغيّر، فهذا هو الغنى المحمود المعتبر.
(والفقر فقر النّفس» ) ؛ لأنّه كلّما حصل على شيء طلب غيره ... وهلمّ جرّا، فنفسه فقيرة أبدا حتى يجذبه ملك الموت بخياشيمه، ويقبض روحه من جسده وهو على تلك الحالة الخبيثة الرّديئة، من غير استعداد للموت ولا تأهّب له، فكان كالّذي يأكل ولا يشبع.
والحديث أخرجه الدّيلمي بلا سند؛ عن أنس رفعه، ورواه العسكري؛ عن أبي ذرّ، في حديث أوّله: «يا أبا ذرّ؛ أترى أنّ كثرة المال هو الغنى!! إنّما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب» .
وفي النّجم: وروى النّسائي وابن حبّان وابن عساكر؛ عن أبي ذرّ:
«يا أبا ذرّ؛ أترى كثرة المال هو الغنى!! إنّما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه؛ فلا يضرّه ما لقي من الدّنيا، ومن كان فقره في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدّنيا، وإنّما يضرّ نفسه شحّها» . انتهى.
وصدر الحديث رواه البخاريّ ومسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا. انتهى «كشف الخفاء» للعجلوني.(3/456)
[ (حرف الفاء) ]
(حرف الفاء) 159- «الفتنة.. نائمة، لعن الله من أيقظها» .
160- «فعل المعروف.. يقي مصارع السّوء» .
(حرف الفاء) 159- ( «الفتنة) ؛ المحنة، وكلّ ما يشقّ على الإنسان، وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة. قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [35/ الأنبياء] ؛ كذا في «الكشّاف» .
وقال ابن القيّم: الفتنة نوعان: 1- فتنة الشّبهات، وهي العظمى، و 2- فتنة الشّهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما. انتهى مناوي على «الجامع» .
وفي «الحفني» : الفتنة هي ما يحصل به ضرر للعبد في دينه أو دنياه.
(نائمة) ؛ ساكنة (لعن) ؛ أي: أبعد (الله) عن رحمته (من أيقظها» ) ؛ أي: أثارها، وذلك كأن يلقي المبتدع شبهة على المسلمين، وكأن يقول شخص لطائفة: إنّ عدوّكم فلان يريد قتالكم؛ ليحرّكهم للقتال! من غير أصل، وهكذا.
انتهى «حفني» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «كشف الخفا» وقالا: أخرجه الرّافعي الإمام؛ عن أنس رضي الله عنه، ورواه عنه الدّيلمي، لكن بيّض ولده لسنده، وعند نعيم بن حماد في «كتاب الفتن» ؛ عن ابن عمر بلفظ:
«إنّ الفتنة راتعة في بلاد الله، تطأ في خطامها؛ لا يحلّ لأحد أن يوقظها، ويل لمن أخذ بخطامها» . انتهى.
160- ( «فعل المعروف) في الدّنيا (يقي مصارع السّوء» ) ؛ أي: الوقوع في الهلكات في الدّنيا والآخرة. قال العامري: المعروف هنا يعود إلى مكارم الأخلاق مع الخلق؛ كالبرّ والمواساة بالمال، والتعهّد في مهمات الأحوال؛ كسدّ خلّة(3/457)
161- «في كلّ ذات كبد حرّى.. أجر» .
وإغاثة ملهوف وتفريج مكروب، وإنقاذ محترم من محذور، فيجازيه الله من جنس فعله؛ بأن يقيه مثلها، أو المعنى: يقيه مصارع السّوء عند الموت. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه أبو بكر بن أبي الدّنيا في كتاب فضل قضاء الحوائج للناس؛ عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه القضاعي في «الشهاب» .
161- ( «في كلّ) ؛ أي: في إرواء كلّ (ذات كبد) - بفتح فكسر- (حرّى) بالقصر؛ ك «عطشى» - من الحرّ، وهو تأنيث: حرّان، وهي للمبالغة.
وأنّثها!! لأنّ الكبد مؤنّث سماعي؛ يريد أنّها لشدّة حرّها قد عطشت ويبست من العطش، والمراد حرارة الحياة، وفي رواية: «كلّ كبد رطبة» ، أي: حيّة، يعني رطوبة الحياة، والمعنى: أنّ في سقي كلّ ذي كبد حرّى (أجر» ) عام مخصوص بحيوان محترم، وهو ما لم يؤمر بقتله.
فيحصل الثّواب بسقيه، ويلحق به إطعامه) وغير ذلك من وجوه الإحسان.
وقال بعضهم: لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني فيسقى ثمّ يقتل؛ لأنّا أمرنا بأن نحسن القتلة، ونهينا عن المثلة. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه البخاريّ ومسلم؛ عن أبي هريرة مرفوعا؛ البخاريّ في «بدء الخلق وفي باب الآبار» ، بلفظ: «في كلّ ذات كبد رطبة أجر» في ذيل حديث المومسة؛ ومسلم في «الحيوان» ؛ عنه كمثل معناه.
وذكره في «الجامع» بلفظ المصنّف مرموزا له برمز الإمام أحمد وابن ماجه؛ عن سراقة بن مالك، والإمام أحمد؛ عن ابن عمرو بن العاصي.
وسببه كما في «مسند أبي يعلى» قيل: يا رسول الله، الضّوالّ ترد علينا، هل لنا أجر إن نسقيها!؟ قال: «نعم..» ثمّ ذكره. انتهى مناوي على «الجامع» .(3/458)
[ (حرف القاف) ]
(حرف القاف) 162- «القريب.. من قرّبته المودّة، وإن بعد نسبه» .
163- «قل: آمنت بالله.. ثمّ استقم» .
(حرف القاف) 162- ( «القريب من قرّبته المودّة وإن بعد نسبه» ) ؛ أي: ليس القريب من كان قريبا في النّسب، بل القريب حقيقة: من قرّبته المودّة والمحبّة؛ بأن كان ودودا لك وحبيبا وصديقا، فذلك هو القريب حقيقة، وإن كان بعيدا عنك في النّسب، ف «ربّ أخ لك لم تلده أمّك» .
وأصل القرب الأمانة، فمن كان متّصفا بها فهو الّذي يحبّه النّاس ويقرّبونه، وأصل البعد: الخيانة، فمن اتّصف بها. فهو الّذي يفرّ النّاس منه، كالجمل الأجرب، وإن كان أقرب قريب في النّسب!! وهذا مشاهد معلوم.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «الفردوس» .
163- ( «قل آمنت بالله) ؛ أي: جدّد إيمانك بالله ذكرا بقلبك ونطقا بلسانك.
(ثمّ استقم» ) ؛ أي: الزم عمل الطّاعات والانتهاء عن المنهيّات، يحصل لك كلّ خير دنيوي وأخروي. وانتزع هاتين الجملتين من آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [30/ فصلت] وهذا من بدائع جوامع الكلم؛ فقد جمعتا جميع معاني الإيمان والإسلام؛ اعتقادا وقولا وعملا، إذ الإسلام توحيد، وهو حاصل بالجملة الأولى، والطّاعة بسائر أنواعها في ضمن الثّانية؛ إذ الاستقامة امتثال كلّ مأمور وتجنّب كلّ منهي، وعرّفها بعضهم بأنّها المتابعة للسنن المحمّديّة مع التّخلّق بالأخلاق المرضيّة.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» و «الكشف» وقال: أخرجه الإمام أحمد(3/459)
164- «قلّة العيال.. أحد اليسارين» .
ومسلم والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه؛ عن سفيان بن عبد الله الثّقفي الطّائفي قال:
قلت: يا رسول الله؛ قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، فذكره.
وفي ابن ماجه قال: قلت: يا رسول الله؛ حدّثني بأمر أعتصم به، قال: «قل:
ربّي الله، ثمّ استقم» . وزاد التّرمذي: قلت: يا رسول الله؛ ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال: «هذا!» . وأخذ بلسانه.
164- ( «قلّة العيال أحد اليسارين» ) ؛ لأنّ الغنى نوعان:
1- غنى بالشيء؛ أي: بالمال؛ بأن يكون عنده ما يكفيه ويكفي عياله.
و2- غنى عن الشّيء؛ بأن لا يكون عنده عيال يحوجونه إلى السّعي وطلب الدّنيا.
وهذا هو الغنى الحقيقي، فقلّة العيال لا حاجة معها إلى كثرة المؤن.
وقيل: اليسار خفض العيش؛ أي: سعته والراحة فيه، وزيادة الدّخل على الخرج، أو وفاء الدّخل بالخرج، فمن كثر عياله ودخله وفضل له من دخله، أو وفي دخله بخرجه، أو قلّ عياله ودخله وفضل أو وفى!! فهو في يسر، ومن قلّ دخله وكثر عياله!! ففي عسر. انتهى شرح «الجامع الصغير» ، وشرح «المواهب» .
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» ، وقال: رواه القضاعي في «مسند الشّهاب» ؛ عن علي، «أمير المؤمنين» ؛ والدّيلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنهما. انتهى
وفي «المقاصد» : حديث: «قلّة العيال أحد اليسارين، وكثرته أحد الفقرين» . القضاعي؛ عن علي، والدّيلمي؛ عن غيره، بالشّطر الأوّل مرفوعا بسندين ضعيفين. وذكره في «الإحياء» بتمامه. انتهى.
وكذا ذكره في «الجامع الصّغير» بتمامه، وأوّله: «التّدبير نصف العيش» ..
الخ.(3/460)
165- «قل الحقّ، وإن كان مرّا» .
166- «قليل تؤدّي شكره.. خير من كثير لا تطيقه» .
165- ( «قل الحقّ) في جميع الأمور ولا يصرفك عنه صارف؛ (وإن كان مرّا!» ) ؛ بأن كان على نفسك، أو على ولدك، أو صديقك، أو ذوي قرابتك؛ بأن تقرّ به وتشهد به ولا تكتمه؛ كما قال تعالى* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [135/ النساء] .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ، وفي «كشف الخفاء» وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أبي ذرّ مرفوعا، وهو صحيح.
وله شواهد؛ منها: ما أخرجه البيهقي؛ عن جابر مرفوعا بلفظ: «ما من صدقة أحبّ إلى الله من قول الحقّ» . وقد صحّحه ابن حبان في حديث طويل.
واشتهر على الألسنة: «قل الحقّ ولو على نفسك» . انتهى.
166- ( «قليل) من المال (تؤدّي شكره) يا ثعلبة؛ الّذي قال: ادع الله أن يرزقني مالا؛ (خير من كثير لا تطيقه» ) . تمامه عند الطّبراني: «أما تريد أن تكون مثل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم!! لو سألت الله أن يسيل الجبال ذهبا وفضّة لسالت!!» . انتهى.
وهذا من معجزاته، فإنّه إخبار عن غيب وقع، فإنّه دعا لثعلبة هذا أن [ينمو] ماله، فنمت غنمه حتّى ضاقت المدينة عنها، فنزل واديا. وانقطع عن الجمعة والجماعة، وطلبت منه الزّكاة فقال: ما هذه إلّا أخيّة الجزية!! وفيه نزل* وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية [75/ التوبة] .
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» وقال: أخرجه البغويّ والباوردي، وابن قانع، وابن السّكن، وابن شاهين: كلهم في «الصّحابة» ، وكذا الطّبراني، والدّيلمي من طريق معاذ بن رفاعة؛ عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب «أو ابن أبي حاطب» الأنصاري؛(3/461)
167- «القناعة.. كنز لا يفنى» .
قال أبو أمامة: جاء ثعلبة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله؛ ادع الله أن يرزقني مالا.
فقال: «ويحك يا ثعلبة!! أما تحبّ أن تكون مثلي، فلو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت!!» .
فقال: ادع الله لي أن يرزقني مالا، فو الّذي بعثك بالحقّ نبيّا لئن رزقنيه لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه! قال: «لا تطيقه» !!
قال: يا نبيّ الله؛ ادع الله أن يرزقني مالا، فقال: «اللهمّ؛ ارزقه مالا» ، فاتّخذ غنما فبورك له فيها، ونمت حتّى ضاقت به المدينة؛ فتنحّى عنها، فكان يشهد مع المصطفى صلى الله عليه وسلّم بالنّهار، ولا يشهد صلاة اللّيل، ثمّ نمت فكان لا يشهد إلّا من الجمعة إلى الجمعة، ثمّ نمت؛ فكان لا يشهد الجمعة ولا الجماعة.
فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ويح ثعلبة!» . ثمّ أمر المصطفى صلى الله عليه وسلّم بأخذ الزّكاة والصّدقة؛ فبعث رجلين فمرّا على ثعلبة وقالا: الصّدقة؟! فقال: ما هذه إلّا أخيّة الجزية!! فأنزل الله فيه* وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية [75/ التوبة] .
قال البيهقي: في إسناد هذا الحديث نظر!! وهو مشهور بين أهل التّفسير.
انتهى.
وأشار في «الإصابة» إلى عدم صحّة هذا الحديث، فإنّه ساق هذا الحديث في ترجمة ثعلبة هذا، ثمّ قال: وفي كون صاحب هذه القصّة- إن صحّ الخبر!! ولا أظنّه يصحّ؛ هو البدري! - نظر!! انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى..
167- ( «القناعة) الرّضا بالمقسوم (كنز) ؛ أي: ككنز، بجامع أنّها تغني صاحبها عن النّاس؛ كما يغنيه كنز؛ أي: مال مدفون (لا يفنى» ) ؛ لأنّ القناعة تنشأ عن غنى القلب بقوّة الإيمان ومزيد الإيقان، ومن قنع أمدّ بالبركة ظاهرا وباطنا؛ لأنّ الإنفاق منها لا ينقطع؛ إذ صاحبها كلما تعذّر عليه شيء قنع بما دونه؛(3/462)
.........
فلا يزال غنيّا عن النّاس، ولذا كان ما يقنع به خير الرّزق؛ كما في حديث: «خير الذّكر الخفيّ، وخير الرّزق ما يكفي» . رواه أحمد والبيهقي.
ومن قنع بالمقسوم كانت ثقته بالله- الّتي شأنها ألاتنقطع؛ لتأكّد الوثاقة- كنزا لا ينفد إمداده، ولهذا قال لقمان لابنه: يا بنيّ، الدّنيا بحر عميق؛ غرق فيه ناس كثير، فاجعل سفينتك فيها القناعة.
ولله در من قال:
وجدت القناعة كنز الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنيّا بلا درهم ... أمرّ على النّاس شبه الملك
وللإمام الشّافعي رحمه الله تعالى:
عزيز النّفس من لزم القناعه ... ولم يكشف لمخلوق قناعة
أفادتني القناعة كلّ عزّ ... وأيّ غنى أعزّ من القناعه
فصيّرها لنفسك رأس مال ... وصيّرها مع التّقوى بضاعه
وللإمام الشّافعي أيضا رحمه الله تعالى:
أمتّ مطامعي وأرحت نفسي ... فإنّ النّفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتا ... ففي إحيائه عرضي مصون
إذا طمع يحلّ بقلب عبد ... علته مهانة وعلاه هون
وفي القناعة أحاديث كثيرة؛ منها حديث ابن عمر مرفوعا: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه» .
وعن علي في قوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [97/ النحل] ؛ قال: القناعة.
وكذا قال الأسود: إنّها القناعة والرّضا.
وعن سعيد بن جبير قال: لا يحوجه إلى أحد.(3/463)
168- «قيّد.. وتوكّل» .
وقال بعض الحكماء: انتقم من حرصك بالقناعة؛ كما تنتقم من عدوّك بالقصاص.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ قنّعني بما رزقتني وبارك لي فيه» .
ولو لم يكن في القناعة إلّا التّمتّع بالعزّ؛ لكفى صاحبه.
وسئل بعض الصّوفيّة عن مقام القناعة: هل يطلب من ربّه القناعة بما أعطاه الحقّ له من معرفته؛ كما يقنع بنظيره من القوت!؟ فأجاب بأنّ القناعة المطلوبة خاصة بأمور الدّنيا لئلّا يشتغل بكثرتها عن آخرته، لكونه مجبولا على الشحّ.
وأمّا القناعة من المعرفة بالقليل!! فمذمومة بنصّ آية وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) [طه] ، أي: بك وبأسرار أحكامك، لا زيادة من التّكاليف؛ فإنّه كان يكره السّؤال في الأحكام، وأنشد يقول:
إنّ القناعة باب أنت داخله ... إن كنت ذاك الّذي يرجى لخدمته
فاقنع بما أعطت الأيّام من نعم ... من الطّبيعة لا تقنع بنعمته
لو كان عندك مال الخلق كلّهم ... لم يأكل الشّخص منه غير لقمته
وأنشد يقول:
لا تقنعنّ بشيء دونه أبدا ... واشره فإنّك مجبول على الشّره
واحرص على طلب العلياء تحظ بها ... فليس نائم ليل مثل منتبه
والحديث رواه الطّبراني في «الأوسط» ؛ عن جابر، بلفظ: «القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى» . قال الذهبيّ: وإسناده واه.
168- ( «قيّد) ؛ ناقتك- وفي رواية: قيدّها- (وتوكّل» ) على الله، فإنّ التّقييد لا ينافي التّوكّل، إذ هو: اعتماد القلب على الرّبّ في كلّ عمل دينيّ أو دنيويّ، فالتّقييد لا يضادّه؛ كما أن الكسب لا يناقضه.(3/464)
.........
قال المحاسبيّ: من ظنّ أنّ التّوكّل ترك كسبه فليترك كلّ كسب دنيويّ ودينيّ، وكفى به جهلا!!.
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» ورمز له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عمرو بن أميّة الضّمري الكناني قال: يا رسول الله؛ أرسل راحلتي وأتوكّل، قال: «بل قيّد وتوكّل» . ورواه عنه أيضا الحاكم بلفظ: «قيّدها وتوكّل» . قال الذهبي: وسنده جيد.
وقال الهيثمي: رواه الطّبراني؛ عن أبي هريرة بإسنادين؛ في أحدهما عمرو بن عبد الله بن أميّة الضّمري، ولم أعرفه! وبقية رجاله ثقات. انتهى مناوي على «الجامع» . وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح.
ورواه التّرمذي؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: «اعقلها وتوكّل» وقال:
غريب. ونقل؛ عن يحيى بن سعيد القطان أنّه منكر، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن أبي الدّنيا؛ عن أنس أنّه قال: قال رجل: يا رسول الله؛ أعقلها وأتوكّل، أو أطلقها وأتوكّل!؟ قال: «اعقلها وتوكّل» . يعني: النّاقة.
وأخرجه ابن حبّان وأبو نعيم أيضا؛ عن عمرو بن أميّة الضّمري أنّه قال: قال رجل للنّبي صلى الله عليه وسلم- وقيل: القائل عمرو-: أرسل ناقتي وأتوكل!؟ قال: «اعقلها وتوكّل» . انتهى «كشف الخفا ومزيل الإلباس» .(3/465)
[ (حرف الكاف) ]
(حرف الكاف) 169- «كفى بالمرء إثما.. أن يضيّع من يقوت» .
(حرف الكاف) 169- ( «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» ) ؛ أي، من يلزمه قوته ونفقته، لا سيّما الزّوجة!! فإنّ نفقتها متأكّدة، وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت؛ لتعليقه الإثم على تركه، لكن إنّما يتصور ذلك في موسر لا معسر!! فعلى القادر السّعي على عياله لئلّا يضيّعهم، فمع الخوف على ضياعهم هو مضطرّ إلى الطّلب لهم، لكن لا يطلب لهم إلّا قدر الكفاية؛ لأنّ الدّنيا بغيضة، وسؤال أوساخ النّاس قروح وخموش يوم القيامة.
قال بعضهم: والضّيعة: هي التّفريط فيما له غناء وثمرة إلى ألايكون له غناء ولا ثمرة. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في «الزّكاة» ، والبيهقي في «سننه» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي، وصحّحه الحاكم، وأقرّه الذّهبي، وقال في «الرياض» : إسناده صحيح. ورواه عنه أيضا النّسائي، وهو عند مسلم بلفظ: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوته» . انتهى. مناوي على «الجامع» .
قال في «الكشف» : والمشهور على الألسنة: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يعول» . بل هي رواية الحاكم؛ كما في «النجم» . انتهى.
قال المناوي: وسببه- كما في البيهقي- أنّ ابن عمرو كان ببيت المقدس فأتاه مولى له؛ فقال: أقيم هنا رمضان، قال: هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال:
لا، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول ... فذكره. انتهى.(3/466)
170- «كفى بك إثما.. ألاتزال مخاصما» .
171- «كفى بالدّهر واعظا، وبالموت مفرّقا» .
170- ( «كفى بك إثما ألاتزال مخاصما!» ) ؛ أي: تكثر المخاصمة مع الخلق؛ لأنّ كثرة المخاصمة تفضي غالبا فيما يذمّ صاحبه، فالمستمرّ على الخصام الماهر فيه من أبغض الخلق إلى الله تعالى، وقد ورد التّرغيب في ترك المخاصمة، ففي أبي داود؛ عن أبي أمامة رفعه: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء؛ وإن كان محقّا، وأبغض العباد إلى الله تعالى الألدّ الخصم» ؛ كما في «الصحيحين» .
فإن قيل: لا بد من الخصومة لاستيفاء الحقوق.
فالجواب ما قال الغزالي: إنّ الذّم المتأكّد إنّما هو خاصّ بباطل أو بغير علم؛ كوكلاء القاضي.
وقال بعض العارفين: إذا رأيت الرّجل لجوجا مرائيا معجبا برأيه فقد تمّت خسارته. انتهى مناوي على «الجامع» مرموزا له برمز التّرمذي؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وقال: غريب. وخرّجه عنه البيهقي والطّبراني، قال ابن حجر: وسنده ضعيف. انتهى «مناوي» .
171- ( «كفى بالدّهر) ؛ أي: كفى تقلّبه بأهله (واعظا) مذكّرا ومنبّها على زوال الدّنيا، ومرقّقا مليّنا للقلوب، (وبالموت مفرّقا» ) - بشدّ الرّاء وكسرها- لأنّ تفريقه لا عود بعده إلّا في الآخرة؛ بخلاف فرقة غير الموت.
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» و «كنوز الحقائق» وقالا: أخرجه ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ، وكذا العسكري في «الأمثال» كلاهما؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إن جاري يؤذيني! فقال: «اصبر على أذاه وكفّ عنه أذاك» . فما لبثت إلّا يسيرا إذ جاءه فقال له: مات!! ... فذكره.(3/467)
172- «كلّ آت.. قريب» .
وهذا من بديع حكمته صلى الله عليه وسلّم ووجيزها؛ لأنّه لمّا علم أنّ أسباب العظات كثيرة؛ من العبر والآيات، وطوارق الآفات، وسوء عواقب الغفلات، ومفارقة الدّنيا وما بعد الممات؛ قال في عظة الموت كفاية عن جميع ذلك، لأنّ الموت ينزعه عن جميع محبوباته في الدّنيا ومخوفاته؛ إمّا إلى الجنّة، وإمّا إلى ما يكرهه، وذلك يوجب المنع من الرّكون إلى الدّنيا، والاستعداد إلى الآخرة وترك الغافلة. انتهى «مناوي» .
قال: في «الكشف» : في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره.
172- ( «كلّ آت) ؛ من الموت والقيامة والحساب والوقوف (قريب» ) ، وأنت سائر على مراحل الأيّام واللّيالي إليه، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) [المعارج] .
فالجاهل يراه بعيدا لعمى قلبه، والمؤمن الكامل يراه بنور إيمانه قريبا؛ كأنّه يعاينه؛ فبذل دنياه لآخراه، وسلّم نفسه لمولاه، فلا تغرّنّك الدّنيا، فجديدها عمّا قليل يبلى، ونعيمها يفنى، ومن لم يتركها اختيارا؛ فعمّا قريب يتركها اضطرارا، ومن لم تزل نعمته في حياته زالت بمماته.
قال ابن عطاء الله السّكندري: لا بد لهذا الوجود أن تنهدم دعائمه، وأن تسلب كرائمه. فالعاقل من كان بما هو أبقى أوثق منه بما هو يفنى.
وقال بعض الحكماء: من كان يؤمّل أن يعيش غدا فهو يؤمل أن يعيش أبدا.
قال الماوردي: ولعمري؛ إنّه صحيح! إذ كل يوم غدا، فإذا يفضي به الأمل إلى الفوت من غير درك، ويؤديه الرّجاء إلى الإهمال بغير تلاف.
وقال الحكماء: لا تبت على غير وصيّة، وإن كنت من جسمك في صحّة، ومن عمرك في فسحة، فإنّ الدّهر خائن، وكل ما هو آت كائن. انتهى «مناوي» .(3/468)
173- «كلّ الصّيد في جوف الفراء» .
والحديث ذكره في «الدّرر» للسّيوطي، وقال: أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث. وذكره في «الكشف» ، وقال: رواه ابن مردويه؛ عن ابن مسعود مرفوعا وموقوفا، ولفظه: «ألا لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إنّ كلّ ما هو آت قريب، ألا إنّما البعيد ما ليس بات» .
وروى البيهقي في «الأسماء والصفات» ، عن ابن شهاب مرسلا: إنّه صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا خطب: «كلّ ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخلف لأمر أحد، ما شاء الله لا ما شاء النّاس، يريد الله أمرا ويريد النّاس أمرا، وما شاء الله كائن؛ ولو كره النّاس، لا مبعّد لما قرّب الله؛ ولا مقرّب لما بعّد الله، ولا يكون شيء إلّا بإذن الله» .
وعزاه في «المقاصد» للقضاعي؛ عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: تلقفت هذه الخطبة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرها، وفيها: «كلّ ما هو آت قريب» . انتهى كلام «الكشف» .
وهذه الجملة موجودة في «الجامع الصّغير» أثناء حديث طويل أوله: «أمّا بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله» ... الخ.
173- ( «كلّ الصّيد في جوف الفراء» ) - بفتح الفاء، مقصور مهموز-: حمار الوحش، هذا خاطب به النّبي صلى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حين جاءه مسلما، بالأبواء بين مكّة والمدينة والنّبي صلى الله عليه وسلّم سائر إلى فتح مكّة؛ بعد أن كان عدوّا له هجّاء، كثير الهجاء بعد البعثة، وكان يألفه قبلها، فلمّا أسلم كان لا يرفع رأسه إلى المصطفى حياء منه صلى الله عليه وسلم.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يحبّه، ويشهد له بالجنّة، ويقول: «أرجو أن يكون خلفا من حمزة!» رضي الله عنه.
فكأنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الحمار الوحشيّ من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنّك أعظم أهلي وأمسّهم رحما بي، ومن أكرم من يأتيني، وكلّ(3/469)
.........
دونك!! قال ذلك ملاطفة له؛ لأنّه استأذن فلم يأذن له، وقال: إنّه هتك عرضي.
والحديث أخرجه الرّامهرمزي الإمام؛ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الفارسي في كتاب «الأمثال» من طريق ابن عيينة، عن وائل بن مازن، عن نصر بن عاصم الليثي؛ قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقرشي وأخّر أبا سفيان، ثم أذن له فقال:
ما كدت أن تأذن لي حتى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي وبكى، فقال:
«وما أنت وذاك يا أبا سفيان؛ إنّما أنت كما قال الأول: كلّ الصّيد في جوف الفراء» . وسنده جيد، لكنّه مرسل، لأنّ نصر بن عاصم تابعيّ وسط.
ونحوه عند العسكري، ولكنّه قال: «كلّ الصّيد في جوف الفراء- أو: جنب الفراء-» بالشّكّ.
قال في «المقاصد» : وقد أفردت فيه جزآ فيه نفائس.
والجلهمتان: تثنية الجلهمة- بضمّ الجيم وفتحها-: حافّة الوادي وناحيته.
قال الدّميري في «حياة الحيوان» : الفراء: الحمار الوحش. والجمع:
الفراء، مثل جبل وجبال، وفي المثل «كل الصّيد في جوف الفراء» ؛ قاله النّبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث، وقيل: لأبي سفيان بن حرب.
وقال السّهيلي: الصّحيح أنّه قاله لأبي سفيان بن حرب يتألّفه به؛ وذلك لأنّه استأذن على النّبي صلى الله عليه وسلم فحجب قليلا ثمّ أذن له، فلما دخل؛ قال للنّبي صلى الله عليه وسلم:
ما كدت أن تأذن لي حتّى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي!!، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا سفيان؛ أنت كما قيل- كلّ الصّيد في جوف الفراء-» . ثمّ قال:
وأصل هذا المثل أنّ جماعة ذهبوا للصّيد؛ فصاد أحدهم ظبيا، والآخر أرنبا، والآخر حمار وحش، فاستبشر الأوّلان بما نالا؛ فقاله الثالث؛ يعني أنّ ما رزقته يشتمل على ما عندكما؛ لأنّه أعظم، ثمّ اشتهر هذا المثل في كلّ شيء كان جامعا لغيره، كما قال القائل:
يقولون: كافات الشّتاء كثيرة ... وما هي إلّا واحد غير مفترى(3/470)
174- «كلّكم.. راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .
175- «كلّ المسلم.. على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه» .
إذا صحّ كاف الكيس فالكلّ حاصل ... لديك وكلّ الصّيد في جوف الفرا
انتهى «كشف» .
174- ( «كلّكم راع) ؛ أي: حافظ مؤتمن، ملتزم بصلاح ما قام عليه، وهو ما تحت نظره من الرّعاية؛ وهي الحفظ، يعني: كلكم ملتزم بحفظ ما يطالب به؛ من العدل إن كان واليا، ومن عدم الخيانة إن كان موليا عليه؛
(وكلّكم مسؤول عن رعيّته» ) في الآخرة، فكلّ من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلّقات ذلك، فإن وفى ما عليه من الرّعاية! حصل له الحظّ الأوفر والجزاء الأكبر، وإلّا! طالبه كل أحد من رعيّته بحقّه في الآخرة.
ويدخل في ذلك الولاة، والمنفق على زوجة أو قريب أو رفيق أو بهيمة؛ هل قام بحقّها أم لا!؟
والرّعاية تختلف؛ فالسّلطان أكثر مسؤولية من غيره، فإنّ عليه حفظ جميع رعيّته والذّب عنهم، وكذا نوّابه، فكلّ عليه حفظ ما تحت يده، وهكذا الزّوج ونحوه، فالرّاعي غير مطلوب لذاته؛ بل أقيم لحفظ ما استرعاه، ويشمل المنفرد؛ إذ يصدق عليه أنّه راع في جوارحه بفعل المأمور وترك المنهي. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذي؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
175- ( «كلّ) ؛ مبتدأ (المسلم) (- فيه ردّ لزاعم أنّ كلّا لا تضاف إلّا إلى نكرة (على المسلم) (متعلق بالخبر، وهو قوله (حرام: دمه) - بالرّفع، وكذا ما بعده بيان لكل؛ أي: إراقة دمه أو قتله بلا حق، (وماله) ؛ أي: أخذ ماله بنحو غصب، (وعرضه» ) ؛ أي: هتك عرضه بالتّكلم فيه بما يشينه بلا(3/471)
176- «كلّ معروف.. صدقة» .
177- «كلّ مؤذ.. في النّار» .
استحقاق؛ والعرض: موضع المدح والذّمّ من الإنسان.
وأدلّة تحريم هذه الثّلاثة مشهورة معروفة من الدّين بالضّرورة، وجعلها كلّ المسلم وحقيقته! لشدّة اضطراره إليها؛ فالدّم فيه حياته، ومادّته المال، فهو ماء الحياة الدّنيا، والعرض به قيام صورته المعنويّة.
واقتصر على هذه الثّلاثة؛ لأنّ ما سواها فرع عنها وراجع إليها؛ لأنّه إذا قامت الصّورة البدنيّة والمعنويّة فلا حاجة لغيرهما؛ وقيامهما إنّما هو بتلك الثّلاثة.
ولكون حرمتها هي الأصل والغالب لم يحتج لتقييدها بغير حقّ.
فقوله في رواية «إلّا بحقّها» إيضاح وبيان.
وهذا حديث عظيم الفوائد كثير العوائد مشير إلى المبادئ والمقاصد. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه مسلم، وأبو داود في «الأدب» ، وابن ماجه في «الزهد» .
176- ( «كلّ معروف) ؛ أي: عرف في الشّرع بأنّه قربة؛ من قول أو فعل، (صدقة» ) ؛ أي: كلّ ما يفعل من أعمال البرّ والخير فثوابه كثواب من تصدّق بالمال؛ وسمّيت صدقة؛ لأنّها من تصديق الوعد بنفع الطّاعة عاجلا وثوابها آجلا.
وفيه إشارة إلى أنّ الصّدقة لا تنحصر في المحسوس، فلا تختصّ بأهل اليسار مثلا، بل كلّ أحد يمكنه فعلها غالبا بلا مشقّة. انتهى «مناوي» وغيره.
والحديث أخرجه الإمام أحمد بسند رجاله رجال «الصحيح» ، والبخاريّ في «صحيحه» ؛ «باب الأدب» كلاهما؛ عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه الإمام أحمد ومسلم في «الزّكاة» ، وأبو داود في «الأدب» كلهم؛ عن حذيفة بن اليمان، وهو حديث متواتر، رواه نحو ستة عشر صحابيّا رضي الله عنهم.
177- ( «كلّ مؤذ في النّار» ) ؛ يعني: كلّ ما يؤذي؛ من نحو حشرات(3/472)
178- «كلّ.. ميسّر لما خلق له» .
وسباع، يكون في نار جهنّم عقوبة لأهلها؛ وقيل: هو وعيد لمن يؤذي النّاس، أي: كل من آذى الناس في الدّنيا من النّاس أو من غيرهم؛ يعذّبه الله في تلك الدّار في نار الآخرة. ذكره الزّمخشري والخطّابي. انتهى «مناوي» .
والحديث أخرجه الخطيب في ترجمة عثمان الأشج؛ المعروف ب «ابن أبي الدّنيا» ، وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» كلاهما؛ عن علي، «أمير المؤمنين» ، قال الخطيب: وعثمان عندي ليس بشيء. انتهى. وأورده الذّهبي في «المتروكين» ، وقال: خبر غريب. انتهى مناوي على «الجامع» ، وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن. اه.
178- ( «كلّ) - بالتّنوين-؛ أي: كلّ إنسان (ميسّر) - بضمّ الميم، وبالمثنّاة التّحتيّة، والمهملة الثّقيلة؛ المفتوحتين- وفي رواية يسّر (لما خلق له» ) ؛ أي: مهيّأ لما خلق لأجله، قابل له بطبعه، أي: فالأمر مغيب عنّا، فلا نعرف النّاجي من غيره، إلّا أنّ الشّارع نصب لنا دليلا على ذلك، فمن رأيناه منكبّا على الطّاعة علمنا أنّه ناج، وعكسه بعكسه.
وليس المراد بالتّيسير هنا ما يقابل التّعسير!! وقول بعضهم: «معناه كلّ موفّق لما خلق لأجله» غير سديد؛ لأنّ التّوفيق خلق قدرة الطّاعة في العبد؛ وليس المعنى هنا مقصورا عليه، بل المراد التّهيئة لما خلق لأجله من خير وشرّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) [الشمس] . انتهى مناوي على «الجامع» ، وحفني على «الجامع» .
قال العزيزي: وفي الحديث إشارة إلى أنّ المال محجوب عن المكلّف، فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به، فإنّ عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبا، وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك؛ كما في حديث ابن مسعود وغيره، لكن لا اطّلاع له على ذلك، فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطّاعة، ولا يترك اتّكالا على ما يؤول إليه أمره، فيلام على ترك المأمور، ويستحقّ العقوبة. انتهى.(3/473)
179- «كلّموا النّاس.. بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون» .
فائدة: قال الرّاغب: لما احتاج النّاس بعضهم لبعض سخّر كلّ واحد منهم لصناعة ما يتعاطاه، وجعل بين طبائعهم وصنائعهم مناسبات خفيّة واتّفاقات سماويّة؛ ليؤثر الواحد بعد الواحد حرفة ينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه لمزاولتها، فإذا جعل إليه صناعة أخرى ربّما وجده مستبلدا فيها، متبرّما منها، سخّرهم الله لذلك؛ لئلّا يختاروا كلهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك ما اختاروا من الأسماء إلّا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصّناعات إلا أجملها، ومن الأفعال إلّا أرفعها، ولتنازعوا فيه، لكنّ الله بحكمته جعل كلّا منهم في ذلك مخيّرا.
فالنّاس؛ إمّا راض بصنعته لا يبغي عنها حولا؛ كالحائك الّذي رضي بصناعته ويعيب الحجّام الّذي يرضى بصناعته، وبذلك انتظم أمرهم وكُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) [المؤمنون] . وإمّا كاره لها يكابدها مع كراهته إيّاها، كأنّه لا يجد عنها بدلا. وعلى ذلك دلّ هذا الحديث: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [32/ الزخرف] .
فالتّباين والتّفرق والاختلاف سبب الالتئام والاجتماع والاتّفاق، فسبحان الله ما أحسن صنعه!. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والشّيخين: البخاري ومسلم، وأبي داود؛ عن عمران بن حصين.
والتّرمذي؛ عن عمر بن الخطّاب.
والإمام أحمد؛ عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.
179- ( «كلّموا النّاس بما يعرفون) ؛ أي: بما يفهمونه وتدركه عقولهم، لأنّ العقول لا تحتمل إلّا على قدر طاقتها، فلها حد محدود لا تتعدّاه، وشرّ العلم الغريب؛ (ودعوا ما ينكرون» ) ؛ أي: ما يشتبه عليهم فهمه؛ لأنّ السّامع لما لا يفهمه قد يعتقد استحالته جهلا؛ فلا يصدق بوجوده.(3/474)
180- «كما تدين.. تدان» .
فأفاد أنّ المتشابه لا ينبغي ذكره عند العامّة.
ويؤخذ من ذلك طلب تعليم العلوم السّهلة أوّلا لقاصر العقل.
وينبغي للمدرّس أن يكلّم كلّ طالب على قدر فهمه وعقله، فيجيبه بما يحتمله حاله.
ومن اشتغل بعمارة أو تجارة أو مهنة؛ فحقّه أن يقتصر به من العلم على قدر ما يحتاج إليه من هو في رتبته من العامّة، وأن يملأ نفسه من الرّغبة والرّهبة الوارد بهما القرآن. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» باللّفظ الّذي أورده المصنّف مرموزا له برمز البخاري.
وفي «الكشف» أنه في «صحيح البخاري» ؛ عن علي موقوفا بلفظ: «حدّثوا النّاس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله!» .
ونحوه ما في مقدمة «صحيح مسلم» ؛ عن ابن مسعود قال: «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة» . انتهى. ذكره في الكلام على حديث: «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» .
180- ( «كما تدين تدان» ) ؛ أي: كما تفعل تجازى بفعلك، وكما تفعل يفعل معك، سمّي الفعل المبتدأ جزاء، والجزاء هو الفعل الواقع بعده؛ ثوابا كان أو عقابا. للمشاكلة، كما في وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [40/ الشورى] .
مع أنّ الجزاء المماثل مأذون فيه شرعا؛ فيكون حسنا لا سيّئا!!
قال الميداني في ذلك: ويجوز إجراؤه على ظاهره، أي: كما تجازي أنت النّاس على صنيعهم تجازى أنت على صنيعك، والكاف في محلّ نصب للمصدر؛ أي: تدان دينا مثل دينك.(3/475)
.........
والقصاص إن لم يكن فيك؛ أخذ من ذرّيّتك، ولهذا قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) [النساء] .
فاتّق الله في أولاد النّاس يحفظك في ذرّيتك، وييسّر لهم ببركة تقواك ما تقرّ به عينك بعد موتك، وإن لم تتّق الله فيهم؛ فأنت مؤاخذ بذلك في نفسك وذرّيّتك، وما فعلته كله يفعل بهم، وهم وإن كانوا لم يفعلوا؛ لكنهم تبعا لأولئك الأصول، وناشئون عنهم وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف] .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» للعجلوني، وقال: رواه أبو نعيم، والديلمي؛ عن ابن عمر رفعه في حديث بلفظ: «البرّ لا يبلى، والذّنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، فكن كما شئت، فكما تدين تدان» .
وأورده ابن عديّ أيضا في «الكامل» وفي سنده ضعيف.
قال في «اللآلئ» : رواه البيهقي في «كتاب الزّهد» ، و «الأسماء والصّفات» ؛ عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذّنب لا ينسى، والبرّ لا يبلى، والدّيّان لا يموت، وكما تدين تدان» . ثمّ قال في «اللآلئ» : هذا مرسل.
ورواه ابن عديّ في «الكامل» من حديث محمد بن عبد الملك.
وأخرجه عبد الرّزّاق في «جامعه» ؛ عن أبي قلابة رفعه مرسلا.
ووصله أحمد في «الزّهد» ، لكن جعله من قول أبي الدّرداء.
ولابن أبي عاصم في «السّنّة» بسند فيه وضّاع؛ عن أنس في حديث أنّه قال:
«يا موسى، كما تدين تدان» .
وفي «الحلية» ؛ عن يحيى بن أبي عمرو الشّيباني؛ أنّه قال: مكتوب في «التّوراة» : كما تدين تدان، وبالكأس الذي تسقي به تشرب. وفي التنزيل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [123/ النساء] .(3/476)
181- «كما تكونوا.. يولّى عليكم» .
وفي النجم؛ عن فضالة بن عبيد: مكتوب في «الإنجيل» : [كما تدين تدان، وبالمكيال الّذي تكيل تكتال] . انتهى كلام «الكشف» . وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره.
181- ( «كما تكونوا يولّى عليكم» ) ؛ فإذا اتّقيتم الله وخفتم عقابه ولّى عليكم من يخافه فيكم، وعكسه.
وفي بعض الكتب المنزلة: [أنا الله؛ ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة؛ فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطّفهم عليكم] .
ومن دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا» .
والرواية بحذف النّون وإثبات الياء في «يولّى» ، و «ما» مصدريّة؛ أعملت حملا على «أن» المصدريّة، كما أهملت «أن» حملا على «ما» .
وذكر السّيوطي في «فتاواه الحديثيّة» : أنّ حذف النّون على لغة من يحذفها بلا ناصب ولا جازم؛ كما في حديث: «لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا» . أو أنّ حذفها على رأي الكوفيّين الّذي ينصبون «كلّما» ، أو على أنّه من تغيير الرواة، لكن هذا بعيد جدا. انتهى.
وأنشد بعضهم في المقام:
بذنوبنا دامت بليّتنا ... والله يكشفها إذا تبنا
والحديث ذكره العجلوني في «الكشف» ؛ وقال: رواه الحاكم، ومن طريقه الديلمي؛ عن أبي بكرة مرفوعا بلفظ: «يولّى عليكم أو يؤمّر عليكم» .
وأخرجه البيهقي بلفظ «يؤمّر عليكم» بدون شكّ، وبحذف «أبي بكرة» .
فهو منقطع.(3/477)
182- «كن في الدّنيا كأنّك غريب، ...
وأخرجه ابن جميع في «معجمه» ، والقضاعي؛ عن أبي بكرة بلفظ: «يولّى عليكم» بدون شكّ، وفي سنده مجاهيل.
ورواه الطّبراني بمعناه؛ عن الحسن أنّه سمع رجلا يدعو على الحجّاج، فقال له: لا تفعل، إنّكم من أنفسكم أتيتم؛ إنّا نخاف إن عزل الحجّاج أو مات أن يتولّى عليكم القردة والخنازير، فقد روي: «إنّ أعمالكم عمّالكم، وكما تكونوا يولّى عليكم» .
وقال «النجم» : روى ابن أبي شيبة، عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [129/ الأنعام] . ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد النّاس أمّر عليهم شرارهم.
وروى البيهقي؛ عن كعب قال: إنّ لكل زمان ملكا، يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم؛ بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد هلاكهم؛ بعث عليهم مترفيهم.
وله عن الحسن: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه الصّلاة والسّلام: سل لنا ربّك يبيّن لنا علم رضاه عنا، وعلم سخطه، فسأله، فقال: أنبئهم أنّ رضائي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وأنّ سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم. انتهى ملخصا.
182- ( «كن في الدّنيا كأنّك غريب) ؛ أي: عش بباطنك عيش الغريب عن وطنه بخروجك عن أوطان عاداتها ومألوفاتها؛ بالزّهد في الدّنيا، والتّزوّد منها للآخرة، فإنّها الوطن؛ أي: إنّ الدّار الآخرة هي دار القرار، كما أنّ الغريب حيث حلّ نازع لوطنه، ومهما نال من الطّرف أعدّها لوطنه، وكلما قرب مرحلة سرّه، وإن تعوّق ساعة ساءه، فلا يتّخذ في سفره المساكن والأصدقاء، بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مسافة عبوره؛ لأنّ الإنسان إنّما وجد ليمتحن بالطّاعة؛ فيثاب، أو بالإثم؛ فيعاقب لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7/ هود] ، فهو كعبد أرسله سيّده في(3/478)
أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور» .
حاجة، فهو إمّا غريب أو عابر سبيل، فحقّه أن يبادر لقضائها ثمّ يعود إلى وطنه.
وهذا أصل عظيم في قصر الأمل، وألايتّخذ الدّنيا وطنا ومسكنا، بل يكون فيها على جناح سفر مهيّأ للرّحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا جميع الأمم.
وفيه حثّ على الزّهد والإعراض عن الدّنيا، والغريب المجتهد في الوصول إلى وطنه لا بدّ له من مركب؛ وزاد؛ ورفقاء؛ وطريق يسلكها.
فالمركب: نفسه، ولا بد من رياضة المركوب ليستقيم للرّاكب، والزّاد:
التقوى، والرّفقاء: الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين و [الطريق:] الصّراط المستقيم، وإذا سلك الطّريق لم يزل خائفا من القطّاع؛ «إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع» . انتهى مناوي على «الجامع» .
(أو) بل (عابر سبيل) طريق قال الطّيبي: ليست «أو» للشّكّ ولا للتّخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى «بل» .
فشبّه النّاسك السّالك بالغريب الّذي لا مسكن له يؤويه، ثمّ ترقى وأضرب عنه إلى عابر السّبيل لأنّ الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السّبيل، القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق! فإنّ من شأنه أن لا يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، ومن ثمّ عقّبه بقوله: (وعدّ نفسك من أهل القبور» ) ؛ أي: استمرّ سائرا ولا تفتر، فإنّك إن فترت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، فلا تتنافس في عمارة الدّور فعل المستوطن المغرور؛ فيأتيك الموت من غير استعداد، وتقدم على سفر آخرة بغير زاد.
والحديث أخرجه البيقي في «الشّعب» ، والعسكري؛ من حديث ابن عمر بن الخطّاب مرفوعا في جملة حديث.
وأخرجه البخاري في «صحيحه» ؛ «كتاب الرّقاق» ؛ عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنكبي فقال: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» .(3/479)
183- «الكيّس.. من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز.. من أتبع نفسه هواها، ...
وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» . وهذه رواية البخاري كما في «الأربعين النّوويّة» .
وزاد أحمد، والنّسائي؛ أوّله: «اعبد الله كأنّك تراه» . ورواه التّرمذيّ بمثل رواية البخاري، إلّا أنّه قدّم جملة: «وإذا أصبحت» ، وقال: ومن حياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري يا عبد الله! ما اسمك غدا!» . ورواه أبو داود وابن ماجه.
183- ( «الكيّس) - بتشديد الياء مكسورة؛ مأخوذة من الكيس- بفتح فسكون.
قال في «النهاية» : أي: العاقل المتبصّر في الأمور، النّاظر في العواقب.
هو: (من دان نفسه) ؛ أي: أذلّها واستعبدها وأدّبها، وقيل: حاسبها؛ يعني:
جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربّها، مجتنبة لنواهيه، فلازم الطّاعة وتجنّب المعصية.
(وعمل لما بعد الموت) قبل نزوله، ليصير على نور من ربه؛ فالموت عاقبة أمور الدّنيا، فالكيّس من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها وحجبته الشّهوات والغفلات، وعاجل الحاصل يشترك في درك ضرّه ونفعه جميع الحيوانات بالطّبع؛ وإنّما الشّأن في العمل للآجل!!
فجدير بمن الموت مصرعه، والتّراب مضجعه، ومنكر ونكير جليسه، والدّود أنيسه، والقبر مقرّه، وبطن الأرض مستقرّه، والقيامة موعده، والجنّة أو النّار مورده؛
ألايكون له فكر إلّا في الموت وما بعده، ولا ذكر إلّا له، ولا استعداد إلّا لأجله ولا تدبير إلّا فيه، ولا اهتمام إلّا به، ولا انتظار إلّا له، وحقيق أن يعدّ نفسه من الموتى ويراها في أهل القبور، فكل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بات.
(والعاجز) - بمهملة وجيم وزاي-؛ من العجز؛ أي: المقصّر في الأمور، ورواه العسكري: «الفاجر» ؛ بالفاء والرّاء؛ من الفجور.
(من أتبع) - بسكون المثنّاة الفوقيّة- (نفسه هواها) ؛ أي: صيّرها تابعة(3/480)
وتمنّى على الله الأمانيّ» .
لميلها للشّهوات، فلم يكفّها عن اللّذّات ولم يمنعها من ارتكاب المحرمات.
قال الطيبي: العاجز الّذي غلبت عليه نفسه وقهرته فأعطاها ما تشتهيه، قوبل الكيّس بالعاجز!! والمقابل الحقيقي السّفيه؛ إيذانا بأنّ الكيّس هو القادر، والعاجز هو السّفيه.
(وتمنّى على الله الأمانيّ» ) - بتشديد الياء: جمع أمنية-؛ أي: فهو مع تقصيره في طاعة ربّه واتّباع شهوات نفسه لا يستعدّ ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنى على الله العفو والجنّة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار، فإذا قيل له: ارجع واستغفر، إلى متى هذا الانهماك والتّقصير؛ يقول: دعني، عفو الله واسع، وهو الغفور الرّحيم، ورحمته وسعت كل شيء!! وما درى هذا المسكين أنّ التّوغّل في المعاصي دليل على استدراج الله تعالى له، فالّذي ينبغي له أن يعدّ نفسه مقصّرا مستحقّا للهلاك والدّمار، لا أنّه يعد نفسه بالمغفرة والكرم، ويقول: فضل الله واسع! فإنّ ذلك تمنّ، فالشّارع أو عده بالعذاب، فكيف يعد نفسه بالمغفرة!؟
وإنّما ينبغي له الوعد بالمغفرة بعد أن يتوب، فيقول: لعلّ الله يقبل توبتي ويغفر لي، لأنّ هذا حينئذ من الترجّي، لا من التّمنّي! لأخذه في الأسباب، وسقط في رواية لفظ: «الأماني» ، وأصل الأمنية: ما يقدّره الإنسان في نفسه من منى إذا قدّر، ولذلك يطلق على الكذب، وعلى ما يتمنّى.
قال الحسن: إنّ قوما ألهتهم الأماني حتّى خرجوا من الدّنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إنّي أحسن الظّنّ بربّي. وكذب؛ لو أحس الظّنّ لأحسن العمل!! وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) [فصلت] .
وقال سعيد بن جبير: الغرّة بالله: أن يتمادى الرّجل في المعصية، ويتمنّى على الله المغفرة.
قال العسكري: وفيه: ردّ على المرجئة وإثبات الوعيد. انتهى. وفيه: ذمّ(3/481)
.........
التّمنّي. وأمّا الرّجاء!! فمحمود؛ لأنّ التّمنّي يصاحب الكسل، بخلاف الرّجاء!! فتعليق القلب بمحبوب يحصل حالا:
إنّ الرّجاء ما يقارن العمل ... وعند فقده تمنّ وكسل
انتهى من شروح «الجامع الصغير» وغيرها.
والحديث رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وابن ماجه؛ كلاهما في «الزّهد» ؛ والحاكم في «المستدرك» في «كتاب الإيمان» ، والعسكري، والقضاعي؛ من حديث أبي بكر بن أبي مريم الغسّاني، عن ضمرة بن حبيب، عن شدّاد بن أوس؛ وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الذّهبي: لا والله! أبو بكر واه.
قال ابن طاهر: مدار الحديث على ابن أبي مريم، وهو ضعيف جدّا. انتهى.
لكن له شاهد عند البيهقي في «الشّعب» بإسناد فيه ضعف؛ عن أنس رفعه:
«الكيّس من عمل لما بعد الموت، والعاري: العاري من الدّين، اللهمّ؛ لا عيش إلّا عيش الآخرة» . انتهى «زرقاني» .(3/482)
[ (حرف اللّام) ]
(حرف اللّام) 184- «لدوا للموت، وابنوا للخراب» .
(حرف اللّام) 184- ( «لدوا) ؛ أي: توالدوا (للموت، وابنوا للخراب» ) - اللّام لام العاقبة، فهو تسمية للشّيء باسم عاقبته- ونبّه بذلك على أنّه لا ينبغي للمرء أن يا بني من المساكن إلّا ما تندفع به الضّرورة؛ وهو ما يقي الحرّ والبرد، ويدفع الأعين والأيدي؛ وكذا لا يجمع من المال إلّا قدر الحاجة، وما عدا ذلك! فهو مضادّ للدين مفسد له، وقد اتّخذ نوح بيتا من قصب؛ فقيل له: لو بنيت!! فقال: هذا كثير لمن يموت.
وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محرز، وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقلنا: لو أصلحته. فقال: كم من رجل مات وهذا قائم على حاله؟!.
وأنشد البيهقي بسنده إلى ثابت البربري من أبيات له:
وللموت تغدو الوالدات يخالها ... كما لخراب الدّور تبنى المساكن
ولغيره:
له ملك ينادي كلّ يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب
وأنشد ابن حجر رحمه الله تعالى:
بني الدّنيا أقلّوا الهمّ فيها ... فما فيها يؤول إلى الفوات
بناء للخراب وجمع مال ... ليفنى والتّوالد للممات
والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» ؛ وقال: رواه البيهقي في «الشّعب» ؛ عن أبي هريرة والزبير مرفوعا بلفظ:
«إنّ ملكا بباب من أبواب السّماء» فذكر حديثا فيه: «وإنّ ملكا بباب آخر يقول: يا أيّها النّاس؛ هلمّوا إلى ربّكم، فإنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى،(3/483)
185- «لست من الباطل، ولا الباطل منّي» .
186- «ليس الخبر.. كالمعاينة» .
وإنّ ملكا بباب آخر ينادي: يا بني آدم؛ لدوا للموت وابنوا للخراب» .
ورواه البيهقي أيضا عن أبي حكيم مولى الزّبير رفعه: «ما من صباح يصبح على العباد إلّا وصارخ يصرخ: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب» . وفي سنده ضعيفان، وأبو حكيم مجهول.
ورواه أبو نعيم؛ عن أبي ذرّ موقوفا منقطعا أنّه قال: تلدون للموت وتبنون للخراب، وتؤثرون ما يفنى؛ وتتركون ما يبقى!!
وأخرج أحمد في «الزّهد» عن عبد الواحد بن زيد أنّه قال: قال عيسى ابن مريم: يا بني آدم؛ لدوا للموت وابنو للخراب، تفنى نفوسكم وتبلى دياركم!! انتهى، كله من (المناوي) و «الكشف» للعجلوني رحمهما الله تعالى.
185- ( «لست من الباطل) ؛ أي: من أهله (ولا الباطل منّي» ) ؛ أي: من طريقتي، ولا من طريقة من اتّبعني، وإنّما لم يقل؛ «ولا هو مني» !! لأنّ الصّريح آكد وأبلغ، ولا يناقضه أنّه كان يمزح!! لأنّه كان لا يقول في مزاحه إلّا حقا.
والحديث أخرجه الطّبراني، والبزّار، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، وفيه يحيى بن محمد بن قيس المدني المؤذّن، قال في «الميزان» : ضعفه ابن معين وغيره؛ لكن ليس بمتروك، وساق له أخبارا هذا منها، وقال الهيثمي: إنّ يحيى المذكور قد وثّق، لكن ذكر هذا الحديث من منكراته. قال الذهبي: لكن تابعه عليه غيره. انتهى مناوي على «الجامع» .
186- ( «ليس الخبر كالمعاينة» ) ؛ وفي رواية: «كالعيان» - بكسر العين- ومعناهما واحد؛ أي: المشاهدة، لأنّها تحصل العلم القطعيّ، وقد جعل الله لعباده آذانا واعية وأبصارا ناظرة، ولم يجعل الخبر في القوة كالنّظر بالعيان. وكما جعل في الرّأس سمعا وبصرا جعل في القلب ذلك!! فما رآه الإنسان ببصره قوي(3/484)
.........
علمه به، وما أدركه ببصر قلبه كان أقوى عنده.
والحديث أخرجه الإمام أحمد ابن حنبل، وأحمد بن منيع، والطّبراني، والعسكري؛ من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بزيادة:
«إنّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت» .
ورواه أحمد، وابن طاهر، والبغويّ، والدّارقطني، والطّبراني في «الأوسط» ، وابن حبّان، والعسكري أيضا؛ عن ابن عباس مختصرا بدون الزّيادة، وصحّح الحديث ابن حبّان، والحاكم، والضّياء.
قال العسكري: أراد صلى الله عليه وسلّم أنّه لا يهجم على قلب المخبر من الهلع بالأمر والاستفظاع له مثل ما يهجم على قلب المعاين، قال: وطعن بعض الملحدين في حديث موسى فقال: لم يصدّق بما أخبره به ربّه. وردّ بأنّه ليس في هذا ما يدلّ على أنّه لم يصدق، أو شكّ فيما أخبره به، ولكن للعيان روعة هي أنكى للقلب وأبعث لهلعه من المسموع. قال: ومن هذا قول إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [260/ البقرة] . لأنّ للمشاهدة والمعاينة حالا ليست لغيره.
ولله درّ من قال:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الخليل
وقال غيره: كان خبر الله ثابتا عند موسى، وخبره كلامه، وكلامه صفته، فعرف فتنة قومه بصفة الله، لكن صفة البشريّة لا تظهر عند صفة الله لعجز البشريّة وضعفها؛ فتمسّك موسى بما في يده ولم يلقه، فلمّا عاين قومه عاكفين على العجل عابدين له؛ عاتبهم بصفة نفسه الّتي هي نظره ببصره، ورؤيته بعينه، فلم يتمالك أن طرح الألواح من شدّة الغضب وفرط الضّجر؛ حميّة للدّين.
روي أنّها كانت سبعة، فانكسرت ستّة كان فيها تفصيل كلّ شيء، وبقي السّابع فيه المواعظ والأحكام. انتهى من «الزرقاني والمناوي وكشف الخفاء» رحمهم الله تعالى.(3/485)
.........
وهذا آخر ما أردنا تبييضه من الجزء الثّالث من كتاب (منتهى السّول» شرح كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول صلى الله عليه وسلم» ) تأليف العبد الفقير إلى الله عز وجل؛ عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبادي، اللحجي، الحضرمي، الشحّاري، المكيّ، المدرّس بالمدرسة الصّولتية، وبالمسجد الحرام بمكّة المكرمة، رحمه الله تعالى رحمة الأبرار، وختم له بخاتمة السّعادة، ورزقه الحسنى وزيادة، بمنّه وكرمه. آمين.
حرر في ليلة الجمعة الموافق الثّالث من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 1398 هـ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(3/486)
فهرسة الجزء الثالث من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
الموضوع الصحيفة
الباب السادس: في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه ثلاثة فصول 5
الفصل الأول: في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم 6
الفصل الثاني: في صفة صومه صلى الله عليه وسلّم 73
الفصل الثالث: في صفة قراءته صلى الله عليه وسلّم 104
الباب السابع: في أخبار شتى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الخ وفيه ثلاثة فصول 126
الفصل الأول: في أخبار شتى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلّم 128
الفصل الثاني: في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم ... الخ 184
الفصل الثالث: في ثلاثمائة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلّم 246
حرف الهمزة 251
حرف الباء 370
حرف التاء 378
حرف الثاء 385
حرف الجيم 391
حرف الحاء 396
حرف الخاء 406
حرف الدال 413
حرف الذال 423
حرف الراء 428
حرف الزاي 433
حرف السين 435(3/487)
الموضوع الصحيفة حرف الشين 438
حرف الصاد 439
حرف الضاد 443
حرف الطاء 444
حرف الظاء 447
حرف العين 448
حرف الغين 456
حرف الفاء 457
حرف القاف 459
حرف الكاف 466
حرف اللام 483(3/488)
الجزء الرابع
[تتمة الباب السابع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه الإعانة
[ (حرف الميم) ]
(حرف الميم) 187- «ماء زمزم.. لما شرب له» .
(حرف الميم) 187- ( «ماء زمزم) بمنع الصرف؛ للعلميّة والتّأنيث، وهو سيّد المياه وأشرفها، وأجلّها قدرا، وأحبّها إلى النفوس. ولها أسماء كثيرة «زمزم» ، و «مكتومة» ، و «مضنونة» ، و «شبّاعة» ، و «سقيا الدواء» ، و «ركضة جبريل» ، و «هزمة جبريل» ، و «شفاء سقم» ، و «طعام طعم» ، و «سقيا إسماعيل» ، و «حفيرة عبد المطّلب» ؛ ذكره في «شرح القاموس» . قال:
وقد جمعت أسماءها في نبذة لطيفة فجاءت على ما ينيّف على ستّين اسما ممّا استخرجتها من كتب الحديث واللّغة.
(لما شرب له» ) ، فإن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وإن شربته لظمإ أرواك الله، لأنّه سقيا الله وغياثه لولد خليله، فبقي غياثا لمن بعده، فمن شربه بإخلاص وجد ذلك الغوث» .
قال الحكيم الترمذي: هذا جار للعباد على مقاصدهم وصدقهم في تلك المقاصد والنيّات، لأن الموحّد إذا رابه أمر فشأنه الفزع إلى ربّه، فإذا فزع إليه واستغاث به؛ وجد غياثا، وإنّما يناله العبد على قدر نيّته.
قال سفيان الثّوري: إنّما كانت الرّقى والدّعاء بالنية!! لأن النية تبلغ بالعبد عناصر الأشياء، والنيّات على قدر طهارة القلوب وسعيها إلى ربّها؛ وعلى قدر(4/5)
.........
العقل والمعرفة يقدر القلب على الطيران إلى الله تعالى، فالشارب لزمزم على ذلك.
وهو أفضل المياه بعد الماء النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال:
وأفضل المياه ماء قد نبع ... أي من أصابع النّبيّ المتّبع
يليه ماء زمزم فالكوثر ... فنيل مصر ثمّ باقي الأنهر
قال الإمام النووي في «الإيضاح» : يستحبّ الشّرب من ماء زمزم والإكثار منه. ثبت في «صحيح مسلم» ؛ عن أبي ذر رضي الله عنه: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إنّها مباركة وإنّها طعام طعم» . وروّينا عن جابر رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» وقد شرب جماعة من العلماء ماء زمزم لمطالب لهم جليلة فنالوها. انتهى.
وقد شربه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ليكون في الحديث مثل الحافظ الذّهبي فنال ذلك وأعلى من مرتبة الذّهبيّ، وشربه الحافظ السيوطيّ لأمور؛ منها أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدّين البلقينيّ، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني فنال رتبة عالية، ونقل عنه أنّه ادّعى الاجتهاد المطلق، وقال: ما جاء بعد السبكيّ مثلي.
وأعلى المطالب التي يشرب لأجلها ماء زمزم الموت على الإسلام، ورؤية الله تعالى في دار السّلام.
ويطلب عند شربها أن يقال ما كان يقول ابن عبّاس رضي الله عنهما: اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كلّ داء.
قال الإمام النوويّ في «الإيضاح» : فيستحبّ لمن أراد الشرب للمغفرة؛ أو الشّفاء من مرض ونحوه أن يستقبل القبلة، ثمّ يذكر اسم الله تعالى، ثمّ يقول:(4/6)
.........
اللهمّ؛ إنّه بلغني أنّ رسولك محمدا صلى الله عليه وسلم قال «ماء زمزم لما شرب له» .
اللهمّ؛ وإنّي أشربه لتغفر لي، اللهمّ؛ فاغفر لي؛ أو اللهمّ؛ إنّي أشربه مستشفيا به من مرضي، اللهمّ فاشفني ... ونحو هذا.
ويستحبّ أن يتنفّس ثلاثا، ويتضلّع منه؛ أي: يمتلئ، فإذا فرغ حمد الله تعالى. انتهى. وكان بعضهم يقول: إنّي أشربه لظمأ يوم القيامة.
وفي «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي- ومثله في «كشف الخفا» للعجلوني-: يذكر على بعض الألسنة أنّ فضيلة ماء زمزم ما دام في محلّه، فإذا نقل تغيّر وهو شيء لا أصل له. فقد كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو: «إن جاءك كتابي ليلا، فلا تصبحنّ، أو نهارا؛ فلا تمسينّ، حتّى تبعث إليّ بماء زمزم» .
وفيه أنّه بعث له بمزادتين، وكان بالمدينة قبل أن تفتح مكّة؛ وهو حديث حسن لشواهده، وكذا كانت عائشة رضي الله عنها تحمله وتخبر: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله ويحمله في الأداوي والقرب فيصبّ منه على المرضى ويسقيهم، وكان ابن عبّاس إذا نزل به ضيف أتحفه من ماء زمزم. وسئل عطاء عن حمله؛ فقال: حمله النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن والحسين. انتهى.
وهذا الحديث أعني حديث «ماء زمزم لما شرب له» ؛ قال المناوي: فيه خلاف طويل وتأليفات مفردة. قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: والحقّ أنّه حسن، وجزم البعض بصحّته والبعض بوضعه!! مجازفة. انتهى.
وفي «الحاوي» للسيوطي؛ في «الفتاوى الحديثية» : حديث «ماء زمزم لما شرب له» ؛ أخرجه ابن ماجه في «سننه» ؛ من حديث جابر بإسناد جيد، ورواه الخطيب في «تاريخ بغداد» بإسناد قال فيه الحافظ شرف الدّين الدّمياطيّ: إنّه على رسم الصحيح.
وقد ألّف الحافظ ابن حجر جزآ في حديث «ماء زمزم لما شرب له» وتكلم(4/7)
188- «ما آمن بالقرآن.. من استحلّ محارمه» .
عليه في تخريج أحاديث الأذكار النوويّة فاستوعب.
وحاصل ما ذكره أنّه مختلف فيه، فضعّفه جماعة وصحّحه آخرون؛ منهم الحافظ المنذريّ في «الترغيب» والحافظ الدّمياطيّ قال: والصّواب أنّه حسن لشواهده.
ثمّ أورده من طرق من حديث جابر وابن عباس وغيرهما، قال: وحديث جابر مخرج في «مسند أحمد» و «مسند أبي بكر بن أبي شيبة» و «مصنفه» ، و «سنن ابن ماجه» ، و «سنن البيهقي» ، و «شعب الإيمان» له، وحديث ابن عباس «في سنن الدارقطني» و «مستدرك» الحاكم، وأخرجه البيهقيّ أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا؛ لكنّ سنده مقلوب، وورد هذا اللّفظ أيضا عن معاوية، موقوفا بسند حسن لا علّة له.
وله شواهد أخر مرفوعة وموقوفة، تركتها خشية الإطالة. انتهى.
وقال في «شرح الأذكار» : وقد كثر في كلام الحفاظ الاختلاف في مرتبة هذا الحديث. وقد ألّفت فيه جزآ أسميته «النّهج الأقوم في الكلام على حديث ماء زمزم» وأودعته كتاب «درر القلائد؛ فيما يتعلّق بزمزم والسقاية من الفوائد» ، وحاصل ما فيه تصحيح الحديث، والله أعلم. انتهى.
غريبة: في «تاريخ المدينة الشريفة» للعلامة السيّد السّمهودي: إنّ بالمدينة المنورة بئرا تعرف بزمزم- لم يزل أهلها يتبرّكون بها، قديما وحديثا، وينقل ماؤها للآفاق كزمزم. من المناوي على «الجامع الصغير» . انتهى.
188- ( «ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه» ) أي: فهو كافر؛ لاستحلاله الحري ي ي ام المنصوص عليه في القرآن وخصّ القرآن لعظمه؛ وإلّا فمن استحلّ المجمع على تحريمه المعلوم ضرورة كافر أيضا؛ كذا قاله الحفني.
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز التّرمذيّ عن صهيب(4/8)
189- «ما أعطي عبد شيئا.. شرّا من طلاقة في لسانه» .
190- «ما تشاور قوم.. إلّا هدوا» .
وقال: ليس إسناده قويّا. وقال البغويّ حديث ضعيف. انتهى. مناوي على «الجامع» .
189- ( «ما أعطي عبد شيئا شرّا من طلاقة في لسانه» ) بالخصام في الباص؛ بحيث يكون ماهرا؛ يزيّن بشقشقته الباطل بصورة الحق. والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا برمز الدّيلميّ في «الفردوس» .
190- ( «ما تشاور قوم) قال العامريّ في «شرح الشهاب» : حقيقة المشاورة: استخراج صواب رأيه، واشتقاق الكلمة من قولهم «شوّر العس» استخلصه من موضعه، وصفّاه من الشمع (إلّا هدوا» ) إلى الصواب، وتكلّلوا بالنجّاح في أمورهم.
وفيه إلماح بطلب الإستشارة المأمور بها في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [159/ آل عمران] وقيل: المشاورة حصن من النّدامة وأمن وسلامة، ونعم الموازرة المشاورة، وفي بعض الآثار: «نقّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة» . وقال الحكماء: من كمال عقلك استظهارك على عقلك.
وقالوا: إذا أشكلت عليك الأمور وتغيّر لك الجمهور؛ فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة الفضلاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد.
وقال بعض العارفين: الاستشارة بمنزلة تنبيه النّائم، أو الغافل؛ فإنّه يكون جازما بشيء يعتقد أنّه صواب وهو بخلافه. وقال بعضهم:
إذا عزّ أمر فاستشر فيه صاحبا ... وإن كنت ذا رأي تشير على الصّحب
فإنّي رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حلّ في موضع الشّهب(4/9)
191- «ما جمع شيء إلى شيء.. أحسن من حلم إلى علم» .
وقال الأرّجاني:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوما؛ وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تبصر منها ما نأى ودنا ... ولا ترى نفسها إلّا بمرآة
تنبيه: قال بعضهم: لا يستشار المحبّ؛ لغلبة هوى محبوبه عليه، ولا المرأة، ولا المتجردّ عن الدّنيا في شيء من أمورها، لعدم معرفته بذلك، ولا المنهمك على حبّ الدّنيا، لأنّ استيلاءها عليه يظلم قلبه فيفسد رأيه، ولا البخيل، ولا المعجب برأيه.
فائدة: أخرج الشافعي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما إنّ الله ورسوله ليغنيان عنها، لكن «جعلها الله رحمة لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيّا» . قال ابن حجر: غريب. انتهى «فيض القدير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطبري.
191- ( «ما جمع شيء إلى شيء أحسن) بالرفع، صفة ل «شيء» الأول، والجر صفة ل «شيء» الثاني. انتهى؛ «حفني» . وفي رواية «أفضل (من حلم) باللام (إلى علم» ) إذ باجتماعهما تحصل الكمالات، والنّجاة من الوقوع في المهلكات، وذلك لأنّ الحلم سعة الأخلاق، وإذا كان هناك علم؛ ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبّر بعلمه، لأنّ للعلم حلاوة، ولكل حلاوة شرة، فإذا ضاقت أخلاقه لم ينتفع بعلمه. انتهى «عزيزي» .
والحديث ذكره في «الجامع» ورمز له برمز الطبراني؛ في «الأوسط» عن علي أمير المؤمنين. وأخرجه العسكري في «الأمثال» ؛ عن علي بزيادة: «وأفضل الإيمان؛ التّحبّب إلى النّاس» .
«ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله: حلم يردّ به جهل الجاهل،(4/10)
192- «ما خاب.. من استخار، ولا ندم.. من استشار، ولا عال.. من اقتصد» .
193- «ما رآه المسلمون حسنا.. فهو حسن عند الله» .
وحسن خلق يعيش به في النّاس، وورع يحجزه عن معاصي الله» .
وعند العسكريّ أيضا؛ من حديث جابر مرفوعا: «ما أوتي شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى حلم» .
ولأبي الشيخ؛ عن أبي أمامة مرفوعا: «ما أضيف شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم» . وأخرجه ابن السني أيضا. انتهى. «كشف الخفا» ، ونحوه في «المواهب» مع الزرقاني.
192- ( «ما خاب من استخار) الله تعالى؛ أي: دعا وطلب من الله تعالى خير الأمرين المباحين؛ أو المندوبين.
أما الواجب! فلا كلام فيه. والأولى أن يكون بعد صلاة ركعتين؛ قاله الحفني.
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول «اللهمّ خر لي واختر لي» . وشمل العموم العظيم والحقير، فربّ حقير يترتّب عليه أمر عظيم (ولا ندم من استشار) غيره ممّن له تبصّر ونصيحة.
ويستحبّ تقديم الاستشارة على الاستخارة؛ كما في «المدخل» .
(ولا عال من اقتصد» ) أي: ما افتقر من توسّط في النفقة على عياله.
والحديث أخرجه الطبراني في معجمه «الأوسط» و «الصغير» ، وكذا القضاعيّ؛ كلّهم عن أنس رضي الله تعالى عنه رفعه بإسناد ضعيف جدا؛ كما في الزّرقاني والمناوي وغيرهما.
193- ( «ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن عند الله» ) أخرجه الإمام أحمد في(4/11)
194- «ما ضاق مجلس بمتحابّين» .
كتاب «السنة» - وليس في «مسنده» ؛ كما توهّمه بعضهم- عن ابن مسعود بلفظ:
«إنّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمّدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد فاختار له أصحابا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه؛ فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» . وهو موقوف حسن.
