ـ[منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم]ـ
المؤلف: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي (المتوفى: 1410هـ)
الناشر: دار المنهاج - جدة
الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م
عدد الأجزاء: 4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
الكتاب: منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
المؤلف: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي (المتوفى: 1410هـ)
الناشر: دار المنهاج - جدة
الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م
عدد الأجزاء: 4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
المجلد الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كلمة الناشر
الحمد لله خالق الثقلين الهادي إلى النجدين، والصلاة والسلام على رحمة الدارين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
يولد الإنسان على فطرة سليمة، وهيئة قويمة وطريقة مستقيمة، ثم ما يلبث أن يغمس في الفتن ويبلى بالمحن، ويتأرجح في الإحن، ويختلط عليه الحابل بالنابل، فلم يزل مرتبكا وغافلا؛ لا يستطيع أن يمسك بزمام نفسه، ولا يدري إلى أين تقوده، وكيف يكون مصيره إلى أحسن تقويم؟ أم إلى أسفل سافلين؟!.
نعم؛ إن الإنسان في هذه الحياة مثله مثل الغريق السابح في بحر متلاطم يصارع أمواجه، ومن ثمّ تخور قواه، وينتظر طوق نجاة ينشله إلى برّ الأمان، ولكن ما هو طوق النجاة هذا؟ وما هي أحباله؟ إنه الإيمان، وأحباله شمائل الرسول النبي العربي الهاشمي المطّلبي أبي البتول، فإليها ينتهي السّول، وعلى وسائلها يتمّ الوصول إلى كل مأمول، ويكون بها القبول في المعلوم والمجهول، والكيف والكم، والأخص والأعم فيما علم وما لم يعلم؛ من الكنز المطلسم والسرّ المكتّم، والسلسبيل المطمطم، وفيض الله الأعظم؛ يلهمه من يلهم، وكل مغرم بصبابته متيّم، وفي علم الله هام وهيّم.
اللهمّ؛ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد طوق النجاة، وعلى ذريّاته الطاهرات وزوجاته المطهرات، وأصحابه العدول الثقات، والتابعين من المحسنين والمحسنات، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات؛ عدد ما في الحياة والممات ويوم الحسرات، مما أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو جعلته عندك في الغيبيّات من الخيرات، وعدد ما جرت(1/5)
وتجري به الألسن من الدعوات، وما أتت وتأتي به الجوارح من الطاعات، وعدد ما لم تنبس به الشفاه، وما لم يمر بالنفوس من خطرات، وبالعقول من خاطرات؛ بعدد المعلومات والمجهولات، في عالم الأرضين والسماوات، وما بينهما وما فيهما من مخلوقات، صلاة تغفر لي بها الزلّات؛ الكبيرات منها والصغيرات، السابقات منها واللاحقات، وتصلح لي ما مضى من أعمالي وما هو آت، كما توفقني لجميع الخيرات، وتسدّدنا بجميع الصالحات، حتى تشهد ذاتي الفانية ذاتك الباقية؛ يا من بيده الفضل، ومنه الوصل وعليه الوكل، كن لي مخرجا من جميع الضائقات، ومتحمّلا عني جميع التبعات مما قصّرت فيه من التكليفات وأداء الأمانات، بدافع الشهوات أو بعارض السهوات، وانفحني اللهمّ بالنفحات في جميع الأويقات واللحظات، مع لطفك والعفو والعافية والمعافاة؛ من كافة الشرور وجميع الآفات والبليات.
ربي؛ واجعل مثل ذلك لوالديّ ولزوجي وذرّيّتي أزواجا وزوجات، ولمن تعلّق بزمامي من محبين ومحبّات، وكان في خدمتي وكنت في خدمته من الصالحين والصالحات، والصدّيقين والصدّيقات من أهل الأرضين والسماوات.
اللهمّ؛ إني أعوذ بك من شرّ النفس وسيئآتها والموبقات، والكفر والمكفرات؛ من الأقوال والأفعال والنيات.
اللهم؛ بالنبوات المعجزات، والرسالات الباهرات، والولايات المتواصلات، والكلمات التامّات وبالباقيات الصالحات، وبالطاعات المتقبلات، وبالحسنات المضاعفات، وبالأمنيات المتحقّقات، وبالأعطيات الجزيلات، وبالخيرات الكثيرات، وبأهل الكرامات، وبأعلى المقامات للوارثين والوارثات، وبسيّد السادات طوق النجاة.
اللهمّ؛ ألزمنا العروة الوثقى وأحملنا على المحجّة البيضاء، وجمّل(1/6)
أحوالنا بالتقوى، وألبسنا حلل السعادات وأكرمنا بدوام المناجاة، وأتحف البصيرة بالمشاهدات والشكر بالعبرات، ولا تجعل لي إلى غيرك التفاتا ولا عنك انفلاتا، لا إله إلّا أنت بك وعليك توكّلت في جميع الحالات.
اللهمّ؛ إن الفوت موت وأنت الوارث الباعث؛ فانظر إلى عبادك وتقبّل منهم القليل يا جليل.
اللهمّ؛ وانظر من عبيدك الحال يا ذا الجلال، ويا من عطاؤه وثوابه ليس بتحصيل حاصل الأعمال، بل بجود جواد وتفضّل مفضال، أكرمنا يا كريم بحسن خواتم الأعمال، وحسن الخاتمة عند دنوّ الآجال.
اللهمّ؛ ولا تجعل في رزقنا حائلا بيننا وبينك يا شديد المحال، إنّ في تدبيرك ما يغنيني عن الحيل، وإنّ في كرمك ما هو فوق الأمل، وإنّ في حلمك ما يسدّ الخلل، وإنّ في عفوك ما يمحو الزلل.
اللهمّ؛ فبقوّة تدبيرك وفيض كرمك وسعة حلمك وعظيم عفوك؛ صلّ وسلم في كلّ حال على سيدنا محمد مزيل الضلال، ودائرة كؤوس السلسال، ويتيمة عقد الآل؛ باب حضرة الجلال، وساقي كؤوس الوصال، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين بإحسان إلى يوم المآل، ولك الحمد كما قلت وكما ينبغي أن يقال.
الناشر السيد الدكتور: هاشم محمد علي مهدي(1/7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ترجمة الشّيخ عبد الله اللحجي
بقلم: فضيلة العلامة الدكتور المحدث المسند السيد: محمد بن علوي المالكي من علماء البلد الحرام هو شيخنا العلّامة الفقيه المرجع، المحدّث المسند، العارف بالله الشيخ: عبد الله بن سعيد بن محمد عبادي اللّحجي الحضرميّ الشحاري، ثم المراوعي، ثم المكي.
ولد سنة: 1343 بقرية نوبة عياض من قرى لحج، ثم سافر إلى المراوعة قبل البلوغ؛ وهو في الثانية عشرة لطلب العلم،
فأخذ عن مشايخها وهم:
السيد عبد الرحمن بن محمد الأهدل
، وهو شيخ التخرّج والانتساب في اليمن، فقد لازمه أكثر من عشر سنوات، وقرأ عليه كثيرا من المقروءات، وخدمه وانتفع به، وحضر دروسه وسمع منه، وقرأ عليه؛ في التفسير والحديث والفقه وقواعد الفقه وأصول الفقه والعقائد ومصطلح الحديث والتصوّف والفرائض والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والمنطق.
وأجازه إجازة عامّة بكلّ ما تجوز له روايته، وفي العلوم الشرعية والعقلية والأحزاب والأوراد والأذكار والصلوات المأثورة وغير المأثورة، وكتب له الإجازة بخطّه الشريف.
ومن شيوخ الشيخ اللحجي في المراوعة: الشيخ العلامة السيد: عبد الرحمن بن حسن
بن عبد الله بن محمد معوّضه قاسم الأهدل المروعي، سمع منه وقرأ عليه، وحضر عنده في الفقه والحديث والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق وقواعد الفقه وغيرها، وأجازه إجازة عامّة.(1/9)
ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي في اليمن: الشيخ العلّامة الحبر البحر الفهّامة أبو الفضائل عزّ الدين السيد: محمد حسن هند بن عبد الباري
بن محمد بن حسن بن عبد الباري الأهدل، حضر دروسه وسمع منه، وقرأ عليه في الفقه والحديث والمنطق والعقائد والأصول والتجويد والعروض وغيرها، ولازمه واستفاد منه وقرأ عليه كثيرا، فله عليه منّة كبرى بعد شيخه السيد عبد الرحمن محمد الأهدل رحمهم الله تعالى. آمين وقد أجازه إجازة عامّة.
رحلته إلى مكة المكرمة:
رحل إلى مكة سنة: 1374 هـ، ومكث بها سنة واحدة، ثم عاد إلى اليمن، ثم رجع إلى الحجاز عام: 1377 هـ؛ واستقرّ به المقام في مكة المكرمة إلى وفاته.
اتّصاله بالوالد السيد علوي المالكي:
اتصل الشيخ عبد الله اللّحجي بالوالد في أول سنة جاء فيها إلى مكّة؛ وهي سنة: 1374 هـ، فقرأ عليه في المسجد الحرام، وأخذ عنه مدّة أقامته الأولى؛ وهي سنة كاملة. ثم رجع إلى بلاده، ثم جاء إلى مكة المكرمة مرّة ثانية عام: 1377 هـ، واستقرّ بها إلى وفاته؛ ملازما لسيّدي الوالد السيد علوي المالكي ملازمة تامّة. وقرأ عليه في المسجد الحرام بباب السلام، وفي بيته، وبالقرارة ثم بالحلقة، ثم بالعتيبية كتبا عديدة؛ في التفسير والحديث والأصول والمنطق والتاريخ وتاريخ التشريع والقواعد والتصوف.
وممّا قرأه عليه: «موطأ الإمام مالك» ، و «صحيح البخاري» ، و «صحيح مسلم» ، و «سنن أبي داود» ، و «سنن الترمذي» .
وكان الشيخ عبد الله هو القارىء أمام الوالد في الدرس في المسجد الحرام.
وكذلك قرأ عليه كتاب «بلوغ المرام» و «رياض الصالحين» و «الشفا» و «الشمائل» للترمذي بالمسجد النبوي في الروضة الشريفة جوار الحجرة(1/10)
المشرّفة؛ في الدروس الخاصّة.
و «ألفية السيوطي» ، و «طلعة الأنوار» ؛ وشرحها: «رفع الأستار» ، و «نيل المرام في تفسير آيات الأحكام» ؛ في الدروس العامّة بالمسجد الحرام. وكان الشيخ عبد الله هو القارىء فيها.
و «رسالة» جدّي السيّد عبّاس المالكي في الاستعارات، و «رسالة في علم المناظرة» و «رسالة في علم الوضع» وطائفة من «الإتقان» ، وطائفة من «الموافقات» للشاطبي وكتبا كثيرة، ولازمه ملازمة تامّة، وخدمة في كثير من شؤونه العلمية، وكتب له كثيرا من فوائده، وأملى عليه كثيرا من رواياته.
وكنت لا أرى مجلسا من مجالس والدي إلّا وأرى الشيخ عبد الله اللحجي في ذلك المجلس؛ سواء كان مجلس علم، أو مذاكرة، أو ضيافة، أو ذكر، أو دعوة. ونسخ بيده كثيرا من المخطوطات المفيدة، والمجاميع العديدة، والرسائل النادرة باسم سيّدي الوالد. أي: هديّة له.
وكان كلّ منهما يحبّ الآخر وينظر إليه بعين الفضل. وكان الشيخ عبد الله المذكور يقول: أنا لا أشبع من مجالسة شيخنا السيد علوي. وإني إذا أصبحت أفكر في الذهاب إليه وأهيّىء نفسي لذلك، وكان يقول أيضا عنه: هو شيخنا الذي فتح قلوبنا وزكّى نفوسنا، وأمدّنا بما لا ننساه، وعرّفنا بالناس، وأخذنا إلى الأفاضل من أهل الحرمين الشريفين، واجتمعنا عنده وفي رحابه بكبار علماء المسلمين من الوافدين في الحج والعمرة والزيارة. واتّصلنا بهم وأخذنا عنهم واستجزناهم ببركته وإشارته، فعنه أخذنا، وبه تخرّجنا، ولولاه ما كنّا ولا أصبحنا ولا أمسينا. هكذا سمعته منه بلفظه رحمه الله.
وقد كان لسيّدي الوالد الحبيب علوي المالكي عناية خاصّة وتامّة بالشيخ عبد الله اللحجي؛ فقد كان يأخذه معه في أكثر مجالسه واجتماعاته ورحلاته خارج مكّة المكرّمة للوعظ والإرشاد، أو للإصلاح بين الناس، أو لزيارة العلماء والصالحين، أو لحضور مجالس الذكر وقراءة القرآن. فقد حجّ معه(1/11)
مرّات، وزار معه المدينة المنورة مرّات، وسافر معه إلى الطائف وجدّة مرّات. وكان سيّدي الوالد الحبيب علوي المالكي قد أعطاه غرفته الخاصّة التي تسمّى ب (الخلوة) في رباط السليمانية. ثم الخلوة الثانية المطلّة على الحرم من جهة باب السليمانية، والتي كانت تسمّى ب «المدرسة» . ثم خلوة أخرى في مشاريع توسعة الحرم الأولى.
وكان الشيخ عبد الله متفرّغا للعلم والتعليم؛ يعيش مع طلبة العلم ويسكن معهم وينام، فكانت أوقاته كلّها مصروفة للعلم والدرس والتدريس والطلاب.
وكان سيّدي الوالد يقضي أكثر أوقاته التي لا ارتباط فيها بمدرسة أو موعد في هذه الخلوة مع الشيخ عبد الله ومن معه من الطلاب في دروس خاصّة عالية، ومذاكرات وفوائد سامية.
وعناية الوالد السيّد علوي المالكي بالوافدين معلومة وظاهرة للجميع ويعتبرها من وظائفه المهمة التي أوجبها هو على نفسه. يقول فضيلة الأخ الشيخ أحمد جمهوري البنجري- فيما كتب إليّ بخطه-:
قال شيخنا العلّامة المحقق الشيخ إسماعيل «1» : إنه (أي السيد علوي المالكي) علّامة زمانه، فخر أوانه والمقدّم بين أقرانه المتفننين بشتّى فنون المنقول والمعقول، والقائم على هدي جدّه المصطفى الرسول صلّى الله عليه وسلّم- إلى أن قال- وله عليّ وعلى غيري من أهل العلم الوافدين إلى بلد الله الأمين للإقامة به منّة عظمى ونعمة كبرى؛ حيث إنّه يقوم برعاية الغرباء من الطلاب، ويسدي إليهم كلّ جميل، وساعدهم بكلّ ما في وسعه مما يحتاجونه مما يسهّل لهم سبيل الإقامة. فجزاه الله عنا أحسن الجزاء.
ومن شيوخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرمة: الإمام العلّامة المحدّث شيخنا الشيخ: حسن بن محمد المشّاط المكّي المالكي،
__________
(1) أي الشيخ إسماعيل الزين المتوفى بمكة.(1/12)
حضر دروسه وسمع منه، وقرأ عليه أشياء كثيرة في الحديث وغيره، ك «صحيح البخاري» ، و «صحيح مسلم» ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، و «موطأ الإمام مالك» ، و «مسند الإمام أحمد» ، و «مسند الشافعي» ، و «سنن الشافعي» ، و «سنن البيهقي» ، و «شمائل الترمذي» ، و «الشفاء» للقاضي عياض، و «الأوائل» السّنبلية بكمالها، وقرأ عليه كثيرا من المسلسلات والأثبات، كثبت الشيخ محمد بن علي الشنواني، وحسن الوفا بثبت الشيخ فالح الظاهري الحجازي.
وثبت السيد حسين بن محمد الحبشي المكي ( «فتح القوي» ) ، وثبت الشيخ وليّ الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، وثبت الشيخ محمد ضمّا بن حسن البناني الفاسي، وقرأ عليه «رفع الأستار» ، و «شرح طلعة الأنوار» ، و «شرح البيقونية» كلاهما تأليفه، وغير ذلك من مقروءات ومسموعات، فله عليّ منّة كبرى. ولازمه مدّة طويلة واستفاد منه فوائد جمّة جزاه الله عنه خيرا، وأجازه إجازة عامة مرّات متعدّدة، وكتب ذلك بخطّه الشريف وألبسه الخرقة، وأسمعه حديث الرحمة المسلسل بالأولية.
ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة الإمام المؤرّخ المحقق شيخ المشايخ السيد الشيخ محمد العربي
ابن التبّاني الواحدي الجزائري المكي، سمع منه وحضره وقرأ عليه كتاب «الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير» للحافظ السيوطي، وطائفة من «تفسير الجلالين» ، وطائفة من كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد» للحافظ ابن القيم، وطائفة من «رياض الصالحين» للإمام النووي، وطائفة من «سيرة ابن هشام» ، وأوائل كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» صلّى الله عليه وسلّم للعلامة الشيخ يوسف النبهاني، وقرأ عليه تأليفه «محادثة أهل الأدب في أنساب العرب» واستفاد منه وقد أجازه إجازه إجازة عامّة.(1/13)
ومن مشايخ عبد الله اللحجي بمكة المكرمة العلّامة المسند الشيخ: محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكّي،
قرأ عليه كتاب «آداب البحث والمناظرة» لطاش كبري زاده، و «الرسالة الشريفة في آداب البحث والمناظرة» ، ورسالته المسماة «تشنيف السمع في علم الوضع» ، وسمع عليه كثيرا من المسلسلات بأعمالها القولية والفعلية، وأضافه على الأسودين التمر والماء. وأجازه إجازة عامّة.
ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي من أهل مكة المكرمة العلامة السيد: محمد أمين الكتبي المكيّ الحنفي،
سمع منه وحضر لديه في درس التفسير والحديث والعربية ك «شرح ابن عقيل» ، و «شرح الأشموني على ألفية ابن مالك» في النحو والصرف، وكتاب «العزّي» في الصرف، و «شرح الجوهر المكنون في الثلاثة الفنون» ، و «دلائل الإعجاز» للشيخ عبد القاهر الجرجاني.
ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: محمد يحيى أمان المكّيّ الحنفي
القاضي بالمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة، وقرأ عليه من أوّل «سنن الترمذي» ، ومن أوّل «تفسير الجلالين» ، وأجازه إجازة عامّة في كلّ ما تجوز له روايته.
ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللّحجي من أهل المدينة المنوّرة العلّامة الشيخ: أمين بن أحمد الطرابلسي- طرابلس الغرب- المالكيّ
المدرّس بالمعهد العلمي بالمدينة المنورة، اجتمع به كثيرا في المدينة المنوّرة ومكّة المكرمة في منزله وغيره، واستفاد منه فوائد جمّة، وقد قرأ عليه شيئا من «المنظومة الشاطبية» المسمّاة «حرز الأماني» في علم القراءات السبع، وشيئا من شرحها لأبي شامة، وتعلّم منه شيئا من علم الفرائض، وأجازه بما تجوز له روايته.
ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلّامة الشيخ: إسحاق بن إبد بن محمد نور الصامولي،
قرأ عليه كتابا في علم الصرف، وأجازه بماله من مرويّات ومقروءات ومسموعات إجازة عامّة.
ومن مشايخ الشيخ عبد الله اللحجي بمكّة المكرّمة العلامة الشيخ: حسن بن(1/14)
سعيد بن محمد بن أحمد اليماني المكيّ الشافعي، اجتمع به في داره بمكّة مرارا وتردّد إليه، وحضر دروسه في المسجد الحرام؛ في «صحيح مسلم» ، و «شرح المحلي» في الفقه، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي، وسمع من فوائده كثيرا، وقد أجازه بكلّ ما تجوز له روايته؛ من منقول ومعقول، وأوراد وأذكار.
روايته وأسانيده:
يروي الشيخ عبد الله اللّحجي عن كثير من العلماء المحققين. ويأتي في الدرجة الأولى شيوخه الذين قرأ عليهم وجلس بين يديهم، فقد استجازهم وروى عنهم، وأخذ عمن اعتنى منهم بالإسناد والرواية المسلسلات القولية والفعلية؛ كالمسلسل بالأولية وصنّف فيه جزءا خاصّا سمّاه: «إعانة ربّ البرية على جمع تراجم رجال الحديث المسلسل بالأوّلية» ، وإضافة إلى ذلك فقد استجاز جملة من أئمة الحديث، واستفاد من مواسم الحج والعمرة والزيارة بلقاء العلماء وزيارتهم، واستجازتهم والرواية عنهم.
ومنهم الشيخ أحمد بن عبد الباري بن علي عاموه اليماني الحديدي الحنفي، والشيخ محمد بن أحمد السالمي الزبيدي، والسيد علي بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن أبكر الأهدل الزبيدي، والسيد أبكر مهادن بن عبد الرحمن بن إسماعيل الأهدل الزبيدي، والسيد محمد بن سليمان إدريسي الأهدل الزبيدي، والسيد محمد بن يحيى دوم الأهدل (قاضي الزهرة باليمن) ، والشيخ عبد الله بن علي المعمودي الشافعي (قاضي أبي عريش) ، والشيخ محمد إبراهيم بن الملّا سعد الله الفضلي الختني، والمشهور ب «البخاري» وهو ليس من بخارا، والشيخ محمد يوسف البنّوري بن محمد زكريا الباكستاني، والشيخ محمد خير بن يار محمد الباكستاني ثم المكي، والسيد محمد المكي ابن السيد محمد بن جعفر الكتاني الفاسي ثم الشامي، والشيخ محمد زكريا بن محمد يحيى الكاندهلوي السهار نفوري؛ ثم المدني، والسيد سالم بن أحمد بن جندان آل الشيخ أبي بكر بن سالم، والسيد عبد الله بن أحمد الهدار آل الشيخ أبي بكر بن سالم، والشيخ سلامة العزّامي(1/15)
القضاعي الشافعي المصري، والشيخ عبد السلام بن عبد القادر الفاسي.
وأكثر هؤلاء اجتمع بهم في مواسم الحج في رحاب شيخه السيد علوي بن عبّاس المالكي الذي كان مجمعا للوفود من الحجاج والمعتمرين من علماء العالم الإسلامي. وقد صنف ثبتا صغيرا في حجمه؛ كبيرا في علمه، ضمّنه شيوخه ومرويّاتهم باختصار وختمه بفوائد نفيسة، وذكر فيه أنّه أجاز أهل عصره؛ فقال: هذا؛ وإني قد أجزت من أدرك حياتي ممن أراد الرواية عني، وقبل الإجازة مني؛ اقتداء بالأئمة الذين فعلوا ذلك وأجازوه.
قال الشيخ العلامة المحقق محمد بن علي ابن علّان الصدّيقي المكي المتوفى سنة: 1057 هـ رحمه الله تعالى في آخر «شرح الأذكار» المسمّى «الفتوحات الربانية» ، قال الإمام النووي في «الإشاد» : (إذا أجاز لغير معين بوصف العموم؛ كقوله: أجزت للمسلمين، أو لكلّ أحد، أو لمن أدرك زماني، وما أشبهه.. ففيه خلاف للمتأخّرين المجوّزين لأصل الإجازة. فإن كان مقيّدا بوصف خاصّ فهو إلى الجواز أقرب، وجوّز جميع ذلك الخطيب، وجوّز القاضي أبو الطيّب، الإمام المحقّق الإجازة لجميع المسلمين الموجودين عندها، ثمّ قال: وأجاز أبو عبد الله بن منده لمن قال: لا إله إلّا الله، وأجاز أبو عبد الله بن عتّاب وغيره من أهل المغرب لمن دخل قرطبة من طلبة العلم، وقال أبو بكر الحازمي الحافظ: الذين أدركتهم من الحفّاظ، كأبي العلاء وغيره، كانوا يميلون إلى جواز هذه الإجازة العامّة.
قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: ولم يسمع عن أحد يقتدى به أنّه استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا عن الشرذمة الّتي سوّغتها، وفي أصل الإجازة ضعف فتزداد بهذا ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله.
وهذا الذي قاله الشيخ ابن الصلاح خلاف ظاهر كلام الأئمّة المحقّقين والحفّاظ المتقنين، وخلاف مقتضى صحّة هذه الإجازة، وأيّ فائدة إذا لم يرو بها) . انتهى كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى «1» .
__________
(1) كتاب «المرقاة إلى الرواية والرواة» ؛ للشيخ عبد الله بن سعيد اللحجي ص 60- 61.(1/16)
ثم قال الشيخ اللحجي في آخر ثبته «المرقاة» : وأنا الفقير إلى الله عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي أجزت من أدرك حياتي بما أجاز به الحافظ ابن الدبيع رحمه الله تعالى، ورجوت ما رجاه من فضل الله وكرمه.
ذا سندي؛ فإن قبلت حبّذا ... أو لم يناسب خلف ظهرك انبذا
حرر في 28 شعبان المعظم سنة: 1398 هـ بمكة المكرمة بمنزلي في جبل الحفاير المطل على الشّبيكة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة وألف من هجرة من له العزّ والشرف، كتبه مؤلّفه الفقير إلى الله عزّ وجلّ: عبد الله بن سعيد اللحجي بن محمد عبادي اللحجي الحضرمي المكي؛ فتح الله عليه فتوح العارفين، وألحقه بالقوم الصالحين، وغفر ذنوبه أجمعين بمنه وكرمه. آمين.
والشيخ عبد الله عالم فقيه نحويّ مشارك، له عناية كاملة بالحديث الشريف، يبذل في شراء كتبه ما يملك، وينقب عن نوادره، ويتصيّد نفائسه، يسعى للقاء الرجال والأخذ عنهم، حسن الاعتقاد فيهم، عفيف النفس، صادق العزم، عالي الهمة، بعيد عن المداراة والمجاملة.
اشتغل بالتدريس في المراوعة في الجامع الكبير، وتصدّى لإفادة الطلاب ونشر العلم، وأقبل عليه الطلاب وكان هو خليفة الشيخ السيد عبد الرحمن هناك.
وفي مكّة المكرّمة كان بجانب ملازمته لسيّدي الوالد وصحبته له وحضوره مجالسه ودروسه واشتغاله بكتابة رسائله وفتاويه وبحوثه حريصا على نفع الطلاب وإرشادهم بتدريسهم في المسجد الحرام في أوقاته الأخرى، وتدريسه في عدة مدارس؛ منها المدرسة الصولتية، ومدرسة دار العلوم الدينية، والفخرية.
[مناقبه]
ومن مناقبه الحميدة وخصاله المجيدة: أنه كان حريصا كلّ الحرص على اقتناء الكتب النفيسة عامّة، وخصوصا كتب الحديث والتاريخ والسيرة النبوية والتصوف، ويبذل في شرائها كلّ ما يملك، وقد يكون محتاجا إلى ثمنها؛ ولكنه كان رحمه الله يقدّم حاجة الروح على حاجة الجسم.
ومن مناقبه الحميدة التي شهدناها ورأيناها فيه: حرصه العظيم على لقاء(1/17)
الرجال من أئمة العلم (ذوي الأسانيد العالية) ، ومن العارفين بالله المشهورين بالولاية والصلاح. وكان ممّا يوصيني به عند سفري إلى مصر؛ أو المغرب؛ أو باكستان أو غيرها من البلاد: أن أستجيز له ممّن أستجيزه، ويقول لي: أشركني معك في إجازاتك. وقد طلبت له الإجازة من جملة من علماء العصر، ومنهم الشيخ عبد السلام بن عبد القادر ابن سودة الفاسي، والشيخ محمد عبد الله العربي العقوري، لكن الأخير لم يذكره في أسانيده فلعلّه نسيه!!.
ومن مناقبه العظيمة وخصاله الكريمة رحمه الله: اعتناؤه العظيم بالنسخة التي يدرسها؛ أو يدرّسها، فيبحث عن النسخ الصحيحة القديمة، ويقابلها بالنسخة المطبوعة الجديدة، ويضبطها ضبطا متقنا معتنى به، ولمّا كنّا نقرأ «سنن أبي داود» ، و «الترمذي» على سيّدي الوالد في المسجد الحرام بعد العشاء، ويشكل علينا لفظ أو ضبط اسم، أو نشكّ في كلمة هل هي ساقطة أو زائدة؟؟ كان كثيرا ما يقول سيّدي الوالد للشيخ عبد الله في الدرس: (ماذا عندك في نسختك؛ يا شيخ عبد الله) ، فكان يقول قولا مفيدا يحلّ الإشكال ويزيل اللبس. وأحيانا كان سيّدي الوالد يقول له: (راجع لنا هذه المسألة؛ يا شيخ عبد الله) ، فكان يأتينا اليوم الثاني بالمفيد.
ومن مناقبه الشريفة رحمه الله: أنّ أوقاته كلّها كانت مملؤة بالوظائف والواجبات بين علم وتعليم، ودرس وتدريس، وملازمة لدروس الوالد؛ والشيخ حسن المشاط.
وهو مع جلالة قدره وعظيم رتبته وعلوّ مقامه وسعة علمه؛ إلّا أنه كان عظيم المواظبة على حضور دروس الوالد ومجالسه في الدرجة الأولى، ودروس الشيخ حسن المشاط.
فقد كان يقضي مع سيّدي الوالد كلّ يوم من بعد العصر في ما بين المنزل والحرم إلى ما بعد العشاء بساعة فيما عدا قبل العشاء.
فقد كان يذهب إلى درس الشيخ حسن المشاط (في الحديث) ...(1/18)
مواظبا على هذا الترتيب لا يكاد يتركه إلّا لعذر طارىء، أو لتوقّف الدروس في الصيف؛ أو رمضان. ومع توقّف الدروس العامة في الحرم إلّا أنه لا يترك الحضور عند الوالد في مجلسه يوميا بعد العصر إلى انقضاء المجلس في مواسم الحجّ. وقد كتبت عنه «جريدة المدينة» بعد وفاته تحقيقا بقلم الأستاذ المؤرخ عبد الرحمن مغربي جاء فيه: كان رائدنا من العلماء الأفاضل عالما ضليعا، وفقيها متمكّنا، وعاملا صالحا، هو واحد من العلماء الذين كرّسوا حياتهم لطلب العلم درسا وتدريسا؛ يجود بعلمه على العامّة والخاصّة.
كان رحمه الله محبّا لطلابه ومحبّا لأساتذته ومشايخه قبل ذلك، إذ يعدّ مرجعا قويّا للكتابة عن العلماء بمكّة، وبعد حضور مجالس وحلقات العلم بالمسجد الحرام تصدّى للتدريس بالمسجد الحرام بعد أن أخذ الإجازة من علماء الحرم المكي؛ فعقد حلقته العلمية والدينية تحت أروقة المسجد الحرام، وكانت تكتظّ بالطلاب الذين انتفعوا بعلمه؛ فأقبل عليه عامّة الطلبة وخاصّتهم ينهلون من مورده العذب في كثير من علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية.
وقد درّس شيخنا في حلقته بالحرم الشريف «الصحيحين» ، وكتب:
«منهاج الطالبين» في فقه الشافعية، و «متن الغاية والتقريب» ، وعلوم اللغة العربية بفروعها، وقد أخذ عنه كثير من طلبة العلم الذين ينتمون إلى كثير من البلدان العربية، وأصبح لهم مكانة علمية مرموقة «1» .
صلتي بالشيخ اللّحجي
أما اتصالي بالشيخ عبد الله اللحجي؛ فقد كان اتصالا وثيقا وقويّا وعظيما.
فقد لازمته بأمر والدي، وله عليّ فضل عظيم ومنّة كبرى؛ قرأت عليه وأخذت عنه، وحفظت عليه متونا كثيرة، ورافقته في خلوته برباط السليمانية؛ إذ كنت أذهب إليه كلّ يوم في الظهر ونقرأ ونذاكر ونحفظ تحت
__________
(1) جريدة المدينة ملحق الأربعاء 20 جمادى الآخرة 1415 هـ.(1/19)
إرشاده، ثمّ نخرج معه إلى المسجد الحرام لصلاة العصر وتسميع بعض المتون، ثم نمشي معه إلى مجلس سيّدي الوالد السيّد علوي بعد العصر؛ حيث كان الشيخ اللحجي يحضر يوميا بعد العصر إليه؛ فيجلسان في مذاكرة ومدارسة وكتابة وإرشاد للناس، ثم نخرج جميعا معه في معيّة سيّدي الوالد إلى المسجد الحرام فنحضر جميعا الدرس الأول بعد المغرب.
ثم يقوم الشيخ اللحجي بعد الدرس إلى مجلس شيخنا الشيخ حسن المشاط؛ وكنت أقوم معه إلى درس الشيخ حسن المشاط.
ثم نرجع بعد العشاء إلى سيدي الوالد فنحضر معه درس الحديث لمدّة ساعة، وكان هو المقرىء، وقد حضرت بقراءته كتبا كثيرة بين يديّ سيدي الوالد (السّرّاد) منها: «سنن الترمذي» ، و «سنن أبي داود» ، وفي آخر «سنن أبي داود» هو الذي اقترح على سيّدي الوالد أن أقوم أنا بسرد الحديث والقراءة بين يديه، فبدأت بإرشاده واقتراحه بالقراءة بين يدي والدي؛ وحضور كبار تلاميذه في ذلك الدرس وو كنت أراجع الدّرس وأطالعه قبل القراءة مسترشدا بالشيخ عبد الله في كلّ مشكل من الأسماء؛ أو ضبط القراءة واستمر الحال على هذا إلى وفاة الوالد السيد علوي المالكي سنة 1391 هـ.
صلة خاصة:
ومما أعتزّ به وأفتخر تلك السنة التي تركت فيها مدرسة الفلاح وعزمت على التفرّغ لطلب العلم وحفظ المتون تفرّغا كاملا؛ بعيدا عن النظام المدرسي والمنهج المقرّر وجوّ الاختبارات، وكان سيّدي الوالد مشغولا بمدرسة الفلاح يوميّا.
وكان من حسن الحظ والسعد أنّ الشيخ عبد الله اللحجي ترك التدريس بدار العلوم بتلك السنة فوقع الاتفاق بينه وبين سيّدي الوالد على أن يقوم بتدريسي يوميا من الصباح إلى الظهر، والالتزام بمنهج معين مرتّب، وجدول منظم؛ يشتمل الحديث والتفسير والمصطلح وأصول الفقه والقواعد والنحو والصرف والفرائض والفقه المالكي والتوحيد في يوم دراسيّ كامل. وقد اختار هو بنفسه(1/20)
أن يأتي إلى دارنا في الحلقة القديمة المعروفة ب «حارة النقا» وهي ليست ببعيدة عن محل سكناه إذ ذاك، لأنه كان يسكن قريبا منا في بيت (الملاه) المعروف (جهة الراقوبة) .
وقد قرأت عليه في تلك السنة كتبا كثيرة وحفظت متونا كثيرة، وكلّ ذلك مفصّل في محله من كتبي في الأسانيد والتراجم والإجازات، وقد استمرّ الحال على هذا الترتيب (سنة ونصفا) وهي سنة (98/ 99 هـ) ، وتأهّلت بعدها لدخول اختبار كلية الشريعة بالأزهر الشريف مع من كان أكبر منّي سنّا وأعلى شهادة بفضل الله تعالى، ثم بفضل والدي السيّد علوي، وشيخي الشيخ عبد الله اللحجي.
مؤلفاته:
له مؤلفات مفيدة في بابها، ونافعة لطلابها منها ما طبع في حياته وهي:
1- إيضاح القواعد الفقهية لطلاب المدرسة الصولتية.
2- إعانة ربّ البرية على جمع تراجم رجال الحديث المسلسل بالأولية.
3- المرقاة إلى الرواية والرواة. ذكر فيه شيوخه ومقروءاته عليهم.
4- رسالة جمع فيها أربعين حديثا. وهذه طبعت في حياته.
5- وله «منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» شرح فيه كتاب «الشمائل» للشيخ يوسف النبهاني، وهو الذي نقدّمه للقرّاء اليوم، والذي تبرّع بطبعه بعض المحسنين جزاهم الله خيرا، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم.
6- وله «إسعاف أهل الخبرة بحكم استعمال الصائم للإبرة» .
7- وله «فتح المنان في شمائل شيخنا عبد الرحمن» .
8- وله عدّة مناظيم منها: نظمه للقيلات المعتمدة في «المنهاج» للنووي.
9- وله «نظم في الغزوات» .
10- وله «حديقة الأبرار شرح بهجة الأنوار» .(1/21)
وفاته:
بعد حياة حافلة بالخير وطلب العلم والتدريس تحت أروقة الحرم المكي الشريف؛ انتقل شيخنا الشيخ عبد الله اللحجي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد الموافق للسادس والعشرين جمادى الأولى: 1410 هـ بمكّة المكرمة بعد مرض خفيف استمرّ يومين؛ أو ثلاثة.
وصلّي عليه يوم الأحد بالمسجد الحرام وشيعت جنازته التي حضرها حشد كبير من العلماء والطلاب ومحبّيه رحمه الله رحمة الأبرار والصالحين.
ودفن بمقبرة المعلاه بجانب شيوخه الكرام السيد علوي المالكي، والشيخ محمد العربي، والشيخ حسن المشاط وغيرهم.
وقد ترك ولدين هما أحمد ومحمد، وثلاث بنات. وخلّف مكتبة قيّمة سعى في تكوينها وزيادتها واعتنى بها، وفيها الكثير من كتب التراث والعلوم الدينية.
وبعد؛ فهذه كلمات مختارة مما كتبته عن شيخنا الشيخ عبد الله اللحجي في ثبتي الكبير، وضمن تراجم شيوخي وسيظهر إن شاء الله في وقته. والله يتولّى الجميع برعايته.
وكتبه خادم العلم الشريف ببلد الله الحرام السيد محمد بن علوي بن عبّاس المالكي الحسني المكّي في ليلة الجمعة: 18 جمادى الأولى 1418 هـ مكة المكرمة(1/22)
تعريف بكتاب منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كتاب (منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم) ، تأليف العالم العلّامة البحر الفهّامة، خاتمة المحققين، شهاب الملّة والدين، قطب زمانه، وسيّد أوانه؛ الشيخ عبد الله بن سعيد اللّحجي، ت 1410 هـ.
بدأت معرفتي بهذا الكتاب في منتصف عام 1407 هـ حينما كنت جالسا مع شيخي الأجل مؤلّف الكتاب، وقال لي: نريد أن نقرأ هذا الكتاب وناولني الجزء الأوّل منه، وإذا به الكتاب الّذي كنت أسمع أنّ شيخنا رحمه الله تعالى ألّفه، في حقّ الجناب النّبويّ، ولكنّه كان يخفيه ولا يبديه.. فلبّيت مسرعا في إجابته؛ لأنّ ذلك ما كنت أبغي.
فألفيت الكتاب كنيفا ملىء علما، إذ لم يؤلّف في زمانه مثله علما وتحقيقا..
شرح فيه وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم للشيخ يوسف بن إسماعيل النّبهانيّ ت 1350 هـ.
دعاه إلى وضع هذا الشّرح عليه: أنّ هذا الكتاب من أجلّ ما ألّف في محاسن قطب الوسائل، ومنبع الفضائل، الحائز لكل المفاخر الفاخرة، وسيّد أهل الدّنيا والآخرة، سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنّه جمع شمائله من متفرّقات كتب(1/23)
علماء الإسلام، ورتّبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، بحيث إنّ القارىء لهذا الكتاب كأنّه يشاهد طلعة ذلك الجناب، ويرى محاسنه الشريفة في كلّ باب..
فأراد شيخنا الشارح أن يشرح لفظه ويجلّي معناه، ويوضّح مقصوده ومرماه.
وذلك بإتمام مباحثه، وتوسيع دائرته، وإضافة فوائد، وتقييد شوارد..
فجاء بهذا الحجم الّذي بين يديك- أربعة أسفار كبار بينما متنه يقع في 208 صفحة من القطع الوسط.
فهو بحقّ لم تكتحل عين زماننا بمثله، إذ خلا من الحشو الزائد، وجمع ما تطمح إليه نفوس مبتغي الفوائد، مع دقة تعبير، وسلامة أسلوب وجودة تحقيق، بأسلوب لا يقدر عليه في زماننا غيره، وهو أسلوب سبك عبارة المؤلف مع الشرح في قالب واحد، وكأنّها كتبت بقلم واحد، ولسان واحد، إذ كيف تجتمع موارد أفهامهما في أربعة أسفار ضخام إلّا لمثل هذا الشيخ الأجل، الّذي كان العلم قد مزج بلحمه ودمه، فكان منه ذلك الإبداع.
ولا غرابة في ذلك، فمع ما كان عليه شيخنا من إمامة في العلم في سائر فنونه المعقولة والمنقولة.. إلّا أنّه مع ذلك ظلّ في تأليفه وتنقيحه نحوا من خمس وعشرين سنة تقريبا، حيث ابتدأ تأليفه في الخامس والعشرين من شهر صفر لسنة 1376 هـ وفرغ من تنقيحه وتبييضه في الخامس عشر من شهر محرم 1400 هـ.
ولا عجب في أن يظل في تأليفه هذه الفترة كلّها؛ فإنّ الموضوع يتناول الجناب النّبويّ، الّذي يتعيّن أن تكون الكتابة فيه لائقة بعظمته، ومعتمدة على نصوص الكتاب المنزل عليه، ونصوص سنّته، وعبارات علماء أمته، ومستوحاة من كمال محبته وعظيم منزلته..
وإنّك إن أنعمت نظرك في عبارات هذا الكتاب، ستجد أنّ المؤلّف رحمه الله تعالى قد كتبه من ضوء ذلك، وأتى بما لا مزيد عليه لراغب وسالك، لذلك كان حريصا عليه ضنينا به، لأنّه مهجة روحه، وأعظم نسليه..
ولقد كلّفني في آخر سني حياته بتصويره، وكان ذلك في شهر ذي الحجّة(1/24)
الحرام من عام 1409 هـ، وكان يعطيني كل يوم جزءا، ويقول لي: لا تعد إلّا به.
وذات يوم وأنا أقرأ لديه فيه، قال لي بعد فراغي من قراءتي عليه وهو يسمع: أنّى لي بهذا الكتاب أن يطبع؟!
ففهمت أنّه يشير لي أن أقوم بهذا الدّور بعد وفاته، فتبسّمت في وجهه، وتبسّم لي كذلك، غير أنّي لم أستطع التّعبير بالاستعداد مهابة له وإجلالا، فقد كان والله كما قيل في الإمام مالك رحمه الله تعالى:
يأبى الجواب فلا يراجع هيبة ... والسّائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعزّ سلطان التّقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
فما هو والله ببعيد عن حقيقة مضمون هذين البيتين، ويشهد لذلك كلّ من عرف الشيخ من قريب وبعيد.
أخيرا ها هي الأمنية قد تحقّقت اليوم بعد عشر سنين، والحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصالحات.
وكتبه الفقير إلى الله تعالى د/ أحمد بن عبد العزيز بن قاسم الحدّاد مدير إدارة الإفتاء والبحوث دائرة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة- دبي في 16 من شهر شعبان المكرّم لعام 1418 هـ الموافق 16 من شهر ديسمبر لعام 1997 م(1/25)
صورة الصفحة الأولى من المخطوطة(1/26)
صورة الصفحة الثانية من المخطوطة(1/27)
منتهى السّول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم تأليف العلّامة الفقيه الشّيخ المؤرّخ عبد الله بن سعيد محمّد عبّادي اللّحجيّ (1344- 1410 هـ) رحمه الله تعالى(1/29)
اصطلاح: حيث قلت: انتهى مناوي، ونحوه، فهو مما كتبه على «الشمائل» فإن كان من (شرح «الجامع الصغير» ) بيّنته بقولي: (مناوي على «الجامع» ) .
والنقل عن ابن علّان هو من (شرح «الأذكار» ) و (شرح «رياض الصالحين» ) .
والنقل عن الباجوري من (حاشيته على «الشمائل» ) والقليل من (حاشية ابن قاسم) ، و (حاشية الشنشوري)(1/30)
[مقدمة المؤلف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين على أمور الدنيا والدين الحمد لله الّذي جعل حظّنا «1» نبيّه وحبيبه؛ سيدنا محمّدا الذي أدّبه فأحسن تأديبه، وزكّى أوصافه وأخلافه ووفّر نصيبه، ووفّق للاقتداء به من أراد تهذيبه، وحرم عن التخلّق بأخلاقه من أراد تخييبه، صلوات الله تعالى عليه وسلامه، وتحيّاته وبركاته وإكرامه، وعلى آله أجمعين، وأصحابه والتابعين، ما ذكرت محاسنه وفضائله وسرّت السامعين؛ صلاة دائمة على تعاقب الأوقات والسنين.
أمّا بعد؛ فيقول الفقير إلى رحمة العظيم الباري؛ عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي الحضرمي الشحاري، غفر الله ذنوبه، وستر بفضله عيوبه:
إنّه يتعيّن على كلّ مؤمن أن يثابر على ما يتقرّب به إلى مولاه، ويبادر إلى اتّباع أوامره في سرّه ونجواه، ويقتفي في سيره آثار نبيّه المصطفى، ويقتدي به في أخلاقه التي تكسبه في الدارين شرفا، إذ هو الميزان الراجح الذي بأقواله وأعماله وأخلاقه توزن الأخلاق والأعمال والأقوال، وبمتابعته والاقتداء به يتميّز أهل الهدى من أهل الضلال، وهو قطب السعادة التي مدارها عليه، وباب الطريق التي جعلها سبحانه موصلة إليه، فلا نجاة لأحد إلّا به، ولا فلاح له في الدارين إلّا بالتعلّق بسببه، والوصول إلى الله سبحانه وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غير طريقه عين الخسران والوبال.