وأخرجه البزّار، والطّيالسيّ، والطّبرانيّ، وأبو نعيم، والبيهقي في «الاعتقاد» ؛ عن ابن مسعود أيضا. انتهى «كشف الخفا» .
قال العلائيّ: ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا؛ ولا بسند ضعيف بعد طول البحث، انتهى «شرح قواعد الفقه» .
194- ( «ما ضاق مجلس بمتحابّين» ) بالتثنية؛ أي: لأنّ المحبة تقتضي عدم ضيق الصّدر لما يوجب من السّرور باجتماع الأحباب، ولذا قيل:
رحب الفلاة مع الأعداء ضيّقة ... سمّ الخياط مع الأحباب ميدان
قال الحفني: وقد دخل الأصمعي على الخليل بن أحمد، وهو جالس على حصير ضيق فقال له: اجلس. فقال: أضيّق عليك. فقال له: مه، الدّنيا تضيق بمتباغضين وما ضاق مجلس بمتحابّين. ومما يعزى لإمامنا الشافعي رضي الله عنه:
من لم يكن بين إخوان يسرّ بهم ... فإنّ أوقاته نقص وخسران
وأطيب الأرض ما للنّفس فيه هوى ... سمّ الخياط مع الأحباب ميدان
وأخبث الأرض ما للنّفس فيه أذى ... خضر الجنان مع الأعداء نيران
لكن ينبغي إذا كان في المجلس سعة أن يكون بين كل اثنين ثلثا ذراع، لأنّه الأدب. انتهى.
أمّا في الشّتاء، أو الصلاة، أو الجهاد!! فينبغي الالتصاق.(4/12)
195- «ما قلّ وكفى.. خير ممّا كثر وألهى» .
196- «ما كان الرّفق في شيء.. إلّا زانه» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الخطيب عن أنس بن مالك مرفوعا، ورواه عنه الدّيلمي بلا سند مرفوعا.
وأخرجه البيهقي في «الشعب» من قول ذي النون بلفظ: ما بعد طريق أدّى إلى صديق، ولا ضاق مكان من حبيب. انتهى «كشف» .
195- ( «ما قلّ وكفى) - من الدّنيا- (خير ممّا كثر) - منها- (وألهى» ) عن طاعة الله تعالى، وهذا من طرق الاقتصاد المحمود الممدوح، فينبغي للمرء أن يقلّل أسباب الدّنيا ما أمكن؛ فإنّ قليلها يلهي عن كثير من الآخرة، فالكثير يلهي القلب عن الرّبّ وعن الآخرة بما يحدث له؛ من الكبر والطّغيان على الحق كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق] .
قال بعضهم: خذ من الدّنيا ما شئت؛ وخذ من الهمّ أضعافه. وسمّى الدّنيا لهوا؛ لأنها تلهي القلب عن كل خير، وتلهو بكل شرّ. انتهى «مناوي» .
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» وقال: رواه أبو يعلى، والضياء المقدسي في «المختارة» ، والعسكريّ في «الأمثال» ؛ كلهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الأعواد يقول ذلك.
قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير صدقة بن الرّبيع؛ وهو ثقة، وهو قطعة من حديث: «أمّا بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله» الحديث. انتهى «كشف ومناوي» .
196- ( «ما كان الرّفق) - أي: اللّطف- (في شيء إلّا زانه) ؛ لأنّ به تسهل الأمور ويأتلف ما تنافر، وهو مؤلّف الجماعات، وجامع الطّاعات؛ ومنه أخذ أنّه ينبغي للعالم إذا رأى من يخلّ بواجب، أو يفعل محرّما أن يترفق في(4/13)
197- «ما كان الفحش في شيء.. إلّا شانه» .
إرشاده، ويتلطّف به؛ ولذا لمّا جاء شابّ إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ائذن لّي في الزّنا! فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس بقربه، وقال له: «أتحبّ أن يزنى بأمّك!» فقال: لا.
فقال: «بابنتك!» فقال: لا. وهكذا عدّد عليه في عمّته، وخالته، وهو يقول:
لا. فقال: «إذن لا تفعل ما تكره أن يفعل بأقاربك» . فترك الزنا، ولم يخطر بباله من ذلك الوقت، وسببه رفقه صلى الله عليه وسلم به انتهى. «حفني»
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «ما كان الرّفق في شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه» وقال: أخرجه عبد بن حميد، والضّياء المقدسيّ في «المختارة» ؛ عن أنس بن مالك.
وهو في مسلم بلفظ: «وما كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه» وبقية المتن بحاله.
ورواه البزّار عن أنس أيضا بلفظ: «ما كان الرّفق في شيء قطّ إلّا زانه، وما كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه، وإنّ الله رفيق يحبّ الرّفق» . قال المنذري:
إسناده ليّن. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال في «الكشف» : رواه ابن حبّان عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أي:
باللفظ الذي في «الجامع الصغير» .
197- ( «ما كان الفحش) أي: قبح اللّسان، وتكلّمه بما لا يليق (في شيء) من حيوان؛ أو حجر، فإن الشيء يشمل الجماد (إلّا شانه» ) أي: عابه، إذ الشّين: العيب، أي: لو فرض ذلك في حجر لكان معيبا فكيف بالإنسان!!
وأشار بهذا إلى أنّ الأخلاق الرّذلة مفتاح كلّ شر، بل هي الشرّ كلّه.
قال ابن جماعة: وقد بلي بعض أصحاب النّفوس الخبيثة؛ من فقهاء الزّمان بالفحش، والحسد، والعجب، والرياء، وعدم الحياء. انتهى.
وأقول: ليت ابن جماعة عاش إلى الآن؛ حتى رأى علماء هذا الزمان!! انتهى مناوي على «الجامع» .(4/14)
198- «ما هلك امرؤ.. عرف قدره» .
199- «ما هو بمؤمن.. من لا يأمن جاره بوائقه» .
وهذا في زمانهما، فكيف لو رأيا زماننا؟! فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والبخاريّ في «الأدب» ، والترمذي في «البر» ، وابن ماجه؛ كلّهم عن أنس بن مالك: قال التّرمذي: حسن غريب. انتهى مناوي على «الجامع» ، وفي «العزيزي» : إن إسناده صحيح.
198- ( «ما هلك امرؤ عرف قدره» ) يعني: أنّ من عرف مقدار نفسه، ونزّلها منزلتها؛ نجا في الدّنيا والآخرة من الهلاك، ومن تعدى طوره؛ فتكبّر، ورفع نفسه فوق حدّه؛ هلك. وهو ظاهر.
والحديث ذكره في «الشّفاء» قال السّيوطي: قال السمعاني: رحمه الله تعالى إنّه: حديث روي مسندا عن عليّ كرّم الله وجهه، وفي سنده من لا يعرف حاله.
وقال التّجاني: لا أعرف له سندا صحيحا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم! وإنما هو من كلام أكثم بن صيفي في وصيته، فإن ثبت عن النّبي صلى الله عليه وسلم فلعله تمثّل به.
وأكثم هذا بالمثلّثة: من بلغاء العرب وعدّه بعضهم في الصّحابة، والأكثر على خلافه.
وفي كتاب «جوامع الكلم وبدائع الحكم» : هو من كلامه صلى الله عليه وسلم وذكره مسندا انتهى «شهاب» .
قال القاري: ويقرب منه ما روي عن عليّ أمير المؤمنين رضي الله عنه وكرّم وجهه في الجنّة: ما ضاع امرؤ عرف قدره. لأن الضائع بمنزلة الهالك. انتهى.
199- ( «ما هو بمؤمن) كامل (من لا يأمن جاره بوائقه» ) أي: شره؛ كما(4/15)
200- «مت مسلما ولا تبال» .
201- «المجالس.. بالأمانة» .
جاء مبينا في الحديث؛ في بعض الروايات. يعني: لا يكون المؤمن كامل الإيمان حتى يأمن جاره من إيذائه؛ وذلك لأن إيذاء المسلم كبيرة، فكيف إذا كان جارا!! فإيذاؤه أغلظ إثما، وذلك شامل للجار الذّمّي، فإنه لا يجوز إيذاؤه أيضا؛ وفاء بذمّته، حيث انقاد لأحكام الإسلام.
والحديث ذكره «في كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى.
200- ( «مت مسلما ولا تبال» ) هكذا ذكره في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» . لكن قال في «المقاصد» : لا أعلمه بهذا اللفظ! والأحاديث في «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة» كثيرة، منها ما للشّيخين: البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، ومنها ما لمسلم عن عثمان بلفظ: «من مات يشهد ألاإله إلا الله دخل الجنّة» . وقال القاري: معناه صحيح، لقوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران] ويناسب هذا قول بعضهم:
كن كيف شئت فإنّ الله ذو كرم ... وما عليك إذا أذنبت من باس
إلّا اثنتين فلا تقربهما أبدا ... الشّرك بالله والإضرار بالنّاس
201- ( «المجالس) أي: ما يقع فيها قولا وفعلا ملحق (بالأمانة» ) فيجب حفظها فلا يشيع أحد حديث جليسه لأنّه غيبة، أو نميمة.
نعم يجوز؛ بل يجب فيما إذا كان فيه ضرر، كما لو أسرّ لك جليسك أنّه يريد قتل فلان، أو الزّنا بزوجته، أو أخذ ماله مثلا، فيجب عليك إخباره ليحذر منه، كما أشار لذلك في الحديث بقوله «إلّا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ» انتهى «حفني» .
قال ابن رسلان: الباء تتعلّق بمحذوف لا بدّ منه ليتمّ به الكلام؛ والتّقدير(4/16)
.........
المجالس تحسن، أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضريها لما يحصل في المجالس، ويقع في الأقوال والأفعال. فكأنّه صلى الله عليه وسلم يقول: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه؛ أو يراه، فيحفظه أن ينتقل إلى من غاب عنه؛ انتقالا يحصل به مفسدة.
وفائدة الحديث: النّهي عن النّميمة الّتي ربما تؤدّي إلى القطيعة، انتهى «عزيزي» .
وقال العسكري: أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الرّجل يجلس إلى القوم فيخوضون في الحديث، ولعلّ فيه ما إن نمي كان فيه ما يكرهون؛ فيأمنونه على أسرارهم!! فيريد: أنّ الأحاديث الّتي تجري بينهم كالأمانة، الّتي لا يجب أن يطلع عليها، فمن أظهرها فهو قتّات، وفي التّنزيل هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) [القلم] . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة قتّات- أي: نمّام-» وروي مرفوعا، ألا إنّ من الخيانة أن يحدّث الرّجل أخاه بالحديث فيفشيه. انتهى.
ولعبد الرزاق مرفوعا: «إنّما يتجالس المتجالسون بأمانة الله، فلا يحلّ لأحد أن يفشي عن صاحبه ما يكره» . وقال ابن الأثير: هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس؛ من قول أو فعل، فكأنّ ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه، والأمانة تقع على الطّاعة والعبادة والوديعة والثّقة والأمان، وقد جاء في كلّ منها حديث انتهى «شروح الجامع» ، ومن الزرقاني.
والحديث رواه ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
ورواه الديلمي والعسكري والقضاعي والعقيلي والخطيب؛ كلهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه.
ورواه أبو داود والعسكري؛ عن جابر بن عبد الله مرفوعا بزيادة: «إلّا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حقّ» انتهى.
«زرقاني» وغيره، رحمهم الله تعالى(4/17)
202- «محرّم الحلال.. كمحلّ الحرام» .
203- «المرء.. كثير بأخيه» .
204- «مداراة النّاس.. صدقة» .
202- ( «محرّم الحلال كمحلّ الحرام» ) في الإثم، فكما يحرم على المكلّف تحريم ما أحلّ الله؛ كذلك يحرم عليه تحليل ما حرّم الله، فإن كان ذلك المحرّم الّذي أحلّه محرّما بالإجماع، معلوما من الدّين بالضرورة؛ كتحليل الزّنا، وشرب الخمر، فتحليله كفر، وكذا الحلال؛ إن كان حلالا مجمعا على حلّه، معلوما من الدّين بالضرورة؛ كالبيع، والنّكاح، فتحريم ذلك كفر، وخروج عن ملّة الإسلام؛ تجب الاستتابة من ذلك، وإلّا! قتل كافرا، ورميت جيفته للكلاب.
هذا إن اعتقد تحليل المحرّم بالإجماع، أو اعتقد تحريم الحلال بالإجماع، وإلّا! فلا. والله أعلم.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني.
203- ( «المرء) قليل بمفرده (كثير بأخيه» ) في النّسب، أو في الدّين.
قال العسكريّ: أراد أنّ الرّجل؛ وإن كان قليلا في نفسه حين انفراده؛ كثير باجتماعه معه، فهو كخبر: «اثنان فما فوقهما جماعة» انتهى.
وهذا كما ترى ذهاب منه إلى أنّ المراد الأخوّة في الإسلام! نزّله الماوردي على أنّها أخوّة النّسب. ووجهه بأنّ تعاطف الأرحام، وحمية الأقارب؛ يبعثان على التّناصر والألفة، ويمنعان من التّخاذل والفرقة؛ أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقّيا من تسلّط الغرباء الأجانب انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال: أخرجه ابن أبي الدّنيا أبو بكر القرشيّ في كتاب «الإخوان» ، وكذا العسكريّ؛ كلاهما عن سهل بن سعد الساعديّ، ورواه الديلمي والقضاعي عن أنس، قال شارحه العامريّ: وهو غريب. انتهى «مناوي» .
204- ( «مداراة) بغير همزة (النّاس صدقة» ) قال العامريّ: المداراة اللّين(4/18)
.........
والتعطّف، ومعناه: أنّ من ابتلي بمخالطة النّاس؛ معاملة ومعاشرة؛ فألان جانبه وتلطّف، ولم ينفّرهم كتب له صدقة.
قال ابن حبّان: المداراة الّتي تكون صدقة للمداري: تخلّقه بأخلاقه المستحسنة مع نحو عشيرته؛ ما لم يشبها بمعصية.
والمداراة محثوث عليها مأمور بها، ومن ثمّ قيل: اتّسعت دار من يداري، وضاقت أسباب من يماري.
وفي «شرح البخاري» : قالوا:
المداراة: الرفق بالجاهل في التّعليم، وبالفاسق بالنّهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه. والمداهنة: معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه.
والأولى مندوبة، والثّانية محرّمة.
وقال حجّة الإسلام: النّاس ثلاثة: أحدهم مثل الغذاء؛ لا يستغنى عنه.
والآخر مثل الدواء؛ يحتاج إليه في وقت دون وقت. والثّالث مثل الداء لا يحتاج إليه، لكنّ العبد قد يبتلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع، فتجب مداراته إلى الخلاص منه. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز ابن حبّان، والطّبراني في «الكبير» ، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ عن جابر بن عبد الله.
وهو حديث له طرق عديدة، وهذا الطّريق- كما قاله العلائي وغيره-:
أعدلها.
وفيه يوسف بن أسباط الراهب! أورده الذّهبي في «الضّعفاء» !! وقال الهيثمي: فيه عند الطّبراني يوسف بن محمد بن المنكدر متروك، وقال الحافظ في «الفتح» بعد ما عزاه لابن عدي والطّبرانيّ في «الأوسط» : فيه يوسف بن محمّد بن المنكدر ضعّفوه، وقال ابن عدي: لا بأس به. قال الحافظ: وأخرجه(4/19)
205- «المرء.. مع من أحبّ» .
206- «المستشار.. مؤتمن» .
ابن أبي عاصم في «آداب الحكماء» بسند أحسن منه. انتهى «مناوي» .
205- ( «المرء مع من أحبّ» ) في الجنّة بحسن نيّته من غير زيادة عمل، لأنّ محبّته لهم لطاعتهم، والمحبّة من أفعال القلوب، فأثيب على ما اعتقده؛ لأن الأصل النيّة والعمل تابع لها، ولا يلزم من المعيّة استواء الدّرجات، بل ترفع الحجب حتّى تحصل الرؤية والمشاهدة، وكلّ في درجته؛ قاله القسطلّاني.
وهذا الحديث متواتر، قال في «الفتح» : جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب «المحبين مع المحبوبين» ، وبلغ عدد الصّحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم «المرء مع من أحبّ» ،
وفي بعضها بلفظ حديث أنس: «أنت مع من أحببت» . انتهى.
قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث؛ وفي ضمنه حثّ على حبّ الأخيار؛ رجاء اللّحاق بهم في دار القرار، والخلاص من النّار، والقرب من الغفّار، والترغيب في الحبّ في الله، والترهيب من التّباغض بين المسلمين؛ لأن من لازمه فوات هذه المعية؛ وفيه رمز إلى أنّ التّحابب بين الكفار ينتج لهم المعيّة في النّار، وبئس القرار، قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) [إبراهيم] .
والحديث رواه الشيخان في «الأدب» وغيرهما؛ عن أنس وأبي موسى وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
206- ( «المستشار مؤتمن» ) أي: أمين على ما استشير فيه، فمن أفضى إلى أخيه بسرّه وأمّنه على نفسه؛ فقد جعله بمحلّها، فيجب عليه ألايشير عليه، إلّا بما يراه صوابا، فإنّه كالأمانة للرجل الّذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا ثقة.
والسرّ الّذي قد يكون في إذاعته تلف النّفس؛ أولى بأن لا يجعل إلّا عند موثوق(4/20)
.........
به، ولذا احتاج المشير والنّاصح إلى كونه أمينا مجرّبا، حازما ناصحا، ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلوّن في رأيه، ولا كاذب في مقاله، فارغ البال وقت الاستشارة.
ولذا قيل: إنهما يحتاجان إلى علم كبير كثير، فيحتاج أولا إلى علم الشّريعة، وهو العلم المتضمّن لأحوال النّاس، وعلم الزّمان والمكان، وعلم التّرجيح إذا تقابلت هذه الأمور، فقد يكون ما يصلح الزّمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا فينظر إلى التّرجيح، فيفعل بحسب الأرجح عنده.
مثاله: أن يضيق الزّمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال، فيشير بأهمهما.
وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة؛ وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضدّه! أشار عليه بما لا ينبغي؛ ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمّى علم السّياسة، فإنه يسوس بذلك النّفوس الجموحة الشّاردة عن طريق مصالحها، فلذا يحتاج المشير والنّاصح إلى علم وعقل وفكر صحيح، ورويّة حسنة واعتدال مزاج، وتؤدة وتأنّ. فإن لم يجمع هذه الخصال!؟ فخطؤه أسرع من إصابته؛ فلا يشير ولا ينصح. قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدقّ، ولا أخفى، ولا أعظم من النّصيحة. انتهى «زرقاني» ، ومناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد؛ من حديث ابن مسعود بزيادة: «وهو بالخيار إن شاء تكلّم وإن شاء سكت، فإن تكلّم فليجتهد رأيه» .
وأخرجه أصحاب «السنن الأربعة» ؛ عن أبي هريرة، والتّرمذيّ؛ عن أمّ سلمة، والطّبراني في «الأوسط» و «الكبير» ؛ عن سمرة بزيادة: «إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر» .
والقضاعي عن سمرة بلفظ: «المستشار مؤتمن، فإن شاء أشار وإن شاء سكت، فإن أشار فليشر بما لو نزل به لفعله» .(4/21)
207- «المسلم.. أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» .
والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن علي وزاد: «فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه» .
وللعسكريّ؛ عن عائشة: «المستشير معان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صالح لنفسه» .
وفي الباب جابر بن سمرة، وأبو الهيثم، وابن عباس، وآخرون. قال السّيوطي: وهو متواتر. انتهى «زرقاني» .
وقد تقدّم الكلام على هذا الحديث في الباب الرّابع في صفة أكله صلى الله عليه وسلم.
207- ( «المسلم) حرا كان؛ أو قنا، بالغا أو صبيّا (أخو المسلم) أي:
يجمعهما دين واحد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [10/ الحجرات] ، فهو كالأخوّة الحقيقية، وهي أن تجمع الشّخصين ولادة من صلب أو رحم؛ أو منهما. بل الأخوّة الدينيّة أعظم من الحقيقيّة، لأنّ ثمرة هذه دنيويّة وثمرة تلك أخرويّة.
(لا يظلمه ولا يسلمه» ) بضم أوله، يقال: «أسلم فلان فلانا» ؛ إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوّه، وهو عامّ في كلّ من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة؛ أي لا يتركه مع من يؤذيه؛ ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، ولا يترك نصرته المشروعة؛ سيما مع الاحتياج، أو الاضطرار إليها، لأن من حقوق أخوّة الإسلام التّناصر.
قال تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [72/ الأنفال] . وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» . فقوله «ظالما» ؛ أي: بأن تكفّه عن ظلمه. وقوله «مظلوما» ؛ أي: بأن تدفع عنه من يظلمه، فخذلانه محرّم شديد التّحريم دنيويّا؛ كأن مثل أن يقدر على دفع عدوّ يريد أن يبطش به ولا يدفعه، أو دينيّا مثل أن يقدر على نصحه عن غيّه، بنحو وعظ فيترك.(4/22)
208- «المسلم.. من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر.. من هجر ما حرّم الله» .
والحديث أخرجه البخاري في «المظالم والإكراه» ، وأبو داود في «الأدب» ، والتّرمذي في «الحدود» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب. وأخرجه مسلم في «الأدب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال: «لا يخذله» بدل «يسلمه» .
208- ( «المسلم) الكامل في الإسلام (من) - أي: إنسان؛ ذكرا كان أو أنثى- أتى بأركان الدّين، و (سلم المسلمون) وغيرهم؛ من أهل الذمّة، فالتّقييد غالبيّ كالتّعبير بجمع المذكّر السّالم (من لسانه ويده) وبقيّة أعضائه؛ بأن لا يتعرّض لهم بما حرم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وخصّ هذين العضوين! لأن الأذى بهما أغلب.
وقدّم اللّسان! لأكثريّة الأذى به، ولكونه المعبّر عمّا في الضّمير.
وعبّر باللّسان دون القول! ليشمل من أخرج لسانه استهزاء.
وعبّر باليد دون بقيّة الجوارح! ليدخل اليد المعنويّة كالاستيلاء على حقّ الغير ظلما.
فإن قيل: هذا يستلزم أنّ من اتّصف بهذا خاصّة كان كاملا!!
ويجاب بأنّ المراد أتى بذلك مع مراعاة بقيّة أركان الإسلام، فهذا إنّما ورد على سبيل المبالغة؛ تعظيما لترك الإيذاء. كأنّ ترك الإيذاء؛ هو نفس الإسلام الكامل، وكأنّه محصور فيه، على سبيل الادّعاء للمبالغة!!.
قال الخطّابي: أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى حقوق المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثّ على حسن معاملة العبد مع ربّه، لأنّه إذا أحسن معاملة إخوانه، فالأولى أن يحسن معاملة ربّه، من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
(والمهاجر) هجرة كاملة ممدوحة (من هجر) ؛ أي: ترك (ما حرّم الله» ) عليه، أي: ليس المهاجر حقيقة من هاجر من بلاد الكفر، بل من هجر نفسه،(4/23)
209- «مع كلّ فرحة.. ترحة» .
وأكرهها على الطّاعة، وحمّلها تجنّب المنهيّ، لأن النّفس أشدّ عداوة من الكافر؛ لقربها وملازمتها وحرصها على منع الخير.
فالمجاهد الحقيقيّ من جاهد نفسه، واتبع سنّة نبيّه، واقتفى طريقه؛ في أقواله وأفعاله على اختلاف أحواله بحيث لا يكون له حركة ولا سكون إلّا على السّنّة، وهذه الهجرة العليا لثبوت فضلها على الدوام.
قال العلقمي: الهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة.
فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النّفس الأمّارة بالسّوء والشّيطان.
والظّاهرة: الفرار بالدّين من الفتن.
وكأنّ المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتّكلوا على مجرّد التحوّل من دارهم حتّى يمتثلوا أوامر الشّرع ونواهيه.
ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لمّا فتحت مكّة؛ تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك؛ بأنّ حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما حرّم الله!! فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البخاري في «كتاب الإيمان» لكن بلفظ: «ما نهى الله عنه» ، وأبو داود في «الجهاد» ، والنّسائي في «الإيمان» ، وهذا لفظه؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه، ولم يخرّجه مسلم؛ قاله المناوي على «الجامع» .
209- ( «مع كلّ فرحة ترحة» ) في «النهاية» الترح ضد الفرح. انتهى؛ أي: مع كلّ سرور حزن؛ أي: يعقبه. حتّى كأنّه معه؛ أي: جرت عادة الله بذلك؛ لئلا تسكن نفوس العقلاء إلى نعيمها، ولا تعكف قلوب المؤمنين على فرحاتها؛ فيمقتها الله سبحانه عند هجوم ترحاتها، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) [القصص] قال بعضهم:(4/24)
210- «مفتاح الجنّة.. لا إله إلّا الله» .
ثمانية تجري على سائر الورى ... ولا بدّ للمرء يذوق الثّمانيه
ففرح وكره واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثمّ سقم وعافيه
والحديث ذكره في «الجامع» و «الكنوز» مرموزا له برمز الخطيب في ترجمة أبي بكر الشّيرازي؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وفيه حفص بن غياث، أورده الذّهبي في الضّعفاء، وقال: مجهول. انتهى «مناوي» .
210- ( «مفتاح الجنّة) أي: مبيح دخولها (لا إله إلّا الله» ) أي؛ وأنّ محمّدا رسول الله، وفيه استعارة لطيفة، لأن الكفر لما منع من دخول الجنّة، شبّه بالغلق المانع من دخول الدّار ونحوها؛ والإتيان بالشّهادة لمّا رفع المانع؛ وكان سبب دخولها شبّه بالمفتاح.
وفي البخاري؛ عن وهب أنّه قيل له: أليس مفتاح الجنّة لا إله إلّا الله قال:
بلى؛ ولكن ليس مفتاح إلّا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلّا! فلا. فجعل الأعمال الصالحة الّتي هي ثمرة الشهادة بمنزلة أسنان المفتاح. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال الشريف الرضي: المراد أنّ هذا القول به يوصل إلى دخول الجنة، فجعله عليه الصّلاة والسّلام بمنزلة المفتاح الّذي به يستفتح الغلق؛ ويستفرج الباب.
وأراد عليه الصّلاة والسّلام هذه الكلمة وما يتبعها من شعائر الإسلام وقوانين الإيمان، إلّا أنّه صلى الله عليه وسلم عبّر عن جميع ذلك بهذه الكلمة، لأنّها أوّل لتلك الشعائر، وسائرها تابع لها ومتعلّق بها، فهي لها كالزّمام القائد والمتقدّم الرّائد، وذلك كما يعبّرون عن حروف المعجم ببعضها، فيقال: «ألف باء تاء ثاء» والمراد جميعها، وكذلك يقولون هو في «أبجد» ويريدون سائر هذه الحروف، إلّا أنّ هذه الحروف لمّا كانت أوّلة لباقيها ومتقدّمة لما يليها، حسن أن يعبّر بها عن جميعها. انتهى.
والحديث ذكره في «كشف الخفاء» باللّفظ الّذي أورده المصنّف؛ وقال: رواه الإمام أحمد عن معاذ رفعه، قال النجم: وفي لفظ «مفاتيح الجنّة» . وضعّفوه،(4/25)
211- «ملاك الدّين.. الورع» .
لكن عند البخاري عن وهب ما يشهد له. انتهى.
وذكره «في كنوز الحقائق» ، مرموزا له برمز الديلمي في «الفردوس» ، وذكره في «الجامع» بلفظ «مفاتيح الجنّة شهادة ألاإله إلّا الله» ، ورمز له برمز الإمام أحمد؛ عن معاذ بن جبل، قال الهيثمي: رجاله وثّقوا، إلّا أنّ شهرا لم يسمع من معاذ. انتهى مناوي على «الجامع» . وفي «فيض القدير» للمناوي:
تنبيه:
قد جعل الله لكلّ مطلوب مفتاحا يفتح به؛ فجعل مفتاح الصّلاة الطّهور، ومفتاح الحجّ الإحرام، ومفتاح البرّ الصّدقة، ومفتاح الجنّة التّوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال والإصغاء، ومفتاح الظّفر الصّبر، ومفتاح المزيد الشّكر، ومفتاح الولاية والمحبّة الذّكر، ومفتاح الفلاح التّقوى، ومفتاح التّوفيق الرّغبة والرّهبة، ومفتاح الإجابة الدّعاء، ومفتاح الرّغبة في الآخرة الزّهد في الدّنيا، ومفتاح الإيمان التفكّر في مصنوعات الله، ومفتاح الدّخول على الله استسلام القلب والإخلاص له في الحبّ والبغض، ومفتاح حياة القلوب تدبّر القرآن والضّراعة بالأسحار وترك الذّنوب، ومفتاح حصول الرّحمة الإحسان في عبادة الحقّ؛ والسّعي في نفع الخلق؛ ومفتاح الرزق السّعي مع الاستغفار، ومفتاح العزّ الطّاعة، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كلّ خير الرّغبة في الآخرة، ومفتاح كلّ شرّ حبّ الدّنيا وطول الأمل. وهذا باب واسع من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، ولا يقف عليه إلّا الموفّقون. انتهى.
211- ( «ملاك) - بكسر الميم وفتحها- (الدّين) - أي: قوامه، ونظامه، وما يعتمد عليه فيه- هو: (الورع» ) بالكفّ عن التّوسّع في الأمور الدّنيويّة؛ المشغلة عن ذكر الله ودوام مراقبته.
والورع أصله: النّظر البالغ في كلّ شيء، والبحث التّام عن كلّ شيء هو بصدده.(4/26)
212- «المكر والخديعة.. في النّار» .
وأصل الملاك استحكام القدرة؛ يعني أنّ إحكام الدّين يكون بالورع، بمعنى أنه إذا وجد كان الدّين على غاية من الكمال، وذلك لأن الورع دائم المراقبة للحقّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلا بحقّ؛ كما قال الحبر ابن عباس: كان عمر كالطّير الحذر.
والحديث أخرجه أبو الشيخ ابن حيان، والدّيلمي؛ كلاهما عن عبادة بن الصّامت. وأخرجه الخطيب وابن عبد البرّ؛ كلاهما عن ابن عباس. وأخرجه ابن عبد البر؛ عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي الشيخ بن حيّان.
212- ( «المكر) : إضمار السوء لغيره (والخديعة) : إيصال المكروه للغير، من حيث لا يعلم (في النّار» ) ومعناه- كما قال العسكري-: أنّ صاحب المكر والخداع لا يكون تقيّا، ولا خائفا لله، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق نفسه، وهذا لا يكون في تقي، فكلّ خلّة جانبت التّقى فهي في النّار؛ أي صاحبها. انتهى.
ومقتضى هذا تغاير المكر للخديعة، لأنّه جعل المكر سبب الغدر، وهو سبب الخديعة؛ والسبب مغاير للمسبب!! وفي «القاموس» وغيره: المكر الخديعة!!
والجواب: أنّه جرد المكر عن معناه، كما ذكرناه؛ فلا يخالف ترادفهما.
وقال الرّاغب: المكر والخديعة متقاربان، وهما اسمان لكلّ فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره؛ ويكون سيّئا، كقصد إنزال مكروه بالمخدوع.
وإيّاه قصد صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، ومعناه يؤدّيان بقاصدهما إلى النّار، ويكون حسنا؛ وهو أن يقصد فاعلهما مصلحة بالمخدوع والممكور به، كما يفعل بالصّبي إذا امتنع من فعل خير، ولكونهما ضربين قال تعالى وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) [فاطر] ، ووَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [43/ فاطر] ووصف نفسه بالمكر الحسن؛ فقال وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) [آل عمران] . انتهى زرقاني على «المواهب» .(4/27)
213- «من أبطأ به عمله.. لم يسرع به نسبه» .
214- «من اتّقى الله.. كلّ لسانه، ولم يشف غيظه» .
والحديث ذكره في «المواهب» وقال: رواه الديلمي؛ عن أبي عن أبي هريرة، والقضاعي؛ عن ابن مسعود وزاد: «من غشّنا فليس منّا» . وفي الباب غيرهما، ونحو «ليس منّا من ضارّ مسلما وما كره» رواه الترمذي. انتهى مع زيادة من «شرح الزرقاني» .
213- ( «من أبطأ) - بألف قبل الموحدة ودونها: روايتان، وهما بمعنى، إلّا أنّ السّخاوي ادّعى أنّ لفظ مسلم بلا ألف، وأنّ رواية القضاعي «أبطأ» بألف- (به عمله) - أي: أخّره عمله السّيء، أو تفريطه في العمل الصّالح؛ بأن لم يأت به على الوجه الأكمل- (لم يسرع به نسبه» ) - أي: لا ينفعه في الآخرة شرف النّسب؛ فلا يعجل به إلى منازل السعداء. والحديث رواه مسلم، وأبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه، وأحمد، والعسكري، والقضاعي؛ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ في آخر حديث لفظه: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا ... » الخ. انتهى «زرقاني» .
214- ( «من اتّقى الله) - أي: أطاعه في أمره ونهيه بقدر الاستطاعة- (كلّ) بفتح الكاف وشدّ اللام؛ أي: تعب وأعيا- (لسانه، ولم يشف غيظه» ) ممّن فعل به مكروها، لأنّ التّقوى عبارة عن امتثال أوامر الله؛ وتجنّب نواهيه.
ولن يصل العبد إلى القيام بأوامره، إلّا بمراقبة قلبه وجوارحه في لحظاته وأنفاسه؛ بحيث يعلم أنّه مطّلع عليه وعلى ضميره، ومشرف على ظاهره وباطنه؛ محيط بجميع لحظاته وخطراته وخطواته، وسائر حركاته وسكناته، وذلك مانع له مما ذكر.
فمن زعم أنّه من المتقين؛ وهو ذرب اللّسان، منتصر لنفسه، مشف لغيظه؛ فهو من الكاذبين، لا بل من الهالكين.(4/28)
215- «من اتّقى الله.. وقاه كلّ شيء» .
216- «من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله.. فلينظر منزلة الله عنده» .
والحديث ذكره في «الجامع» ؛ وقال: أخرجه ابن أبي الدّنيا في «كتاب التّقوى» ؛ عن سهل بن سعد. ورواه عنه أيضا الدّيلميّ في «مسند الفردوس» قال الحافظ العراقي: وسنده ضعيف، قال: ورأيناه في «الأربعين البلدانية» للسّلفي.
انتهى مناوي على «الجامع» .
215- ( «من اتّقى الله وقاه كلّ شيء» ) يخافه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) [يونس] ، فأعظم بخصلة تضمّنت موالاة الله وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشرى في الدّنيا والعقبى!! فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) [التوبة] ، أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [62- 64/ يونس] .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ؛ وقال: أخرجه ابن النّجّار في «تاريخه» ؛ عن ابن عباس، ورواه عنه أيضا الخطيب في «تاريخه» باللفظ المزبور. انتهى مناوي على «الجامع» .
216- ( «من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله) - أي: هل هو من النّاجين المحبوبين لله؛ أم لا- (فلينظر) - كيف- (منزلة الله عنده» ) من الوقار والإجلال المستلزمين لامتثال الأوامر واجتناب النّواهي، فمنزلة الله عند العبد في قلبه على قدر معرفته إيّاه؛ وعلمه به وإجلاله وتعظيمه، والحياء والخوف منه، وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، والوقوف عند أحكامه بقلب سليم ونفس مطمئنة، والتّسليم له روحا وبدنا وقلبا، ومراقبة تدبيره في أموره، ولزوم ذكره، والنّهوض بأثقال نعمته ومنّته، وترك مشيئة نفسه لمشيئته وحسن الظّنّ به، والنّاس في ذلك درجات، وحظوظهم بقدر حظوظهم من هذه الأشياء؛ فأوفرهم حظّا منها أعظمهم درجة عنده، وعكسه بعكسه.(4/29)
.........
قال ابن عطاء الله: إذا أردت أن تعرف مقامك عنده؛ فانظر ما أقامك فيه! فإن كان في الخدمة؛ فاجتهد في تصحيح عبوديتك، ودوام المراقبة في خدمتك، لأنّ شرط العبوديّة المراقبة في الخدمة لمراد المولى؛ وهي المعرفة، لأنك إذا عرفت أنّه أوجدك وأعانك واستعملك فيما شاء- وأنت عاجز- عرفت نفسك، وعرفت ربّك، ولزمت طاعته.
إذا أردت أن ترى مقامكا ... لديه فلتنظر بما أقامكا
فقيمة الإنسان عند ربّه ... بقدر ما شغله الرّبّ به
قال بعض العارفين: إن أردت أن تعرف قدرك عنده؛ فانظر فيم يقيمك.
متى رزقك الطّاعة والغنى به عنها؛ فاعلم أنّه أسبغ نعمه عليك ظاهرة وباطنة.
وخير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك.
متى رزقت طاعة مع الغنى ... عنها بمولاك فقد نلت المنى
إذ أسبغ الله عليك نعمه ... ظاهرة باطنة وكرمه
أجلّ ما تطلبه من ربّكا ... ما هو طالب له من نفسكا
والحديث ذكره المناويّ في «الطّبقات» ، وقال في «العزيزي» : رواه الحاكم بلفظ: «من كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه» . وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ:
«من أراد أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده» ورمز له برمز الدارقطني في «الأفراد» ؛ عن أنس بن مالك، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وعن سمرة بلفظ: «من سرّه أن يعلم ... الخ» وقال: إنه غريب من حديث صالح المرّي. وصالح المرّي. وصالح المرّي ذكره الذّهبي في الضعفاء؛ وقال فيه: قال النّسائي وغيره: متروك.
ورواه الحاكم عن جابر بلفظ: «من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله(4/30)
217- «من أحبّ دنياه.. أضرّ باخرته، ومن أحبّ آخرته..
أضرّ بدنياه؛ فاثروا ما يبقى على ما يفنى» .
عنده، فإنّ الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه» انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
217- ( «من أحبّ دنياه أضرّ باخرته) لأن حبّها يشغله عن تفريغ قلبه لحبّ ربّه ولسانه لذكره؛ فتضرّ آخرته (ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه) فهما ككفّتي الميزان؛ إذا رجحت إحداهما خفّت الآخرى.
قال الإمام علي رضي الله عنه: الدّنيا والآخرة كالمشرق والمغرب؛ إذا قربت من إحداهما بعدت عن الآخرى، فالجمع بين الدّنيا والدّين على الكمال لا يكاد يقع، إلّا لمن سخّره الله لتدبير خلقه في معاشهم ومعادهم؛ وهم الأنبياء.
أمّا غيرهم! فإذا شغلت قلوبهم بالدّنيا انصرفت عن الآخرة، وذلك أنّ حبّ الدّنيا سبب لشغله بها والانهماك فيها؛ وهو سبب للشّغل عن الآخرة، فتخلو عن الطّاعة، فيفوت الفوز بدرجاتها؛ وهو عين المضرّة.
بنى ملك من الملوك مدينة وتأنّق فيها، ثمّ صنع طعاما ونصب ببابها من يسأل عنها. فلم يعبها إلّا ثلاثة، فسألهم فقالوا: رأينا عيبين. قال: وما هما؟ قالوا:
تخرب ويموت صاحبها. قال: فهل ثمّ دار تسلم منها؟! قالوا: نعم، الآخرة، فتخلّى عن الملك وتعبّد معهم، ثمّ ودّعهم، فقالوا: هل رأيت منا ما تكره!!.
قال: لا، لكن عرفتموني فأكرمتموني، فأصحب من لا يعرفوني. انتهى «مناوي» .
(فاثروا) أي: إذا علمتم ذلك فقدّموا (ما يبقى على ما يفنى» ) فقد ذمّ الله من يحبّ الدّنيا، ويؤثرها على الآخرة، بقوله كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) [القيامة] وذمّ حبّها يستلزم مدح بغضها. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا برمز الإمام أحمد، والحاكم؛ عن(4/31)
218- «من أحبّ شيئا.. أكثر من ذكره» .
219- «من أحبّ قوما.. حشره الله في زمرتهم» .
أبي موسى الأشعري، قال الحاكم: على شرطهما، وردّه الذّهبي، وقال: فيه انقطاع. انتهى. وقال المنذري والهيثمي: رجال أحمد ثقات. انتهى. وفي «العزيزي» : إنّه حديث صحيح. انتهى.
218- ( «من أحبّ شيئا أكثر من ذكره» ) أي: علامة صدق المحبّة إكثار ذكر المحبوب، ولهذا قال أبو نواس:
فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
قال في «الرعاية» : علامة المحبّين كثرة ذكر المحبوب على الدّوام؛ لا ينقطعون، ولا يملّون، ولا يفترون، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبّين؛ لا يريدون به بدلا، ولا يبغون عنه حولا، لو قطعوا عن ذكر محبوبهم فسد عيشهم!.
وقال بعضهم: علامة المحبّة ذكر المحبوب على عدد الأنفاس. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث رواه أبو نعيم، والديلمي؛ عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
219- ( «من أحبّ قوما حشره الله في زمرتهم» ) ، فمن أحبّ أولياء الرّحمن فهو معهم في الجنان، ومن أحب حزب الشّيطان فهو معهم في النيران.
وفيه بشارة عظيمة لمن أحب الصوفيّة؛ أو تشبّه بهم، وأنّه يكون مع تفريطه بما هم عليه معهم في الجنّة.
والحديث أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، والضياء المقدسي؛ عن أبي قرصافة بكسر القاف فسكون الراء فصاد مهملة ففاء- واسمه: حيدة، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم! فقال السخاوي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي ضعيف. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .(4/32)
220- «من أحبّ لقاء الله.. أحبّ الله لقاءه» .
قال في «كشف الخفا» ، ويشهد له حديث: «المرء مع من أحبّ» .
انتهى» .
220- ( «من أحبّ لقاء الله) أي: المصير إلى الدار الآخرة، بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يبشر برضوان الله؛ فيكون موته أحبّ إليه من حياته (أحبّ الله لقاءه» ) أي: أفاض عليه فضله وأكثر عطاياه. وتمام الحديث: «ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» .
قالت عائشة؛ أو بعض أزواجه: إنّا لنكره الموت!.
قال: «ليس ذلك، ولكنّ المؤمن إذا حضره الموت وبشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبّ إليه ممّا أمامه؛ فأحبّ لقاء الله وأحبّ الله لقاءه، وإنّ الكافر إذا حضره الموت وبشّر بعذاب الله وعقابه، فليس شيء أكره إليه ممّا أمامه؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه» . انتهى.
قال النّوويّ: هذا الحديث يفسّر آخره أوّله، ويبيّن المراد بباقي الأحاديث المطلقة: من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله.
ومعنى الحديث: أنّ الكراهة المعتبرة هي التّي تكون عند النّزع؛ في حالة لا تقبل فيها توبة، ولا غيرها، فحينئذ يبشّر كلّ إنسان بما هو صائر إليه، وما أعدّ له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السّعادة يحبّون الموت ولقاء الله؛ لينقلوا إلى ما أعدّ لهم، ويحبّ الله لقاءهم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاء يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينقلبون إليه ويكره الله لقاءهم، أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه وتعالى لقاءهم.
وليس معنى الحديث: أنّ سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك!! ولا أنّ حبّه لقاء الآخرين حبّهم ذلك!! بل هو صفة لهم. انتهى.
والحديث متفق عليه من حديث أبي موسى وعبادة بن الصّامت: البخاري في(4/33)
221- «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه.. فهو ردّ» .
«الرّقاق» ، ومسلم في «الدّعوات» عنهما، وعن أبي هريرة، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم.
و «في كشف الخفا» : أنّه أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي، والتّرمذي في «الزّهد» ، والنّسائي في «الجنائز» ؛ عن عائشة، وعن عبادة رضي الله تعالى عنهما.
قال في «الكشف» : وروى مالك، والبخاري- واللفظ له-، ومسلم، والتّرمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال الله تعالى: «إذا أحبّ عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» . انتهى.
221- ( «من أحدث) أي: أنشأ واخترع وأتى بأمر حديث من قبل نفسه (في أمرنا) أي: شأننا الذي نحن عليه، وهو ما شرعه الله تعالى ورسوله، واستمرّ العمل به، وهو دين الإسلام، عبّر عنه بالأمر تنبيها على أنّ هذا الدّين هو أمرنا الّذي نهتمّ به، ونشتغل به؛ بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا، ولا من أفعالنا.
(هذا) موضوع ليشار به لمحسوس مشاهد، وهو هنا مشار به للدّين المعقول، لتنزيله منزلة المحسوس المشاهد؛ اعتناء بشأنه وإشارة إلى جلالته ومزيد رفعته، وتعظيمه بالقرب؛ تنزيلا له باعتبار جلالته منزلة القريب، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يطلب القرب منه وتتوجّه الهمم إلى الوصول إليه.
قال الطّيبيّ: وفي وصف الأمر ب «هذا» إشارة إلى أنّ أمر الإسلام كمل، واشتهر وشاع وظهر ظهورا محسوسا؛ بحيث لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة.
انتهى.
(ما) أي: شيئا (ليس منه) أي: ليس له في الكتاب أو السّنّة عاضد ظاهر، أو خفيّ ملحوظ أو مستنبط، (فهو ردّ» ) أي: مردود على فاعله، لبطلانه وعدم(4/34)
.........
الاعتداد به؛ من إطلاق المصدر على اسم المفعول، كخلق ومخلوق ونسج ومنسوج، سواء كانت منافاته لما ذكر 1- لعدم مشروعيّته بالكليّة؛ كنذر القيام وعدم الاستضلال. أو 2- للإخلال بشرطه، أو ركنه؛ عبادة كانت أو عقدا، فلا ينقل الملك مطلقا، أو للزّيادة على المشروع فيه نحو الزّيادة في الصّلاة دون الوضوء. أو 3- لارتكاب منهياته، كذبح المحرم للصيد، ولبسه للخفّ بلا عذر؛ فلا يمسح عليه، وجماع الصائم، وجماع الحاجّ قبل التّحلّل الأول.
أمّا ما عضده عاضد؛ بأن شهد له شيء من أدلة الشرع، أو قواعده!! فليس بردّ على فاعله، بل هو مقبول منه؛
كبناء نحو الرّبط والمدارس وسائر أنواع البرّ الّتي لم تعهد في الصّدر الأول، فإنّه موافق لما جاءت به الشريعة؛ من اصطناع المعروف والمعاونة على البّر والتقوى.
وكالتّصنيف في جميع العلوم النافعة الشرعية؛ على اختلاف فنونها، وتقرير قواعدها، وكثرة التفريعات، وفرض ما لم يقع، وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسّنّة، والكلام على الأسانيد والمتون، وتتبع كلام العرب؛ نثره ونظمه، وتدوين كلّ ذلك، واستخراج علوم اللّغة؛ كالنّحو، والمعاني، والبيان، والأوزان، فذلك كلّه وما شاكله معلوم حسنه، ظاهرة فائدته، معين على معرفة كتاب الله تعالى، وفهم معاني كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مأمورا به.
وكتفريع الأصول والفروع، وما يحتاجان إليه من الحساب وغيره من العلوم الآليّة، وككتابة القرآن في المصاحف، ووضع المذاهب وتدوينها، وتصنيف الكتب ومزيد إيضاحها وتبيينها، وغير ذلك ممّا مرجعه ومنتهاه إلى الدّين بواسطة أو وسائط، فإنّه مقبول من فاعله، مثاب ممدوح عليه.
ومن ثمّ استجاز كثيرا منه الصّحابة رضوان الله عليهم؛ كما وقع لأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم في جمع القرآن، فإنّ عمر أشار به على(4/35)
.........
أبي بكر؛ خوفا من اندراس القرآن بموت الصّحابة رضي الله تعالى عنهم لمّا كثر فيهم القتل يوم اليمامة وغيره، فتوقف لكونه صورة بدعة، ثمّ شرح الله صدره لفعله، لأنّه ظهر له أنه يرجع إلى الدّين، فإنّه غير خارج عنه.
ومن ثمّ لمّا دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع قال له: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله!! فقال: والله إنّه حقّ. ولم يزل يراجعه حتّى شرح الله صدره للّذي شرح له صدرهما.
وكما وقع لعمر رضي الله عنه في جمع النّاس لصلاة التّراويح في المسجد، مع تركه صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله ليالي، وقال- أعني عمر-: نعمت البدعة هي.
أي: لأنها؛ وإن أحدثت ليس فيها ردّ لما مضى، بل موافقة له، لأنّه صلى الله عليه وسلم علّل التّرك بخشية الافتراض، وقد زال ذلك بوفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال الشّافعي رضي الله عنه:
ما أحدث فخالف كتابا أو سنّة أو إجماعا أو أثرا؛ فهو البدعة الضالّة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك؛ فهو البدعة المحمودة.
والحاصل: أنّ البدعة الحسنة متّفق على ندبها، وهي ما وافق شيئا مما مرّ؛ ولم يلزم من فعله محذور شرعيّ. ومنها ما هو فرض كفاية، كتصنيف العلوم ونحوها ممّا مرّ. انتهى. من «الفتح المبين» للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى.
والحديث أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ كلّهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» أي: مردود عليه، وإن لم يكن هو المحدث له. فاستفيد منه زيادة على ما مرّ- وهي الردّ- لما قد يحتجّ به بعض المبتدعة؛ من أنّه لم يخترع، وإنّما المخترع من سبقه!! ويحتجّ بالرّواية الأولى فيردّ عليه بهذه الرّواية الصّريحة في ردّ(4/36)
222- «من أرضى النّاس بسخط الله.. وكله الله إلى النّاس» .
223- «من أطاع الله.. فاز» .
224- «من أعان ظالما.. سلّطه الله عليه» .
المحدثات المخالفة للشّريعة؛ بالطريقة الّتي قدّمناها، سواء أحدثها الفاعل؛ أو سبق بإحداثها.
وفي الحديث دلالة للقاعدة الأصولية أنّ مطلق النّهي يقتضي الفساد، لأنّ المنهي عنه ليس من الدّين، بل مخترع محدث، وقد حكم عليه بالردّ المستلزم للفساد.
وفيه دلالة على إبطال جميع العقود المنهيّة، وعدم وجود ثمراتها المترتّبة عليها، وهو حديث عظيم معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده.
قال النّوويّ: ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به لذلك. انتهى.
222- ( «من أرضى النّاس بسخط الله) كأن وافقهم على غيبة شخص (وكله الله إلى النّاس» ) ومن وكله إليهم وقع في المهلكات؛ لأنّه لما رضي لنفسه بولاية من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ وكله إليه.
وتمام الحديث: «ومن أسخط النّاس برضاء الله كفاه الله مؤنة النّاس» . ذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز الترمذي، وأبي نعيم في «الحلية» ؛ عن عائشة رضي الله عنها، ورواه عنها أيضا الدّيلمي والعسكري. انتهى «مناوي» . قال في «العزيزي» : وإسناده حسن.
223- ( «من أطاع الله فاز» ) ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز الإمام أحمد.
224- ( «من أعان ظالما) على ظلمه (سلّطه الله عليه» ) ؛ عدلا منه سبحانه(4/37)
225- «من بثّ.. لم يصبر» .
226- «من بورك له في شيء.. فليلزمه» .
وتعالى، فإنّه أحكم الحاكمين. والحديث ذكره في «الكنوز» و «الجامع» مرموزا له برمز ابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن ابن مسعود رفعه، وهو حديث ضعيف- كما في «العزيزي» - بل قال المناوي كغيره: في سنده زكريا العدوي متّهم بالوضع!! أي: فيكون على هذا ضعيفا شديد الضّعف.
225- ( «من بثّ) أي: أذاع ونشر وشكا مصيبته للنّاس (لم يصبر» ) أي:
لأنّ الشّكوى منافية للصّبر إذا كانت الشكوى على جهة الجزع.
والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز ابن عساكر، وفي «الجامع» ذكره من حديث تمّام؛ عن ابن مسعود، وهو قطعة من حديث أوّله «ثلاث من كنوز البرّ ... الخ» .
226- ( «من بورك له في شيء) من نحو صناعة، أو حرفة، أو تجارة (فليلزمه» ) أي: من جعلت معيشته في شيء من ذلك؛ فلا ينتقل عنه حتى يتغيّر، لأنه قد لا يفتح عليه في المنتقل إليه فهو خلقك لما شاء؛ لا لما تشاء، فكن مع مراد الله فيك؛ لا مع مرادك لنفسك.
قال في «الحكم» : من علامة إقامة الحقّ لك في الشي إدامته إياك فيه مع حصول النّتائج. قال النّاظم:
نتيجة الشّيء والاستقامه ... فيه دواما آية الإقامة
والحديث أخرجه ابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وذكره في «الكنوز» .
وأخرجه البيهقي في «الشعب» ، والقضاعي عنه بلفظ: «من رزق» .
وفي لفظ للبيهقي: «من رزقه الله رزقا في شيء فليلزمه» .(4/38)
227- «من تأنّى.. أصاب أو كاد، ومن عجل.. أخطأ أو كاد» .
ولابن ماجه؛ عن نافع قال:
كنت أجهّز إلى الشّام وإلى مصر فجهّزت إلى العراق، فأتيت أمّ المؤمنين عائشة فقلت لها: يا أمّ المؤمنين؛ كنت أجهّز إلى الشّام وإلى مصر، فجهّزت إلى العراق!! فقالت: لا تفعل، مالك ولمتجرك!؟ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إذا سبّب الله لأحدكم رزقا من وجه؛ فلا يدعه حتّى يتغيّر له؛ أو يتنكّر» .
ورواه البيهقي أيضا؛ عنه بسند ضعيف بلفظ: «إذا قسم لأحدكم رزق فلا يدعه حتّى يتغيّر أو يتنكّر له» .
وبلفظ: «إذا فتح لأحدكم رزق من باب فليلزمه» .
ورواه أحمد؛ عن جابر أيضا بسند ضعيف، ورواه في «الإحياء» بلفظ: «من جعلت معيشته في شيء؛ فلا ينتقل عنه حتّى يتغيّر» انتهى. من «كشف الخفا» للعجلوني.
227- ( «من تأنّى) في أموره (أصاب) الحقّ ونال المطلوب (أو كاد) أن يصيب؛ أي: قارب الإصابة (ومن عجل) - بكسر الجيم- (أخطأ، أو كاد» ) أن يخطئ؛ أي: قارب الخطأ، لأن العجلة شؤم الطبع، فجاء المشرّع بضدّ الطّبع، وجعل في التأنّي اليمن والبركة، فإذا ترك شؤم الطّبع وأخذ بأمر الشّرع أصاب الحقّ، ونال المراد أو قارب؛ لتعرّضه لرضا ربّه.
قال الغزالي: الاستعجال هو الخصلة المفوّتة للمقاصد؛ الموقعة في المعاصي، ومنها تبدو آفات كثيرة، وفي المثل السائر: إذا لم تستعجل تصل.
قال:(4/39)
228- «من تشبّه بقوم.. فهو منهم» .
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل
ومن آفاته أنّه مفوّت للورع، فإنّ أصل العبادات وملاكها الورع، والورع أصله النّظر البالغ في كلّ شيء، والبحث التّام عن كلّ شيء هو بصدده، فإن كان المكلّف مستعجلا، لم يقع منه توقّف ونظر في الأمور كما يجب، ويتسارع إلى كلّ طعام فيقع في الزّلل والخلل. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ، وكذا في «الأوسط» كلاهما؛ عن عقبة بن عامر بإسناد حسن، كما قال العزيزي: وقضيّة كلام المناوي أنّه ضعيف.
228- ( «من تشبّه بقوم) - أي: تزيّا في ظاهره بزيّهم، وفي تعرّفه بفعلهم، وفي تخلّقه بخلقهم، وسار بسيرتهم وهداهم في ملبسهم وبعض أفعالهم، أي:
وكان التشبّه بحقّ قد طابق فيه الظّاهر الباطن-
(فهو منهم» ) وقيل: المعنى من تشبّه بالصّالحين فهو من أتباعهم؛ يكرم كما يكرمون، ومن تشبّه بالفسّاق يهان ويخذل مثلهم، ومن وضع عليه علامة الشّرف أكرم؛ وإن لم يتحقّق شرفه.
وفيه أنّ من تشبّه من الجنّ بالحيّات وظهر بصورتهم قتل، وأنّه لا يجوز في زماننا لبس العمامة الصفراء أو الزرقاء؛ إذا كان مسلما. كذا ذكره ابن رسلان.
وبأبلغ من ذلك صرّح القرطبيّ فقال: لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظنّ به من لا يعرفه أنّه منهم! فيظنّ به ظنّ السّوء؛ فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه.
وقال بعضهم: قد يقع التشبّه في أمور قلبية، من اعتقادات وإرادات وأمور خارجية من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات؛ في نحو طعام ولباس، ومسكن ونكاح، واجتماع وافتراق، وسفر وإقامة وركوب وغيرها.(4/40)
.........
وبين الظّاهر والباطن ارتباط ومناسبة، وقد بعث الله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحكمة، الّتي هي سنّة، وهي الشّرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان ممّا شرعه له من الأقوال والأفعال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضّالّين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظّاهر في هذا الحديث؛ وإن لم يظهر فيه مفسدة، لأمور؛
منها أنّ المشاركة في الهدي الظّاهر تؤثّر تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، تعود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإنّ لابس ثياب العلماء مثلا، يجد من نفسه نوع انضمام إليهم؛ ولابس ثياب الجند المقاتلة مثلا، يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، وتصير طبيعته منقادة لذلك إلّا أن يمنعه مانع.
ومنها أنّ المخالفة في الهدي الظّاهر توجب مباينة ومفارقة؛ توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضّلال، والانعطاف على أهل الهدي والرّضوان.
ومنها أنّ مشاركتهم في الهدي الظّاهر توجب الاختلاط الظّاهر؛ حتّى يرتفع التّمييز ظاهرا بين المهديّين المرضيّين، وبين المغضوب عليهم والضّالين ... إلى غير ذلك من الأسباب الحكميّة الّتي أشار إليها هذا الحديث وما أشبهه.
وقال ابن تيميّة: هذا الحديث أقلّ أحواله أن يقتضي تحريم التشبّه بأهل الكتاب!! وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [51/ المائدة] .
وهو نظير قول ابن عمر «ومن بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبّه بهم حتّى يموت؛ حشر يوم القيامة معهم» فقد حمل هذا على التشبّه المطلق، فإنّه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك.
وقد يحمل منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه؛ فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها؛ كان حكمه كذلك. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الكشف» ك «الجامع» وقال: رواه أحمد وأبو داود(4/41)
229- «من تعلّق بشيء.. وكل إليه» .
والحاكم والطّبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمر رفعه، وفي سنده ضعيف كما في «اللآلي» و «المقاصد» . لكن قال العراقي: سنده صحيح.
وله شاهد عند البزار؛ عن حذيفة وأبي هريرة، وعند أبي نعيم في «تاريخ أصبهان» ؛ عن أنس، وعند القضاعي؛ عن طاووس مرسلا، وصححه ابن حبّان.
وتقدّم في «إنّما العلم بالتّعلّم» في أثر عن الحسن: قلّما تشبّه رجل بقوم إلّا كان منهم. وقال النّجم: قلت: روى العسكري عن حميد الطّويل؛ قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلّم، وإذا لم تكن عالما فتعلّم؛ فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم. انتهى.
229- ( «من تعلّق بشيء) - قال في «النّهاية» : أي: من علّق على نفسه شيئا من التّعاويذ والتّمائم وأشباهها، معتقدا أنها تجلب نفعا، أو تدفع عنه ضرّا- (وكل إليه» ) أي: وكلّ الله شفاءه إلى ذلك الشّيء فلا ينفع.
أما إذا اعتقد أنّ الشّفاء من الله تعالى حقيقة، وأنّ هذا الدواء أو هذه التميمة أسباب عادية!! فلا بأس به، إذ الأسباب لا تنافي التّوكّل؛ قاله الحفني.
وكذلك من علّق شيئا من أسماء الله الصريحة، فهو جائز بل مطلوب محبوب، فإن من وكّل إلى أسماء الله أخذ الله بيده.
وأمّا قول ابن العربي «السنّة في الأسماء والقرآن الذكر؛ دون التعليق» !! فممنوع. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد والتّرمذي والحاكم؛ عن عبد الله بن عليم- بالتصغير- الجهني، أبو سعيد الكوفي، أدرك المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يره، فروى عن عمر وغيره، وقد سمع كتاب النّبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة. انتهى «مناوي» .(4/42)
230- «من حسن إسلام المرء.. تركه ما لا يعنيه» .
230- ( «من حسن) فائدة الإتيان به!! الإشارة إلى أنّه لا عبرة بصور الأعمال فعلا وتركا، إلّا إذا اتّصفت بالحسن، بأن وجدت شروط مكمّلاتها؛ فضلا عن مصحّحاتها، وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة ذلك، لأنّ الحسن من وصف الملكات؛ والترك عدميّ، فوصفه بوصف الملكات مبالغة.
(إسلام المرء) آثره على الإيمان!! لأنّه الأعمال الظّاهرة، والفعل والترك إنّما يتعاقبان عليها، لأنّها حركات اختيارية يتعاقبان فيها اختيارا، وأمّا الباطنة الرّاجعة للإيمان! فهي اضطرارية؛ تابعة لما يخلقه الله تعالى في النّفوس، ويوقعه فيها.
وهذا من المواضع الّتي يجب فيها تقديم الخبر على المبتدأ، لئلّا يعود الضّمير فيه على المتأخّر لفظا ورتبة، لما في المبتدأ من ضمير يعود على متعلّق الخبر؛ فهو من باب «على التّمرة مثلها زبدا» ، فقوله: «من حسن إسلام المرء» ، خبر مقدّم، والمبتدأ هو قوله (تركه) - مصدر مضاف لفاعله- (ما) - أي: شيئا، أعمّ من أن يكون قولا أو فعلا- (لا يعنيه» ) بفتح أوله؛ من «عناه الأمر» ؛ إذا تعلقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته.
ومفهومه: أنّ من قبح إسلام المرء أخذه فيما لا يعنيه.
والّذي «لا يعني» هو: الفضول كلّه على اختلاف أنواعه.
والّذي «يعني» الإنسان من الأمور: ما تعلّق 1- بضرورة حياته في معاشه؛ مما يشبعه من جوع، ويرويه من عطش، ويستر عورته، ويعفّ فرجه، ونحو ذلك مما يدفع الضّرورة؛ دون ما فيه تلذّذ وتنعّم واستكثار.
و2- سلامته في معاده، وهو الإسلام والإيمان والإحسان، فإذا اقتصر على ما يعنيه سلم من سائر الآفات، وجميع الشرور، والمخاصمات، وكان ذلك من الفوائد الدّالّة على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه، ومعاناة ما عداه ضياع للوقت النّفيس، الّذي لا يمكن أن يعوّض فائته فيما(4/43)
231- «من رتع ...
لم يخلق لأجله. فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه، أو قرب ربّه منه؛ فقد حسن إسلامه- كما مرّ-.
وأخذ النّووي من هذا الخبر: أنّه يكره أن يسأل الرّجل فيم ضرب امرأته.
قال بعضهم: وممّا لا يعني العبد تعلّمه ما لا يهمّ من العلوم وتركه أهمّ منه، كمن ترك تعلّم العلم الذي فيه صلاح نفسه، واشتغل بتعلّم ما يصلح به غيره، كعلم الجدل؛ ويقول في اعتذاره «نيتي نفع النّاس» ، ولو كان صادقا؛ لبدأ باشتغاله بما يصلح نفسه وقلبه، من إخراج الصّفات المذمومة؛ من نحو حسد ورياء، وكبر وعجب، وتطاول على الأقران، ونحوها من المهلكات. انتهى «مناوي على «الجامع» ، ومن شرح ابن حجر على «الأربعين النوويّة» .
والحديث ذكره في «الجامع» ، و «الأربعين النووية» ، و «كشف الخفا» ؛ وقالوا: رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وابن ماجه، وأبو يعلى؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه الإمام أحمد، والطبراني؛ عن الحسن بن علي. ورجالهما ثقات.
ورواه الحكيم في «الكنى والألقاب» ؛ عن أبي بكر، والشيرازيّ؛ عن أبي ذر، والعسكري، والحاكم في «تاريخ نيسابور» ؛ عن علي بن أبي طالب، والطّبرانيّ في «الأوسط» ، عن زيد بن ثابت، وابن عساكر في «التّاريخ» ؛ عن أبي عبد الرحمن: الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المكيّ رفعوه، وقد أوضحه السّخاوي في تخريج أحاديث «الأربعين النووية» .
قال المناوي على «الجامع» : وأشار باستيعاب مخرجيه!! إلى تقوّيه وردّ زعم جمع ضعّفه، ومن ثمّ حسّنه النّووي، بل صحّحه ابن عبد البر، وبذكره خمسة من الصّحابة إلى ردّ قول آخرين لا يصح إلّا مرسلا. انتهى.
231- ( «من رتع) بفتح المثناة الفوقية فيه وفي مضارعه، أي: رعى مواشيه(4/44)
حول الحمى.. يوشك أن يواقعه» .
232- «من رضي بقسمة الله.. استغنى» .
(حول) - يعني جانب- (الحمى) - بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مخففة، أي: المكان المحميّ، والمراد به موضع الكلأ الذي منع منه الغير، وتوعّد من رعى فيه- (يوشك) - بكسر الشين مضارع «أوشك» بفتحها أي: يقرب- (أن يواقعه» ) ؛ أي: تأكل ماشيته منه؛ فيعاقب.
شبّه أخذ الشهوات بالراعي، والمحارم بالحمى، والشّبهات بما حوله، فكما أنّ الرّاعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد، لأنّه يلزم من القرب منه الوقوع وإن كثر الحذر؛ فيعاقب، كذلك حمى الله تعالى؛ أي: محارمه الّتي حظرها لا ينبغي قرب حماها؛ فضلا عنها، لغلبة الوقوع فيها حينئذ فيستحقّ العقوبة، وأنّ الّذي ينبغي تحرّي البعد عنها، وعمّا يجرّ إليها من الشّبهات ما أمكن، حتّى يسلم من ورطتها.
ومن ثمّ قال تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [187/ البقرة] ، نهى عن المقاربة حذرا من المواقعة! والقصد إقامة البرهان على تجنّب الشّبهات، لأنّه لمّا كان حمى الله لا يدركه إلّا ذو البصائر؛ كان فيه نوع خفاء فضرب له المثل بالمحسوس، بخلاف حمى الملوك، فإنّه محسوس يحترز عنه كلّ بصير. انتهى ابن حجر «شرح الأربعين» ، ومناوي على «الجامع» .
وهذا قطعة من حديث أخرجه أهل الكتب السّتّة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وله فوائد جمّة أفردت بالتّأليف، حتى قال بعضهم: إنّه عليه نور النّبوة، عظيم الموقع من الشّريعة.
232- ( «من رضي بقسمة الله) - تعالى أي: قنع بما أعطاه الله تعالى؛ ولم يتضجّر، ولم يتسخّط، وشكر الله- (استغنى» ) : اتّصف بالغنى الحقيقي الّذي هو الغنى عن الشّيء؛ لا به، وهو القناعة المحمودة، الّتي توجد في أفراد من النّاس، فليحمد الله على ما أكرمه الله به.(4/45)
233- «من رضي عن الله.. رضي الله عنه» .
والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز أبي الشيخ بن حيّان.
233- ( «من رضي عن الله) ؛ بأن سلّم لقضائه وقدره، من ضيق عيش وبلاء بدن، وفقد ولد؛ مثلا، فلا يتسخّط ولا يتشكّى- (رضي الله عنه» ) أي: أثابه وأدخله الجنّة ونعمه. قال الطّيبي: ولعلوّ هذه المرتبة التي هي الرّضا من الجانبين خصّ الله كرام الصّحب بها، حيث قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [8/ البينة] .
قال بعضهم: رضا العبد عن الله: ألايختلج في سرّه أدنى حزازة من وقوع قضاء من أقضيته، بل يجد في قلبه لذلك برد اليقين، وثلج الصّدور، وشهود المصلحة، وزيادة الطّمأنينة.
ورضا الله عن العبد: تأمينه من سخطه، وإحلاله دار كرامته.
وقال السهروردي: الرّضا يحصل لانشراح القلب، وانفساحه، وانشراح القلب من نور اليقين، فإذا تمكّن النّور من الباطن؛ اتّسع الصّدر، وانفتحت عين البصيرة، وعاين حسن تدبير الله، فينزع السّخط والتّضجّر، لأنّ انشراح الصّدر؛ يتضمن حلاوة الحب، وفعل المحبوب، بموقع الرّضا عند المحبّ الصّادق، لأنّ المحبّ يرى أنّ الفعل من المحبوب مراده واختياره، فيفنى في لذّة اختيار المحبوب عن اختيار نفسه.
وقال بعض العارفين: الرّضا عن الله باب الله الأعظم وجنّة الدّنيا ولذّة العارفين، والرّاضوان عن الله في الجنّة، وهم في الدّنيا راضون عنه؛ متلذّذون بمجاري أقضيته، سليمة صدورهم من الغل، مطهّرة قلوبهم عن الفساد، لا يتحاسدون ولا يتباغضون. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع» ، وقال: أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» ، عن عائشة رضي الله عنها.(4/46)
234- «من سرّته حسنته وساءته سيّئته.. فهو مؤمن» .
234- ( «من سرّته حسنته) ؛ أي: فرح بها لكونه راجيا ثوابها موقنا بنفعها، (وساءته سيّئته) ؛ أي: حصل له همّ وغمّ بارتكابها؛ (فهو مؤمن» ) كامل الإيمان، لأنّ هذا شأن من أيقن أنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، وأنّه يجازيه بعمله، وأمّا من لا يرى للحسنة فائدة ولا للمعصية آفة؛ فذلك يكون من استحكام الغافلة على قلبه، فإيمانه ناقص، ولهذا قال ابن مسعود- فيما خرّجه الحكيم التّرمذي-:
بأنّ المؤمن إذا أذنب فكأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه فتقتله، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه.
فعلامة المؤمن أن توجعه المعصية حتّى يسهر ليله فيما حلّ بقلبه من وجع الذّنب، ويقع في العويل كالّذي فارق محبوبه من الخلق بموت أو غيره، فيتفجّع لفراقه فيقع في النّحيب.
نعم السّرور بالحسنة مقيّد في أخبار أخر؛ بأنّ شرطه ألاينتهي إلى العجب بها، فيسرّ بما يرى من طاعته فيطمئنّ بأفعاله؛ غافلا عن منّة الله فيها، فيكون قد انصرف عن الله إلى نفسه العاجزة الحقيرة الضّعيفة الأمّارة اللّوّامة، فيهلك. ولهذا قال بعض العارفين: ذنب يوصل العبد إلى الله تعالى خير من عبادة تصرفه عنه، وخطيئة تفقره إلى الله خير من طاعة تغنيه عن الله تعالى.
معصية أورثت افتقارا ... خير من الطّاعة واستكبارا
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ، والسيّوطي في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الطّبراني في «الكبير» ؛ عن أبي موسى الأشعري بإسناد ضعيف.
ورواه الطّبراني عن أبي أمامة باللّفظ المذكور، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه النّسائي في «الكبرى» باللفظ المزبور؛ عن عمر، فساق(4/47)
235- «من صمت.. نجا» .
بإسناده إلى جابر بن سمرة: أنّ عمر خطب النّاس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّته ... » الخ.
قال الحافظ العراقي في «أماليه» : صحيح على شرط الشّيخين.
وأخرجه أحمد في «المسند» بلفظ: «من ساءته سيّئته وسرّته حسنته فهو مؤمن» قال- أعني العراقي-: حديث صحيح. انتهى مناوي على «الجامع» .
235- ( «من صمت) ؛ أي: سكت عن النطق بما لا يعنيه، أي:
ما لا ثواب فيه، (نجا» ) من العقاب والعتاب يوم الماب، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «كفّ عنك هذا، وهل يكبّ النّاس ... » الحديث، ولذا جعل للّسان حبسان: الأسنان والشّفتان.
قال الغزالي: هذا من فصل الخطاب وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وجواهر حكمه، ولا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني؛ إلّا خواصّ العلماء، وذلك أنّ خطر اللّسان عظيم، وآفاته كثيرة؛ من نحو كذب، وغيبة، ونميمة، ورياء، ونفاق، وفحش، ومراء، وتزكية نفس، وخوض في باطل، ومع ذلك إنّ النّفس تميل إليها لأنها سبّاقة إلى اللّسان، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطّبع والشّيطان، فالخائض فيها قلّما يقدر على أن يلزم لسانه، فيطلقه فيما يحبّ، ويكفّه عما لا يحبّ، ففي الخوض خطر، وفي الصّمت سلامة؛ مع ما فيه من جمع الهمّ، ودوام الوقار، وإفراغ الفكر للعبادة، والذكر، والسّلامة من تبعات القول في الدّنيا، ومن حسابه في الآخرة.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: الأحاديث الواردة في الصمت وفضله؛ ك «من صمت نجا» ، وحديث ابن أبي الدّنيا بسند رجاله ثقات: «أيسر العبادة الصّمت» !! لا تعارض حديث ابن عباس الّذي جزم بقضيّته الشّيخ في «التّنبيه» من النّهي عن صمت يوم إلى اللّيل، لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصّمت المرغّب فيه(4/48)
236- «من ضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنّة» .
ترك الكلام الباطل، وكذا المباح؛ إن جرّ إليه، والصّمت المنهيّ عنه ترك الكلام في الحقّ لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطّرفين. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والتّرمذي في الزّهد؛ عن ابن عمرو بن العاص، وقال: غريب لا نعرفه، إلّا من حديث ابن لهيعة.
قال النّووي في «الأذكار» بعد ما عزاه للتّرمذي: إسناده ضعيف، وإنّما ذكرته!! لأبيّنه لكونه مشهورا.
وقال الزّين العراقي: سند التّرمذي ضعيف، وهو عند الطّبراني بسند جيّد.
وقال المنذري: رواة الطّبراني ثقات. انتهى. وقال ابن حجر: رواته ثقات.
انتهى مناوي على «الجامع» .
236- ( «من ضمن لي) - من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية، فأطلق الضّمان وأراد لازمه وهو أداء الحقّ الّذي عليه-
(ما بين لحييه) ؛ بفتح اللّام وسكون المهملة، والتّثنية: هما العظمان بجانبي الفمّ، وأراد بما بينهما اللّسان وما يتأتّى به النّطق.
(وما بين رجليه) ؛ أي: الفرج، ترك التّصريح به استهجانا له واستحياء، لأنّه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها.
والمعنى: من أدّى الحقّ الّذي على لسانه، من النّطق بما يجب عليه أو الصّمت عما لا يعنيه، وأدّى الحقّ الّذي على فرجه من وضعه في الحلال، وكفّه عن الحرام.
(ضمنت له على الله الجنّة» ) أي: دخوله إياها؛ قاله الحافظ وغيره.
وقال الدّاودي أحمد بن نصر المالكي: المراد بما بين اللّحيين الفم بتمامه،(4/49)
.........
فيتناول الأقوال كلّها والأكل والشّرب وسائر ما يتأتّى بالفم من النّطق، والفعل؛ كتقبيل وعضّ وشتم.
قال- أعني الدّاودي-: ومن تحفّظ من ذلك أمن من الشرّ كلّه، لأنّه لم يبق إلّا السّمع والبصر. قال الحافظ: وخفي عليه أنّه بقي البطش باليدين؛ وإنّما محمل الحديث على أنّ النّطق باللّسان أصل في حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلّا في خير سلم.
وقال ابن بطّال: دلّ الحديث على أنّ أعظم البلايا على المرء في الدّنيا لسانه وفرجه، فمن وقي شرّهما وقي أعظم الشّرّ. انتهى. يعني فخصّهما بالذكر لذلك.
وقال الطّيبي أصل الكلام: من يحفظ ما بين لحييه من اللّسان والفم فيما لا يعنيه من الكلام والطّعام يدخل الجنّة، فأراد أن يؤكّد الوعد تأكيدا بليغا، فأبرزه في صورة التّمثيل ليشير بأنّه واجب الأداء؛ فشبّه صورة حفظ المؤمن نفسه، بما وجب عليه من أمر النّبي صلى الله عليه وسلم ونهيه، وشبّه ما يترتّب عليه من الفوز بالجنّة، وأنّه واجب على الله تعالى بحسب الوعد أداؤه، وأنّه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة والشّفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حقّ واجب الأداء على آخر، فيقوم به ضامن منّا يتكفّل له بأداء حقّه، وأدخل المشبّه في جنس صورة المشبّه به، وجعله فردا من أفراده، ثمّ ترك المشبّه به، وجعل القرينة الدّالة عليه ما يستعمل فيه من الضّمان؛ ونحوه في التمثيل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [111/ التوبة] انتهى. شرح الزّرقاني على «المواهب» ، وشروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» ، وفي «المواهب» وقالا: رواه جماعة؛ منهم العسكري عن جابر بهذا اللّفظ مرفوعا.
وأخرجه البخاري في «الرّقاق» و «المحاربين» ، والتّرمذيّ في «الزّهد» ؛ وقال: حسن صحيح غريب؛ كلاهما عن سهل بن سعد السّاعدي بلفظ:(4/50)
237- «من عمل بما علم.. ورّثه الله علم ما لم يعلم» .
«من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنّة» . وفي لفظ عند الطّبراني بسند جيد؛ عن أبي رافع: «من توكّل لي ما بين فقميه ورجليه أتوكّل له بالجنّة» ، وفي لفظ آخر: «من تكفّل لي تكفّلت له» . وتكلّم عليها العسكري.
وروى التّرمذي وابن حبّان والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه دخل الجنّة» ، وفي لفظ عنه «من حفظ ما بين لحييه» .
وللدّيلمي والبيهقي بسند ضعيف؛ عن أنس رفعه:
«من وقي شرّ قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنّة» .
ولفظ الإحياء «فقد وقي» ؛ بدل «وجبت له الجنّة» .
وفي الباب عن ابن عبّاس وآخرين.
«وقبقبه» - بقافين مفتوحتين وموحدتين؛ أولاهما ساكنة-: البطن؛ من القبقبة، وهي صوت يسمع من البطن.
«وذبذبه» - بذلين معجمتين مفتوحتين وموحّدتين؛ أولاهما ساكنة-:
الذكر.
«ولقلقه» - بلامين مفتوحتين وقافين؛ أولاهما ساكنة-: اللّسان، ويجوز أن يكون القبقبة كناية عن أكل الحرام؛ وفي هذا كلّه تحذير عظيم من شهوتي البطن والفرج، وأنّهما مهلكة ولا يقدر على كسر شهوتهما إلّا الصّدّيقون. انتهى «كشف الخفا» ، وزرقاني على «المواهب» .
237- ( «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» ) أي: العلم اللّدنيّ، الّذي هو موهبة من الله؛ يدرك به العبد ما للنفس من الحظوظ، وما للحقّ من الحقوق، فيترك ما لها من الحظوظ، ويقوم بما للحقّ من الحقوق، وهو معنى قول(4/51)
.........
البعض «أراد به: إلهامه علم ما لم يتعلّم من مزيد معرفة الله تعالى، وخدع النّفس والشّيطان، غرور الدّنيا وآفات العمل؛ من نحو عجب ورياء وكبر، ورياضة النّفس وتهذيبها، وتحمّل الصّبر على مرّ القضاء، والشّكر على النّعماء، والثّقة بما وعد، والتّوكّل عليه، وتحمّل أذى الخلق» .
وقد ثبت أنّ دقائق علوم الصّوفيّة منح إلهيّة، ومواهب اختصاصيّة؛ لا تنال بمعتاد الطلب.
فلزم مراعاة وجه تحصيل ذلك؛ وهو ثلاث:
الأوّل: العمل بما علم على قدر الاستطاعة.
الثّاني: اللجأ إلى الله تعالى على قدر الهمّة.
الثّالث: إطلاق النّظر في المعاني حال الرجوع لأهل السّنّة، ليحصل الفهم وينتفي الخطأ، ويتيسّر الفتح.
وقد أشار لذلك الجنيد بقوله: ما أخذنا التّصوّف عن القيل والقال، والمراء والجدال، بل عن الجوع والسّهر ولزوم الأعمال.
قال الغزالي: من انكشف له ولو الشيء اليسير؛ بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري؛ فقد صار عارفا بصحّة الطّريق، ومن لم ير ذلك من نفسه! فينبغي أن يؤمن به، فإنّ درجة المعرفة عزيزة جدا.
ويشهد لذلك شواهد الشّرع والتّجارب والوقائع، فكلّ حكم يظهر في القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلّم؛ فهو بطريق الكشف والإلهام.
وقال حجّة الإسلام: يتعيّن أن يكون أكثر الاهتمام بعلم الباطن، ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه، وصدق الرّجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة، فإنّ المجاهدة تقضي إلى المشاهدة، فجاهد تشاهد دقائق علم القلوب، وتنفجر منها ينابيع الحكمة من القلب.(4/52)
.........
أما الكتب في التعليم فلا تفي بذلك، بل الحكمة الخارجة عن الحصر والحدّ، إنّما تنفتح بالمجاهدة، قال: وكم من متعلم طال تعلّمه، ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهمّ في التّعلّم، ومتوفّر على العمل، ومراقبة القلب؛ فتح الله [له] «1» من لطائف الحكم ما تحار فيه عقول ذوي الألباب. انتهى.
هذا؛ وقد سئل الشيخ عز الدين عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» : وما العلم الّذي إذا عمل به ورث؟، وما العلم الموروث؟، وما صفة التّوريث؛ أهو العلم أو غيره؟! فبعض النّاس قال: إنّما هذا مخصوص بالعالم- يعني: أنّه إذا عمل بعلمه ورّث ما لم يعلم، بأن يوفّق ويسدّد إذا نظر في الوقائع-، فهل يصحّ هذا الكلام أم لا.
أجاب: معنى الحديث أنّ من عمل بما يعلمه، من واجبات الشّرع ومندوباته، واجتناب مكروهاته ومحرماته؛ أورثه الله من العلم الإلهي ما لم يعلمه من ذلك، كقوله تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا
[69/ العنكبوت] . هذا هو الظّاهر من الحديث المتبادر إلى الفهم، ولا يجوز حمله على أهل النّظر في علوم الشّرع، لأنّ ذلك تخصيص للحديث بغير دليل، وإذا حمل على ظاهره وعمومه دخل فيه الفقهاء وغيرهم. انتهى.
وقال الإمام مالك: علم الباطن لا يعرفه إلّا من عرف علم الظّاهر، فمن علم الظّاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلّا مع فتح قلبه وتنويره.
وقال: ليس العلم بكثرة الرّواية، وإنّما العلم نور يقذفه الله في القلب. يشير إلى علم الباطن.
قال يحيى بن معاذ: التقى ابن أبي الحواري وأحمد بن حنبل، فقال أحمد:
حدّثنا بحكاية سمعتها من أستاذك الدّاراني. فقال: يا أحمد؛ قل: سبحان الله وطوّلها بلا عجب. قال: سبحان الله وطوّلها بلا عجب.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.(4/53)
238- «من غشّنا.. فليس منّا» .
قال: سمعته يقول: إذا اعتقدت النّفس على ترك الآثام جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علما.
فقام أحمد وقعد «ثلاثا» ؛ وقال: ما سمعت في الإسلام بحكاية أعجب من هذه. ثمّ ذكر حديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» .
قال التّونسيّ: اجتمع العارف علي وفا والإمام البلقيني، فتكلّم عليّ معه بعلوم بهرت عقله. فقال البلقيني: من أين لك هذا؛ يا علي! قال: من قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [282/ البقرة] فأسكت. انتهى. من شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ؛ مرموزا له برمز الطّبراني، وذكره في «الكشف» ، وقال: رواه أبو نعيم؛ عن أنس رضي الله عنه.
238- ( «من غشّنا) - أي: لم ينصحنا وزيّن لنا غير المصلحة- (فليس منّا» ) أي: ليس على طريقتنا ومنهاجنا، لأن طريقتنا الزّهد في الدّنيا، والرّغبة عنها، وعدم الرّغبة والطّمع الباعثين على الغشّ.
قال الطّيبي: لم يرد نفيه عن الإسلام، بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين.
أي: ليس هو على سنّتنا وطريقتنا من مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه (أنا منك) يريد الموافقة والمتابعة، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [36/ إبراهيم] .
وهذا قاله صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها؛ فابتلّت أصابعه.
فقال: «ما هذا» ! قال: أصابته السماء. قال: «أفلا جعلته فوق الطّعام ليراه النّاس» ! فذكر الحديث.
رواه مسلم في «صحيحه» ؛ من حديث أبي هريرة بزيادة: «ومن حمل علينا السّلاح فليس منّا» . وفي رواية له أيضا: «من غشّ فليس منّي» .(4/54)
239- «من فارق الجماعة شبرا.. فقد خلع ربقة الإسلام» .
وأخرجه العسكري بلفظ التّرجمة، وزاد «قيل يا رسول الله؛ ما معنى ليس منّا!! - قال- ليس مثلنا» . وعند أبي نعيم والطّبراني في «الكبير» و «الصغير» برجال ثقات؛ عن ابن مسعود رفعه: «من غشّنا فليس منّا، والمكر والخداع في النّار» ؛ أي: صاحبهما يستحقّ دخول النّار إن لم يعف الله عنه، لأن الداعي إلى ذلك الحرص والشّحّ والرغبة في الدّنيا، وذلك يجرّ إلى النّار. وأخذ الذّهبي أنّ الثلاثة من الكبائر، فعدّها منها. وللدّارقطني بسند ضعيف؛ عن أنس: «من غشّ أمّتي فعليه لعنة الله» انتهى زرقاني على «المواهب» .
239- ( «من فارق) بقلبه ولسانه واعتقاده، أو ببدنه ولسانه (الجماعة) المعهودين؛ وهم جماعة المسلمين.
قال العامريّ في «شرح الشهاب» : لفظ الجماعة ينصرف لجماعة المسلمين لما اجتمع فيهم من جميل خصال الإسلام، ومكارم الأخلاق، وترقّي السّابقين منهم إلى درجة الإحسان؛ وإن قلّ عددهم، حتّى لو اجتمع التّقوى والإحسان في واحد كان هو الجماعة. انتهى.
(شبرا) أي: قدر شبر. كنى به عن ترك السّنّة والتمسّك بالبدعة؛ ولو بأدنى نوع من أنواع التّرك، أو بأقلّ سبب من أسباب الفرقة؛
(فقد خلع ربقة الإسلام» ) من عنقه، أي: أهمل حدود الله وأوامره ونواهيه، وتركها بالكليّة. قال في «النّهاية» : مفارقة الجماعة ترك السّنّة واتّباع البدعة، والرّبقة- في الأصل-: عروة تجعل في عنق البهيمة أو يدها، تمسكها. فاستعارها للإسلام، يعني: ما يشدّ به المسلم نفسه من عرى الإسلام؛ أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه. انتهى.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبو داود والحاكم؛ عن أبي ذرّ.(4/55)
240- «من كثّر سواد قوم.. فهو منهم» .
وأخرجه الإمام أحمد؛ عن رجل من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس إلى أن قال: «فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه» الحديث، ورجاله ثقات رجال الصّحيح، خلا عليّ بن إسحاق السّلمي وهو ثقة. ورواه الطّبراني باختصار؛ إلّا أنّه قال «من فارق الجماعة قيد قوس، لم تقبل منه صلاة ولا صيام، وأولئك هم وقود النّار» .
ورواه الطّبراني؛ عن معاذ بن جبل قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ الجنّة لا تحلّ لعاص- إلى أن قال- ومن خرج من الجماعة قيد شبر متعمّدا؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ... الحديث. وفي سنده عمرو بن واقد وهو متروك.
وأخرجه الطّبراني؛ عن أبي الدّرداء قال: قام فينا رسول الله- إلى أن قال:
«ومن خرج من الطّاعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ... الحديث، وفي سنده عمرو بن رويبه. وهو متروك.
وأخرجه البزّار والطّبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة قياس- أو قيد- شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ... الحديث. وفي سنده خليد بن دعلج، وهو ضعيف؛ ذكره في «مجمع الزوائد» .
240- ( «من كثّر سواد قوم) ؛ بأن عاشرهم وناصرهم وسكن معهم (فهو منهم» ) وإن لم يكن من قبيلتهم أو بلدهم؛ يعني: أنّ له حكمهم من صلاح وغيره، وفيه تلميح إلى مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والتحرّز عن مخالطتهم، وعن التشبّه بهم إذ صدور ذلك من المسلم دالّ على ضعف إيمانه، لأنّ المشابهة والمشاكلة في الأمور الظّاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، والمشاركة في الهدي الظّاهر توجب مناسبة وائتلاف؛ وإن بعد المكان والزّمان، وهذا أمر محسوس،(4/56)
241- «من كنت مولاه.. فعليّ مولاه» .
فمرافقتهم ومساكنتهم- ولو قليلا- سبب ومظنة لاكتساب أخلاقهم وأفعالهم المذمومة، بل هي سبب لمشابهتهم في نفس الاعتقادات، فيصير مساكن الكافر مثله.
وأيضا المشاركة في الظّاهر تورث نوع مودّة ومحبّة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبّة في الباطن تورّث المشابهة، وهذا مما يشهد به الحس، فإن الرّجلين إذا كانا من بلد؛ واجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودّة والائتلاف أمر عظيم بموجب الطبع، وإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورّث المحبّة والموالاة؛ فكيف المشابهة في الأمور الدينية!! انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه أبو يعلى، وعلي بن معبد في «كتاب الطاعة» أنّ رجلا دعا ابن مسعود إلى وليمة، فلما جاء ليدخل سمع لهوا؛ فلم يدخل، فقيل له!! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كثّر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمل» . وهكذا عند الدّيلمي بهذه الزيادة.
ولابن المبارك في «الزّهد» ؛ عن أبي ذرّ نحوه موقوفا، وشاهده حديث:
«من تشبّه بقوم فهو منهم» وتقدّم. انتهى. وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى.
241- ( «من كنت مولاه) أي: وليّه وناصره (فعليّ مولاه» ) .
قال الشّافعي: أراد بذلك ولاء الإسلام، لقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) [محمد] انتهى «عزيزي» .
وخصّ سيدنا عليّا لمزيد علمه، ودقائق مستنبطاته وفهمه، وحسن سيرته، وصفاء سريرته، وكرم شيمته، ورسوخ قدمه.
قيل: سببه أنّ أسامة قال لعلي: لست مولاي، إنّما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم!.(4/57)
242- «من لا يرحم.. لا يرحم» .
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» .
قال ابن حجر: حديث كثير الطّرق جدا استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد؛ منها صحاح، ومنها حسان، وفي بعضها: قال ذلك يوم غدير خمّ.
وزاد البزّار في رواية: «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» .
ولا حجّة في ذلك على تفضيله على الشّيخين؛ كما هو مقرّر في محلّه من فن الأصول. انتهى مناوي على «الجامع» .
وذكره «في كشف الخفا» وقال: رواه الطّبراني، وأحمد، والضياء في «المختارة» ؛ عن زيد بن أرقم وعليّ وثلاثين من الصّحابة بلفظ: «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» . فالحديث متواتر؛ أو مشهور. انتهى.
وذكره في «الجامع الصغير» ، وفي «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» للجلال السّيوطي رحمه الله تعالى.
242- ( «من لا يرحم) بالبناء للفاعل ( «لا يرحم» ) بالبناء للمفعول، أي:
من لا يكون من أهل الرّحمة لا يرحمه الله، أو من لا يرحم النّاس بالإحسان لا يثاب من قبل الله هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [60/ الرحمن] .
قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المعنى: من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه؛ لا يرحمه الله في الآخرة. انتهى.
وهو بالرّفع فيها [يرحم؛ يرحم] «1» على الخبر، وبالجزم [يرحم، يرحم] «1» على أنّ «من» موصولة أو شرطيّة، ورفع الأول وجزم الثاني [يرحم، يرحم] «1» وعكسه [يرحم، يرحم] «1» .
__________
(1) إضافة اقتضاها الإيضاح. (عبد الجليل) .(4/58)
243- «من لم يكن ذئبا.. أكلته الذّئاب» .
244- «من مزح.. استخفّ به» .
قال ابن بطّال: وفيه الحضّ على استعمال الرّحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم، ويدخل في الرّحمة التّعاهد بالإطعام والسّقي، والتّخفيف من الحمل، وترك التعدي بالضرب، انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه الشيخان وغيرهما؛ عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما: البخاري في «كتاب الأدب؛ باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته» ، وفي «باب رحمة النّاس والبهائم» واللّفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل؛ باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصّبيان وتواضعه وفضل ذلك ... الخ
وهو حديث متواتر ذكره السّيوطي في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» عن عدّة من الصّحابة رضوان الله عليهم.
وسببه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قبّل الحسين، فقال الأقرع بن حابس: لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا! فنظر إليه ... فذكر الحديث. انتهى.
وبمعناه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو قوله عليه الصّلاة والسّلام: «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» .
وقد ذكرت من أخرجه في رسالتي «إعانة رب البرية على تراجم رجال الحديث المسلسل بالأولية» مع ذكر إسنادي المسلسل به؛ فليراجع ذلك من شاء فيها. والله أعلم.
243- ( «من لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب» ) ؛ أخرجه الطّبراني في «الأوسط» ؛ عن أنس رفعه بلفظ: «يأتي على النّاس زمان هم ذئاب، فمن لم يكن ذئبا أكلته الذّئاب» .
قال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» : وفيه من لم أعرفهم. انتهى.
244- ( «من مزح استخفّ به» ) أي: هان على النّاس، ونظروا إليه بعين(4/59)
245- «من نوقش الحساب ...
الاحتقار والهوان فاحفظ لسانك منه، فإنّه يسقط المهابة، ويريق ماء الوجه، ويستجرّ الوحشة، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللّجاج والغضب والتّضارب، ومغرس الحقد في القلوب، فإن مازحك غيرك! فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره، وكن من الّذين إذا مرّوا باللّغو مروا كراما. انتهى.
وقال في الأذكار: المزاح المنهيّ عنه ما فيه إفراط ومداومة، فإنّه يورّث الضّحك والقسوة ويشغل عن الذّكر والفكر في مهمات الدّين؛ فيورّث الحقد، ويسقط المهابة والوقار، وما سلم من ذلك هو المباح الّذي كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يفعله، فإنّه إنّما كان يفعله نادرا لمصلحة، كموانسة وتطييب نفس المخاطب، وهذا لا منع منه قطعا، بل هو مستحبّ. انتهى.
والحديث ذكره في «الكنوز» مرموزا له برمز ابن عساكر، وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي، في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله عنه؛ لكن بلفظ: «الصّمت سيّد الأخلاق، ومن مزح استخفّ به» .
قال المناوي: وتمامه «ومن حمل الأمر على القضاء استراح» . انتهى.
وفي كتاب «كشف الخفا» للعجلوني: الصّواب أنّه من قول عمر، وأنّ الأحنف قال: قال لي عمر: يا أحنف؛ من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخفّ به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه.
ورواه ابن عساكر وقال: غريب الإسناد والمتن عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «من كثر ضحكه استخفّ بحقّه، ومن كثرت دعابته ذهبت جلالته، ومن كثر مزاحه ذهب وقاره، ومن شرب الماء على الرّيق ذهب بنصف قوّته، ومن كثر كلامه كثرت خطاياه، ومن كثرت خطاياه فالنّار أولى به» . انتهى.
245- ( «من نوقش) بضم النّون وكسر القاف (الحساب) - بالنّصب؛ بنزع(4/60)
عذّب» .
الخافض، أي: من ضويق في حسابه بحيث سئل عن كل شيء؛ فاستقصي في حسابه حتّى لم يترك منه شيء من الكبائر ولا من الصّغائر إلّا وأوخذ به (عذّب» ) بضمّ أوّله وكسر الذّال المعجمة- أي: تكون تلك المضايقة عذابا، لما فيها من التّوبيخ، أو إنها سبب يفضي إلى العذاب، لأنّ التّقصير غالب على العباد، فمن استقصي عليه ولم يسامح هلك وعذب؛ أي: ومن لم يناقش الحساب لا يعذب، بل يحاسب حسابا يسيرا، أو لا يحاسب أصلا.
قال الحكيم التّرمذي: يحاسب المؤمن في القبر ليكون أهون عليه في الموقف فيمحّص في البرزخ؛ فيخرج وقد اقتصّ منه. انتهى مناوي وحفني على «الجامع» .
والحديث أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والتّرمذي؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وتمامه: قالت عائشة: فقلت أليس يقول الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق] ؛ أي: سهلا هيّنا بأن يجازى على الحسنات الّتي صدرت منه في حياته، ويتجاوز عن سيئاته!؟ قال: «ذلك- بكسر الكاف- العرض» - بفتح العين المهملة وسكون الرّاء- أي: عرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منّة الله تعالى عليه في سترها عليه عن النّاس في الدّنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، فله الحمد على منّته على عباده المؤمنين وإتحافهم بسعادتهم في الدّارين.
وللإمام أحمد من وجه آخر؛ عن عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته «اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف قلت: يا رسول الله؛ ما الحساب اليسير؟! قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنّ من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» انتهى.
فعائشة رضي الله عنها فهمت أنّ الحديث معارض للآية!! لأنّ «من» من صيغ العموم، فظنّت أنّ كلّ من حوسب معذّب؛ مع أنّ ظاهر قوله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق] دالّ على أنّ الحساب لا يستلزم العذاب فأزال صلى الله عليه وسلم الإشكال(4/61)
246- «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا» .
عنها بقوله «ذلك العرض» ، فاقتنعت، مع أنّها رضي الله عنها لو تأمّلت في قوله «من نوقش الحساب» لعلمت أنّ هذا الحديث لا يعارض قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق] ، لأن الآية خاصّة بمن أوتي كتابه بيمينه دون غيره، فلذلك وصف تعالى حسابه بكونه حسابا يسيرا، والحساب غير المناقشة، بل هو العرض الّذي تقدّم معناه، ولذلك أجابها النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله «ذلك العرض» ، هذا ما تبادر للذّهن.
قال شيخ مشايخنا في «زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم» قال:
وبنحوه ساق الأبّي كيفيّة جوابه صلى الله عليه وسلم لها على مقتضى القواعد المنطقيّة حيث قال في شرح هذا الحديث: فهمت رضي الله عنها أنّ الحديث معارض للآية، لأنّ الحديث في قوّة موجبة كلية؛ أي: كلّ من نوقش الحساب عذّب، والآية في قوة سالبة جزئية، أي: تعطي أنّ من يحاسب ليس بمعذّب.
وحاصل جوابه: أنّه لم يتّحد الموضوع، لأنّه في الكلّيّة من نوقش. وفي الجزئيّة من حوسب، والمناقشة غير المحاسبة. انتهى.
246- ( «منهومان) تثنية منهوم، وهو: شديد الشّهوة المنكبّ على الشّيء طلبا لحيازته (لا يشبعان) ، لعدم انتهاء حرصهما وهما: (طالب علم، وطالب دنيا) . فمن كان شديد الشّهوة لجمع المال أو طلب العلم لا يشبع من ذلك، إذ ليس للعلم غاية ينتهي إليها، ولا للمال غاية ينتهي إليها فلهذا لا يشبعان.
قال بعضهم: ما استكثر أحد من شيء إلّا ملّه وثقل عليه إلّا العلم والمال، فإنّه كلما زاد اشتهى له، ولكنهما لا يستويان، أمّا صاحب الدّنيا فيتمادى في الطّغيان، وأمّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرّحمن. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الطّبراني في «الكبير» والقضاعي؛ عن ابن مسعود رفعه.(4/62)
247- «المؤمن.. مرآة المؤمن» .
وهو عند البيهقي في «المدخل» ؛ عن ابن مسعود أنّه قال: «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا؛ ولا يستويان، أمّا صاحب الدّنيا فيتمادى في الطّغيان، وأمّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرّحمن» ثم قرأ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق] ، وقوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] وقال: إنّه موقوف ومنقطع، ثمّ ساقه عن أنس مرفوعا بلفظ: «منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدّنيا لا يشبع منها» .
قال: وروي عن كعب الأحبار من قوله، ورواه البزّار، من حديث ليث بن أبي سليم عن طاووس- أو مجاهد- عن ابن عباس مرفوعا بلفظ التّرجمة. وقال:
لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا.
ورواه العسكري عنه بلفظ: «منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب العلم، ومنهوم في طلب الدّنيا» .
وأخرجه العسكريّ أيضا عن أبي سعيد رفعه: «لن يشبع المؤمن من خير سمعه حتّى يكون منتهاه الجنّة» . ورواه أيضا عن الحسن قال:
بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّها النّاس؛ إنّهما منهومان، فمنهوم في العلم لا يشبع، ومنهوم في المال لا يشبع» .
وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وهي؛ وإن كانت مفرداتها ضعيفة؛ فبمجموعها يتقوّى الحديث. انتهى كلام «كشف الخفا» ، ونحوه في «المقاصد الحسنة» للحافظ السخاوي.
247- ( «المؤمن مرآة) بهمزة ممدودة (المؤمن» ) ؛ أي: يرى فيه عيوبه كما يراها في المرآة، ثمّ يميطها عنه بوجه حسن، فإذا أبصرت عيبا في أخيك؛ فأخبره به، وانصحه بما يقتضي إذهابه عنه بلطف أو عنف؛ إن اقتضى الحال ذلك.
انتهى حفني.(4/63)
248- «المؤمن.. من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» .
249- «المؤمن.. يسير المؤنة» .
ولبعضهم في معنى الحديث:
صديقي مرآة أميط بها الأذى ... وعضب حسام إن منعت حقوقي
وإن ضاق أمري أو ألمّت ملمّة ... لجأت إليه دون كلّ شقيق
والحديث أخرجه الطّبراني في «الأوسط» والضّياء والقضاعي والبزّار؛ عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود والبخاري في «الأدب المفرد» ؛ عن أبي هريرة رفعه، والعسكري من طرق؛ عن أبي هريرة، ولفظه في بعضها: «إنّ أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى شيئا فليمطه» .
وأخرجه ابن المبارك؛ عن الحسن من قوله، وقال في «اللآلئ» أخرجه أبو داود في «سننه» ؛ عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عنه ضيعته ويحوطه من ورائه» . وفي إسناده كثير بن زيد مختلف في عدالته. انتهى «كشف الخفا» ، ومناوي على «الجامع» . قال المناوي نقلا عن العراقي: إنّ حديث أبي هريرة إسناده حسن. انتهى.
248- ( «المؤمن من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» ) أي: حقه أن يكون متّصفا بذلك، وقال العلقمي: هو محمول على المؤمن الكامل. انتهى «عزيزي» .
وتمام الحديث: «والمهاجر من هجر الخطايا والذّنوب» . أخرجه ابن ماجه؛ عن فضالة بن عبيد. قال المناوي: ورواه عنه أيضا التّرمذيّ وحسّنه، وقال في «الكشف» : رواه الدّيلميّ عن أنس رضي الله عنه. انتهى.
249- ( «المؤمن يسير المؤنة» ) أي: قليل الكلفة على إخوانه، والحديث(4/64)
250- «المؤمنون كرجل واحد» .
ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال العزيزي: وإسناده ضعيف.
وقال في «كشف الخفا» : موضوع؛ كما قاله الصغاني، لكن معناه صحيح.
انتهى.
250- ( «المؤمنون كرجل واحد) ؛ إن اشتكى رأسه اشتكى كلّه، وإن اشتكى عينه اشتكى كلّه» . هذا تمام الحديث كما في «الجامع» .
قال المناوي: أفاد تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثّهم على التّراحم والتّعاضد في غير إثم ولا مكروه ونصرتهم، والذبّ عنهم وإفشاء السّلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم وغير ذلك.
وفيه مراعاة حقّ الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكلّ ما تعلّق بهم بسبب، حتّى الهرة والدّجاجة؛ ذكره الزمخشري.
قال ابن عربي: ومع هذا التمثيل فأنزل كلّ أحد منزلته، كما تعامل كلّ عضو منك بما يليق به وما خلق له؛ فتغض بصرك عن أمر لا يعطيه السمع، وتفتح سمعك لشيء لا يعطيه البصر، وتصرف يدك في أمر لا يكون لرجلك، وكذا جميع قواك، فنزّل كلّ عضو منك فيما خلق له، وإذا ساويت بين المسلمين فأعط العالم حقّه من التّعظيم والإصغاء لما يأتي به، والجاهل حقّه من تذكيره وتنبيهه على طلب العلم والسّعادة، والغافل حقّه بأن توقظه من نوم غفلته بالتذكّر لما غفل عنه، ممّا هو عالم له غير مستعمل لعلمه فيه، والسّلطان حقّه من السّمع والطّاعة فيما يباح، والصّغير حقّه من الرّفق به؛ والرّحمة؛ والشّفقة، والكبير حقّه من الشّرف؛ والتّوقير.
انتهى.
والحديث ذكره في «الجامع» بالزيادة التي ذكرناها، مرموزا له برمز الإمام أحمد، ومسلم؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما.(4/65)
251- «من كان آخر كلامه (لا إله إلّا الله) .. دخل الجنّة» .
251- ( «من كان آخر) قال أبو البقاء: بالرفع اسم «كان» ، وكلمة التّوحيد في موضع نصب خبر «كان» ويجوز عكسه. انتهى (كلامه) في الدنيا (لا إله إلّا الله) بأن لم يتكلّم بعدها بشيء (دخل الجنّة» ) أي: مع السابقين. انتهى «حفني» .
وقال ابن رسلان: معنى ذلك أنّه لا بدّ له من دخول الجنّة، فإن كان عاصيا غير تائب؛ فهو في أوّل أمره في خطر المشيئة: يحتمل أن يغفر الله له، ويحتمل أن يعاقبه، ويدخل الجنّة بعد العقاب، ويحتمل أن يكون من وفّق لأن يكون آخر كلامه لا إله إلّا الله؛ يكون ذلك علامة على أنّ الله تعالى يعفو عنه، فلا يكون في خطر المشيئة؛ تشريفا له على غيره ممّن لم يوفق أن يكون آخر كلامه ذلك. فنسأل الله أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلّا الله حالا ومقالا، وظاهرا وباطنا، حتى نودّع الدّنيا غير ملتفتين إليها، بل متبرّمين منها ومحبّين للقاء الله تعالى. انتهى شروح «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبي داود في الجنائز، والحاكم فيه؛ كلّهم عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه. وقال الحاكم: صحيح. وأعلّه ابن القطّان! ولكن انتصر له التّاج السبكي؛ وقال:
حديث صحيح. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .(4/66)
[ (حرف النّون) ]
(حرف النّون) 252- «النّاس بزمانهم.. أشبه منهم بابائهم» .
253- «النّاس.. كأسنان المشط» .
254- «النّاس.. معادن في الخير والشّرّ» .
(حرف النّون) 252- ( «النّاس بزمانهم أشبه منهم بابائهم» ) من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما قاله الحافظ الصريفيني، وقال محمد بن أيّوب: ارتحلت إلى يحيى الغسّاني من أجله، وقيل: إنّه من قول علي بن أبي طالب!! قال ملّا علي قاري: وهو الأشهر الأظهر. انتهى «كشف الخفا» .
253- ( «النّاس) - أي: المسلمون في تساوي إجراء الأحكام عليهم- (كأسنان المشط» ) - بضم الميم وتكسر، وقد تفتح، وشينه مثلاثة- وقيل: في تساوي الأخلاق والطّباع وتقاربها، ويؤيّده ما جاء في رواية أخرى: «النّاس سواسية كأسنان المشط؛ لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا فضل لعجميّ على عربيّ، وإنّما الفضل بالتّقوى» . انتهى؛ ملّا علي قاري رحمه الله تعالى.
وفي معناه ما نسب للإمام علي كرّم الله وجهه:
النّاس في عالم التّمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأمّ حوّاء
جسم كجسم وأعضاء مشاكلة ... وأعظم خلقت فيها وأعضاء
وقدر كلّ امرىء ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
والحديث ذكره في «الشّفاء» . قال في «شرحه» : أخرجه ابن لال في «مكارم الأخلاق» ؛ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه.
254- ( «النّاس معادن في الخير والشّرّ» ) معدن كلّ شيء: أصله، أي:
أصول بيوتهم تعقب أمثالها، ويسري كريم أعراقها إلى فروعها، يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم(4/67)
255- «نحن.. أهل بيت لا يقاس بنا أحد» .
256- «نحن.. بنو عبد المطّلب سادات أهل الجنّة» .
بذلك: أنّ بني آدم يختلفون باختلاف أصلهم، فمن كان أصله شريفا أعقب مثله، وسرى طيب عرقه لفرعه، ومن كان دون ذلك؛ كان عقبه مثله، ومن كان خبيثا كان فرعه خبيثا، فهم يختلفون بحسب الطّباع؛ كالمعادن، وهم من الأرض كما إنّ المعادن منها؛ وفيها الطّيب والخبيث، فإنّ منها ما يستعدّ للذّهب الإبريز، ومنها ما يستعد للفضّة، ومنها ما يستعد لغير ذلك، ومنها ما يحصل منه بكدّ وتعب كثير شيء يسير، ومنها ما هو بعكس ذلك، ومنها ما لا يحصل منه شيء أصلا؛ فكذلك بنو آدم، منهم من لا يعي ولا يفقه، ومنهم من يحصل له علم قليل بسعي طويل، ومنهم من أمره عكس ذلك، ومنهم من يفاض عليه من حيث لا يحتسب؛ كما هو معلوم في كثير من الأولياء والصّالحين والعلماء العاملين. انتهى شرح ملّا علي قاري على «الشفا» .
والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي، وابن منيع، والحارث، والبيهقي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وتمامه: «خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ؛ قاله في «كشف الخفا» .
وفي «الشهاب الخفاجي» ؛ على «الشفاء» : رواه الشيخان؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وتمامه: «النّاس معادن كمعادن الذّهب والفضّة؛ خيارهم في الجّاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، أو «الأرواح جنود مجنّدة؛ ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . انتهى.
255- ( «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد» ) ؛ ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .
256- ( «نحن بنو عبد المطّلب سادات أهل الجنّة» ) أي: كبراؤهم وأشرافهم، والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي(4/68)
257- «النّدم.. توبة» .
في «الفردوس» . وذكره ابن ماجه؛ في «كتاب الفتن» من حديث أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن ولد عبد المطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة، وعليّ وجعفر، والحسن والحسين والمهديّ» . ورواه الحاكم أيضا.
257- ( «النّدم توبة» ) أي: الحزن على ما فعله؛ أو كراهته له بعد فعله، من حيث كونه تاركا فيه لإجلال الله، ومخالفا أمره ونهيه.
أمّا إذا كان النّدم لافتضاح، أو مرض أو عقاب ... ونحو ذلك!! فليس توبة، بل قد يكون معصية، لأنّه لولا مراقبة النّاس لم يكن عنده حرج من فعل المعصية.
ثمّ المعنى: أنّ النّدم معظم أركان التّوبة لأنّه شيء يتعلّق بالقلب؛ والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي، فرجعت برجوعه الجوارح.
وليس المراد أن النّدم وحده كاف فيها، فهو نحو «الحجّ عرفة» .
قال الغزالي رحمه الله تعالى: إنّما نص على أنّ النّدم توبة؛ ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها!! لأنّ النّدم غير مقدور للعبد، لأنّه قد يندم على أمر وهو يريد ألايكون، والتّوبة مقدورة له مأمور بها، فعلم أنّ في هذا الحديث معنى لا يفهم من ظاهره، وهو أنّ النّدم لتعظيم حقوق الله تعالى، وخوف عقابه ممّا يبعث على التّوبة النّصوح، فإذا ذكر مقدّماتها الثّلاث؛ وهي 1- ذكر غاية قبح الذّنب، و 2- ذكر شدّة عقوبة الله تعالى؛ وأليم غضبه، و 3- ذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم، ويحمله النّدم على ترك اختيار الذّنب، وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل، فتحمله على الابتهال والتضرّع، ويجزم بعدم العود، وبذلك تتم شروط التّوبة الأربعة. فلمّا كان النّدم من أسباب التّوبة سمّاه باسمها. انتهى زرقاني على «المواهب» ، ومناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي؛ عن(4/69)
258- «النّساء.. حبائل الشّيطان» .
259- «نعم الصّهر.. القبر» .
أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود الطيالسي؛ عن ابن مسعود- ورجاله ثقات- بل قال الحافظ في «الفتح» : سنده حسن. قال السّخاوي: يعني لشواهده، وإلّا! فأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود. انتهى.
وأخرجه الطّبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي سعيد الأنصاري بزيادة: «والتّائب من الذّنب كمن لا ذنب له» وسنده ضعيف. انتهى «زرقاني» .
وذكره في «الجامع الصغير» مع الزيادة مرموزا له برمز من ذكرهم الزرقاني.
وذكره أيضا بلفظ الترجمة مرموزا برمز بنحو ما تقدّم، وزيادة رمز الإمام أحمد، والبخاري في «التاريخ» ؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
258- ( «النّساء حبائل الشّيطان» ) أي: مصائده، جمع حبالة- بالكسر-:
ما يصاد به من أي شيء كان، والمراد أنّ النّساء آلات الشّيطان يتوصّل بهنّ إلى إغواء الفسقة، فإنهم إذا رأوا النّساء مالت قلوبهم إليهنّ لا سيما المتبرجات، فالنّساء له كالشّبكة التي تصاد بها الوحوش النّافرة، فأرشد صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على أمته إلى الحذر من النّظر إليهنّ، والقرب منهنّ، وكفّ الخاطر عن الالتفات إليهنّ باطنا ما أمكن. انتهى «زرقاني» .
والحديث ذكره في «المواهب» مع الشرح بلفظ: «الشّباب شعبة من الجنون، والنّساء حبائل الشّيطان» . وقال: رواه الدّيلمي بتمامه في مسند «الفردوس» ، وكذا القضاعي؛ كلاهما عن عقبة بن عامر الجهني، ورواه الدّيلمي أيضا؛ عن عبد الله بن عامر، وأبو نعيم؛ عن عبد الرحمن بن عابس، وابن لال؛ عن ابن مسعود، والخرائطي والتيمي؛ عن زيد بن خالد وهو حديث حسن. ونحوه في «الجامع» والمناوي.
259- ( «نعم الصّهر) للولي في موليّته (القبر» ) ، لأنّ المرأة عورة،(4/70)
260- «نيّة المؤمن.. خير من عمله» .
ولضعفها بالأنوثة وعدم استقلالها، وكثرة مؤونتها وأثقالها، وقد تجرّ العار، وتجلب الغدر إلى الدار.
أخرج ابن أبي الدّنيا؛ عن قتادة: أنّ الحبر ابن عباس ماتت له بنت، فأتاه الناس يعزّونه، فقال: عورة سترت، ومؤونة كفيت، وأجر ساقه الله تعالى.
فاجتهد المهاجرون أن يزيدوا فيها حرفا فما قدروا.
وفي «الفردوس» عن الحبر: نعم الكفء القبر للجارية. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
ولله درّ من قال:
لكلّ أبي بنت على كلّ حالة ... ثلاثة أصهار إذا ذكر الصّهر
فزوج يراعيها وخدن يصونها ... وقبر يواريها وخيرهم القبر
وروى الطّبراني؛ عن ابن عباس مرفوعا: «للمرأة ستران: القبر والزّوج» .
قيل: فأيّهما أفضل؟ قال: «القبر» وهو ضعيف جدا.
وللدّيلمي؛ عن علي رفعه: «للنّساء عشر عورات، فإذا تزوجّت المرأة ستر الزّوج عورة، فإذا ماتت ستر القبر عشر عورات. انتهى «كشف الخفا» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .
وفي «الكشف» : قال بعض العلماء: لم أظفر به بعد التفتيش، وإنّما ذكر صاحب «الفردوس» ممّا لم يسنده ابنه: «نعم الكفء القبر للجارية» وبيّض له في «المسند» .
ورواه ابن السّمعاني؛ عن ابن عباس من قوله بلفظ «نعم الأختان القبور» انتهى.
260- ( «نيّة المؤمن خير من عمله» ) لأنّ تخليد الله العبد في الجنّة ليس بعمله، وإنّما هو لنيّته، لأنّه لو كان بعمله كان خلوده فيها بقدر مدّة عمله؛ أو(4/71)
.........
أضعافه، لكنّه جازاه بنيّته، لأنّه كان ناويا أن يطيع الله أبدا، فلمّا اخترمته المنيّة جوزي بنيّته.
وكذا الكافر لأنّه لو جوزي بعمله لم يستحقّ التّخليد في النّار إلا بقدر مدة كفره، لكن جازاه بنيّته لأنّه نوى الإقامة على كفره أبدا؛ فجوزي بنيّته. ذكره بعضهم.
ولأن النيّة بانفرادها توصل إلى ما لا يوصله العمل بانفراده، ولأنها هي الّتي تقلب العمل الصّالح فاسدا؛ والفاسد صالحا مثابا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، ويعاقب عليها أضعاف ما يعاقب عليه، فكانت أبلغ وأنفع.
ومن النّاس من تكون نيّته وهمّته أجلّ من الدّنيا وما عليها، وآخر نيّته وهمّته من أحسن نيّة وهمّة، فالنيّة تبلغ بصاحبها في الخير والشّرّ ما لا يبلغه عمله، فأين نيّة من طلب العلم وعلّمه ليصلّي الله عليه وملائكته، وتستغفر له دوابّ البرّ، وحيتان البحر، إلى نيّة من طلبه لمأكل، أو وظيفة كتدريس!!
وسبحان الله كم بين من يريد بعلمه وجه الله، والنّظر إليه، وسماع كلامه، وتسليمه عليه في جنّة عدن؛ وبين من يطلب حظّا خسيسا، كتدريس أو غيره من العرض الفاني!! انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه العسكري في «الأمثال» ، والبيهقي؛ عن أنس مرفوعا، قال الحافظ ابن دحية: لا يصحّ، والبيهقيّ: إسناده ضعيف.
وله شواهد؛ منها ما أخرجه الطّبراني؛ عن سهل بن سعد السّاعدي مرفوعا:
«نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيّته، وكلّ عمل يعمل على نيّته، فإذا عمل المؤمن عملا نار في قلبه نور» .
وللعسكري بسند ضعيف؛ عن النّوّاس بن سمعان بلفظ: «نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الفاجر شرّ من عمله» .(4/72)
.........
وروى الدّيلمي؛ عن أبي موسى الجملة الأولى وزاد: «وإنّ الله عزّ وجلّ ليعطي العبد على نيّته ما لا يعطيه على عمله» وذلك لأن النيّة لا رياء فيها.
قال في «المقاصد» : وهي؛ وإن كانت ضعيفة!! فبمجموعها يتقوّى الحديث، وقد أفردت فيه وفي معناه جزآ. انتهى.
وقال في «اللآلي» : حديث «نيّة المؤمن خير من عمله» أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس، وفي إسناده يوسف بن عطية ضعيف؛ كما قاله ابن دحية: وقال النّسائي: متروك الحديث.
وروي من طريق النّواس بن سمعان بسند ضعيف. انتهى ملخصا.(4/73)
[ (حرف الهاء) ]
(حرف الهاء) 261- «الهديّة.. تعور عين الحكيم» .
262- «هما.. جنّتك ونارك» يعني: الوالدين.
263- «الهمّ.. نصف الهرم» .
(حرف الهاء) 261- ( «الهديّة تعور عين الحكيم» ) أي: تصيّره أعور لا يبصر إلّا بعين الرّضا فقط، وتعمي عين السّخط، ولهذا كان دعاء السّلف: اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة؛ يرعاه بها قلبي.
فيصير ذلك كأنّه أعور، أو هو كناية عن كون قبولها يعود عليه بالذّم والعيب؛ أي: إذا كان حاكما. قال ابن الأثير: يقولون للردي من كلّ شيء من الأخلاق والأمور «أعور» . ومنه قول أبي طالب لأبي لهب- لمّا اعترض على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إظهار الدّعوة- يا أعور ما أنت وهذا؟ ولم يكن أبو لهب أعور! انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلمي في مسند «الفردوس» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي سنده عبد الوهاب بن مجاهد. قال الذّهبي: قال النّسائي وغيره: متروك. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .
262- ( «هما جنّتك ونارك» يعني الوالدين) - قاله لرجل- قال: يا رسول الله: ما حق الوالدين على ولدهما!؟ فذكره. رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رفعه.
انتهى «كشف الخفا» .
263- ( «الهمّ نصف الهرم» ) لأنّ الهرم ضعف ليس وراءه قوّة، أي: مع اليأس من القوة، والهمّ يورّث الضّعف والأسقام، فهو نصفه باعتبار أنهما شيئان:(4/74)
.........
الضّعف واليأس من القوّة، والهمّ يورّث أحدهما. انتهى «حفني» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ «التّدبير نصف العيش، والتّودّد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلّة العيال أحد اليسارين» .
وقال: أخرجه القضاعي؛ عن علي، والدّيلمي في «الفردوس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنهما.
قال في «العزيزي» : وإسناده حسن. وذكره في «كنوز الحقائق» بلفظ الترجمة؛ مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .(4/75)
[ (حرف الواو) ]
(حرف الواو) 264- «وجدت النّاس.. اخبر تقله» ؛ يعني: جرّب تكره.
(حرف الواو) 264- ( «وجدت النّاس؛ أخبر) - بضمّ الهمزة والموحّدة وسكون الخاء المعجمة، بينهما أمر بمعنى الخبر (تقله» ) بضمّ اللّام، ويجوز الكسر والفتح لغة، والقلى: البغض، أي: وجدت أكثرهم كذلك، أي: علمتهم مقولا فيهم هذا القول. أي: ما فيهم أحد إلّا وهو مسخوط الفعل عند الاختبار؛ كما قال المصنّف:
(يعني: جرّب تكره) أي: جرّب النّاس فإنك إذا جرّبتهم قليتهم، أي:
بغضتهم وتركتهم وما زكّيتهم لما يظهر لك من بواطن أسرارهم، وندرة إنصافهم، وفي العيان ما يغني عن البرهان.
وفي هذا اللّفظ من البلاغة ما هو غنيّ عن البيان، وقد قيل: اللّفظ الحسن إحدى النفاثات في العقد.
قال الغزالي: واحذر- خصوصا- مخالطة متفقّهة هذا الزّمان، لا سيّما المشتغلين بالخلاف والجدل، فإنّهم يتربّصون بك- لحسدهم- ريب المنون، ويقطعون عليك بالظّنون، ويتغامزون وراءك بالعيون، يحصون عليك عثراتك؛ في عشرتهم وفي عشيرتهم، ويجبهونك بها في عصبتهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة، يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرّضون عليك الإخوان بالتّهمة والبهتان، إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب، هذا ما قضت به المشاهدة في أكثرهم؛ إلا من رحم الله، فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان، هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف بمن يجاهرك بالعداوة!!. إلى هنا كلام حجّة الإسلام الغزالي- رحمه الله تعالى-.(4/76)
265- «الوحدة.. خير من جليس السّوء» .
فإذا كان هذا في زمانه، فما بالك بهذا الزّمان!!
ومن نظم أبي الحسين الطائي:
نظرت وما كلّ امرىء ينظر الهدى ... إذا اشتبهت أعلامه ومذاهبه
فأيقنت أنّ الخير والشّرّ فتنة ... وخيرهما ما كان خيرا عواقبه
أرى الخير كلّ الخير أن يهجر الفتى ... أخاه وأن ينأى عن الشّرّ جانبه
يعيش بخير كلّ من عاش واحدا ... ويخشى عليه الشّرّ ممّن يصاحبه
والحديث أخرجه ابن عدي؛ عن أبي الدّرداء، وفي سنده ضعيف.
وقال ابن الجوزي: حديث لا يصحّ، وقال السخاوي: طرقه كلّها ضعيفة، لكن شاهده في الصحيحين «النّاس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» . انتهى «مناوي» ، و «كشف الخفا» .
265- ( «الوحدة خير من جليس السّوء» ) لما في الوحدة من السّلامة، وهي رأس المال، وقد قيل: لا يعدل بالسّلامة شيء، وجليس السّوء يبدي سوءه، والنّفس أمّارة بالسّوء، فإن ملت إليه شاركك، وإن كففت عنه نفسك شغلك، ولهذا كان مالك بن دينار كثيرا ما يجالس الكلاب على المزابل؛ ويقول: هم خير من قرناء السّوء.
وفيه حثّ على إيثار الوحدة إذا تعذّرت صحبة الصّالحين، وحجّة لمن فضّل العزلة. وأما الجلساء الصّالحون فقليل مّا هم.
وقد ترجم البخاري على ذلك «باب: العزلة راحة من خلّاط السّوء» .
قال ابن حجر: هذا أثر أخرجه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن عمر؛ لكنّه منقطع.
وأخرج ابن المبارك عن عمر: خذوا حظّكم من العزلة.(4/77)
.........
وما أحسن قول الجنيد «مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطاء» !!.
وقال الغزالي: عليك بالتفرّد عن الخلق، لأنّهم يشغلونك عن العبادة.
ووجد مع داود الطائي كلب، فقيل: ما هذا الذي تصحبه؟ قال: هذا خير من جليس السوء!.
واعلم أنّ خواصّ الخواصّ يرون أنّ كلّ مشتغل بغير الله تعالى؛ ولو مباحا صحبته من قبيل أهل الشّرّ وملحقة به، وإن أهل الجدّ والتشمير ممّن لم يبلغ مرتبة أولئك يرى أنّ صحبة أهل البطالة؛ بل صحبة من لم يشاركهم في التّشمير كصحبة أهل الشّرّ.
وقال بعضهم: صحبة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «اللآلي» عن صدقة بن أبي عمران بلفظ: «قال:
رأيت أبا ذرّ فوجدته في المسجد محتبيا بكساء أسود وحده. فقلت:
يا أبا ذرّ؛ ما هذه الوحدة!.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوحدة خير من جليس السّوء، والجليس الصّالح خير من الوحدة» . وعزاه فيها لأبي الشّيخ؛ عن أبي ذرّ باللّفظ المذكور، وزاد فيه: «وإملاء الخير خير من السّكوت، والسّكوت خير من إملاء الشّرّ» .
قال في «كشف الخفا» : وبهذا اللفظ الأخير ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الحاكم في «المناقب» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي ذرّ رضي الله عنه.
قال المناوي في شرح «الجامع» : قال الذّهبي: لا يصحّ. ولا صحّحه الحاكم!! وقال ابن حجر: سنده حسن، لكن المحفوظ أنّه موقوف على أبي ذرّ.
انتهى.(4/78)
266- «الودّ والعداوة.. يتوارثان» .
ورواه أيضا أبو الشّيخ والدّيلمي وابن عساكر في «تاريخه» . انتهى كلام المناوي.
وثبت في «صحيح البخاري» وغيره: «لو يعلم النّاس ما في الوحدة ما أعلم؛ ما سار راكب بليل وحده» . وترجم البخاريّ بقوله: «العزلة راحة من خلاط السّوء» وذكر حديث أبي سعيد رفعه: «ورجل في شعب من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه» . وفي لفظ: «يأتي على النّاس زمان خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفرّ بدينه من الفتن» .
وما أحسن ما قيل:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السّرور
وأدّبني الزّمان فلا أبالي ... هجرت؛ فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت يوما ... أسار الجيش أم قدم الأمير
266- ( «الودّ) أي: المودّة يعني: المحبّة (والعداوة يتوارثان» ) أي:
يرثهما الفروع عن الأصول، جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وهو خير الوارثين، وهذا شيء كالمحسوس.
وإطلاق الإرث على غير المال ونحوه من التركة؛ الّتي يخلفها المورّث مجاز.
وفيه تنبيه 1- على محبّة المتّقين لنفسك، ليرثه عنك وارثك؛ فينتفع بودّهم في الدّنيا من مواصلتهم والتّعلم منهم، وفي الآخرى، و 2- على بغض الفجرة، لأنّ أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله؛ فينتفع به عاجلا في البعد منهم وآجلا، فيرثه ولدك؛ فينتفع به كما انتفعت.
وفيه تحذير عن بغض أهل الصلاح، فإنّه يضرّ في الدّارين، ويرثه الأعقاب فيضرّهم، وقد عدّوا من أنواع التالف والتودّد تالف صديق الصّديق والتودّد إليه، واستأنسوا له بهذا الحديث. انتهى مناوي على «الجامع» .(4/79)
267- «الورع.. سيّد العمل» .
268- «الولد.. ثمرة القلب» .
269- «الولد.. مبخلة، مجبنة، محزنة» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» ، وفي «الجامع الصغير» ، وفي «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه العسكري؛ عن أبي بكر الصديق رفعه بلفظ: «الودّ الّذي يتوارث في أهل الإسلام» . ورواه الحاكم في «البرّ والصّلة» ؛ عن عفير بلفظ:
«الودّ يتوارث والبغض يتوارث» .
وروى البيهقي؛ عن أبي بكر أنّه قال لرجل من العرب كان يصحبه؛ يقال له عفير: يا عفير؛ كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الودّ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الودّ: «يتوارث والعداوة تتوارث» وهو معنى ما اشتهر على الألسنة «محبّة في الآباء صلة في الأبناء» . والله أعلم. انتهى.
267- ( «الورع) بفتح الرّاء الّذي هو ترك الشّبهات احتياطا، وحذرا من الوقوع في الحرام! (سيّد العمل» ) الصّالح، لأنّه الأساس للأعمال، ففي الحديث: «لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يدع ما ليس به بأس حذرا ممّا به بأس» . والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني.
268- ( «الولد ثمرة القلب» ) لأنّ الثّمرة تنتجها الشّجرة، والولد ينتجه الأب.
والحديث أخرجه أبو يعلى، والبزّار بسند ضعيف؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بزيادة: «وأنّه مبخلة مجبنة محزنة» . انتهى «كشف الخفا» وذكره في «الجامع» بهذا اللفظ مرموزا له برمز من ذكر.
269- ( «الولد مبخلة) بفتح الميم فيه وفيما بعده، أي: يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه، حتى يبخلا بالمال عن إنفاقه في وجوه القرب؛ لأجله خوف(4/80)
.........
فقره، (مجبنة) أي: يجبن أباه عن الجهاد خشية ضيعته، فكأنّه أشار إلى التحذير من النّكول عن الجهاد، والنّفقة بسبب الأولاد، بل يكتفى بحسن خلافة الله تعالى فيقدم، ولا يحجم، فمن طلب الولد للهوى عصى مولاه، ودخل في قوله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [14/ التغابن] ، فالكامل لا يطلب الولد إلّا لله فيربّيه على طاعته، ويمتثل فيه أمر ربه رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [74/ الفرقان] (محزنة» ) أي: يحمل أبويه على كثرة الحزن، لكونه إن مرض حزنا، وإن طلب شيئا لا قدرة لهما عليه حزنا، فأكثر ما يفوت أبويه من الفلاح والصّلاح بسببه، فإن شبّ وعقّ؛ فذلك الحزن الدائم، والهمّ السرمدي اللازم.
سئل حكيم عن ولده، فقال: ما أصنع بمن إن عاش كدّني وإن مات هدّني.
قال الماوردي: أخبر بهذا الحديث أن الحذر على الولد يكسب هذه الأوصاف، ويحدث هذه الأخلاق، وقد كره قوم طلب الولد؛ كراهة لهذه الحالة الّتي لا يقدر على دفعها من نفسه للزومها طبعا، وحدوثها حتما. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إنّ الولد مبخلة مجنبة» . ورمز له برمز ابن ماجه عن يعلى بن مرة.
قال المناوي؛ نقلا عن الحافظ العراقي: إسناده صحيح. انتهى.
وذكره في «الجامع» أيضا بلفظ: «إنّ الولد مبخلة مجنبة مجهلة محزنة» ورمز له برمز الحاكم في «الفضائل» عن الأسود بن خلف، من مسلمة الفتح رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: قال الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذّهبي. وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح. انتهى. ورمز له أيضا برمز الطّبراني في «الكبير» عن(4/81)
270- «الولد.. للفراش، وللعاهر.. الحجر» .
خولة بنت حكيم، قال المناوي؛ نقلا عن الذّهبي: إسناده قوي.
وذكره في «الجامع» أيضا بلفظ: «الولد ثمرة القلب، وإنّه مجبنة مبخلة محزنة» ، ورمز له برمز أبي يعلى، زاد المناوي: وكذا البزار؛ كلاهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: قال الزين العراقي- وتبعه الهيثمي-: فيه عطية العوفي وهو ضعيف. انتهى، وتقدم في الحديث الذي قبل هذا.
270- (الولد) - ذكر وأنثى، مفرد ومتعدد، تابع أو محكوم به- (للفراش) أي: صاحبه؛ زوجا كان أو سيدا، لأنّهما يفترشان المرأة بالاستحقاق، لكن السّيد لا يلحق به الولد إلّا إذا أقرّ بالوطء «1» بخلاف الزّوج فيلحق به من إمكان الاجتماع بعد العقد؛ وإن أنكر الوطء؛ ومحلّ كونه تابعا للفراش إذا لم ينفه بلعان، وإلّا! انتفى. ومثل الزّوج أو السيّد هنا واطئ بشبهة، وليس لزان في نسبه حظّ، إنّما حظّه منه استحقاق الحدّ كما قال: - (وللعاهر) -: الزّاني، يقال (عهر إلى المرأة) ؛ إذا أتاها ليلا للفجور بها، والعهر- بفتحتين- الزّنا (الحجر» ) أي: حظّه ذلك، يعني: الخيبة والحرمان فيما ادعاه من النّسب، لعدم اعتبار دعواه مع وجود الفراش للآخر. انتهى؛ من الزرقاني وشروح «الجامع الصغير» .
قال الزرقاني: وأوّل من استلحق في الإسلام ولد الزّنا معاوية؛ استلحق في خلافته زياد بن سميّة أخا، لأنّ أباه كان زنى بها زمن كفره؛ فجاءت به منه.
واستلحاقه خلاف إجماع المسلمين. انتهى. ونحوه في المناوي.
قال المناوي: وهذا الحديث قد مثل به أصحابنا في الأصول إلى أنّ المقام
__________
(1) بل بالنسب.(4/82)
271- «ويل للشّاكّين في الله» .
الوارد على سبب خاصّ يعتبر عمومه، وصورة السبب قطعيّة الدّخول فلا تخصّ منه باجتهاد كما فعله الحنفيّة، فإنّه وارد في ابن زمعة المختصم فيه عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» .
والحديث ذكره في «الجامع» وغيره مرموزا له برمز متفق، وأبي داود، والنّسائي، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وبرمز الإمام أحمد، ومتفق عليه، والتّرمذي، والنّسائي، وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وبرمز أبي داود؛ عن عثمان بن عفان. وبرمز النّسائي؛ عن ابن مسعود وعبد الله بن الزّبير. وبرمز ابن ماجه؛ عن عمر بن الخطاب، وعن أبي أمامة الباهلي.
قال المناوي: وفي الباب عن غير هؤلاء أيضا؛ كما بيّنه الحافظ في «الفتح» ، ونقل عن ابن عبد البر أنّه جاء عن بضعة وعشرين صحابيا، ثم زاد عليه. انتهى.
وذكره السّيوطي في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» .
271- ( «ويل) كلمة تقال لمن وقع في هلكة؛ ولا يترحم عليه، بخلاف «ويح» ؛ كذا في «التنقيح» ، ذكره المناوي. وقال في موضع آخر: «ويل» كلمة عذاب، أو واد في جهنّم، أو صديد أهل النّار.
قال ابن جماعة: لم يجئ في القرآن إلّا وعيدا لأهل الجرائم.
(للشّاكّين في الله» ) أي؛ في وجوده، أو في انفراده بالألوهية، أو كل وصف يليق به تعالى، كأن شكّ في قدرته أو علمه تعالى. انتهى «عزيزي وحفني» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .(4/83)
[ (حرف اللّام ألف) ]
(حرف اللّام ألف) 272- « (لا إله إلّا الله) .. كنز من كنوز الجنّة» .
273- «لا إيمان.. لمن لا أمانة له» .
274- «لا تجتمع أمّتي.. على ضلالة» .
(حرف اللّام ألف) 272- ( «لا إله) مستغن عن كلّ ما سواه، ومفتقر إليه كلّ ما عداه (إلّا الله) بالرفع بدل من محلّ «لا» مع اسمها، وهو الرّفع بالابتداء عند سيبويه، وجملة كلمة التّوحيد مبتدأ قصد لفظها، والخبر ما بعدها. أي؛ هذا اللّفظ الّذي هو كلمة التوحيد (كنز من كنوز الجنّة» ) أي؛ ذخيرة من ذخائرها، أو من محصلات نفائسها، والمعنى أنّ قائلها يحصّل ثوابا نفيسا يدّخر له في الجنّة.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» .
273- ( «لا إيمان) كامل (لمن لا أمانة له» ) فالأمانة لبّ الإيمان، وهي منه بمنزلة القلب من البدن، والأمانة في الجوارح السبعة: العين، والسمع، واللسان، واليد، والرجل، والبطن، والفرج. فمن ضيّع جزآ منها سقم إيمانه، وضعف بقدره. انتهى «مناوي وزرقاني» .
وتمام الحديث: «ولا دين لمن لا عهد له» . ذكره في «المواهب» ، و «الجامع الصغير» . وقال: رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى في «مسنديهما» ، والبيهقي في «الشعب» ؛ عن أنس. قال الذّهبي: وسنده قويّ. وصحّحه ابن حبّان. انتهى زرقاني على «المواهب» .
274- ( «لا تجتمع أمّتي) أي؛ علماؤهم (على ضلالة» ) لأنّ العامّة تأخذ عنها دينها، وإليها تفزع في النوازل؛ فاقتضت حكمة الله ذلك.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» وقال: أخرجه ابن أبي عاصم. انتهى.(4/84)
.........
وهو في الترمذي؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «إنّ الله تعالى لا يجمع أمّتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار» .
ورواه عن ابن عمر أيضا الضّياء في «المختارة» بلفظ: «إنّ الله لا يجمع هذه الأمّة على ضلالة أبدا، وإنّ يد الله مع الجماعة؛ فاتّبعوا السّواد الأعظم، فإنّه من شذّ شذّ في النّار» .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في «تخريج المختصر» : حديث غريب؛ أخرجه أبو نعيم في «الحلية» واللالكائي في «السّنّة» ، ورجاله رجال الصحيح؛ لكنّه معلول، فقد قال الحاكم: لو كان محفوظا لحكمت بصحّته على شرط الصحيح! لكن اختلف فيه على معتمر بن سليمان على سبعة أقوال؛ فذكرها، وذلك مقتضى الاضطراب، والمضطرب من أقسام الضعيف. انتهى مناوي على «الجامع» .
وذكره في «الكشف» بلفظ المصنّف، وقال:
رواه الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، وابن أبي خيثمة في «تاريخه» ؛ عن أبي نضرة الغفاري رفعه في حديث: «سألت ربّي ألاتجتمع أمّتي على ضلالة فأعطانيها» .
والطّبراني وحده، وابن أبي عاصم في «السنّة» ؛ عن أبي مالك الأشعري رفعه: «إنّ الله تعالى أجاركم من ثلاث خلال: 1- ألايدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعا، و 2- ألايظهر أهل الباطل على أهل الحقّ، و 3- أن لا يجتمعوا على ضلالة» .
ورواه أبو نعيم والحاكم، وأعلّه اللالكائي في «السّنّة» وابن منده.
ومن طريقه الضّياء؛ عن ابن عمر رفعه: «إنّ الله لا يجمع هذه الأمّة على ضلالة أبدا، وإنّ يد الله مع الجماعة، فاتّبعوا السّواد الأعظم، فإنّ من شذّ شذّ في النّار» . وكذا هو عند التّرمذي، لكن بلفظ «أمّتي» .(4/85)
275- «لا تختلفوا.. فتختلف قلوبكم» .
276- «لا تسبّوا الدّنيا.. فإنّها مطيّة المؤمن» .
ورواه عبد بن حميد، وابن ماجه؛ عن أنس رفعه: «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسّواد الأعظم» .
ورواه الحاكم؛ عن ابن عباس رفعه بلفظ: «لا يجمع الله هذه الأمّة على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» .
والجملة الثانية عند التّرمذي وابن أبي عاصم؛ عن ابن مسعود موقوفا في حديث: «عليكم بالجماعة، فإنّ الله لا يجمع هذه الأمّة على ضلالة» زاد غيره:
«وإيّاكم والتّلوّن في دين الله» .
وبالجملة فالحديث مشهور المتن، وله أسانيد كثيرة، وشواهد عديدة في المرفوع وغيره؛ فمن الأول: «أنتم شهداء الله في الأرض» . ومن الثّاني قول ابن مسعود: اذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجده! ففي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجده فيها! فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلّا! فليجتهد. انتهى كلام «الكشف» .
275- ( «لا تختلفوا) أي: لا يتقدم بعضكم على بعض في الصّلاة (فتختلف) بالنّصب جواب النّهي (قلوبكم» ) أي: هواها وإرادتها، لأنّ تقدّم البعض على البعض مظنّة للكبر المفسد للقلوب، وسبب لتأثّرها النّاشئ عن الحنق والضّغائن،
وفيه أنّ القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها. انتهى شروح «الجامع» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنّسائي؛ عن أبي مسعود: عقبة بن عمرو البدري الأنصاري مرفوعا. وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي؛ عن عبد الله بن مسعود الهذلي مرفوعا. وأخرجه أبو داود والنّسائي والإمام أحمد؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
276- ( «لا تسبّوا الدّنيا فإنّها مطيّة المؤمن» ) توصله إلى الآخرة لكونه يتزوّد(4/86)
277- «لا تصحب.. إلّا مؤمنا، ولا يأكل طعامك.. إلّا تقيّ» .
فيها أعمالا صالحة. ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» ؛ أي: عن ابن مسعود رضي الله عنه.
277- ( «لا تصحب إلّا مؤمنا) وكامل الإيمان أولى، لأنّ الطّباع سرّاقة؛ ومن ثمّ قيل: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشرّ؛ كالرّيح إذا مرّت على نتن حملت نتنا، وإذا مرّت على الطّيب حملت طيبا.
وقال الشّافعيّ: ليس أحد إلّا له محبّ ومبغض؛ فإذن لا بدّ من ذلك فليكن المرجع إلى أهل طاعة الله. ولذلك قيل:
ولا يصحب الإنسان إلّا نظيره ... وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد
وصحبة من لا يخاف الله لا تؤمن غائلتها لتغيّره بتغيّر الأعراض، قال تعالى وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [الكهف] ، والطّبع يسرق من الطّبع من حيث لا يدري.
ومعهم قد تفسد الأخلاق ... والطّبع من عادته سرّاق
(ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ» ) لأنّ المطاعمة توجب الألفة، وتؤدّي إلى الخلطة، بل هي أوثق عرى المداخلة، ومخالطة غير التقي تخلّ بالدّين؛ وتوقع في الشّبه والمحظورات، فكأنّه ينهى عن مخالطة الفجّار، إذ لا يخلو عن فساد، إما بمتابعة في فعل، أو مساومة في إغضاء عن منكر، فإن سلم من ذلك ولا يكاد!! فلا تخطئه فتنة الغير به، وليس المراد حرمان غير التّقي من الإحسان، لأنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أطعم المشركين وأعطى المؤلفة للمئين، بل يطعمه ولا يخالطه.
والحاصل: أنّ مقصود الحديث- كما أشار إليه الطّيبي- النّهي عن كسب الحرام وتعاطي ما ينفر منه المتّقي، فالمعنى: لا تصاحب إلّا مطيعا، ولا تخالل إلّا تقيّا. انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث أخرجه الإمام أحمد والتّرمذي وأبو داود وابن حبّان والحاكم؛ عن أبي سعيد الخدري، وأسانيده صحيحة.(4/87)
278- «لا خير.. في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له» .
278- ( «لا خير في صحبة من لا يرى لك) أي: من الحقّ (مثل ما ترى له» ) بأن يكون عنده من الرغبة والمودّة والنّفع مثل ما عندك له، كما قال الشاعر:
إذا كان لا يدنيك إلّا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع
فمن لم يكن يرى لك مثل ما ترى له؛ فلا خير في صحبته.
قال المناوي: كجاهل قدّمه المال وبذل الرّشوة في فضائل دينيّة لحاكم ظالم منعها أهلها وأعطاه مكافأة لرشوته، فتصدّر وترأس وتنكّب حتى أن يرى لأحد مثل ما يرى له، وتشبّه بالظّلمة في تبسّطهم وملابسهم ومراكبهم.
قال بعضهم: وكأنّه يشير إلى تجنّب صحبة المتكبّرين المتعاظمين في دين أو دنيا، سواء كان فوقه أو دونه، لأنّه إن كان فوقه لم يعرف له حقّ متابعته وخدمته، بل يراه حقّا عليه، وأنّه شرف بصحبته، فإن صحبته في طلب الدّين قطعك بكثرة اشتغاله عن الله، وإن صحبته للدّنيا منّ عليك برزق الله. وإن كان دونك لم يعرف لك حرمة، بل يرى له حقّا بصحبته لك، فإن صحبته في الدّين كدّره عليك بسوء معاشرته، أو للدّنيا لم تأمن من أذيّته وخيانته. انتهى كلام المناوي.
والحديث ذكره في «كشف الخفا» ، وقال: رواه الدّيلمي؛ عن أنس رضي الله عنه، ورواه العسكري؛ عن أنس رفعه بلفظ: «المرء على دين خليله؛ ولا خير في صحبة من لّا يرى لك من الخير- أو: من الحقّ- مثل الّذي ترى له» . ورواه ابن عدي في «كامله» بسند ضعيف.
وروى اللّيث عن مجاهد أنّه قال: كانوا يقولون «لا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق، مثل ما ترى له» .
ولأبي نعيم؛ عن سهل بن سعد رفعه: «لا تصحبنّ أحدا لا يرى لك من الفضل كما ترى له» . انتهى ملخّصا.
وذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز ابن عدي.(4/88)
279- «لا ضرر.. ولا ضرار» .
280- «لا طاعة لمخلوق.. في معصية الخالق» .
279- ( «لا ضرر) أي: لا يضر الرّجل أخاه فينقصه شيئا من حقّه (ولا ضرار» ) : فعال بكسر أوّله؛ أي لا يجازي من ضرّه بإدخال الضّرر عليه؛ بل يعفو. فالضّرر فعل واحد، والضّرار فعل اثنين. أو: الضّرر ابتداء الفعل، والضّرار الجزاء عليه، والأوّل إلحاق مفسدة بالغير مطلقا، والثّاني إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة؛ أي: كل منهما يقصد ضرر صاحبه.
وفيه تحريم سائر أنواع الضّرر إلّا بدليل، لأنّ النّكرة في سياق النّفي تعمّ. وفيه حذف أصله؛ لا لحوق أو إلحاق، أو: لا فعل ضرر أو ضرار بأحد في ديننا.