وأنت باب الله أيّ امرىء ... أتاه من غيرك لا يدخل
لذلك كان أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية؛ فنّ الشمائل المحمّدية؛ المشتمل على صفاته السنية، ونعوته البهيّة، وأخلاقه الزكيّة، التي هي وسيلة إلى امتلاء القلب بتعظيمه ومحبّته، وذلك سبب
__________
(1) يشير به إلى ما رواه الإمام أحمد في «مسنده» : «أنا حظّكم من النبيين وأنتم حظّي من الأمم ... الخ» . انتهى.(1/31)
لاتّباع هديه وسنّته، ووسيلة إلى تعظيم شرعه وملّته، تعظيم الشريعة واحترامها وسيلة إلى العمل بها والوقوف عند حدودها، والعمل بها وسيلة إلى السعادة الأبديّة والسيادة السرمدية، والفوز برضا ربّ العالمين؛ الذي هو غاية رغبة الراغبين، ونهاية آمال المؤمّلين.
ولمّا كان كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» من أجلّ ما ألّف في محاسن قطب الوسائل ومنبع الفضائل؛ الحائز لكل المفاخر الفاخرة، وسيّد أهل الدنيا والآخرة، فإنه جمع شمل شمائل سيّد الأنام؛ من متفرقات كتب علماء الإسلام، ورتّبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام؛ بحيث إنّ مطالع هذا الكتاب كأنه يشاهد طلعة ذلك الجناب، ويرى محاسنه الشريفة في كل باب.
دعاني حبّ سيّد الأحباب إلى وضع تعليقات على هذا المجموع المستطاب؛ تكون مرجعا لي في تفهّم عبارته عند إقرائه وقراءته؛ راجيا أن أفوز بقسط من التعلّق بجناب الرسول الأعظم، وأن أكون معدودا من جملة خادميه وحزبه؛ صلّى الله عليه وسلّم، وأن أنخرط في سلك المحبّين لسيّد المرسلين، وأن أدلي بدلوي معهم في بحر فضل خاتم النبيين، إذ الخوض في جداول بحاره يكسب الإنسان شرفا وفخرا، والتعلّق بشيء من أسبابه فيه سعادة الدنيا والأخرى، مستمدّا ذلك مما كتبه الأئمة الأعلام على أصوله المأخوذة من دواوين الإسلام، ك «حاشية الباجوري» ، وشروح «المواهب» ، و «الإحياء» ، و «الجامع الصغير» ، وقليلا ما عرّجت على غيرها ك «شرح القاموس» ، و «نهاية» ابن الأثير؛ معتمدا عليها في عزو الأحاديث ومالها من تفسير، وربّما تصرّفت في النزر النادر بالتقديم والتأخير، أو راجعت لتخريج الأحاديث من الأمهات وغيرها وذلك شيء يسير، وسمّيته:
«منتهى السّول على وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول»
وأنا أسأل الله العظيم، ربّ العرش الكريم؛ أن يجعله سببا لمحبّته ومحبّة رسوله الرؤوف الرحيم، وأن ينفعني والمسلمين به كما نفع بأصله الأصيل، وأن يتقبّله مني ويعفو به عني، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال المصنف- رحمه الله تعالى- في ذيل كتابه «وسائل الوصول» :(1/32)
قال جامعه الفقير: يوسف بن إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن محمد ناصر الدين النّبهاني؛ عفا الله عنه:
لمّا كان هذا الكتاب الشريف الفائق، المشتمل على الكثير الطيّب من شمائل خير الخلائق؛ متفرّعا عن كتاب «الشمائل» للإمام أبي عيسى الترمذي، وأصول كتب الحديث المعتمدة التي أجلّها وأشهرها الكتب الستّة؛ وهي دواوين الإسلام.
«صحيحا البخاري ومسلم» ، و «سنن أبي داود» ، و «جامع الترمذي» ، و «سنن النسائي» ، و «سنن ابن ماجه» ؛ رأيت من الصواب أن أذكر أسانيدي فيها إلى مؤلّفيها؛
فأقول: إنّي أروي هذه الكتب وغيرها بالإجازة عن علّامة عصره الإمام الكبير سيّدي الشيخ: إبراهيم السقا المصري الشافعي شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وقد ذكرت إجازته لي في ذيل كتابي «الشرف المؤبّد لآل محمد» في ضمن ترجمة لي، اقتصرت فيها على بيان بعض ما تمسّ الحاجة إليه من التعريف بي، وهو رحمه الله تعالى يرويها عن عدّة أشياخ أجلّاء؛
منهم الأستاذ العلّامة وليّ الله تعالى الشيخ ثعيلب، عن شيخيه الإمامين:
الشهاب أحمد الملوي، والشهاب أحمد الجوهري؛ عن شيخهما مسند عصره وفريد زمانه الشيخ: عبد الله بن سالم البصري صاحب الثبت الشهير.
ومنهم الأستاذ محمد بن محمود الجزائري، عن شيخه علي بن عبد القادر بن الأمين، عن شيخه أحمد الجوهري، عن شيخه: عبد الله بن سالم البصري.
ومنهم الأستاذ العلّامة المحقّق الشيخ: محمد صالح البخاري، عن شيخه رفيع الدين القندهاري، عن الشريف الإدريسي، عن عبد الله بن سالم البصري رحمهم الله تعالى.
قال عبد الله بن سالم بن محمد بن محمد بن عيسى البصري منشأ، المكيّ مولدا وإقامة وإفادة، الشافعي مذهبا: أخذت كتاب «الشمائل» للترمذي عن الحافظ البابلي؛ عن سالم السنهوري، عن النجم الغيطي، عن القاضي زكريا، عن الحافظ ابن حجر بسماعه؛ عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم المقدسي؛(1/33)
بسماعه عن الفخر علي بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاري، بسماعه عن أبي اليمن زيد بن حسن بن يزيد الكندي، قال: أنبأنا به أبو شجاع عمر بن عمر بن محمد بن عبد الله البسطامي، قال: أنبأنا به أبو القاسم أحمد بن محمد الخليل البلخي، قال: أنبأنا به أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، قال: أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشامي؛ قال: حدّثنا به مؤلّفه أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى.
قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «صحيح البخاري» عن شمس الدين: أبي عبد الله محمد بن علاء الدين البابلي القاهري من أوّله إلى قوله «بوادره» ، وأجازة لسائره في سنة سبعين وألف بقراءة الشيخ عيسى المغربي عام مجاورته بمكّة المشرّفة عليه؛ لكونه ضريرا، عن أبي النّجا سالم بن محمد السنهوري سماعا عليه لبعضه وإجازة لسائره. قال: قرأته جميعا على المسند النجم الغيطي؛ بقراءته لجميعه على شيخ الإسلام القاضي زكريا؛ بقراءته لجميعه على شيخ السّند أبي الفضل ابن حجر العسقلاني؛ بسماعه لجميعه على الأستاذ إبراهيم بن أحمد التنوخي؛ بسماعه لجميعه على أبي العبّاس أحمد بن أبي طالب الحجّار؛ بسماعه لجميعه على السراج الحسين بن المبارك الزبيدي الحنبلي سماعا. قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي؛ قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداوودي؛ قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي؛ قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري؛ قال أخبرنا به مؤلّفه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ... ، فذكره.
قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «صحيح مسلم» بن الحجاج القشيري؛ عن الشيخ محمد البابلي المذكور؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي المزبور، من أوّل (كتاب «الإيمان» ) إلى حديث ضمام بن ثعلبة، وسائره بالإجازة عن أبي النجا سالم بن محمد السنهوري؛ سماعا عليه لبعضه وإجازة لسائره؛ بقراءته على النجم الغيطي؛ بسماعه لجميعه على شيخ الإسلام القاضي زكريا؛ بقراءته لجميعه على الحافظ أبي نعيم رضوان بن محمد العقبي؛ بسماعه لجميعه على الشرف أبي الطاهر محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن الكويك،(1/34)
بقراءة الحافظ ابن حجر في أربعة مجالس سوى مجلس الختم؛ عن أبي الفرج عبد الرحمن بن عبد الحميد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي؛ سماعا عليه لجميعه، عن أبي العباس أحمد بن عبد الدائم النابلسي؛ سماعا لجميعه عن محمد بن علي بن صدقة الحرّاني؛ سماعا لجميعه عن فقيه الحرم: أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي؛ سماعا لجميعه عن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي سماعا؛ قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى الجلودي النيسابوري سماعا؛ قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد سماعا؛ قال: أخبرنا مؤلّفه إمام السند والمسلمين: أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري سماعا ... ، فذكره.
قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت ( «سنن» الحافظ أبي داود) ؛ عن الشيخ محمد البابلي المذكور؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي المزبور، من أوّله إلى (باب كراهية استقبال القبلة عند الحاجة) ، وبإجازة سائره عن سليمان بن عبد الدائم البابلي؛ عن الجمال يوسف بن القاضي زكريا؛ عن والده قراءة، وسماعا لبعضه، وإجازة لسائره؛ قال: أخبرنا العزّ عبد الرحيم بن الفرات؛ سماعا عليه لبعضه وإجازة لسائره؛ عن أبي العباس أحمد بن محمد بن الجوخي إذنا؛ عن الفخر علي بن أحمد بن البخاري سماعا؛ عن أبي جعفر عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد البغدادي سماعا؛ قال: أخبرنا به الشيخان: أبو البدر إبراهيم بن محمد بن منصور الكروخي، وأبو الفتح مفلح بن أحمد بن محمد الدّومي سماعا عليهما ملفّقا؛ قالا: أخبرنا به الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، عن أبي عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي؛ عن أبي علي محمد بن أحمد اللؤلؤي؛ قال: أخبرنا به مؤلّفه: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني؛ سماعا لجميعه....، فذكره.
قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «الجامع» للحافظ الترمذي؛ عن الشيخ محمد البابلي بقراءة الشيخ عيسى المغربي لجميعه عليه؛ عن علي بن يحيى الزيادي؛ عن الشهاب أحمد بن حمزة الرملي، عن الزين القاضي زكريا بن محمد الأنصاري؛ عن العزّ عبد الرحيم بن محمد بن الفرات مشافهة؛ بإجازته من(1/35)
أبي حفص عمر بن حسين المراغي؛ عن الفخر ابن البخاري؛ عن عمر بن طبرزد؛ قال: أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل الكروخي؛ قال: أخبرنا بجميعه القاضي أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي؛ قال: أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن عبد الله الجراحي المروزي؛ قال: أخبرنا أبو العبّاس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي المروزي؛ قال: أخبرنا به مؤلّفه الحافظ الحجة: أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ... ، فذكره.
قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «السنن الصغرى» المسمّاة ب «المجتبى» للنسائي عن الشيخ محمد البابلي؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي لجميعه؛ عن الشهاب أحمد بن خليل السبكي، وأبي النجا سالم بن محمد السنهوري؛ كلاهما عن النجم الغيطي؛ عن القاضي زكريا؛ سماعا لبعضه، وإجازة لسائره؛ بقراءته لجميعه على الزين رضوان بن محمد؛ عن البرهان إبراهيم بن أحمد التنوخي إجازة مشافهة لجميعه؛ بسماعه على أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار؛ بإجازته من أبي طالب عبد اللطيف بن محمد بن علي بن القبيطي؛ بسماعه لجميعه على أبي زرعة: طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني سماعا؛ قال: أخبرنا به القاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الكسّار؛ قال: أخبرنا به أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ الشهير ب «ابن السّنّي» الدينوري؛ قال: أخبرنا به مؤلّفه الحافظ: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى ... ، فذكره.
قال عبد الله بن سالم البصري: وأخذت «السنن» لابن ماجه؛ عن الشيخ محمد البابلي؛ بقراءة الشيخ عيسى المغربي من أوّله إلى (باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، وبالإجازة لسائره عن البرهان: إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللّقاني، وعلي بن إبراهيم الحلبي، عن الشمس محمد بن أحمد الرملي؛ عن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري؛ عن أبي الفضل الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ قراءة عليه لغالبه، وإجازة لسائره؛ بقراءته على أبي العبّاس أحمد بن عمر بن علي البغدادي اللؤلؤي نزيل القاهرة؛ عن الحافظ أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزّي سماعا لجميعه؛ عن شيخ الإسلام عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة المقدسي(1/36)
سماعا؛ عن الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة؛ سماعا على أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي؛ عن الفقيه أبي منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقوّمي القزويني سماعا؛ قال: أخبرنا به أبو طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب؛ قال: حدّثنا به أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطّان؛ قال: حدّثنا به مؤلّفه الحافظ: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني رحمه الله تعالى.
قال المصنف الشيخ يوسف النبهاني أيضا: قلت:
وقد رويت هذه الكتب وكثيرا من كتب العلم النقلية والعقلية؛ بعضها سماعا، وبعضها إجازة؛ من طرق أخرى؛ منها:
طريق الشاميين: أجازني بها العلّامة السيد الشريف محمود أفندي حمزة (مفتي الشام كان) - عليه الرحمة والرضوان- بإجازة مطوّلة حافلة كتبها بخطه الفائق الحسن سنة: - 1292- اثنتين وتسعين بعد المائتين والألف؛ في شهر شعبان المعظّم بعد أن قرأت عليه قسما من أول «صحيح البخاري» في منزله في دمشق الشام.
ومنها طرق أخرى كطريق شيخ المشايخ الراسخين، وعلّامة العلماء العاملين؛ شيخ مشايخي: الشيخ إبراهيم الباجوري؛ عن شيخيه العلّامتين: محمد الفضالي، وحسن القويسني، وغيرهما- رحمهم الله تعالى أجمعين-، فقد قرأت على علماء أعلام من أجلّاء تلامذته، وأجازوني؛ أجلّهم شيخنا العلّامة شيخ الإسلام سيدي الشيخ: محمد شمس الدين الأنبابي شيخ الجامع الأزهر الآن حفظه الله، وفيما ذكر هنا غنية عمّا لم يذكر.
وصلّى الله وسلم على سيّدنا محمّد سيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. انتهى كلام النبهاني رحمه الله تعالى.
يقول الفقير إلى الله مؤلّف هذا الشرح: عبد الله بن سعيد اللحجي وفقه الله تعالى:(1/37)
إنّي أروي الكتب الستة: «الصحيحين» البخاريّ ومسلما، وأبا داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ بالإجازة العامّة عن عدّة مشايخ أعلام؛ بأسانيدهم المعروفة لديّ عن علماء الإسلام، وأخصّ بالذكر منهم شيخي العلّامة وليّ الله تعالى وجيه الدين: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن حسن بن عبد الباري الأهدل، وهو يروي عن عدّة مشايخ كرام؛ أخصّهم والده العلّامة جمال الدين: محمد بن عبد الرحمن الأهدل، وهو يروي عن شيخه العلّامة مفتي الديار اليمنية، شيخ الإسلام البدر الساري الأكمل، السيد: محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، وهو يروي عن عمّه صنو أبيه وليّ الله تعالى شرف الإسلام:
الحسن بن عبد الباري بن محمد بن عبد الباري بن محمد الطاهر الأهدل، عن شيخ الإسلام ومفتي الأنام العلّامة المسند وجيه الدين السيد: عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل الزبيدي، وهو يروي عن مشايخه المذكورين في ثبته:
«النفس اليماني» ، ومن أخصّهم: والده العلّامة نفيس الإسلام السيد: سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل؛ عن شيخه العلّامة وليّ الله تعالى صفيّ الدين:
أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل، عن شيخه وخاله خاتمة المحدّثين العلامة عماد الدين: يحيى بن عمر مقبول الأهدل؛ عن الشيخ العلّامة محدّث الحرمين:
عبد الله بن سالم البصري المكي بأسانيده المذكورة في ثبته المسمّى ب «الإمداد» الذي جمعه ولده سالم بن عبد الله بن سالم البصري.
وأما سندي إلى المؤلف فإني أروي كتابه هذا عن شيخنا العلامة: الشيخ محمد العربي بن التبّاني بن الحسين بن عبد الرحمن بن يحيى بن مخلوف الواحدي- نسبة إلى قبيلة في الجزائر يقال لهم بنو عبد الواحد-، الجزائري ولادة ومنشأ؛ قراءة لبعضه، وإجازة لباقيه، وكذلك سائر كتب المؤلف أرويها عن شيخي المذكور بالإجازة العامة، وشيخنا المذكور يروي عن المؤلّف الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني بالإجازة العامة «ح» .
وأعلى من ذلك: إنّي أروي هذا الكتاب «وسائل الوصول» وسائر مؤلفات الشيخ يوسف النبهاني عن مؤلّفها مباشرة بالإجازة العامّة منه لأهل عصره؛ كما صرّح بذلك في كثير من مؤلفاته، ومنها كتاب «حزب الاستغاثات بسيد(1/38)
السادات» ؛ فإنّه ذكر في طرّته ما نصّه:
يقول مؤلّفه: قد أجزت بهذا الحزب وبكتابي «مفرج الكروب» و «مزدوجة الأسماء النبوية» وغيرها من مؤلفاتي ومرويّاتي كلّ من قبل الإجازة من أهل عصري بشرط الأهلية؛ ولو بعد حين، اقتداء بمن فعل ذلك من أئمة العلماء والمحدّثين رضي الله عنهم أجمعين. انتهى.
وقد قبلت الإجازة، وأدركت من حياة المؤلف سبع سنوات تقريبا، فإنّ وفاة المؤلّف كانت في سنة: - 1350- خمسين وثلثمائة وألف هجرية؛ وولادتي في سنة: - 1343- ثلاث وأربعين وثلثمائة وألف هجرية تقريبا.
ثم رأيت في «الفتوحات الربانية على الأذكار النووية» للشيخ محمد بن علي بن علّان الصدّيقي المكي في آخرها ما نصّه: قال المصنّف- يعني النووي- في «الإرشاد» :
إذا أجاز لغير معيّن بوصف العموم؛ كقوله: «أجزت للمسلمين» ، أو «لكل أحد» أو «لمن أدرك زماني» ... وما أشبهه!!، ففيه خلاف للمتأخرين المجوّزين لأصل الإجازة، فإن كان مقيّدا بوصف خاصّ! فهو إلى الجواز أقرب، وجوّز جميع ذلك الخطيب، وجوّز القاضي أبو الطيب الإمام المحقّق الإجازة لجميع المسلمين الموجودين عندها. ثم قال: وأجاز أبو عبد الله بن منده؛ لمن قال «لا إله إلّا الله» . وأجاز أبو عبد الله بن عتاب وغيره من أهل المغرب لمن دخل قرطبة من طلبة العلم. وقال أبو بكر الحازمي الحافظ: الذين أدركتهم من الحفّاظ كأبي العلاء وغيره كانوا يميلون إلى جواز هذه الإجازة العامّة.
قال الشيخ- يعني ابن الصلاح- رحمه الله تعالى: ولم يسمع عن أحد يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا عن الشرذمة التي سوّغتها. وفي أصل الإجازة ضعف؛ فتزداد بهذا ضعفا كثيرا لا ينبغي احتماله.
وهذا الذي قاله الشيخ خلاف ظاهر كلام الأئمة المحقّقين والحفّاظ المتقنين، وخلاف مقتضى صحّة هذه الإجازة. وأيّ فائدة إذا لم يرو بها!!. انتهى.(1/39)
قلت: وقد أجاز كذلك جماعة من المتأخرين الحفّاظ؛ كالحافظ السيوطي، فأجاز لمن أدرك عصره، وأجاز كذلك ابن حجر الهيتمي في آخرين.
انتهى كلام ابن علان في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى.
وفي «النفس اليماني» : وقد اختار الخطيب صحّة هذه الإجازة، وكذلك الحافظ ابن منده؛ فإنّه أجاز لمن قال «لا إله إلا الله» . وإلى هذا ذهب الحافظ السلفي. وقال القاضي عياض: وإلى الإجازة للمسلمين «من وجد منهم ومن لم يوجد» ذهب جماعة من مشايخ الحديث. وذكر الحافظ السخاوي أنّ الإمام النووي استعملها، فإنّه رأى بخطه في بعض تصانيفه: وأجزت روايته لجميع المسلمين.
حتى إنّه لكثرة من جوّزها أفردهم الحافظ أبو جعفر محمد بن الحسن البغدادي بمصنّف رتّبهم فيه على حروف المعجم. وكذلك جمعهم أبو رشيد بن الغزالي الحافظ في كتاب سمّاه «الجمع المبارك» .
قال النووي مشيرا إلى التعقّب على ابن الصلاح، حتى إنّه لم ير من استعملها، ولا حتّى من سوّغها: إن الظاهر من كلام من صحّحها جواز الرواية بها. وهذا يقتضي صحّتها، وأيّ فائدة غير الرواية!!.
ومن فروع هذه المسألة: ما سبق نقله عن المحقّقين من المحدثين والأصوليين والفقهاء؛ كالحافظ مغلطاي، وتلميذه الحافظ الزين العراقي، وتلميذه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وتلميذه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وتلميذه العلّامة:
المحقّق ابن حجر الهيتمي من جواز الإجازة لفلان، ولمن سيولد له من ذريّته تبعا.
وأنّه يجوز العمل بها؛ تحمّلا، وأداء، وأخذا.
هذا؛ وقد استعمل جمع من علماء الحديث من المتقدمين والمتأخرين الإجازة لمن أدرك حياته، واستعمل ذلك من مشايخنا سيّدي الوالد، وسيّدي العلّامة عبد الله بن سليمان الجرهزي، فإنّهما في سنة: - 1194- أربع وتسعين ومائة وألف هجرية أجازا لمن أدرك حياتهما، وكان ذلك بمحضر جمع من العلماء والأعيان، واستدعى ذلك منهما السيد الولي العلامة قاسم بن سليمان الهجام.
انتهى كلام «النفس اليماني» .(1/40)
ثم قال فيه أيضا: وأجزت كافّة من أدرك حياتي، ولا سيما من وقعت بيني وبينه المعرفة، وخصوصا من وقعت بيني وبينه الاستفادات العلمية، وأولادهم، ومن سيولد لهم؛ راجيا بذلك- إن شاء الله- من الربّ الكريم الخير الشّامل الكثير، فإنّه القادر على ذلك. انتهى ملخصا.
وفي «النفس اليماني» أيضا: وهذا الشيخ المعمّر الحافظ الشهير سيّدي محمد بن سنّة العمري؛ هو شيخي بطريق الإجازة العامّة، لأنه أجاز لأهل عصره الموجودين، وكانت وفاته في عشر التسعين بعد مائة وألف، كما أفادني بذلك جمع من علماء الحرمين الشريفين رووا عن تلميذه العلّامة صالح الفلّاني المغربي عنه.
انتهى كلام «النفس اليماني» .
وممّن أجاز لمن أدرك حياته: أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء، وأبو الحسين عبيد الله بن الربيع القرشي، والقطب محمد بن أحمد بن علي القسطلّاني، وأبو الحجّاج المزّي الحافظ، والفخر ابن البخاري، وخلق من المسندين؛ كالحجّار، وزينب بنت الكمال.
واستجاز بها خلق لا يحصون؛ منهم أبو الخطّاب بن دحية، فإنّه سأل أبا جعفر بن مضاء الإجازة العامة في كلّ ما يصحّ إسناده إليه على اختلاف أنواعه لجميع من أراد الرواية من طلبة العلم الموجودين حينئذ؛ فأسعفهم بها.
ومنهم: أبو الحسن محمد بن أبي الحسن الورّاق، فإنّه سأل أبا الوليد بن رشد الإجازة لكلّ من أحبّ الحمل عنه من المسلمين حيث كانوا أحياء في عام الإجازة فأجابه لذلك؛ كما ذكره السخاوي في «شرح ألفية الحديث» رحمه الله تعالى.
وكذلك أجاز لأهل عصره: الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني؛ ذكره الشيخ ابن عابدين في «ثبته» ؛ ناقلا من «القول السديد باتصال الأسانيد» ثبت الشهاب أحمد المنيني، فإنّه قال فيه: وقد أخبرني بإذنه لأهل عصره الشيخ محمد بن الطيب المغربي نزيل المدينة المنورة، وهو ثقة ثبت. والله أعلم. انتهى.
وكذلك أجاز لأهل عصره: الشيخ العلّامة الفقيه المحدّث محمد عابد بن أحمد بن علي الحنفي السندي ثم المدني، فإنّه قال في كتابه «حصر الشارد» : وقد(1/41)
أجزت كافّة من أدرك حياتي من المسلمين أن يروي عني جميع ما اشتمل عليه هذا السّفر بالأسانيد التي ذكرتها.
وكذلك أجاز لأهل عصره: العلّامة الفاضل خاتمة المحققين مولانا الشيخ فالح بن محمد المدني؛ فإنّه قال في آخر ثبته «حسن الوفاء» : وقد أجزت بهذه المرويّات وبما تضمّنته من الأثبات المذكورة، وبجميع ما يؤثر عني كلّ من أراده ممن أدرك حياتي ... إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
وممن أجاز لمن أدرك حياته: العلّامة الحافظ عبد الرحمن بن علي الدّيبع اليمني الزبيدي المتوفى سنة: - 922- اثنتين وعشرين وتسعمائة هجرية؛ قال رحمه الله تعالى نظما:
أجزت لمدركي وقتي وعصري ... رواية ما تجوز روايتي له
من المقروء والمسموع طرّا ... وما ألّفت من كتب قليله
ومالي من مجاز من شيوخي ... من الكتب القصيرة والطّويله
وأرجو الله يختم لي بخير ... ويرحمني برحمته الجزيله
انتهى.
ولنبدأ بترجمة المصنف؛ فنقول: هو بوصيريّ العصر، الأديب الشاعر المفلق، العلّامة المتقن الورع، الحجّة التقي العابد، الطائر الصيت، المحبّ الصادق المتفاني في حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم المكثر من مدائحه؛ تأليفا، ونقلا، ورواية، وإنشاء وتدوينا، ناصر الدين أبو الفتوح؛ وأبو المحاسن:
يوسف بن إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن محمد بن ناصر الدين النبهاني.
«نسبة لبني نبهان» : قوم من عرب البادية؛ نزلوا بقرية «اجزم» بصيغة فعل الأمر، وبها ولادته، وهي قرية واقعة في الجانب الشمالي من أرض فلسطين؛ تابعة لقضاء حيفا من أعمال عكا.
وكانت ولادته يوم الخميس سنة: - 1265- خمس وستين ومائتين وألف هجرية تقريبا.(1/42)
وحفظ القرآن على والده؛ وكان شيخا معمّرا بلغ الثمانين، وكان إذ ذاك ممتعا بكمال عقله، وحواسّه وقوّته، وحفظه ومحافظته على ضروب الطاعات وحسن تلاوة القرآن العظيم، وكان يختم كلّ ثلاثة أيّام ختمة، ثم وفّق إلى قراءته ثلاث مرّات كلّ أسبوع، ولهذه المزايا والفضائل أبلغ الأثر في تكوين هذا الناشىء الذي تغذّى بلبان الهدى والتقى بين يدي والده الصالح؛ في تلك البيئة النقية الطاهرة.
ولما أتمّ حفظ القرآن الكريم وحفظ بعض المتون؛ أرسله والده إلى مصر، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، فالتحق بالأزهر الشريف في غرّة محرّم الحرام سنة: - 1283- ثلاث وثمانين ومائتين وألف هجرية، وجاور في رواق الشوام، ودأب على الدرس والتحصيل، وتلقّى العلم من كبار الأئمّة وجهابذة علماء الأمّة؛ المبرّزين في علوم الشريعة واللغة العربية، من أهل المذاهب الأربعة، وكان موفّقا حسن الاختيار والاهتداء إلى الراسخين في العلم؛ المحققين في المعقول والمنقول، الذين لا يشقّ لهم غبار؛ كالشيخ إبراهيم السقا الشافعي المتوفى سنة:
1298، والشيخ محمد الدمنهوري الشافعي المتوفى سنة: 1286، والشيخ إبراهيم الزرو الخليلي الشافعي المتوفى سنة: 1287، والشيخ أحمد الأجهوري الضرير الشافعي المتوفى سنة: 1293، والشيخ عبد الهادي نجا الأبياري الشافعي المتوفى سنة: - 1305- خمس وثلثمائة وألف، والشيخ أحمد راضي الشرقاوي الشافعي، والشيخ مصطفى الإشراقي الشافعي، والشيخ عبد اللطيف الخليلي الشافعي، والشيخ صالح أجياوي الشافعي، والشيخ محمد العشماوي الشافعي، والشيخ محمد شمس الدين الأنبابي الشافعي (شيخ الجامع الأزهر) ، والشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، والشيخ أحمد البابي الحلبي الشافعي، والشيخ شريف الحلبي الحنفي، والشيخ فخر الدين اليانيه وي الحنفي، والشيخ عبد القادر الرافعي الطرابلسي الحنفي «شيخ رواق الشوام» ، وشقيقه الشيخ عمر مفتي طنطا الحنفي، والشيخ مسعود النابلسي الحنفي، والشيخ حسن العدوي المالكي المتوفى سنة: 1298، والشيخ محمد الحامدي المالكي، والشيخ محمد روبه المالكي، والشيخ حسن الطويل المالكي، والشيخ محمد البسيوني المالكي، والشيخ يوسف(1/43)
البرقاوي الحنبلي «شيخ رواق الحنابلة» رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الأمة المحمدية أحسن الجزاء.
ثم بدا لصاحب الترجمة أن يسافر من مصر ليساهم في خدمة الإسلام؛ فرجع في رجب سنة 1289، وأقام في مدينة عكا ينشر العلم، فأفاد المسلمين، وأعلى منار الدين، ثم في سنة 1292 رحل إلى الشام، واجتمع على جماعة من العلماء، أحدهم بل أوحدهم- الإمام الفقيه المحدّث البارع في أكثر الفنون؛ مفتي الشام المرحوم السيد محمود أفندي الحمزاوي، وحصلت بينه وبينه مودّة، فاستجازه بعد أن قرأ عليه في منزله بحضور جملة من طلبة العلم الشريف؛ فأجازه بإجازة مطوّلة فائقة إجازة عامة بجميع مروياته، وجال في بلاد الشرق العربي، وبرّ الترك؛ فدخل الأستانة والموصل وحلب وديار بكر وشهر زور وبغداد وسامرّا وبيت المقدس والحجاز.
ولما شاع ذكره، وأشرقت شمسه، واهتدى به الناس؛ تقلّب في مناصب القضاء في ولايات الشام؛ حتى صار رئيسا في محكمة الحقوق العليا ببيروت؛ وذلك سنة: - 1305- خمس وثلثمائة وألف، وحجّ عام ألف وثلثمائة وعشرة، ثم دخل الحجاز بعد ذلك، وأقام بالمدينة المنوّرة مدّة؛ وألّف المؤلفات النافعة التي سارت بها الركبان، وانتشرت في سائر البلدان، وهي:
إتحاف المسلم بأحاديث الترغيب والترهيب من البخاري ومسلم.
إرشاد الحيارى في التحذير من مدارس النصارى.
أسباب التأليف.
أفضل الصلوات في الصلاة على سيد السادات.
الأحاديث الأربعين في أمثال أفصح العالمين.
الأحاديث الأربعين في فضائل سيد المرسلين.
الأحاديث الأربعين في وجوب طاعة أمير المؤمنين.
أربعين الأربعين من أحاديث سيد المرسلين.
الأنوار المحمدية مختصر «المواهب اللدنية» .
أحسن الوسائل في أسماء النبي الكامل.
الأساليب البديعة في فضل الصحابة وإقناع الشيعة.(1/44)
- بلوغ الآمال مختصر كتاب «فتح المتعال في مثال النعال» .
تهذيب النفوس في ترتيب الدروس؛ وهو مختصر «رياض الصالحين» للإمام النووي.
تفسير «قرة العين من البيضاوي والجلالين» .
جواهر البحار في فضائل النبي المختار صلّى الله عليه وسلم «أربع مجلدات» .
جامع كرامات الأولياء «مجلدان» .
جامع الصلوات على سيد السادات.
جامع الثناء على الله تعالى.
حزب الأولياء الأربعين المستغيثين بسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم.
حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم.
خلاصة الكلام في ترجيح دين الإسلام.
الدلالات الواضحات شرح «دلائل الخيرات» .
رياض الجنة في أذكار الكتاب والسنة.
الرائية الصغرى في ذم البدعة ومدح السنة الغرا.
الرائية الكبرى.
سعادة الدارين في الصلاة على سيد الكونين صلّى الله عليه وسلم.
سعادة الميعاد في موازنة «بانت سعاد» .
السابقات الجياد في مدح سيد العباد صلّى الله عليه وسلم، وهي المعشّرات.
سبيل النجاة في الحب في الله والبغض في الله.
الاستغاثة الكبرى بأسماء الله الحسنى.
الشرف المؤبّد لآل محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو أوّل مؤلفاته.
شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق صلّى الله عليه وسلم.
سعادة الأنام في اتّباع دين الإسلام.
الصلوات الألفية في الكمالات المحمدية.
الصلوات الأربعين للأولياء الأربعين.
صلوات الأخيار على النبي المختار صلّى الله عليه وسلم.
صلوات الثناء على سيد الأنبياء صلّى الله عليه وسلم.(1/45)
- طيبة الغرّاء في مدح سيد الأنبياء. وهي همزيّته.
العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية، وهو ديوانه.
الفتح الكبير في ضمّ الزيادة إلى «الجامع الصغير» ، وهو كتاب جمع فيه بين «الجامع الصغير» وذيله المسمّى «زيادة الجامع الصغير» ؛ كلاهما للحافظ السيوطي في ثلاث مجلدات.
الفضائل المحمدية. ترجمها بعض السادة العلوية للغة الجاوية.
القول الحقّ في مدح سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلم.
المجموعة النبهانية في المدائح النبوية، ومعها أسماء رجالها المسمّى «الخلاصة الوفية في رجال المجموعة النبهانية» «أربع مجلدات» .
المزدوجة الغرّاء في الاستغاثة بأسماء الله الحسنى.
مفرّح القلوب ومفرج الكروب.
منتخب الصحيحين، مذيّلا بتعليقات اسمها «قرة العين على منتخب الصحيحين» .
المبشّرات المنامية.
مختصر «إرشاد الحيارى» .
مثال نعله الشريف. وذكر حوله كثيرا من الفوائد.
كتاب «الأسمى فيما لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من الأسما» .
نجوم المهتدين ورجوم المعتدين في معجزات سيد المرسلين والرد على أعدائه إخوان الشياطين.
النظم البديع في مولد الحبيب الشفيع صلّى الله عليه وسلم.
الورد الشافي؛ يشتمل على الأدعية والأذكار النبوية.
وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم. وهو الكتاب الذي نحن بصدد شرحه.
هادي المريد إلى طرق الأسانيد. وهو ثبته الجامع النافع.
البرهان المسدّد في إثبات نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم.
دليل التجّار إلى أخلاق الأخيار.
الرحمة المهداة في فضل الصلاة.
حسن الشرعة في مشروعية صلاة الظهر بعد الجمعة.(1/46)
- رسالة التحذير من اتخاذ الصور والتصوير.
تنبيه الأفكار لحكمة إقبال الدنيا على الكفار. كلها «1» طبعت في مجموعة واحدة، وكلّ هذه التصانيف مطبوعة تداولتها الأيدي في سائر بلاد الإسلام.
وأوّل ما ظهر من مؤلفاته كتاب «الشرف المؤبّد لآل محمد صلّى الله عليه وسلم» ، ثم همزيته المسماة «طيبة الغراء» ؛ وبها اشتهر، وتناقل الناس ماله من خبر، وذلك لبلاغتها وانسجامها وطلاوتها.
ثم عظم ذكره بما صنّف وابتكر، ونظم ونثر، وطبع ونشر، خصوصا في الجانب المحمدي الأعظم، فقد خدم السيرة المحمدية والجناب النبوي أرفع الخدمات، ووقف حياته على ذلك؛ فنشر وكتب ما لم يتيسّر لغيره في عصرنا هذا ولا عشر معشاره، وذلك من آثار بركته صلّى الله عليه وسلم.
ولما أحيل إلى المعاش شدّ أزره وشمّر عن ساعد الجدّ، وأقبل على العبادة بهمّة عالية وعزيمة صادقة، وقلب دائب على الذكر وتلاوة القرآن، وكثرة الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأحيا ليله ونهاره بإقامة الفرائض ونوافل الطاعات؛ لا يفتر ولا يسأم، حتى عدّ ما يقوم به من خوارق العادات.
وكان يتردّد إلى المدينة المنوّرة للزيارة النبوية ويقيم فيها مدّة أيام الشتاء، وكانت أنوار العبادة وتعظيم السنة والعمل بها ظاهرة على وجهه المبارك، ولم يزل على الحال المرضيّ حتّى دعاه مولاه؛ فأجابه ولبّاه.
وكانت وفاته في بيروت في أوائل شهر رمضان الكريم سنة: - 1350- خمسين وثلثمائة وألف هجرية، عن عمر يناهز الخمس والثمانين، وهو قويّ البدن، تامّ الصحّة، مستوف لقراءة أوراده وما اعتاده من الطاعات وأعمال الخير. أجزل الله ثوابه، وألحقنا به على الإيمان الكامل في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة، بفضله ورحمته. آمين.
وهذا أوان الشروع في المقصود مستعينا بالله ذي الكرم والجود:
__________
(1) أي: الكتب الستة الأخيرة.(1/47)
[خطبة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال المصنف (بسم الله الرّحمن الرّحيم) بتقديم البسملة، وافتتاح كتب العلم بها جرى عمل الأئمة المصنّفين واستقرّ أمرهم؛ حسبما قاله الحافظ ابن حجر.
قال: وكذا معظم كتب الرسائل، والقصد:
1- الاقتداء بالكتاب العزيز، فإنّ العلماء متّفقون على استحباب البسملة في أوّله في غير الصلاة، والإجماع منعقد على تقديمها في خطّ المصحف؛ وإن كانت ليست آية منه عند مالك.
2- والعمل بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم؛ فهو أبتر» . رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتاب «الجامع» ، وفي رواية:
«أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» بالجيم والذال المعجمة، وهو من التشبيه البليغ في العيب المنفّر، ومعنى الجميع: أنّه ناقص البركة غير تامّ في المعنى؛ وإن تمّ في الحس.
ومعنى «ذي بال» ؛ أي: حال يهتمّ به. ومعنى الابتداء بالبسملة: الاستعانة بالله عزّ وجلّ، على زيادة لفظ «اسم» ؛ أو أنّه هنا واقع على المسمّى. أو معناه:
التبرّك باسمه سبحانه. فالباء للاستعانة، أو للملابسة، أو المصاحبة؛ بقصد التبرّك، و «الاسم» مشتقّ من السموّ؛ وهو العلوّ، وقيل: من السّمة؛ وهي العلامة.
واسم الجلالة: علم على ذاته تعالى، فهو خاصّ به سبحانه وتعالى، إذ لا يسمّى به غيره تعالى، فهو أخصّ الأسماء، وهو أعرف المعارف وأعظم الأسماء، لأنه دالّ على الذات الموصوف بصفات الإلهية كلّها، فهو اسم جامع لمعاني الأسماء الحسنى كلّها، وما سواه خاصّ بمعنى، فلهذا يضاف إليه جميع الأسماء ولا يضاف هو إلى شيء، وكلّ أسمائه تعالى للتخلّق إلّا هذا الاسم؛ فإنّه(1/48)
الحمد لله ...
للتعلّق فحسب، وحظّ العبد منه التولّه؛ وهو استغراق القلب والهمّة به تعالى، فلا يرى غيره، ولا يلتفت لسواه. وهو عربيّ عند الأكثر وهو الحق.
واختلف فيه: هل هو مرتجل؛ أو مشتق، والأول هو المشهور والمختار.
والرحمن والرحيم: صفتان للمبالغة من الرحمة.
و «الاسم» مجرور بالباء، و «الجلالة» مجرور بالمضاف، و «الرحمن» نعت لاسم الله، وعلى أنّ «الرحمن» علم يكون بدلا من «اسم الله» ، أو عطف بيان؛ وصوّب.
والرحيم نعت للجلالة على الأوّل، أو ل «الرحمن» على الثاني، إذ لا يتقدّم البدل؛ ولا العطف على النعت، والجملة تحتمل الخبرية والإنشائية، وقد قيل بكلّ منهما.
(الحمد لله) أتى- رضي الله عنه- بالحمدلة بعد البسملة!!:
1- قضاء لبعض ما يجب من حمد الله تعالى والثناء عليه؛ بذكر أوصاف كماله، وشكر نعمه وآلائه؛ التي أعظمها الهداية للإيمان والإسلام، ومن جملتها تأليف هذا الكتاب.
و2- اقتداء بالكتاب العزيز، وبالنبي صلّى الله عليه وسلم في ابتدائه بالحمد في جميع خطبه.
و3- عملا بجميع روايات الحديث السابق؛ ففي رواية «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ب (الحمد لله) فهو أقطع» ، وفي رواية «بحمد الله» ، وفي رواية «كلّ كلام لا يبدأ فيه «بالحمد لله» فهو أجذم» وفي رواية: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ب «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فهو أقطع» ، وفي رواية «كلّ أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر» ؛ أو قال «أقطع» على التردّد. فرواية البسملة صريحة فيها، ورواية: «الحمد لله» - بالرفع- صريحة فيه. ورواية: «بالحمد لله»(1/49)
ربّ العالمين، ...
- بالخفض-، أو «بحمد الله» !! يحتمل أن يكون المراد الابتداء بلفظ «الحمد لله» بهذه الصيغة، ويحتمل أن يكون المراد الابتداء بمادة الحمد؛ وإن لم يكن بهذه الصيغة. حتّى لو قال: «حمدت الله» أو: «أحمده» لأجزأه، ويحتمل أن يكون المراد الثناء، ولو لم يكن بهذه المادة، حتى لو أتى بالبسملة لاكتفي بها. وعلى هذا المعنى رواية: «بذكر الله» .
ولما تعارضت رواية البسملة ورواية الحمدلة ظاهرا- إذ الابتداء بأحد الأمرين يفوّت الابتداء بالآخر، وكان الجمع بينهما ممكنا؛ بأن يقدّم أحدهما على الآخر فيقع الابتداء به حقيقة، وبالآخر بإضافته إلى ما سواه- أتى بهما معا.
وقدّم البسملة!! لأنها أولى بالتقديم، لأنّ حديثها أقوى، وعملا بكتاب الله الوارد بتقديمها.
والحمد هو: الثناء على المحمود بجميل صفاته على جهة التعظيم؛ سواء كان في مقابلة نعمة، أو لا. وكلّ من صفاته تعالى جميل، فهو ثناء على الله تعالى بجميع صفاته.
واختار الجملة الاسمية!! اقتداء بالكتاب العزيز، ولأنها تفيد الدوام والاستمرار، والجملة خبرية لفظا؛ إنشائية معنى.
(ربّ) أي: مالك. وأصل التربية: نقل الشيء من أمر إلى أمر حتى يصل إلى غاية أرادها المربّي، ثم نقل إلى المالك والمصلح للزوم التربية لهما غالبا.
(العالمين) اسم جمع خاص بمن يعقل؛ وهم الجنّ والإنس والملائكة، وقيل:
جمع سلامة ل «العالم» على غير قياس، والعالم- في اللغة-: كلّ نوع، أو جنس فيه علامة يمتاز بها على سائر الأنواع والأجناس الحادثة. فيقال في الأنواع: «عالم الإنسان» ؛ و «عالم الطير» ؛ و «عالم الخيل» . ويقال في الأجناس: «عالم الحيوان» ، و «عالم الأجسام» ، و «عالم الناميات» .(1/50)
.........
ويحتمل أن تكون المناسبة في تسمية النوع والجنس ب «العالم» أنّ لهما من الفصول والخواصّ ما يعلمان به. ونقله المتكلمون إلى كلّ حادث.
والمناسبة في هذه التسمية: أن كلّ حادث فيه علامة تميّزه عن موجده المولى القديم، حتّى لا يلتبس به أصلا، ولهذا ردّ مولانا جلّ وعلا على الضالين الذين جعلوا له شركاء من الحوادث، فقال تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) [الرعد/ 33] أي: اذكروا أوصافهم حتى ينظر أفيها ما يصلح للألوهية؛ أم لا!!.
ويحتمل أن تكون المناسبة أنّ كلّ حادث يحصل العلم للناظر فيه بما يجب للمولى العظيم من عليّ الصفات، وتنزّهه عن سمات المحدثات. فالمناسبة الأولى تقتضي أن العالم مأخوذ من العلامة، والمناسبة الثانية تقتضي أنّه مأخوذ من العلم.
وقد أشعر قوله «ربّ العالمين» أنّ التربية كلّها- وهي: إيصال كلّ حادث إلى كماله الذي أريد له- ليست إلّا من المولى تبارك وتعالى.
وهذه التربية على قسمين: عامة؛ وخاصّة.
فالعامّة: التربية بالإيجاد والتنمية والإمداد بالحياة والحواسّ وغيرهما مما هو مشترك بين عموم الأجساد.
والخاصّة: التربية الروحانية بالعلوم والمعارف العلمية والعملية، وضبط الحركات والسّكنات للجري على مقتضاهما. وهذه التربية هي العزيزة الشريفة الموصلة إلى الفوز برضا مولانا جلّ وعلا، والتمتّع بما لا يحاط بوصفه من نعيم الجنان أبد الآباد، وقد جعل الله سبحانه هذه التربية الخاصّة لا تحصل لأحد من أهل الأرض إلّا على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجعل الحاصل منها على يد نبينا ومولانا محمد صلّى الله عليه وسلم الحظّ الأوفر والنصيب الأكثر؛ مع سهولة فيها وقلّة معاناة، كما قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة/ 185] ، وقال في(1/51)
حمدا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، ...
وصف أمّة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف/ 157] ، وقد عرف كثرة من تربّى على يده صلّى الله عليه وسلم هذه التربية الخاصّة من حديث ورد بأن أهل الجنة مائة وعشرون صفا؛ ثمانون صفا منها لهذه الأمة، ولعلهم إن كانوا ثلثي أهل الجنة يكون لهم من الجنة ونعيمها أكثر من الثلثين؛ كثلاثة أرباع أو تسعة أعشار أو نحو ذلك، لما علم من تخصيص المولى تبارك وتعالى لهم بكرامة تضعيف الثواب لهم بالعمل والزمان والمكان والحال، فلم ينل غيرهم من الجنة إلّا اليسير، فكأنها إنما خلقت لهم ومن أجلهم.
(حمدا) ؛ أي: حمدت حمدا (يوافي نعمه) أي: يقابلها ويوجد معها بحيث يكون بقدرها؛ فلا تقع نعمة إلّا مقابلة بهذا الحمد، بحيث يكون الحمد بإزاء جميع النعم، وهذا على سبيل المبالغة بحسب ما ترجّاه، وإلّا! فكل نعمة تحتاج لحمد مستقلّ.
والنّعم جمع نعمة؛ وهي: ملائم تحمد عاقبته. ومن ثمّ قيل: لا نعمة لله على كافر، وإنما ملاذّة استدراج.
(ويكافىء) - بهمز في آخره- (مزيده) المزيد: مصدر ميمي؛ من (زاده الله النعم) أي: حمدا يساوي ويطابق نعمه التي أنعم بها علينا، المزيدة على نعم سائر الأمم الماضية؛ كفضل يوم الجمعة، وصيرورة وجه الأرض مسجدا، والتراب طهورا- مثلا-، مطابقة النعل بالنعل؛ لا ينقص عنها بأدنى نقصان.
قال أصحابنا؛ كالقاضي حسين والمتولي وإمام الحرمين والغزالي: لو حلف إنسان (ليحمدنّ الله تعالى بمجامع الحمد) ، ومنهم من قال: ب «أجلّ التحاميد» ؛ فطريقه في برّ يمينه أن يقول «الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده» . قال في «الروضة» : وليس لهذه المسألة دليل معتمد، أي: من الأحاديث، وإلّا! فدليله من حيث المعنى ظاهر؛ نقله ابن حجر في «الإمداد» .(1/52)
ويضاهي كرمه.
وأشهد أن لا إله إلّا الله ...
وفي «التحفة» : ولو قيل يبرّ ب: «يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك» ؛ لكان أقرب، بل ينبغي أن يتعيّن؛ لأنّه أبلغ معنى، وصحّ به الخبر. انتهى.
قال النووي في «الأذكار» : قال أصحابنا: ولو حلف إنسان «ليثنينّ على الله تعالى أحسن الثناء» ؛ فطريق البرّ أن يقول: لا أحصي ثناء عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك.
وزاد بعضهم في آخره: فلك الحمد حتّى ترضى. وصوّر أبو سعيد المتولّي المسألة؛ فيمن حلف «ليثنينّ على الله تعالى بأجلّ الثناء وأعظمه» ، وزاد في أول الذكر: سبحانك. انتهى.
(ويضاهي) أي: يشابه في الكثرة (كرمه) الواسع.
(وأشهد) ؛ أي: أعترف بلساني مع الإذعان بالقلب الذي هو حديث النفس التابع للمعرفة. ولا يكفي الاعتراف باللسان فقط- كما كان يفعله المنافقون- ولا المعرفة من غير إذعان، لأن بعض الكفّار يعرفون الحقّ لكنّهم غير مؤمنين؛ لعدم الإذعان. (أن) ؛ أي: أنّه؛ أي: الحال والشأن (لا إله إلّا الله) ، ف «أن» مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، و «لا» نافية للجنس، و «إله» اسمها مبنيّ معها على الفتح في محلّ نصب، و «إلّا» أداة حصر، ولفظ الجلالة [الله] بالرفع- بدل من الضمير المستتر في الخبر، أو [الله]- بالنصب- على الاستثناء؛ لا على البدلية من محل اسم «لا» ، لأنّها لا تعمل إلّا في النّكرات، واسم «الله» معرفة. وهل يقدّر الخبر من مادة الوجود، أو من مادّة الإمكان!؟ اختار بعضهم الأوّل؛ لأنه لو قدّر من مادة الإمكان لم يفد وجود الله تعالى، والراجح الثاني، لأنه لو قدّر من مادة الوجود لم يفد نفي إمكان غيره تعالى من الإلهية؛ مع أنّه المقصود من الكلمة المشرفة.(1/53)
الملك الحقّ المبين، وأشهد ...
وأمّا وجوده تعالى!! فمتّفق عليه بين أرباب الملل كلّها، فلا ضرر في عدم إفادته على هذا التقدير. والمعنى عليه: لا إله ممكن إلّا الله، فإنّه ممكن؛ أي:
غير ممتنع. فيصدق بالواجب والجائز. والواقع أنّه واجب. والحقّ أنّ المنفيّ- في الكلمة المشرّفة- المعبود بحقّ غير الله تعالى؛ باعتبار الواقع، كما انحطّ عليه كلام الشيخ الأمير. والمعنى: لا معبود بحقّ في الواقع إلّا الله. هكذا قرّره الباجوري رحمه الله تعالى.
(الملك) - بكسر اللام؛- من الملك- بضم الميم- أي: المتصرّف بالأمر والنهي؛ سواء كان له أعيان مملوكة؛ أم لا. وأما «مالك» - بالألف-! فهو من الملك- بكسر الميم- أي: المتصرّف في الأعيان المملوكة، سواء كان متصرّفا أيضا بالأمر والنهي، أم لا. فبينهما العموم والخصوص الوجهي على هذا. والله تعالى متصرّف بالأمر والنهي، ومتصرّف في الأعيان المملوكة له، فهو ملك مالك. ولذلك قرىء بهما في قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (4) [الفاتحة] .
والتفرقة بين الملك- بضم الميم- والملك- بكسرها- عرف طارىء، وإلّا فهما لغتان في مصدر «ملك» كما قاله البيضاوي في «تفسيره» ؛ نقله الباجوري رحمه الله تعالى. (الحقّ) أي: الثابت، من: حقّ الشيء: ثبت، فهو تعالى ثابت أزلا وأبدا، فلم يسبقه عدم؛ ولا يلحقه عدم، بخلاف ما عداه! فإنّه مسبوق بعدم وملحوق به؛ ولو بالقابلية كالجنة والنار. وهو المراد بالبطلان في قوله:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ...
(المبين) أصله مبين- بسكون الباء وكسر الياء: نقلت حركة الياء إلى الساكن قبلها- ومعناه: المظهر للحقّ فيتّبع، وللباطل فيجتنب، أو المظهر للأمور العجيبة الدالّة على ملكه وحقّيّته، وهذا كلّه إن أخذ من «أبان» بمعنى: أظهر. فإن أخذ من «أبان» بمعنى: بان، أي: ظهر!! كان معناه البيّن الظاهر الذي لا خفاء فيه.
(وأشهد) إنما كرّر لفظ الشهادة مع الاستغناء عنه ب «أشهد» الأول!! لمزيد(1/54)
أنّ سيّدنا محمّدا عبده ورسوله ...
الاعتناء بالشهادة المتعلّقة بنبينا صلّى الله عليه وسلم (أنّ سيّدنا) ؛ أي: [سيد] جميع المخلوقات إنسا وجنّا وملائكة وغيرهم. والسيد: يطلق على الحليم الذي لا يستفزّه غضب، وعلى من كثر سواده، أي: جيشه، وعلى غير ذلك.
(محمّدا) بدل من «سيدنا» ، وهذا الاسم أشرف أسمائه صلّى الله عليه وسلم وأشهرها بين العالمين، ولذا خصّت به الكلمة المشرّفة (عبده ورسوله) خبران ل «أنّ» . وإنّما قدّم الوصف بالعبودية على الوصف بالرسالة!! امتثالا لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولكن قولوا عبد الله ورسوله» . ومعنى العبودية: التذلّل والخضوع. وهي وصف شريف جليل، ولذلك وصف بها في أسنى المقامات؛ كمقام الإسراء، ومقام إنزال الكتاب، وغير ذلك. ومما يعزى للقاضي عياض رحمه الله تعالى.
وممّا زادني شرفا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثّريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلم: أنّ الله تعالى خاطبه بالنبوة والرسالة في القرآن؛ دون سائر أنبيائه. والنبي: رجل اختصّه الله بسماع وحيه بملك، أو دونه. وقيل: هو رجل أوحي إليه بالعمل بشرع معيّن. وقال القرافي: إنّ النبوّة ليست هي مجرّد الوحي كما يعتقده كثير، لحصوله لمن ليس ك (مريم) ؛ وليست بنبيّة على الصحيح. بل النبوة عند المحققين إيحاء الله تعالى الرجل بحكم إنشائي. انتهى.
ثم اختلف فيما يفترق به النبيّ والرسول، وما يزيد الرسول على النبي!! فقيل: إن الرسول هو النبيّ المأمور بتبليغ ما أوحي إليه. فهو أخصّ من مطلق النبيّ، لزيادته عليه بالأمر بالتبليغ. وقيل: إن حكم التبليغ والإرسال يعمّهما، وإنّما يفترقان في أمر آخر من كون الرسول يأتي بشرع جديد؛ أو نسخ لبعض شرع من قبله، أو له كتاب مخصوص، والنبيّ إنما يأتي مؤكّدا لشرع غيره؛ كيوشع بن نون، فإنه بعث مؤكّدا لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ثم النبي والرسول إذا أطلقا في القرآن والسنة؛ فإنما المراد بهما نبينا(1/55)
سيّد الخلق أجمعين.
اللهمّ؛ ...
محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو الرسول المطلق لكافّة الخلق من الأولين والآخرين. فرسالته عامّة، ودعوته تامّة، ورحمته شاملة، وإمداداته في الخلق عامّة، وكلّ من تقدّم من الأنبياء والرسل قبله؛ فعلى حسب النيابة عنه، فهو الرسول على الإطلاق.
(سيّد الخلق) قد ورد إطلاق «السيّد» عليه صلّى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صحيحة؛ كما في حديث الترمذي: «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة» ... الحديث، وفي حديث الشفاعة: «انطلقوا إلى سيّد ولد آدم» .. وفي حديث «الصحيحين» :
«أنا سيّد النّاس يوم القيامة» .
وسيادته صلّى الله عليه وسلم أعلى وأظهر وأوضح من أن يستدلّ عليها، فهو سيّد العالم بأسره من غير تقييد؛ ولا تخصيص، وفي الدنيا والآخرة.
وإنما قال في الحديث: «أنا سيّد النّاس يوم القيامة» !! لظهور انفراده بالسؤدد والشفاعة فيه من غيره حين يلجأ إليه الناس في ذلك؛ فلا يجدون سواه، وجميع الخلائق مجتمعون؛ أوّلهم وآخرهم، وإنسهم وجنّهم وفيهم الأنبياء والمرسلون، وتلك الدار دار الدوام والبقاء؛ فهي المعتبرة.
وقد كان صلّى الله عليه وسلم معلوما بالسيادة نسبا وطبعا، وخلقا وأدبا، إلى غير ذلك من المكارم قبل ظهوره بالنبوة، يعرف ذلك من اعتنى بالسّير؛ وتعرّف أحواله من الصغر إلى الكبر، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه.
(أجمعين) توكيد لاستغراق أفراد المنحصر في المضاف إليه.
(اللهمّ) هو توجّه للمطلوب، وطلب لحصول المرغوب؛ بالتوسّل بالاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب؛ وإذا سئل به أعطى. ولفظ به بصيغة حذف فيها «ياء» النداء المتضمّنة لوجود البينونة النفسانية، إذ حذفها يقتضي زوال ذلك.
وتعويض الميم من حرف النداء في لفظ الجلالة! يقتضي قوّة الهمّة في الطلب(1/56)
صلّ أفضل صلاة وأكملها، وأدومها، وأشملها، على سيّدنا محمّد عبدك ...
والجزم. وإنّما جعل هذا الاسم العظيم في أوائل الأدعية غالبا!! لأنه جامع لجميع معاني الأسماء الكريمة؛ وهو أصلها.
(صلّ) ، الصّلاة من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم. ولفظها مختصّ بالمعصوم؛ من نبيّ وملك؛ تعظيما لهم، وتمييزا لمراتبهم عن غيرهم.
(أفضل صلاة وأكملها) - أي: أتمّها- (وأدومها وأشملها) - أعمّها- (على سيّدنا محمّد) الصحيح: جواز الإتيان بلفظ «السيد» و «المولى» ونحوهما مما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في الصلاة على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على تركه، ويقال في الصلاة وغيرها. وقال صاحب «مفتاح الفلاح» : وإياك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيه سرّ يظهر لمن لازم هذه العبادة.
(عبدك) سمّاه الله تعالى عبدا وشرّفه بهذا الاسم، وذلك غاية التفضيل والتكريم حيث أجلّ قدره، وعظّم أمره؛ فقال (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [1/ الإسراء] . والعبد: اسم مضاف لاسم الرب والسيّد والمالك، فإن العبد من له ربّ، فمن عرف نفسه بالعبودية عرف ربّه بالربوبية. فشهود العبودية مستلزم لشهود الربوبية. ومن لا يغفل عن العبودية بالكلية هو العبد علما وحالا وتحقّقا ووجودا، وعدم الغفلة عن العبودية كمال الإنسان، وذلك موقوف على العبودية. فالعبودية كمال، وهو عين الكمال الإنساني. ولما كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كمال الرسالة وجب أن يكون له كمال العبودية. فكان صلى الله عليه وسلم أكمل الكمّل على الإطلاق، وعبوديته أكمل كلّ كمال. ولما كانت العبودية عين الكمال؛ وكان له صلى الله عليه وسلم كمال العبودية؛ أثنى الله عليه باسم العبد وسمّاه به في أشرف مقاماته، فقال تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [1/ الإسراء] ، وقال (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)
(10) [النجم] ، وقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [1/ الكهف] ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول- كما في البخاري-:
«لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله» فاستثبت(1/57)
الّذي خصّصته بالسّيادة العامّة، فهو سيّد العالمين على الإطلاق، ورسولك الّذي بعثته بأحسن الشّمائل وأوضح الدّلائل؛ ...
ما هو ثابت له، وأسلم لله بما هو له لا سواه. وليس للعبد إلّا اسم العبد، ولذا كان «عبد الله» أحبّ الأسماء إلى الله تعالى، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم. ولما خيّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا؛ اختار أن يكون نبيا عبدا. فاختار ما هو الأتمّ والأحبّ إلى الله تعالى وما يضاف إليه، لأن النبي والعبد تصحّ إضافتهما، إذ يقال «نبيّ الله» و «عبد الله» ؛ بخلاف الملك؛ إذ لا يحسن أن يقال: «ملك الله» !! لما يوهم من عكس النسبة؛ قاله الفاسي.
(الّذي خصّصته بالسّيادة العامّة) على جميع المخلوقات- أي: جعلتها مقصورة عليه؛ أي: أعطيته هذه المرتبة دون غيره-، (فهو سيّد العالمين) :
جميع الخلق؛ الإنس والجنّ والملائكة وغيرهم في الدنيا والآخرة (على الإطلاق) من غير تقييد؛ ولا تخصيص، (ورسولك) المختصّ منك بالرّسالة الجامعة الكاملة المحيطة السارية في تضاعيف الوجود بالإمداد من عين الجود؛ المستولية على أطوار العوالم وحركات أدوارها، وإدراج جزئيّاتها في أسوار كلّيّاتها على الإحاطة والشمول؛ بحكم (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) [79/ النساء] ، - أي: مطلقا لم تتقيّد بقيد- ولم تختصّ رسالته بمخصّص، فهو رسول للكافّة بالكافّة من الإمداد بمنافعهم؛ من وجود ونموّ ورزق وهداية، ودلالة على طرق رشادهم، وما هو الأصلح بهم في معاشهم ومعادهم، وما يلتحق بذلك من الرحمة المرسل بها بمقتضى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] (الّذي بعثته بأحسن الشّمائل) : كريم الأخلاق، وجميل الأفعال، واستقامة الطريق.
والشمائل: جمع شمال- بالكسر- وهي الأخلاق والصفات المحمودة.
(و) بعثته ب (أوضح) - أي: أبين- (الدّلائل) ؛ أي: الحجج البالغة القاطعة، والبراهين الواضحة الساطعة؛ الدالّة على صدقه وصحّة نبوّته ورسالته دلالة واضحة، كانشقاق القمر، وتسليم الحجر والشجر، وحنين الجذع، ونبع(1/58)
ليتمّم مكارم الأخلاق.
صلاة تناسب ما بينك وبينه من القرب الّذي ما فاز به أحد، وتشاكل ما لديكما من الحبّ الّذي انفرد به في الأزل والأبد.
الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى في كفّه، ومجيء الشجر لدعوته، وكذا شهادة الكتب المنزّلة، واتصافه بأنواع الكمالات، وما اشتمل عليه من محاسن الصفات:
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... لكان منظره ينبيك بالخبر
(ليتمّم مكارم الأخلاق) قال الباجي: كانت العرب أحسن الناس أخلاقا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلّوا بالكفر عن كثير منها؛ فبعث صلى الله عليه وسلم ليتمّم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلّوا عنه، وبما قضي به في شرعه. انتهى.
وهذا مقتبس من حديث: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» . رواه الإمام أحمد، والحاكم، والبيهقي؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الحاكم:
صحيح على شرط مسلم، ورواه الإمام مالك في «الموطّأ» بلاغا؛ بلفظ «إنّما بعثت ... الخ» .
(صلاة تناسب ما بينك وبينه من القرب) المعنويّ الذي هو قرب المكانة الرفيعة لا قرب المكان (الّذي ما فاز) - أي: ظفر- (به أحد) من الخلق، (و) صلاة (تشاكل) - أي: تشابه- (ما لديكما من الحبّ) : اسم من المحبّة، ومحبّة الله للعبد: إرادة تقريبه وإكرامه، ومحبّة العبد لله: معنى يجعله الله في قلبه، وهو تعلّق الهيبة والأنس، يعرف بآثاره ويظهر بأنواره، وهو الذي يقطع الوساوس، ويلذّ بالخدمة، ويسلّي عن المصائب، ويبعث على إيثار الحق على كلّ شيء، ولا يزال مجموعا على ربّه بكلّيّته؛ فبدنه للخدمة، وقلبه للذكر، وروحه للمحبّة، وسرّه للمشاهدة، وهو مقام الحبيب (الّذي انفرد به) ، ويعطي كلّ من أهّل له على مقدار ما قسم له منه؛ نبيّا كان أو وليّا. وقوله (في الأزل والأبد) الأزل: استمرار(1/59)
صلاة لا يعدّها ولا يحدّها قلم ولا لسان، ولا يصفها ولا يعرفها ملك ولا إنسان. صلاة تسود كافّة الصّلوات كسيادته على كافّة المخلوقات. صلاة يشملني نورها من جميع جهاتي في جميع أوقاتي، ويلازم ذرّاتي في حياتي وبعد مماتي. وعلى آله ...
الوجود في أزمنه مقدّرة غير متناهية في جانب الماضي، والأبد: استمرار الوجود في أزمنة مقدّرة غير متناهية في جانب المستقبل.
(صلاة لا يعدّها) - أي: لا يحصيها- (ولا يحدّها) المراد حدّ العدد ومنتهاه: أي لا ينهيها (قلم) بالكتابة، (ولا لسان) بالكلام، (ولا يصفها) أي: ينعتها- (ولا يعرفها ملك ولا إنسان) لعظمها وكثرتها، فلا يحاط بها ولا يدرى حقيقتها.
(صلاة تسود) ؛ أي: تشرف وتفضل (كافّة) - أي: جميع- (الصّلوات) التي صلّى بها الناس عليه صلى الله عليه وسلم؛ أي: تصير أفضل عند التفاضل (كسيادته) الجامعة لجوامع السؤدد؛ أي: مثل سيادته؛ أو فضله (على كافّة المخلوقات) ؛ فيكون فضل صلاة المصنّف على صلاة الناس مطابقة لفضله صلى الله عليه وسلم على الناس، وبينهما بون بعيد، لأنّه أفضل الخلق على الإطلاق، فتكون الصلاة المطلوبة أفضل الصلوات على الإطلاق.
(صلاة يشملني) - أي: يعمّني- (نورها من جميع جهاتي) الستّ: يمين، وشمال، وأمام، وخلف، وفوق، وتحت (في جميع) أجزاء (أوقاتي) الليليّة والنهاريّة، (ويلازم جميع ذرّاتي) : - أجزائي- (في) حال (حياتي وبعد مماتي) ، والقصد من ذلك إحاطة النور به، وتعميم جوارحه، وعدم مفارقته لذلك النور؛ ولو بعد موته، وذلك ببركة الصلاة والسلام على سيّد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام (وعلى آله) ، فصل بينه وبين آله ب «على» !! ردّا على الشيعة، فإنّهم يمنعون ذلك، وينقلون فيه حديثا موضوعا لفظه: «من فرّق بيني وبين آلي ب «على» لم تنله شفاعتي» .(1/60)
الأطهار، وأصحابه الأخيار، ...
والصحيح جواز إضافة «آل» إلى الضمير. وآل نبيّنا عند الشافعي: مؤمنو بني هاشم والمطلب، وهذا بالنسبة للزكاة؛ دون مقام الدعاء. ومن ثمّ اختار الأزهريّ وغيره من المحققين أنّهم هنا «كلّ مؤمن تقيّ» لحديث فيه.
(الأطهار) جمع: طهير وطهر؛ كما في «القاموس» أي: المطهّرين في عناصرهم، وهو مقتبس من قوله تعالى (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (33) [الأحزاب] ، وفي وصف «الآل» بالأطهار تصريح بأنهم مستحقّون للصلاة عليهم تبعا له صلى الله عليه وسلم كما علمناه في حديث: كيف نصلّي عليك!! قال: «قولوا اللهمّ؛ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد» ولم يقل: «آل محمد الأتقياء» أو السالمين من المعاصي والتبعات ... أو نحو ذلك، فدلّ على أن ذلك حقّ لهم كيفما كانوا. ولله درّ الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى آمين- حيث يقول:
يا أهل بيت رسول الله حبّكم ... فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم القدر أنّكم ... من لّم يصلّ عليكم لا صلاة له
فظهر بهذا أن تارك الصلاة على الآل تارك لفضيلة عظيمة وسنّة جسيمة.
(وأصحابه) اسم جمع ل «صاحب» ، بمعنى الصحابي؛ وهو: من اجتمع مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد نبوته في حال حياته ومات على ذلك؛ ولو أعمى، أو غير مميز، أو ملكا، أو جنيّا- على الأصح- كما شملته «من» .
وهم أفضل من آل لا صحبة لهم. وإنما قدّم الآل؛ لأنّ الصلاة وردت عليهم بالنصّ، وأما الصلاة على الصحب؛ فبالقياس.
(الأخيار) فيه إشارة إلى أنّ الصحابة كلّهم عدول، وأنّ طعن(1/61)
وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد:
الطاعن في بعضهم غير مرضيّ ولا مقبول. وبين الآل والصّحب عموم وخصوص من وجه؛ لاجتماع الآل والصحب فيمن كان من أقاربه واجتمع به؛ كسيدنا علي بن أبي طالب، وانفراد الآل فيمن كان من أقاربه ولم يجتمع به؛ كأشراف زماننا هذا، وانفراد الصحب فيمن اجتمع به ولم يكن من أقاربه؛ كأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. (وسلّم تسليما كثيرا) السلام: هو تسليمه من كلّ آفة ونقص.
(أمّا بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر. وأتى بها!! تأسّيا به صلى الله عليه وسلم، فإنّه كان يأتي بها في خطبه ونحوها كما صحّ عنه، بل رواها عنه اثنان وثلاثون صحابيا؛ كما قاله ابن علّان. وقال الزرقاني: روى ذلك أربعون صحابيا؛ كما أفاده الرهاوي في «أربعينه» المتباينة الأسانيد. انتهى.
وأوّل من قالها داود عليه السلام- كما قيل- فهي «فصل الخطاب» الذي أوتيه. لأنها تفصل بين المقدمات والمقاصد، والخطب والمواعظ. قال العلقمي في «حاشية الجامع الصغير» : وبهذا قال كثير من المفسرين.
وقيل: أول من قالها قسّ بن ساعدة الإيادي، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل:
يعرب بن قحطان، وقيل: «سحبان وائل» بالإضافة الذي كان في الجاهلية، لا سحبان بن وائل الذي كان في زمان معاوية، خلافا لمن وهم فيه. نبّه عليه البلغيثي عن التلمساني في «حاشية الشفا» . قال: ولا يدلّ قول سحبان بن وائل:
«لقد علم الحيّ اليمانون أنّني ... إذا قلت: «أمّا بعد» أنّي خطيبها»
على أنّه أوّل من قالها. انتهى.
وعلى هذه الأقوال ف «فصل الخطاب» الذي أوتيه داود عليه الصلاة والسلام هو: «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر» .(1/62)
فقد خطر لي أن أجمع كتابا أجعله وسيلة لبلوغي من رضا الله تعالى ورسوله المرام، وذريعة للانتظام في سلك خدّامه ...
وقال المحققون: فصل الخطاب الفصل بين الحق والباطل.
وهي ظرف مبنيّ على الضّم؛ كغيره من الظروف المقطوعة عن الإضافة.
ويجوز ضمّ الدّال مع التنوين، كما يجوز نصبه منّونا؛ وغير منوّن.
ووجوه ذلك مفصّلة في كتب النحو؛ ك «شرح القطر» وغيره.
وهي ظرف زمان كثيرا؛ ك «جاء زيد بعد عمرو» ، وظرف مكان قليلا؛ ك «دار زيد بعد دار عمرو» . وهي هنا صالحة للزمان باعتبار اللفظ، وللمكان باعتبار الرّقم. ولكون «أمّا» نابت مناب اسم الشرط الذي هو «مهما» ؛ أجيبت بالفاء، إذ التقدير: مهما يكن من شيء بعد ما تقدّم من الحمد والشهادتين والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ (فقد خطر لي) . الخاطر: ما يخطر في القلب من تدبير أمر، فيقال: خطر ببالي، وعلى بالي، خطرا، وخطورا من بابي «ضرب، وقعد» ؛ (أن أجمع) ؛ أي: أؤلّف (كتابا) - أي- مكتوبا، وتنوينه للتعظيم.
وهو- في الأصل- مصدر سمّي به المكتوب على التوسّع، ثم غلب في العرف على جمع من الكلمات المستقلة بالتعيين المفردة بالتدوين (أجعله وسيلة) - أي: سببا- (لبلوغي) : وصولي (من رضا الله تعالى) . هو كناية عن فعله به ما يفعل الراضي عمن يرضى عنه. وهو إيصال الخير إليه، لأن البلوغ الوصول والانتهاء إلى غاية مقصودة، لكن مع اعتبار ضرب من التمكّن والقوّة، لأنّ المادّة بتقاليبها دائرة على هذا المعنى، والغاية المقصودة هنا رضا الله تعالى، (و) رضا (رسوله) صلى الله عليه وسلم، وذلك غاية المطالب والمقاصد. وقوله (المرام) أي: المطلوب مفعول «بلوغي» ، كقوله تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (8) [مريم] (وذريعة) أي:
وسيلة (للانتظام) أي: الاندراج (في سلك) - بكسر السين- أصل معناه:
الخيط، ومقصوده بذلك التقرّب إليه صلى الله عليه وسلم حتى يكون معدودا من جملة (خدّامه) بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة-: جمع خادم مثل كاتب وكتّاب،(1/63)
عليه الصّلاة والسّلام.
ثمّ نظرت إلى قلّة علمي، ...
والمراد كونه من المشتغلين بخدمة الجناب النبوي لينخرط في سلك المحبوبين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدلي بدلوه معهم في بحر فضله الذي لا يخيب قاصده، ولا يظمأ وارده، مستمطرا سحائب إحسانه، مستنزلا غزير برّه وامتنانه، لأنّ أدنى انتساب إليه صلى الله عليه وسلم يحصل غاية النفع والشرف، إذ لم يخلق الله خلقا أكرم عليه منه صلى الله عليه وسلم، ولم يخلق جاها أعظم من جاهه؛ فيحصل لخادمه من الجاه بحسب ماله صلى الله عليه وسلم من العزّ والشرف.
قال سيّدي عبد الوهّاب الشعراني: ما في الوجود من جعل الله له الحلّ والربط، دنيا وأخرى؛ مثل النبي صلى الله عليه وسلم، فمن خدمه على الصدق والمحبّة والوفاء، دانت له رقاب الجبابرة، وأكرمه جميع المؤمنين كما ترى ذلك فيمن كان مقرّبا عند ملوك الدنيا. ومن خدم السيّد خدمته العبيد. وكما أن غلام الوالي لا يتعرّض له إذا سكر مثلا؛ إكراما للوالي، فكذلك خدّام النبي صلى الله عليه وسلم لا تتعرض لهم الزبانية يوم القيامة؛ إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد فعلت الحماية مع التقصير ما لا تفعله كثرة الأعمال الصالحة مع عدم الاستناد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاستناد الخاصّ. ولله درّ من قال:
وإذا ما الجناب كان عظيما ... مدّ منه لخادميه لواء
وإذا عظّمت سيادة متبو ... ع أجلّ أتباعه الكبراء
وقد كان المصنّف رحمه الله تعالى ممّن له القدح المعلّى في خدمة الجناب النبوي؛ بالتأليف والمديح والصلوات ونشر علوم السنة النبوية، نظمنا الله تعالى في سلك أحبابه المتعلّقين بجنابه (عليه الصّلاة والسّلام) بمنّه وكرمه. آمين.
(ثمّ نظرت إلى قلّة علمي) . في «القاموس» : نظره ونظر إليه؛ نظرا، ومنظرا: تأمّله بعينه. قال الشارح: هكذا فسّره الجوهري. وفي «البصائر» :
والنظر أيضا تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته. وقد يراد به التأمّل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص. وقوله تعالى (قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ) [يونس/ 101]- أي: تأمّلوا-.(1/64)
وضعف فهمي، وكثرة ذنوبي، ووفرة عيوبي.. فأحجمت إحجام من عرف حدّه فوقف عنده، ثمّ تخطّرت سعة الكرم، وكوني من أمّة هذا النّبيّ الكريم.. فأقدمت إقدام الطّفل على الأب الشّفيق الحليم، ...
واستعمال النظر في البصر أكثر استعمالا عند العامّة، وفي البصيرة أكثر استعمالا عند الخاصّة. ويقال: نظرت إلى كذا؛ إذا مددت طرفك إليه، رأيته؛ أو لم تره، ونظرت إليه إذا رأيته وتدبّرته، ونظرت في كذا: تأمّلته. ثم قال: وإذا قلت «نظرت إليه» لم يكن إلّا بالعين، وإذا قلت «نظرت في الأمر» ؛ احتمل أن يكون تفكّرا وتدبرا بالقلب. انتهى.
(وضعف فهمي) هذا منه تواضع رحمه الله تعالى، (وكثرة ذنوبي) ؛ جمع ذنب، وهو الإثم والمعصية. وقد أذنب الرجل صار ذا ذنب. وقد قالوا: إن هذا من الأفعال التي لم يسمع لها مصدر على فعلها، لأنه لم يسمع إذناب ك «إكرام» ، (ووفرة) ، أي: كثرة (عيوبي) ؛ جمع عيب: وهو الوصمة (فأحجمت) عمّا أردت من تأليف الكتاب المذكور، أي: كففت عنه. يقال «حجمته عن الشيء» ؛ أي كففته عنه، وأحجم هو عنه أي: كفّ. وهو من النوادر مثل: كببته فأكبّ؛ قاله الجوهري (إحجام) ، أي: إحجاما مثل إحجام (من عرف حدّه) - أي:
عرف نفسه بالقصور- (فوقف عنده) أي: عند حدّه، حيث كان قاصرا عن بلوغ هذه الرتبة.
(ثمّ تخطّرت) أي: تذكّرت (سعة الكرم) من الله سبحانه وتعالى، (و) تخطّرت (كوني من أمّة هذا النّبيّ الكريم ف) رجوت أن يكرمني الله بنيل هذا الأرب؛ لأجل نبيه صلّى الله عليه وسلم فقوي رجائي، و (أقدمت) على تنفيذ هذا العزم، وهو تأليف الكتاب (إقدام) أي: إقداما مثل إقدام (الطّفل على الأب) أي: أبيه (الشّفيق) كثير الشفقة (الحليم) على ولده؛ فلا يعاقبه إذا أساء، لأن حلمه وشفقته يمنعانه. والنبي صلّى الله عليه وسلم هو أبو المؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، لا سيما(1/65)
بعد أن سمعت قول الله تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128] .
فكم من أعرابيّ فدم، لا أدب له ...
(بعد أن سمعت قول الله تعالى) في سورة التوبة واصفا له بالرحمة والرأفة لأمته، حيث قال (لَقَدْ جاءَكُمْ) - أيها العرب- (رَسُولٌ) - هو محمد صلّى الله عليه وسلم- (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - أي: منكم تعرفون نسبه وحسبه، وأنّه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وهو ترغيب للعرب في نصره، فإنّه تم شرفهم بشرفه، وعزّهم بعزه، وفخرهم بفخره، فإنه من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة والصيانة والعفاف وطهارة النسب والأخلاق الحميدة- (عَزِيزٌ) - أي: شديد- (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) - أي: عنتكم، أي مشقّتكم ولقاؤكم المكروه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أن تهتدوا- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) - شديد الرحمة- (رَحِيمٌ) (128) مريد لهم الخير. وقيل: بالمؤمنين رؤوف؛ أي: بالطائعين منهم، رحيم بالمذنبين. قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى إلّا للنبي صلّى الله عليه وسلم فسمّاه رؤوفا رحيما. وقال (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (65) [الحج] .
(فكم) خبرية، بمعنى عدد كثير ومميّزها قوله (من أعرابيّ) فهو مجرور ب «من» ؛ كما في قوله تعالى (* وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) [النجم/ 26] ، والأعرابيّ:
ساكن البادية (فدم) - بفتح فسكون- هو من الناس العييّ عن الكلام في ثقل ورخاوة وقلّة فهم، وهو أيضا: الغليظ الأحمق الجافي؛ كما في «القاموس» . ويصحّ إرادة كلّ من المعنيين هنا.
(لا أدب له) ، قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : الأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا. وقيل: الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل: تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، يقال: إنه مأخوذ من المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سمّي به!! لأنّه يدعى إليه. انتهى.(1/66)
ولا فهم، ولا عقل له ولا علم، ولا كرم ولا حلم.. قابل جنابه الشّريف بما غضب له المكان والزّمان، ...
(ولا فهم) الفهم: سرعة انتقال النفس من الأمور الخارجية إلى غيرها.
وقيل: الفهم تصوّر المعنى من اللفظ. وقيل: هيئة للنفس يتحقق بها ما يحسن.
وفي «إحكام الآمدي» :
الفهم جودة الذهن من جهة تهيّئه لاقتناص ما يرد عليه من المطالب.
(ولا عقل له) كامل. والعقل: نور روحاني يقذف به في القلب؛ أو الدماغ، به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية. واشتقاقه من العقل؛ وهو:
المنع!! لمنعه صاحبه عما لا يليق، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو ويزيد إلى أن يكمل عند البلوغ. وقيل: إلى أن يبلغ أربعين سنة، فحينئذ يستكمل عقله، كما صرّح به غير واحد. وفي الحديث: «ما من نبيّ إلّا نبّىء بعد الأربعين» وهو يشير إلى ذلك.
(ولا علم) العلم: هو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع لموجب. وقال الحكماء: هو حصول صورة الشيء في العقل. والأوّل أخصّ من الثاني. وقيل:
العلم هو إدراك الشيء على ما هو به. وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، والجهل نقيضه. وقيل: العلم صفة راسخة يدرك بها الكليات والجزئيات. وقيل: العلم وصول النفس إلى معنى الشيء. وقيل: هو مستغن عن التعريف.
(ولا كرم) الكرم: هو الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه.
(ولا حلم) الحلم: حالة توقّر وثبات عند الأسباب المحركات.
(قابل جنابه الشّريف) الجناب- بفتح الجيم- أصله الجانب؛ وهو: شقّ الإنسان.
فكأنّ للإنسان شيئا محسوسا يسمّى بالجناب والقدر؛ يحتشم صاحبه لأجله.
والمراد هنا: ذاته صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: فكم من أعرابيّ جلف واجهه صلّى الله عليه وسلم (بما) أي:
بخلق سيّء (غضب له) أي: لأجل ذلك الخلق الصادر منه (المكان والزّمان) ؛(1/67)
وخاطبه بما عبس له وجه السّيف واحتدّ له لسان السّنان ...
غيرة عليه صلّى الله عليه وسلم أن تنتهك حرمته؛ كما وقع له مع قومه الذين وطئوا ظهره، وأدموا وجهه، وكسروا رباعيته، فأبى أن يقول إلّا خيرا. وقال: «اللهمّ؛ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» . ولما تصدّى له غورث بن الحارث ليفتك به ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في ناحية تحت شجرة وحده قائلا؛ والناس قائلون في غزوة ذات الرقاع، فلم يستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا وهو قائم بيده السيف صلتا. فقال: من يمنعك مني؟. فقال:
«الله» . فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقال: «من يمنعك منّي؟» قال: كن خير آخذ. فتركه وعفا عنه، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. صلّى الله عليه وسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابيّ بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد؛ احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك؛ ولا من مال أبيك. فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده» ، ثم قال: «ويقاد منك يا أعرابيّ ما فعلت بي!» قال: لا.
قال: «ولم؟» قال: لأنّك لا تكافىء بالسيئة السيئة!! فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى آخر تمر.
وإسناد الغضب إلى الزمان والمكان مجار عقلي لوقوعه فيهما.
(و) كم من أعرابي غليظ الطبع (خاطبه) صلّى الله عليه وسلم (بما) ، أي: بكلام خشن (عبس) من باب (ضرب) عبوسا: قطب وجهه فهو عابس (له) ، أي: لأجل هذا الكلام (وجه السّيف، واحتدّ) أي: غضب (له لسان السّنان) - بكسر السين؛ ككتاب. المراد به الرمح- ومعناه في الأصل: نصل الرمح؛ أي:
حديدته. يعني أنّه استحق القتل، فكأنّ السيف والرمح هاج بهما الغضب على هذا الأعرابي يريدان الانتقام منه؛ نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. كما وقع له صلّى الله عليه وسلم مع الرجل الذي قال له: اعدل؛ فإنّ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، فلم يردّ عليه إلّا بقوله:(1/68)
فكان جوابه الإغضاء، والعفو عمّن أساء، بل أدناه وقرّبه، وما لامه وما أنّبه، بل أفرغته أخلاقه المحمّديّة في قالب ...
«ويحك فمن يعدل إن لم أعدل!! خبت وخسرت إن لم أعدل» ، ونهى من أراد من أصحابه قتله.
وفي الكلام استعارتان بالكناية؛ حيث شبّه كلا من السيف والسنان بإنسان يريد الانتقام نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وحذف المشبّه به الذي هو الإنسان، ورمز له بشيء من لوازمه؛ وهو الوجه واللسان، والعبوس والاحتداد (ترشيح) «1» .
(فكان جوابه) صلّى الله عليه وسلم لذلك المسيء (الإغضاء) ، أي: الإمساك وعدم المؤاخذة. وفي «المصباح» : أغضى عينيه: قارب بين جفنيهما. ثم استعمل في الحلم فقيل: أغضى؛ إذا أمسك عفوا عنه. وفي «المحكم» : أغضى على قذى، صبر على أذى. انتهى.
(و) كان جوابه (العفو عمّن أساء) ، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمات الله تعالى؛ فينتقم لله. كما عفا عن اليهودية التي سمّته في الشاة بعد اعترافها، ولم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره؛ وقد أعلم به وأوحي إليه بشرح أمره!! (بل أدناه) ؛ أي: ذلك الأعرابي المسيء (وقرّبه) عطف تفسير، (وما لامه) : عذله، (وما أنّبه) أي: عنّفه. يقال: أنّبه تأنيبا: عنّفه ولامه ووبّخه، والتأنيب أشدّ العذل؛ وهو التوبيخ والتثريب. والتأنيب المبالغة في التوبيخ والتعنيف، ومنه حديث توبة كعب بن مالك: ما زالوا يؤنّبوني.
(بل أفرغته أخلاقه المحمّديّة) أي: صبّته (في قالب) - بفتح اللام وكسرها-: هو الشيء يفرغ فيه الجواهر ليكون مثالا لما يصاغ منها، وهو دخيل.
والصواب أنّه معرّب، وأصله كالب، لأن هذا الوزن ليس من أوزان العرب ك «الطابق» ونحوه؛ وإن ردّه الشهاب في «شرح الشفا» بأنه غير صحيح، فإنها
__________
(1) الترشيح: ضرب من ضروب البلاغة، بمعنى: تأكيد المعنى السابق.(1/69)
كيمياء السّعادة بأيادي الإحسان، حتّى اضمحلّت حدّة ذلك الوحش وانقلبت حديدته جوهرة إنسان، فتبدّل بغضه بالحبّ، وبعده بالقرب، وحربه بالسّلم، وجهله بالعلم ...
دعوى خالية عن الدليل. وصيغته أقوى دليل على أنّه غير عربي، إذ فاعل- بفتح العين- ليس من أوزان العرب، ولا من استعمالاتها. انتهى «شرح القاموس» .
(كيمياء السّعادة) المراد بذلك تهذيب النفس باجتناب الرذائل وتزكيتها عنها، واكتساب الفضائل وتحليتها بها. والكيمياء لغة مولّدة من اليونان؛ أصل معناها الحذق والحيلة؛ قاله الخفاجي.
(بأيادي الإحسان) جمع يد؛ وهي الجارحة. ثم أطلقت على النعمة مجازا.
ويحتمل أن يكون المعنى بأياد هي الإحسان، فالإضافة بيانيّة.
(حتّى اضمحلّت) : ذهبت (حدّة) - بكسر الحاء وتشديد الدّال المهملتين-:
هي ما يعتري الإنسان من الخفّة والطيش والغضب، تقول: حددت على الرجل أحدّ بالكسر- حدّة أيضا؛ عن الكسائي. (ذلك الوحش) أصل الوحش: حيوان البرّ الّذي لا يستأنس. فشبه به الإنسان الذي لم يتهذّب بالأخلاق الحسنة بجامع النّفرة من كلّ، (وانقلبت) أي: تبدّلت (حديدته) : القطعة من الحديد المعروف (جوهرة إنسان) كامل بالإضافة. والمراد أنّ هذا الأعرابي الجلف الذي كان سيّء الأخلاق نافرا كالوحش يشبه الحديد في القسوة؛ لمّا أشرقت عليه شمس النبوة، ورأى تلك الطلعة البهيّة، وأبصر الأخلاق المحمدية، وسمع الحكم المصطفيّة «1» ؛ تهذّبت نفسه، وحسنت أخلاقه، وتغيّرت طباعه؛ (فتبدّل بغضه) للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ وللإسلام (بالحبّ) لهما، (و) تبدّل (بعده) عنهما (بالقرب) منهما، (و) تبدّل (حربه بالسّلم) - بكسر السين: الصلح- (و) تبدّل (جهله بالعلم) .
__________
(1) تقتضي قواعد اللغة: المصطفوية.(1/70)
واستحال إنسانا بعد أن كان ثعبانا، وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا.
فهذا وأمثاله من شواهد مكارم أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم..
أطمعني بإمكان قبولي في جملة خدمه، ودخولي في عداد حشمه، ولا يبعد عن سعة كرم الله تعالى أن يهب لي إكراما لرسوله فوق ما أمّلته من الرّضا والقبول.
وللجلال السيوطي رحمه الله تعالى فيما يقال بكسر أوّله وضدّه بفتح أوله، هذان البيتان:
عن الأوائل أسماء أوائلها ... بالكسر جاء، وأضداد لها فتحا
العلم والحلم والسّلم الغنى وتلا ... خصب وفتح لأضداد لها وضحا
وذيّل عليهما السيد المرغني حفيد السيد محمد عثمان المرغني في «شرحه» لمولد جدّه المذكور ذاكرا أضداد ذلك؛ وهو ما كان أوّله مفتوحا؛ فقال:
وذاك جهل وحرب يا فتى سفه ... جدب وفقر لربّ فضله طفحا
(واستحال) أي: صار (إنسانا) حقيقيّا (بعد أن كان) إنسانا صوريّا يشبه في أخلاقه (ثعبانا) ، وهو: الحية الضخمة الطويلة تصيد الفأر، (وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا) ؛ أي: كالذيب في الخبث والدّهاء.