أي: لا يجوز شرعا إلّا لموجب خاصّ. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» وغيره؛ وقال: رواه مالك والشّافعي. عن يحيى المازنيّ مرسلا، والإمام أحمد وعبد الرّزّاق وابن ماجه والطّبراني؛ عن ابن عباس، وفي سنده جابر الجعفي.
وأخرجه ابن أبي شيبة والدّارقطني عنه.
وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وجابر وعائشة وغيرهم. انتهى.
وفي المناوي: الحديث حسّنه النووي في «الأربعين» ، ورواه مالك مرسلا، وله طرق يقوّي بعضها بعضا.
وقال العلائيّ: للحديث شواهد؛ ينتهي مجموعها إلى درجة الصحّة أو الحسن المحتجّ به. انتهى.
280- ( «لا طاعة لمخلوق) من المخلوقين كائنا من كان؛ أبا أو أمّا، أو زوجا أو سيدا (في معصية الخالق» ) بل كلّ حقّ- وإن عظم- ساقط إذا جاء حقّ الله، فهو خبر بمعنى النهي، أي: لا ينبغي ولا يستقيم ذلك.(4/89)
281- «لا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب..
كحسن الخلق» .
وتخصيص ذكر المخلوق والخالق!! يشعر بعلّيّة هذا الحكم «1» .
قال الزّمخشري: قال مسلمة بن عبد الملك لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [59/ النساء] قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحقّ بقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59/ النساء] .
قال ابن الأثير: يريد طاعة ولاة الأمر إذا أمروا بما فيه إثم كقتل ونحوه.
وقيل: معنى الحديث: أنّ الطّاعة لا تسلم لصاحبها، ولا تخلص إذا كانت مشوبة بمعصية. والأوّل أشبه بمعنى الحديث. انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «كشف الخفا» وغيره؛ وقال: رواه الإمام أحمد، والحاكم؛ عن عمران بن حصين. ورواه أبو داود والنّسائي؛ عن علي بلفظ:
«لا طاعة لأحد في معصية الله، إنّما الطّاعة في المعروف» .
ورواه أحمد؛ عن أنس بلفظ: «لا طاعة لمن لم يطع الله» . انتهى.
قال المناوي في حديث عمران: قال الهيثميّ رجال أحمد رجال الصّحيح، ورواه البغوي عن النّواس، وابن حبّان؛ عن علي بلفظ: «لا طاعة لبشر في معصية الله» . وله شواهد في «الصّحيحين» . انتهى.
281- ( «لا عقل كالتّدبير) قال الطّيبي: أراد بالتّدبير العقل المطبوع.
وقال القيصري: هو خاطر الرّوح العقلي، وهو خاطر التّدبير لأمر المملكة الإنسانيّة، فالنّظر في جميع الخواطر الواردة عليه من جميع الجهات، ومنه تؤخذ الفهوم والعلوم الربّانيّة، وهذا الشّخص هو الملك، وإليه ترجع أمور المملكة؛ فيختار ما أمره الشّرع أن يختار ويترك ما أمره الشّرع أن يتركه، ويستحسن ما أمره الشّرع أن يستحسنه، ويستقبح ما أمره الشّرع أن يستقبحه، وصفة خاطر هذا الملك
__________
(1) أي: جعل الخلق علّة للطاعة من المخلوق لخالقه.(4/90)
282- «لا فقر.. أشدّ من الجهل، ولا مال.. أعزّ من العقل، ولا وحشة.. أشدّ من العجب» .
التثبّت والنّظر في جميع ما يرد عليه من الخواطر، فينفّذ منها ما يجب تنفيذه، ويردّ ما يجب ردّه.
وخواطر هذا الجوهر الشّريف؛ وإن كثرت ترجع إلى ثلاثة أنواع: 1- الأمر بالتنزّه عن دنيّ الأخلاق والأعمال والأحوال ظاهرا وباطنا. و 2- الأمر بالاتصاف بمحاسن الأخلاق والأعمال والأحوال وأعاليها كذلك. و 3- الأمر بإعطاء جميع أهل مملكته حقوقهم وتنفيذ الأحكام الشّرعية فيهم.
(ولا ورع كالكفّ) أي: كفّ اليد عن تناول ما يضطرب القلب في تحليله وتحريمه.
(ولا حسب) أي؛ ولا مجد ولا شرف (كحسن الخلق» ) بالضم، إذ به صلاح الدّنيا والآخرة.
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز ابن ماجه، أي؛ وكذا ابن حبّان، والبيهقي في «الشعب» ؛ كلّهم عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه، وإسناده ضعيف؛ كما في شروح «الجامع» .
282- ( «لا فقر أشدّ من الجهل) بالعلم الشّرعي، لأنّ العلم ميراث الأنبياء، فمن حرمه فهو الفقير على الحقيقة.
(ولا مال أعزّ من العقل) لأنّ العقل دليل المؤمن، إذ هو عقال لطبعه أن يجري بعجلته وجهله لتقدّم العقل بين يدي كلّ أمر من فعل وترك؛ مسترشدا به في عاقبته، استضاءة بنوره، فمن أعطي العقل فقد حصل على خير كبير. ولله درّ من قال:
... «1»
__________
(1) فراغ في الأصل!!(4/91)
283- «لا يجني على المرء.. إلّا يده» .
284- «لا يحلّ لمسلم.. أن يروّع مسلما» .
(ولا وحشة أشدّ من العجب» ) الّذي هو استعظام العمل غافلا عن منّة الله تعالى فيه. والحديث ذكره في «كشف الخفا» بلفظ: «لا فقر أشدّ من الجهل، ولا مال أكثر من العقل، ولا وحشة أوحش من العجب، ولا ورع كالكفّ عن محارم الله، ولا حسب كحسن الخلق ولا عبادة كالتّفكّر» ، وقال: رواه ابن ماجه، والطّبراني عن أبي ذرّ. وفي الباب عن عليّ بن أبي طالب. انتهى.
قال المناوي: أخرج في «الشّعب» عن علي كرّم الله وجهه: «التّوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ميراث، ولا وحشة أشدّ من العجب» قالوا: وذا من جوامع الكلم. انتهى.
283- ( «لا يجني على المرء) أي: الرّجل، والمراد الإنسان فيشمل المرأة، أي لا يوصل إليه مكروها (إلّا يده» ) لأنّه يذنب فيعاقب من الله؛ أو الحاكم، فكأنّه المعاقب لنفسه لتسبّبه في إيصال العقاب لها.
وخصّ اليد!! لمباشرتها غالبا الجنايات. انتهى «زرقاني» .
والحديث ذكره في «المواهب» ؛ وقال: رواه الشيخان؛ أي: البخاري ومسلم في حديث، ولأحمد وابن ماجه؛ من حديث عمرو بن الأحوص: إنّه شهد حجّة الوداع، وفيه: «لا يجني جان إلّا على نفسه» وقد أراد صلى الله عليه وسلم بهذا أنّه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره؛ إن قتل أو جرح أو زنى، وإنّما يؤخذ بما جنته يده، فيده هي الّتي أدّته لذلك فهو إبطال لأمر الجاهليّة، كانوا يقودون بالجناية من يجدونه؛ من الجاني وأقاربه، الأقرب فالأقرب، وعليه الآن أهل الجفا من سكان البوادي والجفاء. انتهى.
284- ( «لا يحلّ لمسلم أن يروّع) - بالتّشديد أي: يفزّع- (مسلما» ) وإن كان هازلا؛ كإشارته بسيف أو حديدة أو أفعى، أو أخذ متاعه فيفزع لفقده، لما في(4/92)
285- «لا يزال الرّجال بخير.. ما لم يطيعوا النّساء» .
286- «لا يشكر الله.. من لا يشكر النّاس» .
ذلك من إدخال الأذى والضّرر عليه، و «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد وأبي داود؛ من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجال من الصّحابة: أنّهم كانوا يسيرون مع النّبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه؛ ففزّعه ...
فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزين العراقي بعد ما عزاه لأحمد والطّبرانيّ: حديث حسن.
وذكره في «كشف الخفا» ؛ وقال: رواه الطّبراني وابن منيع؛ عن النّعمان بن بشير.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. انتهى.
285- ( «لا يزال الرّجال بخير ما لم يطيعوا) أي: مدة عدم إطاعتهم (النّساء» ) ، فإذا أطاعوهنّ قلّ خيرهم، وذلك من أشراط السّاعة.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّبراني.
286- ( «لا يشكر الله من لا يشكر النّاس» ) أي: من كان طبعه وعادته كفران نعمة النّاس وترك الشّكر لمعروفهم كان عادته كفران نعم الله وترك الشّكر له.
قال الحافظ ابن حجر كابن العربي: فيه أربع روايات رفع «الله» و «النّاس» ، ونصبهما، ورفع أحدهما ونصب الآخر.
وعلى رفعهما؛ معناه: من لا يشكره النّاس لا يشكره الله.
وعلى نصبهما معناه: من لا يشكر النّاس بالثّناء بما أولوه لا يشكر الله؛ فإنّه أمر بذلك عبيده، أو من لا يشكر النّاس كمن لا يشكر الله، ومن شكرهم كمن شكره.(4/93)
287- «لا يغني حذر.. من قدر» .
وعلى رفع أحدهما ونصب الآخر معناه: لا يكون لله شاكرا إلا من كان شاكرا للنّاس، وشكر الله ثناؤه على المحسن، وإجراؤه النّعم عليه بغير زوال.
قال الزّين العراقي: والمعروف المشهور في الرّواية نصبهما، ويشهد له حديث عبد الله بن أحمد: «من لا يشكر النّاس لا يشكر الله» . انتهى «مناوي» .
والحديث ذكره في «الكشف» وقال: رواه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات؛ عن الأشعث بن قيس رفعه. وأبو داود والتّرمذي؛ عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه التّرمذي؛ عن أبي هريرة. انتهى.
وذكره في «الجامع» بلفظ: «من لم يشكر النّاس لم يشكر الله» . ورمز له برمز الإمام أحمد والتّرمذي والضّياء في «المختارة» ؛ عن أبي سعيد الخدري.
قال المناوي: قال التّرمذي: حسن. وقال الهيثميّ: سند أحمد حسن.
ولأبي داود وابن حبّان ونحوه؛ من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح. انتهى.
وذكره في «الجامع» أيضا بلفظ: «التّحدّث بنعمة الله شكر وتركه كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر النّاس لا يشكر الله، والجماعة بركة والفرقة عذاب» ورمز له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما.
قال المناوي: فيه أبو عبد الرحمن الشّامي أورده الذّهبي في الضّعفاء، وقال الأزدي: كذّاب. ورواه عنه أحمد بسند رجاله ثقات، كما بيّنه الهيثمي، فكان ينبغي للمؤلف- يعني السّيوطي- عزوه له. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.
287- ( «لا يغني حذر من قدر» ) وإنّما يستعمل العبد الحذر!! لأنّه من جملة الأسباب المأمور بمباشرتها؛ فهو يحترز حسب الاستطاعة؛ معتقدا أنّه لا يدفع القضاء المبرم.
والحديث ذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الإمام أحمد، والحاكم(4/94)
288- «لا يلدغ المؤمن.. من جحر مرّتين» .
وصحّحه؛ عن عائشة مرفوعا. وأخرجه الدّيلمي؛ عن عائشة ومعاذ بلفظ:
«لا ينفع حذر من قدر، والدّعاء ينفع ممّا نزل» . انتهى.
وذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الحاكم، في «كتاب الدّعاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قال المناوي: وتمامه عند الحاكم «والدّعاء ينفع ممّا نزل وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل فيتلقّاه الدّعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» .
انتهى.
ثم قال المناوي: قال الحاكم: صحيح، وتعقّبه الذّهبي في «التلخيص» بأنّ زكريا بن منصور أحد رجاله مجمع على ضعفه. انتهى.
وفي «الميزان» : ضعّفه ابن معين ووهّاه أبو زرعة. وقال البخاري: منكر الحديث، وساق له هذا الخبر، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصحّ. انتهى كلام المناوي.
288- ( «لا يلدغ) - بالمثنّاة التحتيّة المضمومة واللام الساكنة وبالدّال المهملة المفتوحة والغين المعجمة- (المؤمن من جحر) - بضم الجيم فحاء مهملة- (مرّتين» ) .
قال الشّهاب الخفاجي: أريد بها التكرار؛ كقوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [3- 4/ الملك] لكنّه اقتصر على الأقل، لأنّه أنسب بالجزم.
انتهى.
قال المناوي:
روي 1- برفع الغين المعجمة نفي؛ معناه المؤمن المتيقّظ الحازم لا يؤتى من قبل الغافلة فيخدع مرة بعد أخرى، و 2- بكسر الغين نهي؛ أي؛ ليكن فطنا كيّسا لئلا يقع في مكروه بعد وقوعه فيه مرة قبلها. وذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم الّتي لم يسبق إليها.(4/95)
289- «لا يكون الرّجل من المتّقين.. حتّى يدع ما لا بأس فيه، حذرا ممّا به بأس» .
أراد به تنبيه المؤمن على عدم عوده لمحلّ حصول مضرّة سبقت له فيه، وكما أن هذا مطلوب في أمر الدّنيا؛ فكذا في أمور الآخرة، فالمؤمن إذا أذنب ينبغي أن يتألّم قلبه كاللّديغ، ويضطرب ولا يعود. انتهى.
وسبب الحديث أنّ أبا عزة الجمحي «1» أسر ببدر فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يهجوه، ولا يحرّض عليه؛ فغدر، ثم أسر بأحد، فقال: يا رسول الله؛ غلبت أقلني. فقال: «لا أدعك تمسح عارضيك بمكّة تقول (خدعت محمّدا مرّتين) ! وإنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين» . ثم أمر بضرب عنقه، فصار الحديث مثلا.
ولم يسمع ذلك قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
نعم ذكر الشّهاب الخفاجي: أنّ من حكم اليونان وأمثالهم قولهم: لا يرمى العاقل بحجر مرتين. فانظر الفرق بين كلام النّبوّة وغيرها!!.
وفي «العزيزي» : قيل: المراد بالمؤمن في هذا الحديث الكامل الّذي أوقفته معرفته على غوامض الأمور، حتى صار يحذر مما سيقع، وأمّا المؤمن المغفّل! فقد يلدغ مرارا من جحر.
وفيه أدب شريف أدّب به النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّته، ونبّههم كيف يحذرون ممّا يخافون سوء عاقبته. انتهى.
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والشّيخين:
البخاري ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه كلّهم؛ عن أبي هريرة، وبرمز الإمام أحمد وابن ماجه كلاهما؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
289- ( «لا يكون الرّجل من المتّقين) - أي: لا يبلغ العبد حقيقة التّقوى- (حتّى يدع ما لا بأس فيه حذرا ممّا به بأس» ) أي: يترك فضول الحلال؛ حذرا من
__________
(1) وكان شاعرا.(4/96)
290- «لا يؤمن أحدكم.. حتّى يحبّ ...
الوقوع في الحرام، ويسمّى هذا ورع المتّقين. وهذه الدرجة الثانية من درجات الورع.
قال عمر: كنّا ندع تسعة أعشار الحلال خوف الوقوع في الحرام.
وكان بعضهم يأخذ ما يأخذ بنقصان حبّة، ويعطي ما عليه بزيادة حبّة. ولذلك أخذ عمر بن عبد العزيز بأنفه «1» من ريح المسك الذي لبيت المال، وقال: هل ينتفع إلّا بريحه!!
ومن ذلك ترك النّظر إلى تجمّل أهل الدنيا، فإنّه يحرّك داعية الرّغبة فيها. انتهى «عزيزي» .
والحديث ذكره في «الجامع» بلفظ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به بأس» ورمز له برمز التّرمذي وابن ماجه والحاكم كلهم؛ عن عطية بن عروة السّعدي رضي الله تعالى عنه، وقال التّرمذي: حسن غريب. انتهى بزيادة من المناوي.
290- ( «لا يؤمن أحدكم) إيمانا كاملا؛ فالمراد بنفيه هنا نفي بلوغ حقيقته ونهايته، كخبر «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان. ولا يرد استلزامه أنّ فاعل ذلك يكمل إيمانه؛ وإن ترك بقيّة الأركان!! لأنّ هذا ورد مورد المبالغة، ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم. وصرّح في رواية ابن حبّان بالمراد، ولفظ «لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان» إذ معنى الحقيقة الكمال ضرورة إن من لم يتّصف بهذه الصّفة لا يكون كافرا.
(حتّى يحبّ) - بالنّصب، لأنّ «حتّى» جارّة و «أن» بعدها مضمرة،
__________
(1) أي: يمسك بيده على أنفه لئلا يتمتع بريح المسك. (عبد الجليل) .(4/97)
لأخيه ما يحبّ لنفسه» .
ولا يجوز الرّفع فتكون «حتّى» عاطفة!! لفساد المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبّة. ذكره الكرماني- (لأخيه) - المسلم كما زاده في رواية الإسماعيلي ولعلّه غالبي، فالمسلم ينبغي حبّه للكافر الإسلام، وما يترتب عليه من خير وأجر- (ما يحبّ لنفسه» ) من الخير؛ كما في رواية النّسائي وابن منده والإسماعيلي والقضاعي، والمراد أن يحبّ لأخيه من الخير نظير ما حصل له من جهة لا يزاحمه فيها.
وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه؛ إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلّين محال، قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشّر، ولم يذكره! لأنّ حبّ الشّيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك النصّ عليه اكتفاء. انتهى.
وذلك ليكون المؤمنون كنفس واحدة، ومقصود الحديث انتظام أحوال المعاش والمعاد، والجري على قانون السّداد وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [103/ آل عمران] وعماد ذلك كلّه وأساسه السّلامة من الأدواء القلبيّة، فالحاسد يكره أن يفوقه أحد، أو يساويه في شيء، والإيمان يقتضي المشاركة في كل خير؛ من غير أن ينقص على أحد من نصيب أحد شيء.
نعم؛ ومن كمال الإيمان تمنّي مثل فضائله الآخروية الّتي فاقه فيها غيره.
وقوله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [32/ النساء] نهي عن الحسد المذموم، فإذا فاقه أحد في فضل ديني اجتهد في لحاقه، وحزن على تقصيره، لا حسدا؛ بل منافسة في الخير، وغبطة. انتهى «مناوي وزرقاني» .
قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي: جماع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» ، وحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» ، وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وقوله للذي اختصر له في الوصية «لا تغضب» . انتهى عزيزي ك «شرح مسلم» .(4/98)
291- «لا يؤمن أحدكم.. حتّى يكون هواه ...
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، قال الزّرقاني: أخرجه الشيخان:
البخاري ومسلم، والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله عنه.
لكن لفظ رواية مسلم: «حتّى يحبّ لأخيه- أو قال- جاره» . ورواية البخاري وغيره: «لأخيه» بلا شك. انتهى. ونحوه في «الجامع الصغير» مع المناوي رحمهم الله تعالى.
291- ( «لا يؤمن أحدكم) إيمانا كاملا (حتّى يكون هواه) ، بالقصر:
ما يهواه أي: تحبّه نفسه وتميل إليه، وجمعه أهواء، والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنّه الميل إلى خلاف الحقّ، وهذا هو الغالب، ومنه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [26/ ص] ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) [النازعات] .
ومنه قول ابن دريد:
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا
وقول هشام بن عبد الملك:
إذا لم تكن تعصي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
وقول آخر:
إنّ الهوان من الهوى قصر اسمه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقول آخر:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريع كلّ هوى صريع هوان
وقد يطلق الهوى بمعنى مطلق الميل والمحبّة؛ فيشمل الميل للحقّ وغيره، ويطلب بمعنى محبّة الحقّ خاصّة، والانقياد إليه، ومنه ما في هذا الحديث، ومنه قول عائشة رضي الله عنها لما نزل قوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ(4/99)
لما جئت به» .)
تَشاءُ [51/ الأحزاب] قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلّا يسارع في هواك، وقول عمر رضي الله عنه- في قصة المشاورة في أسارى بدر- «فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت» ؛
فتبيّن أنّ للهوى ثلاث إطلاقات: 1- الميل إلى خلاف الحقّ، وهو الغالب.
و2- مطلق الميل الشّامل للحقّ وغيره. و 3- الميل إلى الحقّ خاصّة.
وهذا كلّه في المقصور؛ أمّا الممدود [الهواء] فهو الجرم الّذي بين السماء والأرض، وكلّ متجوّف، وجمعه أهوية.
(تبعا لما جئت به» ) من هذه الشّريعة المطهّرة الكاملة، بأن يميل قلبه وطبعه إليه؛ كميله لمحبوباته الدنيويّة الّتي جبل على الميل إليها من غير مجاهدة وتصبّر، بل يهواها كما يهوى المحبوبات المشتهيات، إذ من أحبّ شيئا أتبعه هواه، ومال عن غيره إليه، ومن ثمّ آثر التعبير بذلك، على نحو «حتّى يأتمر بكلّ ما جئت به» لأنّ المأمور بالشيء قد يفعله اضطرارا. انتهى؛ من شرح ابن حجر الهيتمي على «الأربعين النووية» .
وقال الإمام النّووي رحمه الله تعالى: يعني أنّ الشّخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنّة، ويخالف هواه، ويتّبع ما جاء به النّبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نظير قوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [36/ الأحزاب] فليس لأحد مع الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم أمر ولا هوى.
وعن إبراهيم بن محمد الكوفيّ قال: رأيت الشّافعي بمكة يفتي النّاس ورأيت إسحاق بن راهواه وأحمد ابن حنبل حاضرين، فقال أحمد لإسحاق: تعال حتّى أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فقال له إسحاق: لم تر عيناي مثله!! قال: نعم.
فجاء به فوقفه على الشّافعي.
فذكر القصة إلى أن قال: ثمّ تقدّم إسحاق إلى مجلس الشّافعي فسأله عن كراء(4/100)
.........
بيوت مكة. فقال الشّافعي: هذا عندنا جائز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل ترك لنا عقيل من دار!!» .
فقال إسحاق: أخبرنا يزيد بن هارون؛ عن هشام؛ عن الحسن أنّه لم يكن يرى ذلك!، وعطاء وطاووس لم يكونا يريان ذلك!!
فقال له الشّافعي: أنت الّذي تزعم أهل خراسان أنّك فقيههم؟!.
قال إسحاق: كذلك يزعمون؟!
قال الشّافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بفرك أذنيه.
أنا أقول: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنت تقول: قال عطاء وطاووس والحسن وإبراهيم؛ هؤلاء لا يرون ذلك» ؟! وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة؟.
ثمّ قال الشّافعي: قال الله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [59/ الحشر] أفتنسب الدّيار إلى مالكين؛ أو غير مالكين؟.
قال إسحاق: إلى مالكين!.
قال الشافعي: فقول الله تعالى أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ؛ وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار الحجلتين!؟ وذكر الشّافعي جماعات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له إسحاق: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج/ 52] !! فقال له الشّافعي:
فالمراد به المسجد خاصّة؛ وهو الّذي حول الكعبة، ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد في دور مكّة ضالّة، ولا تحبس فيها البدن، ولا تلقى الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصّة!.
فسكت إسحاق ولم يتكلّم. فسكت الشّافعي عنه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ونفعنا بعلومهم آمين.
والحديث ذكره النّووي في «الأربعين» ؛ وقال: حديث صحيح روّيناه في كتاب «الحجّة» بإسناد صحيح.(4/101)
.........
قال ابن حجر: كتاب «الحجّة في اتباع المحجّة» في عقيدة أهل السنّة لتضمّنه ذكر أصول الدّين على قواعد أهل الحديث، وهو كتاب جيد نافع وقدره ك «التنبيه» مرة ونصفا تقريبا، ومؤلفه هو العلامة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني الحافظ؛ كذا قاله بعضهم! وخالفه غيره؛ فقال: إنّه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشّافعي، الفقيه الزاهد نزيل دمشق. انتهى.
قال بعضهم: ورواه محيي السّنّة في «المصابيح» و «شرح السنة» . انتهى.
قال ابن حجر: وهو على وجازته واختصاره يجمع ما في هذه «الأربعين» وغيرها؛ من دواوين السّنّة، وبيانه أنّه صلى الله عليه وسلم إنّما جاء بالحقّ وصدّق المرسلين، وهذا الحقّ إن فسّر بالدّين شمل الإيمان والإسلام والنّصح لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم، والاستقامة، وهذه أمور جامعة لا يبقى بعدها إلّا تفاصيلها، أو بالتّقوى فهي مشتملة على ما ذكرناه أيضا، فإذا كان كذلك؛ كان هوى الإنسان تبعا لما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الدّين والتّقوى.
وعلم من الحديث أنّ من كان هواه تابعا لجميع ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا كاملا، وضدّه؛ وهو من أعرض عن جميع ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم- ومنه الإيمان- فهو الكافر؛ وأما من اتبع البعض؛ فإن كان ما اتّبعه أصل الدّين؛ وهو الإيمان، وترك ما سواه؛ فهو الفاسق، وعكسه المنافق، واستمداد الحديث من قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ
[65/ النساء] ... الآية، إذ فيها غاية التعظيم لحقّه صلى الله عليه وسلم والتأدّب معه، ووجوب محبّته واتّباعه فيما يأمر به من غير توقّف؛ ولا تلعثم، ومن ثمّ لم يكتف بالتّحكيم، بل عقّبه بقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ولم يكتف بهذا أيضا، بل زاد التأكيد بقوله وَيُسَلِّمُوا [65/ النساء] ، ولم يكتف به أيضا، بل زاد فيه فأتى بالمصدر الرافع لاحتمال التجوّز؛ فقال تَسْلِيماً (65) [النساء] ، وبهذا التسليم تكون النّفس مطمئنّة لحكمه، منشرحة به، لا توقف عندها فيه بوجه. انتهى.(4/102)
292- «لا يؤمن عبد.. حتّى يكون قلبه ولسانه سواء» .
292- ( «لا يؤمن عبد حتّى يكون قلبه ولسانه سواء» ) في كون ما يظهر على لسانه هو ما يكنّه قلبه، من حسن معاملة الخلق والخالق.
والحديث ذكره في «كشف الخفاء» ، وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أنس.
وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. انتهى.
وذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد رحمه الله تعالى.(4/103)
[ (حرف الياء) ]
(حرف الياء) 293- «يا ابن آدم؛ ارض من الدّنيا.. بالقوت؛ فإنّ القوت لمن يموت كثير» .
294- «يا أبا بكر؛ ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» . قاله له في الغار.
(حرف الياء) 293- ( «يا ابن آدم) المراد ب «ابن آدم» الجنس (ارض من الدّنيا بالقوت) ؛ أي: بما يسدّ الرّمق بغير زيادة على ذلك، قيل: سمّي قوتا! لحصول القوة منه؛ ذلك لأن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، والكفاف حالة متوسّطة بين الفقر والغنى، وخير الأمور أوساطها، ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتا» . ومعلوم أنّه لا يسأل [الله] إلّا أفضل الأحوال.
(فإنّ القوت لمن يموت كثير» ) هذا مبالغة في التقلّل من الدّنيا، وإلّا! فإن الإنسان لا يستغني عن القوت، إذ هو البلغة، وبه قوام البنية.
وأقطاب القوت: الكنّ، والكسوة، والشّبع، والرّيّ؛ فمن توفّرت له فهو مكفيّ، كما جاء ذلك في حديث رواه التّرمذي في «الزّهد» ، والحاكم في «الرّقاق» كلاهما؛ عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: «ليس لابن آدم حقّ فيما سوى هذه الخصال، بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز، والماء» قال التّرمذي:
حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ. والله أعلم.
294- ( «يا أبا بكر) - الصّدّيق- (ما ظنّك باثنين) - يعني: نفسه وأبا بكر- (الله ثالثهما) بالنّصرة والإعانة. وفي رواية: «اسكت؛ يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما» . وهذا (قاله) النّبيّ صلى الله عليه وسلم (له) ؛ أي: لأبي بكر الصّدّيق وهما ماكثان (في الغار) المعهود؛ وهو غار ثور جبل من جبال مكّة بأسفلها؛ على مسير(4/104)
295- «يا أبا ذرّ؛ جدّد السّفينة، فإنّ البحر عميق» .
296- «يا أنس؛ أطب كسبك.. تستجب دعوتك» .
ساعتين تقريبا، وذلك في خروجهما متوجّهين إلى المدينة للهجرة، ولمّا بعثت قريش الطّلب في آثارهما؛ وكانا مختفيين في الغار المذكور، ووصلت قريش إلى باب الغار؛ قال سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» !
والحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما؛ عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ وفيه منقبة ظاهرة لسيّدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه.
295- ( «يا أبا ذرّ؛ جدّد السّفينة) - أي: أكثر من الأعمال الصّالحة ما دمت في هذه الحياة الدّنيا- (فإنّ البحر عميق» ) يعني: يوم القيامة الّتي تستقلّ فيه الأعمال الصّالحة لما اشتمل عليه من الهول؛
فشبّه الأعمال الصّالحة الكثيرة في تعاضدها؛ إذ يتسبب عنها تخليص صاحبها من الأهوال؛ بالسّفينة الجديدة في قوّتها وتحمّلها ما يطرأ عليها من مصادمات وأخطار المتسبّب ذلك في نجاة ركابها.
وشبّه يوم القيامة وما اشتمل عليه من أهوال يشيب فيها الوليد؛ بحيث لا ينجيه من ذلك إلّا كثرة الأعمال الصّالحة؛ شبّهه بالبحر العميق المحاط بالأخطار، بحيث لا ينجيه منه إلّا السّفينة السليمة الآلات، القوية في المعدات، أمّا غيرها! فيخشى عليه الوقوع في الهلاك. وهذا من أبدع الكلام وأحسن الاستعارة.
وهذا الحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .
296- ( «يا أنس؛ أطب كسبك) - أي: مطعمك، وكسوتك، وتوابعهما، وأهمّها المطعم بأن يكون ذلك من حلال، سليما من الشّبهة، فإذا فعلت ذلك (تستجب دعوتك» ) أي: دعاؤك إن دعوت الله تعالى في أمر من الأمور، وحاجة من الحاجات.(4/105)
297- «يا حرملة؛ ائت المعروف واجتنب المنكر» .
وهذا كقوله لسعد: «أطب طعمتك تجب دعوتك» . أمّا من كان مطعمه من حرام، وملبسه من حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له!!.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .
297- ( «يا حرملة) - بفتح المهملة وسكون الراء وفتح الميم- ابن عبد الله بن إياس- وربّما نسب إلى جدّه فظنّ أنّه غيره- وهو التميمي العنبري الصحابي، كان من أهل الصّفّة، ونزل البصرة، قال: قلت يا رسول الله؛ ما تأمرني به أعمل!! فقال:
(ائت المعروف) أي: افعله. والمعروف: ما عرفه الشّرع، وهو الواجب والمندوب، (واجتنب المنكر» ) ؛ أي: لا تقربه، والمنكر: ما أنكره الشّرع، وهو المكروه والحرام.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطّيالسي.
وذكره في «الجامع» بلفظ: «ائت المعروف، واجتنب المنكر، وانظر ما يعجب أذنك أن يقول لك القوم إذا قمت من عندهم فأته. وانظر الّذي تكره أن يقول لك القوم إذا قمت من عندهم فاجتنبه» .
ورمز له برمز البخاري في «الأدب المفرد» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، وابن سعد، والبغوي في «معجمه» ، والباوردي في «معرفة الصحابة» ؛ كلّهم عن حرملة المذكور وليس له غيره.
قال المناوي: يعني لا يعرف له رواية غير هذا الحديث.
ثمّ قال المناوي: وكلام الحافظ ابن حجر مصرّح بحسن الحديث، فإنّه قال:
حديثه- يعني حرملة- في «الأدب المفرد» للبخاري، «ومسند الطيالسي» وغيرهما بإسناد حسن. انتهى.(4/106)
298- «يا حبّذا كلّ ناطق عالم، وكلّ مستمع واع» .
299- «يا حذيفة؛ عليك بكتاب الله» .
300- «يا عبادة؛ اسمع وأطع في عسرك ويسرك» .
298- (يا) للتنبيه؛ أو للنّداء، والمنادى محذوف أي: يا قوم (حبّذا) :
كلمة مدح ركبت من كلمتين «حبّ» فعل ماض، و «ذا» اسم إشارة، وأصله حبّب بضمّ الحاء- وهو مسند إلى اسم الإشارة إلّا أنهما جريا بعد التّركيب مجرى الأمثال الّتي لا تتغيّر؛ أي حبّ هذا الأمر المذكور في قوله
(كلّ ناطق عالم) ؛ أي: متكلّم عن علم بما يتكلّم، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك العمل بما يعلمه وبما يقوله، (وكلّ مستمع واع) ؛ أي: حافظ لما يسمعه من العلم، فإنّ هذا هو الّذي يزداد علما كلما طلعت عليه شمس يوم.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .
299- ( «يا حذيفة) بن اليمان (عليك) اسم فعل بمعنى «الزم» ، وقوله (بكتاب الله» ) ! بباء الجر، واستشكاله بتعديته بنفسه في نحو عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة/ 105] !! دفعه الرضيّ بأن أسماء الأفعال؛ وإن كان حكمها في التعدّي واللّزوم حكم الأفعال التي هي بمعناها؛ لكن كثيرا ما تزاد الباء في مفعولها؛ نحو «عليك به» لضعفها في العمل. انتهى «مناوي» .
أي: الزم تلاوة كتاب الله تعالى القرآن، وتدبّره، واتّخذه إماما وقائدا، آمن بمتشابهه، واعتبر بأمثاله، واعمل بأحكامه.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد.
300- ( «يا عبادة؛ اسمع وأطع) أميرك في كلّ ما يأمر به؛ وإن شقّ ما لم يكن إثما، وجمع بينهما تأكيدا!! للاهتمام بالمقام؛ أي: اسمع وأطع على كل حال (في عسرك) ؛ أي: ضيقك وشدّتك، (ويسرك» ) - بضمّ أوّله وسكون(4/107)
301- «يا عقبة؛ صل من قطعك، وأعط من حرمك» .
302- «يا عليّ؛ لا ترج إلّا ربّك، ولا تخف إلّا ذنبك» .
303- «يا عمرو؛ نعمّا بالمال الصّالح للرّجل الصّالح» .
السّين المهملة-: نقيض العسر، يعني: في حال فقرك وغناك.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد.
301- ( «يا عقبة؛ صل من قطعك) من ذوي قرابتك وغيرهم، (وأعط من حرمك» ) عطاءه أو مودّته، أو معروفه.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد.
302- ( «يا عليّ؛ لا ترج) في قضاء حاجتك (إلّا ربّك) ؛ لا غيره من المخلوقين، (ولا تخف) أحدا (إلّا ذنبك» ) يعني؛ إذا وقعت في الذّنب فخف أن يصيبك من الله شيء؛ عقابا لذنبك الّذي ارتكبته.
والحديث ذكره المناوي في «الكنوز» مرموزا له برمز الدّيلمي في «الفردوس» .
303- ( «يا عمرو) بن العاص (؛ نعمّا بالمال) قال في «النّهاية» : أصله «نعم ما» ؛ فأدغم وشدّد، و «ما» غير موصوفة ولا موصولة، كأنّه قال: نعم شيئا المال (الصّالح) . والباء زائدة مثل زيادتها في وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) [الأحزاب] انتهى.
(للرّجل الصّالح) الّذي يقيم به أوده، ويستعين به على آخرته.
والحديث ذكره في «مجمع الزوائد» عن عمرو بن العاص قال: بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذ عليك ثيابك وسلاحك ثمّ ائتني» ، - قال: فأتيته وهو يتوضّأ فصعّد فيّ البصر ثمّ طأطأ؛ فقال: «إنّي أريد أن أبعثك على جيش فيسلّمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة» ، فقلت: - يا رسول الله(4/108)
304- «يا عمّ رسول الله؛ أكثر من الدّعاء بالعافية» ، قاله للعبّاس.
305- «يا فاطمة؛ كوني له أمّة.. يكن لك عبدا» .
ما أسلمت من أجل المال، ولكنّي أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: «يا عمرو نعمّا بالمال الصّالح للمرء الصّالح» رواه أحمد، وقال: كذا في النّسخة «نعمّا» بنصب النّون وكسر العين، وقال أبو عبيدة: بكسر النّون والعين.
ورواه الطّبراني في «الأوسط» و «الكبير» وقال فيه: ولكن أسلمت رغبة في الإسلام وأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «نعم ونعمّا بالمال الصّالح للمرء الصّالح» . انتهى كلام «مجمع الزوائد» .
304- (يا عمّ رسول الله؛ أكثر من الدّعاء بالعافية» ) أي: السّلامة من الشّدائد والبلايا والمكاره الدّنيوية والآخرويّة، أي: أكثر من الدّعاء بدوامها واستمرارها عليك، لأنّها جامعة لأنواع خير الدّارين من الصّحة في الدّنيا؛ والسّلامة في العقبى، ومن كملت له العافية علّق قلبه بملاحظة مولاه، وعوفي من التّعلّق بسواه.
قال الدّيلمي: وهذا (قاله للعبّاس) عمّه حين قال: يا رسول الله؛ علمني شيئا أسأله الله. فذكره.
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الحاكم؛ عن ابن عباس.
ورواه عنه الطّبراني باللّفظ المزبور، وفيه راو ضعّفه جمع، وبقيّة رجاله ثقات. وذكره المناوي في «الكنوز» باللفظ المزبور.
305- ( «يا فاطمة؛ كوني له) - أي: زوجها عليّ- (أمة) - أي: مطيعة كالأمة المطيعة لسيّدها- (يكن لك) - أي: بعلك- (عبدا» ) موافقا منقادا، كالعبد الموافق لسيّده في أغراضه.(4/109)
306- «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه.. وينسى الجذع في عينه» .
307- «يسّروا ...
306- ( «يبصر أحدكم القذى) - جمع: قذاة، وهي ما يقع في العين والماء والشّراب من نحو تراب وتبن ووسخ- (في عين أخيه) - في الإسلام- (وينسى الجذع) - واحد: جذوع النّخل- (في عينه» ) أي: في عين نفسه، كأنّ الإنسان لنقصه وحبّ نفسه يتوفّر على تدقيق النّظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به.
وهذا مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب النّاس ويعيّرهم به، وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة، وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح، فرحم الله من حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه، وكفّ عن عرض أخيه، وأعرض عمّا لا يعنيه، فمن حفظ هذه الوصيّة دامت سلامته وقلّت ندامته، فتسليم الأحوال لأهلها أسلم، والله أعلى وأعلم. ولله درّ القائل:
أرى كلّ إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الّذي هو فيه
فلا خير فيمن لا يرى عيب نفسه ... ويبصر عيبا كائنا بأخيه
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز أبي نعيم في «الحلية» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي في «شرحه» : ورواه القضاعي، وهو حديث حسن. انتهى.
وذكره في «كشف الخفا» وقال: رواه الإمام أحمد؛ عن أبي هريرة، وابن أبي الدّنيا في «المداراة» ؛ عن بكر بن عبد الله المزني قال: «إذا رأيتم الرّجل موكّلا بذنوب النّاس، ناسيا لذنبه، فاعلموا أنّه قد مكر به» .
وروى الدّيلمي؛ عن أنس: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» . انتهى.
307- ( «يسّروا) - بفتح فتشديد-؛ أي: خذوا بما فيه التّيسير على النّاس(4/110)
ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» .
بذكر ما يؤلّفهم لقبول الموعظة في جميع الأيّام، لئلا يثقل عليهم فينفروا، وذلك لأن التّيسير في التعليم يورّث قبول الطاعة، ويرغّب في العبادة، ويسهل به العلم والعمل.
(ولا تعسّروا) ؛ لا تشدّدوا، أردفه بنفي التعسير مع أنّ الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحا بما لزم ضمنا للتأكيد. ذكره الكرماني. وأولى منه قول جمع (عقّبه به إيذانا بأن مراده نفي التّعسير رأسا، ولو اقتصر على «يسّروا» لصدق على كل من يسّر مرّة وعسّر كثيرا) ، كذا قرره أئمة هذا الشّأن، ومنهم النّووي وغيره.
(وبشّروا) بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، وشمول عفوه ومغفرته؛ من التّبشير، وهو إدخال السّرور، والبشارة: الإخبار بخبر سار.
وقوله «بشّروا» بعد قوله «يسّروا» فيه جناس خطيّ «1» ، ولم يكتف به، بل أردفه بقوله:
(ولا تنفّروا» ) لما مرّ وهو من التّنفير؛ أي: لا تذكروا شيئا تنهزمون منه، ولا تصدّروا بما فيه الشّدّة.
وقابل «2» به «بشّروا» مع أنّ ضد البشارة النّذارة!! لأن القصد من النفارة التّنفير، فصرّح بالمقصود منها.
وهذا الحديث- كما قاله الكرماني وغيره- من جوامع الكلم لاشتماله على الدّنيا والآخرة، لأن الدّنيا دار العمل؛ والآخرة دار الجزاء، فأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدّنيا بالتسهيل، وفيما يتعلّق بالآخرة بالوعد الجميل والإخبار بالسّرور؛ تحقيقا لكونه رحمة للعالمين في الدّارين.
__________
(1) وهو المسمّى «جناسا غير تامّ» لعدم اتحاد نوع الحروف.
(2) من المقابلة أحد أنواع علم البديع؛ من علوم البلاغة، وهي ذكر المعنى وضدّه.(4/111)
308- «اليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» .
وفيه الأمر بالتّيسير بسعة الرّحمة والنّهي عن التّنفير بذكر التّخويف؛ أي: من غير ضمّه إلى التّبشير، وتأليف من قرب عهده بالإسلام، وترك التّشديد عليه والأخذ بالرّفق، وتحسين الظّنّ بالله لكن لا يجعل وعظه كلّه رجاء، بل يشوبه بالخوف.
انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنّسائي؛ كلهم عن أنس رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي. ورواه البخاري وغيره؛ عن أبي موسى الأشعري، وذكر أنّه قال ذلك له ولمعاذ لمّا بعثهما إلى اليمن، وزاد- بعد ما ذكر هنا-: «وتطاوعا ولا تختلفا» .
قال أبو البقاء: وإنّما قال «يسّروا» بالجمع مع أنّ المخاطب اثنان!! لأن الاثنين جمع في الحقيقة، إذ الجمع ضمّ إلى شيء إلى شيء. أو يقال: إن الاثنين أميران، والأمير إذا قال شيئا توقع قبول الأمر إلى الجمع، أو أراد أمرهما وأمر من يوليانه. انتهى.
308- ( «اليمين الفاجرة) - أي: الكاذبة- (تدع) - أي: تترك- (الدّيار بلاقع» ) بفتح الباء واللّام، وكسر القاف؛ جمع: بلقع؛ وهي الأرض القفراء الّتي لا شيء فيها.
يريد أن الحالف كاذبا يفتقر، ويذهب ما في بيته من الرّزق.
وقيل: هو أن يفرّق الله شمله، ويغيّر عليه ما أولاه من نعمه.
والحديث ذكره في «المواهب» ، وقال: رواه الديلمي في «مسند الفردوس» من حديث أبي هريرة مرفوعا، وذكره في «الجامع» بلفظ: «ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرّحم، وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرّحم، واليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» ورمز له برمز البيهقي في «سننه» ؛ عن أبي هريرة(4/112)
309- «اليوم.. الرّهان، وغدا.. السّباق، والغاية.. الجنّة، والهالك.. من دخل النّار» .
رضي الله تعالى عنه، وإسناده حسن؛ كما في «العزيزي» .
309- ( «اليوم) - أي: الدّنيا- (الرّهان) - بكسر الرّاء- قال المجد:
المخاطرة والمسابقة على الخيل. انتهى. استعير للمسابقة على الأعمال في الدنيا، كما قال تعالى سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [21/ الحديد] قال البيضاوي: سابقوا؛ سارعوا مسارعة المتسابقين في المضمار.
(وغدا) - أي: يوم القيامة- (السّباق) - بالكسر- مصدر سابق مسابقة وسباقا بمعنى السّبق- بفتحتين-: ما يجعل من المال رهنا على المسابقة، استعير للأعمال التي يلقاها العاملون يوم القيامة.
(والغاية) التي يقع عليها الرّهان (الجنّة) ، فيه حذف دلّ عليه المذكور؛ أي: والنّار. فالفائز من دخل الجنّة، (والهالك من دخل النّار» ) .
والمعنى: الفائز من عمل الأعمال الصّالحة، وفعل المأمورات، واجتنب المنهيّات؛ فدخل الجنّة، فرفعت له فيها الدّرجات، والهالك من فعل المعاصي، فال إلى استحقاق دخول النّار.
وحاصل معنى الحديث: أنّ الدّنيا بتمامها للنّاس كيوم يتسابق فيه المتسابقون على خيلهم إلى غاية معلومة لهم، وقد جعلوا مالا يأخذه السّابق غدا، فمن عمل الصّالحات فاز بذلك الجعل؛ الذي هو الجنّة، بمقتضى الوعد الصادق. ومن عمل السّيئات حرم الجعل واستحقّ النّار، بمقتضى الوعيد ما لم يعف عنه؛ إن كان مسلما. هذا ما ظهر لي، ولم أر أحدا شرحه.
وبقيّة الحديث: «أنا الأوّل، وأبو بكر الثّاني، وعمر الثّالث، والنّاس بعد على السّبق الأوّل فالأوّل» . رواه الطّبرانيّ، وابن عديّ، والخطيب؛ عن ابن عبّاس بتمامه مرفوعا، وفيه أصرم بن حوشب: منكر الحديث. انتهى «زرقاني» .(4/113)
310- «يا أيّها النّاس؛ ألا تستحيون؟! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون» .
311- «يا أيّها النّاس؛ أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا والنّاس نيام.. تدخلوا الجنّة بسلام» .
310- ( «يا أيّها النّاس) ، قال ابن مالك في «شرح الكافية» : إذا قلت «أيّها الرّجل» ف «أيّها» و «الرّجل» كاسم واحد، و «أيّ» مدعوّ، و «الرّجل» : نعت له ملازم، لأنّ «أيّ» مبهم لا يستعمل بغير صلة؛ إلّا في الجزاء والاستفهام.
و «ها» حرف تنبيه، فإذا قلت «يا أيّها الرّجل» لم يصحّ في «الرّجل» إلّا الرّفع، لأنّه المنادى حقيقة، و «أيّ» يتوصّل به إليه، وإن قصد به مؤنّث زيدت التّاء، نحو يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) [الفجر] . انتهى «مناوي» .
(ألا تستحيون) من الله تعالى!! (تجمعون ما لا تأكلون) أي: ما يزيد على كفايتكم، (وتبنون ما لا تسكنون» ) ؛ بل عن قريب منه راحلون!!. أو المراد ما يزيد على قدر حاجتكم.
311- ( «يا أيّها النّاس؛ أفشوا السّلام) - بقطع الهمزة-، أي: انشروه وأعلنوه بين من تعرفونه، ومن لا تعرفونه من المسلمين الّذين يندب عليهم السّلام.
(وأطعموا الطّعام) للبرّ والفاجر، أي: تصدّقوا بما فضل عن حاجة من تلزمكم نفقته. فالمراد: بذل الطّعام والمال ونحوه؛ لا خصوص إطعام الطّعام.
(وصلوا) بكسر الصّاد؛ أمر من الصّلة (الأرحام) أي: أحسنوا إلى أقاربكم بالقول والفعل.
(وصلّوا) باللّيل (والنّاس نيام) ، جملة حاليّة، أي: تهجّدوا حال نوم غالب النّاس، والأولى من اللّيل السّدس الرّابع والخامس، فإذا فعلتم ما ذكر؛ (تدخلوا الجنّة بسلام» ) ، أي: مع سلامة من الآفات الآخرويّة.
والمراد: أنّ فعل المذكورات من الأسباب الموصلة إلى الجنّة.(4/114)
312- «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال:
«يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، قال: «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، (ثلاثا) ، قال: «ما من عبد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صدقا من قلبه.. إلّا حرّمه الله على النّار» ...
والحديث أخرجه التّرمذيّ؛ عن عبد الله بن سلام الإسرائيليّ الصّحابيّ الجليل رضي الله تعالى عنه؛ وقال: حديث صحيح.
312- ( «يا معاذ» ) أي: ابن جبل (قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك) ، اللّبّ بفتح اللّام-: معناه هنا الإجابة، والسّعد: المساعدة، كأنّه قال: لبّا لك وإسعادا لك، ولكنّهما ثنّيا على معنى التّأكيد والتّكثير، أي: إجابة بعد إجابة، وإسعادا بعد إسعاد. وقيل في أصل «لبّيك» واشتقاقها غير ذلك. انتهى «فتح الباري» .
(قال: «يا معاذ» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال: «يا معاذ» قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثا) أي: النّداء والإجابة قيلا ثلاثا. (قال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «ما من عبد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صدقا من قلبه) - متعلّق ب «صدقا» ، أي: يشهد بلفظه، ويصدّق بقلبه- (إلّا حرّمه الله على النّار» ) .
فإن قلت: إنّ ظاهر هذا يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشّهادتين النار، لما فيه من التّعميم والتّأكيد، وهو مصادم للأدلّة القطعيّة الدّالّة على دخول طائفة من عصاة الموحّدين النار، ثمّ يخرجون بالشّفاعة؟
أجيب: بأنّ هذا مقيّد 1- بمن قالها تائبا ثمّ مات على ذلك. أو أنّ المراد بالتّحريم هنا: تحريم الخلود؛ لا أصل الدخول. أو أنّه خرج مخرج الغالب؛ إذ الغالب أنّ الموحّد يعمل الطّاعة، ويجتنب المعصية، أو 2- من قال ذلك مؤدّيا حقّه وفرضه.(4/115)
قال: يا رسول الله؛ أفلا أخبر بها النّاس فيستبشروا؟ قال: «إذا يتّكلوا» . فأخبر بها معاذ- عند موته- تأثّما. رواه الشّيخان:
البخاريّ ومسلم.
قوله: (تأثّما) أي: خوفا من الإثم في كتم هذا العلم.
أو المراد: تحريم النّار على اللّسان النّاطق بالشّهادتين، كتحريم مواضع السّجود.
(قال) - أي معاذ- (: يا رسول الله؛ أفلا) - بهمزة الاستفهام، وفاء العطف المحذوف معطوفها، والتّقدير: أقلت ذلك فلا- (أخبر بها النّاس فيستبشروا؟!) نصب بحذف النّون لوقوع الفاء بعد النّفي؛ أو الاستفهام، أو العرض، وهي تنصب في كلّ ذلك، والتّقدير: فأن يستبشروا.
(قال) صلى الله عليه وسلم: ( «إذا) - أي: إن أخبرتهم- (يتّكلوا» ) . بتشديد المثنّاة الفوقيّة، وكسر الكاف، أي: يعتمدوا على الشّهادة المجرّدة، وهو جواب وجزاء ونصب.
(فأخبر بها معاذ- عند موته-) - أي: موت معاذ (تأثّما) - بفتح المثنّاة الفوقية؛ وفتح الهمزة؛ وتشديد المثلّثة المضمومة؛ أي: تجنّبا عن الإثم- (رواه الشّيخان: البخاريّ) في «كتاب العلم؛ باب: من خصّ بالعلم قوما دون قوم» .
(ومسلم) واللّفظ له في «كتاب الإيمان؛ باب: الدّليل على أنّ من مات على التّوحيد دخل الجنّة قطعا» ؛ كلاهما عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرّحل قال: «يا معاذ ... » فذكره.
(قوله: «تأثّما» ) ؛ بالتّشديد. (أي: خوفا من) الوقوع في (الإثم في) أي: بسبب- (كتم هذا العلم) الّذي أمر الله بتبليغه، حيث قال وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [187/ آل عمران] ، وليس فيه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ نهيه مقيّد بالاتّكال، إذ كانوا حديثي عهد بالإسلام، فلما زال القيد، وصاروا حريصين على العبادة لم يبق نهي، أو أنّ النّهي لم يكن للتّحريم، بل للتّنزيه، وإلّا! لما كان يخبر به أصلا. قال في «الفتح» : وهذا أوجه، لكون معاذ أخّر ذلك إلى وقت موته. والله أعلم.(4/116)
[الباب الثّامن في طبّه صلّى الله عليه وسلّم وسنّه، ووفاته، ورؤيته في المنام]
الباب الثّامن في طبّه صلّى الله عليه وسلّم وسنّه، ووفاته، ورؤيته في المنام وفيه ثلاثة فصول
(الباب الثّامن) من الكتاب وهو آخر الأبواب- (في) بيان الأحاديث الواردة في (طبّه) ؛
بكسر الطّاء: اسم مصدر، من طبّه طبا- بالفتح-: إذا داواه.
والمراد: بيان ما يتداوى به (صلى الله عليه وسلم) من الأمراض البدنية.
(و) في بيان الأحاديث الواردة في (سنّه) ؛ أي: مقدار عمره الشّريف، (ووفاته) ؛ أي: تمام أجله، (ورؤيته) . الرّؤية التي بالتّاء تشمل: رؤية البصر في اليقظة، ورؤية القلب، ولهذا احتاج المصنّف إلى تقييدها بقوله: (في المنام) أمّا الّتي بالألف! فهي خاصّة برؤية القلب في المنام. وقد تستعمل في رؤية البصر أيضا.
ومذهب أهل السّنّة أنّ حقيقة الرّؤيا اعتقادات يخلقها الله في قلب النّائم، كما يخلقها في قلب اليقظان يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة.
(وفيه) - أي: هذا الباب- (ثلاثة فصول) ، سيأتي بيانها.(4/117)
[الفصل الأوّل في طبّه صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الأوّل في طبّه صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. نفث على نفسه بالمعوّذات، ومسح عنه بيده.
(الفصل الأوّل) من الباب الثّامن (في) ذكر شيء من الأحاديث الواردة في (طبّه صلى الله عليه وسلم) ، الّذي تطبّب به، والّذي وصفه لغيره.
قال ابن القيّم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه. انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم تارة يرقي بالطّبّ الرّوحانيّ، وتارة بالجسمانيّ؛ كالأجزاء، وتارة بهما. انتهى «حفني» .
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) ، أي: مرض (نفث) - بالمثلّثة-، أي:
أخرج الرّيح من فمه مع شيء من ريقه (على نفسه بالمعوّذات) - بالواو المشدّدة- أي: المعوّذتين وسورة الإخلاص، ففيه تغليب.
أو المراد: الكلمات المعوّذات بالله من الشّيطان والأمراض؛ أي: قرأها ونفث الرّيح على نفسه.
(ومسح عنه بيده) ؛ أي: المحلّ الّذي تصل إليه يده؛ وإن زاد على محلّ الوجع.
قال الطّيبيّ: الضّمير في عنه راجع إلى ذلك النّفث، والجارّ والمجرور حال، أي: نفث على بعض جسده، ثمّ مسح بيده متجاوزا عن ذلك النّفث إلى جميع أعضائه.(4/118)
قوله: (المعوّذات) يعني: المعوّذتين، والإخلاص.
وفائدة النّفث: التّبرّك بتلك الرّطوبة؛ أو الهواء الّذي ماسّه الذّكر، كما يتبرّك بغسالة ما يكتب من الذّكر، وفيه تفاؤل بزوال الألم وانفصاله؛ كانفصال ذلك الرّيق.
وخصّ المعوّذات! لما فيها من الاستعاذة من كلّ مكروه؛ جملة وتفصيلا، ففي الإخلاص كمال التّوحيد الاعتقاديّ، وفي الاستعاذة من شرّ ما خلق ما يعمّ الأشباح والأرواح. انتهى «مناوي» .
وبقيّة الحديث- كما في «البخاريّ» ؛ في آخر المغازي-: فلمّا اشتكى وجعه الّذي توفّي فيه؛ طفقت أنفث على نفسه بالمعوّذات الّتي كان ينفث، وأمسح بيد النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه» .
وفي رواية في «الصّحيحين» : وأمسح بيده رجاء بركتها.
والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز متّفق عليه- يعني رواه البخاريّ ومسلم- وبرمز أبي داود، وابن ماجه، زاد المناوي: والنّسائي؛ كلّهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
فائدة: قال القاضي: شهدت المباحث الطّبيّة على أنّ الرّيق له دخل في النّفع وتبديل المزاج، ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصليّ؛ ودفع نكاية المغيّرات، ولهذا ذكروا في تدبير المسافر أنّه يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد غير الماء الّذي تعوّد شربه ووافق مزاجه؛ جعل شيئا منه في سقايته، ويشرب الماء من رأسه ليحفظ عن مضرّة الماء الغريب، ويأمن تغيّر مزاجه بسبب استنشاق الهواء المغاير للهواء المعتاد.
ثمّ إن الرّقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.
انتهى «مناوي» .
و (قوله: المعوّذات) - بالواو المشدّدة المكسورة- (يعني: المعوّذتين) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) [الفلق] ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [الناس] ، (والإخلاص)(4/119)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. رقاه جبريل؛ قال:
باسم الله يبريك، من كلّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، وشرّ كلّ ذي عين.
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص] ، فهو من باب التغليب. والله أعلم.
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنّها قالت: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) - أي: مرض- (رقاه جبريل، قال:
باسم الله) - أي: ببركة اسمه- (يبريك) ، أو أنّ لفظ «باسم» مقحم. أي: الله يبريك. من قبيل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) [الأعلى] ، ولفظ «اسم» : عبارة عن الكلمة الدّالّة على المسمّى، والمسمّى هو مدلولها، لكنّه قد يتوسّع فيوضع الاسم موضع المسمّى مسامحة. ذكره القرطبي. انتهى «مناوي» وغيره.
(من كلّ داء) جارّ ومجرور متعلّق بقوله (يشفيك.
ومن شرّ حاسد) أي: متمنّ زوال النّعمة، (إذا حسد) .
وخصّه بعد التّعميم! لخفاء شرّه.
(وشرّ كلّ ذي عين) ؛ من عطف الخاصّ على العامّ، لأن كلّ عائن حاسد، ولا عكس. فلمّا كان الحاسد أعمّ؛ كان تقديم الاستعاذة منه أهمّ. وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعيون؛ تصيبه تارة وتخطئه أخرى، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثّرت فيه ولا بدّ، وإن صادفته حذرا شاكي السّلاح؛ لا منفذ فيه للسّهام خابت، فهي بمنزلة الرّمي الحسّيّ، لكن هذا من النّفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح.
ولهذا قال ابن القيّم: استعاذ من الحاسد! لأنّ روحه مؤذية للمحسود؛ مؤثّرة فيه أثرا بيّنا لا ينكره إلّا من هو خارج عن حقيقة الإنسانيّة. وهو أصل الإصابة بالعين؛ فإنّ النّفس الخبيثة الحاسدة تتكيّف بكيفيّة خبيثة، تقابل المحسود؛ فتؤثّر فيه بتلك الخاصّيّة.
والتّأثير كما يكون بالاتّصال قد يكون بالمقابلة؛ وبالرّؤية، وبتوجّه الرّوح؛(4/120)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. اقتمح كفّا من شونيز، وشرب عليه ماء وعسلا.
وبالأدعية؛ والرّقى؛ والتعوّذات، وبالوهم؛ والتّخييل؛ وغير ذلك.
وفيه ندب الرّقية بأسماء الله، وبالعوذ الصّحيحة من كلّ مرض وقع أو يتوقّع، وأنّه لا ينافي التّوكّل ولا ينقصه. وإلّا! لكان المصطفى صلى الله عليه وسلم أحقّ النّاس بتحاشيه، فإنّ الله لم يزل يرقّي نبيّه في المقامات الشّريفة والدّرجات الرّفيعة إلى أن قبضه، وقد رقي في أمراضه حتّى مرض موته!! فقد رقته عائشة في مرض موته، ومسحته بيدها ويده وأقرّ ذلك. انتهى «مناوي» .
والحديث أخرجه أيضا مسلم والتّرمذيّ وابن ماجه؛ عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد أشتكيت؟ قال:
«نعم» . قال: «باسم الله أرقيك من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ نفس وعين حاسد، باسم الله أرقيك والله يشفيك» .
(و) في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الخطيب؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه- قال المناوي: ورواه عنه أيضا باللّفظ المزبور الطّبرانيّ في «الأوسط» ، وفي العزيزي أنّه حديث حسن لغيره-:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى اقتمح) أي: استفّ. وفي رواية:
«تقمّح» - بتقديم الميم فيها على الحاء المهملة- وأمّا ما في بعض النّسخ من أنه اقتحم أو تقحّم! فتحريف.
(كفّا) - أي: ملء كفّ- (من شونيز) بضمّ الشّين المعجمة: هو الحبّة السّوداء. (وشرب عليه) - أي: على أثر استفافه- (ماء وعسلا) : أي: ممزوجا بعسل، لأنّ لذلك سرّا بديعا في حفظ الصّحة لا يهتدي إليه إلّا خاصّة الأطباء.
ومنافع العسل لا تحصى، حتى قال «ابن القيّم» : ما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريبا منه، ولم يكن معوّل الأطبّاء إلّا عليه. وأكثر كتبهم(4/121)
ومعنى (اقتمح) أي: استفّ. و (الشّونيز) : الحبّة السّوداء.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب العسل بالماء على الرّيق.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابه رمد، أو أحدا من أصحابه.. دعا بهؤلاء الكلمات: ...
لا يذكرون فيها السّكّر البتّة. انتهى «مناوي» .
(ومعنى اقتمح) - بالقاف فالمثنّاة الفوقيّة، فميم بعدها حاء مهملة- (أي:
استفّ) أي: أخذ الدواء غير ملتوت. وكلّ دواء يؤخذ غير معجون؛ فهو سفوف، - بفتح السّين-.
(و) معنى (الشّونيز) - بالشّين المعجمة المضمومة- هو (الحبّة السّوداء) المعروفة. وبعض النّاس يسمّيها قحطة.
(و) في «زاد المعاد» : (كان) النّبيّ (صلى الله عليه وسلم يشرب العسل) ؛ أي: عسل النّحل، إذ هو المراد لغة وطبّا (بالماء) أي: الممزوج بالماء البارد (على الرّيق) .
قال ابن القيّم: وفي هذا من حفظ الصّحّة ما لا يهتدي إلى معرفته إلّا أفاضل الأطبّاء، فإنّ شربه ولعقه على الرّيق يذيب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها «1» .
والماء البارد رطب يقمع الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباته الأصليّة، ويردّ عليه بدل ما تحلّل منها، ويرقّق الغذاء، وينفذه في العروق. أي: فجمعه مع العسل غاية في التّعديل، وإنّما يضرّ بالعرض لصاحب الصّفراء!! لحدّته وحدّة الصّفراء.
فربّما هيّجها فدفع ضرره لصاحبها بالخلّ. انتهى. مع زيادة من الزّرقاني.
(و) أخرج ابن السّنيّ في «الطّبّ النّبويّ» ، والحاكم في «الطّبّ» بسند فيه ضعفاء- كما قال الذّهبيّ-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم إذا أصابه رمد) - بفتح الرّاء والميم: وجع عين- (أو) أصاب (أحدا من أصحابه؛ دعا بهؤلاء الكلمات) ؛ أي: لنفسه؛ أو لغيره. لكن يأتي
__________
(1) بضمّ السين المهملة- جمع سدّة، كغرفة وغرف؛ وهي الحاجز بين الشيئين. (هامش الأصل) .(4/122)
«اللهمّ؛ متّعني ببصري، واجعله الوارث منّي، وأرني في العدوّ ثأري، وانصرني على من ظلمني» . قال في «لسان العرب» :
(وفي الحديث في دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
«اللهمّ؛ أمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي» .
قال ابن شميل: ...
بعبارة غير هذا تناسب بأن يقول: «اللهمّ متّعه.. الخ» . ويحتمل أنّ المراد:
وأمر من أصابه الرّمد أن يدعو بها؛ وهي:
( «اللهمّ؛ متّعني ببصري، واجعله الوارث منّي) كناية عن بقائه إلى الموت.
وإلّا! فالوارث يبقى بعد الموت، والبصر لا يبقى بعد الموت.
(وأرني في العدوّ ثأري) ؛ أي: مثل ما فعل بي وأعظم منه؛ لينقمع عنّي.
(وانصرني على من ظلمني» ) أي: مع بقاء بصري.
وهذا من طبّه الرّوحانيّ، فإنّ علاجه صلى الله عليه وسلم للأمراض كان ثلاثة أنواع: بالأدوية الطّبّيّة، وبالأدوية الإلهيّة، وبالمركّب منهما، فكان يأمر بما يليق به ويناسبه.
انتهى شروح «الجامع الصغير» .
(قال) - أي: ابن منظور- (في) كتابه: ( «لسان العرب» ) في مادة «ورث» :
(وفي الحديث) الّذي في «جامع التّرمذيّ» وغيره؛ (في دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «اللهمّ؛ متّعني) - هكذا هو في رواية، وفي سائر الرّوايات: أمتعني- (بسمعي وبصري، واجعلهما) - بالتّثنية- (الوارث منّي» .
قال) الإمام أبو الحسن النّضر (ابن شميل) - بضمّ الشّين المعجمة مصغّرا- ابن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عميرة بن عروة المازنيّ البصريّ، الإمام في العربيّة واللّغة، وهو من تابعي التّابعين.
سكن «مرو» ، اتّفقوا على توثيقه؛ وفضيلته.(4/123)
أي أبقهما معي صحيحين سليمين حتّى أموت. وقيل: أراد بقاءهما وقوّتهما عند الكبر وانحلال القوى النّفسانيّة، فيكون السّمع والبصر وارثي سائر القوى، والباقيين بعدها. ثمّ قال: وفي رواية:
«واجعله الوارث منّي» ، فردّ الهاء إلى الإمتاع، فلذلك وحّده) اهـ
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حمّ.. دعا بقربة من ماء، فأفرغها على قرنه، ...
روى له البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، وهو أوّل من أظهر السّنّة بمرو وخراسان، وهو من فصحاء النّاس؛ وعلمائهم بالأدب؛ وأيّام النّاس.
ولد سنة ثلاث وعشرين ومائة، وتوفي سنة أربع ومائتين. وقيل: ثلاث ومائتين- رحمه الله تعالى-.
(أي: أبقهما معي صحيحين سليمين حتّى أموت) ؛ أي: فالمراد دوامهما مدّة الحياة. (وقيل: أراد بقاءهما وقوّتهما عند الكبر) - التّقدم في السنّ- (وانحلال القوى النّفسانيّة) - أي: ضعفها- (فيكون السّمع والبصر وارثي سائر القوى، والباقيين بعدها) . وقال غيره: أراد بالسّمع وعي ما يسمع والعمل به، وبالبصر الاعتبار بما يرى؛ ونور القلب الّذي يخرج به من الحيرة والظّلمة إلى الهدى.
(ثمّ قال) في «اللّسان» : (وفي رواية: «واجعله) - بإفراد الضّمير- (الوارث منّي» فردّ الهاء) في «اجعله» (إلى الإمتاع) ، المفهوم من أمتع (فلذلك وحّده) - بتشديد الحاء المهملة- فعلى رواية الإفراد معناه: أبقه معي حتى أموت. والله أعلم (انتهى) أي: كلام «لسان العرب» .
(و) أخرج الطّبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم في «الطّبّ» ، والبزّار- بسند فيه راو ضعيف- كلّهم؛ عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان رسول الله) صلى الله عليه وسلم (إذا حمّ) - أي أخذته الحمّى: التي هي حرارة بين الجلد واللّحم- (دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه) - بفتح القاف، أي: رأسه-(4/124)
فاغتسل. و (القرن) : الرّأس. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يصيبه قرحة ولا شوكة.. إلّا وضع عليها الحنّاء.
وفي «الصّحيحين» : عن أبي حازم: ...
(فاغتسل) بها (والقرن) المذكور في الحديث؛ المراد به: (الرّأس) .
قال الحفني- تبعا للمناوي-: ومحلّ طلب ذلك إذا كان بقطر حارّ وفي زمن حارّ، ولم تحدث فيه الحمّى ورما، وإلّا! ضرّه الماء. انتهى.
(و) أخرج التّرمذيّ وابن ماجه في «سننه» - وهذا لفظه-: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة؛ قال: حدّثنا زيد بن الحباب؛ قال: حدّثنا فايد- مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع-؛ قال: حدّثني مولاي عبيد الله؛ قال: حدّثتني جدّتي سلمى أمّ رافع؛ مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» قالت:
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم لا يصيبه قرحة) - بفتح القاف، أو ضمّها-: خراج في البدن، (ولا شوكة) : هي حمرة تعلو الوجه، بلفظ واحدة الشّوك (إلّا وضع عليها الحنّاء) ، لأنّها قابضة يابسة تبرد، فهي في غاية المناسبة للقروح والجروح، وهذا من الطّبّ النّبويّ.
(وفي «الصّحيحين» ) : البخاريّ في: «الطّهارة والجهاد والمغازي والطّبّ» ، ومسلم في «المغازي» ، والتّرمذيّ في «الطّبّ» ، وابن ماجه في «الطّبّ» كلّهم؛
(عن أبي حازم) سلمة بن دينار المدنيّ الأعرج، التّابعيّ الزّاهد الفقيه، المشهور بالمحاسن، مخزوميّ «مولى الأسود بن سفيان المخزوميّ» ، وقيل: مولى لبني ليث. سمع سهل بن سعد الساعدي، وأكثر الرّواية عنه في «الصّحيحين» وغيرهما، وسمع خلقا من التّابعين؛ منهم سعيد بن المسيّب؛ وعطاء بن أبي رباح؛ وعطاء بن يسار؛ وأبو سلمة بن عبد الرّحمن؛ وأمّ الدّرداء الصّغرى.
__________
(1) هي زوج أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم.(4/125)
أنّه سمع سهل بن سعد يسأل عمّا دووي به جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد؟ ...
وروى عنه خلائق لا يحصون؛ منهم ابناه: عبد العزيز؛ وعبد الجبار.
والزّهريّ- وهو أكبر من أبي حازم-، ومنهم مالك بن أنس، وابن إسحاق، وسفيان الثّوري؛ وابنا عيينة: سفيان ومحمّد.
وأجمعوا على توثيقه وجلالته، وروى له البخاريّ ومسلم.
قيل لابن أبي حازم: سمع أبوك أبا هريرة؟! قال: من حدّثك أن أبي سمع أحدا من الصّحابة غير سهل بن سعد؛ فقد كذب.
وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة رحمه الله تعالى.
واعلم أنّ في هذه المرتبة اثنين يكنّيان أبا حازم؛ أحدهما هذا المشهور بالرّواية عن سهل، والثاني: أبو حازم سلمان- مولى عزّة الأشجعيّة- المشهور بالرّواية عن أبي هريرة رضي الله عنه. قاله النّوويّ في «التّهذيب» . (إنّه) - أي: أبا حازم- (سمع) أبا العبّاس- أو أبا يحيى- (سهل بن سعد) بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ السّاعديّ المدنيّ.
كان اسمه حزنا فسمّاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سهلا.
شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين.
قال الزّهري: سمع من النّبي صلى الله عليه وسلم، وكان له يوم وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، وتوفّي بالمدينة المنوّرة سنة: ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثمانية وثمانون حديثا؛ اتّفقا منها على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاريّ بأحد عشر.
روى عنه الزّهريّ وأبو حازم وغيرهما رضي الله تعالى عنه.
(يسأل) - بضمّ أوّله مبنيّا للمفعول- (عمّا دووي) بضمّ الدّال المهملة وسكون الواو الأولى، وكسر الثّانية، بعدها تحتيّة، مبنيا للمفعول؛ قاله القسطلّاني.
(به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم) الّذي جرحه (يوم أحد؟(4/126)
فقال: جرح وجهه، وكسرت رباعيته، وهشّمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة بنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تغسل الدّم، وكان عليّ ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يسكب عليها بالمجنّ، فلّما رأت فاطمة الدّم لا يزيد إلّا كثرة.. أخذت قطعة [من] حصير فأحرقتها، حتّى إذا صارت رمادا ألصقتها بالجرح، فاستمسك الدّم.
فقال) - أي سهل- (: جرح وجهه) الشّريف، جرحه عبد الله بن قمئة- أقمأه الله- وقد سلّط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطّعه قطعه قطعة؛ استجابة لدعوة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه الطّبرانيّ.
ولمّا جرح النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخذ شيئا فجعل ينشّف به الدّم؛ وقال: «لو وقع منه شيء على الأرض؛ لنزل عليهم العذاب من السّماء» (وكسرت رباعيته) - بفتح الراء وتخفيف الموحّدة-: السّنّ الّذي بين الثّنيّتين والنّاب. والمكسورة هي اليمنى السّفلى، كسرها عتبة بن أبي وقّاص أخو سعد. ومن ثمّ لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم!! أي: مكسور الثّنايا، يعرف ذلك في عقبه، وهذا من شؤم الآباء على الأبناء، ولكنّ حاطب بن أبي بلتعة ضرب عتبة بالسّيف؛ فطرح رأسه- كما في «مستدرك الحاكم» -.
(وهشّمت) - أي كسرت- (البيضة) - بفتح الموحدة؛ والضّاد المعجمة؛ بينهما تحتيّة ساكنة: الخوذة، وهي: قلنسوة من حديد- (على رأسه) يوم أحد (وكانت فاطمة) الزّهراء (بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تغسل الدّم) عن وجهه الشّريف؛ ليجمد ببرد الماء. (وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يسكب عليها) الماء (بالمجنّ) - بكسر الميم؛ وفتح الجيم؛ وتشديد النون: بالتّرس- على الجرح (فلمّا رأت فاطمة) رضي الله عنها (الدّم لا يزيد إلّا كثرة؛ أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، حتّى إذا صارت رمادا؛ ألصقتها بالجرح؛ فاستمسك الدّم) - أي:(4/127)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتجم على هامته، وبين كتفيه، ويقول: «من أهراق من هذه الدّماء.. فلا يضرّه أن لا يتداوى بشيء لشيء» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم في رأسه، ويسمّيها: أمّ مغيث.