(فهذا؛ وأمثاله من شواهد مكارم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم أطمعني) ، أي: جعلني طامعا (بإمكان قبولي في جملة خدمه) المشتغلين بنشر محاسنه ونصرة دينه، (ودخولي في عداد) - بكسر العين المهملة: المثل- (حشمه) - بفتح أوّليه للواحد والجمع- وهم خاصّة الرجل الذين يغضبون له من أهل وعبيد أو جيرة؛ إذا أصابه أمر. وفي «الصحاح» : حشم الرجل: خدمه ومن يغضب له. سمّوا بذلك!! لأنهم يغضبون له. انتهى.
(ولا يبعد عن سعة كرم الله تعالى أن يهب لي) أي: يعطيني (إكراما لرسوله) مفعول لأجله- (فوق) - أي: زيادة على- (ما أمّلته) ؛ أي: رجوته (من الرّضا والقبول) بيان ل «ما» .(1/71)
وها أنا قد توكّلت عليه سبحانه، وقبضت قبضة من أثر الرّسول، فجمعت هذا الكتاب ...
(وها) - بفخامة الألف- حرف تنبيه للمخاطب ينبّه بها على ما يساق إليه من الكلام. وتفصل «ها» التنبيه المذكورة من اسم الإرشاة ب (أنا) وأخواته من ضمائر الرفع المنفصلة كثيرا، نحو: ها أنا ذا أفعل كذا. والإخبار عن هذا الضمير بغير اسم الإشارة كما هنا شاذّ؛ كما صرح به ابن هشام في «حاشية التسهيل» ؛ وإن وقع في ديباجة «المغني» حيث قال: (وها أنا بائح بما أسررته) . ومثله قول المصنف.
(قد توكّلت عليه سبحانه) قيل: التوكّل ترك تدبير النفس، والانخلاع عن الحول والقوة. وهو فرع التوحيد والمعرفة، (وقبضت قبضة من أثر الرّسول) .
هذا اقتباس، وهو جائز عند المالكية والشافعية باتفاق، غير أنّهم كرّهوه في الشعر خاصّة. هكذا حكى اتفاق المذهبين الشيخ داود الشاذلي الباهلي. وقد نصّ على جوازه القاضي عياض، وابن عبد البر، وابن رشيق، والباقلاني، وهم من أجلّة المالكية، والنووي شيخ الشافعية، ورواه الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد إلى الإمام مالك أنّه كان يستعمله. قال السيوطي: وهذه أكبر حجّة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه، وقد نفى الخلاف في مذهبه الشيخ داود، وهو أعرف بمذهبه، وأما مذهبنا!! فأنا أعرف أنّ أئمّته مجمعون على جوازه، والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم. فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه، فقد فشر، وأبان عن أنه أجهل الجاهلين. انتهى ذكره الزرقاني على «المواهب» .
(فجمعت هذا الكتاب) ، قال الأردبيلي: يطلق الكتاب على مطلق الخطّ، وعلى الكلام المكتوب؛ تسمية لاسم المفعول بالمصدر، وعلى مطلق الكلام؛ اتساعا، كما في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) [105/ النساء] .
ثمّ شاع استعماله في التعارف فيما جمع فيه الألفاظ الدالّة على نوع من المعنى،(1/72)
من آثاره في شمائله الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم، وأدخلت فيه جميع الشّمائل الّتي رواها الإمام الحافظ أبو عيسى محمّد بن عيسى التّرمذيّ أو أكثر، لما بين المصدر والمكان من التعلّق الخاصّ، فيقال: أتاني كتاب عن فلان، وسيّرت إلى فلان كتابا، ومنه (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) [28/ النمل] وأمّا في عرف المؤلفين؛ فيطلق تارة على مكتوب مشتمل على حكم أمر مستقل منفرد عن غيره؛ وعن آثاره ولواحقه وتوابعه وأسبابه وشروطه، وتارة على مكتوب مشتمل على مسائل علم أو أكثر. وقد يسمّى ذلك المكتوب باسم خاصّ، وهو المراد هنا.
(من آثاره) ؛ أي: محاسنه (في شمائله) جمع شمال- بالكسر- أي:
أخلاقه (الشّريفة صلّى الله عليه وسلم) وصفاته المحمودة، (وأدخلت) - أي: أدرجت- (فيه) ؛ أي: في هذا الكتاب (جميع) كتاب ( «الشمائل) النبوية» (الّتي رواها) بأسانيده (الإمام الحافظ أبو عيسى محمّد بن عيسى) بن سورة بن موسى بن الضحّاك؛ (التّرمذيّ) . قال الأصفهاني في كتابه «لبّ اللباب في الأنساب» :
التّرمذي- بضمّ التاء، وفتحها، وكسرها- نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له: «جيحون» ، خرج منها جماعة، منهم: الترمذي صاحب «الجامع» و «العلل» . انتهى. وسكت عن بيان حركة ميمه، وبيّنها أصل أصله:
السمعانيّ، وعبارته: التّرمذي؛ بكسر المثناة من فوق والميم، وبضمّها، وبفتح المثناة وكسر الميم. انتهى. وفي الراجح من هذه اللغات خلاف. فقال ابن سيّد الناس: المتداول بين أهل تلك المدينة فتح التاء وكسر الميم، والذي نعرفه قديما كسرهما معا، والذي يقوله المتقنون أهل المعرفة بضمّهما. وكلّ واحد يقول لها معنى يدّعيه. انتهى.
وفي «طبقات الحفاظ» للذهبي: قال شيخنا ابن دقيق العيد: ترمذ- بالكسر- هو المستفيض على الألسنة حتى يكاد يكون كالمتواتر. وقال الباجي: سمعت عبد الله بن محمد الأنصاري يقول: هو بضمّ التاء. انتهى. وهو الحافظ الضرير أحد الأئمة الستّة، قيل: إنّه ولد أكمه، طاف البلاد فسمع من قتيبة وعلي بن حجر(1/73)
رضي الله تعالى عنه بعد حذف مكرّرها وأسانيدها، ولم أتقيّد بترتيبه وتبويبه، بل سلكت أسلوبا غير أسلوبه، وأضفت إليها من كتب الأئمّة الآتي ذكرهم أكثر منها بكثير، ...
وأبي كريب وخلائق، وأخذ علم العلل والرجال عن البخاري، وروى عنه حمّاد بن شاكر، وأحمد بن حسنويه، ومحمد بن أحمد بن محبوب، وآخرون. وقد سمع منه البخاري أيضا. قال ابن حبان في «الثقات» : كان ممّن جمع وصنّف وحفظ وذاكر.
ولد سنة: - 209- مائتين وتسع- بتقديم المثناة على المهملة- قال المستغفري: مات في شهر رجب سنة: - 279- تسع- بتقديم المثناة على المهملة- وسبعين- بتقديم المهملة على الموحدة- ومائتين، فعمره سبعون سنة بتقديم المهملة على الموحدة-. (رضي الله تعالى عنه) ورحمه رحمة واسعة.
آمين.
(بعد حذف مكرّرها) أي: حذف الأحاديث المكرّرة فيها من نوع واحد بدون زيادة. (و) بعد حذف (أسانيدها) جمع إسناد؛ وهو: الإخبار عن طريق المتن، والسند: رجال المتن. وقيل: هما بمعنى وعليه جرى الجلال السيوطي في «ألفيته» حيث قال:
والسّند الإخبار عن طريق ... متن كالاسناد لدى فريق
وعبّر المصنف بالحذف الذي يكون عادة بعد الذكر!! إشعارا بأن السند مما يعتني به أرباب الإتقان، فكأنّه ذكره ثم حذف، ولو عبّر بالترك ونحوه لما فهم ذلك.
(ولم أتقيّد بترتيبه) ، أي: الترمذي، (و) لم أتقيّد بألفاظ (تبويبه) أي:
تراجم الأبواب، (بل سلكت أسلوبا غير أسلوبه) أي: طريقة غير طريقته، (وأضفت) ؛ أي: ضممت (إليها) - أي: «شمائل الترمذي» - (من كتب الأئمّة الآتي ذكرهم) زيادات (أكثر منها) ؛ أي: «الشمائل الترمذية» .
(بكثير) ؛ بحيث أن الزيادة تبلغ نحو ثلاثة أمثال «الشمائل الترمذية» .(1/74)
وألحقت بغريب الألفاظ ما تدعو إليه الحاجة من ضبط أو تفسير.
فجاء كتابا حافلا ليس له في بابه نظير.
وسمّيته: «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول» وهذا بيان الكتب الّتي نقلته منها، ورويته عنها:
1- «كتاب الشّمائل» للإمام التّرمذيّ.
2- «المصابيح» ...
(وألحقت بغريب الألفاظ) اللغوية، أي: التي هي غير مألوفة الاستعمال، أي: أتبعتها (ما تدعو إليه الحاجة من ضبط) لحروفه نحو «بالفوقية، أو التحتية» وبيان ما قد يشتبه من الحركات، (أو تفسير) أي: شرح معنى للفظ خفيّ؛ بأن يكون فيه غموض بحيث يعسر فهم معناه من مبناه إلّا للعارف، أو تكون دلالته فيها غموض، بأن يكون ذلك اللفظ مصروفا عن ظاهره لمقتض.
(فجاء) - أي: فبعد إتمامه- على الكيفية التي ذكرها صار (كتابا حافلا ليس له في بابه نظير) ، لما جمع فيه مما تفرّق في غيره؛ من صحيح الأخبار ومشهورها؛ المشتملة على شمائله وأخلاقه الحميدة وعباداته وغيرها.
(وسمّيته «وسائل الوصول) - الوسائل: جمع وسيلة؛ وهي ما يكون سببا لتحصيل شيء- (إلى شمائل الرّسول» ) صلّى الله عليه وسلم.
(وهذا بيان) أسماء (الكتب الّتي نقلته منها، ورويته عنها:
كتاب «الشّمائل» للإمام) أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) الحافظ الضرير، وقد تقدّمت ترجمته قريبا.
(المصابيح) أي: كتاب «مصابيح السنة» ، قيل: إنّ مؤلّفه لم يسمّه ب «المصابيح» نصّا منه، وإنما صار هذا الاسم علما بالغلبة من حيث إنّه قال في مقدّمتها: أما بعد؛ فهذه ألفاظ ... إلى أن قال: هن مصابيح الدجى ... الخ.
قسمه مؤلفه إلى صحاح وحسان، مريدا بالصحاح: ما أخرجه الشيخان: البخاري(1/75)
للإمام البغويّ.
3- «الإحياء» للإمام الغزاليّ.
ومسلم، أو أحدهما. وبالحسان: ما أخرجه أرباب السنن الأربعة مع الدارمي، أو بعضهم؛ وهو اصطلاح له، ولم يعيّن فيه من أخرج كلّ حديث على انفراده، ولا الصحابي الذي رواه (للإمام) ركن الدين محيي السنة: أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفرّاء (البغويّ) نسبة إلى «بغا» : قرية من قرى خراسان بين مرو وهراة، الفقيه الشافعي المحدّث المفسر صاحب المصنّفات المبارك له فيها، لقصده الصالح، المتعبّد الناسك الرباني، المولود سنة: - 436- ست وثلاثين وأربعمائة، والمتوفّى بمرو سنة: - 516- ست عشرة وخمسمائة هجرية، له كتاب «التهذيب» في الفقه الشافعي، و «شرح السنة» في الحديث، و «مصابيح السنة» في الحديث، و «الجمع بين الصحيحين» ، وتفسير «معالم التنزيل» ، وغير ذلك رحمه الله تعالى. آمين.
(الإحياء) ؛ أي «إحياء علوم الدين» الذي هو أجلّ كتب المواعظ وأعظمها، حتى قيل فيه: إنّه لو ذهبت كتب الإسلام وبقي «الإحياء» لأغنى عما ذهب.
(للإمام) حجّة الإسلام: أبي حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد (الغزاليّ) بالتخفيف للزاي في المشهور؛ نسبة إلى «غزالة» : قرية من قرى طوس، أو بتشديد الزاي [غزّالي] نسبة إلى صناعة الغزل. الشافعي، جامع أشتات العلوم، المبرز في المنطوق منها والمفهوم، من شاع ذكره في البلاد، واشتهر فضله بين العباد.
ولد ب «الطابران» : قصبة طوس بخراسان سنة: - 450- خمسين وأربعمائة، ورحل إلى نيسابور، ولازم إمام الحرمين؛ حتى برع في المذهب والخلاف والجدل والأصلين والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كلّ ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدّى للردّ على مبطليهم؛ وإبطال دعاويهم، وصنّف في كلّ فنّ من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها، وأجاد وصفها وترصيفها، ورحل إلى بغداد؛ فالحجاز؛ فبلاد الشام؛ فمصر، وكان شديد الذكاء، سديد النظر، عجيب(1/76)
4- «الشّفا» للقاضي عياض.
الفطرة، مفرط الإدراك، قويّ الحافظة، بعيد الغور، غوّاصا على المعاني الدقيقة، جبل علم، مناظرا محجاجا.
ثم عزفت نفسه عن الدنيا؛ فرفض ما فيها من التقدّم والجاه، وأخذ يجول في البلاد، ويجاهد نفسه جهاد الأبرار، ويكلّفها مشاقّ العبادات، ويبلوها بأنواع القرب والطاعات، إلى أن صار قطب الوجود؛ وتكلّم على لسان أهل الحقيقة، وحدّث بكتاب «الإحياء» ، وقد شهد له أبو العباس المرسي بالصدّيقيّة العظمى.
وكانت وفاته بطوس سنة: - 505- خمس وخمسمائة هجرية. رحمه الله تعالى.
( «الشّفا) بالتعريف بحقوق المصطفى» صلّى الله عليه وسلم، وهو كتاب عظيم النفع كثير الفائدة، لم يؤلّف مثله في الإسلام، وقد جربت قراءته لشفاء الأمراض المزمنة، وتفريج الكروب، ودفع الخطوب؛ شكر الله سعي مؤلّفه، وجازاه عليه بأتمّ الجزاء وأعظمه. ولم ينصف الذهبي في قوله: إنه محشوّ بالأحاديث الموضوعة والتأويلات الواهية الدالّة على قلّة نقده بما لا يحتاج قدر النبوة له. انتهى. نعم؛ في كتاب «الشفا» أحاديث ضعيفة، وأخرى قيل فيها: إنها موضوعة، تبع فيها «شفاء الصدور» للخطيب أبي الربيع سليمان بن سبع السبتي. والله أعلم.
(للقاضي) أبي الفضل: (عياض) بن موسى بن عياض اليحصبي نسبا؛ نسبة إلى يحصب بن مالك «قبيلة من حمير» ، السّبتي دارا وبلدا؛ نسبة إلى «سبتة» مدينة مشهورة بالمغرب، الأندلسي أصلا، المالكي مذهبا.
الإمام البارع المتفنّن، عالم المغرب، المتمكّن في علم الحديث، والأصلين، والفقه والعربية. وكان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم. وله مصنفات في كلّ نوع من العلوم المهمّة. وكان من أصحاب الأفهام الثاقبة.
وكانت ولادته في نصف شعبان سنة: - 476- ست وسبعين وأربعمائة. وقدم(1/77)
5- «التهذيب» للإمام النّوويّ.
الأندلس طالبا للعلم، وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم، وجمع من الحديث كثيرا. واستقضي ببلده مدّة طويلة حمدت سيرته فيها. ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة؛ فلم يطل أمره بها، وتوفي بمراكش سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة. ودفن بباب «ايلان» داخل المدينة. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
آمين.
(التّهذيب) ؛ أي: «تهذيب الأسماء واللّغات» جمع فيه مؤلفه الألفاظ الموجودة في «مختصر المزني» ، و «المهذّب» ، و «الوسيط» ، و «التنبيه» ، و «الوجيز» ، و «الروضة» ، وقال: إن هذه الستة تجمع ما يحتاج إليه من اللغات. وضمّ إلى ما فيها جملا مما يحتاج إليه مما فيها من أسماء الرجال والنساء والملائكة والجن وغيرهم ممن له ذكر في هذه الكتب برواية؛ أو غيرها، مسلما كان؛ أو كافرا، برّا كان؛ أو فاجرا.
ورتّبه على قسمين: الأول في الأسماء؛ وصدّره باسم النبي صلّى الله عليه وسلم والكلام على أحواله وشمائله، والثاني في اللغات. وهو كتاب جيّد في بابه مفيد مشهور.
(للإمام) الحافظ الحجّة الهادي الناس إلى المحجّة، أستاذ المتأخرين، وشيخ الإسلام والمسلمين، وقدوة الحفّاظ والمحدثين، حامل لواء مذهب الشافعي على كاهله، ومحرّر دلائله في بكره وأصائله، المتّفق على جلالته وعلوّ رتبته وولايته، وارتقاء مكانته: أبي زكريا يحيى بن شرف بن مرّي بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة الشيخ محيي الدين (النّوويّ) نسبة ل «نوى» :
قرية من قرى حوران دمشق، الشافعي، صاحب التصانيف النافعة.
ولد سنة: - 631- إحدى وثلاثين وستمائة ب «نوى» . واجتهد في جميع العلوم، واعتنى بالحديث فسمع من كثير من الشيوخ، وسمع الكتب الستة و «المسند» و «الموطّأ» و «شرح السنة» ، و «سنن الدراقطني» وأشياء كثيرة.
وتفقّه على الكمال سلّار.(1/78)
6- «الهدي النّبويّ» للإمام محمّد ابن أبي بكر الشّهير بابن قيّم الجوزيّة.
7- «الجامع الصّغير» ...
وكان حافظا للحديث وفنونه، وصحيحه وعليله، رأسا في معرفة مذهب الشافعي. وتخرّج به جماعة من العلماء؛ منهم علاء الدين بن العطّار، وحدّث عنه الحافظ المزّي، وغيرهما. وكان له الزهد والقناعة، ومتابعة السلف من أهل السنة والجماعة، والمثابرة على أنواع الخير؛ لا يصرف ساعة في غير طاعة، مع التفنّن في أصناف العلوم، فقها، ومتون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة ونحوا وصرفا وغير ذلك. وحجّ حجّتين، ونفع الله بتصانيفه في حياته وبعد وفاته.
ولم يزل على الحال المرضيّ إلى أن وافاه الحمام في الرابع والعشرين من شهر رجب الحرام سنة: - 676- ست وسبعين وستمائة. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار. آمين.
(الهدي النّبويّ) المسمى «زاد المعاد في هدي خير العباد» (للإمام) شمس الدين أبي عبد الله (محمّد بن أبي بكر) بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي (الشّهير ب «ابن قيّم الجوزيّة» ) الحنبلي العلّامة الحافظ المحدّث المصنّف المشهور.
ولد سنة: - 691- إحدى وتسعين وستمائة، وأخذ عن والده، والصفي الهندي، وابن تيمية، وبرع في جميع العلوم، وغلب عليه حبّ ابن تيمية حتّى كان لا يخرج عن شيء من أقواله؛ بل ينتصر له في جميع ذلك. وهو الذي نشر علمه بما صنّفه من التصانيف، وهو طويل النّفس في تصانيفه، يتعانى الإيضاح جهده؛ فيسهب جدّا، ومعظمها من كلام شيخه، متصرّف في ذلك، وله ملكة قوية، ولا يزال يدندن حول مفرداته، ينصرها ويحتجّ لها.
ومات في شهر رجب الحرام سنة: - 751- إحدى وخمسين وسبعمائة هجرية. رحمه الله تعالى.
( «الجامع الصّغير) في أحاديث البشير النذير» . وهو المعجم الوحيد الآن(1/79)
للإمام السّيوطيّ.
8- و «شرحه» للإمام ...
المتداول بين الناس، وهو من أكبر منن مؤلّفه على المسلمين الذي يعرفون به كلم نبيّهم، ومخرّجيها، ومظانّها، ومرتبتها في الجملة (للإمام) فخر المتأخّرين، علم أعلام الدين، خاتمة الحفّاظ والمحدّثين: أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري المصري (السّيوطيّ) الشافعي. ويقال «الأسيوطي» ؛ نسبة إلى «سيوط» . قال في «القاموس» :
«سيوط» أو «أسيوط» بضمّهما: بلدة بصعيد مصر. انتهى.
ولد سنة: - 849- تسع وأربعين وثمانمائة، ونشأ على التجرّد في العلم فجمع غالب فنونه، وكان نادرة من نوادر الإسلام في القرون الأخيرة؛ حفظا، واطّلاعا، ومشاركة، وكثرة تأليف، وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه؛ رجالا، وغريبا، ومتنا، وسندا، واستنباطا للأحكام منه. وأخذ العلم عن نحو ستمائة شيخ، وادّعى الاجتهاد، وكان يرى النبي صلّى الله عليه وسلم يقظة ويسأله عن أحاديث. وله من المصنفات نحو ستمائة.
قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في «حواشي الموطأ» : تصانيفه كلّها مشتملة على فوائد لطيفة، وفرائد شريفة، تشهد كلّها بتبحّره، وسعة نظره، ودقّة فكره، وأنه حقيق بأن يعدّ من مجدّدي الملّة المحمدية في بدء المائة العاشرة وآخر التاسعة كما ادّعاه بنفسه، وشهد بكونه حقيقا به من جاء بعده ك «علي القاري» المكي، في «المرآة» شرح «المشكاة» . انتهى.
قال العارف الشعراني: ولو لم يكن للسيوطي من الكرامات؛ إلّا إقبال الناس على تآليفه في سائر الأقطار بالكتابة والمطالعة؛ لكان في ذلك كفاية. انتهى.
وكانت وفاته في سنة: - 911- إحدى عشرة وتسعمائة هجرية. رحمه الله تعالى.
(وشرحه) المسمّى «السّراج المنير شرح الجامع الصغير» (للإمام) العالم العلّامة، الفقيه الفهّامة الشيخ: علي بن أحمد بن محمد نور الدين بن إبراهيم(1/80)
العزيزيّ.
9- «المواهب» للإمام القسطلّانيّ.
المصري (العزيزيّ) - نسبة ل «العزيزية» من الشرقية بمصر- البولاقي الشافعي المتوفى سنة: - 1070- سبعين وألف هجرية ببولاق. رحمه الله تعالى.
( «المواهب) اللدنية بالمنح المحمدية» كتاب جليل المقدار، عظيم الوقع، كثير النفع، ليس له نظير في بابه، وهو من الكتب المشهورة المخدومة. أشرقت من سطوره أنوار الأبّهة والجلالة، وقطرت من أديمه ألفاظ النبوة والرسالة، أحسن فيه ترتيبا وصنعا، وأحكمه ترصيعا ووضعا، وكساه الله فيه رداء القبول، ففاق على كثير مما سواه عند ذوي العقول. فالله يتولّى جزاءه ويرحمه رحمة واسعة. آمين.
ومما ينسب لبنت الباعوني «زوجة القسطلّاني» هذان البيتان مدحا في كتابه «المواهب» :
كتاب «المواهب» ما مثله ... كتاب جليل وكم قد جمع
إذا قال غمر: له مشبه ... يقول الورى: منك لا يستمع
(للإمام) العلّامة الحجّة الرّحلة المحدّث المسند الحافظ: شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين أحمد بن الجمال محمد بن الصفي محمد بن المجد حسين بن التاج علي الخطيب (القسطلّانيّ) بضم القاف وسكون السين وضمّ الطاء المهملة وتشديد اللّام- المصري الشافعي.
ولد سنة: - 851- إحدى وخمسين وثمانمائة بمصر، وأخذ عن الشهاب العبّادي، والبرهان العجلوني، والشيخ خالد الأزهري النّحوي، والحافظ السخاوي وغيرهم، وحجّ مرارا، وجاور بمكّة مرّتين، وكان متعفّفا جيّد القراءة للقرآن والحديث والخطابة، شجيّ الصوت، مشاركا في الفضائل، متواضعا، متودّدا، لطيف العشرة، اشتهر بالصلاح والتعفّف.
وصنّف التصانيف التي سارت بها الركبان في حياته، وأشهرها: شرحه على «البخاري» الذي هو أجمع الشروح وأحسنها من حيث الجمع وسهولة الأخذ والتكرار والإفادة. وهو للمدرّس أحسن وأقرب من «فتح الباري» وغيره، وما ألطف قول بعضهم في مدحه:(1/81)
10- «كشف الغمّة» للإمام الشّعرانيّ.
تطالبني بجمع الكتب نفسي ... وفيها لذّتا بصري وسمعي
فقلت لها: الدّفاتر ليس تحصى ... وما رمتيه يقصر عنه وسعي
نعم شرح الإمام القسطلاني ... له في النّفس وقع أيّ وقع
إذا ظفرت به كفّاي يوما ... ظفرت بمفرد يأتي بجمع
وله «منهاج الابتهاج شرح مسلم بن الحجاج» في ثمانية أجزاء؛ لم يكمل.
ومات ليلة الجمعة سابع المحرم سنة: - 923- ثلاث وعشرين وتسعمائة هجرية، ودفن بقرب الأزهر عند الإمام العيني «شارح البخاري» . رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار.
( «كشف الغمّة) عن جميع الأمّة» في الحديث. ذكر مؤلفه أنه جمعه من كتب الحفّاظ المعتمدة؛ كالستة، ومعاجم الطبراني، ومجاميع السيوطي، مرتبّا على أبواب كتب الفقه، ولم يعز فيه الأحاديث إلى مخرّجيها، وأنه لا يذكر فيه إلّا محل الاستدلال فيقول: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل كذا» أو «يسكت على كذا» أو «يقول كذا» أو «يقرّ أصحابه على كذا» . ولا يذكر القصة إلّا إذا اشتملت على موعظة؛ أو اعتبار، أو أدب. وقد خرّج أحاديثه مؤرّخ مكّة المكرّمة الشهاب أحمد الحضراوي الشافعي المتوفّى سنة: - 1327- سبع وعشرين وثلاثمائة وألف هجرية في كتاب سمّاه «سراج الأئمة» في تخريج أحاديث «كشف الغمة عن جميع الأمة» » (للإمام) الفقيه المحدّث الصوفي العارف المسلّك، العلّامة المتبحّر في علوم الشريعة والحقيقة، القطب الرباني سيدي أبي المواهب عبد الوهّاب بن أحمد بن علي (الشّعرانيّ) نسبة إلى «ساقية أبي شعرة» ؛ من قرى «المنوفية» ، ويقال: «الشعراوي» ، الشافعي الأنصاري، وذكر في بعض كتبه أنّه من ذرية محمد بن الحنفية أفضل أولاد سيدنا عليّ بعد السبطين رضي الله تعالى عنهم.
ولد سنة: - 898- ثمان وتسعين وثمانمائة في «قلقشندة» بمصر، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحبب إليه الحديث فلازم الاشتغال به، ومع ذلك لم(1/82)
11- «طبقات الأولياء» .
12- و «كنوز الحقائق» للإمام المناويّ.
يكن عنده جمود المحدّثين، وأخذ عن مائتي شيخ، وأخذ الطريق عن نحو مائة شيخ، اطّلع على سائر أدلّة المذاهب غالبا؛ المستعملة والمندرسة، وعلم استنباط كلّ مذهب منها لكثرة محفوظاته.
وتآليفه تزيد على ثلاث مائة كتاب في علوم الشريعة وآلاتها، وكان جيّد النظر، صوفي الخبر، له دراية بأقوال السلف ومذاهب الخلف، وكان مواظبا على السنّة، مجانبا للبدعة، مبالغا في الورع؛ مؤثرا لذي الفاقة على نفسه.
وتوفي في سنة: - 973- ثلاث وسبعين وتسعمائة هجرية. رحمة الله تعالى عليه.
«طبقات الأولياء» الكبرى المسمى: «الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية» ابتدأها بمقدّمة في كرامات الأولياء، ثم أتبع ذلك بثمانية أبواب في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم بالخلفاء الراشدين، يلي ذلك تراجم الصوفية: في عشر طبقات لكل مائة سنة طبقة؛ مرتبا على حروف المعجم.
( «وكنوز الحقائق) في حديث خير الخلائق» ؛ فيه عشرة آلاف حديث في عشرة كراريس، في كلّ كراسة ألف حديث، وفي كل ورقة مائة حديث، مرتّبا على حروف المعجم، لكن من غير ذكر للصحابي الراوي للحديث، وهو مشحون بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفي رموزه بعض تحريف يغلب على الظنّ أنه من النّسّاخ.
وهذان الكتابان كلاهما (للإمام) الكبير الحجة الثّبت، القدوة العلّامة الحافظ: عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الملقب «زين الدين الحدادي» (المناويّ) - بضم الميم، نسبة إلى «منية بن حصيب» - القاهري الشافعي، صاحب القلم السيّال والتصانيف السائرة، أجلّ أهل عصره من غير ارتياب.
وكان إماما فاضلا، زاهدا عابدا، قانتا لله خاشعا له، كثير النفع، وكان متقربا(1/83)
13- «حاشية الشّمائل» لشيخ مشايخي، أستاذ الأستاذين،..
يحسن العمل، مثابرا على التسبيح والأذكار، صابرا صادقا. وكان يقتصر يومه وليلته على أكلة واحدة من الطعام. وقد جمع من العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها وتباين أقسامها ما لم يجتمع في أحد ممن عاصره.
ومن مشايخه: الشمس الرملي، والشعراني، والنجم الغيطي. وحضر دروس الأستاذ سيّدي محمد البكري في التفسير والتصوف.
وكانت ولادته في سنة: - 952- اثنتين وخمسين وتسعمائة هجرية، ووفاته في صفر سنة: - 1031- إحدى وثلاثين وألف هجرية يوم الخميس، وصلّي عليه يوم الجمعة بالجامع الأزهر. رحمه الله تعالى. آمين.
(حاشية الشّمائل) الترمذية المسماة «المواهب اللّدنّية على الشّمائل المحمدية» (لشيخ مشايخي) الذين منهم الشيخ إبراهيم السّقّا، والشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ محمد شمس الدين الأنبابي، والشيخ عبد الهادي نجا الأبياري رحمهم الله تعالى. آمين.
(أستاذ الأستاذين) ، قال في «شرح القاموس» : لفظ «الأستاذ» من الألفاظ الدائرة المشهورة التي ينبغي التعرّض لها وإيضاحها؛ وإن كان أعجميا. وكون الهمزة أصلا هو الذي يقتضيه صنيع الشهاب الفيّومي، لأنه ذكره في الهمزة، وقال: الأستاذ كلمة أعجمية، ومعناها: الماهر بالشيء العظيم، وفي «شفاء العليل» : ولم يوجد في كلام جاهلي. والعامة تقوله بمعنى الخصيّ، لأنه يؤدّب الصغار غالبا.
وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتاب له سمّاه «المطرب في أشعار أهل المغرب» : الأستاذ كلمة ليست بعربية، ولا توجد في الشعر الجاهلي، واصطلحت العامة إذا عظّموا المحبوب أن يخاطبوه ب «الأستاذ» .
وإنما أخذوا ذلك من الماهر بصنعته!! لأنه ربما كان تحت يده غلمان يؤدّبهم، فكأنه أستاذ في حسن الأدب؛ حدثنا بهذا جماعة ببغداد، منهم أبو الفرج ابن(1/84)
خاتمة العلماء العاملين: الشيخ إبراهيم الباجوريّ ...
الجوزي؛ قال: سمعته من شيخنا اللّغوي أبي منصور الجواليقي في كتابه «المعرّب» من تأليفه. قاله شيخنا رحمه الله تعالى. انتهى.
(خاتمة) - أي: آخر- (العلماء العاملين) بعلمهم؛ بملازمة الاستقامة والأخذ بالعزائم حسب الاستطاعة، أي: أنّه محافظ على العمل بالعلم زيادة على غيره، فلا ينافي أن غيره من العلماء يعملون بعلمهم، ولا يخلو عالم من العمل بالعلم، ولو لم يكن من ذلك إلّا معرفته بالمعصية: أنّها معصية إذا وقع فيها، وهذا أقلّ فائدة العلم. بخلاف الجاهل، فإنه قد يفعل المعصية وهو يعتقدها طاعة يحتسب عليها الثواب؛ كالذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
قال العارف الشعراني في «البحر المورود» : كان سيّدي عليّ الخوّاص يقول:
قم لأهل العلم مطلقا، فإنّه لا يوجد لنا عالم إلّا وهو عامل بعلمه، وذلك لأنّه إذا زلّ يعرف أنّه عصى الله تعالى؛ فيستغفر الله تعالى ويندم ويتوب، فقد عمل بعلمه، ولو أنه كان جاهلا ما اهتدى للتوبة، فلولا علمه ما كان تاب، فقد نفعه علمه.
انتهى.
(الشّيخ) العلّامة: المحقّق شيخ الجامع الأزهر برهان الدين (إبراهيم) بن محمد بن أحمد (الباجوريّ) - نسبة إلى «باجور» ؛ قرية من قرى «المنوفية» بمصر-.
ولد سنة: - 1198- ثمان وتسعين ومائة وألف هجرية بمصر، ونشأبها.
وتعلّم في الأزهر فأخذ عن مشايخ كثيرين، منهم: العلّامة المحقّق الشيخ حسن القويسني، والمحقّق الشيخ محمد الفضالي، وكان من العلماء الصالحين والأئمة المحققين في سائر الفنون، وألّف المؤلفات النافعة بالعبارة القريبة السهلة مع جودة الإيضاح.
وتقلّد مشيخة الأزهر سنة: - 1263- ثلاث وستين ومائتين وألف، وتخرّج(1/85)
رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فهذه أصوله، لم يخرج عنها شيء منه. اللهمّ إلّا أن يكون ذلك في تفسير الغريب، فإنّي راجعت فيما لم أجده فيها كتب اللّغة، وذلك نزر يسير.
على يده جمع كثير من العلماء، منهم خليفته شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الأنبابي، ومنهم الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، والشيخ إبراهيم السقّا، والشيخ عبد الرحمن الشربيني.
واستمر في مشيخة الأزهر إلى أن توفي بالقاهرة سنة: - 1277- سبع وسبعين بتقديم المهملة على الموحدة- ومائتين وألف هجرية. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
(رضي الله تعالى عنهم أجمعين) ، ونفعنا بعلومهم، وأعاد علينا من فهومهم. آمين.
(فهذه) الكتب (أصوله) التي يستند إليها، والأصول: جمع أصل؛ وهو أسفل الشيء. يقال: قعد في أصل الجبل وأصل الحائط، وقلع أصل الشجرة. ثم كثر حتّى قيل: أصل كل شيء ما يستند وجود ذلك الشيء إليه. فالأب أصل للولد، والنهر أصل للجدول؛ قاله الفيومي.
(لم يخرج عنها شيء منه) يعني: أنّ ما فيه هو موجود في هذه الكتب (اللهمّ؛ إلّا أن يكون ذلك) الخارج (في تفسير الغريب) من الألفاظ بحيث لم يوجد في هذه الكتب، وذلك نادر؛ (فإنّي راجعت فيما) أي: غريب الألفاظ الذي (لم أجده) ؛ أي: لم أجد شرح معناه (فيها) أي: هذه الكتب الأصول راجعت (كتب اللّغة) ، مفعول «راجعت» ؛ أي: بحثت عن معناه في كتب اللغة ك «النهاية» لابن الأثير، و «لسان العرب» لابن منظور، (وذلك) - أي: الذي لم أجده في الأصول (نزر) - أي: قليل- (يسير) جدّا.(1/86)
وقد ذكرت في بعض «الشّمائل» اسم الصّحابيّ راوي الحديث والإمام المخرّج له، وفي بعضها اسم الصّحابيّ فقط، ولم أذكر في بعضها غير متن الحديث تابعا في جميع ذلك الأصول المذكورة.
تنبيه: تستعمل «اللهمّ» على ثلاثة أوجه؛
أحدها: النداء المحض، وهو المعروف في كتب النحو.
ثانيها: أن يذكرها المجيب تمكينا للجواب في ذهن السامع؛ نحو «اللهم نعم» ، في جواب: أزيد قائم؟ ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ نعم» . في جواب ضمام لمّا سأله بقوله: أسألك بربّك وربّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كافة؟! آلله أمرك أن تصلي هذه الصلوات؟! ... إلى آخر أسئلته. وفي كلّها يجيبه صلّى الله عليه وسلم بقوله: «اللهمّ نعم» .
الثالث: أن تستعمل دليلا على النّدرة وقلّة الوقوع؛ أو بعده، نحو: «أنا أزورك اللهم؛ إذا لم تدعني» . إذ الزيارة مع عدم الطلب قليلة. ومنه قول المؤلفين «اللهم؛ أن يقال كذا» . قيل: وهي على هذين موقوفة؛ لا معربة، ولا مبنية؛ لخروجها عن النداء. فهي غير مركّبة، لكن استظهر الصبّان بقاءها على النداء مع دلالتها على التمكين، أو الندرة، فتكون معربة كالأوّل. ولو سلّم! فيقال إنّه منادى صورة؛ فله حكمه. والله أعلم؛ قاله «الخضري على ابن عقيل» .
(وقد ذكرت في بعض) هذا الكتاب ( «الشّمائل» اسم الصّحابيّ راوي الحديث) كابن عباس وأنس وأبي هريرة (و) ذكرت (الإمام المخرّج) - بضم الميم- (له) . أي: للحديث؛ كالبخاريّ ومسلم، (و) ذكرت (في بعضها اسم الصّحابيّ فقط) بدون ذكر اسم الإمام المخرج للحديث، (ولم أذكر في بعضها غير متن الحديث) مقتصرا عليه بدون ذكر الصحابي؛ ولا غيره (تابعا في جميع ذلك الأصول) التي هي الكتب (المذكورة) آنفا. والمصنّف لم يتبع الأصول المذكورة فيما ذكر، فإنّه حذف كثيرا من أسماء الرواة المخرجين الذين وعد بهم؛ إيثارا(1/87)
[فهرست مطالب الكتاب]
وقد رتّبته على مقدّمة، ...
للاختصار ولا سيما فيما أوّله: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متّصفا بكذا؛ أو يفعل كذا. فإنه جعل ذلك أوّل الكلام وحذف اسم راوي الحديث، ومخرّجه؛ اعتمادا على ما ذكره في الخطبة من الكتب التي نقل الأحاديث منها، فيلزم حذف قوله «تابعا في جميع ذلك الأصول المذكورة» ؛ نبّه عليه المصنف رحمه الله تعالى نفسه في طرّة بعض مؤلفاته.
(وقد رتّبته) أي: الكتاب؛ أي المقصود منه بالذات، فلا ينافي أنّ الخطبة مقصودة. والترتيب- لغة-: جعل كلّ شيء في مرتبته، وعرفا-: جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى بعضها بالتقدّم والتأخر. والمراد ألّفته مرّتبا حال كونه مشتملا (على مقدّمة) : ما يذكر قبل الشروع في المقاصد، وهي بكسر الدال وفتحها، فإن كسرتها؛- وعليه اقتصر السعد في «شرحي التلخيص» - فإمّا من «قدّم» اللازم مثقّلا- من باب التفعيل- بمعنى «تقدّم» ، ومنه قوله تعالى (لا تُقَدِّمُوا) [الحجرات/ 1] !!، أي: لا تتقدموا.
وإمّا من «قدّم» المتعدي مثقّلا أيضا، والمفعول هو نفسها، لأنها اشتملت على أمور تقتضي تقديمها، أو المفعول هو قارئها وعارفها. وإن فتحت الدّال؛ فهي اسم مفعول من «قدّم» المتعدي مثقّلا أيضا. لكن الكسر أحسن؛ لإشعاره بأن التقديم لها ذاتيّ؛ لا جعلي، ولأجل هذا- والله أعلم- اقتصر عليه السعد. وصرّح الجلال المحلي في شرح «جمع الجوامع» بأن فتح الدال فيها قليل.
واعلم أنّ المقدمة؛ إمّا مقدمة علم، وإما مقدّمة كتاب.
فمقدمة الكتاب تطلق على طائفة من كلامه؛ قدّمت أمام المقصود لارتباط بها وانتفاع بها فيه.
ومقدمة العلم تطلق على أمور يتوقّف الشروع في العلم بالبصيرة على معرفتها، كحدّه، وموضوعه، وغايته؛ كما أفاده السعد في «المطوّل» و «المختصر» .
فمقدمة الكتاب: اسم للألفاظ المخصوصة الدالّة على المعاني المخصوصة،(1/88)
وثمانية أبواب، وخاتمة.
المقدّمة تشتمل على تنبيهين:
التّنبيه ...
ومقدّمة العلم: اسم للمعاني المخصوصة. فبين المقدمتين التباين، أي: باعتبار الحقيقة والتعقّل، وأما باعتبار المصدوق الخارجي، فبينهما العموم والخصوص بإطلاق، فمقدّمة العلم أعمّ، فكل مقدّمة علم فهي مقدمة كتاب، ولا عكس.
فمقدّمة كتابنا هذا هي مقدّمة علم، لأنه ينتفع بها في هذا الكتاب وغيره من كلّ ما ألّف في فنه، وهي مقدمة كتاب أيضا، لأن هذا الكتاب مؤلّف في ذلك الفن الذي جعلت مقدمة له.
ومقدمة الإمام النووي في «المنهاج» الذي أشار لها بقوله: فحيث أقول «في الأظهر» أو «المشهور» فمن القولين أو الأقوال.. الخ ما قال، هي مقدمة كتاب فقط، لأنه إنما ينتفع بها في ذلك الكتاب الذي هو «المنهاج» ، ولا ينتفع بها في غيره من الكتب المؤلفة في فن الفقه، إذ لم يلتزم فيها اصطلاح «المنهاج» ، وهناك أبحاث تتعلّق بنسبة ما بين المقدمتين فراجعها إن شئت.
(وثمانية أبواب) عدد أبواب الجنة، وحريّ به أن يقال فيه:
هذا الكتاب جنّة ... أبوابها ثمانيه
أما تراها وهي لا ... تسمع فيها لاغيه!!
(وخاتمة) ، الخاتمة- في الأصل-: وصف؛ أي مسائل خاتمة. لكن صارت علما بالشخص على المسائل المذكورة فيها.
(المقدّمة) المذكورة- ف «أل» للعهد الذكري- (تشمل) أي: تحتوي (على تنبيهين) اثنين.
(التّنبيه) هو- لغة-: الإيقاظ. وقال الجرجاني: هو- لغة-: الدلالة عما غفل عنه المخاطب. وفي الاصطلاح-: ما يفهم من مجمل بأدنى تأمّل إعلاما بما(1/89)
الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل.
والتّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم.
الباب الأوّل: في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسمائه الشّريفة، وفيه فصلان:
الفصل الأوّل: في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الثّاني: في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم.
الباب الثّاني: في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبها من أوصافه الشّريفة، وفيه عشرة فصول:
في ضمير المتكلّم للمخاطب. وقيل: التنبيه قاعدة تعرف بها الأبحاث الآتية مجملة. انتهى.
(الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل) لغة واستعمالا. (والتّنبيه الثّاني: في) ذكر (الفوائد المقصودة) بالذّات (من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلم) ، ليكون ذلك من أكبر الدواعي إلى صرف العناية إليها، والاهتمام بها.
(الباب الأوّل: في) ذكر (نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسمائه الشّريفة) المنبئة عن كمال أخلاقه المنيفة، (وفيه) أي: هذا الباب (فصلان:
الفصل الأوّل: في) ذكر (نسبه الشّريف) الذي طهّره الله من سفاح الجاهلية، والذي هو أشرف الأنساب، فهو (صلّى الله عليه وسلم) سلالة آباء كرام.
(الفصل الثّاني: في) ذكر (أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلم) مع ذكر من اعتنى بجمعها وألّف فيها من العلماء.
(الباب الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: كون أجزاء بدنه تامّة معتدلة المقادير، (وما يناسبها من أوصافه الشّريفة) القائمة به، (وفيه عشرة فصول:(1/90)
- الفصل الأوّل: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها.
الفصل الثّاني: في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله.
الفصل الثّالث: في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم وشيبه وخضابه، وما يتعلّق بذلك.
الفصل الرّابع: في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة.
الفصل الخامس: في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه.
الفصل السّادس: في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الأوّل: في) ذكر (جمال صورته) ؛ أي: حسنها الظاهر في جسده بتناسب أعضائه، وصفاء لونه، واعتدال قدّه (صلّى الله عليه وسلم وما شاكلها) . وقيل: المراد حسن وجهه، وحسن الصورة أمر محمود يدلّ على حسن السريرة، ويمدح به كمّل الرجال.
(الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة بصره صلّى الله عليه وسلم) ، لكونه يرى من خلفه كما يرى من أمامه؛ ونحو ذلك. (و) بيان صفة (اكتحاله) ؛ أي:
استعماله الكحل. وما يتعلّق بذلك.
(الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة شعره صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: مقداره؛ طولا، وكثرة، وغير ذلك. (و) في بيان ما ورد في (شيبه وخضابه) أي: تلوين الشعر، (وما يتعلّق بذلك) من الترجيل والادّهان.
(الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة عرقه) - بفتح العين والراء- أي: رشح بدنه (صلّى الله عليه وسلم) لونا وريحا وكثرة. (و) صفة (رائحته الطّبيعيّة) من غير أن يمس طيبا.
(الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة طيبه صلّى الله عليه وسلم وتطيّبه) ؛ أي:
استعماله الطّيب وما يلحق بذلك.
(الفصل السّادس: في) بيان ما ورد في (صفة صوته صلّى الله عليه وسلم) من كونه حسنا يبلغ حيث لا يبلغ صوت غيره.(1/91)
- الفصل السابع: في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره.
الفصل الثّامن: في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه.
الفصل التّاسع: في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته.
الفصل العاشر: في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم.
الباب الثّالث: في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه، وفيه ستّة فصول:
(الفصل السّابع: في) بيان ما ورد في (صفة غضبه صلّى الله عليه وسلم وسروره) ، من كونه يرى رضاه وغضبه في وجهه؛ فصفاء بشرته، وكونه إذا غضب احمرّت وجنتاه ...
ونحو ذلك.
(الفصل الثّامن: في) بيان ما ورد في (صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلم) ؛ لكونه جلّ ضحكه التبسّم، (وبكائه) ؛ من كونه ليس بشهيق ورفع صوت، بل بدمع العين، (وعطاسه) - بضم العين المهملة: على وزن غراب-.
(الفصل التّاسع: في) بيان ما ورد في (صفة كلامه صلّى الله عليه وسلم) أي: تكلّمه، أو ما يتكلّم به، ويصحّ إرادة كلّ منهما، (و) صفة (سكوته) ككونه كثير السكوت لا يتكلّم في غير حاجة ونحو ذلك.
(الفصل العاشر: في) بيان ما ورد في (صفة قوّته) واحدة القوى، مثل غرفة وغرف، وذلك ككونه (صلّى الله عليه وسلم) تامّ القوة في الجماع وغيره، شديد البطش عند الاحتياج إلى ذلك.
(الباب الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم) من قميص وإزار وعمامة وغيرها، (و) صفة (فراشه) - بكسر الفاء- وخاتمه ونعله، (و) في صفة (سلاحه) - بكسر السين- كالحربة والرمح والسيف، (وفيه ستّة فصول:(1/92)
- الفصل الأوّل: في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم؛ من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها.
الفصل الثّاني: في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبه.
الفصل الثّالث: في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الرّابع: في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه.
(الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة لباسه صلّى الله عليه وسلم) - بوزن كتاب-:
ما يلبس.
(من قميص) : اسم لما يلبس من المخيط الذي له كمّان وجيب ويسلك به في العنق، (وإزار) : ما يستر أسفل البدن، (ورداء) : ما يستر أعلاه.
(وقلنسوة) - بفتح القاف واللام؛ وسكون النون، وضمّ المهملة، وفتح الواو-: غشاء مبطّن يستر الرأس، ويقال لها في عرفنا: «طاقيّة» ؛ أو «كوفيّة» ، (وعمامة) : كلّ ما يلف على الرأس (ونحوها) ، أي: المذكورات: كجبّة، وبرد.
(الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة فراشه صلّى الله عليه وسلم) - بكسر الفاء- بمعنى مفروش؛ ك «كتاب» بمعنى مكتوب، وهو: اسم لما يفرش كاللباس لما يلبس.
(و) ذكر (ما يناسبه) ؛ أي: الفراش كالوسادة والدّثار.
(الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة خاتمه) - بفتح التاء وكسرها- وفيه صفة تختّمه (صلّى الله عليه وسلم) ، أي: لبسه الخاتم. والمراد بالخاتم: الطابع الذي كان يختم به الكتب، لا خاتم النبوة، فإنّه البضعة الناشرة بين كتفيه، وليس مرادا هنا.
(الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة نعله صلّى الله عليه وسلم) وكيفية لبسه إياها، والنعل: كلّ ما وقيت به القدم عن الأرض، وهو مؤنث، وربّما ذكّر باعتبار الملبوس، لأنّ تأنيثه غير حقيقي. والنعل لا يشمل الخفّ عرفا؛ فلذلك أفرده بترجمة؛ فقال: (و) في بيان ما ورد في صفة (خفّه) صلّى الله عليه وسلم، والخفّ معروف،(1/93)
- الفصل الخامس: في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل السّادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه.
الباب الرّابع: في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه ونومه، وفيه ستّة فصول:
الفصل الأوّل: في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه.
جمعه: خفاف؛ ك «رمح ورماح» .
(الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلم) والسلاح: آلة الحرب، فكلّ عدّة للحرب فهو سلاح، ويطلق السلاح على السيف وحده.
(الفصل السّادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلم أن يسمّي سلاحه) ، كدرعه «ذات الفضول» و «ذات الوشاح» . (و) أن يسمّي (دوابّه) ؛ جمع دابّة، وهي لغة-: كلّ ما يدبّ على الأرض، خصّها العرف العامّ بذوات الأربع، (و) أن يسمّي (متاعه) المتاع- في اللغة-: كلّ ما ينتفع به؛ كالطعام والبز، وأثاث البيت. وأصل المتاع: ما يتبلغ به من الزاد، وهو اسم من «متّعته» بالتثقيل: إذا أعطيته ذلك، والجمع أمتعة.
(الباب الرّابع) من الكتاب (في) بيان ما ورد في (صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وإدامه، والأكل- بفتح الهمزة-: إدخال الطعام الجامد من الفم إلى البطن، سواء كان بقصد التغذّي، أو غيره كالتفكّه. (و) بيان ما ورد في صفة (شربه) أي:
كيفية شربه، وفيه ذكر شرابه. (و) بيان ما ورد في صفة (نومه) صلّى الله عليه وسلم، والنوم:
حالة طبيعية تتعطّل معها القوى تسير في البخار إلى الدماغ. (وفيه ستّة فصول) ستأتي.
(الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة عيشه صلّى الله عليه وسلم) أي: كيفية معيشته حال حياته إلى وقت مماته. (و) في بيان ما ورد في صفة (خبزه) - بضم الخاء(1/94)
- الفصل الثّاني: في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه.
الفصل الثّالث: فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطّعام وبعده.
الفصل الرّابع: في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الخامس: في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه.
الفصل السّادس: في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم.
المعجمة وإسكان الباء-: الشيء المخبوز، أي اسم ما يؤكل من نحو برّ.
(الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة أكله صلّى الله عليه وسلم) من الأخباز، (و) في بيان ما ورد في (إدامه) صلّى الله عليه وسلم، والإدام- بكسر الهمزة-: ما يساغ به الخبز ويصلح به الطعام، فيشمل الجامد كاللحم والجبن بحسب اللغة؛ لا العرف.
(الفصل الثّالث: فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: في بيان الأخبار الواردة في الذكر الذي كان يقوله صلّى الله عليه وسلم (قبل الطّعام) ؛ وهو التسمية، (وبعده) ؛ أي: بعد الفراغ من الطعام، وهو الحمدلة، ومثل الطعام الشراب.
(الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلم) والفاكهة: ما يتفكّه أي: يتنعّم ويتلذّذ- بأكله؛ رطبا كان أو يابسا، كتين وعنب ورطب وزبيب ورمّان وبطّيخ.
(الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة شرابه صلّى الله عليه وسلم) ، والشراب:
ما يشرب من المائعات. وفي هذا الفصل بيان الأحاديث التي فيها كيفية شربه صلّى الله عليه وسلم.
قال في «المصباح» : الشّرب مخصوص بالمصّ حقيقة، ويطلق على غيره مجازا.
(و) في بيان ما ورد في (قدحه) صلّى الله عليه وسلم. والقدح- بفتحتين-: ما يشرب فيه، وهو إناء لا صغير ولا كبير، وجمعه: أقداح؛ ك «سبب وأسباب» .
(الفصل السّادس: في) بيان ما ورد في (صفة نومه صلّى الله عليه وسلم) ؛ من كونه على اليمين، أو غيره، وقدره ووقته، وما يرقد عليه، وما كان يفعله قبل النوم وبعده.(1/95)
الباب الخامس: في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته وصدقه، وحيائه ومزاحه، وتواضعه وجلوسه، وكرمه وشجاعته، ...
(الباب الخامس) من الكتاب (في) بيان ما ورد في (صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - بضم الخاء واللام-: الطبع والسجيّة، وهو اسم للأوصاف الباطنة.
(وحلمه) - بكسر الحاء المهملة- قال في «الشفاء» : هو حالة توقّر وثبات عند الأسباب المحركات. (و) صفة (عشرته) - بكسر العين المهملة-: اسم من المعاشرة والتعاشر؛ وهي المخالطة (مع نسائه) وغيرهم، (و) في صفة (أمانته) في كلّ شيء يحفظه. (و) صفة (صدقه) وهو: مطابقة خبره للواقع، (و) صفة (حيائه) . قال القاضي عياض في «الشفاء» : الحياء رقّة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقّع كراهته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله. (و) صفة (مزاحه) - بكسر أوله- مصدر مازحه وهو: الانبساط مع الغير من غير إيذاء له فيتولّد منه الضحك. (و) صفة (تواضعه) - بضم الضاد المعجمة-: هضم النفس. قال ملا علي قاري: وهو من الملكات المورثة للمحبّة الربانية والمودّة الإنسانية. انتهى. قال بعضهم: ومعنى التواضع عند المحققين: أن لا يرى العبد لنفسه قدرا ولا قيمة ولا مزية، ويرى الحال التي هو فيها أعظم من أن يستحقّها.
(و) صفة (جلوسه) ؛ أي: من كونه على شبه الحبوة، وإلى القبلة، وصفة جلوسه مع أصحابه، ونحو ذلك. (و) صفة (كرمه) - بفتح أوّليه- قال في «الشفاء» : هو الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه. انتهى. أي: فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقلّ نفعه. (و) صفة (شجاعته) - مثلث الشين-؛ مصدر شجع- بالضمّ- شجاعة، وهي- كما قال الشامي-: انقياد النفس مع قوة غضبيّة، وملكة يصدر عنها انقيادها في إقدامها مقدرته على ما ينبغي في زمن ينبغي وحال ينبغي. انتهى.
والشّجاع- بالضم-: الشديد القلب عند البأس، المستهين بالحروب.(1/96)
وفيه ستّة فصول:
الفصل الأوّل: في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه.
الفصل الثّاني: في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ.
(وفيه) - أي: هذا الباب- (ستّة فصول) ستأتي:
(الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة خلقه صلّى الله عليه وسلم) - بضمتين- حقيقته أنّه صورة الإنسان الباطنة؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، المختصّة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع؛ قاله في «النهاية» .
(و) صفة (حلمه) - بكسر الحاء المهملة- قال الخفاجي: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب، وعدم إظهاره. انتهى.
واعلم أنّ الحلم من أصحّ السّمات على محمود الصفات، وهو يدرك بالتخلّق وحمل النفس عليه، فهو مكتسب؛ كما يدلّ عليه الحديث: «إنّما العلم بالتّعلّم، وإنّما الحلم بالتّحلّم» . وقال علي رضي الله عنه: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد.
وللحلم عشرة أسباب: رحمة الجهّال، والقدرة على المعفو عنه، والترفّع شرفا وعلوّ همّة، والاستهانة أنفة وعجبا، والحياء، والفضل، والاستكفاف أي: جعل السكوت والصبر سببا لكفّ الجاهل، وخوف العقوبة؛ إما لضعف نفس، أو لرأي وحزم، ورعاية نعمة أو حرمة، وتوقع الفرصة دهاء ومكرا. فإن خلا الحلم عن هذه الأسباب كلّها كان ذلّا. وكلّ واحد منها يحمل على عدم الانتقام في الحال؛ أو دواما.
(الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة عشرته صلّى الله عليه وسلم مع نسائه) : أزواجه وغيرهن (رضي الله تعالى عنهنّ) ، وقد كان حسن العشرة معهنّ رضوان الله عليهن.(1/97)
- الفصل الثّالث: في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه.
الفصل الرّابع: في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلّم ومزاحه.
الفصل الخامس: في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه.
الفصل السّادس: في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم ...
(الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة أمانته صلّى الله عليه وسلم) في كلّ شيء، وكونه موثوقا به في أموال الناس وأحوالهم، (و) مما ورد في (صدقه) صلّى الله عليه وسلم؛ وهو مطابقة خبره للواقع.
(الفصل الرّابع: في) بيان ما ورد في (صفة حيائه صلّى الله عليه وسلم) ، والحياء هنا بالمدّ. وأمّا بالقصر! فهو بمعنى: المطر. والممدود معناه- في الشرع-: خلق يبعث- أي: يحمل- من قام به على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ. (و) صفة (مزاحه) - بكسر أوّله مصدر مازحه؛ فهو بمعنى الممازحة- وهو الانبساط مع الغير من غير إيذاء له. وبه فارق الاستهزاء والسخرية.
(الفصل الخامس: في) بيان ما ورد في (صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلم) - بضمّ الضاد المعجمة-: أي تذلّله وخشوعه؛ قاله الباجوري. وقال ابن القيم: التواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلّ والرحمة للخلق حتى لا يرى له على أحد فضلا، ولا يرى له عند أحد حقّا، بل ويرى الحقّ لذلك الأحد. انتهى؛ نقله الزرقاني. (و) صفة (جلوسه) ككونه محتبيا، ومتوفّرا، ومستقبل القبلة، ونحو ذلك.
(الفصل السّادس: في) بيان ما ورد في (صفة كرمه صلّى الله عليه وسلم) ، والكرم والجود والسخاء معانيها متقاربة، وبعضهم جعل بينها فرقا؛ فقال:
الكرم- بفتحتين-: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره.
والجود: إعطاء ما ينبغي شرعا لمن ينبغي أن يعطى؛ لاستحقاقه لأجل الصفة القائمة به؛ كالفقر.(1/98)
وشجاعته.
الباب السّادس: في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته. وصومه، وقراءته، وفيه ثلاثة فصول.
الفصل الأوّل: في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته.
الفصل الثّاني: في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم.
والسّخاء: سهولة الإنفاق، وتجنّب اكتساب ما لا يحمد من الصنائع المذمومة؛ كالحجامة، وأكل ما لا يحلّ، مأخوذ من الأرض السّخاويّة؛ وهي الرخوة اللينة، ولذا وصف الله تعالى ب «جواد» دون «سخي» . وقيل- في الثلاثة- غير ما ذكرنا. والله أعلم.
(و) في بيان ما ورد في صفة (شجاعته) - مثلث الشين المعجمة-: مصدر شجع- بالضمّ- شجاعة؛ فهو شجيع وشجاع- بضم الشين- وبنو عقيل تفتحها؛ حملا على نقيضه، وهو جبان. وبعضهم كسرها للتخفيف؛ فرارا من توالي حركات متوالية من جنس واحد.
(الباب السّادس) من الكتاب (في) بيان ما ورد في (صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) قال الباجوري: العبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلّل. وتعورفت في الشرع فيما جعل علامة على ذلك؛ من صلاة وصوم وجهاد وقراءة وغير ذلك. انتهى.
والمراد بالعبادة هنا: ما هو أعمّ من العبادات الظاهرة والباطنة؛ كالتفكّر والخوف والخشية، فلذا عطف عليها قوله (و) صفة (صلاته) ، من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام، لأنها عمود الإسلام، وكذا قوله (و) صفة (صومه وقراءته) صلّى الله عليه وسلم، (وفيه) أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) يأتي بيانها:
(الفصل الأوّل: في) بيان ما ورد في (صفة عبادته صلّى الله عليه وسلم) - بكسر العين وتخفيف الموحدة- (و) صفة (صلاته) النافلة كمّا وكيفا.
(الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (صفة صومه صلّى الله عليه وسلم) ، والصوم والصيام(1/99)
- الفصل الثّالث: في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم.
الباب السّابع: في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعض أذكار وأدعية كان يقولها في أوقات مخصوصة، وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم، كلاهما مصدر ل «صام» ؛ فهما بمعنى واحد، وهو- لغة-: الإمساك؛ ولو عن الكلام، وشرعا-: الإمساك عن المفطّرات جميع النهار بنيّة، والمراد به هنا ما يشمل الفرض والنفل.
(الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (صفة قراءته صلّى الله عليه وسلم) للقرآن. والمراد بصفة القراءة: الترتيل، والمدّ، والوقف، والإسرار، والإعلان، والترجيع وغيرها.
(الباب السّابع) من الكتاب (في) ذكر (أخبار) - بالتنوين- جمع خبر؛ وهو مرادف للحديث. وقيل: الحديث ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، والخبر: ما جاء عن غيره، ومن ثمّ قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها «الأخباري» ، ولمن يشتغل بالسنة النبوية «المحدّث» . (شتّى) - بتشديد المثناة الفوقية-: جمع شتيت؛ ك (مريض ومرضى) ، أي: متفرّقة مختلفة (من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) كالكلام على فضلاته وريقه، وكونه ولد مختونا، (و) في ذكر (بعض أذكار) بالتنوين جمع ذكر- وهو لغة: كلّ مذكور، وشرعا: قول سيق لثناء؛ أو دعاء. وقد يستعمل شرعا أيضا لكلّ قول يثاب قائله. (و) ذكر بعض (أدعية) جمع دعاء، وهو: الطلب على سبيل التضرّع. وقيل: رفع الحاجات إلى رافع الدرجات.
(كان يقولها) ؛ أي: هذه الأذكار والأدعية (في أوقات) وحالات (مخصوصة) ؛ كعند رؤية الهلال، وسماع الرعد، وإذا عصفت الرياح، ونحو ذلك، (و) في ذكر (ثلاث مائة وثلاثة عشر حديثا) مرتّبة على حروف المعجم.
وخصّ هذا العدد! لأنه عدّة أصحاب طالوت، وعدّة أهل بدر رضوان الله عليهم (من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ من إضافة الصفة للموصوف، أي: كلمه الجوامع،(1/100)
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الثّاني: في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة.
الفصل الثّالث: في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم.
الباب الثّامن: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه ووفاته، ورؤيته وهي ما قلّ لفظه وكثر معناه، أو التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة.
(وفيه) ؛ أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) تأتي:
(الفصل الأوّل: في) ذكر (أخبار شتّى) ؛ أي: مختلفة (من أحواله صلّى الله عليه وسلم) القولية والفعلية والخلقية.
(الفصل الثّاني: في) ذكر (بعض أذكار وأدعية) - بالتنوين- جمع دعاء، وهو أفضل من تركه عند جمهور العلماء، ومن أعظم العبادات (كان يقولها) ؛ أي: هذه الأذكار والأدعية النبي (صلّى الله عليه وسلم في أوقات) وحالات (مخصوصة) ؛ كالصباح والمساء، وعند الكرب، وعند الخروج من بيته، ونحو ذلك.
(الفصل الثّالث: في) ذكر (ثلاث مائة وثلاثة عشر حديثا) - تقريبا- (من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: كلمه الجوامع للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة بنظم لطيف لا يعثر الفكر في طلبه، ولا يلتوي الذهن في فهمه.
(الباب الثّامن) من الكتاب؛ وهو آخر الأبواب (في) بيان الأحاديث الواردة في (طبّه) - بكسر الطاء- اسم مصدر؛ من طبّه طبّا- بالفتح- إذا داواه، والمراد بيان ما يتداوى به (صلّى الله عليه وسلم) من الأمراض البدنية، (و) بيان الأحاديث الواردة في (سنّة) أي: مقدار عمره الشريف، (و) في (وفاته) أي: تمام أجله، (و) في (رؤيته)(1/101)
في المنام، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم.
الفصل الثّاني: في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته.
الفصل الثّالث: في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام.
الخاتمة: تشتمل على خمسين حديثا، أكثرها صحاح
الرؤية- التي بالتاء- تشمل: رؤية البصر في اليقظة، ورؤية القلب، ولهذا احتاج المصنف إلى تقييدها بقوله (في المنام) ، أمّا التي بالألف! فهي خاصّة برؤية القلب في المنام، وقد تستعمل في رؤية البصر أيضا. (وفيه) أي: هذا الباب (ثلاثة فصول) تأتي:
(الفصل الأوّل: في) ذكر شيء من الأحاديث الواردة في (طبّه صلّى الله عليه وسلم) الذي تطبّب به، والذي وصفه لغيره؛ سواء كان طبّا روحانيا؛ أو جسمانيا.
(الفصل الثّاني: في) بيان ما ورد في (سنّه صلّى الله عليه وسلم) أي: مقدار عمره الشريف، والسّنّ بهذا المعنى مؤنّثة؛ لأنها بمعنى المدّة، (و) بيان ما ورد في (وفاته) ؛ أي: تمام أجله الشريف، فإن الوفاة- بفتح الواو- مصدر «وفى؛ يفي» بالتخفيف، أي: تمّ أجله. وهذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان.
(الفصل الثّالث: في) بيان ما ورد في (رؤيته صلّى الله عليه وسلم في المنام) ، مذهب أهل السنة أنّ حقيقة الرؤيا اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب النائم كما يخلقها في قلب اليقظان؛ يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة.
(الخاتمة) المذكورة، ف «أل» فيها للعهد الذكري (تشتمل على خمسين) هكذا ذكر هنا في الخطبة أنّها خمسون، لكن زاد عليها المصنّف عشرين حديثا؛ فكان المجموع سبعين- (حديثا، أكثرها صحاح) - جمع صحيح-؛ وهو:
الحديث الذي رواه العدل الضابط ضبطا تامّا عن مثله إلى منتهاه؛ من غير شذوذ(1/102)
وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم.
وأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجعل هذا الكتاب من أفضل الحسنات الجاري نفعها في الحياة وبعد الممات، ...
ولا علّة قادحة. (وحسان) جمع حسن؛ وهو: الحديث الذي رواه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علّة قادحة، فالحسن مساو للصحيح في التعريف والشروط. فكلّ ما يشترط في الحديث الصحيح يشترط في الحديث الحسن؛ إلّا الضّبط، فإنّه يشترط في الصحيح الضبط التامّ، ولا يشترط في الحسن إلّا مطلق الضبط. (من أدعيته) الواردة عنه (صلّى الله عليه وسلم) ؛ منقسمة إلى قسمين: استعاذات، ودعوات؛ معتبرا فيها أوّل الحديث، فما كان استعاذة جعل في القسم الأول، وما كان دعاء جعل في القسم الثاني. وافتتحها بالدّعوات القرآنية.
(وأسأل الله العظيم) البالغ أقصى مراتب العظمة؛ وهو الذي لا يتصوّره عقل، ولا يحيط بكنهه بصر، فلا يتعاظمه مسؤول؛ وإن عظم، ومنه مطلوب المصنّف؛ وهو كون كتابه من الحسنات الجارية؛ أي: المستمر ثوابها في حياته وبعد موته.،
(ربّ العرش الكريم) - بالجرّ- نعت للعرش، ويجوز نصبه؛ نعتا لله سبحانه.
ومن وسعت ربوبيّته العرش الذي وسع المخلوقات بأسرهم جدير بأن يعطي المصنّف مطلوبه، وينيله مرغوبه، وهو قوله (أن يجعل هذا الكتاب) «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم» (من أفضل الحسنات؛ الجاري) ؛ أي: المستمر (نفعها) للناس وللمصنّف (في الحياة) الدّنيا، ومعنى النفع في حقّ المؤلف في الدنيا: أن يتذكّر بها، ومعنى النفع في حقّ الناس في الدنيا: هو أن يلهمهم الله الاشتغال بها تعلّما وتعليما، وأن يوفّقهم للعمل بما فيها. (و) معنى النفع للناس وللمصنّف (بعد الممات) : أن تكون سببا لحلولهم في دار النعيم. أخرج الطبراني في «الكبير» : «ما من قوم يجتمعون على كتاب الله تعالى يتعاطونه بينهم إلّا كانوا أضيافا لله تعالى؛ وإلّا حفّتهم الملائكة حتّى يقوموا، أو يخوضوا في حديث غيره،(1/103)
بجاه نبيّه سيّد الرّسل الكرام، عليه وعليهم الصّلاة والسّلام.
وما من عالم يخرج في طلب علم؛ مخافة أن يموت، أو ينسخه؛ مخافة أن يدرس! إلّا كان كالغادي الرّائح في سبيل الله، ومن بطؤ به عمله لم يسرع به نسبه» .
وفي هذا الحديث وأمثاله؛ كحديث مسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية- أي: وهي الوقف- أو علم ينتفع به، أو ولد صالح «أي: مسلم» - يدعو له» . وكالأحاديث فيمن سنّ سنة حسنة؛ أو سيئة.
بشرى عظيمة لمن نسخ علما نافعا؛ وهي أنّه يكون له أجره، وأجر من قرأه، أو نسخه، أو عمل به من بعده ما بقي خطّه والعمل به، وإنذار عظيم لمن نسخ علما فيه إثم؛ وهو أنّ عليه وزره، ووزر من قرأه، أو نسخه، أو عمل به بعده ما بقي خطّه والعمل به. انتهى؛ ذكره ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» في «الكبيرة الثامنة والتاسعة والأربعين» . والله أعلم.
(بجاه نبيّه سيّد الرّسل الكرام) أي: أتوسّل بما له صلّى الله عليه وسلم من المنزلة والحظّ والرتبة عند الله سبحانه وتعالى، إذ هو صلّى الله عليه وسلم سيّد أهل الوجاهة، وأفضل السّادات الذين هم الرّسل الكرام (عليه وعليهم الصّلاة والسّلام) ، وآل كلّ وأصحابه الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيام. آمين.(1/104)
[المقدّمة: وهي تشتمل على تنبيهين]
المقدّمة: وهي تشتمل على تنبيهين
[التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل]
التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل هي في الأصل: الأخلاق والطّبائع.
قال في «القاموس» : (الشّمال: الطّبع، والجمع: شمائل) اهـ وقال في «لسان العرب» : (مفردها: شمال؛ بكسر الشّين.
قال جرير:
(المقدّمة) - بكسر الدّال- أي: المقدّمة نفسها، لأنّها اشتملت على أمور تقتضي تقديمها، وقد سبق فيما قرّرناه أنها مقدّمة علم؛ لأنها ينتفع بها في هذا الكتاب وفي غيره من كلّ ما ألّف في فنّ الشمائل، وهي مقدّمة كتاب أيضا؛ لأن هذا الكتاب مؤلّف في ذلك الفنّ الذي جعلت مقدّمة له.
(وهي) - أي: هذه المقدّمة- (تشتمل) أي: تحتوي (على تنبيهين:
التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل) في اللغة، (هي في الأصل) أي:
أصل معنى الشمائل- لغة-: (الأخلاق) ؛ جمع: خلق- بسكون اللام وضمّها- (والطّبائع) جمع: طبيعة، وهي الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان.
(قال) أي: المجد الفيروز آبادي (في) كتاب ( «القاموس) المحيط» شاهدا على ما قاله المصنف: (الشّمال) - بكسر الشين-: (الطّبع) والخلق، (والجمع شمائل. انتهى.) كلام «القاموس» . وقال الراغب: قيل للخليقة شمال لكونه مشتملا على الإنسان اشتمال الشمال على البدن. ومن سجعات «الأساس» : ليس من شمائلي وشمالي أن أعمل بشمالي.
(وقال) ؛ أي: ابن منظور (في) كتاب ( «لسان العرب» ) في مادة (شمل) شاهدا لما قاله المصنف: (مفردها) - أي: مفرد الشّمائل- (شمال- بكسر الشّين) المعجمة-: (قال جرير) بن عطيّة بن حذيفة الخطفى بن بدر الكلبي(1/105)
..
وما لومي أخي من شماليا
وقال صخر أخو الخنساء:
اليربوعي؛ من تميم. أشعر أهل عصره.
ولد سنة: - 28- ثمان وعشرين، ومات سنة: - 110- مائة وعشر في اليمامة، وعاش عمره كلّه يناضل شعراء زمنه ويساجلهم، وكان هجّاء مرّا؛ فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وكان عفيفا، وهو من أغزل الناس شعرا، وقد جمعت نقائضه مع الفرزدق وطبعت في ثلاثة أجزاء. وديوان شعره مطبوع في جزأين. وأخباره مع الشعراء وغيرهم كثيرة جدّا، وكان يكنى ب «أبي حزرة» . انتهى.
وقد نسب هذا البيت في «شرح القاموس» لعبد يغوث بن وقّاص الحارثي؛ تبعا لابن برّي وغيره وهو:
ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليل (وما لومي أخي من شماليا)
يجوز أن يكون واحدا؛ أي: من طبعي، وأن يكون جمعا؛ من باب «هجان «1» ودلاص» ؛ أي: يستوي فيه المذكّر والمؤنّث؛ والجمع والواحد، أو تقديره: من شمائلي فقلب.
(وقال صخر) بن عمرو بن الشرّيد السّلمي: قتل في الجاهلية؛ وهو (أخو الخنساء:) الصحابيّة الشاعرة، واسمها: تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية السّلمية، من بني سليم من قيس عيلان؛ من مضر، أجمعوا على أنه لم تكن امرأة أشعر منها على الإطلاق من أهل نجد، عاشت أكثر عمرها في العهد الجاهلي، وأدركت الإسلام فأسلمت، ووفدت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع قومها بني سليم، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستنشدها ويعجبه شعرها، فكانت تنشد؛ وهو يقول: «هيه يا خنساء» . أكثر شعرها وأجوده رثاؤها لأخويها صخر ومعاوية، وكانا قد قتلا في الجاهلية. لها ديوان شعر طبع فيه ما بقي محفوظا من شعرها.
روي أنها شهدت حرب القادسية سنة ستّ عشرة ومعها أربعة بنين لها؛ فلم تزل
__________
(1) ورد في هامش (اللحجي) : هجان ككتاب: الخيار من كل شيء. ودلاص ككتاب أيضا: ملساء لينة. يستوي فيه الواحد والجمع.(1/106)
أبا الشّتم إنّي قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
وقال آخر:
هم قومي وقد أنكرت منهم ... شمائل بدّلوها من شمالي
تحضّهم على القتال وتذكر لهم الجنّة بكلام فصيح؛ فأبلوا يومئذ بلاء حسنا واستشهدوا. فكان عمر رضي الله تعالى عنه يعطيها أرزاقهم.
(أبا الشّتم) - في «شرح القاموس» : أبا الفخر- (إنّي قد أصابوا كريمتي) ؛ أي: فجعوني بها. وعنى بقوله «كريمتي» أخاه معاوية بن عمرو؛ إذ قتله الأعداء. يريد أنه حسيب، لأن من معاني الكريمة: الحسيب، يقال: هو كريمة قومه. قال الشاعر:
وأرى كريمك لا كريمة دونه ... وأرى بلادك منقع الأجواد
وفي الحديث: «إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه» أي: كريم قوم.
(وأن) - مخفّفة من الثقيلة- واسمها: ضمير الشأن محذوف؛ أي: أنّه (ليس إهداء) - أي: إرسال- (الخنا) - بفتح الخاء المعجمة-: فاحش الكلام (من شماليا) ، أي: من أخلاقي وطباعي.
(وقال) شاعر (آخر) - بفتح الخاء المعجمة- بمعنى مغاير. أمّا بكسر الخاء؛ فهو مقابل الأول. وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
وآخر بكسر خاء معجمه ... مقابل لأوّل فلتفهمه
وآخر بفتحها ما قابلا ... للغير فاعلم وادع للّذي جلا
وسيأتي عزو هذا البيت ل (لبيد) ، وهو قوله: (هم قومي وقد أنكرت منهم شمائل) كذا في «لسان العرب» ك «التهذيب» ، أي: أنكرت أخلاقهم. كما سيأتي للمصنف. وفي رواية: وهم أنكرن منّي شمائل (بدّلوها) - بضمّ أوّله؛ مبنيّا للمفعول؛ كما ضبطه في «التهذيب» على كلا الروايتين (من شمالي.(1/107)
أي: أنكرت أخلاقهم) .
ثمّ قال في مادّتها أيضا: (والشّمال: خليقة الرّجل، وجمعها: شمائل. وإنّها لحسنة الشّمائل، ورجل كريم الشّمائل؛ أي: في أخلاقه ومخالطته) اهـ وقد استعمل علماء الحديث الشّمائل في أخلاقه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم على أصلها، وفي أوصاف صورته الظّاهرة أيضا ...
أي: أنكرت أخلاقهم) المقتبسة من أخلاقي. وهذا على الرواية التي في المصنف.
وعلى الرواية الأخرى معناه: أنّهم أنكروا مني أخلاقي المعروفة عندهم.
(ثمّ قال) ؛ أي: ابن منظور (في) «لسان العرب» في (مادّتها) - أي: مادّة شمل- (أيضا) بعد نحو ثلاث صفحات (والشّمال) - بالكسر- (خليفة الرّجل) ؛ أي: طبيعته وسجيّته (وجمعها: شمائل) . وقال لبيد:
هم قومي وهم أنكرن منّي ... شمائل بدّلوها من شمالي
وقال الراغب: قيل للخليفة شمال!! لكونه مشتملا على الإنسان اشتمال الشمال على البدن. (وإنّها لحسنة الشّمائل، ورجل كريم الشّمائل؛ أي: في أخلاقه ومخالطته) ، ويقال فلان مشمول الخلائق؛ أي: كريم الأخلاق، أخذ من الماء الذي هبّت به الشّمال فبرّدته. ورجل مشمول: مرضيّ الأخلاق، طيّبها. قال ابن سيده: أراه من الشّمول. (انتهى) أي: كلام ابن منظور في «لسان العرب» .
(وقد استعمل علماء الحديث الشّمائل) ؛ أي: لفظة «الشمائل» (في) معنييها الحقيقي والمجازي فجعلوها اسما ل (أخلاقه الشّريفة صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: صورته الباطنة (على أصلها) ؛ أي: أجروا هذه اللفظة على حقيقتها اللّغوية حيث استعملوها في صورته الباطنة؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها الخاصّة بها، (و) استعملوها (في أوصاف صورته الظّاهرة) ؛ وهي نفسه وأوصافها ومعانيها (أيضا(1/108)
على سبيل المجاز فاعلم ذلك.
[التّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة: من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم]
التّنبيه الثّاني: في الفوائد ...
على سبيل المجاز) ، ولكلّ من الصورتين أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع. كقوله:
«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» . وقوله: «إنّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصّائم القائم» ، وقوله: «بعثت، لأتمّم مكارم الأخلاق» . وكذلك جاءت في ذمّ سوء الخلق أيضا أحاديث كثيرة، (فاعلم ذلك) والله يتولّى هداك.
فائدة: قال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: الأحاديث التي فيها صفة النبي صلّى الله عليه وسلم داخلة في قسم المرفوع بالاتفاق، مع أنّها ليست قولا له صلّى الله عليه وسلم، ولا فعلا، ولا تقريرا. انتهى.
(التّنبيه الثّاني: في) بيان (الفوائد) جمع فائدة؛ وهي- لغة-: ما استفدته من علم، أو مال، أو غيرهما؛ كجاه، واصطلاحا-: المصلحة المترتّبة على الفعل من حيث إنّها ثمرته ونتيجته. وأما من حيث إنّها في طرف الفعل: فتسمّى «غاية» . فالفائدة والغاية متّحدان ذاتا؛ مختلفان اعتبارا، كما أن العلّة والغرض كذلك. فالعلّة: هي المصلحة المترتبة على الفعل من حيث إنّها باعثة للفاعل على الفعل، وأما من حيث إنّها مقصودة للفاعل من الفعل؛ فتسمى «غرضا» .
والفائدة والغاية أعمّ من العلّة والغرض عموما مطلقا، فتجتمع الأربعة فيما لو حفر بقصد الماء وبعد تمام الحفر ظهر الماء، فإنّ هذا الماء يسمّى «فائدة» من حيث إنّه نتيجة الحفر، ويسمّى «غاية» من حيث إنه في طرف الحفر، ويسمّى «علّة» من حيث إنّه باعث على الحفر، ويسمّى «غرضا» من حيث إنّه مقصود من الحفر.
فاختلفت العبارات باختلاف الاعتبارات، وقد يوجد الأوّلان- أي: الفائدة(1/109)
المقصودة: من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم ليس المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه النّفوس، وتجنح إليه القلوب، ويتحدّث به في المجالس، ويستشهد به على المقاصد، ونحو ذلك من الفوائد.
وإنّما المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم فوائد أخرى مهمّة في الدّين.
منها: التّلذّذ بصفاته العليّة وشمائله الرّضيّة صلّى الله عليه وسلّم.
والغاية- ولا يوجد الأخيران- أي: العلة والغرض- كما لو حفر بقصد الماء فبعد تمام الحفر ظهر كنز؛ فيقال له «فائدة» ؛ لأنه نتيجة الحفر، ويقال له «غاية» ؛ لأنه في آخر الحفر، ولا يقال له علة؛ ولا غرض!! لأنه لم يكن باعثا على الحفر، ولا مقصودا للحافر من الحفر. والله أعلم.
(المقصودة) للمؤلفين (من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلم) في الكتب.
اعلم أنّه (ليس المقصود من جمع شمائله) : أوصافه (صلّى الله عليه وسلم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه) الأفئدة، وترتاح إليه (النّفوس) ، وتسرّ به الأرواح، وتنشرح له الصدور، (وتجنح إليه القلوب) ، وتلتذّ به الأسماع، وتتنزّه فيه الأبصار، (ويتحدّث) - بضمّ أوّله- (به) أي: يذكر ويروى (في المجالس) للاطلاع على سيرة من تقدّم، وللإحاطة بأخبار من سبق، (ويستشهد) - مبنيا للمجهول- أي:
يؤتى (به) شاهدا (على المقاصد) والأغراض التي تراد، (ونحو ذلك من الفوائد) التاريخية. لا؛ ليس المقصود ذلك.
(وإنّما المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلم) في الكتب (فوائد) - أي: حصول فوائد (أخرى) - زائدة على ما تقدّم (مهمّة) - أي: يهتم بها- (في الدّين) ويتقرّب بها إلى ربّ العالمين. (منها) أي: هذه الفوائد الأخرى: (التّلذّذ) أي: حصول اللذّة- (بصفاته العليّة) الكاملة، (وشمائله الرّضيّة) ، لأنّ في ذكرها وسماعها تنعّما وتلذّذا بحبيب القلوب وقرّة العيون (صلّى الله عليه وسلم) ،(1/110)
- ومنها: التّقرّب إليه صلّى الله عليه وسلّم، واستجلاب محبّته ورضاه بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة، كما يتقرّب الشّاعر إلى الكريم بذكر أوصافه الجميلة، وخصاله النّبيلة.
ولا شكّ أنّ جمع ...
وهو ضرب من الوصال به صلّى الله عليه وسلم، ووجه من وجوه القرب منه صلّى الله عليه وسلم والاجتماع به؛ لما فيه من إمتاع حاسّة السمع واللسان بأوصاف المحبوب الذي هو وسيلة إلى حضوره بالقلب، فإذا فات النظر إليه بالبصر؛ لم يفت التمتّع به بالسمع والنظر إليه بالبصيرة. كما قال بعضهم:
يا واردا من أهيل الحيّ يخبرني ... عن جيرتي شنّف الأسماع بالخبر
ناشدتك الله يا راوي حديثهم ... حدّث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري
وقال بعضهم في مدح الشمائل مشيرا إلى المعنى:
أخلّاي إن شطّ الحبيب وربعه ... وعزّ تلاقيه وناءت منازله
وفاتكم أن تنظروه بعينكم ... فما فاتكم بالسّمع هذي شمائله
وقال بعضهم في المعنى:
يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشطّ مزاره
فلقد ظفرت من الحبيب بطائل ... إن لّم تريه فهذه آثاره
(ومنها التّقرّب إليه) ؛ أي: طلب القرب منه (صلّى الله عليه وسلم، واستجلاب) أي:
طلب جلب (محبّته ورضاه) ؛ بأن يكون جامع الشمائل محبوبا عنده صلّى الله عليه وسلم، وراضيا عنه؛ بسبب خدمة جنابه صلّى الله عليه وسلم، وتعظيم قدره والثناء عليه (بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة) ، وفي ذلك تعلّق به وتودّد، واستعطاف وانتساب، وتعرّض لنفحات فضل الممدوح، واستمطار لسحائب إحسانه، واستنزال لغزير برّه وامتنانه، وتقرّب إليه بفتح أبواب خزائن ما يأتي من قبله، (كما يتقرّب الشّاعر إلى) الممدوح (الكريم بذكر أوصافه الجميلة) الحسنة، (وخصاله النّبيلة) العظيمة، لأنّ الكرام إذا مدحوا أجزلوا المواهب والعطايا، (ولا شكّ أنّ جمع(1/111)
شمائله صلّى الله عليه وسلّم ونشرها.. هو أفضل وأكمل من مدحه بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها ك: حسّان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنهم، وكافأهم على ذلك.
شمائله صلّى الله عليه وسلم ونشرها) بين الناس لتتعطّر بها المجالس والمدارس (هو أفضل وأكمل من مدحه) صلّى الله عليه وسلم (بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها؛ ك «حسّان) بن ثابت بن المنذر الأنصاري الخزرجي، أبي الوليد، الصحابي شاعر النبي [صلّى الله عليه وسلم] ، وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وعاش ستين سنة في الجاهلية وستّين سنة في الإسلام، وكان من سكّان المدينة المنورة، وتوفي بها سنة: - 54- أربع وخمسين. وعمي قبيل موته. رضي الله تعالى عنه.
(وعبد الله بن رواحة) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي؛ أبي محمد، صحابي، يعدّ من الأمراء والشعراء الراجزين، كان يكتب في الجاهلية، وشهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية، واستخلفه النبي صلّى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى غزواته، وصحبه في عمرة القضاء، وله فيه رجز، وكان أحد الأمراء في وقعة مؤتة- بأدنى البلقاء، من أرض الشام- فاستشهد فيها سنة: - 8- ثمان من الهجرة النبوية. رضي الله تعالى عنه.
آمين.
(وكعب بن زهير) بن أبي سلمى المازنيّ؛ أبي المضرّب، شاعر عالي الطبقة؛ من أهل نجد، له ديوان شعر، وكان ممن اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلّى الله عليه وسلم، وأقام يشبّب بنساء المسلمين؛ فهدر النبي صلّى الله عليه وسلم دمه؛ فجاء كعب مستأمنا وقد أسلم، وأنشده لاميّته المشهورة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ...
فعفا عنه النبي صلّى الله عليه وسلم، وخلع عليه بردته، وكانت وفاته سنة: ست وعشرين هجرية. رحمهم الله تعالى و (رضي الله تعالى عنهم) أجمعين.
(و) قد (كافأهم) النبي صلّى الله عليه وسلم (على ذلك) المديح.(1/112)
فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها صلّى الله عليه وسلّم. - ومنها: تعرّضنا لمكافأته صلّى الله عليه وسلّم على إحسانه إلينا، وإنقاذه إيّانا من ظلمات الضّلال إلى أنوار الهدى، ومن الشّقاوة الأبديّة إلى السّعادة السّرمديّة، وهذه نعمة كبرى لا تمكن مقابلتها بشيء، ولا يقدر على مكافأته عليها إلّا الله تعالى.
فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه (فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها) للناس تعلّما وتعليما؛ على أنّ في ذلك تعرّضا لنفحات الرحمة الإلهية، لأنه إذا كانت رحمته تعالى تتنزّل عند ذكر الصالحين؛ فما بالك بسيّد الصالحين وسندهم وممدّهم (صلّى الله عليه وسلم) !!! فأدنى انتساب إليه يحصّل غاية النفع والشرف، إذ لم يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه من نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.
(ومنها) - أي: الفوائد-. (تعرّضنا لمكافأته صلّى الله عليه وسلم على إحسانه إلينا) ؛ أداء لبعض ما يجب له صلّى الله عليه وسلم، إذ هو الواسطة بين الله وبين عباده، فكل خير ونعمة وبركة؛ قلّت أو جلّت، منه حصلت، وبطلعته ظهرت، (و) أعظمها إحسانه إلينا ب (إنقاذه) أي: تخليصه (إيّانا من ظلمات الضّلال) : الكفر (إلى أنوار الهدى) : الإسلام، (و) إخراجه إيّانا (من الشّقاوة الأبديّة) أي: التي لا نهاية لها، (إلى السّعادة السّرمديّة) المستمرّة، (وهذه نعمة كبرى) ، بل هي أكبر النعم على الإطلاق، إذ (لا تمكن مقابلتها) ؛ أي: موازنتها (بشيء) من النّعم الباقية الواصلة إلينا منه صلّى الله عليه وسلم، (ولا يقدر على مكافأته) : جزائه (عليها إلّا الله تعالى) ، وإذا كان الإنسان يحبّ من منحه من دنياه- مرّة؛ أو مرتين- معروفا فانيا منقطعا، أو استنقذه من هلكة، فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد ولا تزول، ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول؟!!
(فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه) - أي:(1/113)
أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس، دائنين بدينه الّذي ارتضى واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه من خلقه، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت ...
الله- تعالى (أنقذنا) : خلّصنا (به) ببعثته صلّى الله عليه وسلم (من الهلكة) ؛ أي: الهلاك، وهو ظلمة الكفر، إلى نور الإيمان، وأخرجنا به من نار الجهل إلى جنان المعارف والإيقان، (وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس) ، وخيريّة الأمّة بخيرية نبيّها (دائنين) ؛ أي: متعبّدين (بدينه الّذي ارتضى) ؛ وهو الإسلام، (واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه) به (من خلقه) من النبيين والصّديقين، والشهداء والصالحين، وسائر عباده المؤمنين، (فلم تمس) - بضمّ أوله- ولم تصبح (بنا نعمة) من الله علينا (ظهرت ولا بطنت) ؛ مأخوذ من قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [20/ لقمان] .