انقطع- لأن الرّماد من شأنه القبض؛ لما فيه من التّجفيف.
وفيه امتحان الأنبياء لتعظيم أجرهم ويتأسّى بهم من نالته شدّة فلا يجد في نفسه غضاضة. انتهى «قسطلّاني» .
(و) أخرج أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن؛ عن أبي كبشة الأنماريّ عمر بن سعد- أو سعد بن عمر- رضي الله تعالى عنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم على هامته) - أي: رأسه- (وبين كتفيه، ويقول: «من أهراق) - بالتّحريك؛ أي: أراق- (من هذه الدّماء) - أي: بإخبار من يعرف بأنّ إراقة الدّم نافعة لذلك الشّخص- (فلا يضرّه ألايتداوى بشيء) من الأدوية (لشيء» ) من الأمراض، يعني أنّ الحجامة تغني عن كثير من الأدوية.
(و) أخرج الخطيب؛ في ترجمة محمود الواسطي- بسند فيه راو مضعّف- عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) النّبيّ (صلى الله عليه وسلم يحتجم في رأسه) - وفي رواية عند الطبراني: في مقدّم رأسه- (ويسمّيها) - أي: الحجامة- (أمّ مغيث) بصيغة اسم الفاعل، وفي رواية: ويسمّيها المغيثة، وفي أخرى: المنقذة، وفي أخرى: النّافعة.
قال ابن جرير: وكان يأمر من شكا إليه وجعا في رأسه بالحجامة وسط رأسه، ثمّ أخرج بسنده؛ عن ابن أبي رافع؛ عن جدّته سلمى قالت: ما سمعت أحدا قطّ يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع رأسه إلا قال: «احتجم» . انتهى مناوي على «الجامع» .(4/128)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين.
(و) أخرج التّرمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، والطّبرانيّ في «الكبير» ، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال التّرمذيّ:
حسن غريب. وقال الحاكم: على شرطهما، وأقرّه الذّهبي في موضع، لكنّه قال في آخر: لا صحّة له. وفي العزيزي أنّه حديث حسن.
(كان) رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين) ؛ عرقين في محل الحجامة من العنق، (والكاهل) - بكسر الهاء-؛ وهو مقدّم أعلى الظّهر مما يلي العنق، وهو الثّلث الأعلى، وفيه ستّ فقرات، وقيل: ما بين الكتفين.
(وكان يحتجم لسبع عشرة) تمضي من الشّهر، لأنّ القمر حينئذ في النّقصان، بخلاف الحجامة لثلاث عشرة مثلا، فإنّ الحجامة والقمر في الزّيادة مذمومة؛ قاله الحفني.
(و) يحتجم ل (تسع عشرة) من الشّهر، (وإحدى وعشرين) منه، وعلى ذلك درج أصحابه، فكانوا يستحبّون الحجامة لوتر من الشهر، لأفضليّة الوتر عندهم، ومحبّتهم له لحبّ الله له.
ثم إنّ ما ذكر من احتجامه في الأخدعين والكاهل لا ينافيه ما قبله من احتجامه في رأسه وهامته، لأنّ القصد بالاحتجام طلب النّفع، ودفع الضّر. وأماكن الحاجة من البدن مختلفة باختلاف العلل؛ كما بيّنه ابن جرير. انتهى «مناوي» وغيره.
وأفضل أوقات الحجامة: يوم الاثنين إذا وافق سبع عشرة؛ أو تسع عشرة؛ أو إحدى وعشرين، كما دلّت عليه الأحاديث، ومنها ما رواه أبو داود؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «من احتجم لسبع عشرة؛ أو تسع عشرة؛ وإحدى وعشرين، كان شفاء من كلّ داء» . انتهى.(4/129)
و (الأخدعان) : عرقان في جانبي العنق.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكتحل كلّ ليلة، ويحتجم كلّ شهر، ويشرب الدّواء كلّ سنة.
وفي «الصّحيحين» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم احتجم وأعطى الحجّام أجره.
(والأخدعان) بخاء معجمة؛ ودال وعين مهملتين. قال في «النّهاية» : هما (عرقان في جانبي العنق) . وفي «القاموس» : الأخدع: عرق في المحجمتين، وهو شعبة من الوريد، وهما أخدعان؛ كما في «الصّحاح» . وهما عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق. قال الجوهري وربّما وقعت الشّرطة على أحدهما، فينزف صاحبه. أي: لأنّه شعبة من الوريد. انتهى بزيادة من الشرح.
(و) أخرج ابن عدي- بسند قال فيه: إنّه منكر، وقال الحافظ العراقي: فيه سيف بن محمّد! كذّبه أحمد وابن معين-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
(كان صلى الله عليه وسلم يكتحل كلّ ليلة) بالإثمد، ويقول: «إنّه يجلو البصر، وينبت الشّعر» . وخصّ اللّيل! لأنّ الكحل عند النّوم يلتقي عليه الجفنان، ويسكّن حرارة العين، وليتمكّن الكحل من السّراية في تجاويف العين وطبقاتها، ويظهر تأثيره المقصود من الانتفاع.
(ويحتجم كلّ شهر) مرّة (ويشرب الدّواء كلّ سنة) مرّة، فإن عرض له ما يوجب شربه أثناء السّنة شربه أيضا، فشربه كلّ سنة مرّة كان لغير علّة، بخلاف ما يعرض في أثنائها، ولم أقف على تعيين الشّهر الّذي كان يشربه فيه في حديث ولا أثر؛ قاله المناوي.
(وفي «الصّحيحين» : البخاريّ في «البيوع والإجارة والطّب» ومسلم في «البيوع» . وكذا رواه أبو داود في «البيوع» ، والتّرمذيّ في «الشّمائل» كلّهم؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجّام أجره) ولو كان حراما لم يعطه.(4/130)
وفي «الصّحيحين» أيضا: عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجمه أبو طيبة؛ فأمر له بصاعين من طعام، وكلّم مواليه، ...
قال النّوويّ في «شرح مسلم» : اختلف العلماء في كسب الحجّام؟.
فقال الأكثرون من السّلف والخلف: لا يحرم كسب الحجّام، ولا يحرم أكله؛ لا على الحرّ ولا على العبد. وهو المشهور من مذهب أحمد. وقال في رواية عنه قال بها فقهاء المحدّثين-: يحرم على الحرّ دون العبد! وحجّتهم أحاديث النّهي عن كسب الحجّام، وكونه خبيثا، ومن شرّ الكسب- كما جاء ذلك في «صحيح مسلم» وغيره-.
واحتجّ الجمهور بحديث ابن عبّاس المذكور، وحملوا أحاديث النّهي على التنزيه، والارتفاع عن دنيء الكسب؛ والحثّ على مكارم الأخلاق؛ ومعالي الأمور. ولو كان حراما لم يفرّق بين الحرّ والعبد. فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبده ما لا يحلّ. انتهى بتصرف قليل.
(وفي «الصّحيحين» أيضا) : البخاري في «البيوع والإجارة والطّبّ» ومسلم في «البيوع» ، وكذا رواه أبو داود والتّرمذيّ في «الشّمائل» و «الجامع» في «البيوع» كلّهم؛ (عن أنس) - أي: ابن مالك- (رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة) - بفتح الطّاء المهملة، وسكون التحتية، وبعد الموحّدة تاء- اسمه: نافع على الصّحيح، وحكاية ابن عبد البرّ أنّه دينار!! وهّموه فيها، بأنّ دينارا الحجّام تابعيّ، روى عن أبي طيبة، وحديثه عند ابن منده، لا أنّه أبو طيبة نفسه. وعند البغويّ بإسناد ضعيف. أنّ اسمه ميسرة. وقال العسكريّ:
الصّحيح أنّه لا يعرف اسمه. انتهى «قسطلّاني» .
(فأمر له بصاعين من طعام) - أي: تمر، وفي رواية: بصاع؛ أو مدّ؛ أو مدّين-.
(وكلّم) صلى الله عليه وسلم (مواليه) - هم بنو حارثة على الصّحيح، ومولاه منهم:
محيّصة بن مسعود. وإنّما جمع الموالي مجازا، كما يقال: بنو فلان قتلوا رجلا،(4/131)
فخفّفوا عنه من ضريبته، وقال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة» .
وروى ابن ماجه في «سننه» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صدّع ...
ويكون الفاعل منهم واحدا. وحديث جابر أنّه مولى بني بياضة وهم! فإنّ مولى بني بياضة آخر؛ يقال له: أبو هند- أن يخفّفوا عنه من خراجه.
(فخفّفوا عنه من ضريبته) التي كانت عليه لمواليه، وهي الخراج المضروب عليه. وكان خراجه ثلاثة آصع من تمر، فوضعوا عنه صاعا، بشفاعته صلى الله عليه وسلم؛ كما في «الشّمائل» .
قال النّوويّ في «شرح مسلم» وحقيقة المخارجة: أن يقول السّيد لعبده:
تكتسب وتعطيني من الكسب كلّ يوم درهما مثلا، والباقي لك، أو في كلّ أسبوع كذا وكذا. ويشترط رضاهما.
(وقال) صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل الحجاز، ومن بلادهم حارّة، أو عامّا: ( «خير ما تداويتم به) من هيجان الدّم (الحجامة» ) لأنّ دماء أهل الحجاز؛ ومن في معناهم رقيقة تميل إلى ظاهر أجسادهم، لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح البدن، فالحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، وقد تغني عن كثير من الأدوية.
قال في «زاد المعاد» : الحجامة في الأزمان الحارّة؛ والأمكنة الحارّة؛ والأبدان الحارّة التي دم أصحابها في غاية النّضج أنفع، والفصد بالعكس. ولذا كانت الحجامة أنفع للصّبيان؛ ولمن لا يقوى على الفصد. انتهى «قسطلّاني» .
(وروى ابن ماجه في «سننه» ؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صدّع) - بتشديد الدّال- مبنيّ للمفعول. قال المجد: صدّع بالضمّ تصديعا، ويجوز في الشّعر صدع ك:
عني، فهو مصدوع، فقصر التخفيف على الشّعر. انتهى «زرقاني» .(4/132)
غلّف رأسه بالحنّاء، ويقول: «إنّه نافع بإذن الله تعالى من الصّداع» .
وذكر أبو داود في «سننه» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم استعط.
(غلّف) - بفتح الغين المعجمة، واللّام مخفّفة ومثقّلة؛ أي: ضمّخ- (رأسه بالحنّاء) - بالكسر والمد- (ويقول: «إنّه نافع بإذن الله تعالى من الصّداع» )
قال في «المواهب» : وفي صحّته نظر، وهو علاج خاصّ بما إذا كان الصّداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن عن مادّة يجب استفراغها!! وإذا كان كذلك- أي:
حارا- لم ينشأ عن مادّة نفع فيه الحنّاء نفعا ظاهرا. قالوا: وإذا دقّ وضمّدت به الجبهة مع الخل سكّن الصّداع!. وهذا لا يختصّ بوجع الرّأس، بل يعمّ جميع الأعضاء. أي: وجعها كلها. أمّا إذا كان ناشئا عن مادّة؟ فلا ينجع فيه إلّا استفراغ هذه المادّة، وإذا كان من برد، لم ينفع فيه الحنّاء، بل يزيده لبردها. انتهى مع زيادة من الزرقاني.
(وذكر أبو داود في «سننه» ) في «كتاب الطّبّ» ، وكذا في «الصحيحين» في «الطّبّ» كلّهم؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.
(أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعط) ، أي: استعمل السّعوط- بفتح السّين المهملة- بأن استلقى على ظهره، وجعل بين كتفيه ما يرفعهما؛ لينحدر رأسه الشّريف، وقطّر في أنفه ما تداوى به ليصل إلى دماغه؛ ليخرج ما فيه من الدّاء بالعطاس. قاله القسطلّاني.
ولفظ «الصحيحين» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه احتجم وأعطى الحجّام أجره، واستعط. انتهى.(4/133)
[استطراد:]
استطراد: قد خطر لي أن أذكر هنا جملة أحاديث من طبّه صلّى الله عليه وسلّم الّذي وصفه لغيره؛ لتتمّ بذلك الفائدة. وجلّها من «الهدي النّبويّ» للعلّامة ابن القيّم:
روى مسلم في «صحيحه» : ...
(استطراد) هو- لغة-: مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب؛ بأن يفرّ من بين يديه يوهمه الانهزام، ثمّ يعطف عليه على غرّة منه؛ مكيدة له.
واصطلاحا: الانتقال من معنى إلى معنى آخر متّصل به، ولم يقصد بذكر الأوّل التّوصّل إلى الثاني. قاله الشّهاب الخفاجي رحمه الله تعالى.
وقال الباجوري: الاستطراد: ذكر الشّيء في غير محلّه لمناسبة، أي كما هنا، فإنّ المقام لذكر طبّ النّبي صلى الله عليه وسلم الّذي استعمله بنفسه، لكن المصنّف ذكر طبّ غيره، وذكر ما جاء في مطلق التّداوي لمناسبة ذكر الطّبّ، ولكون ذلك من طبّه صلى الله عليه وسلم أيضا.
(قد خطر لي) قال في «المصباح» : الخاطر ما يخطر في القلب من تدبير أمر، يقال: خطر ببالي، وعلى بالي؛ خطرا وخطورا. انتهى.
وفي «شرح القاموس» : ومن المجاز: خطر فلان بباله وعليه يخطر بالكسر- ويخطر- بالضّمّ- خطورا؛ إذا ذكره بعد نسيان. انتهى.
(أن أذكر هنا) - في هذا الفصل- (جملة أحاديث من طبّه صلى الله عليه وسلم الّذي وصفه لغيره) من أصحابه (لتتمّ بذلك الفائدة) للمطالع.
(وجلّها) ؛ أي: معظم هذه الأحاديث مأخوذ (من الهدي النّبويّ) المسمّى «زاد المعاد في هدي خير العباد» (للعلّامة) الحافظ محمد بن أبي بكر (ابن القيّم) الحنبلّي رحمه الله تعالى. آمين. وتقدمت ترجمته في أوّل الكتاب.
(روى مسلم في «صحيحه» ) ؛ في «كتاب الطّبّ» ، وكذا الإمام أحمد ابن حنبل(4/134)
عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لكلّ داء.. دواء، فإذا أصيب دواء الدّاء.. برأ بإذن الله عزّ وجلّ» . وفي «الصّحيحين» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنزل الله من داء.. إلّا أنزل له شفاء» .
كلاهما؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري، الصّحابي ابن الصّحابيّ (رضي الله تعالى عنهما؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لكلّ داء) - بفتح الدّال ممدود، وقد يقصر- (دواء) - بفتح الدّال أي: شيء مخلوق مقدّر له- (فإذا أصيب دواء الدّاء) - بالبناء للمفعول-. والأصل: فإذا أصاب المريض دواء الدّاء المناسب له؛ سواء أصابه بتجربة، أو إخبار عارف، واستعمله على القدر الّذي ينبغي؛ في الوقت الّذي ينبغي- (برأ بإذن الله عزّ وجلّ» ) لأنّ الشّيء يداوى بضدّه غالبا، لكن قد يدقّ حقيقة المرض، وحقيقة طبع الدّواء، فيقلّ الفقه بالمتضادّين، ومن ثمّ أخطأ الأطبّاء، فمن كان مانعا- بخطأ أو غيره- تخلّف البرء، فإن تمت المضادّة حصل البرء لا محالة، فصحّت الكلية واندفع التّدافع. انتهى «زرقاني» .
وقال القسطلّاني في «المواهب» معلّقا على هذا الحديث؛ ما نصّه: فالشّفاء متوقّف على إصابة الدّاء الدواء بإذن الله تعالى، وكذلك أنّ الدّواء قد يحصل معه مجاوزة الحدّ في الكيفيّة، أو الكمّيّة، فلا ينجع، بل ربّما أحدث داء آخر. وفي رواية عليّ- عند الحميدي في كتابه المسمّى ب «طبّ أهل البيت» -: «ما من داء إلّا وله دواء» ، فإذا كان كذلك بعث الله عزّ وجلّ ملكا؛ ومعه ستر فيجعله بين الدّاء والدّواء، فكلّما شرب المريض من الدّواء لم يقع على الدّاء، فإذا أراد الله برأه أمر الملك فرفع السّتر، ثمّ يشرب المريض الدّواء فينفعه الله تعالى به. انتهى.
(وفي «الصّحيحين» ) من حديث عطاء بن أبي رباح؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء) - أي: مرضا- (إلّا أنزل له شفاء» ) - أي: دواء- وجمعه: أشفية، وجمع الجمع: آشاف.(4/135)
ولي «مسند الإمام أحمد» : عن أسامة بن شريك ...
وشفاه يشفيه: أبرأه وطلب له الشّفاء كأشفاه؛ قاله القسطلّاني: وهو صريح في أنّ الشّفاء اسم للدّواء.
وقال بعضهم: أي أنزل له دواء يكون سببا للشّفاء، فإذا استعمله المريض، وصادف المرض حصل له الشّفاء؛ سواء كان الدّاء قلبيّا أو بدنيّا. انتهى.
قال الكرماني: أي ما أصاب الله أحدا بداء إلّا قدّر له دواء. أو المراد بإنزالهما الملائكة الموكّلين بمباشرة مخلوقات الأرض من الدّواء والدّاء. انتهى.
قال القسطلّاني: فعلى الأوّل المراد بالإنزال التّقدير، وعلى الثّاني المراد إنزال علم ذلك على لسان الملك للنّبيّ مثلا، أو إلهام لغيره. انتهى.
وقيام عامّة الأدوية والأدواء بواسطة إنزال الغيث الّذي تتولّد به الأغذية والأدوية وغيرهما، وهذا من تمام لطف الرّبّ بخلقه، كما ابتلاهم بالأدواء أعانهم عليها بالأدوية، وكما ابتلاهم بالذّنوب أعانهم عليها بالتّوبة؛ والحسنات الماحية. انتهى «زرقاني» .
قال في «المواهب» : وهذا الحديث أخرجه- أيضا- النّسائي وصحّحه ابن حبّان والحاكم؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: «إنّ الله لم ينزل داء إلّا أنزل له شفاء!! فتداووا» . وعند أحمد من حديث أنس مرفوعا: «إنّ الله حيث خلق الدّاء خلق الدّواء، فتداووا» . انتهى.
(وفي «مسند الإمام أحمد» ) ابن حنبل، وأخرجه أصحاب «السّنن الأربعة» ، والبخاري في «الأدب المفرد» ، وصحّحه التّرمذيّ وابن خزيمة والحاكم؛
(عن أسامة بن شريك) الثّعلبي- بمثلّثة ومهملة- الذبيانيّ، صحابيّ له ثمانية أحاديث، روى عنه زياد بن علاقة؛ وعلي بن الأقمر. انتهى «خلاصة» .
وقال «الزرقاني» : تفرّد بالرّواية عنه زياد بن علاقة- على الصّحيح-.(4/136)
رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم؛ يا عباد الله، تداووا، فإنّ الله عزّ وجلّ لم يضع داء.. إلّا وضع له شفاء، غير داء واحد» ، قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» .
وفي لفظ: ...
(رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب) : سكّان البادية (فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم، يا عباد الله، تداووا) وصفهم بالعبودية إيذانا بأنّ التّداوي لا يخرجهم عن التّوكل الّذي هو من شرطها، أي: تداووا؛ ولا تعتمدوا في الشّفاء على التّداوي؛ بل كونوا عباد الله؛ متوكّلين عليه- (فإنّ الله عزّ وجلّ لم يضع داء إلّا وضع له شفاء) وهو سبحانه لو شاء لم يخلق داء، وإذ خلقه لو شاء لم يخلق له دواء، وإذ خلقه لو شاء لم يأذن في استعماله! لكنّه أذن، فمن تداوى فعليه أن يعتقد حقّا، ويوقن يقينا، بأنّ الدّواء لا يحدث شفاء، ولا يولده، كما أنّ الدّاء لا يحدث سقما ولا يولّده، لكن الباري سبحانه يخلق الموجودات واحدا عقب آخر على ترتيب هو أعلم بحكمته (غير داء واحد!!» ) قال أبو البقاء: لا يجوز في غير هنا إلا النّصب على الاستثناء من داء؛ قاله الزّرقاني على «المواهب» .
(قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» ) - بفتحتين، أي: الكبر-.
(وفي لفظ) «إلّا السّام» ، وهو- بمهملة مخفّفا- الموت. يعني: إلّا داء الموت. أي: المرض الذي قدّر على صاحبه الموت فيه.
واستثناء الهرم في الرّواية الأولى!! إمّا لأنّه جعله شبيها بداء الموت، وداء الموت لا دواء له؛ فكذا الهرم، لمشابهته له في نقص الصّحة، أو لقربه من الموت؛ وإفضائه إليه. لأن الموت يعقبه كما يعقب الدّاء.
ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا.
والمعنى: لكنّ الهرم لا دواء له؛ فلا ينجع فيه التّداوي. انتهى «زرقاني» .(4/137)
«إنّ الله تعالى لم ينزل داء.. إلّا أنزل له شفاء؛ علمه من علمه، وجهله من جهله» .
وفي «المسند» و «السّنن» : عن أبي خزامة قال: قلت:
يا رسول الله؛ أرأيت رقى نسترقيها، ودواء ...
وأخرج النّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان و «الحاكم» وصحّحاه؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رفعه:
( «إنّ الله تعالى لم ينزل داء إلّا أنزل له شفاء) - قال بعضهم: الدّاء علّة تحصل بغلبة بعض الأخلاط، والشّفاء رجوعها إلى الاعتدال. وذلك بالتّداوي، وقد يحصل بمحض لطف الله بلا سبب-
(علمه من علمه) بإلهام الله تعالى له واطّلاعه عليه
(وجهله من جهله» ) بإخفاء الله تعالى عنه إياه. فإذا شاء الله الشفاء يسّر ذلك الدّواء، ونبّه مستعمله بواسطة؛ أو دونها، فيستعمله على وجهه وفي وقته؛ فيبرأ. وإذا أراد إهلاكه أذهله عن دوائه، وحجبه بمانع فهلك، وكلّ ذلك بمشيئته وحكمه، كما سبق في علمه. ولقد أحسن القائل:
والنّاس يلحون الطّبيب وإنّما ... غلط الطّبيب إصابة المقدور
وفي الحديث إشارة إلى أنّ بعض الأدوية لا يعلمها كلّ أحد، لقوله: «جهله من جهله» . انتهى زرقاني مع «المواهب» .
(و) أخرج الإمام أحمد (في «المسند» و) التّرمذيّ وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في ( «السّنن» ) كلّهم؛ (عن أبي خزامة) عن أبيه رضي الله تعالى عنه (قال:
قلت: يا رسول الله؛ أرأيت) - أي: أخبرني عن هذه الأشياء- (رقى) بضم الرّاء، وفتح القاف: جمع رقية اسم للمرّة من التعويذ- ( [نسترقيها] ودواء(4/138)
نتداوى به، وتقاة نتّقيها.. هل تردّ من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله» .
وذكر البخاريّ في «صحيحه» : عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم.
نتداوى به، وتقاة) - وزنه فعلة، ويجمع على تقى كرطبة ورطب، وأصله وقية، لأنه من الوقاية، فأبدلت الوّاو تاء، والياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها- أي:
ما نتّقي به ما يرد علينا من الأمور الّتي لا نريد وقوعها بنا.
وفي رواية «المسند» وابن ماجه: بالجمع: تقى (نتّقيها، هل تردّ من قدر الله شيئا؟
قال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «هي من قدر الله» ) يعني: أنّ الله تعالى قدّر الأسباب والمسبّبات، وربط المسبّبات بالأسباب، فحصول المسبّبات عند حصول الأسباب من جملة القدر.
(وذكر) الإمام (البخاريّ في «صحيحه» ) تعليقا (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) وبيّن الحافظ ابن حجر أنّه جاء من طرق صحيحة إليه.
(إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم) من الأمراض القلبيّة والنفسيّة، أو الشّفاء الكامل المأمون الغائلة (فيما حرّم) - بالبناء للفاعل، ويجوز للمفعول- (عليكم) فلا يجوز التّداوي بالحرام؛ لأنّه سبحانه وتعالى لم يحرّمه إلا لخبثه عناية بعباده؛ وحمية لهم؛ وصيانة عن التّلطّخ بدنسه، وما حرم عليهم شيئا إلّا عوّضهم خيرا منه!! فعدولهم عمّا عوّضه لهم إلى ما منعهم منه يوجب حرمان نفعه.
ومن تأمّل ذلك هان عليه ترك المحرّم المردي، واعتاض عنه النّافع المجدي.
والمحرّم؛ وإن فرض أنّه أثّر في إزالة المرض لكنّه يعقبه بخبثه سقما قلبيا أعظم منه، فالمتداوي به ساع في إزالة سقم البدن بسقم القلب.(4/139)
.........
وبه علم أنّه لا تدافع بين الحديث وآية «إنّ في الخمر منافع» «1» . انتهى زرقاني على «المواهب» .
ويحرم التّداوي بالخمر- أي: شربها لأجل التّداوي بها- وكذا يحرم شربها للعطشان، وأمّا إذا غصّ بلقمة؛ ولم يجد ما يسيغها إلّا خمرا؟؟ فيلزمه الإساغة بها، لأنّ حصول الشّفاء بها حينئذ محقّق، بخلاف التّداوي.
أمّا التّداوي بالخمر على ظاهر الجسم؛ بقصد المداواة عند الحاجة!! فذلك جائز. قال «النّوويّ» في «فتاويه» : مسألة: إنسان به مرض؛ وصف له من يجوز اعتماده من الأطبّاء المسلمين أن يتضمّد بالتّرياق الفاروق، ويبقى عليه أيّاما، وقال: لا تحصل المداواة إلّا بذلك، وهذا التّرياق فيه خمر ولحم الحيّات!! هل يجوز له ذلك؟ ويصلّي على حسب حاله؟؟
الجواب: يجوز، وتلزمه إعادة الصّلاة. انتهى.
وعلم من ذلك أنّ خطر التّداوي بالمحرّمات؛ إنّما هو في الحالات العاديّة لدى وجود وتيسّر الدّواء المباح النّاجع، أمّا عند الاضطرار! فالحكم كما قال الله عزّ وجلّ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [119/ الأنعام] .
ويكون استعمال ذلك المحرّم- في حال الاضطرار- مع وجود ضرر فيه، لدفع ضرر أشدّ- عملا بقاعدة: تعارض المفسدتين فيرتكب أخفّها ضررا.
هذا؛ وفي عصرنا الحاضر يسعى الأطبّاء دوما لدى علاجهم المريض إلى اختيار العلاج الملائم للعلّة، وحالة أجهزة الجسم المعلول، ويختارون من الأدوية المفيدة- في تلك العلّة- أكثرها فائدة وأقلّها أعراضا جانبيّة وضررا، وإذا كان الدّواء مفيدا وخاليا من الأعراض الجانبيّة؛ فإنه يحوز رضى الأطبّاء أكثر، ويقع اختيارهم عليه أوّلا لدى توفّره.
__________
(1) هكذا في الأصل وهي بالمعنى؛ والتلاوة قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.(4/140)
وفي «السّنن» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدّواء الخبيث.
ولا شكّ أنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرّم شيئا على هذه الأمّة؛ إلا وفيه ضرر جسمي أو خلقيّ؛ نفسيّ أو روحيّ، فلا يليق بالمسلم طبيبا كان؛ أو مريضا أن يقرب تلك المحرّمات لفوائد صحيّة فيها؛ مع أنّ لها أضرارا جانبيّة.
فإذا ساقت الضّرورة إلى استعمال المحرّم لفقدان العلاج الحلال الملائم؛ وكان ما يتوخّى في المحرّم من فائدة علاجية يفوق ما يسبّب من أعراض جانبيّة غير مرغوب فيها؛ فعلى المريض والطّبيب أن يستشعر أنّ التّداوي بذلك المحرّم إنّما هو للضّرورة، ولارتكاب أهون الأمرين ضررا.
وعلى الطّبيب: أن يستشعر خشية الله تعالى، وأن يسعى لتعديل الآثار الجانبيّة الضّارّة بما يلائم من دواء؛ أو غذاء؛ أو إرشادات صحيّة.
وعلى المريض أن يحسّن نيّته في استعمال المحرّم عند الاضطرار؛ فلا يقصد لذّة، أو هوى؟؟. وعليه أن يأخذ بوسائل تعديل آثاره الضّارة على النّفس والقلب بما يلائم من الدّعاء؛ والالتجاء إلى الله العليّ القدير، وعدم التّجافي في استعمالها إلى إثم ولا بغي ولا عدوان على حدود الله باتّخاذ حادثة الضّرورة سلّما إلى المعصية، والله على ما نقول وكيل.
(و) أخرج الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه (في «السّنن» ) والحاكم- وقال: على شرطهما، وأقره الذّهبيّ. وفي «المهذّب» : إسناده صحيح- كلّهم؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدّواء الخبيث) - يعني: السّم أو النّجس أو الخمر ولحم غير المأكول، وروثه، وبوله، فلا تدافع بينه وبين حديث العرنيّين وقيل:
أراد الخبيث المذاق لمشقّته على الطّباع، والأدوية؛ وإن كانت كلّها كريهة لكنّ بعضها أقلّ كراهة. انتهى.(4/141)
وفي «صحيح مسلم» : عن طارق بن سويد الجعفيّ رضي الله تعالى عنه: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخمر؟
فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنّما أصنعها للدّواء، فقال:
«إنّ ذاك ليس بدواء؛ ولكنّه داء» .
قال الشّوكانيّ: ظاهره تحريم التّداوي بكلّ خبيث، والتّفسير بالسّمّ مدرج؛ لا حجّة فيه. ولا ريب أنّ الحرام والنّجس خبيثان.
قال «الماورديّ» وغيره: السّموم على أربعة أضرب:
منها: ما يقتل كثيره وقليله؛ فأكله حرام للتّداوي ولغيره، لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [195/ البقرة] .
ومنها ما يقتل كثيره؛ دون قليله، فأكل كثيره الّذي يقتل حرام للتّداوي وغيره، والقليل منه إن كان ينفع في التّداوي جاز أكله تداويا.
ومنها ما يقتل في الأغلب، وقد يجوز ألايقتل، فحكمه كما قبله.
ومنها ما لا يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن يقتل، فذكر الشّافعي في موضع إباحة أكله، وفي موضع تحريم أكله! فجعله بعض أصحابه على حالين؛ فحيث أبيح أكله فهو إذا كان للتّداوي. وحيث حرم أكله: فهو إذا كان غير منتفع به في التّداوي. انتهى. من «بلوغ الأماني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشّيباني» رحمه الله تعالى.
(وفي) «مسند الإمام أحمد» و ( «صحيح مسلم» ) في «الأشربة» ، وأبي داود، وابن ماجه كلّهم؛ (عن) وائل الحضرميّ؛ عن (طارق بن سويد الجعفيّ) ؛ أو الحضرميّ (رضي الله تعالى عنه أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن) صنع (الخمر؟ فنهاه؛ أو كره أن يصنعها.
فقال) - أي: طارق- (: إنّما أصنعها للدّواء) ؛ ظنّا منه أنّ ذلك جائز.
(فقال) - أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم له (: «إنّ ذاك ليس بدواء) - كما تظنّ- (ولكنّه داء» )(4/142)
وفي «السّنن» : أنّه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء؟ فقال: «إنّها داء، وليست بالدّواء» .
ويذكر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من تداوى بالخمر..
فلا شفاه الله تعالى» .
وذكّر الضمير! باعتبار كون الخمر شرابا.
قال الإمام النّووي في «شرح مسلم» : هذا دليل لتحريم اتّخاذ الخمر وتخليلها.
وفيه التّصريح بأنّها ليست بدواء، فيحرم التّداوي بها؛ لأنّها ليست بدواء، فكأنّه يتناولها بلا سبب، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا: أنه يحرم التّداوي بها.
وكذا يحرم شربها للعطش، وأمّا إذا غصّ بلقمة؛ ولم يجد ما يسيغها به إلّا خمرا؟
فيلزمه الإساغة بها، لأن حصول الشّفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التّداوي.
والله أعلم. انتهى.
وفي قوله (حصول الشّفاء مقطوع به) نظر.
(و) أخرج التّرمذيّ وأبو داود (في «السّنن» أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء) - أي: مع شيء آخر، ويحتمل أن يراد أنّها تستعمل دواء- (فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «إنّها داء، وليست بالدّواء» ) .
وروى الطبرانيّ في «الكبير» ؛ وأبو يعلى عن أمّ سلمة. قالت: نبذت نبذا في كوز، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: «ما هذا» ؟! قلت: اشتكت ابنة لي فنقعت لها هذه؟. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» .
(ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من تداوى بالخمر فلا شفاه الله تعالى» ) ؛ ذكره ابن القيّم. وقال عقبه: المعالجة بالمحرّمات قبيحة عقلا وشرعا؛ أمّا الشّرع؛ فما ذكرناه من هذه الأحاديث وغيرها، وأما العقل؛ فهو أنّ الله سبحانه إنّما حرّمه(4/143)
.........
لخبثه، فإنّه لم يحرّم على هذه الأمّة طيّبا؛ عقوبة لها، كما حرّمه على بني إسرائيل بقوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [160/ النساء] .
وإنّما حرّم على هذه الأمّة ما حرّم! لخبثه، وتحريمه له حمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشّفاء من الأسقام والعلل، فإنّه؛ وإن أثّر في إزالتها لكنّه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوّة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
وأيضا؛ فإنّ تحريمه يقتضي تجنّبه؛ والبعد عنه بكلّ طريق، وفي اتّخاذه دواء حضّ على التّرغيب فيه، وملابسته. وهذا ضدّ مقصود الشّارع.
وأيضا؛ فإنّه داء، كما نصّ عليه صاحب الشّريعة، فلا يجوز أن يتّخذ دواء.
وأيضا؛ فإنه يكسب الطّبيعة والرّوح صفة الخبث، لأنّ الطّبيعة تنفعل عن كيفية الدّواء انفعالا بيّنا، فإذا كانت كيفيّته خبيثة؛ اكتسبت الطّبيعة منه خبثا، فكيف إذا كان خبيثا في ذاته؟! ولهذا حرّم الله سبحانه على عباده الأغذية؛ والأشربة؛ والملابس الخبيثة لما تكتسب النّفس من هيئة الخبث وصفته.
وأيضا؛ فإنّ في إباحة التّداوي به- ولا سيّما إذا كانت النّفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشّهوة؛ واللّذة. لا سيّما إذا عرفت النّفوس أنّه نافع لها، مزيل لأسقامها، جالب لشفائها؛ فهذا أحبّ شيء إليها، والشّارع سدّ الذّريعة إلى تناوله بكلّ ممكن. ولا ريب أنّ بين سدّ الذّريعة إلى تناوله وفتح الذّريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا.
وأيضا؛ فإنّ في هذا الدّواء المحرّم من الأدواء ما يزيد على ما يظنّ به من الشفاء.
ولنفرض الكلام في أمّ الخبائث الّتي ما جعل الله لنا فيها شفاء قطّ؛ فإنّها شديدة المضرّة بالدّماغ؛ الّذي هو مركز العقل عند الأطبّاء وكثير من الفقهاء والمتكلمين!!(4/144)
وروى البخاريّ: ...
قال بقراط في أثناء كلامه في «الأمراض الحادّة» :
ضرر الخمر بالرأس شديد، لأنّه يسرع الارتفاع إليه، ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن، وهو كذلك يضرّ بالذّهن.
وقال صاحب «الكامل» : إنّ خاصّيّة الشّراب الإضرار بالدّماغ والعصب. وأمّا غيره من الأدوية المحرّمة! فنوعان:
أحدهما: تعافه النّفس، ولا تنبعث لمساعدته الطّبيعة على دفع المرض به؛ كالسّموم، ولحوم الأفاعي، وغيرها من المستقذرات، فيبقي كلّا على الطّبيعة مثقلا لها، فيصير حينئذ داء لا دواء.
والثّاني: ما لا تعافه النّفس؛ كالشّراب الّذي تستعمله الحوامل مثلا، فهذا ضرره أكثر من نفعه، والعقل يقضي بتحريم ذلك، فالعقل والفطرة مطابق للشّرع في ذلك.
وههنا سرّ لطيف في كون المحرّمات لا يستشفى بها، فإنّ شرط الشّفاء بالدّواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشّفاء، فإنّ النّافع هو المبارك. وأنفع الأشياء أبركها. والمبارك من النّاس أينما كان هو الّذي ينتفع به حيث حلّ.
ومعلوم أنّ اعتقاد المسلم تحريم هذه العين ممّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها؛ وبين حسن ظنّه بها؛ وتلقّي طبعه لها بالقبول، بل كلّما كان العبد أعظم إيمانا؛ كان أكره لها، وأسوأ اعتقادا فيها، وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال؛ كانت داء له لا دواء، إلّا أن يزول اعتقاد الخبث فيها، وسوء الظّنّ والكراهة لها بالمحبّة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قطّ إلا على وجه داء. والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله تعالى.
(وروى البخاريّ) ، ومسلم، وابن ماجه في «الطّبّ» كلّهم؛(4/145)
عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى مريضا، أو أتي به.. قال: «أذهب الباس ربّ النّاس، اشف وأنت الشّافي، لا شفاء إلّا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» .
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضا) عائدا له (أو) قال: (أتي) بالبناء للمفعول (به) إليه (قال) في دعائه له: ( «أذهب) بفتح الهمزة بعدها ذال معجمة- (الباس) - بغير همز للمؤاخاة، أي: المناسبة لما بعده. وأصله الهمز، أي: الضرر والمرض-
(ربّ النّاس) وغيرهم، بحذف حرف النّداء، (اشف) بحذف المفعول (وأنت) - وفي رواية بحذف الواو- (الشّافي) .
أخذ منه جواز تسميته تعالى بما ليس في القرآن؛ بشرط ألايوهم نقصا، وأن يكون له أصل في القرآن، وهذا منه، فإن فيه وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) [الشعراء] .
(لا شفاء) - بالمدّ؛ مبنيّ على الفتح، والخبر محذوف، تقديره: حاصل لنا أوله- (إلّا شفاؤك) بالرّفع؛ بدل من محلّ «لا شفاء» .
(شفاء) - مصدر منصوب بقوله: اشف- (لا يغادر) - بغين معجمة، أي:
لا يترك- (سقما» ) بضمّ فسكون، وبفتحتين، والتّنوين للتّقليل.
وفائدة التّقييد بذلك: أنّه قد يحصل الشّفاء من ذلك المرض؛ فيخلفه مرض آخر!!. فكان دعاء له بالشّفاء المطلق، لا بمطلق الشّفاء.
واستشكل الدّعاء بالشّفاء؛ مع ما في المرض من كفّارة وثواب، كما تظافرت الأحاديث بذلك!!
والجواب عن ذلك: أنّ الدّعاء عبادة، ولا ينافي الثّواب والكفّارة، لأنهما يحصلان بأوّل المرض، وبالصّبر عليه. والدّاعي بين حسنيين: إمّا أن يحصل له مقصوده، أو يعوّض عنه بجلب نفع؛ أو دفع ضرر. وكلّ ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى. انتهى «عزيزي» .(4/146)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ أهله الوعك.. أمر بالحساء فصنع، ثمّ أمرهم فحسوا. وكان يقول: «إنّه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السّقيم، كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» .
وقوله: (الوعك) : هو الحمّى، أو ألمها.
(و) أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «الطّبّ» ؛ وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه والحاكم في «الأطعمة» وقال: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ كلّهم؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله) ؛ أي: أحدا من أهل بيته (الوعك) ؛ أي: حرارة الحمّى، ومثلها بقيّة الأمراض، فما ذكر نافع لجميع الأمراض (أمر بالحساء) - بالفتح والمدّ: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن- (فصنع) بالبناء للمفعول (ثمّ أمرهم فحسوا) ؛ أي:
شربوا وتناولوه.
(وكان يقول: «إنّه ليرتو) - بفتح المثنّاة التحتيّة وراء ساكنة، فمثنّاة فوقيّة- أي: يشدّ ويقوّي (فؤاد الحزين) - قلبه- (ويسرو) - بسين مهملة وراء- (عن فؤاد السّقيم) - أي: يكشف عن فؤاده الألم، ويزيله- (كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» ) أي: تكشفه وتزيله.
قال «ابن القيّم» : هذا ماء الشّعير المغليّ، وهو أكثر غذاء من سويقه، نافع للسّعال، قامع لحدّة الفضول، مدرّ للبول جدّا، قامع للظّمأ، مطف للحرارة.
وصفته أن يرضّ ويوضع عليه من الماء العذب خمسة أمثاله، ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى خمساه. انتهى. «مناوي وعزيزي» .
(وقوله: الوعك) - بفتحتين- (هو الحمّى، أو ألمها) ؛ كما قاله المناوي وغيره.(4/147)
و (الحساء) - بالفتح والمدّ-: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن.
و (يرتو) : يشدّ ويقوّي. و (يسرو) : يكشف الألم ويزيله.
وفي «السّنن» عنها [رضي الله تعالى عنها] أيضا: «عليكم بالبغيض النّافع: التّلبين» .
(والحساء بالفتح) - للحاء والسّين المهملتين- (والمدّ) لا بالقصر (: طبيخ يتّخذ من دقيق) ؛ أي: دقيق الشّعير (وماء، ودهن) .
قال الحفني: وهو أن يضع قدرا من الشّعير بلا طحن، ويزن قدره من الماء خمس مرّات، ويوقد عليه بنار لطيفة حتّى يذهب ثلاثة أخماس الماء، فإنه يسكّن العطش والحرارة، وينفع من كلّ داء؛ لأنّ الشّعير بارد.
وفيه كيفيّة أخرى وهي: أن يطحنه؛ ويأخذ دقيقه، ويضيف له شيئا من دهن اللّوز؛ أو الورد؛ أو نحوهما وشيئا من الماء؛ ويطبخه. انتهى.
(ويرتو) - بفتح المثنّاة التحتيّة، وراء ساكنة فمثناة فوقيّة- أي: (يشدّ ويقوّي) ؛ بتشديد الواو من التّقوية (ويسرو) بفتح أوله؛ فسين مهملة ساكنة، فراء بوزن: يعرو.
قال المناوي: معناه (يكشف) عن فؤاده (الألم ويزيله) . انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد في «المسند» في الطّبّ وابن ماجه (في «السّنن» ) في «الطّبّ» أيضا، والحاكم وصحّحه؛ وأقرّه الذّهبيّ، كلّهم؛ (عنها) - أي:
عائشة- (أيضا) رضي الله تعالى عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «عليكم بالبغيض) - أي: المبغوض بالطّبع- (النّافع) من حيث الواقع، أي: كلوه أو لازموا استعماله، قالوا: وما البغيض النّافع يا رسول الله؟ قال: (التّلبين» ) .
وفي ابن ماجه التّلبينة يعني: الحسو، وهو دقيق يعجن بالماء إلى أن يصير(4/148)
قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى أحد من أهله.. لم تزل البرمة على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه- يعني: يبرأ- أو يموت.
وعنها أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع.. لا يطعم الطّعام، قال: «عليكم بالتّلبينة، فأحسوه إيّاها» ، ويقول: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها ...
كاللّبن، ويشرب، لا سيّما دقيق الشّعير، فإنّه بارد.
وهذا من الطّبّ النّبويّ الّذي لا شكّ فيه، وإنّما يكون التّخلف من سوء حال المستعمل. انتهى «حفني» .
(قالت) ؛ أي: عائشة (: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى) ؛ أي: مرض (أحد من أهله لم تزل البرمة) - بضمّ الموحّدة، وسكون الرّاء: إناء- (على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه. يعني:) أنّهم كانوا يحرصون على هذا الطعام دائما لخفّته على المريض مع تغذيته، وعدم الإضرار به إلى أن (يبرأ) من مرضه، (أو يموت) إذا انقضى أجله.
(و) أخرج الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وصحّحه، وأقرّه الذّهبي، كلّهم؛ (عنها) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها (أيضا) قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع) - بكسر الجيم، أي-: مريض (لا يطعم الطّعام؟ قال: «عليكم بالتّلبينة) - بفتح فسكون-: حساء يعمل من دقيق، أو نخالة، فيصير كاللّبن بياضا ورقّة، وقد يجعل فيه عسل. وسمّيت بذلك!! تشبيها باللّبن لبياضها ورقّتها (فأحسوه) ؛ أي: أشربوه وأطعموه (إيّاها» ) لأنّها غذاء فيه لطافة، سهل التّناول للمريض، فإذا استعمله اندفعت عنه الحرارة الجوعيّة، وحصلت له القوّة الغذائيّة بغير مشقّة. انتهى «مناوي» .
(ويقول) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها) ؛ أي: التّلبينة(4/149)
تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكنّ وجهها من الوسخ» .
و (التّلبين والتّلبينة) : الحساء الرّقيق الّذي هو في قوام اللّبن.
قال الهرويّ: سمّيت تلبينة؛ لشبهها باللّبن لبياضها ورقّتها، وهذا هو الغذاء النّافع للعليل، وهو الرّقيق النّضيج، لا الغليظ النّيء،
(تغسل بطن أحدكم) من الدّاء (كما تغسل إحداكنّ) - كذا في «زاد المعاد» - (وجهها) - وفي «المسند» : «كما يغسل أحدكم وجهه بالماء» - (من الوسخ» )
تحقيق لوجه الشّبه: قال الموفّق البغداديّ: إذا شئت [معرفة] منافع التلبينة؛ فاعرف منافع ماء الشّعير، سيّما إذا كان نخالة، فإنّه يجلو وينفذ بسرعة، ويغذّي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا. انتهى «مناوي» .
(والتّلبين والتّلبينة) - بهاء- قال ابن القيّم: هو (الحساء) بالفتح والمدّ (الرّقيق) - بالرّاء- (الّذي) يعمل من دقيق أو نخالة، و (هو في قوام اللّبن) ، وربّما جعل فيها عسل.
(قال) الإمام اللّغويّ أحمد بن محمّد بن عبد الرّحمن الباشاني: أبو عبيد (الهرويّ) نسبة إلى «هراة» المتوفّى في رجب سنة: إحدى وأربعمائة هجرية، قرأ على جماعة منهم: أبو سليمان الخطّابي. وكان اعتماده وشيخه الّذي يفتخر به أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري صاحب كتاب «التّهذيب» في اللّغة، وله من المؤلّفات كتاب «الغريبين» أي: «غريب القرآن» ، و «غريب الحديث» ، وهو السّابق إلى الجمع بينهما- فيما علمنا-، وله كتاب «ولاة هراة» رحمه الله تعالى.
قال في كتاب «الغريبين» : (سمّيت تلبينة لشبهها باللّبن؛ لبياضها ورقّتها) ، وهي تسمية بالمرّة من التّلبين؛ مصدر لبّن القوم: إذا سقاهم اللّبن.
(وهذا) التّلبين (هو الغذاء) بكسر الغين المعجمة؛ مثل كتاب: ما يغتذى به من الطّعام والشّراب (النّافع للعليل) ؛ أي: المريض، (وهو الرّقيق) - بالرّاء- (النّضيج) لأنّه ينفذ بسرعة، ويغذّي غذاء لطيفا، (لا الغليظ النّيء) مهموز وزان(4/150)
وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة.. فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها حساء يتّخذ من دقيق الشّعير.
وفي «الصّحيحين» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها ...
«حمل» : كلّ شيء شأنه أن يعالج بطبخ أو شيّ ولم ينضج.
(وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة) ؛ أي: امتيازها على غيرها في التّغذية؛ (فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها) ؛ أي: التّلبينة (حساء) - بالحاء والسّين المهملتين- (يتّخذ) ؛ أي: يصنع (من دقيق الشّعير) بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشّعير: أنّه يطبخ صحاحا، والتّلبينة تطبخ منه مطحونا، وهي أنفع منه؛ لخروج خاصيّة الشّعير بالطّحن.
وللعادات تأثير في الانتفاع بالأدوية والأغذية، ومن أمثلتهم: داووا الأجساد بما تعتاد. وكانت عادة القوم أن يتّخذوا ماء الشّعير منه مطحونا؛ لا صحاحا وهو أكثر تغذية؛ وأقوى فعلا؛ وأعظم جلاء.
وإنّما اتّخذه أهل المدن صحاحا!! ليكون أرقّ وألطف. فلا يثقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها وثقل ماء الشّعير المطحون عليها.
والمقصود: أنّ ماء الشّعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا، ويجلو جلاء ظاهرا، ويغذّي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارّا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزيّة أكثر. انتهى «زاد المعاد» .
(و) أخرج البخاريّ ومسلم (في «الصّحيحين» ) : كتاب «الأطعمة والطّبّ» ؛
(عن) أمّ المؤمنين (عائشة) الصّدّيقة بنت الصّدّيق؛ زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم (رضي الله تعالى عنها) أنّها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النّساء. ثمّ تفرّقن إلّا أهلها وخاصّتها أمرت ببرمة من تلبينة؛ فطبخت، ثم صنع(4/151)
قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «التّلبينة:
مجمّة لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن» .
وروى التّرمذيّ وابن ماجه: عن عقبة بن عامر الجهنيّ ...
ثريد؛ فصبّت التّلبينة عليها، ثمّ (قالت:) كلن منها فإنّي (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«التّلبينة) - بفتح المثنّاة الفوقيّة، وسكون اللّام، وكسر الموحّدة، بعدها تحتانيّة، ثم نون ثمّ هاء- (مجمّة) - بفتح الميمين، والجيم، والميم الثّانية مشدّدة، وتكسر الجيم، وبضمّ الميم وكسر الجيم؛ اسم فاعل، والأوّل أشهر، أي: مريحة- (لفؤاد المريض) - أي: تريح قلبه، وتسكّنه؛ وتقوّيه، وتزيل عنه الهمّ، وتنشّطه بإخمادها للحمّى؛ من الإجمام وهو الرّاحة، فلا حاجة لما تكلّفه بعض الأعاجم من تأويل الفؤاد، برأس المعدة. فتدبّر!!
(تذهب) - بفتح الفوقيّة، والهاء- (ببعض الحزن) - بضمّ الحاء المهملة وسكون الزّاي- فإنّ فؤاد المريض يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته؛ لقلّة الغذاء، وهذا الطّعام يرطّبها، ويقوّيها. ولذا كانت عائشة تفعله لأهل الميت؛ لتسكين حزنهم.
(وروى) الإمام أحمد و (التّرمذيّ وابن ماجه) في «الطّبّ» ، وقال التّرمذيّ: حسن غريب. وقال في «الأذكار» : فيه بكر بن يونس بن بكير، وهو ضعيف. وفي «الزوائد» : إسناده حسن، لأنّ بكر بن يونس مختلف فيه. وباقي رجال الإسناد ثقات. انتهى.
وكذا رواه الحاكم كلّهم؛ (عن) أبي حمّاد (عقبة بن عامر) بن عبس بن عمرو (الجهنيّ) نسبة لجهينة الصّحابيّ الجليل. كان من أحسن النّاس صوتا بالقرآن.
وشهد فتوح الشّام، وكان هو البريد إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يبشّره(4/152)
رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يطعمهم ويسقيهم» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهل بيته..
بفتح دمشق. ووصل المدينة في سبعة أيّام، ورجع منها إلى الشّام في يومين ونصف، بدعائه عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشفعّه به؛ في تقريب طريقه.
وسكن دمشق وكانت له دار في ناحية قنطرة «سنان» من «باب توما» وسكن مصر ووليها لمعاوية بن أبي سفيان سنة أربع وأربعين.
وتوفّي بها سنة ثمان وخمسين هجرية.
روي له عن النّبي صلى الله عليه وسلم خمسة وخمسون حديثا. اتّفقا منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة.
روى عنه جابر بن عبد الله؛ وابن عبّاس؛ وغيرهما من الصّحابة وخلائق من التّابعين (رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على) تناول (الطّعام والشّراب) إذا عافوه للمرض الذّي قام بهم.
قال الموفّق: ما أكثر فوائد هذه الكلمة النّبوية للأطّبّاء!! لأنّ المريض إذا عاف الطّعام أو الشّراب؛ فذلك لاشتغال طبيعته بمجاهدة مادّة المرض، أو سقوط شهوته لموت الحارّ الغريزيّ. وكيفما كان فإعطاء الغذاء في هذه الحالة غير لائق. انتهى شروح «الجامع الصّغير» . ولفظ: الشّراب ليس في رواية التّرمذيّ.
(فإنّ الله عزّ وجلّ يطعمهم ويسقيهم» ) . قال «المناوي» : أي يحفظ قواهم، ويمدّهم بما يقع موقع الطّعام والشّراب في حفظ الرّوح، وتقويم البدن.
وقال العلقمي: أي: يشبعهم ويرويهم؛ من غير تناول طعام وشراب. انتهى.
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته) - وفي رواية لمسلم: «من(4/153)
نفث عليه بالمعوّذات.
وفي «الصّحيحين» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم، ...
أهله» - (نفث) ؛ أي: نفخ (عليه) نفخا لطيفا، بلا ريق (بالمعوّذات) - بكسر الواو- وإنما خصّ المعوّذات!! لأنّهنّ جامعات للاستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلا، ففيها الاستعاذة من شرّ ما خلق؛ فيدخل فيه كلّ شيء، ومن شرّ النّفّاثات في العقد؛ وهنّ السّواحر، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ الوسواس الخنّاس.
وفائدة التّفل: التّبرّك بتلك الرّطوبة؛ أو الهواء المباشر لريقه.
قال النّووي فيه استحباب النّفث في الرّقية، وعليه الجمهور من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم، وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الرّقية بالحديد؛ والملح؛ والّذي يعقد؛ والّذي يكتب «خاتم سليمان» ؛ والعقد عنده أشدّ كراهة، لما في ذلك من مشابهة السّحر.
وفيه ندب الرّقية بنحو القرآن، وكرهه البعض بغسالة ما يكتب منه، أو من الأسماء. انتهى شروح «الجامع الصّغير» .
(و) أخرج البخاريّ ومسلم (في «الصّحيحين» ) من رواية نافع؛ (عن ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم» ) كذا في «المواهب» وتعقّبه الزرقاني: بأنّه لم يجده في واحد من «الصحيحين» بهذا اللّفظ!!
وإنّما الّذي في البخاريّ في «الطّبّ» ؛ من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: «الحمّى من فيح جهنّم، فأطفئوها بالماء» . وفيه في «صفة جهنّم؛ من بدء الخلق» من رواية عبيد الله؛ عن نافع؛ عن ابن عمر مرفوعا: «الحمّى من فيح جهنّم، فابردوها بالماء» بدل قوله «فأطفئوها» .(4/154)
.........
وكذا رواه مسلم؛ من طريق يحيى بن سعيد؛ عن عبيد الله؛ عن نافع، بلفظ: «فابردوها» .
رواه من طريق مالك؛ عن نافع؛ باللّفظ الأوّل- وهو «فأطفئوها» - ورواه من وجه آخر؛ عن عبيد الله؛ عن نافع؛ عن ابن عمر؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ شدّة الحمّى من فيح جهنّم، فأطفئوها بالماء» . انتهى.
وعندي أنّ الأمر سهل، ومراد المصنّف كالقسطلّاني: أنّ هذا اللّفظ موجود في «الصحيحين» ، من رواية ابن عمر بن الخطّاب؛ سواء كان من وجه واحد، أو متعدّد فتعقّب الزّرقاني وارد على تعيين رواية مخصوصة بهذا اللّفظ. والله أعلم.
وقوله: «من فيح جهنّم» !! بفتح الفاء؛ وسكون التحتيّة؛ فحاء مهملة آخره. وفي رواية ل «الصحيحين» «من فور» - بالرّاء، بدل الحاء- وفي رواية للبخاري: «من فوح» - بالواو، بدل التّحتيّة- وكلّها بمعنى، والمراد: سطوع حرّها ووهجه.
قال في «المواهب» : اختلف في نسبتها إلى جهنّم!؟ فقيل: حقيقة.
واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنّم.
وقدّر الله ظهورها في الدّنيا!! - بأسباب تقتضيها؛ نذيرا للجاحدين، وبشيرا للمقرّبين، ليعتبر العباد بذلك. فالتّعذيب بها يختلف باختلاف محلّه، فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه، وزيادة في أجوره، وللكافر عقوبة؛ وانتقاما.
كما أنّ أنواع الفرح واللّذة من نعيم الجنّة؛ أظهرها الله سبحانه في هذه الدّار الدّنيا عبرة ودلالة على ما عنده تعالى.
وإنّما طلب ابن عمر كشف العذاب الحاصل بالحمّى- كما في البخاري؛ عقب الحديث، قال نافع: وكان عبد الله يقول: اللهم اكشف عنا الرّجز؛ أي:
العذاب- مع ما فيه من الثّواب!! لمشروعيّة طلب العافية من الله، إذ هو قادر على(4/155)
فابردوها بالماء» .
وقد ذكر أبو نعيم وغيره: من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ...
أن يكفّر السّيئات لعبده، ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشقّ عليه. انتهى كلام «المواهب» مع الزرقاني.
(فابردوها بالماء» ) بهمزة وصل، والرّاء مضمومة على المشهور في الرّواية؛ من بردت والحمّى أبردها بردا؛ بوزن قتلتها أقتلها قتلا، أي: أسكنت حرارتها.
وحكي كسر الراء؛ مع وصل الهمزة، وحكى عياض: رواية بهمزة قطع مفتوحة، وكسر الرّاء؛ من أبرد الشيّء: إذا عالجه فصيّره باردا، مثل: أسخنته إذا صيّرته سخنا. وهي لغة رديئة.
وفي «المواهب» ؛ عن الخطّابي: أولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمّى بالماء: ما صنعته أسماء بنت الصّدّيق رضي الله تعالى عنها المرويّ في «الموطأ» و «الصحيحين» ؛ عن أسماء: أنّها كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمّت تدعو لها؛ أخذت الماء فصبّته بينها وبين جيبها، قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء.
والصّحابيّ؛ ولا سيّما مثل أسماء الّتي كانت ممّن يلازم بيت النّبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها. والله أعلم.
والّذي يظهر لي أن ذلك لا يتعيّن، فإنّ الإبراد بالماء يحصل بأيّ كيفيّة كانت، كما هو إطلاق الحديث، وذلك بحسب ما يراه المحموم نافعا لإطفاء حرارة الحمّى، وقد كنت إذا اشتدّت بي الحمّى أذهب فأنغمس في الماء، فأجد ذلك يخفّف عنّي حرارة الحمّى؛ خصوصا إذا كان الماء باردا طبيعيا، فإنّه أنفع في تبريد الحمّى. والله أعلم.
(وقد ذكر أبو نعيم وغيره) ؛ كالطّبرانيّ والحاكم بسند قوي (من حديث أنس رضي الله تعالى عنه يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم:(4/156)
«إذا حمّ أحدكم.. فليرشّ عليه الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» .
وفي «السّنن» لابن ماجه: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحمّى كير من كير جهنّم، فنحّوها عنكم بالماء البارد» .
وفي «المسند» وغيره: عن سمرة ...
«إذا حمّ أحدكم) - بالضّمّ والتّشديد-: أصابته الحمّى (فليرشّ عليه) ؛ أي:
على نفسه (الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» ) ؛ أي: قبيل الصّبح.
فهذا الحديث المرفوع يؤيّد فعل أسماء، فيكون المراد بالإبراد الرّشّ؛ لا الاغتسال. قال الزّرقانيّ: وقد علمت أنّ ذلك غير متعيّن.
(وفي «السّنن» ) في «كتاب الطّبّ» (لابن ماجه) - بالهاء وصلا ووقفا- (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) - وفي «الزّوائد» : إسناده صحيح؛ ورجاله ثقات- (يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمّى كير) - بكسر الكاف؛ وسكون المثنّاة التّحتيّة-: زقّ ينفخ فيه الحدّاد (من كير جهنّم) فيه: تشبيه، أي: حرارتها الواصلة للبدن كحرارة جهنّم الواصلة بالكير الآلة المعروفة للحداد، وفيه من المبالغة ما لا يخفى. انتهى «حفني» .
(فنحّوها عنكم بالماء البارد» ) شربا وغسل أطراف، لأنّ البارد رطب ينساغ لسهولته. فيصل للطافته إلى أماكن العلّة، من غير حاجة إلى معاونة الطّبيعة. انتهى «زرقاني» .
(وفي «المسند» ) للإمام أحمد (وغيره) ؛ من حديث الحسن البصريّ.
(عن) أبي سعيد (سمرة) بن جندب- بضمّ الدّال وفتحها- ابن هلال الفزاري. توفّي أبوه وهو صغير؛ فقدمت به أمّه المدينة، فتزوّجها أنصاريّ، وكان في حجره حتّى كبر. قيل: أجازه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المقاتلة يوم أحد، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات، ثمّ سكن البصرة.(4/157)
رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«الحمّى قطعة من النّار، فأبردوها عنكم بالماء البارد» .
وفي «السّنن» : من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
ذكرت الحمّى عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسبّها رجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب، كما تنفي النّار خبث الحديد» .
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثا؛ اتّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأربعة.
روى عنه خلق منهم: الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ.
وتوفّي بالبصرة سنة تسع- وقيل: ثمان- وخمسين. قال البخاريّ: توفي سمرة بعد أبي هريرة. يقال: آخر سنة تسع وخمسين، ويقال: سنة ستّين (رضي الله تعالى عنه.
يرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمّى قطعة من النّار) ؛ أي: نار جهنّم: جعلها الله في الدنيا (فابردوها عنكم بالماء البارد» ) ؛ شربا وغسل أطراف، أو جميع الجسد، على ما يليق بالزّمان والمكان. انتهى «زرقاني» .
وقال السّيوطي: قد تواتر الأمر بإبرادها بالماء، وأصحّ كيفيّاته: أن يرشّ بين الصّدر والجيب. انتهى نقله المناوي.
(وفي «السّنن» ) لابن ماجه- وفي سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف- (من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
ذكرت الحمّى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبّها رجل!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب) ؛ أي: تكفّر خطايا المؤمنين (كما تنفي النّار خبث) - بفتحتين أي: وسخ- (الحديد» ) لمّا كانت الحمّى يتبعها حمية عن الأغذية الرّديئة، وتناول الأغذية والأدوية النّافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن(4/158)
.........
ونفي أخباثه وفضوله، وتصفيته من موادّه الرّديئة، وتفعل فيه كما تفعل النّار في الحديد؛ من نفي خبثه، وتصفية جوهره؛ كانت أشبه الأشياء بنار الكير الّتي تصفّي جوهر الحديد، وهذا القدر هو المعلوم عند أطبّاء الأبدان.
وأمّا تصفيتها القلب من وسخه ودرنه، وإخراجها خبائثه! فأمر يعلمه أطبّاء القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه العلاج.
فالحمّى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة؛ فسبّه ظلم وعدوان.
انتهى. من «زاد المعاد» .
وقال السّيوطي: هي طهور من الذّنوب، وتذكرة للمؤمن بنار جهنّم كي يتوب.
ولها منافع بدنيّة، وماثر سنيّة؛ فإنّها تنقّي البدن، وتنفي عنه العفن، وربّ سقم أزليّ؛ ومرض عولج منه زمانا- وهو ممتلئ- فلمّا طرأت عليه أبرأته، فإذا هو منجل، وربّما صحّت الأجساد بالعلل.
وذكروا أنّها تفتح كثيرا من السّدد وتنضح من الأخلاط والموادّ ما فسد، وتنفع من الفالج، واللّقوة «1» ؛ والتّشنج الامتلائيّ؛ والرّمد. انتهى. نقله المناوي.
ولما نظر جماعة من السّلف ما في الحمّى من الفوائد؛ دعوا على أنفسهم بملازمة الحمّى لهم إلى توفيهم.
وممّن دعا بذلك سعد بن معاذ، وكذا أبي «2» دعا على نفسه ألايفارقه الوعك حتى يموت، ولا يشغله عن حجّ؛ ولا عمرة؛ ولا جهاد؛ ولا صلاة جماعة، فما مسّ رجل جلده بعدها إلّا وجد حرّها حتّى مات.
__________
(1) داء في الوجه. اه (مختار الصحاح) .
(2) الكلام للمناوي؛ لا للشارح.(4/159)
وروى التّرمذيّ في «جامعه» : من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى؛ فإنّ الحمّى قطعة من النّار، فليطفئها عنه بالماء، ...
وقد قال بعض من اقتفى آثارهم، وتدثر دثارهم:
زارت محمّصة الذّنوب لصبّها ... أهلا بها من زائر ومودّع
قالت- وقد عزمت على تر حالها-: ... ماذا تريد؟ فقلت: ألاتقلعي
انتهى «مناوي» .
(وروى التّرمذيّ في «جامعه» ) في «الطبّ» بسند فيه راو لم يسمّ، وراو مختلف في تضعيفه وتوثيقه، وقال: حديث غريب.
(من حديث) أبي عبد الله، - أو أبي عبد الرّحمن- (ثوبان) - بضم المثلّثة وفتحها- ابن بجدد- بموحّدة مضمومة ثم جيم ساكنة، ثمّ دال مهملة مكّررة؛ الأولى مضمومة- ويقال: ابن جحدر الهاشميّ، مولاهم من أهل «السّراة» :
موضع بين «مكّة» و «اليمن» .
أصابه سباء؛ فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه. ولم يزل معه في الحضر والسّفر، فلما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشّام، فنزل «الرّملة» .
ثمّ انتقل إلى حمص وابتنى بها دارا. وتوفي بها سنة: خمس وأربعين- وقيل:
سنة أربع وخمسين-.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث؛ وسبعة وعشرون حديثا، روى له مسلم منها عشرة أحاديث.
روى عنه جماعة من كبار التّابعين (رضي الله تعالى عنه.
عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى، فإنّ الحمّى قطعة من النّار) حقيقة أو مجازا- (فليطفئها عنه بالماء) - لأنّ الماء يطفئ النّار، ثمّ بيّن كيفيّة(4/160)
فليستقبل نهرا جاريا ليستقبل جرية الماء، فيقول: (باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك، وصدّق رسولك) بعد صلاة الصّبح قبل طلوع الشّمس، فليغتمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث.. فخمس، فإن لم يبرأ في خمس.. فسبع، فإن لم يبرأ في سبع.. فتسع؛ فإنّها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» .
الإطفاء، فقال: - (فليستنقع نهرا) - بفتحتين؛ على الأفصح- (جاريا، ليستقبل جرية الماء،
فيقول: باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك) لم يقل: اشفني لأنّ المقام مقام استعطاف وتذلّل، ولا وصف أصدق من وصف العبوديّة. (وصدّق رسولك) فيما أخبر أنّه شفاء من الحمّى.
(بعد صلاة الصّبح، قبل طلوع الشّمس) ظرف لقوله «يستنقع» .
(فليغتمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث؛ فخمس) ينغمس فيها، ف «خمس» : خبره محذوف (فإن لم يبرأ في خمس؛ فسبع، فإن لم يبرأ في سبع؛ فتسع) من الأيّام، (فإنّها) أي: الحمى (لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» ) .
وهذا يحتمل أن يكون لبعض الحمّيات دون بعض، ويحتمل أنّه خارج عن قواعد الطّبّ، داخل في قسم المعجزات الخارقة للعادات. ألا ترى كيف قال فيه «صدّق رسولك» ، و «بإذن الله» ؟؟.
وقد شوهد وجرّب؛ فوجد كما نطق به الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ قاله الطّيبيّ.
وقال الزّين العراقيّ: عملت بهذا الحديث؛ فانغمست في بحر «النّيل» ؛(4/161)
وفي «الصّحيحين» : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه- وفي رواية: استطلق بطنه- فقال: «اسقه عسلا» ، فذهب، ثمّ رجع، فقال: قد سقيته عسلا؛ فلم يغن عنه شيئا؟ ...
فبرئت منها! قال ولده الولّي العراقيّ: ولم يحمّ بعدها، ولا في مرض موته!!.
انتهى «زرقاني» .
(وفي «الصّحيحين» ) : البخاريّ ومسلم، وكذا التّرمذيّ والنّسائي كلّهم في (الطب) ؛ من حديث سعيد بن أبي عروبة؛ عن أبي المتوكّل النّاجيّ.
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدريّ) الصّحابيّ ابن الصّحابيّ (رضي الله تعالى عنه) وعن والده.
(أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنّ أخي) - قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم واحد منهما- (يشتكي بطنه) ؛ أي: وجع بطنه، من إسهال حصل له من تخمة.
(وفي رواية) للشّيخين أيضا؛ من حديث قتادة؛ عن أبي المتوكّل النّاجي؛ عن أبي سعيد فقال: إنّ أخي (استطلق) - بفتح الفوقيّة واللّام- (بطنه) بالرّفع، وضبطه في «الفتح» مبنيّا للمفعول؛ أي: تواتر إسهال بطنه؛ قاله القسطلّاني.
وكذا قال القرطبيّ في «المفهم» : هو بضمّ التاء مبنيّا للمفعول، فهو الرّواية الصّحيحة، فيكون أصله استطلق هو بطنه، فالسّين زائدة؛ لا للطّلب قال الحافظ ابن حجر: استطلق- بضمّ المثنّاة؛ وسكون الطّاء المهملة؛ وكسر اللّام بعدها قاف- أي: كثر خروج ما فيه يريد الإسهال.
(فقال: «اسقه عسلا) صرفا، أو ممزوجا، وعند الإسماعيليّ: «اسقه العسل» ، واللّام عهديّة، والمراد: عسل النّحل، لكونه المشهور عندهم؛ قاله الحافظ «ابن حجر» .
(فذهب، ثمّ رجع؛ فقال: قد سقيته عسلا فلم يغن عنه شيئا؟!) ؛ أي: لم(4/162)
وفي لفظ: فلم يزده إلّا استطلاقا (مرّتين أو ثلاثا) - كلّ ذلك يقول له: «اسقه عسلا» ، فقال له في الثّالثة أو الرّابعة: «صدق الله، وكذب بطن أخيك» ، ثمّ سقاه، فبرأ بإذن الله تعالى.
يبرأ. (وفي لفظ) : فسقاه العسل، فلم ينجع، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي سقيته (فلم يزده إلّا استطلاقا؟!) بعد السّقيّ؛ لجذبه الأخلاط الفاسدة، وكونه أقلّ من كميّة تلك الأخلاط، فلم يدفعها بالكلية (مرّتين أو ثلاثا) يترّدد إليه (كلّ ذلك يقول له: «اسقه عسلا» .
فقال له في) المرّة (الثّالثة أو الرّابعة: «صدّق الله) في قوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] (وكذب) ؛ أي: أخطأ (بطن أخيك» ) . حيث لم يصلح لقبول الشّفاء، لكثرة المادّة الفاسدة التي فيه، ولذا أمره بمعاودة شرب العسل، لاستفراغها، فلمّا كرّر ذلك برأ.
وفي رواية لمسلم: فقال له ثلاث مرّات: إنّي سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا؟! ثمّ جاء الرّابعة فقال: «اسقه عسلا» . فقال: سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا؟! فقال:
«صدق الله، وكذب بطن أخيك!!» ففي هذه الرّواية: أنه قال ذلك بعد الرّابعة!
قال الحافظ «ابن حجر» : والأرجح أنّه قاله بعد الثّالثة.
(ثمّ سقاه فبرأ) - بفتح الرّاء والهمزة- بوزن: قرأ، وهي: لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: برىء بكسر الراء؛ بوزن علم؛ كما في «الفتح» .
(بإذن الله تعالى» ) لأنّه لما تكرّر استعمال الدّواء قاوم الدّاء فأذهبه.
قال في «المواهب» : وفي قوله: «وكذب بطن أخيك» إشارة إلى أنّ هذا الدّواء نافع، وأنّ بقاء الدّاء ليس لقصور الدّواء في الشّفاء، ولكن لكثرة المادّة الفاسدة، فمن ثمّ أمره بمعاودة شرب العسل، لاستفراغها!! فشفي لمّا استفرغت، فاعتبار مقادير الأدوية، وكيفيّاتها، ومقدار قوّة المرض والمريض من أكبر قواعد الطّبّ.(4/163)
وفي «سنن ابن ماجه» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من لعق العسل ثلاث غدوات كلّ شهر.. لم يصبه عظيم من البلاء» .
قال في «زاد المعاد» : وليس طبّه صلى الله عليه وسلم كطبّ الأطبّاء؟؟ فإنّ طبّه عليه الصّلاة والسّلام متيقّن قطعيّ إلهيّ؛ صادر عن الوحي، ومشكاة النّبوّة، وكمال العقل، وطبّ غيره حدس وظنون وتخمين وتجارب. انتهى بزيادة من «شرح البخاري» .
(وفي «سنن ابن ماجه» ) في كتاب «الطّبّ» قال: حدّثنا محمود بن خداش؛ قال: حدّثنا سعيد بن زكريا القرشيّ؛ قال: حدّثنا الزّبير بن سعيد الهاشميّ؛ عن عبد الحميد بن سالم.
(عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال في «الميزان» ؛ عن البخاري:
لا يعرف لعبد الحميد سماع من أبي هريرة؟! وفي «الزّوائد» : إسناده ليّن!! ومع ذلك هو منقطع! وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» وقال: الزّبير ليس بثقة.
وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل. ولم يتعقّبه السّيوطيّ سوى بأنّ له شاهدا، وهو ما رواه أبو الشّيخ في «الثّواب» ؛ عن أبي هريرة مرفوعا: «من شرب العسل ثلاثة أيّام في كلّ شهر على الرّيق عوفي من الدّاء الأكبر: الفالج، والجذام والبرص» . انتهى. «مناوي» مع زيادة.