وقد أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن عطاء قال: سألت ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [20/ لقمان] قال: هذا من كنوز علمي؛ سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أمّا الظّاهرة؛ فما سوّى من خلقك، وأمّا الباطنة؛ فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم» .
وأخرج البيهقيّ، والديلميّ، وابن النّجار؛ عنه أيضا: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: «أمّا الظّاهرة؛ فالإسلام، وما سوّى من خلقك، وما أسبغ عليك من رزقه، وأمّا الباطنة؛ فما ستر من عملك» .
وفي رواية عنه موقوفة: «النّعمة الظاهرة: الإسلام، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب والعيوب والحدود» ؛ أخرجه ابن مردويه عنه.
وفي رواية عنه موقوفة أيضا: «النّعمة الظاهرة والباطنة هي: لا إله إلّا الله» ؛ أخرجها عنه ابن جرير وغيره. وتفسيرهما ما قاله مجاهد: نعمة ظاهرة؛ هي لا إله إلّا الله على اللسان، وباطنة؛ قال: في القلب. أخرجها سعيد بن منصور، وابن جرير.(1/114)
نلنا بها حظّا في دين ودنيا، أو رفع بها عنّا مكروه فيهما، أو في أحد منهما.. إلّا ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم سببها القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها.
(نلنا بها) ؛ أي: بسببها (حظّا) : نصيبا (في دين) ، كالعلم والعمل والمعرفة، (ودنيا) ، كالجاه والقبول، (أو رفع بها) : بسببها (عنّا مكروه) :
شيء نكرهه (فيهما) ، أي: في الدين والدنيا؛ (أو في أحد منهما) في الدين أو الدنيا (إلّا و) حبيبنا (محمّد صلّى الله عليه وسلم سببها) ؛ أي: سبب في حصولها، وواسطة في وصولها، وهو (القائد) : اسم فاعل، من: «قاده يقوده» ؛ أي: جذبه من أمامه بسبب حسّي؛ أو معنوي ليتبعه (إلى خيرها، والهادي) : الدّالّ (إلى رشدها) . فله صلّى الله عليه وسلم علينا من الأيادي العظيمة، والمنن الجسيمة؛ دين ودنيا وآخرة ما لا يحصى بحيث أنّا نسبح فيها؛ ونتقلب ظهرا لبطن. ولا منعم من الخلق مثله، لأنه الواسطة لنا في كلّ خير، وجميع النعم التي وصلت إلينا من الله تعالى السابقة واللاحقة من نعمة الإيجاد والإمداد في الدنيا والآخرة، فنعمه علينا تابعة لنعم الله تعالى، ونعم الله تعالى لا يحصيها عدد (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) [34/ إبراهيم] ، فهو صلّى الله عليه وسلم الواسطة بين الله وبين خلقه في كلّ نعمة؛ يفيضها الباري أوّلا عليه، ومنه تتفرّع إلى المخلوق.
قال سيدي عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس: كلّ من حصلت له الرحمة في الوجود، أو خرج له قسم من رزق الدنيا والآخرة، والظاهر والباطن، والعلوم والمعارف والطاعات؛ إنما خرج له ذلك على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبواسطته صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي يقسم الجنّة بين أهلها، ولذلك عدّوا من خصائصه صلّى الله عليه وسلم أنّه أعطي مفاتيح خزائن أجناس العالم، فيخرج لهم بقدر ما يطلبون بحسب القسمة الإلهية، فكلّ ما ظهر في هذا العالم؛ فإنما يعطيه سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، فلا يخرج شيء من الخزائن الإلهية إلّا على يديه صلّى الله عليه وسلم، وهو معنى اسم «الخليفة» ، فلا طاقة لأحد بالنّفي والشهود بدون واسطته صلّى الله عليه وسلم، فهو المرآة الكبرى والمجلى الأعظم،(1/115)
.........
وأقواله وأفعاله كلّها دائرة على الدلالة على الله تعالى والتعريف به، ولا نهاية للمعرفة، فما دام الإنسان يترقّى فيها؛ فهو مغترف من بحره ومستمدّ منه، حتى الأنبياء والمرسلون، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكلّهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم
انتهى. ملخّصا من «تقريب الوصول» للسيد أحمد دحلان رحمه الله تعالى.
وقال سيّدي عبد العزيز الدبّاغ- رضي الله تعالى عنه، ونفعنا ببركاته- في كتاب «الإبريز» : إنّ أرباب الكشف والعيان يشاهدون سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم، ويشاهدون ما أعطاه الله عزّ وجلّ وما أكرمه الله به مما لا يطيقه غيره، ويشاهدون غيره من المخلوقات؛ الأنبياء والملائكة وغيرهم، ويشاهدون ما أعطاهم الله من الكرامات، ويشاهدون المادّة سارية من سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم إلى كلّ مخلوق في خيوط من نور فائضة من نوره صلّى الله عليه وسلم؛ ممتدّة إلى ذوات الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام وذوات غيرهم من المخلوقات، ويشاهدون عجائب ذلك الاستمداد وغرائبه. قال رضي الله تعالى عنه: ولقد أخذ بعض الصالحين طرف خبزة ليأكله، فنظر فيه وفي النعمة التي رزقها بنو آدم؛ قال: فرأى في ذلك الخبز خيطا من نور، فتبعه بنظره فرآه متصلا بخيط نوره الذي اتصل بنوره صلّى الله عليه وسلم، فرأى الخيط المتصل بالنور الكريم واحدا، ثم بعد أن امتدّ قليلا جعل يتفرّع إلى خيوط؛ كلّ خيط متّصل بنعمة من نعم تلك الذوات.
قال تلميذه سيّدي أحمد بن المبارك: وصاحب هذه الحكاية هو الشيخ نفسه.
قال: وقال رضي الله تعالى عنه: ولقد وقع لبعض أهل الخذلان- نسأل الله تعالى السلامة- أنّه قال: «ليس لي من سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم إلّا الهداية إلى الإيمان، وأما نور إيماني؛ فهو من الله عزّ وجلّ، لا من النبي صلّى الله عليه وسلم» . فقال له الصالحون:
أرأيت إن قطعنا ما بين نور إيمانك وبين نوره صلّى الله عليه وسلم، وأبقينا لك الهداية التي ذكرت؛ أترضى بذلك!؟ فقال: نعم، رضيت. قال رضي الله عنه: فما تمّ كلامه حتّى(1/116)
وهذه العبارة من قوله: (.. فجزاه الله ... إلى آخرها) عبارة إمامنا الشّافعيّ ...
سجد للصليب وكفر بالله ورسوله؛ ومات على كفره!! نسأل الله تعالى السلامة والحماية، والتوفيق والهداية. انتهى ملخّصا، نقله المصنف في كتابه «حجّة الله على العالمين» وأطال في هذا الموضوع، فليراجع ثمة.
وقد ضمّن المصنف هذا المعنى الذي قاله سيّدي عبد العزيز في همزيته: «طيبة الغراء» ؛ فقال:
مصدر المكرمات موردها العذ ... ب كرام الورى به كرماء
أفرغ الله فيه كلّ العطايا ... والبرايا منه لها استعطاء
إنّما ما حوى الزّمان من الفض ... ل وما حازه به الفضلاء
كلّه عنه فاض من غير نقص ... مثل ما فاض عن ذكاء الضّياء
قال المصنف: (وهذه العبارة من قوله: (فجزاه الله ... إلى آخرها) عبارة إمامنا) وإمام الأئمة المجتهد المطلق:
أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع (الشّافعيّ) ؛ نسبة إلى جدّه شافع، القرشي المطّلبي المكي،
أحد الأئمة الأربعة؛ أصحاب المذاهب المتبوعة المشتهرة، عالم قريش ومجدد الدين على رأس المائتين.
ولد ب «غزّة» ؛ من أرض فلسطين، سنة: - 150- مائة وخمسين هجرية، وحمل منها إلى مكة؛ وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن؛ وهو ابن سبع سنين، وحفظ «الموطأ» ؛ وهو ابن عشر، وأفتى؛ وهو ابن خمس عشرة سنة.
وكان يحيي الليل إلى أن مات.
وزار بغداد مرتين، وبها ألّف مذهبه القديم.
وقصد مصر ونزلها سنة: - 199- تسع وتسعين ومائة، وبها ألّف مذهبه(1/117)
رضي الله تعالى عنه نقلتها من «رسالته» الّتي رواها عنه صاحبه الرّبيع بن سليمان رحمه الله تعالى.
ومنها: أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي محبّته صلّى الله عليه وسلّم؛ ...
الجديد، وتوفي بها (رضي الله تعالى عنه) سنة: - 204- أربع ومائتين هجرية؛ وعمره أربع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة، وقبره معروف يزار.
قال المبرّد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم، وأعرفهم بالفقه والقراءات.
وقال الإمام أحمد ابن حنبل: ما أحد ممّن بيده محبرة، أو ورق؛ إلّا وللشافعي في رقبته منّة.
وكان من أحذق قريش بالرمي؛ يصيب من العشرة عشرة. برع في ذلك أوّلا كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث.
وكان ذكيا مفرط الذكاء، آية في الحفظ، له تصانيف كثيرة تدلّ على سعة علمه وتحقيقه ومتانة دينه. رحمه الله تعالى. آمين. ومناقبه جمّة أفردها العلماء بالتصنيف.
(نقلتها من رسالته) المعروفة باسم «الرسالة» : في أصول الفقه، وهي (الّتي رواها عنه صاحبه) وتلميذه أبو محمد (الرّبيع بن سليمان) بن عبد الجبّار بن كامل (المرادي بالولاء) ، المصري (راوي كتب الإمام الشافعي) وراوي مذهبه الجديد. وهو المراد عند إطلاق «الربيع» . وهو أوّل من أملى الحديث بجامع ابن طولون، وكان مؤذّنا، وفيه سلامة وغفلة. ومولده سنة: - 174- أربع وسبعين ومائة بمصر، ووفاته بها سنة: - 270- سبعين ومائتين هجرية. (رحمه الله تعالى) ونفعنا بعلومه. آمين.
(ومنها) ؛ أي: الفوائد (أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي) ، أي: تقتضي (محبّته صلّى الله عليه وسلم) التي هي روح الإيمان؛ الذي هو أصل كلّ سعادة وسيادة.
والمحبة: ميل روحاني يستجلب الودّ ويسلب البعد، وللناس في حدّها(1/118)
لأنّ الإنسان مجبول على حبّ الصّفات الجميلة ومن اتّصف بها، ولا أجمل ولا أكمل من صفاته صلّى الله عليه وسلّم.
فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها ولم يكن مطبوعا على قلبه بطابع الضّلال.. يحبّ صاحبها صلّى الله عليه وسلّم بيقين، ...
اختلاف كثير، وعباراتهم فيها؛ كما قيل: وإن كثرت! إنما هي في الحقيقة اختلاف أحوال، وليست باختلاف أقوال. وأكثرها يرجع إلى ثمراتها؛ دون حقيقتها.
وقيل: إنها من المعلومات التي لا تحدّ، وإنّما يعرفها من قامت به؛ وجدانا.
ولا يمكن التعبير عنها، ولا تحدّ بحدّ أوضح منها. (لأنّ الإنسان مجبول) ؛ أي:
مطبوع (على حبّ الصّفات الجميلة، و) على حبّ (من اتّصف بها) من أفراد المؤمنين؛ فكيف بعباده الصالحين!! فكيف بسيّد الأوّلين والآخرين!!
(و) لا ريب أنّه (لا أجمل؛ ولا أكمل من صفاته صلّى الله عليه وسلم) ، وإذا كان المرء يحبّ غيره على ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة؛ فكيف بهذا النبي الكريم، والرسول الواسع الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم!! (فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها) - أي: على شمائله، (و) الحال أنّه (لم يكن مطبوعا) ؛ أي: مختوما (على قلبه بطابع الضّلال) وعمى البصيرة- (يحبّ صاحبها صلّى الله عليه وسلم بيقين) ، وفي محبّتنا له صلّى الله عليه وسلم منن عظيمة علينا، لأنّها موجبة لمعيّته ومجاورته وصحبته، لحديث:
«المرء مع من أحبّ» . رواه الشيخان؛ عن أنس، وابن مسعود. ولحديث:
«أنت مع من أحببت» . رواه مسلم.
ومحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يظهر أثرها في اتباع سنّته، وسلوك طريقته، ولها مع ذلك علامات أخرى؛ منها: أن تحبّ بحبّه، وتبغض ببغضه، فلا تحبّ إلّا ما أحبّ، ولا تبغض إلّا ما أبغض، فيكون هواك تبعا له ولما جاء به.
ومنها: أن توالي بولايته، وتعادي بعداوته، لأنّ محبّ المحبوب ومحبوبه محبوبان، ومبغضه وبغيضه مبغوضان.(1/119)
وبمقدار زيادة محبّته ونقصها تكون زيادة الإيمان ونقصه، ...
ومن علامات محبّته أيضا: إيثار محبّته على كلّ محبوب، واشتغال الباطن بذكره بعد ذكر الله عز وجل، والإكثار من الصلاة عليه، وأن يودّ رؤيته بجميع ما يملك؛ أو بملء الأرض ذهبا؛ لو كان له.
ومنها: التخلّق بأخلاقه، والتأدّب بشمائله وآدابه؛ من الجود، والإيثار، والحلم، والصبر، والتواضع، والزهد في الدنيا؛ والإعراض عن أبنائها، ومجانبة أهل الغفلة واللهو، والإقبال على أعمال الآخرة؛ والتقرّب من أهلها، والحبّ للفقراء والتحبّب إليهم والتقرّب منهم، وكثرة مجالستهم، واعتقاد تفضيلهم على أبناء الدنيا، ثم الحبّ في الله لأهل العلم والدين والصلاح والزهد، والبغض في الله للظّلمة والمبتدعة والفسقة المعلنين، واتّباعه في مقامات اليقين؛ مثل الخوف والرجاء، والشكر والحياء، والتسليم والتوكّل، والشوق والمحبة، وإفراغ القلب لله عزّ وجلّ، وإفراد الهمّ به تعالى، ووجود الطمأنينة بذكره سبحانه، والرّضا بما شرعه؛ حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضى، ونصرته ونصرة دينه باتّباع سنّته واعتقادها، وإيثارها على الرأي والهوى، واجتناب البدع كلّها، والذّبّ عن شريعته، والتسلّي عن المصائب شغلا بحاله، وجمعا في محبّة محبوبه؛ واغتباطا به، وتسلية بما أصاب محبوبه؛ وتعظيمه عند ذكره، وكثرة الشوق إلى لقائه؛ إذ كل حبيب يحبّ لقاء حبيبه، ومحبّة القرآن الذي أتى به، والتلذّذ بذكره، والطرب عند سماع اسمه، فمن تخلّق بهذا كلّه؛ فله من الآية نصيب موفور، وهي قوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [31/ آل عمران] ، فجعل الله تعالى جزاء العبد على حسن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلم محبّة الله تعالى إياه، ولا يكون متّبعا له إلّا عن محبّة الله تعالى إيّاه، وأثرته إيّاه عمّن سواه.
(و) يتفاوت الناس في المحبة، ف (بمقدار زيادة محبّته) صلّى الله عليه وسلم (و) بمقدار (نقصها؛ تكون زيادة الإيمان ونقصه) ، فمن كان في محبّته أقوى؛ كان في الإيمان أبلغ وأثبت، ومن لا محبّة له؛ لا إيمان له، إذ الإيمان مشروط(1/120)
بل رضا الله تعالى والسّعادة الأبديّة، ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم فيها، جميع ذلك يكون بمقدار محبّة العبد له صلّى الله عليه وسلّم زيادة ونقصا، كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة وعذاب أهل النّار ودركاتهم ...
بمحبّته صلّى الله عليه وسلم، أصله بأصلها، وكماله بكمالها، فمحبّته صلّى الله عليه وسلم ركن للإيمان؛ لا يثبت إيمان عبد ولا يقبل إلّا بمحبّته صلّى الله عليه وسلم، (بل رضا الله) الذي هو الإنعام؛ أو إرادة الإنعام منه (تعالى) ؛ أي: ترفّع، جملة معترضة، أو حاليّة للتعظيم والتمييز، ولا يقال ذلك في غير الله سبحانه، مثل «تبارك» و «عزّ وجلّ» ، لأنّه صار شعارا لله عزّ وجلّ. (والسّعادة الأبديّة) الحاصلة بالموت على الإيمان، (ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم) ؛ أي: مراتبهم العليّة (فيها) ؛ أي: الجنة. (جميع ذلك) مبتدأ ثان، وخبره الجملة بعده، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو «رضا الله» وما عطف عليه.
(يكون) متفاوتا (بمقدار محبّة العبد له صلّى الله عليه وسلم زيادة ونقصا) ، وهذا في الحقيقة حثّ للمؤمن على تقوية رابطته وزيادة محبّته لنبيه صلّى الله عليه وسلم، فإنّ العاقل لا يترك الخير الكثير ما أمكنه، فمن أراد رضا الله سبحانه وسعة النعيم في الآخرة؛ فليكثر من الأسباب التي تزيد في محبّته له صلّى الله عليه وسلم، لأنّ المحبّة أساس الخيرات، وبها تزكو الأعمال وتحسن الأحوال.
وللمحبّة درجات، وللناس فيها مقامات، وأصلها حاصل لكلّ مسلم، لأنّها أصل الدين، ومن ليس فيه محبّة- كما قيل- لا يساوي حبّة. ولا حدّ للمحبة، وما يجب للنبي صلّى الله عليه وسلم منها؛ لا يقدر أحد على القيام به، إذ لا منّة لأحد بعد الله كما له علينا، فاستحقّ أن يكون حظّه من محبّتنا له أوفى وأزكى من محبّتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين، بل لو كان في كلّ منبت شعرة منا محبّة تامّة له صلّى الله عليه وسلم؛ لكان ذلك بعض ما يستحقّه.
(كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة) الحاصلة بالموت على الكفر والعياذ بالله من ذلك-، (وعذاب أهل النّار ودركاتهم) ؛ أي: منازلهم(1/121)
فيها.. يكون بمقدار بغضه صلّى الله عليه وسلّم، زيادة ونقصا.
ومنها: اتّباعه والاقتداء به لمن وفّقه الله تعالى فيما يمكن به الاقتداء؛ كسخائه وحلمه، وتواضعه، وزهده، وعبادته، وغيرها من مكارم أخلاقه، وشرائف أحواله صلّى الله عليه وسلّم، ...
(فيها) ؛ أي: النار (يكون) ذلك (بمقدار بغضه صلّى الله عليه وسلم؛ زيادة ونقصا) ، فمن كان شديد البغض له صلّى الله عليه وسلم؛ كان السّخط عليه أكثر، وعذابه أوفر، نعوذ بالله من بغضه؛ ومن بغض عباد الله الصالحين. ونسأل الله أن يميتنا على محبّته، ويحيينا على سنّته، ويحشرنا في زمرته. آمين.
(ومنها) ؛ أي: من الفوائد المقصودة بجمع شمائله صلّى الله عليه وسلم: (اتّباعه) فيما كان عليه هو وأصحابه، ويشمل ذلك الاعتقادات، والأقوال والأفعال، والأخلاق والأحوال، (والاقتداء به) فيها (لمن وفّقه الله تعالى) . التوفيق: هو خلق قدرة الطاعة في العبد. ولا يكون الاقتداء به صلّى الله عليه وسلم في كلّ شيء، بل (فيما يمكن به الاقتداء) ، لأن أفعاله صلّى الله عليه وسلم على قسمين:
قسم لا يجوز الاقتداء به فيه، وذلك كإباحة المكث في المسجد؛ وهو جنب، وكالوصال في الصوم، وكإباحة النظر إلى الأجنبيات، ونكاح أكثر من أربع نسوة، والنكاح بلفظ الهبة، وبلا وليّ ولا شهود. فهذه الأشياء من خصائصه صلّى الله عليه وسلم، لا يقتدى به فيها.
وقسم يجوز الاقتداء به فيها، بل يندب التأسّي به فيها، وذلك (كسخائه) صلّى الله عليه وسلم؛ وهو: سهولة الانفاق، وتجنّب اكتساب ما لا يحمد؛ وهو الجود، (وحلمه) ؛ وهو: حالة توقر وثبات عند الأسباب المحركات، (وتواضعه) ؛ أي: هضم النفس في غير منقصة ولا مذلّة، (وزهده) ، وهو:
عدم الميل إلى الدنيا، وقلّة المبالاة بوجودها وفقدها؛ اعتمادا على خالقها، (وعبادته) المتعارفة في الشرع؛ من نحو طهارة وصلاة وصيام، (وغيرها من مكارم أخلاقه) : أوصافه، (وشرائف أحواله صلّى الله عليه وسلم) ؛ كحيائه، وصدقه،(1/122)
وذلك مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين.
قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31] .
وأمانته، وكرمه، وشجاعته، إذ من علامة محبّته التخلّق بأخلاقه في الجود، والإيثار، والحلم، والصبر، والتواضع، وغيرها من أخلاقه العظيمة.
وأعظم العلامات لمحبّته صلّى الله عليه وسلم: الاقتداء به، واستعمال سنّته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه، والتأدّب بآدابه، والوقوف مع ما حدّ لنا من شريعته صلّى الله عليه وسلم، (وذلك) كلّه (مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين) :
دار الدنيا ودار الأخرى.
ولمحبّة الله تعالى علامات، منها: تقديم أمره على هوى النفس، ورعاية حدود الشرع، والتزام التقوى والورع، والتشوّق إلى لقائه تعالى، والخلوّ عن كراهية الموت، والرضا بقضائه، ومحبّة كلامه والتلذّذ بتلاوته وسماعه، والطّرب عند ذكره أو سماع اسمه، وعدم الصبر على ذلك، ومحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم واتّباعه، كما (قال تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) - في جميع ما جئت به- (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [31/ آل عمران] والمراد بمحبّة الله تعالى للعبد: قبوله والإثابة على أعماله، إذ معنى المحبّة الأصلي محال في حقّه تعالى، والمعنى أنّ اتّباع النبي صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به دليل على محبّة الإنسان لربّه، فمن يدّعي حبّ الله ولا يحبّ رسوله لا ينفعه ذلك. كما قيل:
ألا يا محبّ المصطفى زد صبابة ... وضمّخ لسان الذّكر منك بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنّما ... علامة حبّ الله حبّ حبيبه
وحبّ الله تعالى يوجد بصدق المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويلزم من محبّة الله تعالى إيثار طاعته على هوى نفسه، فمن ادّعى المحبّة من غير طاعة؛ فدعواه باطلة لا تقبل.
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه!! ... هذا لعمري في القياس بديع(1/123)
جعلنا الله تعالى من المتّبعين له صلّى الله عليه وسلّم في شرعه القويم، وصراطه المستقيم، وحشرنا تحت لوائه، في زمرة أهل محبّته، عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم.
لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحبّ لمن يحبّ يطيع
وإذا تحقّق العبد بمحبّة الله ورسوله، وصدق في متابعة أمره ونهيه؛ خشع وتأدّب ظاهرا وباطنا، لأنّ ما في الباطن يلوح على الظاهر ويعود عليه؛ لما بينهما من الارتباط، ولما أن الإنسان عمدته والمعتبر فيه هو باطنه؛ به يصلح وبه يفسد، والمحبّة تنتج الخوف، لأن مقامات اليقين مرتبط بعضها ببعض، فمن حصلت له المحبّة؛ نال من مقام الخوف والرجاء والحياء وغيرها من المقامات والأحوال قسطا وافرا، حسبما نصّ على هذا أئمة الطريق.
وإذا صحّت المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ نتج عنها بفضل الله تعالى تطهير السريرة وتنوير البصيرة، وكان عن ذلك خالص الحبّ وصفاء الودّ، والله ذو الفضل العظيم. (جعلنا الله تعالى من المتّبعين) المقتفين (له صلّى الله عليه وسلم في شرعه القويم) ، لأن التابع له واصل لسعادة الدارين، (و) في (صراطه) الصراط- بالصاد وبالسين-:
الطريق المستوي؛ أو الواضح (المستقيم) الذي لا عوج فيه، (وحشرنا) الحشر: الجمع والاجتماع من الأماكن إلى المحشر الذي هو مكان الجمع.
والاجتماع أبدا لا يكون إلّا على عظيم القوم؛ فهو سلطان ذلك اليوم العظيم (تحت لوائه) لواء الحمد، (في زمرة) ؛ أي: جماعة (أهل محبّته) ووداده (عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم) . آمين.(1/124)
[الباب الأوّل في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسمائه الشّريفة]
الباب الأوّل (الباب الأول) الباب: هو الطريق إلى الشيء والموصل إليه. وهو حسيّ حقيقي؛ كباب الدار، ومعنويّ مجازي؛ ككلّ سبب موصل إلى أمر، وكتراجم الكتب المترجمة بالأبواب.
والباب في عرف المصنفين: اسم لجملة من العلم مشتملة على مسائل غالبا.
وكذا يعرّف: ما أفرد من كتاب أو فصل. فإن جمعت الثلاثة فقل:
الكتاب: اسم لجملة من العلم مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالبا.
والباب: اسم لجملة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالبا.
والفصل: اسم لجملة من الباب مشتملة على مسائل غالبا.
ووضع العلماء التراجم تسهيلا للوقوف على مظانّ المسائل؛ وتنشيطا للنفوس.
قال الزمخشري: وذلك لأنّ القارىء إذا ختم بابا من كتاب ثم أخذ في آخر؛ كان ذلك أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل، بخلاف ما لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر إذا علم أنّه قطع ميلا وطوى فرسخا؛ نفّس ذلك عنه ونشط للسير. ومن ثمّ كان القرآن سورا وأجزاء وأعشارا. انتهى.
ثم لتعرف أنّ الأولى بالقارئ أن يصرّح بقراءة الترجمة، أمّا أوّلا! فلأنها جزء من التصنيف الذي أخذ في قراءته، ويتأكّد ذلك في حقّ مريد الرواية، وأمّا ثانيا! فلأنها تفتقر إلى البيان كغيرها من مسائل ذلك التصنيف الذي أخذ في قراءته؛ قاله الأبّي في «شرح مسلم» .
قال أبو العبّاس الهلالي بعد نقله بأخصر من هذا: ولأنّ فيها إشارة إجمالية إلى جميع المسائل المترجم لها، ولمعرفة المسائل بوجه إجمالي ضابط لجميعها فائدة عظيمة.(1/125)
في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسمائه الشّريفة وفيه فصلان (في) ذكر (نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) محرّكة، واحد الأنساب، معروف، وهو: أن تذكر الرجل؛ فتقول هو فلان بن فلان، أو تنسبه إلى قبيلة؛ أو بلد؛ أو صناعة (و) في ذكر (أسمائه الشّريفة) جمع اسم؛ وهو: اللفظ الدالّ على المسمّى- بفتح الميم-. ووجه ذكر أسمائه صلّى الله عليه وسلم التي هي كالتتمة لفضائله صلّى الله عليه وسلم!! أنّ ذكر أسمائه صلّى الله عليه وسلم تعيّنه وتشخّصه، ويحصل بها معرفة تامّة به صلّى الله عليه وسلم وبأسمائه وصفاته، وبعظيم قدره عند خالقه. وقد قال في «الشفاء» : ومن خصائصه تعالى له أن ضمّن أسماءه ثناءه؛ وطوى أثناء ذكره عظيم شكره.
ومعرفته صلّى الله عليه وسلم مقصودة لذاتها. ثم معرفة أنّ له أسماء كثيرة تدلّ على عظمه، وذلك يحصّل تعظيمه ويزيد في محبّته، ثم معرفتها تفصيلا تفيد زيادة في محبّته وتعظيمه أيضا. (وفيه) أي: هذا الباب (فصلان) يأتي بيانهما:(1/126)
[الفصل الأوّل في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الأوّل في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم هو سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عبد الله ...
(الفصل الأوّل) بالصاد المهملة- لغة: الحاجز بين الشيئين، والفصل في الأصل مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي: الفاصل بين ما قبله وما بعده والحاجز بينهما، أو بمعنى اسم المفعول؛ إذ مسائله مفصولة عما قبله وعمّا بعده.
والفصل في عرف المصنفين: اسم لجملة من الباب مشتملة على مسائل غالبا، وقد مرّ آنفا الكلام على ذلك بأوسع.
(في) ذكر (نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلم) ، وهو خير أهل الأرض نسبا على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة.
وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به أبو سفيان عدوّه إذ ذاك بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه؛ ف (هو) صلّى الله عليه وسلم النبيّ العربي، الأبطحي الحرمي، القرشي الهاشمي، نخبة بني هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب، وأعرقها في النسب، وأشرفها في الحسب، وأنضرها عودا، وأطولها عمودا، وأطيبها أرومة، وأعزّها جرثومة، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأرجحها ميزانا، وأصحّها إيمانا، وأعزّها نفرا، وأكرمها معشرا؛ من قبل أبيه وأمّه، ومن أكرم بلاد الله على الله وعباده؛ (سيّدنا محمّد) اسم مفعول على الصفة؛ للتفاؤل بأن يكثر حمده.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلّق به.
قال في «الفتح» : المحمّد: الذي حمد مرّة بعد أخرى، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم (ابن عبد الله) ،(1/127)
ابن عبد المطّلب بن هاشم ...
قال الحافظ: لم يختلف في اسمه. انتهى. قال ابن الأثير: وكنيته أبو قثم- بقاف فثاء مثلثة- وهو من أسمائه صلّى الله عليه وسلم؛ مأخوذ من القثم؛ وهو الإعطاء، أو من الجمع؛ يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو أحمد. انتهى.
فإن قلنا بالمشهور من وفاته والمصطفى حمل!! فلعله كنّي بالإلهام، وإن قلنا بعد ولادته!! فظاهر.
(ابن) شيخ البطحاء (عبد المطّلب) مجاب الدعوة، محرّم الخمر على نفسه. قال ابن الأثير: وهو أوّل من تحنّث بحراء؛ كان إذا دخل شهر رمضان صعده وأطعم المساكين. وقال ابن قتيبة: كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رءوس الجبال، فكان يقال له: «الفيّاض» لجوده. ويقال له «مطعم طير السماء» ، واسمه «شيبة الحمد» ، وكنيته «أبو الحارث» بابن له هو أكبر أولاده.
وإنّما سمّي «عبد المطّلب» !! قيل: لأن عمّه المطّلب جاء به إلى مكّة رديفه؛ وهو بهيئة رثّة، فكان يسأل عنه؛ فيقول: «هو عبدي» ؛ حياء من أن يقول:
«ابن أخي» . فلما أدخل مكة وأصلح من حاله أظهر أنّه ابن أخيه؛ فلذلك قيل له «عبد المطلب» . وهو أوّل من خضب بالسّواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة، كما قاله عالم النسب الزّبير بن بكّار وتبعوه؛ قاله الزرقاني.
(ابن هاشم) ، واسمه: عمرو، وإنّما قيل له «هاشم» ؛ لأنه كان يهشم الثريد لقومه في الجدب. وكان هاشم أفخر قومه وأعلاهم، وكانت مائدته منصوبة لا ترفع؛ لا في السّراء، ولا في الضّراء. وكان يحمل ابن السبيل، وكان نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وجهه يتوقّد شعاعه، ويتلألأ ضياؤه، ولا يراه حبر إلّا قبّل يده، ولا يمرّ بشيء إلا سجد إليه. تغدو إليه قبائل العرب ووفود الأحبار؛ يحملون بناتهم يعرضون أن يتزوّج بهنّ، حتّى بعث إليه هرقل ملك الروم، وقال: إنّ لي ابنة لم تلد النساء أجمل منها؛ ولا أبهى وجها، فاقدم عليّ حتى أزوّجكها؛ فقد بلغني جودك وكرمك. وإنّما أراد بذلك نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم الموصوف عندهم في(1/128)
ابن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب ...
الإنجيل، فأبى هاشم. ومات وسنّه عشرون، وقيل: خمس وعشرون سنة.
انتهى. «زرقاني» .
(ابن عبد مناف) - بفتح الميم وخفّة النون-، من: «أناف ينيف إنافة» ؛ إذا ارتفع. وقيل: الإنافة: الإشراف والزيادة. لقّب بذلك!! لأنّ أمه حبّى- بضم الحاء المهملة وموحدة مشددة ممالة- أخدمته صنما عظيما لهم يسمّى «مناة» ، ثم نظر أبوه فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوّله «عبد مناف» ، واسمه: المغيرة، كما قال الشافعي؛ منقول من الوصف، والهاء للمبالغة، سمّي به!! تفاؤلا أنّه يغير على الأعداء. وساد في حياة أبيه. وكان مطاعا في قريش، ويدعى «القمر» لجماله. قال الواقدي: وكان فيه نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي يده لواء نزار وقوس إسماعيل. قال ابن هشام: ومات ب «غزّة» .
(ابن قصيّ) - بضمّ القاف- تصغير قصي- بفتح فكسر؛ فياء ساكنة- من:
(قصا يقصو) ؛ إذا بعد. ولقّب بذلك!! لأنّه بعد عن عشيرته في بلاد قضاعة حين احتملته أمّه فاطمة بنت سعد العذري في قصّة طويلة. ذكرها ابن إسحاق. واسمه «مجمّع» ؛ بالتشديد اسم فاعل، قال الشاعر:
أبوكم قصيّ كان يدعى «مجمّعا» ... به جمّع الله القبائل من فهر
وكان قصيّ أوّل بني كعب أصاب ملكا طاع له به قومه، وكانت له الحجابة والسقاية والرّفادة والندوة واللواء، وحاز شرف مكّة جميعا، وكان رجلا جلدا جميلا، وعالم قريش وأقومها بالحقّ.
(ابن كلاب) - بكسر الكاف وتخفيف اللام- وهو، إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة؛ نحو: كالبت العدوّ مكالبة، وإما من الكلاب؛ جمع كلب: الحيوان المعروف!! كأنهم يريدون الكثرة؛ كما يسمون ب «سباع» و «أنمار» وغير ذلك.
وسئل أعرابي: لم تسمّون أبناءكم بشرّ الأسماء؛ نحو كلب وذئب، وعبيدكم(1/129)
ابن مرّة بن كعب بن لؤيّ ...
بأحسن الأسماء؛ نحو رزق ومرزوق ورباح؟! فقال: إنّما نسمّي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا. يريد الأعرابي: أنّ الأبناء عدة للأعداء وسهام في نحورهم؛ فاختاروا لهم هذه الأسماء دون عبيدهم، لأنهم لا يقصد منهم قتال غالبا، بل كان عارا عند العرب.
واسم كلاب: «حكيم» ، قال الحافظ: ولقّب ب «كلاب» !! لمحبّته كلاب الصيد، وكان يجمعها، فمن مرّت به فسأل عنها قيل: هذه كلاب ابن مرّة، وقال القسطلّاني: لمحبّته الصيد، وكان أكثر صيده بالكلاب؛ قاله المهلب وغيره.
(ابن مرّة) بضمّ الميم، منقول من وصف الرجل بالمرارة، فالتاء للمبالغة.
وله ثلاثة أولاد: يقظة؛ وبه يكنّى، وكلاب، وتيم؛ ومن نسله الصدّيق وطلحة.
(ابن كعب) قال السهيلي: سمّي بذلك؛ لستره على قومه ولين جانبه لهم.
منقول من «كعب القدم» . وقال ابن دريد وغيره: من «كعب القناة» ، وسمّي بذلك!! لارتفاعه وشرفه فيهم، فكانوا يخضعون له حتى أرّخوا بموته إلى عام الفيل؛ فأرّخوا به، ثم بموت عبد المطلب. وكعب أوّل من جمع الناس يوم العروبة- وهو: اسم يوم الجمعة- في الجاهلية اتفاقا. ولم يكن ثمّ صلاة يجمعهم إليها، بل كانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم. وكان فصيحا يأمرهم بتعظيم الحرم، ويذكّرهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، ويعلمهم بأنّه من ولده، ويأمرهم باتّباعه والإيمان به. وينشد في ذلك أبياتا. منها قوله:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحقّ خذلانا
وكان بين موت كعب ومبعث النبي صلّى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة؛ قاله الزرقاني على «المواهب» .
(ابن لؤيّ) - بضم اللام والهمزة، ويسهّل بإبدال همزته واوا-.
وفي «النور والإرشاد» : الهمز أكثر عند الأكثرين. ولؤي تصغير «لأى» بوزن(1/130)
ابن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة ...
(عصا) ؛ وهو الثور الوحشيّ، وكنية لؤي: «أبو كعب» ، وله سبعة أولاد ذكور.
(ابن غالب) - بالمعجمة وكسر اللام- منقول من اسم فاعل مشتق من الغلب بفتحات، أو فتح فسكون- ويقال غلبة: بهاء. وله ولدان: لؤيّ وتيم، وبه يكنّى.
(ابن فهر) - بكسر الفاء وسكون الهاء فراء- منقول من الفهر: الحجر الطويل؛ قاله السهيلي. وقال الخشني: الفهر: حجر ملء الكفّ؛ يذكّر ويؤنّث.
وخطّأ الأصمعيّ من أنّثه، وفي «الفتح» : الفهر: الحجر الصغير. وفي «الإرشاد» : الطويل الأملس.
واسم فهر «قريش» ، وإليه تنسب قبائل قريش؛ كما قاله جماعة، ونسب للأكثر. قال الزّهري: وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نسّاب العرب: أنّ من جاوز فهرا؛ فليس من قريش، بل يقال له «كنانيّ» ؛ نسبة إلى كنانة بن خزيمة بن مدركة. على القول الصحيح الذي صحّحه الدمياطيّ والعراقيّ وغيرهما، والحجّة لهم حديث مسلم والترمذي؛ مرفوعا: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة» ... الحديث. وقيل غير ذلك.
وقبائل قريش فرقتان: بطاح، وظواهر. فقريش البطاح: من دخل مكّة مع قصي. والظواهر: من أقام بظاهر مكة؛ ولم يدخل الأبطح.
(ابن مالك) اسم فاعل من ملك يملك؛ فهو مالك، والجمع: ملّاك، ويكنّى «أبا الحارث» ؛ قاله في «الخميس» . سمّي «مالكا!!» ؛ لأنه كان ملك العرب.
(ابن النّضر) - بفتح النون وإسكان الضاد المعجمة فراء- واسمه «قيس» ، ولقب ب «النضر» !! لنضارة وجهه وإشراقه وجماله؛ منقول من «النضر» : اسم الذهب الأحمر، وله من الذكور مالك والصّلت، ويخلد- بفتح التحتيّة وسكون المعجمة، وضمّ اللام فدال مهملة- وبه يكنّى أبوه، ولكن لم يعقب إلّا من مالك.
(ابن كنانة) - بكسر الكاف ونونين مفتوحتين، بينهما ألف، ثم هاء-؛ منقول من «الكنانة» التي هي الجعبة- بفتح الجيم وسكون العين المهملة-.(1/131)
ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس ...
سمّي بذلك!! تفاؤلا بأنه يصير كالكنانة الساترة للسهام؛ فكان سترا على قومه، وقيل غير ذلك.
(ابن خزيمة) تصغير خزمة- بمعجمتين مفتوحتين- وهي: مرّة واحدة من الخزم، وهو: شدّ الشيء وإصلاحه. وقال الزّجّاجي: يجوز أنّه من الخزم- بفتح فسكون- تقول: خزمته؛ فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام؛ قاله في «الفتح» .
وفي «تاريخ الخميس» : إنّما سمّي «خزيمة» ؛ تصغير خزمة!! لأنّه اجتمع فيه نور آبائه؛ وفيه نور رسول الله صلّى الله عليه وسلم. انتهى.
قال ابن عباس: ومات خزيمة على ملّة إبراهيم.
(ابن مدركة) - بضمّ فسكون فكسر ففتح، ثم هاء مبالغة-؛ منقول من اسم فاعل من الإدراك، لقّب به!! لإدراكه كلّ عزّ وفخر كان في آبائه، وكان فيه نور المصطفى صلّى الله عليه وسلم ظاهرا بيّنا، واسمه «عمرو» عند الجمهور. وهو الصحيح.
(ابن إلياس) - بتحتيّة مع كسر الهمزة؛ في قول ابن الأنباري، وهي همزة قطع تثبت في الابتداء والدّرج- والمعروف أنّه اسمه، وفي «سيرة مغلطاي» : أنّ اسمه حبيب.
وفي «تاريخ الخميس» : إنما سمّي «إلياس» !! لأنّ أباه كبر ولم يولد له، فولد على الكبر واليأس؛ فسمّي «إلياس» ، وكنيته «أبو عمرو» ، وله أخ يقال له «إلناس» - بنون-؛ ذكره ابن ماكولا والجوهريّ.
وقال قاسم بن ثابت العوفي الأندلسيّ المالكيّ: إنّه بفتح الهمزة ضدّ الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة للوصل. قال السهيلي: وهذا أصحّ من قول ابن الأنباري. انتهى.
وإلياس أوّل من أهدى البدن إلى البيت الحرام.
ويذكر أنّه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولم تزل العرب تعظّمه تعظيم أهل الحكمة؛ ك «لقمان» وأشباهه. وكان(1/132)
ابن مضر بن نزار بن معدّ ...
يدعى كبير قومه وسيد عشيرته، ولا يقطع أمر ولا يقضى بينهم دونه.
قال الزبير بن بكّار: ولمّا أدرك إلياس أنكر على بني إسماعيل ما غيّروا من سنن آبائهم وسيرتهم، وبان فضله عليهم، ولان جانبه لهم، حتّى جمعهم رأيه ورضوا به، فردّهم إلى سنن آبائهم وسيرهم.
قال ابن دحية: وهو وصيّ أبيه، وكان ذا جمال بارع.
(ابن مضر) - بضم الميم وفتح الضاد المعجمة- غير مصروف للعلمية والعدل.
قال الحافظ: قيل سمّي به؛ لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر؛ وهو الحامض، وفيه نظر، لأنّه يستدعي أنّه كان له اسم غيره قبل أن يتّصف بهذه الصفة، نعم؛ يمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متّصفا بهذه الصفة:
وقيل: سمّي به لبياضه. وقيل: لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله.
وهو أوّل من سنّ الحداء للإبل. قال البلاذري: وذلك أنّه سقط عن بعيره وهو شابّ؛ فانكسرت يده، فقال: يا يداه.. يا يداه. فأتت إليه الإبل من المرعى، فلما صحّ وركب حدا؛ وكان من أحسن الناس صوتا.
(ابن نزار) - بكسر النون، فزاي، فألف، فراء- مأخوذ من النّزر؛ وهو القليل.
قيل: إنّه لما ولد ونظر أبوه إلى نور محمد صلّى الله عليه وسلم بين عينيه فرح فرحا شديدا، ونحر وأطعم؛ وقال: إنّ هذا كلّه نزر- أي: قليل- لحقّ هذا المولود؛ فسمّي «نزارا» لذلك، وكان اسمه «خلدان» ، وكنيته «أبو إياد» ، وقيل: «أبو ربيعة» ، وكان أجمل أهل زمانه وأكبرهم عقلا، وكان مقدّما، وانبسطت إليه اليد عند الملوك.
وفي «الوفا» : يقال إنّ قبر نزار. ب «ذات الجيش» قرب المدينة.
(ابن معدّ) - بفتح الميم والمهملة وشدّ الدال- وسمّي «معدّا» !! لأنه كان(1/133)
ابن عدنان.
إلى هنا إجماع الأمّة، وما بعده إلى آدم لا يصحّ فيه شيء يعتمد.
صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل، ولم يحارب أحدا إلّا رجع بالنصر والظّفر.
وكنيته «أبو قضاعة» . وقيل: أبو نزار.
(ابن عدنان) - بزنة فعلان- من المعدن، أي: الإقامة؛ قاله الحافظ وغيره.
وفي «الخميس» : سمي به!! لأنّ أعين الجن والإنس كانت إليه وأرادوا قتله.
وقالوا: لئن تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدرك الرجال ليخرجنّ من ظهره من يسود الناس. فوكّل الله به من يحفظه. انتهى.
وحكى الزّبير: أنّ عدنان أوّل من وضع أنصاب الحرم، وأوّل من كسى الكعبة، أو كسيت في زمانه. وقال البلاذري: أوّل من كساها الأنطاع عدنان.
ولما استشعر المصنف قول سائل: «لم لم توصل النسب إلى آدم؟» قال:
(إلى هنا إجماع الأمّة) ، والإجماع. حجّة، لعصمة الأمة عن الخطأ، لقوله صلّى الله عليه وسلم «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» .
(وما بعده) ؛ أي: بعد عدنان (إلى) إسماعيل بن إبراهيم، ومنه إلى (آدم) قال العلماء: (لا يصحّ فيه شيء يعتمد) . قال العسقلاني في «السيرة» : اختلف فيما بين عدنان وإسماعيل اختلافا كثيرا، ومن إسماعيل إلى آدم متّفق على أكثره، وفيه خلف يسير في عدد الآباء، وفيه خلف في ضبط بعض الأسماء. انتهى.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون بأسمائهم. وقال عروة بن الزّبير: ما وجدنا أحدا يعرف بعد معدّ بن عدنان. وسئل الإمام مالك؛ عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم!! فكره ذلك. قيل له:
فإلى إسماعيل. فكره ذلك أيضا. وقال: من أخبره بذلك!!؟ وكذا روي عنه في نسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالذي ينبغي: الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ وعواصة تلك الأسماء مع قلّة الفائدة.(1/134)
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انتسب.. لم يجاوز في نسبته معدّ بن عدنان بن أدد، ثمّ يمسك ويقول: «كذب النّسّابون» ؛ قال الله تعالى (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان: 38] .
وهذا النّسب أشرف الأنساب على الإطلاق.
فعن العبّاس ...
(وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا انتسب) - أي: ذكر نسبه- (لم يجاوز في نسبته معدّ بن عدنان بن أدد) - بضمّ الهمزة ودال مهملة مفتوحة- (ثمّ يمسك) عما زاد؛ توطئة لقوله (ويقول: «كذب النّسّابون» ) أي: الرافعون النسب إلى آدم، يقولها مرتين أو ثلاثا. رواه في «مسند الفردوس» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. لكن قال السّهيلي: الأصحّ في هذا الحديث أنّه من قول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. وقال غيره: كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ قوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [9/ إبراهيم] قال: كذب النسّابون. يعني: أنّهم يدّعون علم الأنساب، ونفى الله علمها عن العباد بقوله (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [9/ إبراهيم] ، و (قال الله تعالى) في سورة الفرقان ((وَقُرُوناً) - أقواما- (بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (38) لا يعلمهم إلا الله (وهذا النّسب أشرف الأنساب على الإطلاق، ف) - قد روى الترمذيّ وقال: حديث حسن؛ (عن العبّاس) بن عبد المطّلب أبي الفضل الهاشمي، عمّ النبي صلّى الله عليه وسلم، كان أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسنتين؛ أو ثلاث، وكان رئيسا جليلا في قريش قبل الإسلام، وكان إليه عمارة المسجد الحرام والسقاية. قيل: أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه؛ مقيما بمكة يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعظّمه ويكرمه ويبجّله. وكان وصولا لأرحام قريش؛ محسنا إليهم، ذا رأي وكمال عقل، جوادا؛ أعتق سبعين عبدا.
وكانت الصحابة تكرمه وتعظّمه وتقدّمه، وتشاوره وتأخذ برأيه.
وله من الأولاد عشرة؛ وثلاث بنات. وتوفي رضي الله عنه بالمدينة المنورة(1/135)
رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، ثمّ تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثمّ تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» .
يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة: اثنتين وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين؛ وهو ابن ثمان وثمانين سنة (رضي الله تعالى عنه.
أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال) . وفي الترمذيّ: قال العبّاس: قلت: يا رسول الله؛ إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة- أي: كناسة.
أي: هو كالشجرة المثمرة وأصلها خبيث. فقد مدحوه وذمّوا أصله- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مبينا أن أصله طيّب: ( «إنّ الله خلق الخلق) - أي: المخلوقات، و «أل» للاستغراق، فتدخل الملائكة، فهو نصّ في أفضلية جنس البشر على جنس الملك. أو المراد: الثقلان، أو المراد: بنو آدم فرقا- (فجعلني) - أي:
صيّرني- (من خيرهم) - أي: خير فرقهم؛ أي: أشرفها، والمراد بالفرق الذي هو خيرهم: العرب- (ثمّ تخيّر القبائل) - من العرب أي: اختار خيارهم؛ فضلا منه- (فجعلني من خير قبيلة) - منهم؛ وهم قريش، أي: قدّر إيجادي في خير قبيلة- (ثمّ تخيّر البيوت) - أي: اختارهم شرفا- (فجعلني من خير بيوتهم) أي: أشرفها؛ وهم بنو هاشم، وإذا كان كذلك- (فأنا خيرهم نفسا) - أي:
روحا وذاتا- (وخيرهم بيتا) - أي: أصلا، إذ جئت من طيّب إلى طيّب، إلى صلب أبي بفضل الله عليّ ولطفه في سابق علمه.
ولم يقل «ولا فخر» ؛ كما في خبر: «أنا سيّد ولد آدم» !! لأنّ هذا بحسب حال المخاطبين في صفاء قلوبهم بما يعلمه من حالهم، أو هذا بعد ذاك.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «إنّ الله حين خلق الخلق بعث جبريل؛ فقسم النّاس قسمين؛ فقسم العرب قسما، وقسم العجم قسما، وكانت خيرة الله في العرب. ثمّ قسم العرب قسمين؛ فقسم اليمن قسما، وقسم(1/136)
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه ...
مضر قسما وقريشا قسما، وكانت خيرة الله في قريش، ثمّ أخرجني من خير من أنا منهم» رواه الطبراني، وحسّن العراقي إسناده، وهو شاهد لخبر المصنّف وكالشرح له.
قال بعض العلماء: والتفاضل في الأنساب والقبائل والبيوت باعتبار حسن خلقة الذات والتفاضل فيما قام بها من الصفات؛ حتى في الأقوات وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [71/ النحل] وهذا جار في سائر المخلوقات، فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا اتجاه لما عساه يقال: الإنسان كلّه نوع؛ فما معنى التفاضل في الأنساب!! انتهى «زرقاني» .
(و) روى مسلم، والترمذيّ بأتمّ منه- وقال: حديث صحيح غريب- (عن) أبي شدّاد (واثلة بن الأسقع) بن عبد العزّى بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني اللّيثي (رضي الله تعالى عنه) قيل: أسلم والنبيّ صلّى الله عليه وسلم يتجهّز إلى تبوك، وشهدها معه، وشهد فتح دمشق وحمص. وقيل: إنّه خدم النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاث سنين؛ وكان من أهل الصّفّة.
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثا؛ روى له البخاري حديثا، ومسلم حديثا آخر.
سكن الشام؛ فسكن دمشق، ثم استوطن «بيت جبرين» ؛ وهي بلدة بقرب بيت المقدس، ودخل البصرة؛ وكان له بها دار.
روى عنه أبو إدريس الخولاني، ومكحول، وأبو المليح، ويونس بن ميسرة وخلق سواهم.
وتوفي بدمشق سنة: ست- أو خمس- وثمانين هجرية؛ وهو ابن ثمان وتسعين سنة رحمه الله تعالى، وأبوه صحابيّ؛ كما في «الإصابة» . رضي الله تعالى عنهما.(1/137)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ...
(قال) واثلة: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله اصطفى) - أي: اختار- (من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة) - وهم عدّة قبائل؛ أبوهم كنانة بن خزيمة- (واصطفى من بني كنانة قريشا) - وفيه إبطال للقول بأن جماع قريش مضر، وإبطال للقول الآخر بأنّ جماعهم إلياس- (واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ؛ زاد ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر-: «ثمّ اختار بني هاشم من قريش، ثمّ اختار ابن عبد المطّلب من بني هاشم» . انتهى.
قال الحليمي: أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم، كرجل يقول «كان أبي فقيها» لا يريد الفخر؛ بل تعريف حاله دون ما عداه. وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله تعالى عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. انتهى. ونقله عنه البيهقيّ في «الشّعب» . وأقرّه.
وقال الحافظ ابن حجر: ذكره لإفادة الكفاءة، والقيام بشكر النعم. والنهي عن التفاخر بالآباء موضعه مفاخرة تفضي إلى تكبّر؛ أو احتقار مسلم. انتهى؛ نقله الزرقاني على «المواهب» .
(و) روى الطبرانيّ في «الأوسط» ؛ (عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب: أبي عبد الرحمن العالم المجتهد العابد، لزوم السنة، الفرور من البدعة، الناصح للأمّة (رضي الله تعالى عنه) .
روى ابن وهب عن مالك؛ قال: بلغ ابن عمر ستّا وثمانين سنة، وأفتى ستّين سنة.(1/138)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اختار خلقه؛ فاختار منهم بني آدم، ثمّ اختار بني آدم فاختار منهم العرب، ثمّ اختار العرب فاختار منهم قريشا، ثمّ اختار قريشا فاختار منهم بني هاشم، ثمّ اختار بني هاشم فاختارني، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحبّ العرب فبحبّي أحبّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» .
وقال نافع: ما مات حتى أعتق أكثر من ألف، وشهد الخندق وما بعدها.
قال الحافظ ابن حجر: ولد في السنة الثانية؛ أو الثالثة من المبعث، لأنه ثبت أنّه كان يوم بدر ابن ثلاث عشرة سنة؛ وهي بعد المبعث بخمس عشرة، ومات في أوائل سنة ثلاث وسبعين. رحمه الله تعالى.
(قال) - أي: ابن عمر- (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله اختار) - أي:
اصطفى- (خلقه) - مميّزا لهم على غيرهم ممّن لو تعلّقت بهم الإرادة ووجدوا كانوا دونهم في الفضل، لكونهم لم يختاروا، فلا يرد أنّ الاختيار إنّما يكون فيما يختار من شيء، ولا يقال: اختار شيئا، إذ لابدّ من مختار ومختار منه. ومحصّل الجواب: اختيارهم ممن يقدّر وجودهم- (فاختار منهم بني آدم، ثمّ اختار بني آدم) - أي: نظر إليهم- (فاختار منهم العرب) - وبهذا التأويل اندفع ما يقال:
لا حاجة لقوله «ثمّ اختار بني آدم» بل لا يصحّ، لأنه عين ما قبله- (ثمّ اختار العرب) - أي: نظر إليهم- (فاختار منهم قريشا) - أي: قبائل قريش- (ثمّ اختار قريشا) - أي: نظر إليهم- (فاختار منهم بني هاشم) - دون غيرهم- (ثمّ اختار بني هاشم) - أي: نظر إليهم- (فاختارني) - من بني هاشم- (فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحبّ العرب فبحبّي) - أي: فبسبب حبّه لي- (أحبّهم، ومن أبغض العرب) - أظهر للتعظيم- (فببغضي) - أي: بسبب بغضه لي- (أبغضهم» ) .
وقد روى الترمذي؛ وقال: حسن غريب؛ عن سلمان رفعه: «يا سلمان؛ لا تبغضني فتفارق دينك.» قلت: يا رسول الله؛ كيف أبغضك وبك هداني الله؟! قال «تبغض العرب فتبغضني» .(1/139)
.........
وروى الطبرانيّ؛ عن علي رفعه: «لا يبغض العرب إلّا منافق» . انتهى.
وقد ألّف الحافظ العراقيّ «رسالة في فضائل العرب» . وتلاه الشيخ ابن حجر الهيتمي، رحمهم الله تعالى، فألّف رسالة سماها «مبلغ الأرب في فضائل العرب» .(1/140)
[الفصل الثّاني في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الثّاني في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم اعلم.. أنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسماء كثيرة.
(الفصل الثّاني) من الباب الأوّل (في) ذكر بعض (أسمائه) جمع: اسم؛ وهو كلمة وضعتها العرب بإزاء مسمّى، متى أطلقت فهم منها ذلك المسمّى.
فعلى هذا لا بدّ من مراعاة أربعة أشياء: 1- الاسم، و 2- المسمّى- بفتح الميم-، و 3- المسمّي- بكسرها-، و 4- التسمية.
فالاسم: هو اللفظ الموضوع على الذّات لتعريفها وتخصيصها عن غيرها؛ كلفظ «زيد» .
والمسمّى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم كشخص زيد.
والمسمّي- بالكسر-: هو الواضع لذلك اللفظ.
والتسمية: هي اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات. والوضع: تخصيص لفظ بمعنى إذا أطلق فهم منه ذلك المعنى للعالم بالوضع.
(الشّريفة) وذكر شيء من معانيها (صلّى الله عليه وسلم) وشرّف وكرّم.
(اعلم أنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أسماء كثيرة) ، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى؛ للعناية به وبشأنه. ولذا ترى المسمّيات في كلام العرب أكثر محاولة واعتناء؛ كما في «الشامية» . يعني: أنّهم أكثر ما يحاولون في المسمّيات تمييزها بالأسماء الكثيرة المميزة لها والدالّة على شرفها؛ لا سيما إذا لوحظت المناسبة بين(1/141)
قال الإمام النّوويّ في «التّهذيب» : (قال الإمام الحافظ ...
كلّ اسم ومسمّاه. وقد سمّى الله تعالى نبيّنا محمدا صلّى الله عليه وسلم بأسماء كثيرة في القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
(قال الإمام) الحافظ وليّ الله تعالى الشيخ محيي الدين (النّوويّ) الشافعيّ صاحب التصانيف النافعة المباركة (في) كتاب ( «التّهذيب» ) ؛ أي: «تهذيب الأسماء واللغات» : (قال الإمام الحافظ) هو أحد مراتب خمسة لأهل الحديث، أوّلها 1- الطالب؛ وهو: المبتدىء، ثمّ 2- المحدّث؛ وهو: من تحمّل روايته واعتنى بدرايته، ثمّ 3- الحافظ؛ وهو: من حفظ مائة ألف حديث متنا وإسنادا، ثمّ 4- الحجّة؛ وهو من حفظ ثلثمائة ألف حديث، ثمّ 5- الحاكم؛ وهو: من أحاط بجميع الأحاديث، ذكره المطرّزي.
فائدة: أخرج ابن أبي حاتم في كتاب «الجرح والتعديل» ؛ عن الزّهري:
لا يولد الحافظ إلّا في كلّ أربعين سنة. ولعل ذلك في الزمن المتقدّم، وأما في زماننا هذا؛ فقد عدم فيه الحافظ؛ كذا قاله الباجوري في «حاشيته على الشمائل الترمذية» .
قال السيد عبد الحي الكتاني في «فهرس الفهارس» : وهو عجيب، لأن الحافظ ما دام كما وصفه به الحافظ ابن الجزري: من روى ما يصل إليه، ووعى ما يحتاج إليه. انتهى. وكما وصفه به الخفاجيّ؛ من أنه: من أكثر من رواية الحديث وأتقنها!! فغير منقطع، ولم يختم بالسيوطي والسخاوي؛ كما قيل.
فمن طالع واطّلع، وتوسّع في تتبع تراجم الشاميين والمصريين واليمنيين والهنديين والمغاربة من القرن التاسع إلى الآن لم يجد الزمان خلا عمّن يتّصف بأقل ما يشترط فيمن يطلق عليه اسم الحافظ في الأعصر الأخيرة.
وغاية ما يشترط فيه عندي الآن: أن يكون على الأقل قد اشتهر بالتعاطي والإتقان لهذه الصناعة؛ فأخذ فيها وأخذ عنه، وأذعن من يعتبر إذعانه لقوله فيها، بعد تجريبه عليه: الصدق والتحرّي فيما ينقل ويقول، وبعد الغور. وتمّ له سماع(1/142)
القاضي أبو بكر ابن العربيّ المالكيّ ...
مثل الكتب الستّة والمسانيد الأربعة على أهل الفن المعتبرين، وعرف الاصطلاح معرفة جيدة، ودرس كتب ابن الصلاح وحواشيه، وشروح الألفية وحواشيها، وترقّى إلى تدوين معتبر في السنّة وعلومها، وعرف فيه بالإجادة قلمه، والاطلاع والتوسعة مذهبه، والاختيار والترجيح في ميادين الاختلاف نظره، مع اتساع في الرواية؛ بحيث أخذ عن شيوخ إقليمه ما عندهم، ثم شره إلى الرواية عمّن هم في الأقاليم الأخر بعد الرحلة إليهم، وعرف العالي والنازل، والطبقات والخطوط والوفيات، وحصّل الأصول العتيقة؛ والمسانيد المعتبرة، والأجزاء والمشيخات المفرّقة، وجمع من أدوات الفنّ ومتعلّقاته أكثر ما يمكن أن يحصل عليه، مع ضبطه وصونه لها، واستحضاره لأغلب ما فيها، وما لا يستحضره عرف المظانّ له منها على الأقلّ، ويشبّ ويشيخ وهو على هذه الحالة من التعاطي والإدمان والانقطاع له. فمن حصّل ما ذكر، أو تحقّق وصفه ونعته به؛ جاز أن يوصف بالحفظ عندي بحسب زمانه ومكانه. انتهى كلام الشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى.
قال: فلذلك أردت أن أرشدك إلى من وقفت على وصفه من الأئمة المعتبرين بالحفظ والإتقان، وإنه من كبار محدّثي الزمان، ووجد مع الحافظ ابن حجر وبعده إلى الآن، لتعلم أنّ فضل الله لا ينحصر بزمان؛ أو مكان؛ أو جهة من الجهات، فهو سبحانه يعطي بلا امتنان؛ ولا تحجير عليه من أهل الزمان.
ثم ذكر ثمانية وخمسين شخصا بأسمائهم من أهل القرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وترجم لجميعهم. رحمهم الله تعالى.
آمين.
(القاضي أبو بكر بن العربيّ) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي (المالكيّ) ، ولد في «إشبيلية» سنة: - 468- ثمان وستين وأربعمائة، ورحل إلى المشرق، وبرع في الأدب، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وصنّف كتبا في الحديث والفقه، والأصول والتفسير، والأدب والتاريخ، وولي قضاء «إشبيلية» .(1/143)
في كتابه «عارضة الأحوذيّ في شرح التّرمذيّ» : قال بعض الصّوفيّة: ...
قال ابن بشكوال: هو ختام علماء الأندلس، وآخر أئمّتها وحفّاظها.
ومن مؤلفاته «العواصم من القواصم» ، و «عارضة الأحوذي شرح الترمذي» ، و «أحكام القرآن» ، و «القبس شرح موطأ مالك بن أنس» ، و «الإنصاف في مسائل الخلاف» ، و «أعيان الأعيان» وغيرها. ومات بقرب «فاس» سنة: - 543- ثلاث وأربعين وخمسمائة، ودفن بها. رحمة الله تعالى عليه. آمين.
(في كتابه «عارضة الأحوذيّ في شرح) جامع (التّرمذيّ» ) رحمه الله تعالى، (قال بعض الصّوفيّة) : اعلم أن المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها. فقيل لهم «الصحابة» ، ولمّا أدركهم أهل العصر الثاني سمّي من صحب الصحابة «التابعين» . ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم «أتباع التابعين» ، ثم اختلفت الناس بعدهم وتباينت المراتب فيهم، فقيل لخواصّ الناس ممّن لهم شدّة عناية بأمر الدين «الزّهّاد والعبّاد» . ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادّعوا أن فيهم زهادا، فانفرد خواصّ أهل السنّة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم «الصوفية» . ثم التسمية ب «الصوفية» ، غلبت على هذه الطائفة؛ فيقال «رجل صوفي» ، وللجماعة «صوفية» ، لأنّ الحقّ صافاهم وأخلص لهم النعم بما أطلعهم عليه، ومن يتوصّل إلى التصوّف بالاكتساب والتشبّه بهم يقال له «متصوّف» ، وللجماعة «المتصوفة» .
والتصوّف اسم جامد؛ كاللّقب، وقع على كلّ من اجتمع قلبه وقت ذكره، وتفرّق في أحوال أسباب فكره، وتزايدت أشواقه عند السماع، وخفيت حقائقه عند الاجتماع. ولهم فيه تعاريف كثيرة. والقول بأنه مشتقّ من الصّفا، أو من لبس الصوف، أو من الصف الأوّل؛ يحوج إلى تكلّف، مع عدم الشاهد على ذلك في(1/144)
لله عزّ وجلّ ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألف اسم) انتهى.
وعن جبير بن مطعم بن عديّ رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لي أسماء، أنا محمّد، وأنا أحمد، معظم الأقوال؛ وإن كان معانيها لا يخلو عنها الصوفي باعتبار رسمه وحاله.
واعلم أن حقيقة الصوفيّ: من له جدّ وصدق وإخلاص في متابعة سيّد المرسلين وإمام المرشدين؛ عليه وعلى إخوانه صلوات ربّ العالمين. انتهى.
من «شرح الرسالة القشيرية» وحواشيها.
(لله عزّ وجلّ ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف اسم. انتهى) كلام النووي المنقول عن ابن العربي رحمهم الله تعالى. قال الشّاميّ: والذي وقفت عليه من ذلك خمسمائة اسم، مع أن في كثير منها نظرا. أو المراد الأوصاف؛ لا أنّها كلّها أعلام وضعت له. انتهى.
(و) روى البخاريّ ومسلم؛ (عن جبير) - بضم الجيم وموحدة، مصغّرا- (ابن مطعم بن عديّ) بن نوفل القرشي النوفلي الصحابي العالم بالأنساب، أسلم بين الحديبية والفتح، وقيل: في الفتح. وتوفي سنة: سبع وخمسين- أو ثمان، أو تسع وخمسين- هجرية. (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ لي أسماء) - كذا رواه الأكثر عن الزّهري عن شعيب؛ عند الشيخين. ومعمر ويونس وعقيل وسفيان بن عيينة؛ عند مسلم والترمذيّ. ورواه مالك في «الموطأ» ؛ عن الزهري، ومن طريقه أخرجه البخاريّ أيضا بلفظ: «لي خمسة أسماء» ولم ينفرد بها مالك، بل تابعه محمد بن ميسرة عن الزهري. أخرجه البيهقي وأشار إليه عياض، ف «خمسة» زيادة ثقة غير منافية؛ فيجب قبولها.
ولهذا تعقّب الحافظ وغيره من زعم أنّها من الراوي كما يأتي. انتهى. «زرقاني على «المواهب» » .
(أنا محمّد، وأنا أحمد) - أفعل من الحمد، قطع متعلّقه للمبالغة. وبدأ(1/145)
وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ، ...
بهما!! لأنهما أشهر أسمائه، وقدّم محمّدا!! لأنه أشهرهما- (وأنا الماحي) بحاء مهملة- (الّذي يمحو الله بي الكفر) أي: يزيله، لأنه بعث والدنيا مظلمة بغياهب الكفر؛ فأتى صلّى الله عليه وسلم بالنور الساطع حتّى محاه.
قال القاضي عياض: أي: من مكة وبلاد العرب، وما زوي له من الأرض ووعد أنّه يبلغ ملك أمته. قال: أو يكون المحو عامّا بمعنى الظهور والغلبة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [33/ التوبة] .
وفي «الفتح» : استشكل بأنه ما انمحى من جميع البلاد.
وأجيب بحمله على الأغلب، أو على جزيرة العرب، أو أنّه يمحى بسببه أولا فأوّلا، إلى أن يضمحلّ في زمان عيسى، فإنّه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.
وتعقّب بأن الساعة لا تقوم إلّا على شرار الناس.
ويجاب بجواز أن يرتدّ بعضهم بعد موت عيسى، وترسل الريح اللّيّنة فتقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة؛ فحينئذ فلا يبقى إلا الشّرار.
(وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ) بكسر الميم وبتخفيف الياء؛ بالإفراد، و [قدميّ] بتشديد الياء مع فتح الميم على التثنية، روايتان.
وفي معنى القدم قولان: الأثر، أو الزمان. فعلى الأوّل معنى «على قدمي» : على أثري. أي: أنّه يحشر قبل الناس. ويرجّحه رواية نافع بن جبير «بعثت مع السّاعة» .
وعلى الثاني معنى «على قدميّ» أي: وقت قيامي على قدميّ؛ بظهور علامات الحشر، إشارة إلى أنّه لا نبي بعده؛ ولا شريعة.
واستشكل التفسير باقتضائه أنّه محشور؛ فكيف يفسّر به حاشر اسم فاعل؟!.
وأجيب: بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافة؛ وهي تصحّ بأدنى ملابسة، فلما(1/146)
وأنا العاقب الّذي ليس بعده نبيّ» .
وعن حذيفة ...
كان لا أمّة بعد أمته، لأنّه لا نبيّ بعده؛ نسب الحشر إليه لوقوعه عقبه. أو معناه أول من يحشر؛ كحديث: «أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض» ، أو على مشاهدتي قائما لله شاهدا على الأمم، وقيل: معنى القدم السبب.
(وأنا العاقب) زاد يونس في روايته عن الزهري: (الّذي ليس بعده نبيّ» ) وقد سمّاه الله رؤوفا رحيما. قال البيهقي: «وقد سمّاه» مدرج من قول الزهري. قال الحافظ: وهو كما قال. وكأنه أشار إلى ما في آخر سورة براءة «1» ، وأما قوله:
«الّذي ليس بعده نبيّ» . فظاهره الإدراج أيضا، لكن في رواية ابن عيينة عند الترمذي وغيره؛ بلفظ «الّذي ليس بعدي نبيّ» . انتهى.
وجزم السيوطي على «الموطأ» بأنه مدرج من تفسير الزهري لرواية الطّبراني الحديث من طريق معمر إلى قوله: «وأنا العاقب» . قال معمر: قلت للزّهري:
ما العاقب؟! قال: الذي ليس بعده نبي. قال أبو عبيد: قال سفيان: العاقب آخر الأنبياء. انتهى.
ولا ينافيه رواية «بعدي» بياء المتكلم!! لأنّها قد ترد على لسان المفسّر حكاية عن لسان من فسّر كلامه إذا قوي تفسيره عنده؛ حتّى كأنّه نطق به. وفي رواية نافع بن جبير: فإنّه عقب الأنبياء. قال الحافظ: وهو محتمل للرفع والوقف.
انتهى.
(و) روى التّرمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن) أبي عبد الله (حذيفة) بن [اليمان:] حسل بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن
__________
(1) من قوله تبارك وتعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (128) .(1/147)
رضي الله تعالى عنه قال: لقيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة؛ فقال: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا نبيّ الرّحمة، نزار بن معدّ بن عدنان العبسي؛ حليف بني عبد الأشهل؛ من الأنصار.
قالوا: واليمان لقب «حسل» لقّب به. لأنه أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل من الأنصار، فسمّاه قومه «اليمان» ، لأنّه حالف الأنصار؛ وهم من اليمن.
أسلم حذيفة وأبوه، وهاجرا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشهدا جميعا أحدا «1» وقتل أبوه يومئذ؛ قتله المسلمون خطأ فوهب لهم دمه، وأسلمت أمّ حذيفة وهاجرت.
وكان صاحب سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنافقين يعلمهم وحده، وكان كثير السؤال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أحاديث الفتن والشرّ ليجتنبها.
وتوفي بالمدائن سنة: - 36- ست وثلاثين، بعد قتل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما بأربعين ليلة، ولم يدرك حذيفة وقعة الجمل، لأنّها كانت في جمادى الأولى سنة: - 36- ست وثلاثين. (رضي الله تعالى عنه) ؛ وعن والده ووالدته، وعن الصحابة أجمعين. آمين.
(قال: لقيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة) - أي: سككها- (فقال: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا نبيّ الرّحمة) أي: سببها. قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] . فقد رحم الله جميع المخلوقات، لأمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال، وما بعث به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، فبعث رحمة لأمّته، ورحمة للعالمين، ورحيما بهم، ومترحّما مستغفرا لهم، وجعل أمته مرحومة؛ ووصفها بالرحمة، وأمرها بالتراحم وحضّ عليه؛ فقال: «إنّ الله يحبّ من عباده الرّحماء» ، وقال: «الرّاحمون
__________
(1) وإنما لم يشهدا بدرا!! لأن كفار قريش حينما عارضوهما في طريق الهجرة أخذوا منهما عهدا ألّا يقاتلا مع محمد [صلّى الله عليه وسلم] ، فاستشار حذيفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمره بأن يبر عهده.(1/148)
ونبيّ التّوبة، وأنا المقفّي، وأنا الحاشر، ونبيّ الملاحم» .
يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء» ... إلى غير ذلك. فكانت الرحمة في هذه الأمّة أكثر من غيرها من الأمم. وبالجملة فقد ظهر على يد النبي صلّى الله عليه وسلم ما لم يظهر على يد غيره.
(ونبيّ التّوبة) أي: الآمر بها بشروطها المقررّة، أو كثير التوبة إلى الله تعالى، كثير الرجوع إليه؛ «إنّي أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة؛ أو مائة مرّة» .
(وأنا المقفّي) - بكسر الفاء على أنّه اسم فاعل، أو [المقفّى] بفتحها على أنّه اسم مفعول-. فمعناه على الأوّل: الذي قفّى آثار من سبقه من الأنبياء، وتبع أطوار من تقدّمه من الأصفياء. قال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [90/ الأنعام] أي: في أصل التوحيد ومكارم الأخلاق؛ وإن كان مخالفا لهم في الفروع اتفاقا. ومعناه على الثاني: الذي قفّى به على آثار الأنبياء وختم به الرسالة، قال تعالى (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) [27/ الحديد] . وفي ذلك من الفضل له صلّى الله عليه وسلم أنّه وقف على أحوالهم وشرائعهم؛ فاختار الله له من كلّ شيء أحسنه، وكان في قصصهم له ولأمته عبر وفوائد.
(وأنا الحاشر، ونبيّ الملاحم» ) - بفتح الميم وكسر الحاء المهملة- جمع الملحمة؛ وهي: الحرب ذات القتل الشديد، وسمّيت بها!! لاشتباك الناس فيها كالسّدى واللّحمة في الثوب. وقيل: لكثرة لحوم القتل فيها.
وسمّي «نبيّ الملاحم!!» لحرصه على الجهاد ومسارعته إليه، ولم يجاهد نبيّ وأمّته ما جاهد المصطفى صلّى الله عليه وسلم وأمّته.
أو سمّي «نبيّ الملاحم!!» لأنه سبب لتلاحمهم واجتماعهم.
قال الخطّابي: فإن قيل: كيف الجمع بين كونه «نبيّ الرحمة» و «نبيّ الملاحم» ؛ لا سيما مع قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] ؛(1/149)
ومعنى (المقفّي) : المتّبع من قبله من الرّسل، وكان آخرهم وخاتمهم. و (الملاحم) هي: الحروب.
ففي تسميته صلّى الله عليه وسلّم نبيّ الملاحم إشارة إلى ما بعث به من القتال بالسّيف. ولم يجاهد نبيّ وأمّته قطّ ما جاهد ...
ومع قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّما أنا رحمة مهداة» !!؟
فالجواب: أن بعثه صلّى الله عليه وسلم بالحرب والسيف من وجوه الرحمة، لأن الله تعالى أيّد رسله عليهم الصلاة والسلام بالمعجزات، وجرت عادته تعالى في الأمم السابقة أنهم إذا كذّبوا عوجلوا بالعذاب المستأصل إثر التكذيب، واستؤنيء «1» بهذه الأمة؛ ولم يعاجلوا بالعذاب المستأصل، وأمر بجهادهم ليرتدعوا عن الكفر، ولم يجاحوا «2» بالسيف، لأن للسيف بقية، وليس للعذاب المستأصل بقية.
ومن وجوه الرحمة: ما صحّ أنّه صلّى الله عليه وسلم جاءه ملك الجبال؛ فقال: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحّده؛ ولا يشرك به شيئا» .
ومن وجوه الرحمة أيضا: أنّ الله تعالى وضع عن أمّته الإصر والأغلال التي كانت على الأمم قبلها. قال العلماء: وإنما اقتصر على هذه الأسماء!! لأنها معلومة للأمم السابقة؛ بكونها في كتبهم.
(ومعنى المقفّي) - بكسر الفاء؛ وفتحها-: (المتّبع من قبله من الرّسل) في أصل التوحيد ومكارم الأخلاق، (وكان آخرهم وخاتمهم) ؛ لكونه قفّى آثارهم.
(والملاحم) - بفتح الميم وكسر الحاء المهملة- (هي: الحروب، ففي تسميته صلّى الله عليه وسلم «نبيّ الملاحم» إشارة إلى ما بعث به من القتال بالسّيف) المشعر بكثرة الجهاد مع الكفار في أيام دولته، (ولم يجاهد نبيّ وأمّته قطّ ما جاهد) المصطفى
__________
(1) استؤخر.
(2) من الجوح: الهلاك والاستئصال.(1/150)
صلّى الله عليه وسلّم وأمّته. والملاحم الّتي وقعت وتقع بين أمّته وبين الكفّار.. لم يعهد مثلها قبله؛ فإنّ أمّته يقاتلون الكفّار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار إلى أن يقاتلوا الأعور الدّجّال.
وفي «التّهذيب» : (سمّاه الله عزّ وجلّ في القرآن رسولا، نبيّا، أمّيّا، شاهدا، مبشّرا، نذيرا، داعيا إلى الله بإذنه، (صلّى الله عليه وسلم وأمّته) ، ونصر بالرعب وأحلّت له الغنائم.
واستشعر نقض هذا النفي بنحو قتال يوشع الجبّارين، وقتال داود جالوت، وحمل الإسرائيلي السلاح ألف شهر في سبيل الله؛ فأشار للجواب بقوله:
(والملاحم الّتي وقعت وتقع بين أمّته وبين الكفّار لم يعهد مثلها قبله) صلّى الله عليه وسلم، (فإنّ أمّته) لا يزالون (يقاتلون الكفّار في أقطار الأرض) - جمع قطر- بضم القاف- هو: الناحية- (على تعاقب الأعصار) - جمع عصر؛ وهو الدهر- والجهاد ماض ومستمرّ في أمّته منذ بعث الله نبيّه صلّى الله عليه وسلم (إلى أن يقاتلوا) - أي: أمّته- (الأعور الدّجّال) لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، فاستمراره منهم ودوامه لم يوجد لغيرهم، فإنّ قتال من قبلهم؛ وإن حصل فيه شدّة، لكنه مضى وانقطع.
(وفي «التّهذيب» ) للإمام النووي رحمه الله تعالى: (سمّاه الله عزّ وجلّ في القرآن) في سورة الأعراف (رسولا نبيّا أمّيّا) ؛ في قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) [157/ الأعراف] ، وفي قوله (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) [158/ الأعراف] والأمّيّ: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسب: إمّا للأمّ؛ لأنه باق على حالته التي ولد عليها، أو ل «أمّ القرى» وهي: مكة، لكونه ولد بها؛ قاله الصاوي.
وسمّاه في سورة الأحزاب: (شاهدا) على من أرسل إليهم، (مبشّرا) من صدّقه بالجنة، (نذيرا) منذرا من كذّبه بالنار، (داعيا إلى الله) : إلى طاعته؛ (بإذنه) : بأمره.
والحكمة في الإذن: تسهيل الأمر وتيسيره، لأنّ الدخول في الشيء من غير إذن(1/151)
وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، ومذكّرا، وجعله رحمة ...
متعذّر، فإذا حصل الإذن سهل وتيسر. ومن هنا أخذ الأشياخ استعمال الإجازة للمريدين، فمن أجازه أشياخه أشياخه بشيء من العلم والإرشاد؛ فقد سهلت له الطريق وتيسّرت، ومن لم تحصل له الإجازة وتصدّر بنفسه؛ فقد عطّل نفسه وغيره، وانسدّت عليه الطرق؛ قاله الصاوي.
(وسراجا منيرا) ؛ أي: مثله في الاهتداء، فهو صلّى الله عليه وسلم تقتبس منه الأنوار الحسيّة والمعنوية، قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (46) [الأحزاب] (و) سمّاه الله تعالى في سورة التوبة (رؤوفا) :
شديد الرحمة؛ (رحيما) : يريد لهم الخير. قال تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (128) [التوبة] . قال الحسن بن المفضّل: لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى إلّا للنبي صلّى الله عليه وسلم فسمّاه «رؤفا رحيما» ؛ وقال (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (143) [البقرة] .
(و) سمّاه (مذكّرا) في سورة الغاشية في قوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (21) [الغاشية] (وجعله رحمة) للعالمين، ورحمة مهداة، قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (107) [الأنبياء] فهو رحمة لجميع الخلق: المؤمن بالهداية، والمنافق بالأمان من القتل، والكافر بتأخير العذاب عنه.
وروى الحاكم؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- رفعه: «إنّما أنا رحمة مهداة» . وللطبراني: «بعثت رحمة مهداة» ، قال ابن دحية: معناه: أن الله بعثني رحمة للعباد لا يريد لها عوضا، لأن المهدي إذا كانت هديّته عن رحمة لا يريد لها عوضا. انتهى.
وقال أبو بكر بن طاهر- رحمه الله تعالى-: زيّن الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكوّنه وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، وحياته رحمة، وموته رحمة، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم» ، وكما قال «إذا أراد الله رحمة بأمّة قبض نبيّها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا» . انتهى؛ قاله الزرقاني.(1/152)
ونعمة وهاديا صلّى الله عليه وسلّم.
قال: وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما ...
(و) جعله (نعمة) - بالكسر-: الحالة الحسنة. فهو صلّى الله عليه وسلم النعمة العظمى على العالم؛ لكونه رحمة للعالمين ونورا. قال سهل بن عبد الله التّستري- في قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) [34/ إبراهيم]- قال: نعمته محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال تعالى (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [83/ النحل] يعني: يعرفون أنّ محمدا نبيّ بالمعجزات الظاهرات ثم يكذّبونه؛ عنادا وافتراء. وهذا التفسير مرويّ عن مجاهد، والسّدّي؛ وقال به الزجّاج. انتهى «زرقاني» .
(و) جعله (هاديا صلّى الله عليه وسلم) أي: دالّا، وداعيا؛ أي: ذا دلالة ودعاء، لأنه اسم فاعل من هدى؛ هداية. وأصل معنى الهداية: الدلالة بلطف لما يوصل، أو الموصلة- على الخلاف المشهور-.
وهي أنواع: ما يعمّ كلّ مكلّف من العقل والعلوم الضروريّة، ودعاؤه إيّاهم على ألسنة رسله، والتوفيق الذي يختصّ به من اهتدى، والتي في الآخرة في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [43/ الأعراف] ولا يقدر الإنسان يهدي إلا بالدعاء؛ أي:
الدعوة. ومنه قوله (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (7) [الرعد] أي: داع. وتطلق على خلق الاهتداء؛ وهو التوفيق، وذلك مختصّ بالله، ولذا قال (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [56/ القصص] . انتهى «زرقاني» .
و (قال) ؛ أي النووي أيضا؛ في كتاب «التهذيب» بعد ما سبق-:
(وعن) أبي العبّاس عبد الله (بن عبّاس) بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي المكي الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حبر الأمة، وبحر العلوم، وترجمان القرآن، دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحكمة، وحنّكه بريقه حين ولد؛ وهم في الشّعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين في الرواية، وكانت تشدّ إليه الرّحال، ويقصد من جميع الأقطار.(1/153)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اسمي في القرآن:
محمّد، وفي الإنجيل: أحمد، وفي التّوراة: أحيد، ...
روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة حديث وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاريّ بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
وكانت وفاته بالطائف سنة: ثمان وستين. وصلّى عليه محمد بن الحنفية، وقال: اليوم مات ربّانيّ هذه الأمّة. رحمه الله تعالى ورضي عنه. آمين.
(قال) ؛ أي: ابن عباس؛ فيما أخرجه ابن عدي وابن عساكر بسند واه عنه.
(قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اسمي في القرآن: محمّد،) هو في الأصل اسم مفعول الفعل المضاعف؛ وهو حمّد، سمّي بذلك إلهاما من الله تعالى، ورجاء لكثرة الحمد له. ولذلك قال جدّه (لما قيل له: لم سمّيت ابنك محمدا؟ وليس من أسماء آبائك ولا قومك!!) : رجوت أن يحمد في السماء والأرض. وقد حقّق الله رجاءه، فإنّ الله حمده حمدا كثيرا بالغا غاية الكمال، وكذلك الملائكة والأنبياء والأولياء في كلّ حال، وأيضا يحمده الأوّلون والآخرون وهم تحت لوائه يوم القيامة عند الشفاعة العظمى.
(وفي الإنجيل: أحمد،) هو في الأصل أفعل تفضيل، سمّي بذلك!! لأنه أحمد الحامدين لربّه. ففي «الصحيح» : أنه يفتح عليه يوم القيامة بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله. ولذلك يعقد له لواء الحمد، ويخصّ بالمقام المحمود.
وبالجملة: فهو أكثر الناس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي «أحمد» و «محمد» . ولهذين الاسمين الشريفين مزيّة على سائر الأسماء؛ فينبغي تحرّي التسمية بهما.
(وفي التّوراة أحيد،) - بهمزة مضمومة، ثم حاء مهملة مكسورة؛ فمثناة تحتية ساكنة، ثم دال مهملة- هكذا ضبطه بعضهم على وزن الفعل فهو عربي.(1/154)
وإنّما سمّيت أحيد لأنّي أحيد أمّتي عن نار جهنّم» .
وزاد نقلا عن ابن عساكر: ...
والمشهور ضبطه [أحيد]- بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية؛ على وزن اسم التفضيل-، وبه ضبطه البرهان في «المقتفى» . قال الشّمنيّ: وهو المحفوظ. وهو غير عربي.
(وإنّما سمّيت «أحيد» لأنّي أحيد أمّتي عن نار جهنّم» ) ؛ أي: أدفعهم وأباعدهم عنها بشفاعتي. أو لأنّه حاد عن الطريق الباطل، وعدل بأمّتّه إلى سبيل الحق. وهو غير منصرف؛ للعلمية والعجمة على الثاني، أو وزن الفعل مع العلمية على الأول. نقله الشامي؛ عن البلقيني.
(وزاد) - أي: النووي في «التهذيب» - (نقلا عن) «تاريخ دمشق» للإمام علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي الدمشقي أبي القاسم (ابن عساكر) ؛ أحد أكابر حفاظ الحديث ومن عني به؛ سماعا وجمعا، وتصنيفا واطلاعا، وحفظا لأسانيده ومتونه، وإتقانه لأساليبه وفنونه. وقد أكثر في طلب الحديث من الترحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وهو رفيق أبي سعد بن السّمعاني (صاحب «الأنساب» ) في رحلاته.
وكان «1» ولادة ابن عساكر في دمشق سنة: - 499- تسع وتسعين وأربعمائة هجرية.
وصنّف «تاريخ الشام الكبير» في ثمانين مجلدا، فحاز فيه قصب السبق. ومن نظر فيه وتأمّله رأى ما وصفه فيه وأصّله، وحكم بأنه فريد دهره في التواريخ، وأنّه الذروة العلياء من الشماريخ. وقد اختصره الشيخ عبد القادر بدران بحذف الأسانيد والمكرّرات، وسمّى المختصر «تهذيب تاريخ ابن عساكر» . وطبع من «التهذيب» نحو سبعة أجزاء.
__________
(1) يجوز تذكير الفعل وتأنيثه إذا كان الفاعل مؤنثا مجازيا.(1/155)
الفاتح، وطه، ...
وله غيره من المؤلفات في الحديث. وغيره؛ مثل: «أطراف الكتب الستة» ، و «المعجم المشتمل لشيوخ النبل» ، و «كشف المغطّى في فضل الموطّا» ، و «تبيين الامتنان في الأمر بالاختتان» . وكتاب «أربعين حديثا عن أربعين شيخا؛ من أربعين مدينة» ، و «تاريخ المزة» ، و «معجم الصحابة» ، و «معجم النسوان» ، و «تهذيب الملتمس من عوالي مالك بن أنس» ، و «معجم أسماء القرى والأمصار» ، و «تبيين كذب المفتري في ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» .
وكانت وفاته في الحادي عشر من رجب الحرام سنة: - 571- إحدى وسبعين وخمسمائة، وعمره: اثنان وسبعون سنة. وحضر السلطان صلاح الدين جنازته، ودفن بمقابر باب الصغير. رحمه الله تعالى. آمين.
( «الفاتح) في حديث الإسراء؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا؛ من طريق الربيع بن أنس: قول الله تعالى له فيما خاطبه به ليلة المعراج: «وجعلتك فاتحا وخاتما» . وفي حديث أبي هريرة أيضا في الإسراء قوله صلّى الله عليه وسلم حين أثنى على ربه: «وجعلني فاتحا وخاتما» ، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا، وفتح أمصار الكفر، وفتح أبواب الجنة، وفتح به أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا، وفتح به طرق العلم النافع، وطرق العمل الصالح؛ فسلكهما المؤمنون. وفتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار، وقد يكون المراد ب «الفاتح» : المبدّأ، أي: المقدّم في الأنبياء والخاتم لهم. كما قال عليه الصلاة والسلام: «كنت أوّل النّبيّين في الخلق وآخرهم في البعث» . انتهى؛ من «المواهب» .
(وطه) روى الحافظ النقّاش؛ عنه عليه الصلاة والسلام: «لي في القرآن سبعة أسماء: محمّد، وأحمد، وياسين، وطه، والمزّمّل، والمدّثّر، وعبد الله» وهذا إن صحّ؛ فيفيد أنّ خمسة في حديث جبير بن مطعم السابق الواقع في بعض الروايات، المراد منها: الحصر المقيّد؛ لا المطلق.(1/156)
وياسين، ...
وقد روى ابن عدي في «الكامل» ؛ عن جابر وغيره مرفوعا: «إنّ لي عند ربّي عشرة أسماء» فذكر الخمسة التي في حديث جبير؛ وزاد: «وأنا رسول الرّحمة، ورسول التّوبة، ورسول الملاحم، وأنا المقفّي؛ قفّيت النّبيّين عامّة، وأنا قثم» :
والقثم: الكامل الجامع.
وروى ابن مردويه، وأبو نعيم في «الدلائل» ؛ عن أبي الطفيل رفعه: «لي عشرة أسماء عند ربّي: أنا محمّد، وأنا أحمد، والفاتح، والخاتم، وأبو القاسم، والحاشر، والعاقب، والماحي، وياسين، وطه» . قيل: معنى طه:
يا رجل. وقيل: هو اسم الله. وقيل معناه: يا انسان. وقيل معناه: يا طاهر؛ يا هادي، وقيل معناه: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملّة.