(مرفوعا) إلى النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ( «من لعق) بابه فهم؛ كما في «المختار» أي: لحس (العسل) النّحل- وهو يذكّر ويؤنّث. وأسماؤه تزيد على المائة- (ثلاث غدوات) - بضمّ فسكون «1» - (كلّ شهر) . قال الطّيبيّ: صفة ل «غدوات» أي: غدوات كائنة في كلّ شهر، أي: ثلاثة أيّام في كلّ شهر.
(لم يصبه عظيم من البلاء» ) ، لما في العسل من المنافع الدّافعة للأدواء، إذ
__________
(1) الذي في «المختار» و «الأساس» : بفتحتين سواء كان جمع غداء أو غدا؟! (عبد الجليل) .(4/164)
وفي أثر آخر: «عليكم بالشّفاءين: العسل، ...
هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة!، وحلوى من الحلاوات!، وطلاء من الأطلية!، ومفرح من المفرحات!! فيطلب لعق العسل النّحل في كلّ شهر ثلاثة أيّام منه؛ في أوّله، أو أثنائه. وتخصيص الثّلاث!! لسرّ علمه الشّارع. انتهى شروح «الجامع الصّغير» .
(وفي أثر آخر) أخرجه ابن ماجه، والحاكم في «الطّبّ» ؛ عن ابن مسعود مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم- وقال الحاكم: إنّه على شرط الشّيخين- وأخرجه ابن أبي شيبة، والحاكم أيضا مرقوفا على ابن مسعود، ورجاله رجال الصّحيح.
وقال البيهقيّ في «الشّعب» : الصّحيح أنّه موقوف على ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
( «عليكم) ؛ أي: الزموا التّداوي (بالشّفاءين) ، قال تعالى في العسل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] وقال في القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [82/ الإسراء] فالشّفاء ثابت لكلّ بنصّ القرآن.
(العسل) النحل وهو لعابها.
وله منافع كثيرة، منها: أنه ينفع البشرة وينعّمها، وإن اكتحل به جلا البصر، وإذا استنّ به بيّض الأسنان؛ وصقلها؛ وحفظ صحّتها؛ وصحّة اللّثّة؛ وإذا تغرغر به نفع من أورام الحلق، ومن الخنّاق، ويوافق السّعال البلغميّ، ويدرّ البول، ويليّن البطن، ويفتح سددها، ويفتح أفواه العروق، ويدرّ الطّمث، وينفع من لسع العقرب، ومن نهش الهوام ذوات السّموم، ومن عضّة الكلب، ولعقه على الرّيق يذيب البلغم، ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة، ويشدّها، ويسخّنها باعتدال، ويفتح سددها، ويفعل مثل ذلك بالكبد؛ والكلى؛ والمثانة.
وقد كان النّبي صلى الله عليه وسلم يشرب كلّ يوم قدح عسل ممزوجا بالماء على الرّيق.
فهذه حكمة عجيبة في حفظ الصّحّة؛ لا يعقلها إلّا العالمون!.(4/165)
والقرآن»
وقد كان بعد ذلك يغتذي بخبز الشّعير مع الملح، أو الخلّ؛ أو نحوه، ويصابر شظف العيش، فلا يضرّه!! لما سبق له من الإصلاح.
وقد كان عليه الصّلاة والسّلام يراعي في حفظ صحّته أمورا فاضلة جدّا، منها، تقليل الغذاء، وتجنّب التّخم، ومنها شرب بعض المنقوعات يلطّف بها غذاءه، كنقيع التّمر؛ أو الزّبيب؛ أو الشّعير؛ ومنها استعمال الطّيب، وجعل المسك في مفرقه، والادّهان والاكتحال.
وكان عليه الصّلاة والسّلام يغذّي روح الدّماغ والقلب بالمسك، وروح الكبد والقلب بماء العسل، فما أتقن هذا التدبير، وما أفضله!!. انتهى «عزيزي» .
وقال «الزّرقاني» : أصلح العسل الرّبيعيّ، ثمّ الصّيفي. وأمّا الشّتائي فرديء، وما يؤخذ من الجبال والشّجر أجود ممّا يؤخذ من الخلايا. وهو بحسب مرعاه. ومن العجيب أنّ النّحل يأكل من جميع الأزهار، ولا يخرج منه إلا حلو مع أنّ أكثر ما يجنيه مرّ. انتهى.
(والقرآن» ) جمع بين الطّبّ البشريّ والطّبّ الإلهيّ، وبين الفاعل الطّبيعيّ والفاعل الرّوحانيّ، وبين طبّ الأجساد وطبّ الأرواح، وبين السّبب الأرضيّ والسّبب السّماويّ.
وشفاء القرآن بحسب إزالته للرّيب، وكشف غطاء القلب؛ لفهم المعجزات، والأمور الدّالّة على الله المقرّرة لشرعه.
قال «ابن القيّم» : جماع أمراض القلب الشّبهات والشّهوات. والقرآن شفاء لهما، ففيه من البيّنات؛ والبراهين القطعيّة؛ والدّلالة على المطالب العالية ما لم يتضمّنه كتاب سواه، فهو الشّفاء بالحقيقة، لكنّ ذلك موقوف على فهمه وتقرير المراد منه.
ويحتمل أن يريد بالشّفاء: نفعه من الأمراض بالرّقى والتّعويذ ونحوه، كما في(4/166)
وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّاعون ...
الرّقية ب «فاتحة الكتاب» وب «المعوّذتين» وغير ذلك.
وممّا جرّب نفعه للاستشفاء أن يكتب آيات الشّفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) [التوبة] . وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [57/ يونس] . يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [69/ النحل] . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [82/ الإسراء] . وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) [الشعراء] . قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [44/ فصّلت] .
ثم يكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص] ، إي والله، إي والله، إي والله اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الإخلاص] ، إي والله، إي والله، إي والله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) [الإخلاص] ، لا والله، لا والله، لا والله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص] ، لا والله، لا والله، لا والله. ربّ النّاس أذهب الباس، اشف أنت الشّافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، وصلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه وسلّم في إناء نظيف، ويسقى للمريض.
انتهى. من شروح «الجامع الصّغير» .
(و) أخرج البخاريّ في «ذكر بني إسرائيل والطّبّ وترك الحيل» ، ومسلم في «الطّبّ» وكذا النّسائي كلّهم؛
(عن أسامة بن زيد) الحبّ بن الحبّ (رضي الله تعالى عنهما قال) ؛ وقد سأله سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ قال أسامة:
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطّاعون) بوزن فاعول؛ من الطّعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالّا على الموت العامّ كالوباء. ويقال: طعن؛ فهو مطعون وطعين؛ إذا أصابه الطّاعون، وإذا أصابه الطّعن بالرّمح.
والطّاعون: ورم رديء قتّال، يخرج معه تلهّب شديد مؤلم جدّا يتجاوز المقدار(4/167)
رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، ...
في ذلك، ويصير ما حوله- في الأكثر- أسود، أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التّقرّح سريعا.
وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأربيّة «1» ، وفي اللّحوم الرّخوة.
ويحصل معه خفقان وغثيان وقيء، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد.
وأردؤه: ما حدث في الإبط، وخلف الأذن. والأسود منه قلّ من يسلم منه!! وأسلمه الأحمر، ثمّ الأصفر.
(رجز) - بالزّاي على المعروف. - أي: عذاب.
قال النّووي في «شرح مسلم» : وهذا الوصف بكونه عذابا مختصّ بمن كان قبلنا. وأمّا هذه الأمّة! فهو لها رحمة وشهادة، ففي «الصّحيحين» قوله صلى الله عليه وسلم:
«المطعون شهيد» ، وفي حديث آخر في غير «الصّحيحين» : «إنّ الطّاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطّاعون؛ فيمكث في بلده صابرا يعلم أنّه لن يصيبه إلّا ما كتب الله له؛ إلّا كان له مثل أجر شهيد» .
وفي حديث آخر: «الطّاعون شهادة لكلّ مسلم، وإنّما يكون شهادة لمن صبر» ؛ كما بيّنه في الحديث المذكور. انتهى كلام «النّوويّ» .
(أرسل على طائفة من بني إسرائيل) لمّا كثر طغيانهم، (وعلى من كان قبلكم) كذا في نسخ المصنّف: بالواو تبعا ل «المواهب» .
قال الزّرقاني: والّذي في «الصّحيحين» : إنما هو ب «أو» قال الحافظ ابن حجر: بالشّكّ من الرّاوي.
__________
(1) أصل الفخذ، أو ما بين أعلاه وأسفل البطن «قاموس» .(4/168)
.........
وفي رواية ابن خزيمة بالجزم؛ بلفظ: «رجز سلّط على طائفة من بني إسرائيل» . والتّنصيص عليهم أخصّ، فإن كان ذلك المراد؛ فكأنّه أشار بذلك إلى ما جاء في قصّة «بلعام» ، فأخرج الطّبريّ من طريق سليمان التّيمي- أحد صغار التّابعين- عن سيّار: أن رجلا كان يقال له «بلعام» كان مجاب الدّعوة، وإنّ موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها «بلعام» !!، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم!! فقال: أؤآمر ربّي! فمنع، فأتوه بهديّة؛ فقبلها!! وسألوه ثانيا. فقال:
حتّى أؤآمر ربّي؟ فلم يرجع إليه بشيء!؟ فقالوا: لو كره لنهاك فدعا عليهم؛ فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك؟ فقال: سأدلّكم على ما فيه هلاكهم: أرسلوا النّساء في عسكرهم، ومروهنّ لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا؛ فيهلكوا؟ فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها بعض الأسباط، وأخبرها بمكانه؛ فمكّنته من نفسها!! فوقع في بني إسرائيل الطّاعون، فمات منهم سبعون ألفا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرّمح فطعنها، وأيّده الله فانتظمها جميعا» .
وهذا مرسل جيّد، وسيار شاميّ موثّق.
وذكر الطّبريّ- أيضا- هذه القصّة؛ عن محمّد بن إسحاق؛ عن سالم أبي النّضر بنحوه، وسمّى المرأة «كشتاء» - بفتح الكاف؛ وسكون المعجمة؛ وفوقية- والرجل «زمري» - بكسر الزّاي، وسكون الميم، وكسر الرّاء- رأس سبط شمعون. والّذي طعنهما «فنحاص» - بكسر الفاء، وسكون النون؛ ثمّ مهملة؛ فألف؛ فمهملة- ابن هارون. وقال في آخره: فحسب من هلك من الطّاعون سبعون ألفا!! والمقلّل يقول: عشرون ألفا! وهذه الطّريق تعضد الأولى.
وذكر ابن إسحاق في «المبتدأ» : أنّ بني إسرائيل لما كثر عصيانهم؛ أوحى الله إلى داود فخيّرهم بين ثلاث: إمّا أن أبتليهم بالقحط سنتين؟، أو العدوّ شهرين؟
أو الطّاعون ثلاثة أيّام؟؟ فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا. فاختار الطّاعون، فمات(4/169)
فإذا سمعتم به بأرض.. فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها.. فلا تخرجوا منها فرارا منه» .
منهم- إلى أن زالت الشّمس- سبعون ألفا؟! وقيل: مائة ألف. فتضرّع داود إلى الله؛ فرفعه.
وورد وقوع الطّاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أنّه المراد بقوله «أو من كان قبلكم» .
من ذلك ما أخرجه الطّبريّ وابن أبي حاتم؛ عن سعيد بن جبير، قال: أمر موسى بني إسرائيل: أن يذبح كلّ رجل منهم كبشا، ثمّ يخضب كفّه في دمه، ثم يضرب به على بابه!! ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك؟ فقالوا: إنّ الله يبعث عليكم عذابا، وإنّنا ننجو منه لهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا!! فقال فرعون- عند ذلك- لموسى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ.. الآية [134/ الأعراف] . فدعا؛ فكشفه عنهم. وهذا مرسل جيّد الإسناد.
وأخرج عبد الرزّاق في «تفسيره» ، وابن جرير عن الحسن؛ في قوله تعالى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [243/ البقرة] قال: فرّوا من الطّاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثمّ أحياهم؛ ليكملوا بقيّة آجالهم.
فأقدم من وقفنا عليه- في المنقول- ممّن وقع الطّاعون به من بني إسرائيل في قصّة «بلعام» ، ومن غيرهم: في قصّة فرعون، وتكرّر بعد ذلك لغيرهم. انتهى.
(فإذا سمعتم به بأرض؛ فلا تدخلوا عليه) لأنّه تهوّر؛ وإقدام على خطر، وإلقاء إلى التّهلكة، كمن أراد دخول دار؛ فرأى فيها حريقا تعذّر طفؤه، فعدل عن دخولها لئلّا يصيبه، وليكون ذلك أسكن للنّفس، وأطيب للعيش، ولئلا يقعوا في اللّوم المنهيّ عنه، بلوم أنفسهم؛ فيما لا لوم فيه، لأن الباقي والنّاهض لا يتجاوز واحد منهم أجله.
(وإذا وقع بأرض؛ وأنتم بها فلا تخرجوا منها، فرارا منه» ) لأنّه فرار من(4/170)
.........
القدر، فالأوّل تأديب وتعليم، والثّاني تفويض وتسليم.
قال ابن عبد البرّ: النّهي عن الدّخول لدفع ملامة النّفس، وعن الخروج للإيمان بالقدر. انتهى.
والأكثر على أنّ النّهي عن الفرار منه للتّحريم. وقيل: للتّنزيه. ومفهوم الحديث جوازه لشغل عرض غير الفرار، وحكي عليه الاتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: ولا شكّ أنّ الصّور ثلاث:
1- من خرج لقصد الفرار محضا، فهذا يتناوله النّهي؛- لا محالة-.
و2- من خرج لحاجة متمحّضة، لا لقصد الفرار أصلا، ويتصوّر ذلك فيمن تهيّأ للرّحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته- مثلا- ولم يكن الطّاعون وقع؛ فاتّفق وقوعه أثناء تجهّزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي.
الثّالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها، وانضمّ إلى ذلك أنه قصد الرّاحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطّاعون؟ فهذا محلّ النّزاع، كأن تكون الأرض الّتي وقع بها وخمة والأرض الّتي يتوجّه إليها صحيحة؛ فتوجّه بهذا القصد إليها!!. فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة. ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحّض القصد للفرار، وإنّما هو لقصد التّداوي. انتهى.
وقد ذكر العلماء في النّهي عن الخروج حكما:
منها أنّ الطّاعون يكون في الغالب عامّا في البلد- الّذي يقع فيه، فإذا وقع؟
فالظّاهر مداخلة سببه لمن هو بها؛ فلا يفيده الفرار، لأنّ المفسدة إذا تعيّنت حتّى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا؛ فلا يليق بالعاقل.
ومنها أنّ النّاس لو تواردوا على الخروج؛ لصار من عجز عنه بالمرض المذكور، أو بغيره، أو الكبر ضائع المصلحة، لفقد من يتعهّده حيّا وميتا وأيضا لو شرع الخروج فخرج، الأقوياء؛ لكان في ذلك كسر قلوب الضّعفاء الّذين لا يقدرون على الخروج.(4/171)
وروي هذا الحديث ...
ومنها ما ذكره بعض الأطبّاء: أن المكان الّذي يقع به الوباء؛ تتكيّف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة؛ فتألفها، ويصير لهم كالأهوية الصّحيحة لغيرهم. فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة؛ لم توافقهم! بل ربّما إذا استنشقوا هواءها، استصحب معه إلى القلب؛ من الأبخرة الرّديّة، الّتي حصل تكيّف بدنها بها، فأفسدته!؟ فمنع من الخروج لهذه النّكتة.
ومنها أنّ الخارج يقول: لو أقمت لأصبت بالطّاعون!! والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت! فيقع في «اللّو» المنهيّ عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم: «إيّاك» و «لو» ؛ «فإنّ لو من الشّيطان» . رواه مسلم. انتهى. من «المواهب» وشرحها.
فإن قيل: ظاهر الحديث ليس فيه طبّ من الطّاعون؟ وإنّما فيه نهيه عن الخروج والدّخول؟
والجواب: أنّه نهي شرعيّ، مشتمل على طبّ بدنيّ، لأن النّبي صلى الله عليه وسلم جمع للأمّة في نهيه عن الدّخول إلى الأرض، الّتي هجر بها، ونهيه عن الخروج منها، بعد وقوعه جمع لها كمال التّحرّز منه، لأن في الدّخول في الأرض الّتي هو بها تعرّضا للبلاء، وتجنّب الدّخول من باب الحمية الّتي أرشدنا الله إليها، وهي حمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية، كما أنّ نهيه عن الخروج من بلده؛ فيه حمل النّفوس على الثّقة بالله والتّوكّل عليه، والصّبر على أقضيته؛ والرّضا بها.
فظهر المعنى الطّبّي من الحديث النّبويّ، وما فيه من علاج القلب والبدن، وصلاحهما؛ كما ذكره ابن القيّم رحمه الله تعالى.
(و) قد (روي) - ببناء المجهول- (هذا الحديث) ؛ أي: حديث الطّاعون، الّذي رواه أسامة المذكور؛ وليس المراد بصيغة التّمريض الإشارة إلى ضعف الحديث؟ بل القصد بها الاختصار بحذف راويه، لأنّ الحديث صحيح؛ رواه البخاريّ في «الطّبّ والحيل» ، ومسلم في «الطّبّ» ، وأبو داود في «الجنائز» .(4/172)
عن عبد الرّحمن بن عوف أيضا رضي الله تعالى عنه.
(عن عبد الرّحمن بن عوف) الزّهري (أيضا رضي الله تعالى عنه) ، ولفظه كما في مسلم؛ عن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- أنّ عمر بن الخطّاب خرج إلى الشّام، حتّى إذا كان ب «سرغ» لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجّراح وأصحابه، فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشّام، قال ابن عبّاس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأوّلين. فدعوتهم؛ فاستشارهم؛ وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشّام! فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه؟! وقال بعضهم: معك بقيّة النّاس، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء!! فقال: ارتفعوا عنّي.
ثمّ قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم!! فقال: ارتفعوا عنّي!!
ثمّ قال: ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش؛ من مهاجرة الفتح!! فدعوتهم؛ فلم يختلف عليه رجلان!! فقالوا: نرى أن ترجع بالنّاس، ولا تقدمهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في النّاس: إنّي مصبح على ظهر؛ فأصبحوا عليه!.
فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: أفرارا من قدر الله!؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! - وكان عمر يكره خلافه- نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان: إحداهما خصبة، والآخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟؟! وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟؟!.
قال: فجاء عبد الرّحمن بن عوف- وكان متغيّبا في بعض حاجته- فقال: إنّ عندي من هذا علما!! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه!!
قال: فحمد الله عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ثمّ انصرف. انتهى.(4/173)
وفي «سنن أبي داود» مرفوعا: «إنّ من القرف التّلف» .
قال ابن قتيبة: (القرف) مداناة الوباء، ومداناة المرضى.
وفي «صحيح البخاريّ» : ...
(وفي «سنن أبي داود» ) السّجستانيّ في كتاب «الطّبّ» (مرفوعا) ولفظه:
حدّثنا مخلد بن خالد، وعبّاس العنبري؛ قالا: حدّثنا عبد الرّزاق؛ قال:
أخبرنا معمر؛ عن يحيى بن عبد الله بن بحير، قال: أخبرني من سمع فروة بن مسيك رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض «أبين» هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبيئة، أو قال: وباؤها شديد؟؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «دعها عنك ف (إنّ من القرف) - بفتحتين-: ملابسة الدّاء، ومداناة المرض» ، كما سيأتي تفسيره في المتن عن المصنّف: (التّلف» ) ؛ أي:
الهلاك، وليس هذا من باب العدوى؟! وإنّما هو: من باب الطّبّ، فإنّ استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحّة الأبدان، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام؛ قاله في «النّهاية» .
(قال) الإمام أبو محمّد عبد الله بن مسلم (بن قتيبة) الدّينوري.
ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد، وسكن الكوفة، ثمّ ولي قضاء «الدّينور» مدة فنسب إليها، وتوفّي ببغداد سنة: ستّ وسبعين ومائتين، وهو من المصنّفين المكثرين؛ له كتاب «أدب الكاتب» ، و «تأويل مختلف الحديث» ، و «مشكل القرآن» ، و «المشتبه من الحديث والقرآن» وغيرها رحمه الله تعالى قال:
(القرف) - بفتح القاف والرّاء آخره فاء هو: (مداناة الوباء) ؛ أي:
مقاربته، وكلّ شيء قاربته؛ فقد قارفته (ومداناة المرضى) جمع مريض، أي:
القرب منهم، ومخالطتهم؛ وملاصقتهم. والله أعلم.
(وفي «صحيح) الإمام (البخاريّ» ) رحمه الله تعالى، وكذا رواه الإمام(4/174)
عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشّفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار.
وأنهى أمّتي عن الكيّ» .
أحمد، وابن ماجه (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«الشّفاء في ثلاث) الحصر المستفاد من تعريف المبتدأ «ادّعائيّ» . بمعنى: أنّ الشّفاء في هذه الثّلاثة بلغ حدّا كأنّه انعدم به من غيرها، ولم يرد الحصر الحقيقيّ!! فإنّ الشّفاء قد يكون في غيرها! وإنّما نبّه بها على أصول العلاج:
(شربة) - بالجرّ؛ بدل من سابقه- (عسل) نحل، لأنّه مسهّل للأخلاط البلغميّة، (وشرطة محجم) يتفرّغ بها الدّم الّذي هو أعظم الأخلاط عند هيجانه؛ لتبريد المزاج، والمحجم- بكسر الميم؛ وسكون المهملة؛ وفتح الجيم-: الآلة التي يجمع فيه دم الحجامة عند المصّ، ويراد به هنا: الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة. يقال: شرطة الحاجم: إذا ضرب موضع الحجامة، لإخراج الدّم وقد تتناول الفصد.
وأيضا: الحجامة في البلاد الحارّة أنفع من الفصد، والفصد في البلاد الّتي ليست بحارّة أنجح من الحجم. انتهى «قسطلّاني» .
(وكيّة نار) تستعمل في الخلط الباغي، الّذي لا تنحسم مادّته إلّا به، فهو خاصّ بالمرض المزمن، لأنّه يكون من مادّة باردة قد تفسد مزاج العضو! فإذا كوي خرجت منه. وآخر الدّواء الكيّ. و «كيّة» مضافة لتاليها.
(وأنهى أمّتي) نهي تنزيه (عن الكيّ» ) لما فيه من الألم الشّديد، والخطر العظيم.
وكانوا يبادرون إليه قبل حصول الاضطرار إليه؛ يستعجلون بتعذيب الكيّ لأمر مظنون! فنهى صلى الله عليه وسلم أمّته عنه لذلك، وأباح استعماله على جهة طلب الشّفاء من الله تعالى.(4/175)
وفي «سنن ابن ماجه» : عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما مررت ليلة أسري بي بملأ..
إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة» ...
وأخذ من إثباته الشّفاء في الكيّ، وكراهته له؛ أنه لا يترك مطلقا، ولا يستعمل مطلقا، بل عند تعيّنه طريقا إلى الشّفاء، مع مصاحبة اعتقاد أنّ الشّفاء بإذن الله تعالى
وعلى هذا التّفصيل يحمل حديث المغيرة: «من اكتوى واسترقى برىء من التّوكّل» والله أعلم. انتهى شروح «الجامع الصّغير» .
(وفي «سنن ابن ماجه) محمد بن يزيد القزويني رحمه الله تعالى قال: حدّثنا جبارة بن المغلّس؛ قال: حدّثنا كثير بن سليم؛ (عن أنس) ؛ أي: ابن مالك لأنّه المراد عند إطلاق لفظ «أنس» ، فإذا أريد غيره قيّد (رضي الله تعالى عنه) ، وهو حديث منكر، لأنّ فيه كثير بن سليم الضّبيّ ضعّفوه- كما في «الميزان» وعدّوا من مناكيره هذا-؛ قاله المناوي.
ورواه التّرمذيّ؛ عن ابن مسعود بمخالفة يسيرة، وفي سنده راو مضعّف، وقال التّرمذيّ: حسن غريب، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(قال) ؛ أي: أنس: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت ليلة أسري بي) إلى السّماء (بملأ) ؛ أي: جماعة (إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة) ؛ لأنهم من بين الأمم كلّهم أهل يقين، فإذا اشتعل نور اليقين في القلب ومعه حرارة الدّم؛ أضرّ بالقلب وبالطّبع.
وقال التّوربشّتي: وجه مبالغة الملائكة في الحجامة سوى ما عرف منها من المنفعة العائدة على الأبدان: أنّ الدّم مركّب من القوى النّفسانيّة الحائلة بين العبد؛ وبين التّرقّي إلى الملكوت الأعلى، والوصول إلى الكشوف الرّوحانية وغلبته تزيد جماح النّفس وصلابتها، فإذا نزف الدّم أورثها ذلك خضوعا وجمودا ولينا ورقّة، وبذلك تنقطع الأدخنة المنبعثة عن النّفس الأمّارة، وتنحسم مادّتها؛ فتزداد البصيرة نورا إلى نورها. انتهى «مناوي» .(4/176)
ورواه التّرمذيّ: عن ابن عبّاس بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» .
وقد روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة والفصد» .
وفي حديث: «خير الدّواء.. الحجامة والفصد» .
(ورواه) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ) مطوّلا، وابن ماجه، والحاكم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما، وفي سنده عبّاد بن منصور النّاجي: ضعّفه أبو حاتم، وليّنه أبو زرعة، وفي «التقريب» : إنّه صدوق رمي بالقدر، وكان يدلّس، وتغيّر بأخرة. وفي «الخلاصة» : قال القطّان: ثقة؛ لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه. يعني: القدر. انتهى. ولذلك قال التّرمذيّ فيه: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث عبّاد بن منصور. وقال الحاكم: صحيح.
وأقرّه الذّهبيّ.
(بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» ) ؛ أي: الزمها ومر أمّتك بها. كما تقدّم-.
وذلك دلالة على عظيم فضلها، وبركة نفعها، وإعانتها على التّرقّي في الملكوت الأعلى- كما تقدم آنفا-.
(وقد روي) بسند ضعيف، وفي «العزيزي» : أنّه حديث حسن لغيره، رواه أبو نعيم في «الطّبّ النّبويّ» ؛ عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:
«خير ما) ؛ أي: دواء (تداويتم به: الحجامة) سيّما في البلاد الحارّة، (والفصد) والحجامة أنفع لأهل البلاد الحارّة، والفصد لغيرهم أنفع.
(وفي حديث) آخر رواه أبو نعيم أيضا بسند ضعيف في كتاب «الطّبّ النّبويّ» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه بلفظ:
( «خير الدّواء الحجامة والفصد» ) لمن لاق به ذلك وناسب حاله مرضا؛ وسنا؛ وقطرا؛ وزمنا، وغير ذلك.(4/177)
وروى التّرمذيّ في «جامعه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يرفعه: «إنّ خير ما تحتجمون فيه يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فأصابه بياض، أو برص.. فلا يلومنّ إلّا نفسه» .
(وروى) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ في «جامعه» ) كتاب «الطّبّ» ، والحاكم في «المستدرك» كلّهم؛ من طريق عبّاد بن منصور المذكور قريبا.
وما قيل فيه سابقا يقال هنا، لأنّه حديث واحد، ذكر هنا قطعة منه حيث قال:
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما يرفعه) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( «إنّ خير ما تحتجمون فيه: يوم سابع عشرة) من الشّهر، (أو تاسع عشرة) منه، (ويوم إحدى وعشرين) منه لا سيّما إذا وافق يوم الإثنين!! فإنّه أجود أيّام الحجامة.
و «عشرين» في هذه الرّواية- بالنّصب- والجيّد أن يكون مرفوعا، لأنّه خبر، فيتكلّف له تقدير ناصب، مثل: وترى الأخيرية إحدى وعشرين؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
(و) روى الخلّال؛ عن أبي سلمة، وأبي سعيد المقبري؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
( «من احتجم يوم الأربعاء؛ أو يوم السّبت، فأصابه بياض؛ أو برص، فلا يلومنّ إلّا نفسه» ) فإنّه الّذي عرّض جسده لذلك، وتسبّب فيه.
روى الدّيلمي؛ عن أبي جعفر النّيسابوري؛ قال: قلت يوما «هذا الحديث غير صحيح» ، فافتصدت يوم الأربعاء؛ فأصابني برص!! فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّوم فشكوت إليه؟! فقال: «إيّاك والاستهانة بحديثي» .. فذكره.(4/178)
وروى الدّارقطنيّ ...
وقد كره الإمام أحمد الحجامة يوم السّبت والأربعاء لهذا الحديث.
والظّاهر أنّ الفصد مثل الحجامة في اجتنابه في الأيّام المنهيّ عنها. والله أعلم.
ورواه أيضا الحاكم، والبيهقي في «سننه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
«من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فرأى في جسده وضحا «1» !؟ فلا يلومنّ إلا نفسه» . قال الحاكم: صحيح، وردّه الذّهبيّ؛ بأنّ فيه سليمان بن أرقم؛ متروك!! وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ؛ قاله المناوي.
(وروى) الإمام الحافظ؛ وحيد دهره؛ وفريد عصره: عليّ بن عمر بن مهدي: أبو الحسن (الدّارقطنيّ) - بفتح الدّال المهملة، وبعد الألف راء مفتوحة، ثمّ قاف مضمومة، وبعدها طاء مهملة ساكنة، ثمّ نون مكسورة آخره ياء، نسبة إلى «دار القطن» محلّة كبيرة ببغداد-. الشّافعيّ.
ولد سنة: ست وثلثمائة ب «دار القطن» ، وكان عالما؛ حافظا؛ فقيها على مذهب الإمام الشّافعي، أخذ الفقه عن أبي سعيد الاصطخريّ، وانفرد بالإمامة في علم الحديث في عصره؛ فلم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه، وتصدّر في آخر أيّامه للإقراء ببغداد، وكان عارفا باختلاف الفقهاء، وأخذ عنه الحافظ أبو نعيم صاحب «الحلية» وجماعة.
وكانت وفاته سنة: خمس وثمانين وثلثمائة؛ وقد قارب الثّمانين.
وكان متفنّنا في علوم كثيرة؛ وإماما في علوم القرآن، تصدّر في آخر أيّامه للإقراء ببغداد.
وله من المصنّفات: كتاب «السنن» ، وكتاب «العلل» الواردة في الأحاديث
__________
(1) الوضح- بفتحتين-: الضوء والبياض؛ وقد يكنّى به عن البرص ا. هـ «مختار» . (عبد الجليل) .(4/179)
من حديث نافع قال: لي عبد الله بن عمر: تبيّغ بي الدّم، فأبغني حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحجامة.. تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا، ...
النّبويّة: ثلاث مجلّدات، و «المجتبى من السّنن المأثورة» و «المؤتلف والمختلف في الحديث» ، وكتاب «الضّعفاء» .
وتوفي ببغداد، وصلى عليه الشّيخ أبو حامد الإسفرائينيّ الفقيه المشهور رحمهم الله تعالى. آمين.
روى هذا الحديث في كتاب «الأفراد» ؛ (من حديث) أبي عبد الله (نافع) بن هرمز- ويقال ابن كاوس- سبي وهو صغير فاشتراه عبد الله بن عمر.
وهو تابعيّ جليل سمع سيّده ابن عمر؛ وأبا هريرة؛ وأبا سعيد الخدري؛ وعائشة؛ وغيرهم من الصّحابة والتّابعين.
روى عنه أبو إسحاق السّبيعيّ والزّهريّ، وصالح بن كيسان؛ وغيرهم من التابعين ومن تابع التابعين، سمع منه مالك؛ وابن جريج؛ والأوزاعيّ؛ واللّيث، وخلائق لا يحصون.
وأجمعوا على توثيقه وجلالته. وكان ثقة كثير الحديث.
مات بالمدينة المنورة سنة: سبع عشرة ومائة رحمه الله تعالى.
(قال) ؛ أي: نافع: (قال لي عبد الله بن عمر) بن الخطّاب «مولاه» :
(تبيّغ) - بمثنّاة فوقيّة فموحّدة؛ مفتوحتين، فمثنّاة تحتيّة مشدّدة مفتوحة، فغين معجمة آخره؛ من باب التّفعّل- أي: هاج (بي الدّم) وغلب، وذلك حين تظهر حمرته في البدن.
(فأبغني) يقال: أبغني كذا- بهمزة القطع-؛ أي: أعنّي على الطّلب، وبهمزة الوصل-: أي: اطلب لي (حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحجامة تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا،(4/180)
فاحتجموا على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة، والسّبت، والأحد. واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» .
وقد روى أبو داود في «سننه» : من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنّه كان يكره الحجامة يوم الثّلاثاء. وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم الثّلاثاء.. يوم الدّم، فاحتجموا) معتمدين (على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة؛ والسّبت؛ والأحد؛ واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام، ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» ) .
قال الدّارقطني: تفرّد بهذا الحديث زياد بن يحيى، وقد رواه أيّوب عن نافع، وقال فيه: «واحتجموا يوم الاثنين والثّلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء» . ذكره ابن القيّم قال:
(وقد روى أبو داود في «سننه» ) ؛ كتاب «الطّبّ» بسند فيه بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، قال ابن معين: ليس بشيء، وابن عدي: هو من جملة الضّعفاء الذين يكتب حديثهم. وقال الذّهبيّ: إسناده ليّن، وأمّا زعم ابن الجوزيّ وضعه؟ فلم يوافقوه عليه. انتهى «مناوي» .
(من حديث أبي بكرة) - بفتح الموحّدة-: واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة (رضي الله تعالى عنه: أنّه) ؛ أي: أبا بكرة (كان يكره الحجامة يوم الثّلاثاء) لفظ أبي داود: كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثّلاثاء- (وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الثّلاثاء) - بالمدّ- (يوم الدّم) برفع «يوم» وإضافته إلى الدّم، أي: يوم غلبة الدّم وهيجانه، أي: يفور فيه الدّم، فيحذر من إخراجه فيه بفصد أو غيره؛ لئلّا يصادف وقت فوران الدّم، فلا ينقطع فيموت.
ويحتمل أن يكون المراد «يوم الدّم» : أي: أوّل يوم أريق فيه الدّم بغير حقّ،(4/181)
وفيه ساعة لا يرقأ» .
فإنّه اليوم الذّي قتل فيه قابيل أخاه هابيل.
(وفيه) ؛ أي: يوم الثلاثاء (ساعة) ؛ أي: لحظة (لا يرقأ) - بهمز آخره- أي: لا ينقطع فيها دم من احتجم أو افتصد، وربما هلك الإنسان فيها بسبب عدم انقطاع الدّم. قال ابن جرير: قال زهير: مات عندنا ثلاثة ممّن احتجم.
وأخفيت هذه السّاعة!! لتترك الحجامة فيه كلّه؛ خوفا من مصادفتها، كما أخفيت ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر.
وأخرج الدّيلمي؛ عن أنس مرفوعا: «الحجامة على الرّيق دواء، وعلى الشّبع داء، وفي سبعة عشر من الشّهر شفاء، ويوم الثّلاثاء صحّة للبدن» .
وأخرج ابن سعد، والبيهقيّ- وضعّفه- عن معقل بن يسار؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحجامة يوم الثّلاثاء لسبع عشرة مضت من الشّهر دواء لداء سنة» .
ويجمع بين هذا الاختلاف بحمل طلب الحجامة في الثّلاثاء؛ على ما إذا كان موافقا السّابع عشر من الشّهر. وبحمل التّحذير منها فيه؛ على ما إذا لم يوافق السّابع عشر من الشّهر. والله أعلم.
روى أبو يعلى؛ من حديث الحسين بن علي مرفوعا: «في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل يحتجم فيها إلّا مات» .
قال المناوي: يحتمل أنّ المراد به يوم الجمعة، فيكون كيوم الثّلاثاء في ذلك، ويحتمل أنّ المراد الجمعة كلّها يعني: الأسبوع. وأنّ الحديث المشروح عيّن تلك السّاعة، في يوم الثّلاثاء، والأوّل أقرب، ولم أر من تعرّض له. انتهى.
وفي «فتاوي ابن حجر الفقهيّة» قبيل باب «المسابقة والمناضلة» ما نصّه:
وسئل رحمه الله تعالى: هل ورد النّهي عن الحجامة في بعض الأيّام؛ والأمر بها في البعض؟ فأجاب بقوله: نعم، ورد- بل صحّ- النّهي عنها يوم الجمعة؛(4/182)
وروى التّرمذيّ في «جامعه» وابن ماجه في «سننه» : عن أسماء بنت عميس ...
والسّبت؛ والأحد؛ والأربعاء،!! وفي روايات أخر: «إنّ يوم الثّلاثاء يوم الدّم، وإنّ فيه ساعة لا ينقطع فيها الدّم، وإنّه يخشى منها يوم الأربعاء والسّبت البرص، وأنّ في يوم الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلّا مات» . وصح الأمر بها يوم الخميس والإثنين. والله سبحانه أعلم. انتهى.
قال الباجوري؛ على «الشّمائل التّرمذيّة» : وأفضل الأيّام لها: يوم الإثنين، وأفضل السّاعات لها: السّاعة الثانية والثالثة من النّهار. وينبغي ألاتقع عقب استفراغ؛ أو حمّام؛ أو جماع، ولا عقب شبع؛ ولا جوع، ومحلّ اختيار الأوقات المتقدّمة عند عدم هيجان الدّم. وإلّا وجب استعمالها وقت الحاجة إليها.
انتهى.
(وروى التّرمذيّ في «جامعه» ) وقال: غريب، (وابن ماجه في «سننه» ) ، والإمام أحمد، والحاكم. وقال الذّهبي: صحيح. كلّهم في «الطّبّ» ؛
(عن أسماء بنت عميس) - بعين مهملة مضمومة، ثمّ ميم مفتوحة مخفّفة، ثمّ ياء مثنّاة من تحت ساكنة، ثمّ سين مهملة آخره مصغرا الخثعميّة-.
كانت تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ثمّ قتل عنها يوم مؤتة، وولدت له عبد الله؛ ومحمّدا؛ وعونا.
ثم تزوّجها أبو بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه فمات عنها، وولدت له محمّد ابن أبي بكر. ثمّ تزوجها عليّ رضي الله عنه وولدت له يحيى.
روى عنها من الصّحابة: عمر بن الخطّاب، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن عبّاس، وابنها عبد الله بن جعفر. ومن غير الصّحابة: عروة بن الزّبير؛ وعبد الله بن شدّاد.
وأسماء المذكورة أخت ميمونة بنت الحارث «زوج النبي صلى الله عليه وسلم» ، وأخت(4/183)
رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«بماذا كنت تستمشين؟» ، قالت: بالشّبرم، قال: «حارّ..
حارّ» ، ثمّ قالت: استمشيت بالسّنى ...
أمّ الفضل امرأة العبّاس وأخت أخواتها لأمّهنّ، وكنّ عشر أخوات لأمّ، وقيل:
تسع.
وكانت أسماء المذكورة أكرم النّاس أصهارا، فمن أصهارها: رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة، والعبّاس وغيرهم.
أسلمت أسماء قديما، قال ابن سعد: أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها بعد عليّ بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنها) وعنهم أجمعين.
(قالت) ؛ أي: أسماء (: قال) لي (رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا) ؛ أي: بأيّ دواء (كنت تستمشين؟!» ) - أي: تطلبين مشي بطنك- أي: إخراج ما فيه.
(قالت: بالشّبرم) - بضمّ الشّين المعجمة والرّاء بينهما موحّدة ساكنة وآخره ميم، وقد يفتح أوّله- (قال: «حارّ حارّ» ) ؛ أي: شديد الحرارة، فالثّاني تأكيد لفظي، ويحتمل أن الثّاني بجيم، وشدّ الرّاء إتباع ل «حارّ» بمهملتين؛ كما في «النّهاية» ، يقال: حار جار، ويقال: حار يار- بمثنّاة تحتيّة- على الإتباع أيضا.
(ثمّ قالت) ؛ أي: أسماء (: استمشيت بالسّنى) - بفتح السّين والنّون، والقصر وقد يمدّ-: نبت معروف أجوده ما يكون بمكّة.
وشرب مائه مطبوخا أصلح من شرب «1» مدقوقا، ومقدار الشّربة منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم. وله منافع كثيرة؛
منها أنه إذا طبخ في زيت، وشرب نفع من أوجاع الظّهر والوركين.
__________
(1) لعلها: شربه.(4/184)
فقال: «لو كان شيء يشفي من الموت.. كان السّنى» .
و (الشّبرم) : قشر عرق شجرة.
(فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (: «لو كان شيء يشفي من الموت؛ كان السّنى» ) مبالغة في كثرة منافعه.
وذكر المحاسبيّ في كتابه المسمّى ب «المقصد والرّجوع إلى الله» : أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم شرب السّنا بالتّمر، أي: وضعهما في الماء، وشربه، أي: ليبس الطّبيعة، وبوضعهما في الماء، يندفع اجتماع حارّين، المنهيّ عنه عند الأطبّاء لضرره؛ ذكره الزرقاني مع «المواهب» .
وذكر في «المواهب» أيضا: أن الحميديّ ذكر في كتاب «الطّبّ النّبويّ» له:
أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والشّبرم!! فإنّه حارّ حارّ، وعليكم بالسّنى، فتداووا به، فلو دفع الموت شيء، لدفعه السّنى» !! انتهى.
قال العلماء: (والشّبرم) - بالشّين المعجمة المضمومة، والموحّدة السّاكنة، والرّاء المهملة المضمومة، وآخره ميم؛ كقنفذ- هو: (قشر عرق شجرة) . وفي «النّهاية» : حبّ يشبه الحمّص؛ يطبخ ويشرب ماؤه للتّداوي. وقال أبو حنيفة:
الشّبرم شجرة حارّة تسمو على ساق؛ كقعدة الصّبيّ أو أعظم، لها ورق طوال رقاق، وهي شديدة الخضرة، وزعم بعض الأعراب: أن لها حبّا صغارا كجماجم الحمر!!
وقيل: الشّبرم: نبات آخر سهليّ، له ورق طوال كورق الحرمل، وله حبّ كالعدس، أو شبه الحمّص، وله أصل غليظ ملآن لبنا، والكلّ مسهل. واستعمال لبنه خطر جدّا، وإنّما يستعمل أصله مصلحا؛ بأن ينقع في الحليب يوما وليلة، ويجدّد اللّبن ثلاث مرات، ثمّ يجفّف وينقع في عصير الهندباء والرازيانج، ويترك ثلاثة أيام، ثمّ يجفّف، وتعمل منه أقراص مع شيء من التّربد؛ والهليلج؛ والصّبر، فإنّه دواء فائق. انتهى. «شرح القاموس» «1» .
__________
(1) بل هو بتمامه في «القاموس» . (عبد الجليل) .(4/185)
وفي «سنن ابن ماجه» : عن عبد الله بن أمّ حرام [رضي الله تعالى عنه]- وكان ممّن صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القبلتين- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«عليكم بالسّنى والسّنّوت، فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ» ، قيل: يا رسول الله؛ وما السّامّ؟ قال: «الموت» .
قال في «المواهب» : وهو من الأدوية الّتي منع الأطبّاء من استعمالها، لخطرها وفرط إسهالها، وإنّما أجازوه بالتّدبير الّذي رأيت عن «القاموس» .
(وفي «سنن ابن ماجه) و «مستدرك الحاكم» كلاهما في «الطّبّ» ؛ من حديث عمرو بن بكر السّكسكي؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن أبي عبلة.
(عن عبد الله بن أمّ حرام) وهو عبد الله بن عمرو، وقيل: بن كعب الأنصاريّ. نزل بيت المقدس، وهو آخر من مات من الصّحابة بها، وزعم ابن حبّان: أن اسمه سمعون، له هذا الحديث، قال الحاكم: إنّه حديث صحيح، وردّه الذّهبيّ بأنّ عمرو بن بكر السّكسكي المذكور اتّهمه ابن حبّان! وقال ابن عديّ: له مناكير! انتهى.
(وكان) ؛ أي: عبد الله ابن أمّ حرام (ممّن صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين) ؛ أي: إليها، أي: الكعبة، وبيت المقدس (قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسّنى) قال ابن الأثير: يروى بضمّ السّين؛ والفتح أفصح، أي: وبالقصر: نبت معروف.
(والسّنّوت) - بوزن التّنّور والسّنّور، وسيأتي معناه- (فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ) - بمهملة من غير همز-.
(قيل يا رسول الله: وما السّامّ؟ قال: «الموت» ) فيه أنّ الموت داء من جملة الأدواء، قال الشّاعر:
...
كذاك الموت ليس له دواء(4/186)
و (السّنى) : نبت حجازيّ، أفضله المكّيّ. واختلف في معنى (السّنّوت) على أقوال، وأقربها إلى الصّواب: أنّه ...
(والسّنا) - بفتح السّين والقصر، وبعضهم يرويه بالمدّ-: (نبت) ذو ورق رقيق، واحدته سناة، ومنه (حجازيّ) ؛ أي: نبت في الحجاز. ومنه ما يأتي من نواحي صعيد مصر، و (أفضله المكّيّ) ؛ أي: الّذي يأتي من مكّة.
وهو دواء شريف، مأمون الغائلة، قريب الاعتدال، يسهّل الصّفراء؛ والسّوداء؛ والبلغم؛ والدّم؛ كيف استعمل فهو موافق للأخلاط الأربعة، بعضها بالطّبع، وبعضها بالخاصّيّة على زعم الأطبّاء، وما طبخ منه أجود ممّا لم يطبخ، فيشرب من مائة خمسة دراهم إلى سبعة دراهم، ولا يزاد عليها!.
قال في «الهدي» : شرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا، ومقدار الشّرب منه إلى ثلاثة دراهم، ومن مائه إلى خمسة دراهم، وإذا أغلي بالزّيت نفع لوجع الظهر والوركين، وينفع للحكّة والجرب.
(واختلف في معنى السّنّوت) - بالفتح؛ كتنّور على المشهور، ويروى بضمّ السّين، فلا عبرة بمن أنكره، وفيه لغة على مثال سنّور وأفصحها الفتح- (على أقوال) . فقيل: هو الزّبد «1» ، وقيل: هو الجبن المعروفان وقيل: هو الرّب «2» بضمّ الرّاء- أي: ربّ عكّة السّمن يخرج خطوطا سودا على السّمن، فتلك الخطوط هي السّنّوت. وقيل: حبّ يشبه الكمّون؛ وليس به. وقيل: هو الكمّون الكرماني. وقيل إنّه الرّازيانج، وهو الشّمار بلغة اليمن، أو الشّمر بلغة مصر، وقيل: ضرب من التّمر.
(وأقربها إلى الصّواب) في تفسير قوله «عليكم بالسّنى والسّنّوت» (أنّه) ؛
__________
(1) الزّبد: ما يستخرج في اللبن بالمخض. القطعة منه: زبدة. (عبد الجليل) .
(2) الرّبّ: هو الطلاء الخاثر. وزنجبيل. اهـ مختار. الرّبّ: عصارة التمر المطبوخة وما يطبخ في التمر والعنب. (عبد الجليل) .(4/187)
العسل الّذي يكون في زقاق السّمن.
وروى التّرمذيّ: عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت» .
أي: السّنّوت: (العسل) النّحل (الّذي يكون في زقاق السّمن) - بكسر الزّاي-، أي: السّقاء الّذي يجعل فيه، أي: يخلط السّنى حال كونه مدقوقا بالعسل المخالط للسّمن، ثمّ يلعق؛ فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما في العسل والسّمن من إصلاح السّنى، وإعانته على الإسهال، لأنّ رطوبتهما تقاوم اليبس الّذي في السّنى؛ فتصلحه.
(وروى) الإمام أحمد، و (التّرمذيّ) ، وابن ماجه، والحاكم- وصحّحه- كلّهم؛ (عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تداووا من ذات الجنب) المراد بها هنا: رياح غليظة تحتقن تحت الجلد الّتي في الصدر والأضلاع؛ فتحدث وجعا. وليس المراد ذات الجنب الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه الأطبّاء!! لأنّه من الأمراض المخوفة- كما سيأتي-.
(بالقسط) - بضمّ القاف- وفي لغة: بالكاف بدل القاف (البحريّ) قال المازري: القسط صنفان: بحريّ وهنديّ، والبحريّ هو القسط الأبيض، ويؤتى به من بلاد المغرب، وهو أفضل من الهنديّ. وأقلّ حرارة منه.
وقيل: هما حارّان يابسان، والهنديّ أشدّ حرّا.
وتعقّبه القرطبيّ: بأنّ البحريّ الأبيض أحد نوعي العود الهندي، فكيف يؤتى به من بلاد المغرب. والفرض أنّه هندي؟! إلا أن يعني بالمغرب: المغرب من بلاد الهند. انتهى.
وبذلك يعلم أنّ المراد بالبحري أحد نوعي الهنديّ، وهو الأبيض البحريّ.
لكن في «شرح القسطلّاني» : أنّ البحريّ يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب.
(والزّيت) المسخّن بأن يدقّا ناعما ويخلط به، ويدلك به محلّه، أو يلعق،(4/188)
و (ذات الجنب) : ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن للأضلاع، وألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب.
فإنّه نافع له، محلّل لمادّته، مقوّ للأعضاء الباطنة؛ يفتح للسّدد، وغير ذلك.
قال بعض العلماء: على المريض والطّبيب أن يعمل على أنّ الله أنزل الدّاء والدّواء، وأنّ المرض ليس بالتخليط؛ وإن كان معه، وأنّ الشّفاء ليس بالدّواء؛ وإن كان عنده، وإنّما المرض بتأديب الله، والبرء برحمته، حتى لا يكون كافرا بالله؛ مؤمنا بالدّواء، كالمنجّم إذا قال: «مطرنا بنوء كذا» ، ومن شهد الحكمة في الأشياء، ولم يشهد مجريها، صار بما علم منها أجهل من جاهلها؛ قاله الزّرقاني.
(وذات الجنب: ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن) ؛ أيّ: الدّاخل (للأضلاع) ؛ أي: فيها بحيث جعل كالبطانة، وهذا هو ذات الجنب الحقيقيّ الّذي تكلّم عليه الأطبّاء.
ويحدث بسببه خمسة أمراض: الحمّى؛ والسّعال؛ والنّخس؛ وضيق النّفس؛ والنّبض المنشاري، أي: أنّ العروق تحرّك تحركا شديدا لأعلى ولأسفل، حركة تشبه حركة المنشار؛ وهو من الأمراض المخوفة. وهو من سيّء الأسقام، ولذا قال صلى الله عليه وسلم- لمّا لدّوه في مرضه؛ ظنّا منهم أنّ به ذات الجنب-:
«ما كان الله ليسلّطها عليّ» . أي: ما كان الله مريدا لأن يسلّطها عليّ رحمة بي، ورأفة عليّ.
(و) قد تطلق «ذات الجنب» على ما ذكره بقوله: (ألم يشبهه) ؛ أي: يشبه الورم الحارّ، الّذي هو ذات الجنب الحقيقيّ (يعرض) ذلك الألم (في نواحي الجنب) من رياح غليظة؛ مؤذية، تحتقن بين الصّفاقات «1» والعضل «2» الّتي في
__________
(1) الصفاقات- بكسر الصاد وتخفيف الفاء-: الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر. انتهى «زرقاني» . (هامش الأصل) .
(2) العضل؛ جمع عضلة- بفتح المهملة والمعجمة-: كل عصبة معها لحم غليظ. انتهى «زرقاني» . (هامش الأصل) .(4/189)
و (القسط البحريّ) هو: العود الهنديّ.
وفي «الصّحيحين» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة، والقسط البحريّ، ...
الصّدر والأضلاع، يداوي به الرّيح الغليظة.
وقد تطلق «ذات الجنب» على وجع الخاصرة (والقسط) - بضمّ القاف- (البحريّ هو: العود الهنديّ) الّذي يتبخّر به.
وقال اللّيث: عود يجاء به من الهند؛ يجعل في البخور والدّواء.
وقال بعضهم: العود خشب يأتي من قمار من الهند، ومن مواضع أخر، وأجوده القماريّ الرّزين؛ الأسود اللّون؛ الذّكي الرّائحة، الذّائب إذا ألقي على النّار، الرّاسب في الماء، ومزاجه حارّ يابس. انتهى «شرح القاموس» .
(وفي «الصّحيحين» ) - كذا في النّسخ الّتي بأيدينا؛ وهو كذلك في «زاد المعاد» ، ولم أجده في «مسلم» بهذا اللّفظ!! وأمّا البخاري فلفظه: «إنّ أمثل ما تداويتم به: الحجامة والقسط البحريّ، ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط» . والحديث باللّفظ الّذي أورده المصنّف مذكور في «الجامع الصّغير» قال العزيزي: حديث صحيح، ورمز له في «الجامع الصّغير» برمز الإمام أحمد والنّسائي؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
( «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة) لا سيّما في البلاد الحارّة، (والقسط) - بضمّ القاف- (البحريّ) وهو الأبيض.
قال العلقمي: القسط ضربان: أحدهما الأبيض الّذي يقال له البحريّ، والآخر الهنديّ؛ وهو أشدّهما حرّا، والأبيض ألينهما ومنافعهما كثيرة جدا، وهما حارّان يابسان ينشّفان البلغم، ويقطعان الزّكام. وإذا شربا نفعا من ضعف الكبد والمعدة، ومن بردها، ومن حمّى الرّبع والورد، وقطعا وجع الجنب، ونفعا من السّموم.
انتهى.(4/190)
ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة» .
وفي «السّنن والمسند» عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ يسيل منخراه دما- فقال: «ما هذا؟» ، قالوا: به العذرة، أو: وجع في رأسه، ...
وقال القرطبّي: البحريّ الأبيض أحد نوعي العود الهندي- كما تقدّم-.
(ولا تعذّبوا صبيانكم) ؛ أي: أطفالكم (بالغمز) - بالغين المعجمة، والزّاي آخره- بأن يدخل أحدكم نحو الإصبع في حلق الطّفل، ويغمز محلّ الوجع؛ فينفجر منه دم أسود (من العذرة) - بضمّ المهملة، وسكون المعجمة-: وجع في الحلق يعتري الأطفال غالبا. وقيل: قرحة تخرج بين الأذن والحلق، سمّيت به!! لأنها تخرج عند طلوع العذراء؛ كوكب تحت الشّعراء، وطلوعها يكون في الحرّ.
والمراد عالجوا العذرة بالقسط، بأن يسحق ويجعل في زيت، ويسخّن يسيرا على النّار، ويسقى الطّفل، ولا تعذّبوهم بالغمز، لأنّ مادّة العذرة دم يغلب عليه بلغم. وفي القسط تخفيف للرّطوبة، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن الغمز وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال. وأسهل عليهم.
(وفي «السّنن والمسند» ) للإمام أحمد؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ رضي الله تعالى عنهما (قال:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ) صغير (يسيل منخراه) ؛ تثنية منخر، وفيه خمس لغات نظمها بعضهم؛ فقال:
افتح لميم منخر وخائه ... واكسرهما، وضمّ أيضا معلنا
وزد كمجلس وعصفور وقل ... خمس ب «قاموس» أتت فأتقنا
(دما، فقال:
«ما هذا؟» ) الّذي بهذا الصّبيّ. (قالوا: به العذرة، أو وجع في رأسه.(4/191)
فقال: «ويلكنّ؛ لا تقتلن أولادكنّ، أيّما امرأة أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه.. فلتأخذ قسطا هنديّا، فتحكّه بماء، ثمّ تسعطه
فقال: «ويلكنّ) كلمة تقال لمن وقع في هلكة ولا يترحّم عليه، بخلاف «ويح» (لا تقتلن أولادكنّ) ؛ أي: لا تفعلن ما يكون سببا لقتلهم.
(أيّما امرأة) - بزيادة «ما» ، لإفادة التّعميم- (أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه؛ فلتأخذ قسطا) - بضمّ القاف وبالطّاء، قال «البخاري» وهو الكست.
يعني: بالكاف والفوقية- قال: مثل الكافور والقافور، ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله بن مسعود [قشطت] «1» قال «القرطبي» : وهذا من التّعاقب بين الحرفين. (هنديّا) يجلب من الهند. وهو نوعان: أسود وأبيض، ويقال له:
بحريّ، وهو المراد هنا، لحديث زيد بن أرقم: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ، والزّيت» . هذا مفاد كلام القرطبي.
وقال القسطلّاني في «شرح البخاري» : البحريّ ما يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، وزاد بعضهم ثالثا يسمّى ب «القسط المرّ» ، وهو كثير ببلاد الشّام؛ خصوصا السّواحل.
قال في «نزهة الأفكار» : وأجودها البحري، وخياره الأبيض الخفيف الطّيب الرّائحة، وبعده الهندي؛ وهو أسود خفيف، وبعده الثّالث؛ وهو ثقيل، ولونه كالخشب البقس ورائحته ساطعة، وأجود ذلك كلّه: ما كان جديدا ممتلئا غير متاكل يلذع اللّسان. وكلّ دواء مبارك نافع.
(فتحكّه بماء) ؛ أي: تحكّه على حجر بالماء، كذا في «المرقاة» . وقال «القرطبي» : أي: يدقّ ناعما.
(ثمّ تسعطه) - بفتح التّاء والعين، وبضمّ العين؛ من سعط: كمنع ونصر،
__________
(1) من قوله تعالى وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ [11/ التكوير] . وأما قراءة ابن مسعود رضي الله عنه [قشطت] فهي قراءة شاذّة.(4/192)
إيّاه» ، فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ.
و (العذرة) : تهيّج في الحلق من الدّم.
وقيل: قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق، وتعرض للصّبيان غالبا.
و (القسط البحريّ) : هو العود الهنديّ، وهو الأبيض منه، وفيه منافع عديدة، ...
وبضمّ التّاء وكسر العين؛ من أسعط (إيّاه» ) ؛ أي: تصبّه في أنفه.
قال القرطبي: وهل يسعط به مفردا أو مع غيره؟! يسأل عن ذلك أهل المعرفة والتّجربة. ولا بدّ من النفع به، إذ لا يقول صلى الله عليه وسلم إلّا حقّا.
(فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ) .
قال في «المرقاة» : وقد حصل هذا المرض لولدي؛ وألحّ به، فأرادوا أن يغمزوا حلقه على طريقة النّساء فمنعتهنّ من ذلك تمسّكا بالحديث، واستعملت له القسط؛ فشفي منه سريعا، ولم يعاوده بعد ذلك، ووصفته لجماعة فبرأوا؛ مصداق قوله صلى الله عليه وسلم.
(والعذرة) - بضمّ العين المهملة، وسكون الذّال المعجمة- (تهيّج) ؛ أي:
ثوران ورم (في الحلق من الدّم) الّذي يغلب عليه البلغم.
(وقيل) هي: (قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق) ، أو تخرج في الخرم الّذي بين الأنف والحلق، وهو الّذي يسمّى سقوط اللهاة.
(وتعرض للصّبيان غالبا) في زمن الحرّ.
(والقسط) - بضم القاف وبالطّاء- (البحريّ: هو العود الهنديّ) الّذي يجلب من الهند، (وهو) نوعان: أسود وأبيض، والمراد هنا (الأبيض منه، وفيه منافع عديدة)(4/193)
وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة، وبالعلاق؛ وهو شيء يعلّقونه على الصّبيان، فنهاهم صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم.
و (السّعوط) : ما يصبّ في ...
يدرّ الطّمث والبول، ويقتل ديدان الأمعاء، ويدفع السّمّ وحمّى الرّبع، وحمّى الورد، ويسخّن المعدة، ويحرّك شهوة الجماع. ويذهب الكلف طلاء.
(وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة) - بفتح اللّام-: اللّحمة الّتي في أقصى الحلق، ويجمع على لهى ولهيات؛ مثل: حصاة وحصى وحصيات، وعلى لهوات أيضا- على الأصل- كما في «المصباح» .
(و) يعالجونهم (بالعلاق) - بكسر العين المهملة وفتحها- (وهو: شيء يعلّقونه على الصّبيان) كالعوذة، وهذا بيان للمراد، وإلّا فالعلاق- لغة-: ما يعلق به الشّيء، ثمّ تفسيره بذلك مخالف لما في «شرح البخاريّ» حيث قال: أعلقت عليه من العذرة؛ أي: رفعت حنكه بأصبعها ففجّرت الدّم.
وفي «الفتح» و «النهاية» وغيرهما: أنّه كانت عادة النّساء إذا أصاب الصّبيّ العذرة تعمد المرأة إلى خرقة تفتلها فتلا شديدا، وتدخلها في أنفه، وتطعن ذلك الموضع، فينفجر منه دم أسود وربّما أقرحه، وكانوا بعد ذلك يعلّقون عليه علاقا كالعوذة.
(فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال، وأسهل عليهم) ، فإنّ القسط يشدّ اللهاة، ويرفعها إلى مكانها؛ لأنّه حارّ يابس.
(والسّعوط) المراد هنا- بفتح السّين، وضمّ العين المهملتين-. أمّا بضمّ السّين؛ فهو الفعل الّذي هو صبّ الدّواء في الأنف. وليس مرادا هنا بل المراد الأوّل وهو:
(ما يصبّ في) الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة ومركّبة تدقّ؛ وتنخل؛(4/194)
أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعهما؛ لينخفض رأسه فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه، ويستخرج ما فيه من الدّاء بالعطاس. وقد مدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر أن يسترقى من العين.
وروى مسلم في «صحيحه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر ...
وتعجن، وتجفّف؛ ثم تحلّ عند الحاجة، ويسعط بها في (أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه) ؛ أي: تحتهما (ما يرفعهما) من نحو مخدّة؛ (لينخفض رأسه، فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه) يعني أنه بهذه الكيفيّة يسهل انحدار السّعوط إلى الدّماغ (ويستخرج ما فيه) ؛ أي: الدمّاغ (من الدّاء بالعطاس) ؛ ذكره ابن القيّم قال:
(وقد مدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه) .
وذكر أبو داود في «سننه» أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعط. انتهى.
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يسترقى) - بالبناء للمفعول- (من العين) بنحو (ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله. أخرجه مسلم في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وفي رواية له؛ عنها أيضا: كان يأمرني أن أسترقي من العين.
(وروى مسلم في) «الطّبّ» ؛ من ( «صحيحه» ) ، والإمام أحمد كلاهما؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«العين حقّ) ؛ أي: أنّ الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، وهو من جملة ما تحقّق وجوده بالفعل، (ولو كان شيء سابق القدر) - بفتحتين-: أي: لو(4/195)
لسبقته العين» .
فرض أنّ لشيء قوّة بحيث يسبق القدر (لسبقته العين) لكنّها لا تسبق القدر، فكيف غيرها؟! فإنه تعالى قدّر المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة.
قال القرطبي: «فلو» . مبالغة في تحقيق إصابة العين، جرى مجرى التّمثيل، إذ لا يردّ القدر شيء، فإنّه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته، ولا رادّ لأمره ولا معقّب لحكمه، فهو كقولهم: لأطلبنّك؛ ولو تحت الثّرى، ولو صعدت السّماء؟!.
قال المازري: وقد أخذ الجمهور بظاهر الحديث من تأثيرها بإرادة الله وخلقه، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأنّ كلّ شيء ليس محالا في نفسه، ولا يؤدّي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل!! فهو من مجوّزات العقول، وكلّ ما جوّزته وأخبر الشّارع بوقوعه وجب قبوله والأخذ بظاهره؛ ولم يكن لإنكاره معنى سوى العناد والمكابرة. وهل من فرق بين إنكارهم إصابة العين؛ وبين إنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة!؟
وقد اشتكى بعض النّاس هذه الإصابة؛ فقال: كيف تعمل العين من بعد، حتّى يحصل الضّرر للمعيون؟
وأجيب: بأنّ طبائع النّاس تختلف، فقد يكون ذلك من سمّ يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون؛ فيحصل الضّرر بتقدير الله. وقد نقل عن بعض من كان معيانا، أنّه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني!!
ويقرّب ذلك: بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللّبن فيفسد!! ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد!!
وكذا تدخل البستان، فتضرّ بكثير من الغروس من غير أن تمسّها!
ومن ذلك: أنّ الصّحيح قد ينظر إلى العين الرّمداء فيرمد!!.
قال المازري: وزعم بعض الطّبائعييّن أنّ العائن ينبعث من عينه قوة سمّيّة تتّصل(4/196)
.........
بالمعيون؛ فيهلك أو يفسد جسمه أو عقله، وهو كإصابة السّمّ من نظر الأفعى.
وأشار المازري إلى منع الحصر في ذلك. أي: خروج سمّيّة من عين العائن، مع تجويز المازريّ خروجها؛ لا على سبيل القطع.
وإنّ الّذي يتمشّى على طريقة أهل السّنّة: أنّ العين إنّما تضرّ عند نظر العائن، بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضّرر عند مقابلة شخص آخر.
وهل ثمّ جواهر خفيّة تخرج من العين أو لا؟! هو أمر محتمل؛ لا يقطع بإثباته ولا نفيه، إذ لا مستند لذلك.
ومن قال ممّن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطّبائع بالقطع؛ بأنّ ثمّ جواهر لطيفة غير مرئيّة تنبعث من العائن فتتّصل بالمعيون؛ وتتخلّل مسامّ جسمه، فيخلق الباري الهلاك عندها؛ كما يخلق الهلاك عند شرب السّمّ!! فقد أخطأ بدعوى القطع، إذ لا دليل عليه، ولكنّه جائز أن يكون عادة ليس ضرورة؛ ولا طبيعة.
انتهى كلام المازري. وهو كلام سديد لموافقته مذهب أهل السّنّة.
وليس المراد بالتّأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة من أنّ إصابة العين صادرة عن تأثير النّفس بقوّتها فيه، فأوّل ما تؤثّر في نفسها؛ ثمّ تؤثّر في غيرها!!.
بل المراد ما أجرى الله به العادة من حصول الضّرر للمعيون بخلق الله تعالى.
وقد أخرج البزّار، والبخاريّ في «التّاريخ» والطّيالسي، والحكيم التّرمذي بسند حسن، وصحّحه «الضّياء» - عن جابر رفعه «أكثر من يموت من أمّتي بعد قضاء الله وقدره بالنّفس» . قال الرّاوي: يعني بالعين. وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواصّ في الأجسام والأرواح؛ كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل؛ فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك! وكذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من النّاس يسقم بمجرّد النّظر إليه؛ وتضعف قواه.(4/197)
وفي «سنن أبي داود» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ، ...
وكلّ ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدّة ارتباطها بالعين، وليست هي المؤثّرة! وإنّما التأثير للرّوح، والأرواح مختلفة في طبائعها، وكيفيّاتها؛ وخواصّها. فمنها ما يؤثّر في البدن بمجرّد الرّؤية؛ من غير اتّصال به، لشدّة خبث تلك الرّوح وكيفيتها الخبيثة.
والحاصل أنّ التّأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتّصال الجسمانيّ، بل يكون تارة به؛
وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرّد الرّؤية، وأخرى بتوجّه الرّوح؛ كالذي يحدث في البدن من الشّفاء من المرض ونحوه بسبب الأدعية والرّقى والالتجاء إلى الله تعالى.
وتارة يقع ذلك بالتّوهّم والتخيّل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنويّ، إن صادف البدن لا وقاية له أثّر فيه الضّرر بخلق الله تعالى، وإلّا! لم ينفذ فيه السّهم، بل ربّما ردّ على صاحبه، كالسّهم الحسّيّ سواء. انتهى ملخّصا من «فتح الباري» وغيره. نقله في «المواهب» وشرحها.
وتمام الحديث: «وإذا استغسلتم فاغسلوا» أي: إذا طلب منكم أيّها المتّهمون بإصابة العين- غسل الأعضاء الآتي بيانها فاغسلوا.
(وفي «سنن أبي داود» ) في كتاب «الطّبّ» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ) ولم يبيّن في حديث ابن عباس صفة الاغتسال؛ ولا في حديث عائشة صفة الوضوء؟!
قال المحقّق محمد بن سليمان الكردي في «حواشي شرح بافضل» «1» : الّذي
__________
(1) في كتابه المسمى «الحواشي المدنية على المقدمة الحضرمية في فقه السادة الشافعية» .(4/198)
ثمّ يغتسل منه المعين.
قال الزّهريّ: ...
يفهمه كلام أئّمتنا تصريحا وتلويحا: أنّ وضوء العائن كغيره، المراد به الوضوء الشّرعيّ؛ لكن الموجود في كتب الحديث أنّه غيره.
(ثمّ يغتسل منه) ؛ أي الوضوء، أي: ماءه (المعين) - اسم مفعول-؛ من عانه إذا أصابه بالعين، تقول: - كما في «الفتح» -: عنت الرّجل؛ أصبته بعينك؛ فهو معين ومعيون. انتهى.
(قال) الإمام الحافظ المحدّث؛ محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي: أبو بكر القرشي.
(الزّهريّ) ؛ نسبة إلى بني زهرة بن كلاب المذكور. تابعيّ من أهل المدينة، نزل الشّام واستقرّ بها، ويقولون تارة الزّهري، وتارة ابن شهاب ينسبونه إلى جدّ جدّه.
وهو أحد أفراد الدّنيا؛ علما وعملا وجلالة.
سمع أنس بن مالك؛ وسهل بن سعد؛ والسّائب بن يزيد؛ وعبد الرحمن بن أزهر؛ ومحمود بن الرّبيع؛ وأبا أمامة أسعد بن سهل بن حنيف؛ وأبا الطّفيل.
وهؤلاء كلهم صحابة.
وسمع من خلائق؛ من كبار التّابعين وأئمّتهم.
روى عنه خلائق من كبار التّابعين وصغارهم، ومن أتباع التّابعين.
وحفظ القرآن في ثمانين ليلة!. قال الشّافعيّ: لولا الزّهريّ ذهبت السّنن من المدينة.
ومناقبه؛ والثّناء عليه؛ وعلى حفظه أكثر من أن يحصر.
توفي ليلة الثّلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة: أربع وعشرين ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وتوفي بقرية بأطراف الشّام يقال لها:
«سغبدا» رحمه الله تعالى. قال في صفة الاستغسال:(4/199)
يؤمر الرّجل العائن بقدح، فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض، ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ يغسل وجهه في القدح، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى، ثمّ يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثمّ يصبّ ...
(يؤمر الرّجل العائن بقدح) فيه ماء؛ (فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض) بغرفة منه؛ (ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ) يأخد منه ماء (يغسل وجهه في القدح) مرّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى) في القدح؛ (فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى) واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن) في القدح واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى) في القدح واحدة، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى) صبّة واحدة، (ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى) في القدح، (ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى) صبّة واحدة فيها، (ثمّ يغسل داخلة إزاره) .
قال المازري: المراد ب «داخلة إزاره» : الطّرف المتدلّي الّذي يلي حقوه الأيمن. وقال القاضي عياض: إنّ المراد ما يلي جسده من الإزار. وقيل غير ذلك.
(ولا يوضع القدح في الأرض) حتّى يفرغ (ثمّ يصبّ) ذلك الماء الّذي في(4/200)
على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة.
القدح (على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة) يجري على جسده، ويكون غسل الأطراف المذكورة كلّها؛ وداخلة الإزار في القدح. هكذا روي عن الزّهري، وقال: إنّه من العلم.
قال ابن عبد البرّ: وهو أحسن ما فسّر به الحديث، لأنّ الزّهريّ راويه. قال القاضي عياض: إنّ الزّهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل. انتهى.
قال مقيّده غفر الله ذنوبه: هذه الكيفية الّتي ذكرها غير متعيّنة، بل يحصل النّفع بالاستغسال الآتي في حديث سهل بن حنيف، وبأيّ كيفيّة كانت؛ إذا غسل أطرافه، وصبّ غسالته على المعيون؛ حصل النّفع بإذن الله تعالى، ولذلك لم يبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كيفيّة الاستغسال، بل أطلق؛ إشارة إلى ذلك. والله أعلم.
قال الزّرقاني: وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النّظرة. أمّا عند الإصابة؛ وقبل الاستحكام؛ فقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يدفعه، بقوله: «ألا بركت عليه» !!. قال أبو عمر: أي: قلت: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. فيجب على كلّ من أعجبه شيء أن يبارك، فإذا دعا بالبركة، صرف المحذور لا محالة.
وللنّسائيّ وابن ماجه؛ عن أبي أمامة، وابن السّنيّ؛ عن عامر بن ربيعة، كلاهما مرفوعا: «إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه؛ فليدع بالبركة» .
وروى ابن السّنّي؛ عن سعيد بن حكيم؛ قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئا بعينه، قال: «اللهمّ؛ بارك فيه ولا تضرّه» . انتهى.
قال المازري: وهذا المعنى- يعني الاغتسال بالصّفة المذكورة- لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه من جهة العقل، وليس في قوّة العقل الاطّلاع على أسرار جميع المعلومات!! فلا يردّ لكونه لا يعقل معناه!.
وقال ابن القيّم: هذه الكيفيّة لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر منها،(4/201)
.........
ولا من شكّ فيها، أو فعلها مجرّبا غير معتقد، وإذا كان في الطّبيعة خواصّ لا يعرف الأطبّاء عللها؛ بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصيّة؛ فما الّذي ينكره جهلتهم من الخواصّ الشرعيّة؟ هذا مع أنّ في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصّحيحة، فهذا ترياق سمّ الحيّة يؤخذ من لحمها! وهذا علاج النّفس الغضبيّة، بوضع اليد على بدن الغضبان، فيسكن! فكان أثر تلك العين، كشعلة نار، وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشّعلة.
ثمّ لمّا كانت هذه الكيفيّة الخبيثة تظهر في المواضع الرّقيقة من الجسد لشدّة النّفوذ فيها ولا شيء أرقّ من المغابن؛ فكان في غسلها إبطال لعملها.
ولا سيّما أن للأرواح الشّيطانيّة في تلك المواضع اختصاصا.
وفيه أمر آخر: وهو وصول أثر الغسل إلى القلب، من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتطفأ تلك النّار التي أثارتها العين بهذا الماء؛ فيشفى المعين. انتهى.
وقال ابن القيّم أيضا: والغرض العلاج النّبويّ الوارد في الأحاديث؛ من الرّقى بالأدعية، ونحوها لعلّة الإصابة بالعين.
فمن التّعوّذات والرّقى الإكثار من قراءة المعوّذتين، لحديث عائشة السّابق:
كان إذا اشتكى، يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث. ولحديثها أيضا: كان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه؛ ثمّ نفث فيها، ثمّ يقرأ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ، ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده؛ يفعل ذلك ثلاث مرات. رواه البخاري.
ومنها الإكثار من قراءة «الفاتحة» ؛ لحديث «الصحيحين» في الّذي رقى اللّذيغ بالفاتحة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «وما أدراك أنّها رقية» ؟.
وروى البيهقيّ في «الشّعب» ؛ عن جابر رفعه: «ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن؟» قلت: بلى. قال: «فاتحة الكتاب» . قال راويه: وأحسبه قال «فيها شفاء من كلّ داء» .(4/202)
.........
وللبيهقيّ ولسعيد بن منصور؛ عن أبي سعيد مرفوعا «فاتحة الكتاب شفاء من السّمّ» .
ومنها قراءة آية الكرسي. روى الدّيلميّ؛ عن أبي أمامة: سمعت عليا يقول:
ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام؛ يبيت حتّى يقرأ هذه الآية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [255/ البقرة] ، إلى قوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة] فلو تعلمون ما هي أو ما فيها؛ لما تركتموها على حال!! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبيّ قبلي» .
قال عليّ: فما بتّ ليلة منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أقرأها.
قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من عليّ، ثمّ سلسله الباقون.
«الدّيلميّ» .
وفي خبر: «سيّد البقرة آية الكرسيّ، أما إنّ فيها خمس آيات، في كلّ كلمة خمسون بركة» .
ومنها التّعوّذات النّبويّة؛ نحو: «أعوذ بكلمات الله التّامّة، من كلّ شيطان وهامّة. ومن كلّ عين لامّة» . ونحو «أعوذ بكلمات الله التّامّات، الّتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر، من شرّ ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شرّ ما ينزل من السّماء، ومن شرّ ما يعرج فيها، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرّ ما يخرج منها، ومن شرّ فتن اللّيل والنّهار، ومن شرّ طوارق اللّيل والنّهار، إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» .
وإذا كان الشّخص يخشى ضرر عينه؛ وإصابتها للمعين! فليدفع شرّها بقوله «اللهم بارك عليه» ، كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة: لمّا عان سهل بن حنيف: «ألا برّكت عليه» ؛ أي: قلت (بارك الله فيك) . انتهى من «المواهب» و «شرحها» .(4/203)
.........
وحديث سهل بن حنيف الّذي أشار إليه هو ما أخرجه الإمام أحمد، والنّسائي، وصححه ابن حبّان؛ من طريق الزّهري؛ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أنّ أباه سهل بن حنيف حدّثه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتّى إذا كان بشعب الخرّار من الجحفة؛ اغتسل سهل بن حنيف.
وفي رواية مالك؛ عن محمّد بن أبي أمامة؛ عن أبيه: فنزع سهل جبّة كانت عليه؛ وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبّأة!!؟ وفي رواية: مالك المذكورة: ولا جلد عذراء، فلبط سهل- أي: صرع وسقط إلى الأرض-.
وفي رواية مالك: فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، زاد في رواية: حتّى ما يعقل لشدّة الوجع!! فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- زاد مالك؛ عن ابن شهاب؛ عن أبي أمامة- فقيل له: يا رسول الله: هل لك في سهل بن حنيف؟ والله ما يرفع رأسه؟! فقال: «هل تتّهمون من أحد!» . قالوا: عامر بن ربيعة.
وفي رواية «مالك» ؛ عن محمّد بن أبي أمامة؛ عن أبيه: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أنّ سهلا وعك، وأنّه غير رائح معك، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالّذي كان من شأن عامر بن ربيعة، فدعا عامرا؛ فتغيّظ عليه، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه!؟» - زاد في رواية: - «وهو غنيّ عن قتله؟؟ هلّا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟!» . ثمّ قال: «اغتسل له» .
ولمالك؛ عن محمّد: «توضّأ له» . فغسل عامر وجهه ويديه- وفي رواية- وظاهر كفّيه ومرفقيه. زاد في رواية: وغسل صدره وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح. زاد في رواية: قال: وحسبته قال: وأمره فحسا منه حسوات، ثمّ صبّ ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه؛ وظهره؛ ثمّ كفأ القدح، ففعل ذلك؛ فراح سهل مع النّاس؛ ليس به بأس. انتهى.(4/204)
وممّا يدفع إصابة العين:
قول: (اللهمّ بارك عليه) .
وقول: (ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله) .
(وممّا يدفع إصابة العين قول: اللهمّ بارك عليه) ، فإنّ ذلك يبطل ما يخاف من العين، ويذهب تأثيره. ذكره الباجيّ.
(و) ممّا يدفعها أيضا (قول: ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله) كما قال تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [39/ الكهف] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئا. فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله، لم يضرّه» . رواه البزّار؛ وابن السّنّي؛ عن أنس.
ففيهما استحباب هذا الذّكر عند رؤية ما يعجب.
واستدلّ مالك بالآية على استحبابه لكلّ من دخل منزله؛ كما قاله ابن العربي.
وأخرج ابن أبي حاتم؛ عن مطرّف قال: كان مالك إذا دخل بيته قال:
«ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله» . قلت له: لم تقول هذا؟ قال: ألا تسمع الله تعالى يقول ... وتلا الآية. وأخرج عن الزّهري مثله.
وممّا يدفع إصابة العين أيضا رقية جبريل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في «الطّبّ» عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:
يا محمّد: أشتكيت؟ قال: «نعم» . قال: باسم الله أرقيك، من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ ذي نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» .
وعند مسلم أيضا في «الطّبّ» ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
كان جبريل يرقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قال: باسم الله يبريك، ومن كلّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، ومن شرّ كلّ ذي عين. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/205)
[الفصل الثّاني في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته]
الفصل الثّاني في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه،
(الفصل الثّاني) من الباب الثّامن؛
(في) ما جاء في (سنّه صلى الله عليه وسلم)
أي: مقدار عمره الشّريف، والسّنّ بهذا المعنى مؤنّثة، لأنّها بمعنى المدّة.
(و) في ما جاء في (وفاته)
أي: تمام أجله الشّريف، فإنّ الوفاة- بفتح الواو-: مصدر وفى يفي بالتخفيف- أي: تمّ أجله.
وهذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان.
أخرج البخاريّ في «الهجرة، والمغازي، وفضائل القرآن» ، ومسلم في «الفضائل» ، والتّرمذيّ في «الجامع» ؛ في «كتاب المناقب» ، وأخرجه في «الشّمائل» ؛
(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث) - بفتح الكاف وضمّها- أي: لبث (النّبيّ صلى الله عليه وسلم) بعد البعثة (بمكّة) الّتي هي أفضل الأرض عند الشّافعي؛ حتى على المدينة المنوّرة، وعكس مالك الإمام.
وسمّيت مكة: لأنّها تمكّ الذّنوب؛ أي: تذهبها، ولها أسماء كثيرة.
(ثلاث عشرة سنة) هذا هو الأصحّ، وغيره! محمول عليه (يوحى إليه) ؛(4/206)
وبالمدينة عشرا، وتوفّي وهو ابن ثلاث وستّين.
وفي رواية عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّي وهو ابن خمس وستّين.
أي: باعتبار مجموعها، لأنّ مدّة فترة الوحي ثلاث سنين، من جملتها، وروي:
عشر سنين، وهو محمول على ما عدا مدّة فترة الوحي، وروي أيضا خمس عشرة سنة؛ في سبعة منها يرى نورا ويسمع صوتا؛ ولم ير ملكا. وفي ثمانية منها يوحى إليه.
وهذه الرّواية مخالفة للأولى من وجهين:
الأوّل في مدّة الإقامة بمكّة بعد البعثة؛ هل هي ثلاثة عشر؟ أو خمسة عشر.
والثّاني: في زمن الوحي: هل هو ثلاث عشرة؛ أو ثمانية.
(وبالمدينة عشرا) ؛ أي: عشر سنين باتّفاق، فإنّهم اتّفقوا على أنّه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين، كما اتّفقوا على أنّه أقام بمكّة قبل البعثة أربعين سنة، وإنّما الخلاف في قدر إقامته بمكّة بعد البعثة!! والصّحيح أنه ثلاث عشرة سنة.
(وتوفّي) - بالبناء للمجهول- أيّ: توفّاه الله تعالى؛ أي: مات (وهو ابن ثلاث وستّين) سنة، واتّفق العلماء على أنّ هذه الرّواية أصحّ الرّوايات الثّلاث الواردة في قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وقد رواها مسلم؛ من رواية عائشة، وأنس؛ وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم.
والثّانية: أنّه توفّي وهو ابن ستّين سنة، وهي محمولة على أنّ راويها اقتصر على العقود وألغى الكسر.
والثّالثة: أنّه توفّي وهو ابن خمس وستين سنة، وهي محمولة على إدخال سنة الولادة وسنة الوفاة، أو حصل فيها اشتباه. والله أعلم.
(وفي رواية عنه) ؛ أي: ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي وهو ابن خمس وستّين) سنة، أي: بحسبان سنتي الولادة والوفاة كما تقدّم(4/207)
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة.
وعن جرير بن حازم الأسديّ، عن معاوية رضي الله تعالى عنه:
أنّه سمعه يخطب، قال: ...
التّنبيه عليه آنفا؛ على أنّه قد أنكر عروة بن الزّبير على ابن عبّاس قوله: خمس وستّين، ونسبه إلى الغلط، وأنّه لم يدرك أوّل النّبوّة، ولا كثرة صحبته، بخلاف الباقين.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة) ؛ أي: بإلغاء الكسر، فلا ينافي رواية أنّه توفّاه الله تعالى وهو ابن ثلاث وستّين سنة، الّتي هي أصحّ الرّوايات؛ وأشهرها رواها البخاريّ من رواية ابن عبّاس؛ ومعاوية، ومسلم من رواية عائشة؛ وابن عبّاس؛ ومعاوية أيضا رضي الله تعالى عنهم.
(و) أخرج مسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة) قد علمت أن هذه الرّواية أصحّ الرّوايات وأشهرها.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛
(عن جرير بن حازم الأسديّ) حضر جنازة أي الطّفيل بمكّة، وسمع رجاء العطارديّ، والحسن. وعنه ابنه، وابن مهدي. ثقة؛ لكنّه اختلط، فحجبه أولاده؛ مات سنة: سبعين ومائة.
(عن معاوية) بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة (رضي الله تعالى عنه)
(أنّه) ؛ أي: جرير (سمعه) ؛ أي معاوية (يخطب) ؛ أي: حال كونه خطيبا (قال:(4/208)
مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وستّين، وأبو بكر وعمر. وأنا ابن ثلاث وستّين سنة.
قوله: (أنا ابن ثلاث وستّين) المراد: أنّه كان كذلك وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه، بل عاش حتّى بلغ نحو ثمانين سنة.
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستّين) ؛ أي: والحال أنّه ابن ثلاث وستّين سنة.
(وأبو بكر وعمر) مرفوعان بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: كذلك.
أمّا أبو بكر! فمتفّق عليه أنّه مات وعمره ثلاث وستّون.
وأما عمر؛ فعلى الأصحّ أنّه عمره ثلاث وستّون.
ولم يذكر عثمان رضي الله تعالى عنه! لأنّه قتل وله من العمر ثنتان وثمانون سنة، وقيل: ثمان وثمانون.
ولم يذكر عليا رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه! مع أنّ الأصحّ أنّه قتل وله من العمر ثلاث وستّون. وقيل: خمس وستّون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمان وخمسون!! للاختلاف الواقع فيه، أو لعدم معرفته بعمره، بسبب تعدّد الرّوايات.
والله أعلم.
ثم استأنف معاوية رضي الله تعالى عنه؛ فقال: (وأنا ابن ثلاث وستّين سنة) أي: أنا متوقع أن أموت في هذا السّن؛ موافقة لهم، لكنّه لم ينل مطلوبه ومتوقّعه، بل مات وهو قريب من ثمانين، كما سيأتي للمصنّف.
(قوله) ؛ أي: معاوية (أنا ابن ثلاث وستّين: المراد) بهذا الكلام (أنّه) ؛ أي معاوية (كان كذلك) ؛ أي: كان عمره ثلاثا وستّين سنة (وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه) ؛ أي: في هذا السّن، (بل عاش) ؛ أي: طال عمره (حتّى بلغ نحو ثمانين سنة) قيل: بلغ ثمانيا وسبعين، وقيل: ستّا وثمانين، وقيل: ثمانين سنة.(4/209)
وأمّا وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ف
وأحسن العمر: ثلاث وستّون، كعمره صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولهذا لمّا بلغ بعض العارفين هذا السّنّ، هيّأ له أسباب مماته؛ إيماء إلى أنّه لم يبق لذّة في بقيّة حياته.
والله أعلم.
(وأمّا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ف) هي مصيبة الأوّلين والآخرين من المسلمين، ولمّا كان الموت مكروها بالطّبع، لما فيه من الشّدة والمشقة العظيمة؛ لم يمت نبيّ من الأنبياء حتّى يخيّر.
وأول ما أعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله؛ بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [النصر] فإنّ المراد من هذه السّورة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي:
إنّك يا محمّد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل النّاس في دينك، الّذي دعوتهم إليه أفواجا؛ فقد اقترب أجلك، فتهيّأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنّه قد حصل منك مقصود ما أمرت به؛ من أداء الرّسالة والتّبليغ، وما عندنا خير لك من الدّنيا، فاستعدّ للنّقلة إلينا.
وكان عليه الصّلاة والسّلام يعرض القرآن كلّ عام على جبريل مرّة، فعرضه ذلك العام مرّتين في رمضان؛ كما في «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
وكان عليه الصّلاة والسّلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان كلّ عام؛ فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر معهن الذكر والاستغفار.
وروى الشيخان؛ من حديث عقبة بن عامر الجهني؛ قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد؛ صلاته على الميت بعد ثمان سنين، كالمودّع للأحياء والأموات، ثمّ طلع المنبر؛ فقال:
«إنّي بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنّي لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإنّي قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنّي لست(4/210)
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كشف السّتارة يوم الإثنين، ...
أخشى عليكم أن تشركوا بعدي!!، ولكنّي أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوا فيها!!» .
وما زال صلى الله عليه وسلم يعرّض باقتراب أجله في آخره عمره، فإنه لما خطب في حجّة الوداع؛ قال للنّاس: «خذوا عنّي مناسككم، فلعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا!» .
وطفق يودّع النّاس، فقالوا: هذه «حجة الوداع» .
واختلف في مدّة مرضه، والأكثر أنّها ثلاثة عشر يوما، وهو المشهور.
وكان ابتداء مرضه في بيت ميمونة؛ كما ثبت في «الصحيحين» ، واشتداد مرضه في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها. وابتدأ به المرض يوم الاثنين، وقيل:
يوم السّبت، وقيل: يوم الأربعاء.
وشدّة مرضه الّتي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة كانت سبعة أيّام، وما زاد عليها؛ فهو قبل اشتداده الّذي انقطع به.
وفي البخاريّ ومسلم: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ وجعه استأذن أزواجه أن يمرّض في بيتي، فأذنّ له ... الحديث.
وأخرج ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف) أي: رفع (السّتارة) المعلّقة على باب بيته الشّريف، أي: أمر برفعها. وهي- بكسر السّين المهملة-:
ما يستر به، فقوله «آخر نظرة» مبتدأ، وخبره ما دلّ عليه «كشف» ، وجملة «كشف السّتارة» في محلّ نصب على الحال، بتقدير «قد» ؛ أي: آخر نظري إلى وجهه حال كونه قد كشف السّتارة (يوم الاثنين) - منصوب على الظّرفية-. وقيل:
إنّه مرفوع على أنه خبر، مع تقدير مضاف قبل المبتدأ، والتّقدير: زمن آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يوم الاثنين.(4/211)
فنظرت إلى وجهه كأنّه ورقة مصحف، والنّاس خلف أبي بكر، فكاد النّاس أن يضطربوا، فأشار إلى النّاس: أن اثبتوا وأبو بكر يؤمّهم، وألقى السّجف، وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من آخر ذلك اليوم.
(فنظرت إلى وجهه) الشّريف (كأنّه ورقة) - بفتح الرّاء- (مصحف) - مثلّث الميم، والأشهر ضمّها-، وهو كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة، وصفاء الوجه، واستنارته؛ قاله الزّرقاني.
(والنّاس خلف أبي بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه؛ قد اقتدوا به في صلاة الصّبح بأمره صلى الله عليه وسلم، (فكاد النّاس أن يضطربوا) في صلاتهم بأن يخرجوا منها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لاعتقادهم خروجه صلى الله عليه وسلم ليصلّي بهم، (فأشار) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى النّاس: أن اثبتوا) مكانكم في صلاتكم. و «أن» تفسيريّة لمعنى الإشارة؛ لما في الإشارة من معنى القول، فهو نظير قوله فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ [27/ المؤمنون] .
(وأبو بكر يؤمّهم) ؛ أي: يصلّي بهم إماما في صلاة الصّبح بأمره، حيث قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
(وألقى) ؛ أي: أرخى (السّجف) - بكسر السّين وفتحها- أي: السّتر، وهو الّذي عبر عنه أولا بالسّتارة.
(وتوفّي) - بصيغة المجهول- (رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر ذلك اليوم) ؛ وهو يوم الاثنين، وكان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم من صداع عرض له، ثمّ اشتدّ به؛ حتّى صار يقول: «أين أنا غدا.. أين أنا غدا؟» ثمّ استأذن أزواجه أن يمرّض في بيت عائشة لمحبّته لها؛ مع علمه بأنّ بيتها مدفنه، فأذنّ له أن يمرّض عندها، وامتدّ به المرض، حتّى مات في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل، وكان يوم الاثنين.
وكونه توفّي آخر ذلك اليوم لا ينافي جزم أهل السّير بأنّه مات حين اشتدّ الضّحى!! بل حكى صاحب «جامع الأصول» : الاتّفاق عليه، لأنّ المراد بقولهم(4/212)
.........
«توفّي ضحى» : أنّه فارق الدّنيا، وخرجت نفسه الشّريفة في وقت الضّحى، والمراد بكونه توفّي في آخر اليوم أنّه تحقّق وفاته عند النّاس في آخر اليوم.
وذلك أنّه بعد ما توفّي حصل اضطراب واختلاف بين الصّحابة في موته، فأنكر كثير منهم موته؛ حتّى قال عمر: من قال «إنّ محمّدا قد مات؛ قتلته بسيفي هذا» ؟! فما تحقّقوا وفاته إلّا في آخر النّهار، حتّى جاء الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وأعلمهم كما سيأتي.
وفي الحديث أنّ الصّدّيق استمرّ خليفة على الصّلاة؛ حتّى مات المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا كما زعمت الشّيعة أنّه عزله بخروجه!! والله أعلم.
وقد روى البخاريّ هذا الحديث أيضا؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، لكن بلفظ: إنّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر يوم الاثنين؛ وأبو بكر يصلّي بهم لم يفجأهم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف سجف حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، فنظر إليهم وهم صفوف في الصّلاة ثمّ تبسّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصلّ بالصّف، فظنّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصّلاة.
قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم؛ فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأشار إليهم بيده: أن أتمّوا صلاتكم، ثمّ دخل الحجرة، وأرخى السّتر. وفي رواية له: فتوفّي في يومه.
وفي رواية أخرى للبخاريّ ومسلم؛ عن أنس أيضا: لم يخرج إلينا ثلاثا، فذهب أبو بكر يتقدّم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاب، فلمّا وضح لنا وجهه ما نظرنا منظرا قطّ كان أعجب إلينا منه، حين وضح لنا؛ فأومأ إلى أبي بكر أن يتقدّم وأرخى الحجاب ... الحديث.
ولفظ مسلم؛ عن أنس أيضا: إنّ أبا بكر كان يصلّي بهم، حتّى إذا كانوا يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة؛ كشف صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظرنا إليه؛ وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثمّ تبسّم ضاحكا ... الحديث.(4/213)
و (السّجف) : السّتارة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري- فدعا بطست؛ ليبول فيه، ثمّ بال، فمات صلّى الله عليه وسلّم.
(والسّجف) - بكسر السّين المهملة-: (السّتارة) الّتي على الحجرة الشّريفة.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة) - بصيغة اسم الفاعل؛ من الإسناد- (النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري-) بفتح الحاء المهملة وكسرها-: حضني؛ وهو- بكسر الحاء-: ما دون الإبط إلى الكشح.
(فدعا بطست) - بفتح أوّله- أصله «طسّ» . فأبدل أحد المضعّفين تاء لثقل اجتماع المثلين، ويقال: طسّ على الأصل- بغير تاء-، وهي كلمة أعجمية معرّبة مؤنّثة؛ عند الأكثر، وحكي تذكيرها، ولذلك قال:
(ليبول فيه) - بتذكير الضّمير، لكنّ التّأنيث أكثر في كلام العرب؛ كما قال الزّجاج- (ثمّ بال، فمات صلى الله عليه وسلم) ولحق بالرّفيق الأعلى.
وظاهره أنّه مات في حجرها، ويوافقه ما رواه البخاريّ عنها: توفّي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي؛ أي: كان رأسه بين حنكها وصدرها.
ولا يعارضه ما رواه الحاكم وابن سعد؛ من طرق: أنّ رأسه كان في حجر علي رضي الله عنه؟ لأنّ كلّ طريق منها، لا يخلو من شيء؛ كما ذكره الحافظ ابن حجر.
وعلى تقدير صحّتها! يحمل على أنّه كان في حجره قبل الوفاة.(4/214)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء، ثمّ يقول:
«اللهمّ؛ أعنّي على سكرات الموت» .
وفي الحديث حلّ الاستناد للزّوجة، والبول في الطّست بحضرتها.
(و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «الجامع» ؛ و «الشمائل» - وقال في «الجامع» : حديث حسن غريب- وأخرجه ابن ماجه: كلّهم؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت) - أي: مشغول به، ومتلبّس به- (وعنده قدح فيه ماء؛ وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء) ، لأنّه كان يغمى عليه من شدّة المرض ثم يفيق.
قال «المناوي» : وفيه أنه يسنّ فعل ذلك لمن حضره الموت، لأنّ فيه نوع تخفيف؛ فإن لم يفعله فعل به. أي: ما لم يظهر كراهته.
(ثمّ يقول: «اللهمّ أعنّي على سكرات الموت» ) : شدائده.
قال بعض العلماء: فيه أنّ ذلك من شدّة الآلام والأوجاع؛ لرفعة منزلته، وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدّة الموت لأحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الشّيخ أبو محمد المرجاني: تلك السّكرات سكرات الطّرب، ألا ترى إلى قول بلال لمّا قال له أهله- وهو في السّياق-: واكرباه!! ففتح عينيه؛ وقال:
واطرباه!! غدا ألقى الأحبّة؛ محمدا وحزبه.
فإذا كان هذا طربه وهو في حال السّياق بلقاء محبوبه؛ وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحزبه، فما بالك بلقاء النّبيّ لربّه تعالى!! فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [17/ السجدة] .(4/215)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط أحدا بهون موت بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(و) أخرج الإمام أحمد، والتّرمذي في «الجامع» و «الشّمائل» ؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط) - بكسر الموحّدة- من الغبطة وهي: أن يتمنّى أن يكون له مثل ما للغير؛ من غير أن تزول عنه.
وفي رواية: ما أغبط (أحدا بهون موت) ؛ أي: بسهولته (بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومرادها بذلك إزالة ما تقرّر في النّفوس من تمنّي سهولة الموت، لأنّها لما رأت شدّة موته صلى الله عليه وسلم علمت أنّها ليست علامة رديئة؛ بل مرضيّة، فليست شدّة الموت علامة على سوء حال الميت، كما قد يتوهّم، وليست سهولته علامة على حسن حاله؛ كما قد يتوهم أيضا.
والحاصل: أنّ الشّدّة ليست أمارة على سوء؛ ولا ضدّه، والسّهولة ليست أمارة على خير؛ ولا ضدّه.
وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيان الشّدّة الحاصلة بالموت، فقد روى الإمام أحمد بإسناد حسن؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لم يلق ابن آدم شيئا قطّ منذ خلقه الله أشدّ عليه من الموت، ثمّ إنّ الموت لأهون ممّا بعده» .
وأخرج الخطيب البغداديّ في «تاريخ بغداد» ؛ عن أنس: «لمعالجة ملك الموت أشدّ من ألف ضربة بالسّيف» انتهى.
اللهمّ؛ خفّف عنّا سكرات الموت، والطف بنا عند نزع أرواحنا، وارحمنا إذا صرنا من أصحاب القبور؛ يا عزيز يا غفور.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، وقال في «الجامع» : إنّه حديث غريب، وعبد الرّحمن بن أبي بكر المليكي يضعّف من قبل حفظه؛(4/216)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر:
سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا ما نسيته؛ قال: «ما قبض الله نبيّا إلّا في الموضع الّذي يحبّ أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه» .
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؟) ؛ أي في أصل دفنه، هل يدفن أو لا؟ وفي محلّ دفنه: هل يدفن في مسجده؟ أو البقيع عند أصحابه؟ أو في الشّام؛ عند أبيه إبراهيم الخليل؟ أو في بلده مكّة المكرمة؟
فالاختلاف من وجهين: أصل الدّفن، ومحلّ الدّفن؟ كذا في «الباجوري» .
قال بعضهم: هذا أوّل اختلاف وقع بين الصّحابة بعد موته، حتى أخبرهم أبو بكر وعليّ بما عندهما من العلم- كما سيأتي-؛ ذكره المناوي.
(فقال أبو بكر) جوابا عن كلّ من السّؤالين:
(سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته) ؛ إشارة إلى كمال استحضاره وحفظه. (قال: «ما قبض الله نبيّا؛ إلّا في الموضع الّذي يحبّ) الله؛ أو النّبيّ (أن يدفن) - بصيغة المجهول- (فيه» ) .
ولا ينافيه نقل موسى ليوسف عليهما الصّلاة والسّلام من مصر إلى آبائه بفلسطين!؟ لاحتمال أن محبّة دفنه بمصر مؤقّتة بفقد من ينقله، على أن الظّاهر أن موسى إنّما فعله بوحي.
وورد أن عيسى يدفن بجنبه صلى الله عليه وسلم؛ في السّهوة الخالية بينه صلى الله عليه وسلم وبين الشّيخين.
وأخذ منه بعضهم أنّ عيسى يقبض هناك في ذلك المحلّ المكرّم.
(ادفنوه) - بكسر الفاء- (في موضع فراشه) ؛ أي: في المحلّ الّذي هو تحت فراشه، الّذي مات فيه من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.(4/217)
وعن عائشة أيضا وابن عبّاس: أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما مات.
وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على ساعديه، ...
(و) أخرج البخاري؛ عن عائشة، والتّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» ، وابن ماجه؛ (عن عائشة أيضا وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهم قال التّرمذيّ في «الجامع» : وفي الباب عن ابن عباس؛ وجابر؛ وعائشة، قالوا:
(إنّ أبا بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم) بين عينيه تبرّكا واقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ حيث قبّل عثمان بن مظعون (بعد ما مات) .
فتقبيل الميت سنّة اقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبالصّدّيق رضي الله تعالى عنه.
قال المحقّق ابن حجر المكّيّ في «فتح الإله شرح المشكاه» :
إذا كان الميت صالحا سنّ لكلّ أحد تقبيل وجهه؛ التماسا لبركته، واتّباعا لفعله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون- كما سيأتي-.
وإن كان غير صالح؟ جاز ذلك بلا كراهة، لنحو أهله وأصدقائه، لأنّه ربّما كان مخفّفا لما وجده من ألم فقده. ومع الكراهة لغير أهل الميت، إذ قد لا يرضى به لو كان حيّا من غير قريبه وصديقه.
ومحلّ ذلك كلّه ما لم يحمل التّقبيل فاعله على جزع أو سخط؛ كما هو الغالب من أحوال النّساء، وإلّا حرم أو كره. انتهى كلام «ابن حجر» ؛ نقله ابن علّان في «شرح الأذكار» .
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها أنّ أبا بكر) الصّدّيق (دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه) وقبّله، (ووضع يديه على ساعديه) - الأقرب ما في «المواهب» : على صدغيه. لأنّه هو(4/218)
وقال: وانبيّاه، واصفيّاه، واخليلاه.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.. أضاء منها كلّ شيء، فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه.. أظلم منها كلّ شيء، ...
المناسب للعادة- (وقال) من غير انزعاج وقلق وجزع وفزع، بل بخفض صوت (: وانبيّاه؛ واصفيّاه؛ واخليلاه) بهاء سكت في الثّلاثة، تزاد ساكنة لإظهار الألف الّتي أتى بها ليمتدّ الصوت به.
وهذا يدلّ على جواز عدّ أوصاف الميت بلا نوح، بل ينبغي أن يندب، لأنّه من سنّة الخلفاء الرّاشدين، والأئمّة المهديين.
وقد صار ذلك عادة في رثاء العلماء، بحضور المحافل العظيمة، والمجالس الفخيمة.
قال في «جمع الوسائل» : وفي رواية أحمد أنّ أبا بكر أتاه من قبل رأسه فحدر فاه؛ فقبّل جبهته، ثمّ قال: وانبيّاه. ثمّ رفع رأسه وحدر فاه؛ وقبّل جبهته، ثمّ قال: وا صفيّاه. ثمّ رفع رأسه وحدر فاه؛ وقبّل جبهته، وقال: واخليلاه.
وفي رواية ابن أبي شيبة: فوضع فمه على جبينه؛ فجعل يقبّله ويبكي، ويقول: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميتا. انتهى.
(و) أخرج ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) الشّريفة (أضاء) أي:
استنار (منها) ؛ أي: المدينة الشّريفة (كلّ شيء) نورا حسّيّا ومعنويا، لأنّه صلى الله عليه وسلم نور الأنوار، والسّراج الوهّاج، ونور الهداية العامّة، ورفع الظلمة الطّامة.
(فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه) صلى الله عليه وسلم (أظلم منها كلّ شيء) لفقد النّور،(4/219)
وما نفضنا أيدينا من التّراب، وإنّا لفي دفنه حتّى أنكرنا قلوبنا.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين.
وعن محمّد الباقر رضي الله تعالى عنه- وهو من التّابعين- قال:
قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، فمكث ذلك اليوم، وليلة الثّلاثاء، ودفن من اللّيل.
والسّراج منها؛ فذهب ذلك النّور بموته. (و- ما-) نافية (نفضنا أيدينا من التّراب) ؛ أي: تراب قبره الشّريف، ونفض الشّيء: تحريكه ليزول عنه الغبار (وإنّا) - بالكسر، أي: والحال إنّا- (لفي) معالجة (دفنه حتّى أنكرنا) بصيغة الماضي (قلوبنا) أي: تغيّرت حالها بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمّا كانت عليه من الرّقّة والصّفاء؛ لانقطاع ما كان يحصل لهم منه صلى الله عليه وسلم من التعليم، وبركة الصّحبة، وليس المراد أنّهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من التّصديق!!، لأنّ إيمانهم لم ينقص بوفاته صلى الله عليه وسلم.
(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ؛ والتّرمذي في «الشّمائل» كلّهم؛
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أنّها (قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؛ أي:
توفّاه الله تعالى بقبض روحه (يوم الاثنين) كما هو متفق عليه بين أرباب النّقل.
(و) أخرج التّرمذي في «الشّمائل» قال: حدّثنا محمّد بن أبي عمر؛ قال:
حدّثنا سفيان بن عيينة؛ (عن) جعفر الصّادق؛ عن أبيه (محمّد الباقر) بن عليّ زين العابدين ابن سيدنا الحسين السّبط (رضي الله تعالى عنه) وعنهم أجمعين؛ (وهو) أي: محمّد الباقر (من التّابعين) فالحديث مرسل؛ (قال:
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فمكث) - بضمّ الكاف؛ وفتحها، أي:
لبث بلا دفن- (ذلك اليوم) الذي هو يوم الاثنين (وليلة الثّلاثاء) بالمدّ (ودفن من اللّيل) ؛ أي في ليلة الأربعاء وسط اللّيل، وقيل: دفن ليلة الثلاثاء، وقيل: يوم(4/220)
وعن سالم بن عبيد رضي الله تعالى عنه- وكانت له صحبة- قال:
أغمي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ...
الثّلاثاء، والأوّل عليه الأكثر.
وأما غسله وتكفينه، ففعلت يوم الثّلاثاء؛ كما في «المواهب» .
وإنّما أخّر دفنه صلى الله عليه وسلم مع أنّه يسنّ تعجيله!! لعدم اتّفاقهم على دفنه، ومحلّ دفنه، ولدهشتهم من ذلك الأمر الهائل، الّذي لم يقع قبله ولا بعده مثله. وذلك لأنّه لمّا وقعت هذه المصيبة العظمى والبليّة الكبرى؛ وقع الاضطراب بين الأصحاب، كأنّهم أجساد بلا أرواح!! وأجسام بلا عقول!! حتّى إنّ منهم من صار عاجزا عن النّطق! ومنهم من صار ضعيفا نحيفا! وبعضهم صار مدهوشا! وشكّ بعضهم في موته، وكان محلّ الخوف من هجوم الكفّار، وتوهّم وقوع المخالفة في أمر الخلافة بين الأبرار، فاشتغلوا بالأمر الأهمّ؛ وهو البيعة لما يترتّب على تأخيرها من الفتنة، وليكون لهم إمام يرجعون إليه فيما ظهر لهم من القضيّة؛ فنظروا في الأمر، فبايعوا أبا بكر، ثمّ بايعوه من الغد بيعة أخرى، وكشف الله به الكربة، من أهل الرّدّة، ثمّ رجعوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فغسّلوه، وصلّوا عليه ودفنوه، بملاحظة رأي الصّدّيق رضي الله تعالى عنه. والله وليّ التّوفيق؛ قاله في «جمع الوسائل» .
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ قال: حدّثنا نصر بن علي الجهضمي؛ قال: حدّثنا عبد الله بن داود؛ قال: حدّثنا سلمة بن نبيط؛ قال: أخبرنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط؛ (عن سالم بن عبيد) - بالتّصغير- الأشجعيّ:
صحابيّ من أهل الصّفّة (رضي الله تعالى عنه) ، خرّج له الأربعة، ومسلم، ولذلك قال المصنّف تبعا ل «الشّمائل» : (وكانت له صحبة؛ قال:
أغمي) - بصيغة المجهول- (على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه) لشدّة ما حصل له من الضّعف، وفتور الأعضاء، فالإغماء جائز على الأنبياء، لأنّه من المرض.(4/221)
فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال:
«مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف- أي:
حزين- ...
وقيّده الغزاليّ بغير الطويل، وجزم به البلقيني، بخلاف الجنون، فليس جائزا عليهم؛ لأنّه نقص، وليس إغماؤهم كإغماء غيرهم! لأنّه إنّما يستر حواسّهم الظّاهرة؛ دون قلوبهم، لأنّه إذا عصمت عن النّوم فعن الإغماء أولى.
(فأفاق) من الإغماء بأن رجع إلى الشّعور؛ (فقال: «حضرت الصّلاة؟» ) ؛ أي: صلاة العشاء الآخرة؛ كما ثبت عند البخاري وهو استفهام بحذف الهمزة، أي: أحضر وقتها؟.
(فقالوا: نعم) أي: حضرت الصّلاة.
(فقال: «مروا بلالا) ؛ أي: بلّغوا أمري بلالا (فليؤذّن) - بفتح الهمزة، وتشديد الذّال- من التّأذين، أي: فليناد بالصّلاة.
(ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ) ؛ إماما لهم.
(قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» فقالوا: نعم.
فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر؛ فليصلّ بالنّاس» .
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف) فعيل بمعنى فاعل؛ من الأسف؛ وهو شدّة الحزن، (أي حزين) ؛ أي: يغلب عليه الحزن والبكاء،(4/222)
إذا قام ذلك المقام.. بكى، فلا يستطيع، فلو أمرت غيره.
قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب- أو صواحبات- يوسف» ؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ.
ولا يطيق أن يشاهد محلّ المصطفى صلى الله عليه وسلم خاليا منه، فلا يتمكّن من الإمامة، والقراءة، وهذا معنى قولها:
(إذا قام ذلك المقام) الّذي هو مقام الإمامة (بكى) ؛ حزنا عليك (فلا يستطيع) ؛ أي: لا يقدر على الصّلاة بالنّاس، لغلبة البكاء عليه (فلو أمرت غيره؟!) لكان حسنا فجواب «لو» محذوف إن كانت شرطية، ويحتمل أنّها للتمنّي فلا جواب لها.
(قال) ؛ أي: سالم بن عبيد (: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب) - جمع صاحبة- (أو صواحبات) جمع صواحب؛ فهو جمع الجمع- (يوسف؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ) - بتشديد النون- حتّى يصلن إلى أغراضهنّ، فالخطاب؛ وإن كان بلفظ الجمع لكنّ المراد به واحدة؛ وهي عائشة، وكذلك الجمع في قوله «صواحب» المراد به: امرأة العزيز، فهو من قبيل التّشبيه البليغ. ووجه الشّبه:
أنّ زليخا استدعت النّسوة، وأظهرت لهنّ الإكرام بالضّيافة؛ وأضمرت زيادة على ذلك، وهي: أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه الصّلاة والسّلام فيعذرنها في حبّه.
وعائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أنّ سبب محبّتها صرف الإمامة عن أبيها، أنّه رجل أسيف، وأنه لا يستطيع ذلك، وأضمرت زيادة على ذلك هي ألايتشاءم النّاس به. فقد روى البخاريّ عنها: لقد راجعته، وما حملني على كثرة المراجعة إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحبّ النّاس رجلا قام مقامه أبدا، وأنّه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم النّاس به.(4/223)
قال: فأمر بلال فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد خفّة فقال: «انظروا لي من أتّكىء عليه» ، فجاءت بريرة ورجل آخر؛ ...
قال في «جمع الوسائل» : وقد يقال: الخطاب لعائشة وحفصة، وجمع إمّا تعظيما لهما، أو تغليبا لمن معهما من الحاضرات؛ أو الحاضرين، أو بناء على أنّ أقلّ الجمع اثنان.
ويعضده أنّ هذا الحديث أي «أغمي ... » إلى آخره روى الشّيخان بعضه، ومنه قوله: «مروا أبا بكر، فليصلّ بالنّاس» ، وأنّ عائشة أجابته، وأنّه كرّر ذلك؛ فكرّرت الجواب، وأنّه قال: «إنّكنّ صواحب يوسف، أو صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
وفي البخاريّ: «فمر عمر فليصلّ بالنّاس» . وأنّها قالت لحفصة: أنّها تقول له ما قالته عائشة، فقال لها: «مه إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف! مروا أبا بكر.
فليصلّ بالنّاس» . فقالت لها حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرا. انتهى.
(قال) ؛ أي سالم بن عبيد (فأمر بلال) - بصيغة المجهول- (فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس) تلك الصّلاة، واستمرّ يصلّي بهم إلى تمام سبع عشرة صلاة؛ كما نقله الحافظ الدّمياطيّ أولاها عشاء ليلة الجمعة، وآخرها صبح يوم الاثنين الّذي توفّي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كذا قاله الباجوري كالمناوي.
(ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفّة) من مرضه؛ (فقال: «انظروا لي) ؛ أي أحضروا لي (من أتّكىء) ؛ أي: أعتمد (عليه» ) لآخرج للصّلاة.
(فجاءت بريرة) - بفتح الموحّدة، وكسر الرّاء المهملة الأولى مكبّرا؛ وهي:
بنت صفوان مولاة عائشة قبطيّة، أو حبشيّة، لها حديث واحد.
(ورجل آخر) جاء في رواية: أنّه نوبة- بضمّ النّون، وسكون الواو- وهو عبد أسود، ووصف باخر!! للإيضاح. وفي رواية الشيخين: فخرج بين رجلين؛(4/224)
فاتّكأ عليهما، فلمّا رآه أبو بكر ذهب لينكص؛ فأومأ إليه أن يثبت مكانه حتّى قضى أبو بكر صلاته.
أحدهما العبّاس، ورجل آخر، وفسّر بعلي. وفي طريق آخر: ويده على الفضل بن عباس، ويده على رجل آخر. وجاء في غير مسلم: بين رجلين؛ أحدهما أسامة.
وفي رواية مسلم: العبّاس وولده الفضل، وفي أخرى: العبّاس وأسامة.
وجمعوا بين هذه الرّوايات على تقدير ثبوت جميعها بتعدّد خروجه. وخصّوا بذلك، لأنّهم من خواصّ أهل بيته؛ كذا في شروح «الشّمائل» .
(فاتّكأ) ؛ أي: اعتمد (عليهما) كما يعتمد على العصا (فلمّا رآه أبو بكر ذهب) ؛ أي: طفق (لينكص) ؛ أي: ليرجع إلى ورائه القهقرى. يقال: نكص على عقبيه: رجع. وبابه: دخل؛ وجلس، فيصحّ قراءة ما هنا بضمّ الكاف وكسرها، والأولى أن تضبط بكسرها، لأنّه المطابق لما في القرآن، حيث قال تعالى عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) [المؤمنون] بالكسر لا غير.
(فأومأ) - بالهمز- على الصّحيح أي: أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم (إليه) ؛ أي: إلى أبي بكر (أن يثبت مكانه) ليبقى على إمامته، ولا يتأخّر عن مكانه فثبت (حتّى قضى أبو بكر صلاته) أي: أتمّها، فهو مرتبط بمحذوف كما قدرته.
وظاهر ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم اقتدى بأبي بكر، وقد صرّح به بعض الرّوايات، لكن الّذي في رواية «الصحيحين» : كان أبو بكر رضي الله عنه يصلّي قائما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنّاس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه.
والمراد أنّ أبا بكر كان رابطة مبلّغا عنه صلى الله عليه وسلم، فبعد أن أخرج نفسه من الإمامة، صار مأموما. وهذا يدلّ لمذهب الشافعيّ؛ من جواز إخراج الإمام نفسه من الإمامة، واقتدائه بغيره؛ فيصير مأموما بعد أن كان إماما.(4/225)
ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض، فقال عمر: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا. قال: وكان النّاس أمّيّين؛ لم يكن فيهم نبيّ قبله،
ويمكن الجمع بين هاتين الرّوايتين بتعدّد الواقعة. انتهى؛ قاله الباجوري، ومثله في المناوي على «الشمائل» . وفيه إشكال لما تقدّم نقله؛ عن الدّمياطي أن أبا بكر صلّى بهم تلك الصّلاة؛ وما بعدها ... إلى تمام سبع عشرة صلاة.
ورواية الشيخين صريحة في أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الّذي صلّى بهم تلك الصّلاة؛ وأبو بكر كان مقتديا به، فهي أولى بالاعتماد من غيرها.
(ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض) أي: مات؛ وأبو بكر الصّدّيق غائب بالعالية عند زوجته بنت خارجة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن له في الذّهاب.
(فقال عمر) وقد سلّ سيفه (: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا!!؟» ) .
والحامل له على ذلك ظنّه عدم موته، وأنّ الّذي عرض عليه غشي أو استغراق وتوجّه للذات العلية، ولذلك كان يقول أيضا: إنما أرسل إليه صلى الله عليه وسلم كما أرسل إلى موسى صلى الله عليه وسلم فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله؛ إنّي لأرجو أن يقطع أيدي رجال، وأرجلهم، أي: من المنافقين، أو المرتدّين.
(قال) سالم (: وكان النّاس) أي: العرب، بقرينة السّياق (أمّييّن) ، لقوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [2/ الجمعة] . قال جمهور المفسّرين:
الأمّيّ: من لا يحسن الكتابة والقراءة. أي: لا يقرؤون ولا يكتبون. هذا هو معنى الأمّييّن في الأصل، والمراد بهم هنا: من لم يحضر موت نبيّ قبله، فقوله (لم يكن فيهم نبيّ قبله!!) تفسير وبيان للمراد بالأمّييّن؛ بأنّهم لم يشاهدوا موت نبيّ ولا عرفوه من كتاب.
وسبب العلم بموته: إمّا دراية كتب الأنبياء، أو مشاهدة موته، وكلاهما منفيّ عن العرب.(4/226)
فأمسك النّاس.
فقالوا: يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فادعه، فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه- وهو في المسجد- فأتيته أبكي دهشا؟ فلمّا رآني.. قال لي: أقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض.. إلّا ضربته بسيفي هذا، فقال لي:
انطلق، فانطلقت معه، فجاء هو والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا لي، ...
(فأمسك النّاس) ألسنتهم عن النّطق بموته؛ خوفا من عمر لما حصل لهم من الذهول، والحيرة الّتي ضلّت بها معلوماتهم الّتي من جملتها نطق التّنزيل على أنه ميّت؛
(فقالوا) ؛ أي: النّاس (يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الّذي هو أبو بكر، فإنّه متى أطلق انصرف إليه، لكونه كان مشهورا به بينهم (فادعه) ليحضر فيبيّن الحال.
(فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وهو في المسجد) ؛ أي: مسجد محلّته التي كان فيها؛ وهو بالعوالي، كما في رواية البخاري: جاء من السّنح- بضمّ السّين المهملة؛ بوزن فعل-: موضع بأدنى عوالي المدينة بينه وبين مسجده الشّريف ميل، ولعله كان في ذلك المسجد، لصلاة الظّهر، (فأتيته) كررّه للتّأكيد (أبكي) أي: حال كوني أبكي (دهشا) - بفتح فكسر أي: حال كوني دهشا-:
أي متحيّرا (فلمّا رآني؛ قال لي: أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) لما فهمه من حاله.
(قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا!؟ فقال لي: انطلق؛ فانطلقت معه، فجاء هو) ؛ أي: أبو بكر (والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا) - بقطع الهمزة، أي:
أوسعوا (لي) لأجل أن أدخل. ولا ينافي هذا رواية البخاري: أقبل أبو بكر(4/227)
فأفرجوا له، فجاء حتّى أكبّ عليه ومسّه فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .
ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، فعلموا أن قد صدق.
رضي الله تعالى عنه فلم يكلّم النّاس، لأنّ المراد لم يكلّمهم بغير هذه الكلمة.
(فأفرجوا له) ؛ أي: انكشفوا عن طريقه (فجاء حتّى أكبّ عليه) فوجده مسجّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه الشّريف. (ومسّه) أي: قبّله بين عينيه، ثمّ بكى، وقال: بأبي أنت وأمّي؛ لا يجمع الله عليك موتتين، أمّا الموتة الّتي كتبت عليك فقد متّها؛ كذا في البخاريّ. وقصد بذلك الردّ على عمر فيما قال، إذ يلزم منه أنّه إذا جاء أجله يموت موتة أخرى، وهو أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعها على الّذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [243/ البقرة] .
(فقال) ؛ أي: قرأ استدلالا على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
(30) [الزمر] يعني: قد أخبر الله عنك في كتابه: أنّك ستموت، وأنّ أعداءك أيضا سيموتون، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر] فقوله حقّ، ووعده صدق فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ [32/ الزمر] وقد قال المفسرون- في قوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر] : - إنّ الجائي بالصّدق هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والمصدّق أبو بكر، ولذا سمّي ب «الصّدّيق» رضي الله تعالى عنه.
(ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم!! قال: نعم.
فعلموا أن) ؛ أي: أنّه (قد صدق) في إخباره بموته، لاستدلاله بالآية الّتي ذكرها، لما عنده من نور اليقين.(4/228)
قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى على رسول الله؟ قال:
نعم، قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس.
(قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى) - بالبناء للمفعول- (على رسول الله؟) إنّما سألوه لتوهّم أنّه مغفور له، فلا حاجة له إلى الصّلاة المقصود منها الدّعاء والشّفاء للميت.
(قال: نعم) أي: يصلّى عليه لمشاركته لأمّته في الأحكام، إلّا ما خرج من الخصوصيات لدليل. (قالوا: وكيف) يصلّى عليه؟ أمثل صلاتنا على آحاد أمّته؟
أم بكيفية مخصوصة تليق برتبته العليّة؟.
(قال: يدخل قوم، فيكبّرون) ؛ أي: أربع تكبيرات، (ويصلّون) على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ (ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس) ؛ أي: وهكذا حتّى يصلّي عليه النّاس جميعا.
روى الحاكم في «المستدرك» ، والبزّار: أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم حين جمع أهله في بيت عائشة، قالوا: فمن يصلّي عليك؟ قال: «إذا غسّلتموني وكفّنتموني فضعوني على سرير، ثمّ اخرجوا عنّي ساعة، فإنّ أوّل من يصلّي عليّ جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنوده، ثمّ ادخلوا عليّ فوجا بعد فوج، فصلّوا عليّ، وسلّموا تسليما» . قال الحاكم: فيه عبد الملك بن عبد الرّحمن؛ مجهول، وبقيّة رجاله ثقات.
وروى ابن ماجه أنّهم لمّا فرغوا من جهازه يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته، ثمّ دخل النّاس أرسالا؛ أي: قوما بعد قوم، يصلّون عليه، حتّى إذا فرغوا دخلت النّساء، حتّى إذا فرغن؛ دخل الصّبيان، ولم يؤمّ النّاس عليه أحد، وقد(4/229)
قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن قد صدق.
روي عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: لا يؤمّ أحدكم عليه، لأنّه إمامكم حال حياته، وحال مماته.
وورد في بعض الرّوايات أنّه صلى الله عليه وسلم أوصى على الوجه المذكور، ولذا وقع التّأخير في دفنه، لأنّ الصّلاة على قبره صلى الله عليه وسلم لا تجوز؛ قاله ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» .
قال الباجوري: وجملة من صلّى عليه من الملائكة ستّون ألفا، ومن غيرهم ثلاثون ألفا. انتهى. هذا أمر توقيفيّ؛ يحتاج إلى دليل. والله أعلم.
(قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) ؛ أي: أو يترك بلا دفن؟ لسلامته من التّغيّر، أو لانتظار رفعه إلى السّماء؟ (قال: نعم) ؛ أي:
يدفن في الأرض، لقوله تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) [طه] ، ولأنّه من سنن الأنبياء والمرسلين (قالوا: أين) يدفن؟ كما تقدّم من الخلاف في دفنه. (قال:) يدفن (في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن) ؛ أي: أنّه (قد صدق) فيما قال.
وورد مثل هذا عن أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه، فقد أخرج ابن الجوزيّ في «الوفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؟ فقال لي عليّ رضي الله عنه: إنّه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيّه صلى الله عليه وسلم. قال الشّريف السّمهوديّ: فهذا أصل الإجماع على تفضيل البقعة التي ضمّت أعضاءه على جميع الأرض، حتّى من الكعبة!.
انتهى.(4/230)
ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه.
واجتمع المهاجرون يتشاورون، ...
(ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه) ؛ أي: أمر النّاس أن يمكّنوا بني أبيه من غسله، ولا ينازعوهم فيه، ولذلك لم يقل: أمر بني أبيه أن يغسّلوه، مع أنّه الظّاهر؟ لأنّ المأمور بالغسل هم؛ لا النّاس.
ومراده: ب «بني أبيه» : عصبته من النّسب، فغسّله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لخبر ابن سعد والبزّار والبيهقيّ وابن الجوزي في «الواهيات» ؛ عن عليّ قال: أوصاني النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألايغسّله أحد غيري، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه» . زاد «ابن سعد» : قال عليّ: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء السّتر- وهما معصوبا العين- قال عليّ: فما تناولت عضوا، إلا كأنّما يقلّبه معي ثلاثون رجلا، حتّى فرغت من غسله.
وكان العبّاس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء وأعينهم معصوبة من وراء السّتر.
(واجتمع المهاجرون يتشاورون) في أمر الخلافة، والواو لمطلق الجمع، لأنّ القضيّة واقعة قبل الدّفن، فقد ذكر الطبريّ «1» في «الرّياض النّضرة» : أنّ الصّحابة أجمعوا على أنّ نصب الإمام بعد انقراض زمن النّبوة من واجبات الأحكام، بل جعلوه أهمّ الواجبات، حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وواجب نصب إمام عدل ... بالشّرع فاعلم؛ لا بحكم العقل
واختلافهم في التعيين لا يقدح في الإجماع.
ولتلك الأهميّة لمّا توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر خطيبا؛ فقال: يا أيّها
__________
(1) هو المحب الطبري من علماء القرن السابع الهجري، لا المؤرخ المفسر المحدث المشهور. وقد تقدمت ترجمته مع شيء عن عائلته في الجزء الثاني.(4/231)
فقالوا: انطلق «1» بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير، ...
النّاس؛ من كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمّدا قد مات! ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيّ لا يموت، ولا بدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به، فانظروا، وهاتوا رأيكم! فقالوا صدقت.
واجتمع المهاجرون، (فقالوا) لأبي بكر (: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار) ولعلّهم لم يطلبوا الأنصار إلى مجلسهم!! خوفا أن يمتنعوا من الإتيان إليهم؛ فيحصل اختلاف وفتنة، وقوله: (ندخلهم) - بالجزم؛ في جواب الأمر- (معنا في هذا الأمر) ؛ أي: التّشاور في الخلافة، وكان من جملة القائلين: عمر رضي الله تعالى عنه حيث صرّح بالعلّة بقوله: مخافة إن فارقنا القوم؛ ولم تكن لهم بيعة معنا، أن يحدثوا بعدنا بيعة؟ فإمّا أن نبايعهم على ما لا نرضى، أو نخالفهم؛ فيكون فساد.
(فقالت الأنصار) - مرتّب على محذوف، والتّقدير: فانطلقوا إليهم- وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة- فتكلّموا معهم في شأن الخلافة، فقال قائلهم الحباب بن المنذر (: منّا أمير، ومنكم أمير!!) على عادتهم في الجاهلية، قبل تقرّر الأحكام الإسلامية، فإنّه كان لكلّ قبيلة شيخ ورئيس يرجعون إليه في أمورهم وسياستهم.
ولهذا كانت الفتنة مستمرّة فيهم إلى أن جاء النّبي صلى الله عليه وسلم وألّف بين قلوبهم، وعفا الله عمّا سلف من ذنوبهم.
ولمّا قالوا ذلك ردّ عليهم أبو بكر الصّدّيق، وقال: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فكونوا معنا واستدلّ بقوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) [الحشر] مع
__________
(1) في «وسائل الوصول» : انطلقوا.(4/232)
فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له مثل هذه الثّلاثة؟
ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] من هما؟.
قال: ثمّ بسط يده فبايعه، وبايعه النّاس، بيعة حسنة جميلة.
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة] فقال لهم:
نحن الصّادقون؛ فكونوا معنا. فأذعنوا لقوله.
واحتجّ بحديث: «الأئمّة من قريش» وهو حديث صحيح؛ ورد من طريق نحو أربعين صحابيا. وفي رواية أحمد والطّبرانيّ؛ عن عقبة بن عبد بلفظ: «الخلافة لقريش» .
واستغني بهذا عن الرّدّ عليهم بالدّليل العقلي؛ وهو أنّ تعدّد الأمير يفضي إلى التّعارض والتّناقض؛ فلا يتمّ النّظام، ولا يلتئم الكلام.
(فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له) أي: من ثبت له (مثل هذه) الفضائل (الثّلاثة؟!) التي ثبتت لأبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه، وهو استفهام إنكاريّ، قصد به الرّدّ على الأنصار، حيث توهّموا أنّ لهم حقا في الخلافة، وهذه الثّلاثة مذكورة في قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) هذه الأولى، والثّانية قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) ، والثّالثة قوله (إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) فبعد ما تلا عليهم عمر بن الخطّاب هذه الآية، قال: (من هما!؟) أي: من هذان الاثنان المذكوران في هذه الآية؟ والاستفهام للتّعظيم والتّقرير!!
(قال) ؛ أي: الرّاوي (ثمّ بسط) أي: مدّ عمر رضي الله عنه (يده) أي:
كفّه (فبايعه) ؛ أي: بايع عمر أبا بكر الصّدّيق (وبايعه النّاس) أي: الموجودون في ذلك المحل (بيعة حسنة جميلة) لوقوعها عن ظهور واتفاق من أهل الحلّ والعقد، ولم يحضر هذه البيعة عليّ والزّبير؛ ظنّا منهما أنّ الشيخين لم يعتبراهما في(4/233)
.........
المشاورة؛ لعدم اعتنائهما بهما، مع أنّه ليس الأمر كذلك؟ بل كان عذرهما في عدم التّفتيش على من كان غائبا في هذه الوقت عن هذا المجلس، خوفهما من الأنصار أن يعقدوا البيعة لواحد منهم؛ فتحصل الفتنة، مع ظنّهما أنّ جميع المهاجرين خصوصا عليّا والزّبير لا يكرهون خلافة أبي بكر.
ولذلك قال عليّ والزّبير: ما أغضبنا إلّا أنّا أخّرنا عن المشورة، وأنّا نرى أبا بكر أحقّ النّاس بها، وأنّه لصاحب الغار، وأنّا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّي بالنّاس؛ وهو حيّ، وأنّه رضيه لديننا؛ أفلا نرضاه لدنيانا.
ولمّا حصلت تلك المبايعة في سقيفة بني ساعدة يوم الاثنين؛ الّذي مات فيه النّبي صلى الله عليه وسلم وأصبح يوم الثّلاثاء، واجتمع النّاس في المسجد النّبويّ بكثرة وحضر عليّ والزّبير، وجلس الصّدّيق على المنبر، وقام عمر، فتكّلم قبله، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله تعالى قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايعوه بيعة عامّة، حتّى عليّ والزّبير بعد بيعة السّقيفة.
ثمّ تكلّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد؛ أيّها النّاس قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضّعيف فيكم قويّ عندي حتى أريح عليه حقّه إن شاء الله تعالى، والقويّ فيكم ضعيف عندي؛ حتّى آخذ الحقّ منه إن شاء الله، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله، إلّا ضربهم الله بالذّلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلّا عمّهم الله تعالى بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، وإذا عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم؛ رحمكم الله.
وأخرج موسى بن عقبة؛ في «مغازيه» ، والحاكم وصحّحه؛ عن عبد الرّحمن بن عوف قال:(4/234)
قال الباجوريّ:
(الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40] .
الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التوبة: 40] .
خطب أبو بكر؛ فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما وليلة قطّ، ولا كنت راغبا، ولا سألتها الله؛ في سرّ ولا علانية، ولكنّي أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، فلقد قلّدت أمرا عظيما؛ مالي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله.
ولما فرغوا من المبايعة يوم الثّلاثاء اشتغلوا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم.
(قال) شيخ الإسلام؛ إبراهيم (الباجوريّ) - نسبة إلى «بيجور» قرية بمصر؛ من المنوفيّة، ويقال لها: باجور، ولعلّها لغة فيها!! رحمه الله تعالى قال في تقرير الفضائل الثلاث الّتي ثبتت للصّدّيق رضي الله تعالى عنه:
(الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى) في سورة التّوبة (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) [40/ التوبة] المعهود بمكّة وقت الهجرة وهو غار ثور، إذ مكثا فيه ثلاث ليال، فذكر في الآية أبا بكر الصّدّيق مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بضمير التّثنية، وناهيك بذلك.
(الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة، في قوله تعالى إِذْ يَقُولُ) أي:
النّبيّ صلى الله عليه وسلم (لِصاحِبِهِ) أبي بكر الصّدّيق، وقد قال له لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصارنا؟! (لا تَحْزَنْ) مقول قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الصّدّيق قد حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا على نفسه؟ فقال له:
يا رسول الله: إذا متّ أنا، فأنا رجل واحد، وإذا متّ أنت؛ هلكت الأمّة والدّين!!(4/235)
فسمّاه الله (صاحبه) ، فمن أنكر صحبته.. كفر؛ لمعارضته القرآن.
الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] .
(فسمّاه الله «صاحبه» ) ولم يشرّف غيره من الصّحابة بتنصيصه على الصّحبة، (ف) لهذه الخصوصية، قال العلماء: (من أنكر صحبته كفر، لمعارضته القرآن) أي: لكون إنكار صحبته يتضمّن إنكار الآي القرآنية، بخلاف سائر الصّحابة، ولعلّ هذه الإضافة المشرّفة بالكتاب، صارت سببا لصحبته المستمرّة له في الحياة والممات، والخروج إلى العرصات، والدّخول في الجنّات!! فبهذه الصّحبة المخصوصة فارق الصّدّيق سائر الأصحاب، كما شهد به الكتاب.
(الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) [40/ التوبة] والمراد بالمعيّة: الولاية الدائمة، الّتي لا يحوم حول صاحبها شيء من الحزن.
وفي العدول عن «معي» إلى «معنا» : دلالة واضحة على اشتراك الصّدّيق معه في هذه المعيّة، بخلاف قول موسى عليه الصّلاة والسّلام كما أخبر سبحانه عنه بقوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) [الشعراء] .
وقد ذكرت الصّوفيّة هنا شيئا من النّكت العليّة؛ وهي: أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام كان في مقام التّفرقة، وأنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم كان في حالة الجمعيّة الجامعة، المعبّر عنها، بمقام «جمع الجمع» . فهذه المعيّة المقرونة بالجمعية مختصّة بالصّدّيق؛ دون الأصحاب.
فانظر إلى خصوصيّته رضي الله عنه بهذه الأسرار، من موافقته في الغار، ومرافقته في الأسفار، وملازمته في موضع القرار؛ حيا وميتا، وخروجا من القبر،(4/236)
فثبوت هذه الفضائل له.. يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) .
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كرب الموت ما وجد.. قالت فاطمة رضي الله [تعالى] عنها: واكرباه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«لا كرب على أبيك بعد اليوم؛ ...
ودخولا في الجنّة؛ مقدّما على جميع الأبرار.
(فثبوت هذه الفضائل له) دليل ظاهر على أفضليّته، وتقدّمه على سائر الصّحابة، وذلك (يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) وفي هذه القضيّة من الإشارة الخفيّة أنّه أفضل المهاجرين، لأنّ هجرته مقرونة بهجرته صلى الله عليه وسلم، بخلاف هجرة غيره؛ مقدّما أو مؤخّرا.
ومن المعلوم أنّ المهاجرين أفضل من الأنصار، وقد أشار إليه سبحانه بقوله:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [100/ التوبة] .
فهذا دليل على أن الصّدّيق أفضل الأصحاب كما فهمه عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.
(و) أخرج البخاريّ بعضه، وابن ماجه والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛
(عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال: لمّا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت) أي: شدّة سكراته، لأنّه كان يصيب جسده الشّريف الآلام البشريّة، ليزداد ترقية في المراتب العليّة، و «من» تبعيضيّة، أو بيانيّة، لقوّة (ما وجد، قالت فاطمة) الزّهراء (رضي الله عنها) - لمّا رأت من شدّة كرب أبيها- (: وا كرباه!!) - بألف الندبة، وفتح الكاف، وسكون الرّاء، وهاء ساكنة في آخره للوقف-، فقد حصل لها من التّألّم والتّوجّع مثل ما حصل لأبيها.
(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم) تسلية لها (: «لا كرب على أبيك بعد اليوم!!) ، لأنّ الكرب كان بسبب العلائق الجسمانيّة، وبعد اليوم تنقطع تلك العلائق الحسّية،(4/237)
إنّه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة» .
قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» : (قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق، فنظر إلينا، فدمعت عيناه صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: ...
للانتقال حينئذ إلى الحضرة القدسيّة، فكربه سريع الزّوال؛ ينتقل بعده إلى أحسن النّعيم، ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمحن الدّنيا فانية، ومنح الآخرة باقية.
(إنّه) ؛ أي: الحال والشّأن (قد حضر من أبيك) ؛ أي: نزل به (ما) أي: شيء عظيم- (ليس) الله (بتارك منه) من الوصول إليه (أحدا) وذلك الأمر العظيم، هو (: الموافاة يوم القيامة» ) أي: الحضور ذلك اليوم المستلزم للموت.
والقصد تسليتها، بأنّه لا كرب عليه بعد اليوم، وأمّا اليوم فقد حضره ما هو مقرّر عامّ لجميع الأنام، فينبغي أن ترضي وتسلّمي؛ كذا قرره المناوي.
(قال الإمام) حجّة الإسلام محمّد بن محمّد بن محمّد: أبو حامد (الغزاليّ) بتخفيف الزّاي؛ في المشهور- منسوب إلى «غزالة» : قرية من قرى طوس، وحكي عن بعض أسباط الغزالي: أنّه أخطأ النّاس في تثقيل جدّنا. وإنّما هو مخفّف رحمه الله تعالى.
(في) كتاب ( «الإحياء» ) ؛ أي: «إحياء علوم الدّين» ؛ في «ربع المنجيات؛ كتاب ذكر الموت»
(قال) عبد الله (بن مسعود) الهذليّ (رضي الله تعالى عنه:
دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق) للدّنيا (فنظر إلينا؛ فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال:(4/238)
«مرحبا بكم، حيّاكم الله، آواكم الله، نصركم الله، وأوصيكم بتقوى الله، وأوصي بكم الله، إنّي لكم منه نذير مبين؛ ألاتعلوا على الله في بلاده وعباده، وقد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة المأوى، وإلى الكأس الأوفى، فاقرؤوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي منّي السّلام ورحمة الله» .
«مرحبا بكم) - أي: لقيتم رحبا؛ أي: سعة- (حيّاكم الله) - معناه: الدّعاء لهم بالحياة في الطّاعة، على ما هو اللّائق في مقام الدّعاء- (آواكم الله) - بالمدّ والقصر، والمدّ أشهر، أي: ضمّكم إلى رحمته ورضوانه، وإلى ظلّ عرشه يوم القيامة- (نصركم الله) ؛ أي: أعانكم.
(وأوصيكم بتقوى الله) ؛ أي: بمخافته، والحذر من مخالفته، (وأوصي بكم الله) ؛ أي: أستخلفه عليكم، (إنّي لكم منه نذير مبين) بيّن الإنذار؛ (أن لا تعلو) تتكبّروا (على الله في بلاده) بترك ما أمركم به، وفعل ما نهاكم عنه (وعباده) بظلمهم (وقد دنا) : قرب (الأجل) : الموت، (والمنقلب) : الرّجوع (إلى الله، وإلى سدرة المنتهى) الّتي ينتهي إليها علم الخلائق، (وإلى جنّة المأوى) :
الإقامة، (وإلى الكأس الأوفى، فاقرأوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي منّي السّلام، ورحمة الله» ) أي: أنالكم الله رحمته الّتي وسعت كلّ شيء.
قال في «شرح الإحياء» :
قال العراقيّ: رواه البزّار، وقال: هذا الكلام قد روي [عن] مرّة عن عبد الله من غير وجه، وأسانيدها متقاربة. قال: وعبد الرّحمن بن الأصبهانيّ لم يسمع هذا من مرّة، وإنّما هو عمّي أخبره عن مرّة، قال: ولا أعلم أحدا رواه عن عبد الله غير مرّ.
قلت: وروي من غير ما وجه؛ رواه ابن سعد في «الطّبقات» من رواية ابن(4/239)
وروي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السّلام عند موته: «من لأمّتي من بعدي؟» ، فأوحى الله تعالى إلى جبريل: أن بشّر حبيبي أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض إذا بعثوا، وسيّدهم إذا جمعوا، ...
عون؛ عن ابن مسعود. ورويناه في «مشيخة القاضي أبي بكر الأنصاريّ» من رواية الحسن العرني؛ عن ابن مسعود، ولكنّهما منقطعان وضعيفان، والحسن العرنيّ، إنّما يرويه عن مرّة، كما رواه ابن أبي الدّنيا، والطّبرانيّ في «الأوسط» . انتهى.
(وروي) بإسناد ضعيف؛ في حديث طويل جدّا- كما قال العراقيّ- رواه الطبرانيّ في «الكبير» من حديث جابر؛ وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم.
(أنّه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السّلام عند موته: «من لأمّتي) المصطفاة (من بعدي؟» . فأوحى الله تعالى إلى جبريل) عليه السّلام (أن بشّر حبيبي، أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض) ؛ أي: من قبره.
فقد روى مسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنا سيّد ولد آدم، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» . ورواه أبو داود أيضا وغيره.
(إذا بعثوا) ؛ أي: أثيروا من قبورهم، وهذا من كمال عناية ربّه به، حيث منحه هذا السّبق، (وسيّدهم إذا جمعوا) في أرض المحشر يوم القيامة ويظهر سؤدده لكلّ أحد عيانا.
أخرج التّرمذيّ بسند فيه راو ليّن؛ عن أنس رضي الله عنه: «أنا أوّل النّاس خروجا؛ إذا بعثوا، وأنا خطيبهم؛ إذا وفدوا، وأنا مبشّرهم؛ إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي؛ ولا فخر» .(4/240)
وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته، فقال [صلّى الله عليه وسلّم] : «الآن قرّت عيني» .
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة آبار، ...
وأخرج مسلم وأبو داود كلاهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» .
(وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته. فقال) ؛ أي صلى الله عليه وسلم (: «الآن قرّت عيني» ) ؛ أي: سررت بهذه البشارة.
(وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) فيما رواه الدّارميّ بهذا السّياق في «مسنده» - وفيه: إبراهيم بن المختار؛ مختلف فيه- عن محمّد بن إسحاق- وهو مدلّس، وقد رواه بالعنعنة؛ كما قاله العراقيّ-.
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة آبار) هذه زيادة على رواية البخاري وغيره، فيحتمل أنّها معيّنة، ويحتمل أنّها غير معيّنة، وإنّما يراد تفرّقها خاصّة.
فعلى الأوّل: في تلك الآبار المعيّنة خصوصيّة، ليست في غيرها.
وعلى الثّاني: الخصوصيّة في تفرّقها. والله أعلم.
وقد ذكر العلماء الآبار الّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ منها، ويشرب من مائها؛ ويغتسل، وهي سبعة: 1- بئر أريس؛ ويقال لها «بئر الخاتم» ، و 2- بيرحاء، و 3- بئر رومة، و 4- بئر غرس، و 5- بئر بضاعة، و 6- بئر بصّة، و 7- بئر السّقيا؛ أو 7- بئر جمل. السّابعة فيها تردّد!!.
وقد أخرج ابن ماجه في «السّنن» ؛ من حديث عليّ بإسناد جيّد: «إذا أنا(4/241)
ففعلنا ذلك، فوجد راحة، فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار، فقال: «أمّا بعد: يا معشر المهاجرين؛ فإنّكم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم، وإنّ الأنصار عيبتي الّتي أويت إليها، ...
متّ، فاغسلوني بسبع قرب من بئري: بئر غرس» . انتهى «شرح الإحياء» .
(ففعلنا ذلك؛ فوجد راحة) ؛ أي: خفّة من المرض (فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم) كالمودّع للأحياء والأموات، (وأوصى بالأنصار) أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وفي البخاريّ؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا دخل بيتي واشتدّ وجعه؛ قال: «أهريقوا عليّ من سبع قرب؛ لم تحلل أوكيتهنّ، لعلّي أعهد إلى النّاس!» . فأجلسناه في مخضب لحفصة «زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم» ثمّ طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب، حتّى طفق يشير إلينا بيده: أن قد فعلتنّ. قالت: ثمّ خرج إلى النّاس؛ فصلّى بهم، وخطبهم؛ (فقال:
«أمّا بعد؛ يا معشر المهاجرين، فإنّكم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم) بل ينقصون- كما في البخاري- حتّى يكونوا كالملح في الطّعام» .
وقد وقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإنّ الموجودين الآن ممّن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه- ممّن يتحقّق نسبته إليه- أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج، ممّن يتحقّق نسبه!! وقس على ذلك.
ولا التفات إلى كثرة من يدّعي أنّه منهم من غير برهان؛ قاله في «الفتح» .
(وإنّ الأنصار عيبتي) - بعين مهملة مفتوحة، وتحتيّة ساكنة، وموحّدة مفتوحة، وتاء تأنيث- وهي: ما يحرز فيها الرّجل نفيس ما عنده، يعني: أنّهم موضع سرّه (الّتي أويت إليها) فإنّهم آووه ونصروه، وهذا أمر قد انقضى زمانه؛(4/242)
فأكرموا كريمهم- يعني: محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» .
ثمّ قال [صلّى الله عليه وسلّم] : «إنّ عبدا خيّر بين الدّنيا وبين ما عند الله.. فاختار ما عند الله» ، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ أنّه يريد نفسه.
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «على رسلك يا أبا بكر،..
لا يلحقهم فيه اللّاحق، ولا يدرك شأوهم السّابق (فأكرموا كريمهم» - يعني:
محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» ) في غير الحدود. (ثمّ قال:
«إنّ عبدا خيّر) - من التّخيير- (بين الدّنيا وبين ما عند الله) في الآخرة؛ (فاختار) ذلك العبد (ما عند الله» . فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ) ؛ أي: فهم (أنّه) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (يريد) بهذا الكلام (نفسه) صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه: فديناك بابائنا وأمّهاتنا.
قال الرّاوي: فعجبنا لبكائه! وقال النّاس: متعجّبين: انظروا إلى هذا الشّيخ؛ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيّره بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا؛ وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمّهاتنا!؟.
قال الرّاوي: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به؛ ذكره في البخاري.
(فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على رسلك؛ يا أبا بكر) تسلية له، إذ خفي المعنى على كثير ممّن سمع كلامه، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصّيص به؛ ثاني اثنين إذ هما في الغار، وكان أعلم الأمّة بمقاصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا فهم المقصود من هذه الإشارة بكى؛ وقال «بل نفديك بأموالنا؛ وأنفسنا؛ وأولادنا» .
فسكّن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه، وأخذ في مدحه، والثّناء عليه على المنبر، ليعلم النّاس كلّهم فضله؛ فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: «إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام» .(4/243)
سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر؛ فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصّحبة من أبي بكر» .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( «سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر) الصّدّيق؛ إكراما له، وتنويها بأنّ أبا بكر هو الخليفة والإمام بعده، فإنّ الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد، والاستطراق فيه، بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلّين؛ فإبقاؤه مصلحة عامّة.
ثمّ صرّح بأفضليّته على غيره؛ حيث قال: (فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصّحبة من أبي بكر» ) الصّدّيق، فهو أفضل الأصحاب على الإطلاق.
ثمّ أكّد هذا المعنى بأمره صريحا: أن يصلّي بالنّاس أبو بكر، فروجع في ذلك، وهو يقول: «مروا أبا بكر أن يصلّي بالنّاس» . فولّاه إمامة الصّلاة، ولذا قال الصّحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟!
وفيه إشارة قويّة إلى استحقاقه الخلافة، لا سيّما وقد ثبت أنّ ذلك كان في الوقت الّذي أمرهم فيه أنّ لا يؤمّهم إلّا أبو بكر.
نعم جاء في سدّ الأبواب أحاديث؛ يخالف ظاهرها حديث الباب!!؛
فروى الإمام أحمد، والنّسائيّ بإسناد قويّ؛ عن سعد بن أبي وقّاص:
أمر صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب الشّارعة في المسجد، وترك باب عليّ زاد الطّبرانيّ في «الأوسط» برجال ثقات: فقالوا: يا رسول الله؛ سددت أبوابنا؟! فقال:
«ما سددتها!!، ولكنّ الله سدّها!» .
وروى الإمام أحمد، والنّسائيّ، والحاكم برجال ثقات؛ عن زيد بن أرقم:
كان لنفر من الصّحابة أبواب شارعة في المسجد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «سدّوا هذه الأبواب، إلّا باب عليّ» رضي الله عنه، فتكلّم ناس في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّي والله ما سددت شيئا، ولا فتحته! ولكن ولكن أمرت بشيء، فاتّبعته» .
وروى الإمام أحمد، والنّسائيّ برجال ثقات؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى(4/244)
.........
عنهما قال: أمر صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدّت؛ غير باب عليّ. فكان يدخل المسجد وهو جنب؛ ليس له طريق غيره.
وروى الطّبرانيّ عن جابر بن سمرة قال: أمر بسدّ الأبواب كلّها؛ غير باب عليّ، فربّما مرّ فيه وهو جنب.
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن؛ عن ابن عمر قال: لقد أعطي عليّ ثلاث خصال؛ لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم: زوّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابنته؛ وولدت له، وسدّ الأبواب؛ إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الرّاية يوم خيبر.
وهذه أحاديث يقوّي بعضها بعضا، وكلّ طريق منها صالح للحجّة؛ فضلا عن مجموعها. وأوردها ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وأعلّها بما لا يقدح!! وبمخالفتها للأحاديث الصّحيحة في باب أبي بكر!! وزعم أنّها من وضع الزّنادقة؛ قابلوا بها الحديث الصّحيح!! فأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فاحشا، فإنّه سلك يردّ الأحاديث الصّحيحة بتوهّمه المعارضة!!
مع أنّ الجمع بين القضيّتين ممكن؛ كما أشار إليه البزّار، بما دلّ عليه حديث أبي سعيد؛ عند الترمذيّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: «لا يحلّ لأحد، أن يطرق هذا المسجد جنبا، غيري وغيرك» .
والمعنى: أنّ باب عليّ كان إلى جهة المسجد؛ ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدّه.
ويؤيّده ما أخرجه إسماعيل القاضي؛ عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمرّ في المسجد وهو جنب؛ إلّا لعليّ بن أبي طالب، لأنّ بيته كان في المسجد.
ومحصّل الجمع أنّه أمر بسدّ الأبواب مرّتين.
ففي الأولى: استثنى باب عليّ لما ذكر.(4/245)
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقبض صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، ...
وفي الآخرى: باب أبي بكر، لكن إنّما يتمّ بحمل باب عليّ على الباب الحقيقي، وباب أبي بكر الباب المجازيّ؛ أي الخوخة- كما في بعض طرقه- وكأنّهم لما أمروا بسدّها سدّوها، وأحدثوا خوخا يستقربون الدّخول إلى المسجد منها؛ فأمروا بعد ذلك بسدّها، فهذا لا بأس به في الجمع.
وبه جمع الطّحاويّ والكلاباذيّ، وصرّح بأنّ بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد؛ وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت عليّ لم يكن له باب إلّا من داخل المسجد. انتهى. ملخّصا من «فتح الباري» رحم الله مؤلّفه. آمين.
(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما ذكره في «الإحياء» . وقال العراقي: متّفق عليه- (فقبض صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي) الّذي كان يدور عليّ فيه (وبين سحري) - بفتح السّين، وسكون الحاء المهملتين-: هو الصّدر، (ونحري) - بفتح النّون، وسكون الحاء المهملة-: موضع القلادة من الصّدر؛ كما في «الصّحاح» .
وفي رواية عنها: مات بين حاقنتي وذاقنتي. والحاقنة- بالحاء المهملة، والقاف المكسورة، والنّون المفتوحة-: أسفل من الذّقن. والذّاقنة: طرف الحلقوم. وقيل: غير ذلك.
والحاصل: أنّ ما بين الحاقنة والذّاقنة، هو: ما بين السّحر والنّحر.
والمراد أنّه صلى الله عليه وسلم توفّي ورأسه بين عنقها وصدرها.
وهذا الحديث الصّحيح لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد؛ من طرق:
أنّه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر عليّ!! لأنّ طريقا منها؛ كما قال الحافظ ابن حجر:
لا يخلو عن مقال في إسناده؛ من جهة ضعف رواته؛ فلا يلتفت لمعارضته الحديث الصّحيح.(4/246)
وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ أخي عبد الرّحمن وبيده سواك، فجعل ينظر إليه، فعرفت أنّه يعجبه ذلك، فقلت له: آخذه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فناولته إيّاه، فأدخله في فيه، فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فليّنته، وكان بين يديه ركوة ماء، فجعل يدخل فيها يده ويقول:
«لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» ، ثمّ نصب يده يقول:
«الرّفيق الأعلى ...
(وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ) - بتشديد الياء- (أخي عبد الرّحمن) بن أبي بكر (وبيده سواك) ؛ وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فجعل ينظر إليه!! فعرفت أنّه يعجبه ذلك؛ فقلت له: آخذه لك!؟ فأومأ برأسه؛ أي:
نعم) .
فيه العمل بالإشارة عند الحاجة، وقوّة فطنة عائشة رضي الله تعالى عنها (فناولته إيّاه، فأدخله في فيه؛ فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه، أي: نعم. فليّنته) بالماء، (وكان بين يديه ركوة ماء) - بفتح الرّاء؛ من جلد- (فجعل يدخل فيها يده) ويمسح بها وجهه، (ويقول: «لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» .) جمع سكرة؛ وهي الشّدّة. (ثمّ نصب يده يقول: «الرّفيق الأعلى) أي: أسأل الله الرّفيق الأعلى.
والرّفيق الأعلى هو: جماعة الأنبياء الّذين يسكنون أعلى علّيّين. والمراد الأنبياء؛ ومن ذكر في الآية.
والمراد بمرافقتهم: المحلّ الّذي يحصل فيه مرافقتهم في الجملة؛ على اختلاف درجاتهم، فلا يقال: إنّ محلّه صلى الله عليه وسلم فوقهم؛ فكيف يسأل اللّحاق بهم؟.
وقيل: المراد بالرّفيق الأعلى: الله، لأنّه من أسمائه تعالى- كما في مسلم؛(4/247)
الرّفيق الأعلى» .
فقلت: إذا- والله- لا يختارنا.
وروى سعيد بن عبد الله، عن أبيه ...
عن عائشة: «إنّ الله رفيق؛ يحبّ الرّفق» -. وقيل: المراد بالرّفيق الأعلى:
حظيرة القدس، أي: الجنّة، وقيل غير ذلك.
(الرّفيق الأعلى» ) ولا زال يكرّر ذلك صلى الله عليه وسلم حتّى قبض، ومالت يده.
وفي «المواهب» : الحكمة في اختتام كلامه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة كونها تتضمّن التّوحيد، أي: لدلالتها على قطع العلائق، عن غيره سبحانه وتعالى حيث قصر نظره على طلب الرّفيق الأعلى على كلّ تفسيراته.
وتتضمّن الذّكر بالقلب، فهو وإن لم يذكر باللّسان؛ فهو مستحضر بالقلب، حتّى يستفاد منها الرّخصة لغيره، أنّه لا يشترط أن يكون الذّكر باللّسان عند الموت، لأنّ بعض النّاس قد يمنعه من النّطق مانع؛ كعقل اللّسان عنه، فلا يضرّه ذلك إذا كان قلبه عامرا بالذّكر. انتهى من الزّرقاني.
(فقلت: إذا؛ والله لا يختارنا) من الاختيار، وفي رواية: لا يجاورنا.
قالت: فعرفت أنّه حديثه الّذي كان يحدّثنا به؛ وهو صحيح حيث كان يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ، حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يخيّر» .
وما فهمته عائشة رضي الله عنها من قوله عليه الصّلاة والسّلام: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» أنّه خيّر بين الدّنيا، والارتحال إلى الآخرة، نظير فهم أبيها رضي الله عنه؛ من قوله عليه الصّلاة والسّلام «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» أنّ العبد المراد هو النّبيّ صلى الله عليه وسلم- كما تقدّم-.
(و) في كتاب «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزالي رحمه الله تعالى:
(روى سعيد بن عبد الله) بن ضرار (عن أبيه) عبد الله بن ضرار بن الأزور؛ تابعيّ روى عن ابن مسعود، قال أبو حاتم فيه، وفي ابنه سعيد: ليس بالقوي.(4/248)
قال: لمّا رأت الأنصار أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزداد ثقلا.. أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم.
انتهى. وقال الذّهبيّ: سعيد بن عبد الله بن ضرار؛ عن أبيه؛ وغيره. قال يحيى:
لا يكتب حديثه. انتهى من «شرح الإحياء» .
وحديثه هذا قال فيه العراقيّ: مرسل ضعيف، وفيه نكارة، ولم أجد له أصلا!!.
لكن قال في «شرح الإحياء» : أسنده سيف بن عمر التّميمي- ويقال الضّبي- الكوفيّ في كتاب «الفتوح» هكذا. وسيف بن عمر ضعيف الحديث عمدة في التّاريخ، أفحش ابن حبّان القول فيه، مات زمن الرّشيد، روى له التّرمذيّ؛ قاله الحافظ ابن حجر. نقله الزّرقانيّ، وقال: ذكر هذا الحديث الفاكهانيّ في «الفجر المنير» ؛ من طريق سيف بن عمر التّميمي المذكور رحمه الله تعالى.
(قال: لمّا رأت الأنصار) جمع ناصر؛ كالأصحاب: جمع صاحب، وسمّوا بذلك!! لما فازوا به دون غيرهم؛ من نصرته صلى الله عليه وسلم وإيوائه، وإيواء من معه، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم.
والأنصار هم: قبيلتا الأوس والخزرج، وحلفاؤهم أبناء حارثة بن ثعلبة، وهو اسم إسلاميّ، واسم أمّهم قيلة- بالقاف المفتوحة، والتّحتية السّاكنة-.
وفي البخاري؛ عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمّون به، أم سمّاكم الله به؟ قال: بلى سمّانا الله به. أي: كما في قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [100/ التوبة] انتهى. من القسطلّاني» .
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد ثقلا) من مرضه (أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم) : خوفهم عليه(4/249)
ثمّ دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك.
ثمّ دخل عليه عليّ رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله، فمدّ يده، وقال: «ها» فتناولوه، فقال: «ما يقولون؟» ، قالوا: يقولون:
نخشى أن تموت. وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فخرج متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معصوب الرّأس يخطّ برجليه، حتّى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثاب النّاس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني أنّكم تخافون عليّ الموت، كأنّه استنكار منكم للموت؟! وما تنكرون من موت نبيّكم؟ ألم أنع إليكم، وتنعى إليكم أنفسكم؟!
الفقد، (ثمّ دخل عليه الفضل) بن عبّاس [رضي الله تعالى عنه] (فأعلمه بمثل ذلك، ثمّ دخل عليه عليّ) بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله) أي:
ذكر له حال الأنصار.
(فمدّ يده) صلى الله عليه وسلم (وقال: «ها» ) ؛ أي: خذوا بيدي لأنهض، (فتناولوه، فقال: «ما يقولون؟» قالوا: يقولون: نخشى أن تموت) من مرضك هذا (وتصايح نساؤهم) ؛ أي: رفعن أصواتهنّ بالبكاء (لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) من فراشه (فخرج) حال كونه (متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه) : قدّامه، (ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب الرّأس) من الوجع (يخطّ) - بضمّ الخاء- (برجليه حتّى جلس على أسفل مرقاة) : درجة (من المنبر، وثاب) : اجتمع (النّاس إليه) في المجلس، (فحمد الله وأثنى عليه) بما هو أهله، (وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني) من الثّلاثة المذكورين (أنّكم تخافون عليّ) - بتشديد الياء التحتيّة- (الموت؟! كأنّه استنكار منكم للموت؟!) أن ينزل بي، (وما تنكرون من موت نبيّكم!؟ ألم أنع إليكم؟ وتنعى إليكم أنفسكم؟!) في(4/250)
هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث.. فأخلّد فيكم؟
ألا وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به.
وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا، وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإنّ الله عزّ وجلّ قال: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 1- 3] ... إلى آخرها.
قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر] (هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث) إليهم (فأخلّد؟!) - بالنّصب- (فيكم!!) وفيه تسلية لهم، وتذكير بقوله تعالى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [34/ الأنبياء] ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [144/ آل عمران] ، (ألا) - بالفتح والتّخفيف- (وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به) ؛ أي: ميّتون لا محالة، (وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا) بأن تعرفوا حقّهم، وتنزلوهم منزلتهم، (وأوصي المهاجرين فيما بينهم) بالدّوام على التّقوى وعمل الصّالحات، (فإنّ الله عزّ وجلّ قال (وَالْعَصْرِ) (1) - الدّهر، أو: ما بعد الزّوال إلى الغروب، أو صلاة العصر- (إِنَّ الْإِنْسانَ) - الجنس- (لَفِي خُسْرٍ) (2) ؛ أي: خسران، ومعناه: النّقصان، وذهاب رأس المال، والتّنكير في الخسر، يفيد التّعظيم، أي: إنّ الإنسان لفي خسر عظيم، لا يعلم كنهه إلّا الله، فقد جعل الإنسان مغمورا في الخسر للمبالغة، وأنّه أحاط به من كلّ جانب، لأنّ كلّ ساعة تمرّ بالإنسان، فإن كانت مصروفة إلى المعصية؛ فلا شكّ في الخسر، وإن كانت مشغولة بالمباحات؛ فالخسران أيضا حاصل، وإن كانت مشغولة بالطّاعات؛ فهي غير متناهية، وترك الأعلى والاقتصار على الأدنى نوع خسران.
والألف واللّام في «الإنسان» للجنس، فيشمل المؤمن والكافر، بدليل الاستثناء في قوله- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
- أي: فليسوا كذلك، وتلاها (إلى آخرها) . أو أنّه قال: «إلى آخرها» .(4/251)
وإنّ الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله.. غلبه، ومن خادع الله.. خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] .
وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤوا الدّار والإيمان (وإنّ الأمور تجري) ؛ أي: تقع (بإذن الله) أي: بإرادته، (فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله؟!، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يعجل لعجلة) ؛ أي: لأجل عجلة (أحد) ، فلا فائدة في الاستعجال، بل فيه الهمّ والغمّ والنّكال، (ومن غالب الله غلبه) الله، (ومن خادع الله خدعه) . والمفاعلة فيهما ليست مرادة، بل هي نحو «عافاك الله» .
وإنّما عبّر بالمفاعلة!! تشبيها بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [9/ البقرة] ؛ تشبيها لفعل المنافقين بفعل المخادع.
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ) - فهل يتوقّع منكم- (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - أمور النّاس، وتأمّرتم عليهم، أو أعرضتم وتولّيتم عن الإسلام- (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [22/ محمد] ؛ تشاجرا على الدّنيا، وتجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من التّغاور ومقاتلة الأقارب.
والمعنى: أنّهم لضعفهم في الدّين وحرصهم على الدّنيا؛ أحقّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم، ويقول لهم: هل عسيتم؛ قاله البيضاوي.
ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام.
(وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤا الدّار) ؛ أي: اتّخذوا المدينة وطنا، سمّيت دارا!! لأنّها دار الهجرة (والإيمان) ؛ أي: ألفوه، فنصب بعامل(4/252)
من قبلكم؛ أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثّمار؟! ألم يوسّعوا عليكم في الدّيار؟! ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟!.
ألا.. فمن ولّي أن يحكم بين رجلين.. فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم.
ألا.. ولا تستأثروا عليهم.
ألا.. وإنّي فرط لكم، وأنتم لاحقون بي.
ألا.. وإنّ موعدكم الحوض، حوضي أعرض ممّا بين بصرى خاصّ، أو بتضمين «تبوؤا» معنى «لزموا» ، أو بجعل الإيمان منزلا مجازا لتمكّنهم فيه، فجمع في «تبوؤا» بين الحقيقة والمجاز. (من قبلكم، أن تحسنوا إليهم) بدل من «خيرا» .
ثمّ بيّن أنّ أمره به لمكافأتهم بقوله: (ألم يشاطروكم في الثّمار؟) بإعطائكم نصف ثمارهم. والاستفهام للتّقرير!! (ألم يوسّعوا لكم في الدّيار؟ ألم يؤثروكم) : يقدّموكم (على أنفسهم، وبهم الخصاصة) : الحاجة إلى ما يؤثرون به، (ألا فمن ولّي أن يحكم بين رجلين) منهم؛ (فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم) في غير الحدود.
وعبّر بالجمع!! إشارة إلى أنّ المراد جنس رجلين، أو على أنّ أقل الجمع اثنان.
(ألا) - بالفتح مخفّفا- (ولا تستأثروا عليهم) بتقديم أنفسكم، وتميّزكم بالأمور الدّنيوية دونهم، (ألا؛ وإنّي فرط) - بفتحتين: سابق- (لكم) أهيّء لكم حوائجكم، (وأنتم لاحقون بي، ألا وإنّ موعدكم الحوض) في القيامة، (حوضي أعرض ممّا بين بصرى) ؛ كحبلى: بلد بالشّام، بين دمشق والمدينة، أوّل بلاد الشّام فتوحا سنة ثلاث عشرة، وحقّق شرّاح «الشّفاء» أنّها حوران، أو قيساريّة.(4/253)
الشّام وصنعاء اليمن، يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء، أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد، من شرب منه.. لم يظمأ أبدا، ...
وإنما قال: «بصرى (الشّام» ) بالإضافة!! احترازا من بصرى بغداد؛ قرية قرب عكبر، ذكرها ياقوت في «المعجم» «1» (وصنعاء) - بالمدّ، ويقصر للضّرورة-: بلد باليمن، قاعدة ملكها، ودار سلطنتها، كثير الأشجار والمياه، حتّى قيل: إنّها تشبه دمشق الشّام في المروج والأنهار، ويقال: إنّ اسم مدينة صنعاء في الجاهلية: أزال. ويروى: أنّ صنعاء كانت امرأة ملكة، وبها سمّيت صنعاء، وفي كتاب «المعجم» لأبي عبيد البكري: أنّ صنعاء كلمة حبشيّة، ومعناها: وثيق حصين.
وإنّما قال «صنعاء (اليمن» ) !! بالإضافة، احترازا من صنعاء الشّام بباب دمشق.
والمراد أنّ مسافة عرضه كالمسافة بين بصرى وصنعاء، وهو مربّع؛ لا يزيد طوله ولا عرضه. قال القاضي عياض: الحوض على ظاهره عند أهل السّنّة، فيجب الإيمان به. وقال القرطبي: أحاديث الحوض متواترة، فقد رواه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين، ورواه عنهم من التّابعين أمثالهم، ثمّ لم تزل تلك الأحاديث تتوالى؛ وتشير الرّواة إليها في جميع الأعصار إلى أن انتهى ذلك إلينا، وقامت به حجّة الله علينا، فأجمع عليه السّلف والخلف.
(يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء) والكوثر: نهر في الجنّة؛ حافّتاه من الذّهب، ومجراه على الدّرّ والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه (أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد) ؛ أي: العسل، وكيزانه عدد نجوم السّماء.
(من شرب منه) شربة (لم يظمأ) بعدها (أبدا) ؛ أي: لم يعطش عطشا
__________
(1) أي: «معجم البلدان» .(4/254)
حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه المسك، من حرمه في الموقف غدا..
حرم الخير كلّه.
ألا.. فمن أحبّ أن يرده عليّ غدا.. فليكفف لسانه ويده إلّا مّما ينبغي.
فقال العبّاس: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش.
فقال: «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا؛ والنّاس تبع لقريش، يتأذّى به (حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه) - أي: ترابه- (المسك) ، وريحه أطيب من ريح المسك، وخصّه!! لأنّه أطيب الطّيب.
(من حرمه) ؛ أي: منع من الشّرب منه (في الموقف غدا) أي: يوم القيامة (حرم الخير كلّه، ألا فمن أحبّ أن يرده عليّ) - بتشديد الياء- (غدا) .
عبّر به!! لأنّ كلّ ما هو آت قريب، (فليكفف لسانه ويده إلّا فيما ينبغي» ) .
وخصّهما!! لأنّهما أغلب ما يحصّل الفعل، وإلّا! فباقي الأعضاء كذلك.
(فقال العبّاس) بن عبد المطّلب (: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش) ؛ بالصّرف على الأصحّ- على إرادة الحيّ، ويجوز عدمه؛ على إرادة القبيلة- وهم ولد النّضر ابن كنانة، وهو الصّحيح، أو ولد فهر بن مالك بن النّضر، وهو قول الأكثر «1» .
وأوّل من نسب إلى قريش قصيّ بن كلاب، وقيل: غير ذلك. وقيل: سمّوا باسم دابّة في البحر؛ من أقوى دوابّه!! لقوّتهم، والتّصغير للتّعظيم.
(فقال) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ( «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا، والنّاس تبع لقريش) - لفضلهم على غيرهم، قيل: وهو خبر بمعنى الأمر، ويدلّ له قوله في حديث آخر: «قدّموا قريشا، ولا تقدّموها» . أخرجه عبد الرّزاق بإسناد صحيح،
__________
(1) والصواب في هذه المسألة ما ذكره المؤلف في كتابه هذا (1/ 131) .(4/255)
برّهم لبرّهم، وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا- آل قريش- بالنّاس خيرا.
يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس.. برّهم أئمّتهم، وإذا فجر النّاس.. عقّوهم.
ولكنّه مرسل، وله شواهد (برّهم تبع لبرّهم) - فلا يجوز الخروج عليهم- (وفاجرهم تبع لفاجرهم) .
وفي «الصحيحين» ؛ عن أبي هريرة: «النّاس تبع لقريش، في هذا الشّأن؛ مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» ... الحديث.
قال الكرمانيّ: هو إخبار عن حالهم في متقدّم الزّمان، يعني: أنّهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر، وكانت العرب تقدّم قريشا وتعظّمهم.
وزاد في «فتح الباري» : لسكناها الحرم، فلما بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله تعالى توقّف غالب العرب عن اتّباعه، فلمّا فتحت مكّة، وأسلمت قريش تبعتهم العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا. انتهى. ذكره «القسطلّاني» .
(فاستوصوا) يا (آل قريش بالنّاس خيرا) بأن تحكموا فيهم بالعدل، وتجتنبوا الجور والظّلم.
(يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم) كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [11/ الرعد] (وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس؛ برّهم أئمّتهم) وأمراؤهم، (وإذا فجروا) ؛ بأن عصوا الله ولم يراقبوه (عقّوهم) ؛ أي: عقّهم أئمّتهم وأمراؤهم؛ بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان إليهم، وغير ذلك.(4/256)
قال الله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» [الأنعام: 129] .
وروى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ...
(قال الله تعالى) في سورة الأنعام (وَكَذلِكَ) - كما متّعنا عصاة الإنس والجنّ؛ بعضهم ببعض- (نُوَلِّي) - من الولاية؛ أي الإمارة، أي: نؤمّر ونسلّط (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) - أي: على بعض- (بِما) - أي: لسبب ما- (كانُوا) أي: البعض الثّاني- (يَكْسِبُونَ» ) من المعاصي.
قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية: هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولّى عليهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرّا ولّى عليهم شرارهم، فعلى هذا القول إنّ الرّعيّة متى كانوا ظالمين؛ سلّط الله عزّ وجلّ عليهم ظالما مثلهم. فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظّالم فليترك الظّلم. انتهى.
وفي الحديث: «كما تكونوا يولّى عليكم» ؛ ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الدّيلميّ في «مسند الفردوس» ؛ عن أبي بكرة، وبرمز البيهقيّ في «سننه» ؛ عن أبي إسحاق السّبيعي مرسلا؛ أي: فإن اتّقيتم الله وخفتم عقابه؛ ولّى عليكم من يخافه فيكم، وعكسه؛ حكمه كحكم عكسه، ولهذا الحديث؛ لمّا سمع إنسان آخر يسبّ الحجّاج؛ قال له: لا تفعل!. وذكر الحديث، بل ينبغي الدّعاء، بنحو «اللهمّ لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يخافك؛ ولا يرحمنا» ، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم فإذا تولّى عليكم ظالم فارجعوا لأنفسكم، ولوموها، فإنّه بسبب ظلمكم لبعضكم. والله أعلم.
(و) في «الإحياء» : (روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) .
قال العراقيّ: رواه ابن سعد في «الطبقات» ، عن محمّد بن عمر (هو الواقديّ) ؛ بإسناد ضعيف؛ إلى ابن عون؛ عن ابن مسعود، وهو مرسل ضعيف كما تقدّم-. انتهى.(4/257)
أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه:
«سل يا أبا بكر» . فقال: يا رسول الله؛ دنا الأجل؟ فقال: «قد دنا الأجل، وتدلّى» .
فقال: ليهنك يا نبيّ الله ما عند الله، فليت شعري عن منقلبنا؟
فقال: «إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى، والفردوس الأعلى، والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش المهنّا» . فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟ قال:
«رجال من أهل بيتي؛ الأدنى فالأدنى» .
وكذا رواه الطّبرانيّ في «الدّعاء» ، والواحديّ في «التّفسير» بسند واه جدّا، إلى ابن مسعود؛ مع مخالفة في اللّفظ بالزّيادة والنّقص؛ كما في «شرح الإحياء» وغيره.
(أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «سل يا أبا بكر» . فقال:
يا رسول الله دنا) ؛ أي: قرب (الأجل؟! فقال) ؛ أي المصطفى صلى الله عليه وسلم (: «قد دنا الأجل، وتدلّى!» ) وهو عبارة عن غاية القرب.
(فقال: ليهنك يا نبيّ الله؛ ما عند الله) من النّعيم المقيم بمجاورة الكريم، (فليت شعري عن منقلبنا!!) ؛ أي: رجوعنا. (فقال: «إلى الله) فيكرم مثوانا، (وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى) : الإقامة الدّائمة (والفردوس الأعلى) : صفة كاشفة، لأنّ الفردوس هو أعلى الجنّة وأوسطها، (والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش) : الحياة الدّائمة (المهنّى» ) الّذي لا ينغّصه شيء.
(فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟) بعد موتك (قال) يلي غسلي (: «رجال من أهل بيتي، الأدنى فالأدنى) : الأقرب فالأقرب، وقد غسّله(4/258)
قال: يا رسول الله؛ فيم نكفّنك؟ قال: «في ثيابي هذه، وفي حلّة يمانية، وفي بياض مصر» .
عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لحديث عليّ: أوصاني النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يغسّلني إلّا أنت، فإنّه لا يرى أحد عورتي، إلّا طمست عيناه» . رواه البزّار والبيهقي.
وأخرج البيهقيّ؛ عن الشّعبي، قال: غسّل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول وهو يغسّله: بأبي أنت وأمّي؛ طبت حيّا وميّتا.
وأخرج أبو داود، وصحّحه الحاكم؛ عن عليّ قال: غسّلته صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميّت- أي: من الفضلات- فلم أر شيئا، وكان طيّبا حيّا وميّتا.
وكان العبّاس وابنه الفضل يعينانه في تقليب جسمه الشّريف، وقثم وأسامة بن زيد وشقران «مولاه صلى الله عليه وسلم» يصبّون الماء، وأعينهم جميعا معصوبة؛ من وراء السّتر.
وغسّل صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات: الأولى بالماء القراح، والثّانية: بالماء والسّدر، والثّالثة: بالماء والكافور. وجعل عليّ على يده خرقة، وأدخلها تحت القميص، ثمّ اعتصر قميصه، وحنّطوا مساجده ومفاصله، ووضّؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفّيه وقدميه، وجمّروه عودا وندا.
وذكر ابن الجوزي أنّه روي عن جعفر الصّادق؛ قال: كان الماء يستنقع في جفون النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فكان عليّ يحسوه. (قلنا: يا رسول الله: فيم نكفّنك؟ قال:
«في ثيابي هذه) الّتي عليّ، (و) إن شئتم (في حلّة) - بضمّ الحاء المهملة، وشدّ اللّام-: ضرب من برود اليمن، وهي إزار ورداء، ولا تسمّى «حلّة» ، حتّى تكون ثوبين (يمانية) - بالألف وخفّة الياء؛ على الأفصح- لأنّ الألف بدل من ياء النّسب، فلا يجتمعان. انتهى. «زرقاني» .
(وفي) ثياب (بياض مصر» ) أي: في الثّياب البيض الّتي جاءته من مصر.(4/259)
فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا، وبكى ... ثمّ قال:
«مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا.
إذا غسّلتموني ...
روى ابن عبد الحكم أن المقوقس أهدى له عليه الصّلاة والسّلام عشرين ثوبا من قباطي مصر، وأنّها بقيت حتّى كفّن في بعضها.
وفي حديث عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة. أخرجه النّسائي من رواية عبد الرزّاق؛ عن معمر؛ عن الزّهريّ؛ عن عروة؛ عنها.
واتّفق عليه الأئمّة السّتّة؛ من طريق هشام بن عروة؛ عن أبيه؛ عن عائشة، بزيادة: من كرسف؛ ليس فيها قميص ولا عمامة.
وليس قوله «1» : «من كرسف» عند الترمذيّ، ولا ابن ماجه، وزاد مسلم في رواية عن عائشة: أما الحلّة! فإنما شبّه على النّاس فيها، أنّها اشتريت له ليكفّن فيها؛ فتركت الحلّة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر الصّدّيق، فقال: لأحبسنّها حتّى أكفّن فيها نفسي. ثمّ قال: لو رضيها الله لنبيّه؛ لكفّنه فيها!! فباعها وتصدّق بثمنها.
وهذا من عائشة يدلّ على أن قولها «ثلاثة أثواب» عن علم وإيقان؛ لا عن تخمين وحسبان.
وجاء في «طبقات ابن سعد» عن الشّعبيّ: بيان الثّلاثة الأثواب؛ بأنّها إزار ورداء ولفافة. وقال التّرمذيّ: روي في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصحّ الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ من الصّحابة، وغيرهم.
(فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا) ؛ حزنا على فراقه (وبكى) لبكائنا، (ثمّ قال: «مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا، إذا غسّلتموني
__________
(1) الأحسن «قولها» عائد على عائشة. وإن ذكّر الضمير على إرادة «الراوي» فلا بأس به.(4/260)
وكفّنتموني.. فضعوني على سريري هذا، في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عنّي ساعة- فإنّ أوّل من يصلّي عليّ الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] .
ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ، فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ.. جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنود كثيرة، ثمّ الملائكة بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين، ...
وكفّنتموني؛ فضعوني على سريري هذا في بيتي هذا، هذا على شفير) - بشين معجمة وفاء- أي: حرف (قبري، ثمّ اخرجوا عنّي ساعة) : قدرا من الزّمان، (فإنّ أوّل من يصلّي عليّ) - بتشديد الياء- (الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) : يرحمكم (وَمَلائِكَتُهُ) [43/ الأحزاب] يستغفرون لكم.
قال السّدّي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلّي ربّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى الله إليه: أن قل لهم: إنّي أصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء. ذكره البغويّ.
(ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ.
فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت؛ مع جنود) جماعة (كثيرة.
ثمّ الملائكة) المأذون لها في الحضور للتّشييع (بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين.(4/261)
ثمّ أنتم؛ فادخلوا عليّ أفواجا، فصلّوا عليّ أفواجا؛ زمرة زمرة، وسلّموا تسليما، ولا تؤذوني بتزكية ولا صيحة ولا رنّة، وليبدأ منكم الإمام، وأهل بيتي الأدنى.. فالأدنى، ثمّ زمرة النّساء، ثمّ زمرة الصّبيان.
ثمّ أنتم فادخلوا) للصلاة ( [عليّ] أفواجا) جمع فوج- بفتح فسكون- وجمع الجمع: أفاويج.
(فصلّوا عليّ أفواجا) ؛ أي: جماعات (زمرة زمرة) ؛ أي: جماعة بعد جماعة (وسلّموا تسليما، ولا تؤذنوا بتزكية) غير لائقة بي، ممّا هو من أوصاف الرّبّ جلّ وعلا، (ولا صيحة ولا رنّة) بنياحة.
(وليبدأ) بالصّلاة عليّ (منكم الإمام) ؛ أي: الخليفة وهو أبو بكر الصّدّيق.
(وأهل بيتي) : عليّ والعبّاس، و (الأدنى فالأدنى) ؛ أي: الأقرب فالأقرب يتقدّم.
(ثمّ زمرة النّساء) من أهل بيت النّبوّة، ثمّ نساء غيرهم.
(ثمّ زمرة الصّبيان) وفي حديث ابن عبّاس- عند ابن ماجه- لمّا فرغوا من جهازه صلى الله عليه وسلم يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته، ثمّ دخل النّاس عليه صلى الله عليه وسلم أرسالا، يصلّون عليه، حتّى إذا فرغوا، دخل النّساء، حتى إذا فرغن؛ دخل الصّبيان، ولم يؤمّ النّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
قال ابن كثير: هذا أمر مجمع عليه.
واختلف في أنّه تعبّد لا يعقل معناه، أو ليباشر كلّ واحد الصّلاة عليه، منه إليه؟.
وقال السّهيلي: قد أخبر الله أنّه وملائكته يصلّون عليه، وأمر كلّ واحد من(4/262)
.........
المؤمنين أن يصلّي عليه، فوجب على كلّ أحد أن يباشر الصّلاة عليه منه إليه، والصّلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضا؛ فإنّ الملائكة لنا في ذلك أئمّة. انتهى.
وقال الشّافعيّ في «الأمّ» : وذلك لعظم أمره صلى الله عليه وسلم وتنافسهم فيمن يتولّى الصّلاة عليه، وروي أنّه لمّا صلّى أهل بيته، لم يدر النّاس ما يقولون؟ فسألوا ابن مسعود؛ فأمرهم أن يسألوا عليّا!! فقال لهم: قولوا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [56/ الأحزاب] الآية، لبّيك اللهمّ ربّنا وسعديك، صلوات الله البرّ الرّحيم؛ والملائكة المقرّبين، والنّبييّن والصّدّيقين، والشّهداء والصّالحين؛ وما سبّح لك من شيء يا ربّ العالمين على محمّد بن عبد الله: خاتم النّبييّن، وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين، الشّاهد البشير، الدّاعي إليك بإذنك السّراج المنير، وعليه السّلام. ذكر ذلك الشّيخ زين الدّين بن الحسين المراغي في كتابه «تحقيق النّصرة لمعالم دار الهجرة» . انتهى زرقانيّ على «المواهب» .
وظاهر هذا: أنّ المراد ما ذهب إليه جماعة؛ أنّه لم يصلّ عليه الصّلاة المعتادة، وإنّما كان النّاس يأتون فيدعون.
قال الباجيّ: ووجهه: أنّه صلى الله عليه وسلم أفضل من كلّ شهيد، والشّهيد يغنيه فضله عن الصّلاة عليه!!. فهو صلى الله عليه وسلم أولى.
قال: وإنّما فارق الشّهيد في الغسل!! حذرا من إزالة الدّم عن الشّهيد، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه، ولأنّه عنوان لشهادته في الآخرة، وليس على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما تكره إزالته؛ فافترقا. انتهى.
لكن قال القاضي عياض: الصّحيح الّذي عليه الجمهور: أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية؛ لا مجردّ الدّعاء فقط. انتهى.
وأجيب عمّا اعتلّ به الأوّلون بأنّ المقصود من الصّلاة عليه عود التّشريف على المسلمين، مع أنّ الكامل يقبل زيادة التّكميل، نعم؛ لا خلاف أنّه لم يؤمّهم أحد(4/263)
قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي ... الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة لا ترونهم؛ وهم يرونكم، ...
- كما مرّ- لقول عليّ: هو إمامكم حيّا وميتا، فلا يقوم عليه أحد ... الحديث.
رواه ابن سعد.
وأخرج التّرمذيّ أنّ النّاس قالوا لأبي بكر: أيصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
نعم. قالوا: وكيف نصلّي؟ قال: يدخل قوم فيكبّرون ويصلّون ويدعون، ثمّ يدخل قوم فيصلّون ويكبّرون ويدعون فرادى. انتهى.
(قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي) : أقاربي (الأدنى..
فالأدنى) منهم، (مع ملائكة كثيرة لا ترونهم، وهم يرونكم» ) .
وقد اختلف فيمن أدخله قبره؟. وأصحّ ما روي أنّه نزل في قبره عمّه العبّاس، وعليّ، وقثم بن العبّاس، والفضل بن العبّاس، وكان آخر النّاس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العبّاس؛ أي: أنّه تأخّر في القبر حتّى خرجوا قبله.
وروي أنّه بني في قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانيّة؛ كان يتغطّى بها ويجلس عليها، وهي كساء له خمل؛ أي: أهداب فرشها شقران مولاه صلى الله عليه وسلم في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
قال النّوويّ: وقد نصّ الشّافعيّ وجميع أصحابه؛ وغيرهم من العلماء: على كراهة وضع قطيفة؛ أو مضريّة؛ أو مخدّة، ونحو ذلك تحت الميّت في القبر.
وشذّ البغويّ من أصحابنا؛ فقال في كتابه «التّهذيب» : لا بأس بذلك، لهذا الحديث. والصّواب كراهة ذلك؛ كما قاله الجمهور.
وأجابوا عن هذا الحديث: بأنّ شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصّحابة، ولا علموا بذلك، وإنّما فعله شقران! لما ذكرنا عنه؛ من كراهته أن يلبسها أحد بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
انتهى كلام النّوويّ.(4/264)
قوموا فأدّوا عنّي إلى من بعدي» . وقال عبد الله بن زمعة [رضي الله تعالى عنه] : جاء بلال في أوّل شهر ربيع الأوّل، فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ...
وفي كتاب «تحقيق النّصرة» : قال ابن عبد البرّ: ثمّ أخرجت يعني: القطيفة من القبر لمّا فرغوا من وضع اللّبنات التّسع، حكاه ابن زبالة.
قال العراقيّ في «ألفية السّيرة» :
وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل: أخرجت، وهذا أثبت
(قوموا فأدّوا عنّي) - ما سمعتم منّي- (إلى من بعدي» ) من أمّتي.
(و) في «الإحياء» : (قال عبد الله بن زمعة) بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى القرشي؛ الأسديّ، «ابن أخت أم سلمة، زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم» واسم أمّه: قريبة بنت أبي أمية. قال القاضي عياض في «المشارق» : زمعة بسكون الميم. وضبطناه عن ابن بحر: بفتح الميم؛ حيث وقع، وكلاهما قال الحافظ في «الفتح» : ووقع في «الكاشف» للذّهبيّ أنّه أخو سودة أمّ المؤمنين.
وهو وهم؛ يظهر صوابه من سياق نسبها.
قال البغويّ: كان يسكن المدينة وله أحاديث، ويقال: إنّه كان يأذن على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتل يوم الدّار سنة: خمس وثلاثين. وبه جزم أبو حسّان الزيادي، روى له الجماعة. انتهى ذكره في «شرح الإحياء» .
والحديث المذكور قال العراقي: رواه أبو داود بإسناد جيّد مختصرا؛ دون قوله «فقالت عائشة: إنّ أبا بكر رجل رقيق ... الخ» ولم يقل في أوّل ربيع الأوّل!؟
وقال: «مروا من يصلّي بالنّاس» . وقال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، مرّتين» .
انتهى. ذكره في «شرح الإحياء» .
(جاء بلال) رضي الله عنه (في أوّل شهر ربيع الأوّل) قد علمت أنّ هذا ليس في رواية أبي داود (فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/265)
«مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس» . فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر، فقلت: قم يا عمر فصلّ بالنّاس، فقام عمر، فلمّا كبّر- وكان رجلا صيّتا- سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته بالتّكبير.. فقال: «أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» قالها ثلاث مرّات: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ، فقالت عائشة رضي الله [تعالى] عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام في مقامك غلبه البكاء.
«مروا) - بضمّتين؛ بوزن: كلوا، أي: بلّغوا أمري- (أبا بكر) الصّدّيق.
وفي رواية أبي داود: «مروا من (يصلّي بالنّاس» ) ؛ أي: يؤمّهم.
قال: (فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (في رجال ليس فيهم أبو بكر) الصّدّيق رضي الله تعالى عنه (؛ فقلت: قم يا عمر؛ فصلّ بالنّاس، فقام عمر) واصطفّ النّاس.
(فلمّا كبّر) للصّلاة؛ (وكان رجلا صيّتا) ؛ أي: جهير الصّوت، (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالتّكبير) لقرب الحجرة الشّريفة من المسجد؛
(فقال: «أين أبو بكر!؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» !! قالها ثلاث مرّات) رواية أبي داود: «يأبى الله ذلك والمؤمنون» مرّتين.
(مروا أبا بكر فليصلّ) - بسكون اللّام الأولى، ويروي بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة- (بالنّاس» ) إماما، وفي رواية لأبي داود، فقال: «لا.. لا، ليصلّ للنّاس ابن أبي قحافة» يقول ذلك تغضّبا.
(فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق) بقافين- (إذا قام في مقامك غلبه البكاء؟!) لرقّة قلبه وغلبة دمعه، ولما يلاحظ من فقده صلى الله عليه وسلم وما كان يجد من فقد أنسه وأنواره.(4/266)
فقال: «إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
قال: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر.
فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك، ماذا صنعت بي؟ والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك.. ما فعلت، فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك.
(فقال) ؛ أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة (: «إنّكنّ صويحبات يوسف) النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إظهار خلاف ما في الباطن.
والخطاب؛ وإن كان بلفظ الجمع؛ فالمراد به واحدة فقط؛ وهي عائشة رضي الله تعالى عنها كما أنّ «صويحبات» جمع؛ والمراد به زليخا فقط، على أن في رواية عند البخاريّ: أنّها قالت لحفصة: أن تقول ما قالت: أي: مر عمر فليصلّ بالنّاس، فقالت حفصة ذلك، فحينئذ قال ما قال!! وأقلّ الجمع اثنان، وقد تقدّم ( «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ) .
وفيه: ألايقدّم للإمامة؛ إلّا أفضل القوم فقها وقراءة وورعا وغيرها.
وفي تكرار أمره بتقديمه الدّلالة الظّاهرة عند من له إيمان على أنّ أبا بكر أحقّ النّاس بخلافته، وقد وافق على ذلك عليّ، وغيره من أهل البيت.
(قال) ؛ أي الرّاوي (: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر) بالنّاس سبع عشرة صلاة- كما نقله الدّمياطيّ- (فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك؛ ماذا صنعت بي؟! والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك، ما فعلت! فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك.)
والحديث من قوله «فقالت عائشة ... الخ» في «الصّحيح» بلفظ: فقالت عائشة:
يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع النّاس من البكاء!!.(4/267)
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك ولا صرفته عن أبي بكر إلّا رغبة به عن الدّنيا، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة وفي رواية: إذا قرأ القرآن؛ لا يملك دمعه؟.
قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فعاودته مثل مقالتها، فقال: «إنّكنّ صواحبات يوسف! مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» رواه الشّيخان.
وفي رواية للشّيخين: إنّ أبا بكر رجل أسيف.
وفي رواية عند البخاري في «الصّلاة، والاعتصام» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فقالت عائشة: إنّ أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر، فليصلّ بالنّاس!. فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس قالت:
قلت لحفصة: قولي له «إنّ أبا بكر؛ إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر، فليصلّ بالنّاس» ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه! إنكن أنتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا!!.
وفي «مسند الدّارمي» من وجه آخر: أنّ أبا بكر هو الّذي أمر عائشة أن تشير على النّبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر عمر بالصّلاة.
قال الحافظ ابن حجر: لم يرد أبو بكر ما أرادت عائشة؛ بل قاله لعذره برقّة قلبه، أو لفهمه منها الإمامة العظمى، وعلم ما في تحمّلها من الخطر، وعلم قوّة عمر على ذلك؛ فاختاره، والظّاهر أنّه لم يطّلع على المراجعة، أو فهم من أمره بذلك تفويضه؛ سواء باشر بنفسه، أو استخلف.
(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك) الكلام (ولا صرفته) صلى الله عليه وسلم (عن) اختيار (أبي بكر) للإمامة (إلّا رغبة به) ؛ أي: أبي بكر (عن الدّنيا، و) أيضا (لما في الولاية من) الدّخول في (المخاطرة و) أسباب (الهلكة) -(4/268)
إلّا من سلّم الله، وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو حيّ أبدا- إلّا أن يشاء الله- فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى، وعصمه الله تعالى من كلّ ما تخوّفت عليه من أمر الدّنيا والدّين.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ...
محرّكة؛ بوزن قصبة-: الهلاك (إلّا من سلّم) هـ (الله) وحفظه بعنايته السّابقة.
(وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو) صلى الله عليه وسلم (حيّ أبدا، إلّا أن يشاء الله؛ فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون) - بشين معجمة والمد- (به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى) نفذ باختيار الصّدّيق؛ أي: اختاره الله تعالى، وجمع به كلمة المسلمين (وعصمه الله تعالى) ؛ أي: حفظه (من كلّ ما تخوّفت عليه؛ من أمر الدّنيا والدّين) .
رواه البخاريّ في «باب الوفاة» ، ومسلم في «الصّلاة» بلفظ: فلقد راجعته في ذلك؛ وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحبّ النّاس بعده رجلا قام مقامه أبدا، وما حملني على ذلك؛ إلّا أنّي كنت أرى أنّه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم النّاس به؛ فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر.
وفي رواية لمسلم: قالت: والله ما بي إلّا كراهية أن يتشاءم النّاس بأوّل من يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم، فراجعته مرّتين؛ أو ثلاثا.
(و) في «الإحياء» للغزالي رحمه الله تعالى: (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - فيما رواه الطّبرانيّ في «الكبير» ؛ من حديث جابر، وابن عبّاس، مع اختلاف في حديث طويل- في نحو ورقتين كبار- وهو منكر؛ فيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان؛ عن أبيه؛ عن وهب بن منبّه، قال أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه، وأبوه إدريس أيضا متروك؛ قاله الدارقطني. وقد رواه أبو نعيم في(4/269)
فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. رأوا منه خفّة في أوّل النّهار؛ فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين، وأدخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك- لم نكن على مثل حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اخرجن عنّي؛ هذا الملك يستأذن عليّ» . فخرج من في البيت غيري، ورأسه في حجري، فجلس، وتنحّيت في جانب البيت، فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة: «ادخلن» ، فقلت: ما هذا بحسّ جبريل عليه السّلام؟ ...
«الحلية» عن الطّبراني بطوله؛ قاله في «شرح الإحياء» . - وذكر الحديث بطوله:
(فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؛ وهو يوم الاثنين (رأوا منه خفّة في أوّل النّهار) ؛ أي: أنّه أصبح يوم الاثنين خفيف المرض.
(فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم؛ مستبشرين) بظهور علامة الشّفاء. وقال له أبو بكر: أراك يا رسول الله قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحبّ، واليوم يوم ابنة خارجة. أفاتيها؟! قال: «نعم» ، فذهب.
(وأخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك، لم نكن على مثل حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك) ؛ إذ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) للنّساء (: «أخرجن عنّي، هذا الملك) ؛ أي: ملك الموت (يستأذن عليّ» ) ؛ أي: يطلب الإذن بالدّخول عليّ.
(فخرج من في البيت) من النّسوة (غيري، ورأسه في حجري، فجلس) مستعدّا للقاء الملك، (وتنحّيت في جانب البيت) ؛ أي: صرت في ناحية منه، (فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة:
«ادخلن» . فقلت:) يا رسول الله؛ (ما هذا بحسّ جبريل عليه السّلام؟.(4/270)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أرسلني، وأمرني أن لا أدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي.. أرجع، وإن أذنت لي..
دخلت، وأمرني ألاأقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك؟ فقلت:
«اكفف عنّي، حتّى يأتيني جبريل عليه السّلام، فهذه ساعة جبريل» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا وكأنّما ضربنا بصاخّة- أي:
بصيحة- ما نحير إليه شيئا، وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أرسلني) إليك، (وأمرني ألاأدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي، أرجع، وإن أذنت لي دخلت، وأمرني ألا أقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك» ؟؟)
زاد في رواية: قال: «وتفعل ذلك يا ملك المو؟» قال: نعم، أمرت أن أطيعك في كلّ ما أمرتني.
( «فقلت: اكفف عنّي حتّى يأتيني جبريل عليه السّلام، فهذه ساعة جبريل» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا) ؛ أي: اندهشنا (وكأنّما ضربنا بصاخّة) - بتشديد الخاء المعجمة-: وهي المصيبة الشّديدة، وقال المصنّف: (أي: بصيحة، ما نحير إليه شيئا) ؛ أي: ما نرجع، (وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا.(4/271)
قالت: وجاء جبريل في ساعته فسلّم، فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السّلام، ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالّذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق، وأن تكون سنّة في أمّتك، فقال: «أجدني وجعا» . فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك، فقال: «يا جبريل؛ إنّ ملك الموت استأذن عليّ..» وأخبره الخبر. فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق، ألم يعلمك الّذي يريد بك؟! لا والله قالت) ؛ أي عائشة (: وجاء جبريل) عليه السّلام (في ساعته، فسلّم؛ فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل؛ فقال:
إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السّلام؛ ويقول: كيف تجدك) ؛ أي: تجد نفسك في هذا الوقت- (وهو أعلم بالّذي تجد منك- ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق) ؛ تخصيصا لك، (وأن تكون سنّة في أمّتك) ؛ أي: إذا دخلوا على المريض فيقولون كذلك.
(فقال: «أجدني وجعا» ) - بكسر الجيم- أي: مريضا متألّما.
(فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك) من الكرامة.
(فقال: «يا جبريل: إنّ ملك الموت استأذن عليّ» ... وأخبره الخبر.
فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق) .
قال البيهقي: معنى اشتياق الله إليه إرادة لقائه، بأن يردّه من دنياه إلى معاده؛ زيادة في قربه وكرامته، وذلك لاستحالة المعنى الحقيقيّ الّذي هو نزوع النّفس إلى الشّيء في حقّه تعالى.
(ألم يعلمك) ؛ أي: ملك الموت بالأمر (الّذي يريد بك!! لا والله؛(4/272)
ما استأذن ملك الموت على أحد قطّ ولا يستأذن عليه أبدا، ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق.
قال: «فلا تبرح إذا حتّى يجيء» .
وأذن للنّساء، فقال: «يا فاطمة؛ ادني» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تدمع؛ وما تطيق الكلام، ثمّ قال:
«أدني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا، فسألتها بعد ذلك ...
ما استأذن ملك الموت على أحد) قبلك (قطّ) ؛ أي: فيما مضى، (ولا يستأذن عليه) ؛ أي: على أحد بعدك (أبدا) ، فهو تخصيص لك على الجميع.
(ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق.
قال) ؛ أي النّبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل (: «فلا تبرح إذا) - أي: امكث عندي- (حتّى يجيء» ) ؛ أي: ملك الموت (وأذن) صلى الله عليه وسلم (للنّساء) فدخلن، وفيهنّ ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها.
(فقال: «يا فاطمة؛ ادني» ) ، أي: اقربي منّي (فأكبّت عليه) لازم، وثلاثيّة كبّ: متعدّ، عكس المشهور من قواعد التصريف؛ فهو من النّوادر.
(فناجاها) أي سارّها بشيء، (فرفعت رأسها وعيناها تذرفان) ؛ أي:
تسيلان دموعا، (وما تطيق الكلام) من شدّة الحزن.
(ثمّ قال) لها (: «ادني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا) من البكاء والضّحك في ساعة واحدة، (فسألتها بعد ذلك) ؛ أي: بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.(4/273)
فقالت: أخبرني، وقال: «إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت، ثمّ قال:
«إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت. وأدنت ابنيها منه فشمّهما.
(فقالت: أخبرني) أوّلا؛ (وقال: «إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت) حزنا على فراقه (ثمّ قال) ثانيا (: «إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت) ؛ فرحا للحوقي به، (وأدنت) ؛ أي: قرّبت (ابنتها) أمّ كلثوم (منه) صلى الله عليه وسلم (فشمّها) وبرّك عليها.
وفي البخاري، ومسلم، والنّسائي؛ من طريق عروة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الّتي قبض فيها، فسارّها بشيء فبكت، ثمّ دعاها فسارّها بشيء فضحكت! فسألناها عن ذلك؟ فقالت: سارّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه يقبض في وجهه الّذي توفّي فيه. فبكيت، ثمّ سارّني؛ فأخبرني أنّي أوّل أهله يتبعه، فضحكت.
وفي رواية «الصّحيحين» والنّسائي؛ عن مسروق؛ عن عائشة، قالت:
أقبلت فاطمة تمشي، كأنّ مشيتها مشية النّبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها: «مرحبا بابنتي» ثمّ أجلسها عن يمينه؛ أو عن شماله، ثمّ أسرّ إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين!؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!! فسألتها عمّا قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى قبض، فسألتها؟ فقالت: أسرّ إليّ «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن، كلّ سنة مرّة، وإنّه عارضني الآن مرّتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي، وإنّك أوّل أهلي لحاقا بي» . فبكيت. فقال: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة؟ أو نساء المؤمنين؟» . فضحكت لذلك.
اتّفقت الرّوايتان على أنّ الّذي سارّها به أوّلا فبكت، هو إعلامه إيّاها؛ بأنّه يموت من مرضه ذلك؛ كما في المتن.(4/274)
.........
واختلفت فيما سارّها به فضحكت؟ ففي رواية عروة: أنّه إخباره إيّاها بأنّها أوّل أهله لحوقا به، وهي موافقة لما في المتن، وفي رواية مسروق: أنّه إخباره إيّاها أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، وجعل كونه أوّل أهله لحاقا به مضموما إلى الأوّل، وهو إخباره بأنّه ميّت من وجعه.
وحديث مسروق هو الرّاجح، فإنّه يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة. ومسروق من الثّقات الضّابطين، وزيادته مقبولة.
وفي رواية عروة الجزم أنّه ميّت من وجعه ذلك، وهي توافق ما في المصنف، بخلاف رواية مسروق، ففيها أنّه ظنّ ذلك؛ بطريق الاستنباط ممّا ذكره من معارضته القرآن مرّتين.
ويحتمل تعدّد القصّة؛ جمعا بين روايتي مسروق وعروة.
وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين؛ إلّا بالزّيادة.
ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقا به سببا لبكائها وضحكها معا؛ باعتبارين: فباعتبار أسفها على بقائها بعده مدّة بكت؛ وهو ما رواه مسروق، وباعتبار سرعة لحاقها به ضحكت؛ وهو ما رواه عروة، فذكر كلّ من الرّاويين ما لم يذكره الآخر، وهذا الجمع أولى من احتمال التّعدد؛ لأنّ الأصل عدمه.
وقد روى النّسائي؛ من طريق أبي سلمة بن عبد الرّحمن؛ عن عائشة في سبب البكاء: أنّه ميّت، وفي سبب الضّحك: الأمرين الأخيرين: أنها أوّل أهله لحاقا به، وأنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، وهذا يؤيّد الجمع الثّاني.
وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع؛ فوقع كما قال، فإنّهم اتّفقوا على أنّ فاطمة أوّل من مات من أهل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعده بستّة أشهر- على الصّحيح- حتّى من أزواجه عليه الصّلاة والسّلام. انتهى من «المواهب اللدنية» للعلّامة القسطلّاني رحمه الله تعالى.(4/275)
قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له، فقال الملك:
ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الآن» ، فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك. وخرج.
قالت: وجاء جبريل فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبدا، طوي الوحي وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك، ثمّ لزوم موقفي.
(قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له) فدخل؛
(فقال:) السّلام عليك أيّها النّبيّ، ورحمة الله وبركاته؛ إنّ ربّك يقرئك السّلام، ثمّ قال (الملك: ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الآن» .
فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك.
وخرج، قالت: وجاء جبريل؛ فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض) ؛ أي: بالوحي (أبدا، طوي الوحيّ وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك) ؛ أي:
الحضور عندك بالوحي (ثمّ لزوم موقفي)
فالمنفيّ نزوله بالوحي المتجدّد، فلا ينافي ما ورد في أحاديث: أنّه ينزل ليلة القدر، ويحضر قتال المسلمين مع الكفّار، ويحضر من مات على طهارة من المسلمين، ويأتي مكّة والمدينة بعد خروج الدّجال؛ ليمنعه من دخولها، وفي زمن عيسى عليه السّلام؛ لا بشرع جديد، وتفصيل ذلك يطول.(4/276)
لا والّذي بعث محمّدا بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة، ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما يسمع من حديثه، ووجدنا وإشفاقنا.
قالت: فقمت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه حتّى يغلب، وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق، وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق: بأبي أنت وأمّي، ونفسي وأهلي؛ ما تلقى جبهتك من الرّشح؟ ...
(لا والّذي بعث محمّدا) صلى الله عليه وسلم (بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة) ؛ أي: يعيدها، (ولا يبعث إلى أحد من رجاله؛ لعظم ما يسمع من حديثه، و) ل (وجدنا) ؛ أي: حزننا، (وإشفاقنا) : خوفنا.
(قالت) ؛ أي: عائشة (: فقمت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه) ؛ أي: يعتريه الغشيان (حتّى يغلب) ؛ لشدّة ما يحصل له من فتور الأعضاء عن تمام الحركة.
وفيه جواز الإغماء على الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام! قال ابن حجر في «شرح الشّمائل» : لكن قيّده الشّيخ أبو حامد- من أئمّتنا- بغير الطّويل، وجزم به البلقيني. قال السّبكيّ: ليس كإغماء غيرهم!؟ لأنّه إنّما يستر حواسّهم الظّاهرة؛ دون قلوبهم، لأنّها إذا عصمت من النّوم الأخفّ؛ فالإغماء أولى!! وقد تقدم الكلام على ذلك.
(وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق) ؛ أي: أزيله وأمسحه.
(وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق) من غشيته (: بأبي أنت وأمّي؛ ونفسي وأهلي، ما تلقى جبهتك من الرّشح!؟.(4/277)
فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار» .
فعند ذلك ارتعنا، وبعثنا إلى أهلنا، فكان أوّل رجل جاءنا- ولم يشهده- أخي، بعثه إليّ أبي، فمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يجيء أحد، وإنّما صدّهم الله عنه؛ لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل، وجعل إذا أغمي عليه.. قال: ...
فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن) أي: روحه (تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقه؛ كنفس الحمار» ) .
فالرّشح من علامات الخير؛ روى الطّبراني في «الكبير» ، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» ؛ من حديث ابن مسعود: «نفس المؤمن تخرج رشحا، وإنّ نفس الكافر تسيل، كما تسيل نفس الحمار» . ورواه في «الأوسط» بلفظ: «نفس المؤمن، تخرج رشحا، ولا أحبّ موتا كموت الحمار؛ موت الفجاءة، وروح الكافر تخرج من أشداقه» .
وفي رواية له قيل له: وما موت الحمار؟ قال: «روح الكافر تخرج من أشداقه» .
وروى التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من حديث أبي هريرة: «المؤمن يموت بعرق الجبين» .
(فعند ذلك ارتعنا) ؛ أي: خفنا (وبعثنا إلى أهلنا؛ فكان أوّل رجل جاءنا؛ ولم يشهده- أخي) عبد الرّحمن بن أبي بكر (بعثه إليّ أبي) لينظر الحال.
(فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء أحد) من أهلي، (وإنّما صدّهم الله عنه، لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل) عليهما السّلام، (وجعل) صلى الله عليه وسلم (إذا أغمي عليه؛ قال:(4/278)
«بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة تعاد عليه، فإذا أطاق الكلام..
قال: «الصّلاة.. الصّلاة؛ إنّكم لا تزالون متماسكين ما صلّيتم جميعا، الصّلاة.. الصّلاة» ، كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول: «الصّلاة.. الصّلاة» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ...
«بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة) بين البقاء في الدّنيا والارتحال إلى الآخرة (تعاد عليه) مرة بعد أخرى.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يحيا أو يخيّر، فلمّا اشتكى، وحضره القبض؛ ورأسه على فخذي، غشي عليه، فلمّا أفاق؛ شخص بصره نحو سقف البيت، ثمّ قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنّه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح. رواه «البخاري» .
وفي رواية له: «لا يموت نبيّ حتّى يخيّر بين الدّنيا والآخرة» .
(فإذا أطاق الكلام؛ قال: «الصّلاة الصّلاة) - أي: الزموها- (إنّكم لا تزالون متماسكين ما صلّيتم جميعا) ؛ أي: مع الجماعة (الصّلاة الصّلاة» كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول: «الصّلاة الصّلاة» ) .
روي ذلك من حديث أنس؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الصّلاة.. وما ملكت أيمانكم، الصّلاة.. وما ملكت أيمانكم» . رواه أحمد، وعبد بن حميد، والنّسائي، وابن ماجه، وابن سعد، وأبو يعلى، وابن حبّان، والطّبرانيّ، والضّياء. ورواه ابن سعد أيضا والطّبرانيّ؛ من حديث أمّ سلمة، ورواه الطّبراني أيضا؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) - كما في «الإحياء» -:(4/279)
مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الإثنين.
قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: ما لقيت من يوم الإثنين، والله لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة.
وقالت أمّ كلثوم ...
(مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الاثنين) .
قال العراقي: رواه ابن عبد البرّ. انتهى.
وجزم موسى بن عقبة؛ عن الزّهري بأنّه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشّمس، وكذا لأبي الأسود؛ عن عروة. وروى ابن سعد؛ من طريق ابن أبي مليكة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين» ؛ قاله في «شرح الإحياء» .
(قالت فاطمة) الزّهراء (رضي الله تعالى عنها) - كما في «الإحياء» -: (ما لقيت من يوم الاثنين! والله؛ لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة) !! أي: بمصيبة شديدة.
(و) في «الإحياء» للغزالي أيضا:
(قالت أمّ كلثوم) ابنة عليّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنهم.
ولدت في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر ابن عبد البرّ: ولدت قبل وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وروى ابن أبي عمر المدنيّ في «مسنده» قال: حدّثني سفيان؛ عن عمر؛ عن محمّد بن عليّ: أنّ عمر خطب من عليّ بنته أمّ كلثوم!! فذكر له صغرها، فقيل له: إنّه ردّك؛ فعاوده!! فقال له عليّ: أبعث بها إليك، فإن رضيت؛ فهي امرأتك فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها، فقالت: مه!! لولا أنّك أمير المؤمنين لطمت عينك!!.(4/280)
- يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه ...
وقال ابن وهب؛ عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم؛ عن أبيه؛ عن جدّه:
تزوّج عمر أمّ كلثوم على مهر أربعين ألفا، وقال الزّبير: ولدت لعمر ابنيه: زيدا ورقيّة.
وماتت أم كلثوم وولدها في يوم واحد. وذكر الدّارقطنيّ في كتاب «الأخوة» :
أنّه تزوّجها بعد موت عمر عون بن جعفر بن أبي طالب؛ فمات عنها، فتزوّجها أخوه محمّد؛ ثمّ مات عنها، فتزوّجها أخوه عبد الله بن جعفر؛ فماتت عنده.
قال ابن سعد: ولم تلد لأحد من بني جعفر.
(يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه) .
سئل العلّامة نور الدّين: الشّيخ عليّ الشّبراملسي الشّافعيّ رحمه الله تعالى بما نصّه: ما حكمة استعمال «كرّم الله وجهه» في حقّ عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دون غيره؛ عوضا عن التّرضّي؟! وهل يستعمل ذلك لغيره من الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. آمين؟؟.
فأجاب بقوله: حكمة ذلك: أنّ عليا رضي الله تعالى عنه، وكرّم وجهه، لم يسجد لصنم قطّ؛ فناسب أن يدعى له بما هو مطابق لحاله من تكرمة الوجه، والمراد به حقيقته أو الكناية عن الذّات؛ أي: حفظه عن أن يتوجّه لغير الله تعالى في عبادته.
ويشاركه في ذلك الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه، فإنّه لم يسجد لصنم أيضا؛ كما حكي فناسب أن يدعى له بذلك أيضا، وإنّما كان استعمال ذلك في حقّ عليّ أكثر!! لأنّ عدم سجوده لصنم أمر مجمع عليه، لأنّه أسلم وهو صبيّ مميّز، وصحّ إسلامه حينئذ؛ على خلاف ما هو مقرّر في مذهبنا، لأنّ الأحكام وقت إسلامه كانت منوطة بالتّمييز، ثمّ بعد ذلك نسخ ذلك الأمر، فأنيطت بالبلوغ؛ كما بينّه البيهقيّ وغيره.(4/281)
بالكوفة- ...
فإن قلت: كثير من الصّحابة لم يوجد منهم سجود لصنم، كالعبادلة ابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزّبير، وغيرهم، ومع ذلك لا يقول النّاس فيهم ذلك؟ بل التّرضي كغيرهم!!.
قلت: هؤلاء ونظراؤهم إنّما ولدوا بعد اضمحلال الشّرك، وخمود نار الضّلالة والفتنة، فلم يشابهوا ذينك الإمامين؛ من تركهما أكبر فتن الشّرك من السّجود للصّنم، مع دعاية أهله للنّاس لذلك، ومبالغتهم في إيذاء من ترك ذلك، وكان في التّرك حينئذ مع مخالفة الآباء والأقارب، وتحمّل المشاقّ الّتي لا تطاق من الدّلالة على الصّدق؛ ما ليس فيه بعد ظهور الإسلام وزهوق الضّلال؛ فناسب حالهما أن يميّزا عن بقيّة الصّحابة بهذه الخصوصيّة العظمى رضي الله تعالى عنهما وكرّم وجهيهما. انتهى؛ نقلته من هوامش كتاب «إرشاد المهتدي إلى كفاية المبتدي» للشّيخ العلّامة عبد الحميد بن محمّد علي قدس المكيّ رحمه الله تعالى. آمين.
(بالكوفة) : مدينة كبرى بالعراق؛ وهي قبّة الإسلام، ومركز العلم، ودار هجرة المسلمين. قيل: مصّرها سعد بن أبي وقّاص، وبنى مسجدها، وكانت قبل ذلك منزل نوح عليه السلام، ويقال لها: كوفان. ويقال لها: كوفة الجند!! لأنّها اختطّت فيها خطط العرب أيام عثمان رضي الله عنه أو أيّام عمر رضي الله عنه.
تولّى تخطيطها السّائب بن الأقرع بن عوف الثّقفي رضي الله عنه، وهو الّذي شهد فتح نهاوند مع النّعمان بن مقرّن. قال ياقوت: لما بنى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة صعد المنبر؛ وقال: يا أهل الكوفة؛ إنّي قد بنيت لكم مسجدا لم يبن على وجه الأرض مثله، وقد أنفقت على كلّ أسطوانة: سبع عشر مائة، ولا يهدمه إلّا باغ؛ أو حاسد.
ويقال: إنّ مقدار الكوفة ستّة عشر ميلا وثلثا ميل، وأنّ فيها خمسين ألف دار للعرب؛ من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستّة وثلاثين ألف دار لليمن، والحسناء لا تخلو من ذامّ.(4/282)
مثلها: ما لقيت من يوم الإثنين، مات فيه جدّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه قتل عمر، وفيه قتل أبي، فما لقيت من يوم الإثنين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اقتحم النّاس حين ارتفعت الرّنّة وسجّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثوبي؛ ف ...
والمسافة ما بين الكوفة والمدينة نحو عشرين مرحلة. انتهى ملخّصا من «شرح القاموس» .
(مثلها) ؛ أي: مثل هذه المقالة (ما) ؛ أي: أمر عظيم (لقيت من) الأحزان في (يوم الاثنين؟! مات فيه جدّي) أبو أمّي، وهو (رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قتل عمر) بن الخطّاب: بعلي، (وفيه قتل) عليّ بن أبي طالب (أبي) رضي الله تعالى عنهم.
(فما لقيت من يوم الاثنين!؟) هكذا روي عنها، ولكن في قتل عمر اختلاف، فروى سالم بن أبي الجعد؛ عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر أصيب يوم الأربعاء؛ لأربع بقين من ذي الحجّة سنة: ثلاث وعشرين.
وكذا قال: أبو معشر وغيره؛ عن زيد بن أسلم، وزاد إسماعيل بن محمّد بن سعد؛ عن زيد: أنّه دفن يوم الأحد؛ مستهلّ سنة: أربع وعشرين.
وقال اللّيث وجماعة: قتل يوم الأربعاء، لأربع بقين من ذي الحجّة؛
ذكره في «شرح الإحياء» .
(وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها) فيما ذكره في «الإحياء» .
وقال الوليّ العراقي فيه: إنّ هذا السّياق بطوله منكر؛ لم أجد له أصلا، لكن قال في «شرح الإحياء» : إنّه رواه ابن أبي الدّنيا؛ من حديث ابن عمر بن الخطّاب بسند ضعيف. انتهى. قالت:
(لمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحم النّاس) ؛ أي: دخلوا (حين ارتفعت الرّنّة) ؛ أي: صوت البكاء، (وسجّي) ؛ أي: غطّي (رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبي ف) - طاشت(4/283)
اختلفوا، فكذّب بعضهم بموته، وأخرس بعضهم، فما تكلّم إلّا بعد البعد، وخلّط آخرون؛ فلاثوا الكلام بغير بيان، وبقي آخرون معهم عقولهم، وأقعد آخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته، وعليّ فيمن أقعد، وعثمان فيمن أخرس، ...
العقول، ووقع الصحابة في حيرة، و (اختلفوا!!
ف) منهم من خبّل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس؛ فلم يطق الكلام، ومنهم من أضني.
و (كذّب بعضهم بموته) كعمر بن الخطّاب، (وأخرس) ؛ أي: منع من النّطق (بعضهم) كعثمان بن عفّان، (فما تكلّم إلّا بعد البعد.
وخلّط آخرون) منهم؛ (فلاثوا الكلام) ؛ أي: لووا كلامهم (بغير بيان) ؛ أي: إفصاح، أي: لم يبيّنوا كلامهم، ولم يوضّحوه بالإيضاح المعهود عنهم.
(وبقي آخرون) من الصّحابة (معهم عقولهم.
وأقعد آخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته) روى الإمام أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سجّيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا؛ فأذنت لهما، وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه؛ فقال: واغشيتاه!! ثمّ قام، فقال المغيرة: يا عمر؛ مات. فقال: كذبت! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتّى يفني الله المنافقين ... الحديث.
(و) كان (عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (فيمن أقعد) ؛ فلم يستطع حراكا.
(و) كان (عثمان) بن عفّان رضي الله تعالى عنه (فيمن أخرس) يذهب ويجيء؛ ولا يستطيع كلاما، وأضني- أي: مرض- عبد الله بن أنيس فمات كمدا.
وكان أثبتهم أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وهو المحبّ الأكبر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم.(4/284)