(وياسين) ، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: «لي عند ربّي عشرة أسماء» ... الحديث السابق آنفا الذي رواه ابن مردويه وأبو نعيم؛ عن أبي الطّفيل، لكن ضعّفه ابن دحية؛ وتبعه السيوطي بأنّ فيه أبا يحيى وضّاع، وسيف بن وهب ضعيف. قال الشامي: وليس كذلك، فإن أبا يحيى التيميّ اثنان:
1- إسماعيل بن يحيى الوضّاع المجمع على تركه؛ وليس هو الذي في سند هذا الحديث!!.
و2- إسماعيل بن إبراهيم التيمي، كذا سمّي هو وأبوه في رواية ابن عساكر؛ وهو- كما قال الحافظ في «التقريب» - ضعيف. انتهى. أي: لا وضّاع، فيكون في سنده ضعيفان، فهو ضعيف فقط. ورواه البيهقيّ؛ عن محمد بن الحنفية مرسلا؛ فيعتضد. انتهى «زرقاني» .
وقيل: معنى ياسين: «يا إنسان» بلغة طي؛ قاله ابن عباس والحسن.
وقيل: يا محمد؛ قاله ابن الحنفية والضحّاك. وقيل: يا رجل؛ قاله أبو العالية.
وعن أبي بكر الوراق: يا سيّد البشر. وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيّد؛ مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه من تعظيمه وتمجيده ما لا يخفى. انتهى «مواهب» .(1/157)
وعبد الله، ...
(وعبد الله) ، سمّاه الله تعالى به في أشرف مقاماته صريحا؛ في قوله (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ) [19/ الجن] . أو معنى؛ كبقية الآيات لإضافة «عبد» فيها إلى ضميره تعالى، فساوى في المعنى «عبد الله» فلا يرد: أنّه لم يسمّه به إلّا في آية واحدة.
قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [23/ البقرة] .
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (1) [1/ الفرقان] ، وقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [1/ الكهف] ، فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه، وفي مقام التحدّي بأن يأتوا بمثله، وقال تعالى (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) [19/ الجن] فذكره في مقام الدعوة إليه بالعبودية، وقال تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) [1/ الإسراء] ، وقال (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ)
[10/ النجم] . ولو كان له اسم أشرف منه لسمّاه به في تلك الحالات العلية!!.
ولمّا رفعه الله تعالى إلى حضرته السنيّة، ورقّاه إلى أعلى المعالي العلوية، ألزمه- تشريفا له- اسم العبودية. وقد جمع بين صفتها ظاهرا وباطنا؛ فكان يجلس للأكل جلوس العبد، وكان يتخلّى عن وجوه الترفّعات كلّها في مأكله وملبسه ومبيته ومسكنه، كما يأتي تفصيل ذلك كلّه في شمائله؛ إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان، صدقا عمّا في باطنه من تحقّق العبودية لربّه، تحقيقا لمعنى (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [33/ الزمر] .
ولما خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا؛ اختار أن يكون نبيّا عبدا، فاختار ما هو الأتمّ، فكان صلّى الله عليه وسلم يقول- كما في «الصحيح» ؛ من حديث عمر-:
«لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى، ولكن قولوا (عبد الله ورسوله) » .
فأثبت ما هو ثابت له من العبودية والرّسالة، وأسلم لله ما هو له؛ لا لسواه. وليس للعبد إلّا اسم العبد، ولذا كان «عبد الله» أحبّ الأسماء إلى الله؛ كما قال صلّى الله عليه وسلم:
«أحبّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن» . رواه مسلم. انتهى «مواهب» .(1/158)
وخاتم الأنبياء. وقال القسطلّانيّ في «المواهب» ، والباجوريّ في «حاشية الشّمائل» : ذكر صاحب كتاب «شوق العروس وأنس النّفوس» ، وهو حسين بن محمّد الدّامغانيّ نقلا عن كعب الأخبار (وخاتم الأنبياء) ؛ هو اسم مستقلّ في العدّ؛ وإن كان بمعنى خاتم النبيين.
(وقال) العلّامة الحافظ أبو العبّاس: أحمد بن محمد شهاب الدين (القسطلّانيّ) المصريّ الشافعي رحمه الله تعالى؛ (في «المواهب) اللّدنيّة بالمنح المحمّديّة» .
الذي كلّه حسنات، (و) الإمام العالم العامل برهان الدين: إبراهيم بن محمد بن أحمد (الباجوريّ) شيخ الجامع الأزهر؛ (في «حاشية الشّمائل» ) الترمذية المسماة «المواهب اللدنيّة على الشمائل المحمديّة» (ذكر صاحب كتاب «شوق العروس، وأنس النّفوس» ؛ وهو) الإمام أبو عبد الله: (حسين بن محمّد) بن إبراهيم (الدّامغانيّ) - بفتح الميم والمعجمة- نسبة إلى «دامغان» : مدينة من بلاد «قومس» المتوفّى سنة: - 478- ثمان وسبعين وأربعمائة هجرية، رحمه الله تعالى، من مؤلفاته كتاب «الزوائد والنظائر وفوائد البصائر» ، و «شوق العروس وأنس النفوس» ، وكذا ذكره الحافظ ابن الجوزيّ في كتاب «التّبصرة» ؛ (نقلا عن) أبي إسحاق (كعب الأحبار) التابعيّ المشهور ابن ماتع بن هينوع- ويقال: هيسوع- ويقال: عمرو بن قيس بن معن بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن جمهر بن قطن بن عوف بن زهير بن أيمن بن حمير بن سبأ الحميري.
أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ ولم يره، وأسلم في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما. وصحب عمر وأكثر الرواية عنه، وروى أيضا عن صهيب، وروى عنه جماعة من الصحابة؛ منهم ابن عمر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وأبو هريرة، وخلائق من التابعين؛ منهم ابن المسيّب.
وكان يسكن حمص، ذكره أبو الدرداء، فقال: إن عنده علما كثيرا. واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه. ولا عبرة بكلام من طعن فيه؛ كابن كثير في «البداية» .
وكان قبل إسلامه على دين اليهود، وكان يسكن اليمن.(1/159)
أنّه قال: اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند أهل الجنّة: عبد الكريم، وعند أهل النّار: عبد الجبّار، وعند أهل العرش: عبد الحميد، وعند سائر الملائكة: عبد المجيد، وعند الأنبياء: عبد الوهّاب، وعند الشّياطين: عبد القهّار، ...
وتوفّي في خلافة عثمان سنة: اثنتين وثلاثين؛ وقد جاوز المائة، ودفن بحمص متوجّها إلى الغزو. وما وقع في «الكشاف» وغيره «أنّه أدرك زمن معاوية» !! فلا عبرة به. وروى له الستّة؛ إلا البخاري، فإنّ له فيه حكاية لمعاوية عنده. ومناقبه وحكمه وأحواله كثيرة مشهورة. رحمه الله تعالى آمين.
(أنّه قال) - فيما تلقّاه من الكتب السابقة؛ لأنّه حبرها-:
(اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عند أهل الجنّة «عبد الكريم» ) ، لأنّ الذي أوصلهم إليها فتكرّم الله عليهم فيها بما لا عين رأت؛ ولا أذن سمعت؛ ولا خطر على قلب بشر:
هو المصطفى صلّى الله عليه وسلم بشفاعته في فصل القضاء الذي تنصّل منه الرؤساء، ولأنّه الذي ابتدأ فتح بابها لهم، ولأنّ تكرّم الله عليه فيها لا يضارعه شيء.
(وعند أهل النّار «عبد الجبّار» ) لأنّه جبرهم وقهرهم بالخلود فيها؛ لمخالفته صلّى الله عليه وسلم، ومخالفة من قبله، لأنّ تكذيب واحد تكذيب للجميع (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (105) [الشعراء] .
(وعند أهل العرش «عبد الحميد» ) لحمده على إسرائه إليه، وحمدهم على رؤيته صلّى الله عليه وسلم عنده.
(وعند سائر الملائكة «عبد المجيد» ) ، لأنّ كلا منهم يمجّد الله تعالى ويعبده بنوع، وجمعها الله كلّها له صلّى الله عليه وسلم.
(وعند الأنبياء «عبد الوهّاب» ) ، لأنّ الله تعالى وهبهم النبوّة والآيات البينات، ثم وهبه ما وهبهم ورفعه عليهم درجات.
(وعند الشّياطين «عبد القهّار» ) ؛ لأنه قهرهم وأذلّهم ببعثته، ومنعهم من استراق السمع وغير ذلك.(1/160)
وعند الجنّ: عبد الرّحيم، وفي الجبال: عبد الخالق، وفي البراري: عبد القادر، وفي البحار: عبد المهيمن، وعند الحيتان: عبد القدّوس، وعند الهوامّ: عبد الغياث، وعند الوحوش: عبد الرّزّاق، وعند السّباع: عبد السّلام، وعند البهائم: عبد المؤمن، وعند الطّيور: عبد الغفّار، ...
(وعند الجنّ «عبد الرّحيم» ) ؛ لأنه رحمهم برسالته؛ فلم يكلّفهم الأعمال الشاقّة كالمحاريب والتماثيل، وعادت بركته على كثير منهم فآمنوا به.
(وفي الجبال «عبد الخالق» ) ؛ الذي خلقه بشرا ليس كالأبشار، كما أنّه خلقها أرضا؛ لا كالأرض.
(وفي البراري «عبد القادر» ) ؛ الذي من قدرته أنّه خلق منه سيّد الأوّلين والآخرين.
(وفي البحار «عبد المهيمن» ) ، لأنّه أجلّ من يؤمن بأنّه لا يحصي قطراته، ولا يحفظه إلّا الله تعالى.
(وعند الحيتان «عبد القدّوس» ) لأنّها؛ وإن قدّست الله تعالى كثيرا حتى قيل: ما صيدت سمكة حتى ينقطع تسبيحها؛ فهو في جنب تقديسه صلّى الله عليه وسلم لا شيء.
(وعند الهوامّ «عبد الغياث» ) ؛ الذي أغاث الناس من أذاها ببركته، ثم أغاثها هي بأن سخّر لها رزقها ببركته.
(وعند الوحوش «عبد الرّزّاق» ) ؛ الذي يرزقها ببركة هذا الذي كلّه رحمة للعالمين.
(وعند السّباع «عبد السّلام» ) ؛ الذي سلّم الناس من عدائها.
(وعند البهائم «عبد المؤمن» ) ، لأنه أجلّ من يؤمن بأن تسخيرها منه تعالى.
(وعند الطّيور «عبد الغفّار» ) ؛ الذي يغفر الذنوب ويسترها أقوى من سترها بيضها وفراخها بجناحها.(1/161)
وفي التّوراة: مؤذ مؤذ، وفي الإنجيل: طاب طاب، وفي الصّحف: عاقب، وفي الزّبور: فاروق، وعند الله: طه، وياسين، وعند المؤمنين: محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
(وفي التّوراة «موذ.. موذ» ) بالتكرير، ويروى بألف بدل الواو: «ماذ ماذ» ؛ ومعناه: طيّب.. طيّب. ولا ريب أنّه صلّى الله عليه وسلم طيّب الطيّبين، وحسبك أنّه كان يؤخذ من عرقه ليطيّب به، فهو صلّى الله عليه وسلم طيّب الله نفحه في الوجود؛ فتعطّرت به الكائنات وسمت، واغتذت به القلوب فطابت، وتنسّمت به الأرواح فنمت؛ قاله في «المواهب» .
وقال المصنّف في كتاب «الأسمى فيما لسيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من الأسما» : وقد بسط الكلام على «ماذ.. ماذ» ابن القيّم في «جلاء الأفهام» ، ونقلته عنه في «سعادة الدارين» ، وهو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة. ومن عرف قاعدة لغتهم ونطقهم بالحروف: علم يقينا أنّ معناه محمّد بلا شك، ومن راجع عبارة ابن القيم المذكورة يظهر له ذلك ظهورا بيّنا. انتهى.
(وفي الإنجيل «طاب.. طاب» ) بالتكرير، قال العزفي: من أسمائه في التوراة. ومعناه طيب. وقيل: معناه ما ذكر بين قوم إلّا طاب ذكره بينهم.
(وفي الصّحف) التي نزّلت على موسى قبل التوراة؛ وصحف إبراهيم:
( «عاقب» ) هو الذي جاء عقب الأنبياء فليس بعده نبيّ، لأن العاقب هو الآخر؛ أي: عقب الأنبياء. قيل: وهو اسمه في النار. فإذا جاء لحرمة شفاعته خمدت النار، وسكنت. كما روي أنّ قوما من حملة القرآن يدخلونها فينسيهم الله تعالى ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم. حتى يذكّرهم جبريل فيذكرونه؛ فتخمد النار وتنزوي عنهم.
(وفي الزّبور «فاروق» ) هو: كثير الفرق بين الحق والباطل.
(وعند الله «طه» و «ياسين» ) تقدّم الكلام عليهما.
(وعند المؤمنين «محمّد» صلّى الله عليه وسلم) تقدّم الكلام عليه أيضا.(1/162)
وكنيته: أبو القاسم؛ لأنّه يقسم الجنّة بين أهلها.
قال كعب الأحبار: (وكنيته) - قال الحافظ ابن حجر: بضمّ الكاف وسكون النون؛ من الكناية، تقول (كنيت عن الأمر) إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحا- واشتهرت الكنى في العرب حتّى ربما غلبت على الأسماء ك «أبي طالب» ، وقد يكون للواحد كنية فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعا.
فالاسم والكنية واللّقب يجمعها العلم- بفتحتين- وتتغاير بأن اللّقب: ما أشعر بمدح أو ذمّ، والكنية: ما صدّرت ب «أب» أو «أم» ، وما عدا ذلك؛ فالاسم.
انتهى.
وقال ابن الأثير في كتابه «المرصّع» : الكنية من الكناية؛ وهي: أن تتكلّم بالشيء وتريد غيره، جيء بها لاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه؛ كيلا يصرّح في الخطاب باسمه، ومنه قول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبه، والسّوءة اللّقب
ولقد بلغني أن سبب الكنى في العرب: أنّه كان لهم ملك من الأول ولد له ولد توسّم فيه النجابة؛ فشغف به، فلما نشأ وصلح لأدب الملوك أحبّ أن يفرد له موضعا بعيدا عن العمارة، يقيم فيه ويتخلّق بأخلاق مؤدّبيه، ولا يعاشر من يضيّع عليه بعض زمانه، فبنى له في البرّيّة منزلا ونقله إليه، ورتّب له من يؤدّبه بأنواع الآداب العلمية والملكية، وأقام له حاجته من الدنيا، وأضاف له من أقرانه بني عمّه وغيرهم ليؤنسوه ويحببوا إليه الأدب بالموافقة، وكان الملك كلّ سنة يمضي له؛ ومعه من له عنده ولد، فيسأل عنهم ابن الملك؛ فيقال له: هذا أبو فلان، وهذا أبو فلان. للصبيان الذين عنده، فيعرفهم بإضافتهم إلى أبنائهم؛ فظهرت الكنى في العرب. انتهى.
(أبو القاسم) باسم أكبر أولاده عند الجمهور. وقال العزفي وغيره: (لأنّه يقسم الجنّة بين أهلها) يوم القيامة. وقيل: لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّي(1/163)
قوله: (مؤذ مؤذ) : نقل في «المواهب» عن السّهيليّ:
جعلت قاسما أقسم بينكم» . وقد جاء تكنيته «بأبي القاسم» في عدّة أحاديث صحيحة؛ كقول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في «الصحيح» : قال أبو القاسم.
وقال أنس: كان صلّى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم. فالتفت صلّى الله عليه وسلم، فقال: إني لم أعنك إنّما دعوت فلانا، فقال: «سمّوا باسمي، ولا تكنّوا بكنيتي» . رواه الشيخان البخاري ومسلم. وظاهره المنع مطلقا، وهو المشهور عن الشافعي. وقيل: يختصّ بمن اسمه محمّد، لحديث: نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته. ومذهب مالك وأكثر العلماء- كما قال القاضي عياض في «شرح مسلم» -: الجواز مطلقا. والنّهي مختصّ بزمانه، لإذنه صلّى الله عليه وسلم لجماعة أن يسمّوا من يولد لهم بعده «محمدا» ويكنّوه ب «أبي القاسم» . وهذه أشهر كناه صلّى الله عليه وسلم.
(قوله «موذ.. موذ» نقل) العلامة أحمد بن محمد بن علي بن حسن بن إبراهيم الشهاب الحجازي الأنصاري الخزرجي، الفاضل الأديب، الشاعر البارع، صاحب التصانيف، أجاز له العراقيّ والهيثميّ. ومات في رمضان سنة: - 875- خمس وسبعين وثمانمائة. رحمه الله تعالى في «حاشية الشفاء» ؛ كما (في «المواهب) اللّدنيّة» ؛ (عن) الحافظ العلامة البارع أبي القاسم وأبي زيد:
عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن إصبغ بن حسين بن سعدون الخثعمي الأندلسي المالقي (السّهيليّ) نسبة إلى قرية قريبة من بلد «مالقة» ، سمّيت بالكوكب «سهيل» !! لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلّا من جبل مطلّ على هذه القرية يرتفع- نحو درجتين- ويغيب، الإمام صاحب التصانيف الأنيقة.
ولد بإشبيلية سنة- 508- ثمان وخمسمائة هجرية، كان واسع المعرفة غزير العلم، نحويا متقدّما لغويا، بل كان إماما في لسان العرب. عالما بالتفسير وصناعة الحديث، عارفا بالرجال والأنساب، عارفا بعلم الكلام وأصول الفقه، حافظا للتاريخ القديم والحديث، ذكيّا نبيها، صاحب اختراعات واستنباطات مستغربة، وكان ضرير البصر؛ عمي وهو ابن سبع عشرة سنة.(1/164)
أنّه بضمّ الميم، وإشمام الهمزة ضمّا بين الواو والألف، ممدودا.
وقال: نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال معناه:
طيّب طيّب) انتهى.
وحمل الناس عنه، وسمع منه أبو الخطاب ابن دحية الحافظ، وجماعة.
وصنّف كتاب «الروض الأنف» كالشرح ل «السيرة النبوية» ، فأجاد وأفاد، وذكر أنّه استخرجه من مائة وعشرين مصنّفا. وله كتاب «التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام» ، و «الإيضاح والتبيين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين» ، و «نتائج الفكر» و «كتاب الفرائض» .
قال ابن دحية: كان يتسوّغ بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف، حتى نمي خبره إلى صاحب مرّاكش فطلبه وأحسن إليه، وأقبل عليه. وأقام بها نحوا من ثلاثة أعوام.
وتوفي بها في الخامس والعشرين من شهر شعبان سنة: - 581- إحدى وثمانين وخمسمائة هجرية. رحمه الله تعالى. آمين.
(أنّه) ضبطه (بضمّ الميم وإشمام الهمزة؛ ضمّا بين الواو والألف، ممدودا وقال) - أي: السّهيلي-: (نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال) أي: هذا المسلم العالم-: (معناه: طيّب.. طيّب) . والتكرار للتأكيد، أو المراد طيّب في نفسه؛ أو دنياه، وطيّب في صفاته وآخرته. وكونه اسما واحدا مثل «مرمر» أو مركّب خلاف الأصل. وزعم أنّ داله مهملة لم يقله أحد. (انتهى) كلام «المواهب» مع شيء من الشرح.
وقال المصنف بعد أن ذكر «موذ ماذ» . و «ماذ ماذ» ، و «موذ موذ» و «ميذ ميذ» ؛ كلّها بمعنى محمّد. وقد بسط الكلام على (ماذ ماذ) ابن القيم في «جلاء الأفهام» ، ونقلته عنه في «سعادة الدارين» . وهو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة. ومن عرف قاعدة لغتهم ونطقهم بالحروف؛ علم يقينا أنّه محمد بلا شك. ومن راجع عبارة ابن القيم المذكورة يظهر له ذلك ظهورا بيّنا. انتهى.(1/165)
فيكون بمعنى الاسم الآخر وهو: (طاب.. طاب) .
وأمّا الفاروق: فهو الّذي يفرّق بين الحقّ والباطل، وهو معنى اسم (البار قليط) المذكور في «إنجيل يوحنّا» .
وقد ألّف خاتمة الحفّاظ جلال الدّين السّيوطيّ رسالة سمّاها:
«البهجة السّنيّة في الأسماء النّبويّة» جمع ...
وأما على ما نقله السّهيلي عن العالم الإسرائيلي! (فيكون بمعنى الاسم الآخر، وهو «طاب.. طاب» في أنّ كلّا منهما معناه طيّب.
(وأمّا الفاروق! فهو الّذي يفرّق بين الحقّ والباطل) ، وقد سبق لنا: أنّ معناه كثير الفرق بين الحق والباطل، (وهو معنى اسم «البار قليط» ) ؛ بالموحدة- «وبالفاء بدلها» - وفتح الراء والقاف بعدها لام مكسورة فتحتية ساكنة فطاء مهملة؛ وبسكون الراء مع فتح القاف بعدها لام مكسورة، وبفتح الراء مع سكون القاف، وكسر الراء وسكون القاف. قال ثعلب: معنى البار قليط الذي يفرّق بين الحق والباطل. وقيل معناه: روح الحق، لأنّه صلّى الله عليه وسلم قائم بالحق؛ كقيام الروح بالحيوان.
قال التقي الشمنّي: وأكثر أهل الإنجيل على أن معناه المخلّص، وهذا الاسم هو (المذكور في إنجيل يوحنّا) ، من أتباع عيسى؛ وليس نبيّا. إذ ليس بين عيسى ونبينا نبيّ، كما قال صلّى الله عليه وسلم وهو الصحيح.
وقال صاحب «الخميس» ؛ عن «المنتقى» : إنما قال في «إنجيل يوحنا» !! لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين:
متّى، ويوحنّا، وقيسر، ولوقا. فتكلّم كلّ واحد من هؤلاء بعبارة لملاءمة الذين اتبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافا شديدا.
(وقد ألّف) الإمام العلّامة المجتهد (خاتمة الحفّاظ) الجامع بين الشريعة والحقيقة؛ نادرة علماء الدنيا الحافظ: (جلال الدّين) عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر (السّيوطيّ) نسبة إلى «إسيوط» ؛ قرية من قرى مصر.
وقد تقدّمت ترجمته- (رسالة سمّاها «البهجة السّنيّة في الأسماء النّبويّة» جمع(1/166)
فيها نحو الخمس مئة. ونقل في «المواهب» عن كتاب «أحكام القرآن» لأبي بكر ابن العربيّ: أنّ لله تعالى ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألف اسم.
قال القسطلّانيّ: (والمراد: الأوصاف، فكلّ الأسماء الّتي وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك.. فله صلّى الله عليه وسلّم من كلّ وصف اسم.
فيها) من الأسماء (نحو الخمس مائة) ، وألّف قبله الحافظ ابن دحية كتابا سمّاه «المستوفى في أسماء المصطفى صلّى الله عليه وسلم» في نحو مجلّدين، جمع فيه للنبي صلّى الله عليه وسلم فوق الثلاث مئة. وذكر أماكنها في القرآن والأخبار، وضبط ألفاظها، وشرح معانيها.
واستطرد كعادته إلى فوائد كثيرة غالبها صفات له صلّى الله عليه وسلم. قال ملّا علي قاري: وكان شيخ مشايخنا السيوطيّ اختصره في كراريس؛ وسمّاه «بالبهجة البهية في الأسماء النبوية» .
(ونقل) ؛- أي: القسطلّاني- (في «المواهب) اللّدنّية» ؛ (عن كتاب «أحكام القرآن» ) ، وكذلك في «عارضة الأحوذي شرح الترمذي» - كما تقدّم- وكلاهما (لأبي بكر بن العربيّ) المالكي المشهور: (أنّ لله تعالى ألف اسم) وهذا العدد قليل في حقه تعالى، (وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلم ألف اسم) قال الشامي: والذي وقفت عليه من ذلك: خمس مائة اسم. مع أن في كثير منها نظرا.
(قال) العلامة (القسطلّانيّ) في «المواهب اللدنية» : (والمراد الأوصاف) ، لا أنّها كلّها أعلام وضعت له! (فكلّ الأسماء الّتي وردت أوصاف مدح) ، وكثير ما يطلق الاسم على الصفة للتغليب، أو لاشتراكهما في تعريف الذات وتمييزها عن غيرها.
(وإذا كان كذلك؛ فله صلّى الله عليه وسلم من كلّ وصف اسم) . قال ابن عساكر: وإذ اشتقّت أسماؤه من صفاته كثرت جدا. انتهى.
ويمكن أن هذا مستند من قال من الصوفية: «إنّها ألف» - كما تقدم-.(1/167)
ثمّ إنّ منها ما هو مختصّ به، أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك. وكلّ ذلك بيّن بالمشاهدة لا يخفى.
وإذا جعلنا له من كلّ وصف من أوصافه اسما.. بلغت أسماؤه ما ذكر، بل أكثر.
قال: والّذي رأيته في كلام شيخنا- يعني الحافظ السّخاويّ-..
(ثمّ إنّ منها ما هو مختصّ به؛ أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك) بينه وبين غيره، (وكلّ ذلك بيّن بالمشاهدة لا يخفى) . وقال ابن القيّم: ينبغي أن يفرّق بين 1- الوصف المختصّ به؛ أو الغالب عليه؛ فيشتق له منه اسم، وبين 2- المشترك فلا يكون له منه اسم يخصّه. قال الزرقاني: قال شيخنا: ولا منافاة، لجواز أن مراده إذا ورد مصدر؛ أو فعل معناه مشترك بينه وبين غيره؛ ثم اشتقّ له منه اسم لا يكون مختصّا به، بل هو باق على اشتراكه، ولكنه يحمل عليه بقرينة.
(وإذا جعلنا له من كلّ وصف من أوصافه اسما بلغت أسماؤه ما ذكر) - أي:
ابن دحية من الثلاث مائة- (بل) بلغت (أكثر) . و «بل» انتقالية.
(قال) - أي- القسطلّاني: (والّذي رأيته في كلام شيخنا يعني: الحافظ) محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد شمس الدين (السّخاويّ) الأصل؛ نسبة إلى «سخا» ؛ قرية من قرى مصر، القاهري الشافعي المؤرّخ الحجّة الثبت، العلامة؛ في التفسير والحديث والأدب.
ولد في ربيع الأول سنة: - 831- إحدى وثلاثين وثمان مائة بالقاهرة، أخذ عن مشايخ عصره بمصر ونواحيها حتى بلغوا أربعمائة شيخ؛ منهم ابن هشام، والعلم البلقيني، والشرف المناوي، والشمنّي، وابن الهمام، وابن حجر، ولازمه وانتفع به؛ وتخرّج به في الحديث. وأقبل على هذا الشأن بكليته وتدّرب فيه، وسمع العالي والنازل، وساح البلدان سياحة طويلة.
وحجّ مرات، وجاور هو وأهله وأولاده بالحرمين مجاورات، وانتفع به أهل(1/168)
في «القول البديع» ، والقاضي عياض في «الشّفا» ، وابن العربيّ في «القبس» و «الأحكام» ، وابن سيّد النّاس ...
الحرمين، وبرع في الحديث وفاق الأقران، وحفظ من الحديث ما صار به متفرّدا عن أهل عصره، وطار اسمه في الآفاق، وأخذ عنه علماء الآفاق، من المشايخ والطلبة والرفاق. وله اليد الطّولى في المعرفة بأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، وبعده مات فنّ الحديث، وأسف الناس على فقده؛ ولم يخلّف بعده مثله.
وصنّف زهاء مائتي كتاب أشهرها «الضوء اللامع» في أهل القرن التاسع. ولو لم يكن له إلّا هذا الكتاب؛ لكان أعظم دليل على إمامته.
وكانت وفاته بالمدينة المنورة في عصر يوم الأحد سادس عشر شعبان سنة:
902- تسع مائة واثنتين هجرية، رحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
(في «القول البديع) في الصلاة على الحبيب الشفيع» ، (و) في كلام الإمام العلّامة (القاضي عياض) بن موسى اليحصبي رحمه الله تعالى- وقد تقدّمت ترجمته- (في «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى» . الذي كلّه حسنات، (و) في كلام الحافظ القاضي أبي بكر (ابن العربيّ) المالكي (في «القبس) على موطأ مالك بن أنس» ، (و) في ( «الأحكام» ) له (و) في كلام الإمام العلامة المحدّث الحافظ الأديب البارع: أبي الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن محمد بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز (ابن سيّد النّاس) بن أبي الوليد بن منذر بن عبد الجبار بن سليمان اليعمري الأندلسيّ الأصل، المصري.
ولد في ذي القعدة سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة، وسمع من خلائق نحو الألف، ولازم ابن دقيق العيد وتخرّج عليه، وأعاد عنده عليه، وكان يحبّه ويثني عليه، وأخذ العربية عن البهاء ابن النحّاس. وكتب الخط المغربي والمصري فأتقنهما، وكان أحد الأعلام الحفّاظ؛ إماما في الحديث، ناقدا في الفن، خبيرا(1/169)
وغيرهم.. يزيد على الأربع مئة، ثمّ سردها مرتّبة على حروف المعجم) .
وذكر منها الإمام الجزوليّ ...
بالرجال والعلل والأسانيد، عالما بالصحيح والسقيم، حسن التصنيف، صحيح العقيدة، أديبا شاعرا بارعا، متفنّنا في البلاغة، ناظما ناثرا مترسّلا. وصنف «السيرة الكبرى» ، و «الصغرى» ، و «شرح الترمذي» ولم يكمله، فكمّل عليه الحافظ العراقي؛ ولم يتمّ أيضا.
ومات في شعبان سنة: - 734- أربع وثلاثين وسبعمائة هجرية رحمه الله تعالى؛ ولم يخلّف في مجموعه مثله. رحمه الله تعالى. آمين.
(وغيرهم يزيد على الأربعمائة) قال السيوطي: وكثير منها لم يرد بلفظ الاسم، بل بصيغة المصدر، أو الفعل. وقد اعتبر ذلك عياض وابن دحية، وهو خلاف ما اعتبره الجمهور؛ خصوصا أهل الحديث في أسمائه تعالى. انتهى.
ونقل الغزالي الاتفاق- وأقرّه في «الفتح» - على أنّه لا يجوز لنا أن نسمّيه صلّى الله عليه وسلم باسم لم يسمّه به أبوه؛ ولا سمّى به نفسه. انتهى. أي: لا يجوز أن نخترع له علما؛ وإن دلّ على صفة كمال، ولا يرد على الاتفاق وجود الخلاف في أسمائه تعالى، لأن صفات الكمال كلّها ثابتة له عزّ وجلّ، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما يطلق عليه صفات الكمال اللائقة بالبشر، فلو جوّز ما لم يرد به سماع لربّما وصف بأوصاف تليق بالله دونه على سبيل الغفلة؛ فيقع الواصف في محظور وهو لا يشعر. (ثمّ سردها) ؛ أي: الأسماء التي وقف عليها؛ أي: ذكرها (مرتّبة على حروف) الخط (المعجم) ؛ اسم مفعول من أعجمت الكتاب بالألف: أزلت عجمته بما يميّزه عن غيره بنقط وشكل؛ كما في «المصباح» ،
وكأنّه أراد الإزالة الكاملة، وإلّا! فهي حاصلة بالنّقط فيما ينقط كجيم وباء، فلا حاجة لزيادة، والإهمال. انتهى «زرقاني» .
(وذكر منها الإمام) العلّامة الوليّ الصالح محمد بن سليمان بن عبد الرحمن (الجزوليّ) السّملالي الشريف الحسني الشاذلي. صاحب «دلائل الخيرات» ؛(1/170)
في «دلائل الخيرات» ...
من أهل «سوس» المراكشية. تفقّه «بفاس» ، وحفظ «المدوّنة» في فقه مالك وغيرها. وحجّ وقام بسياحة طويلة ثم استقرّ «بفاس» . ودخل الخلوة للعبادة نحو أربعة عشر عاما، ثم خرج للانتفاع به، فأخذ في تربية المريدين، وتاب على يده خلق كثير، وانتشر ذكره في الآفاق، وظهرت له الخوارق العظيمة، والكرامات الجسيمة والمناقب الفخيمة، واجتمع عنده من المريدين أكثر من اثني عشر ألفا.
ومن كراماته رضي الله عنه أنّه بعد وفاته بسبع وسبعين سنة نقلوه من قبره في بلاد سوس إلى مراكش، فوجدوه كهيئته يوم دفن ولم تقدر عليه الأرض، ولم يغيّر طول الزمن من أحواله شيئا، وأثر الحلق من شعر رأسه ولحيته ظاهر كحاله يوم موته، إذ كان قريب العهد بالحلق. ووضع بعض الحاضرين إصبعه على وجهه حاصرا بها فحصر الدم عما تحتها؛ فلما رفع إصبعه رجع الدم، كما يقع ذلك في الحي.
وقبره بمراكش عليه جلالة عظيمة، والناس يزدحمون عليه، ويكثرون من قراءة «الدلائل» عنده.
وثبت أن رائحة المسك توجد من قبره من كثرة صلاته على النبي صلّى الله عليه وسلم.
والجزولي نسبة إلى «جزولة» أو «كزولة» ؛ بطن من البربر، وكانت وفاته سنة: - 870- سبعين وثمانمائة رحمه الله تعالى آمين، وأعاد علينا من بركاته آمين؛
(في) كتابه ( «دلائل الخيرات» ) الذي قيل؛ في سبب تأليفه: إنّ مؤلّفه سيّدي محمد بن سليمان الجزولي حضره وقت الصلاة، فقام يتوضّأ؛ فلم يجد ما يخرج به الماء من البئر. فبينما هو كذلك إذ نظرت إليه صبيّة من مكان عال؛ فقالت له: من أنت؟ فأخبرها. فقالت له: أنت الرجل الذي يثنى عليك بالخير؛ وتتحيّر فيما تخرّج به الماء من البئر!! فبصقت في البئر ففاض ماؤها على وجه الأرض، فقال الشيخ بعد أن فرغ من وضوئه: أقسمت عليك؛ بم نلت هذه المرتبة؟! فقالت: بكثرة الصلاة على من كان إذا مشى في البرّ الأقفر تعلّقت(1/171)
مئتين وواحدا.
الوحوش بأذياله صلّى الله عليه وسلم. فحلف يمينا أن يؤلّف كتابا في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم.
(مائتين وواحدا) قال الفاسي شارح «الدلائل» : وهو جمع الشيخ أبي عمران الزّناتي أتى بها الجزولي على ترتيبه ولفظه. انتهى.
ثم جاء بعد الجزولي الحافظ السّيوطي؛ فجمع منها ما ذكره ابن دحية وغيره، وما استخرجه هو من القرآن والحديث؛ فبلغ ذلك ثلثمائة وبضعة وأربعين اسما.
وشرحها بكتاب سمّاه «الرياض الأنيقة في أسماء خير الخليقة» صلّى الله عليه وسلم.
وجمعها معاصره الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه «القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع» صلّى الله عليه وسلم، فأبلغها إلى أربعمائة وثلاثين اسما.
ثم ذكرها القسطلّاني تلميذ السّخاوي في «المواهب اللدنيّة» ، وزاد على شيخه المذكور قليلا.
ثم أبلغها الحافظ الشاميّ تلميذ الحافظ السيوطي إلى أكثر من ثمانمائة. وذكر زياداته الزرقانيّ في «شرح المواهب» مفرّقة في حروفها.
وكلّهم رتّبوها على الحروف ماعدا صاحب «الدلائل» . وكلّ واحد منهم ذكر أسماء لم يذكرها غيره، حتى إنّ صاحب «الدلائل» الذي هو أقلّهم عددا ومتقدّم عليهم في الزمن؛ ذكر منها أسماء لم يذكروها.
ثم جاء المصنّف الشيخ يوسف النبهاني فجمع جميع ما ذكروه كلّهم في مؤلّف مختصر سمّاه كتاب «الأسمى فيما لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من الأسما» ؛ فبلغت نحو الثمانمائة وستين اسما مرتّبة على حروف المعجم شرحها شرحا مختصرا. ولم يجتمع هذا العدد لأحد غير المصنّف في هذا الكتاب.
ثم نظم هذا المؤلّف في رسالة مزدوجة سمّاها «أحسن الوسائل في نظم أسماء النبي الكامل» وحذف من المزدوجة الأسماء الأعجمية؛ ك «البار قليط» ، واشتملت المزدوجة على نحو ثمانمائة وأربعة وعشرين اسما، والتزم في هذه(1/172)
المزدوجة في الشطر الخامس أن يذكر فيه ضمير النبي صلّى الله عليه وسلم لتتمكّن الصلاة عليه، وهذا أوّل «المزدوجة» ، قال رحمه الله تعالى بعد البسملة:
الحمد لله الغنيّ الأحد ... الواحد الفرد العليّ الصّمد
السّيّد المطلق خير سيّد ... مولي أسامي عبده محمّد
خير الورى ذاتا ووضعا وسما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما
صلّى عليه ربّنا وشرّفا ... والآل والصّحب وكلّ الحنفا
وبعد؛ فاسمع يا محبّ المصطفى ... نظم أساميه تجد فيها الشّفا
نظمت منها فيه ما قد علما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما
أبلغتها الثّماني المئينا ... بالنّظم والنّيّف والعشرينا
نظمتها عقدا له ثمينا ... زيّن صدر عصرنا تزيينا
بحسنه فاق اللآلي قيما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما
سمّيتها ب «أحسن الوسائل ... في نظم أسماء النّبيّ الكامل»
أبغي رضى الله لهذا القائل ... وكلّ قارىء لها وقابل
ممّن غدا له محبّا مسلما ... صلّى عليه ربّنا وسلّما
قال المصنف: ويمكن إبلاغ أسمائه الشريفة صلّى الله عليه وسلم إلى الألف، ولكن بذكر أوصافه صلّى الله عليه وسلم المنقولة عن الصحابة في شمائله الشريفة عليه الصلاة والسلام. وقد ذكروا منها كثيرا في أسمائه المجموعة هنا؛ ولكنهم لم يستوفوها، وبقي منها مما لم يذكروه أوصاف كثيرة؛ هي أولى بعدّها في أسمائه صلّى الله عليه وسلم من بعض الأسماء التي ذكروها!! ولعل الحامل لهم على ذلك اشتراط أن تكون أوصافه التي عدّوها في أسمائه صلّى الله عليه وسلم واردة عنه صلّى الله عليه وسلم في الحديث، ولم يعتبروا جميع ما ورد عن الصحابة في وصفه عليه الصلاة والسلام، إلا إذا كان موافقا لما ورد عنه بلفظه صلّى الله عليه وسلم، وإن كان الظاهر خلاف ذلك، فإن كثيرا من الأسماء المذكورة هي من أوصاف شمائله الواردة عنهم ك «الأزجّ» و «الأبلج» و «المفلّج» و «الأدعج» ، وما أشبه ذلك من أوصافه صلّى الله عليه وسلم الواردة عنهم. فقد كان يمكن مع ذكر «الوسيم» في ذكر الأسماء ذكر(1/173)
وقال في «التّهذيب» : (وكنيته صلّى الله عليه وسلّم المشهورة:
أبو القاسم، وكنّاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم: أبا إبراهيم) .
«القسيم» أيضا، فإنّه وارد منه في «الشمائل» ومعناهما واحد؛ وهو الجميل.
وهو أولى من ذكر الجمل التي ذكروها في الأسماء، ولا سيما إذا كان فيها خطاب من الله للمؤمنين؛ كقوله (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) [128/ التوبة] ، أو خطاب من المؤمنين لله كقوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [7/ الفاتحة] ، فقد عدّوا هذين في الأسماء، وعدوا أوصافا لم ترد مورد التسمية؛ مثل «المقصوص عليه» ، «المتلوّ عليه» ... ونحوهما. وعدّوا من أوصاف شمائله الشريفة الواردة عن أصحابه «الأنوار المتجرّد» ومثل هذا كثير في شمائله لم يعدّوه. والقصد أنّهم لو تتبّعوا أوصافه الشريفة الواردة عن أصحابه في الشمائل؛ لوجدوا مثل هذه الأسماء المتقدّمة كثيرا. وكانت تبلغ ألفا أو تزيد، فمن ذلك وصف أصحابه له صلّى الله عليه وسلم بأنه كان فخما مفخّما، حسن الجسم، معتدل الخلق، بادنا ونحو ذلك مما هو مذكور في «الشمائل» من أوصافه الشريفة الواردة عن أصحابه؛ ولم يذكروه في الأسماء، مع أنهم ذكروا ما هو مثله أو أقلّ مناسبة منه، وقد ذكروا في الأسماء «المفخّم» ؛ ولم يذكروا «الفخم» مع أنهما سواء مثل «القسيم» و «الوسيم» !!.
وقولهم: إن أكثرها أوصاف لا أسماء أعلام؛ يظهر أنّهم كانوا يتتبعونها من الكتاب والسنة، ويستنبطونها من المصادر والأفعال الواردة فيهما، وعن الصحابة في شمائله الشريفة حتى بلغت هذا المبلغ. وقد كان يمكنني أن أزيدها من «الشمائل» فتبلغ الألف؛ لكني لم أتجاسر على ذلك بعدّ ذلك من أسمائه صلّى الله عليه وسلم؛ وإن كان واردا عن أصحابه. انتهى كلام المصنف ملخصا.
(وقال) الإمام النووي (في «التّهذيب» : وكنيته صلّى الله عليه وسلم) - وقد سبق الكلام على الكنية وسببها- (المشهورة) ، ولذا بدأ بها ( «أبو القاسم» ) ؛ باسم أكبر أولاده عند الجمهور. وقال العزفي وغيره: لأنّه يقسم الجنة بين أهلها يوم القيامة.
وقيل: لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّي جعلت قاسما أقسم بينكم» - كما تقدّم-. (وكنّاه جبريل صلّى الله عليه وسلم «أبا إبراهيم» ) باسم آخر أولاده؛ كما جاء في حديث(1/174)
وأفضل أسمائه صلّى الله عليه وسلّم: محمّد. قال القسطلّانيّ:
أنس عند البيهقي في مجيء جبريل إليه عليهما الصلاة والسلام، وقوله: «السلام عليك؛ يا أبا إبراهيم» وذلك لما وقع في نفسه صلّى الله عليه وسلم، من تردّد «مابور» الغلام الذي أهدي مع مارية عليها، فبعث عليّا ليقتله؛ فوجده ممسوحا، فرجع فأخبره صلّى الله عليه وسلم.
فقال: «الحمد لله الّذي صرف عنّا أهل البيت» .
ولفظ الحديث عند البيهقي وابن الجوزي رحمهما الله تعالى؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه: لمّا ولد إبراهيم من مارية كاد يقع في نفس النبي صلّى الله عليه وسلم منه، حتى أتاه جبريل فقال: «السلام عليك يا أبا إبراهيم» .
وعند الطبراني؛ من حديث ابن عمرو بن العاص في القصّة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب: «ألا أخبرك يا عمر؛ أنّ جبريل أتأني فأخبرني أنّ الله برّأها وقرينها ممّا وقع في نفسي، وبشّرني أنّ في بطنها غلاما منّي، وأنّه أشبه النّاس بي، وأمرني أن أسمّيه إبراهيم، وكنّاني ب «أبي إبراهيم» ، ولولا أنّي أكره أن أحوّل كنيتي الّتي عرفت بها لتكنّيت ب «أبي إبراهيم» كما به كنّاني جبريل» . انتهى.
ويكنى صلّى الله عليه وسلم ب «أبي الأرامل» ، وب «أبي المؤمنين» انتهى «زرقاني» .
(وأفضل أسمائه صلّى الله عليه وسلم: محمّد) ، لما فيه من خصائص، منها: أنّه لا يصحّ إسلام كافر إلّا به، وتعيّن الإتيان به في التشهّد عند قوم فيهما.
ومنها كون سفينة نوح جرت به، ومنها أنّ آدم تكنّى به في الجنة؛ دون سائر بنيه.
ومنها أنّه يخرج منه بالضرب والبسط عدد المرسلين ثلثمائة وثلاثة عشر، لأنّ الميم إذا كسرت فهي ميم، والحرف المشدّد بحرفين؛ فهي ثلاث ميمات بمائتين وسبعين «1» ، ودال بخمسة وثلاثين، والحاء بثمانية بلا تكسير.
(قال) العلّامة (القسطلّانيّ) - بضم القاف وسكون السين المهملة، وضمّ
__________
(1) على حساب الجمّل الصغير.(1/175)
(وقد سمّاه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي عام، كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه.
الطاء المهملة وتشديد اللام بعدها نون وياء، نسبة ل «قسطيلية» بلد بالأندلس. أو من إقليم إفريقية غربي «قفصة» على خلاف في ذلك، ولا مانع من أن تكون قسطيلية اسما للبلدة والإقليم معا، وهو الظاهر لي من كلامهم. انتهى؛ ذكره في «فتح ربّ الأرباب» .
(وقد سمّاه الله تعالى بهذا الاسم) - وهو اسم محمد- (قبل الخلق بألفي عام) ؛ أي: بمدّة لو قدّرت بالزمان كان مقدارها ذلك، وإلّا فقبل الخلق؛ لا ليل ولا نهار، (كما ورد في حديث) أبي نعيم الطويل المرويّ؛ عن (أنس) بن مالك بن النّضر بن ضمضم- بفتح الضادين المعجمتين- ابن زيد بن حرام بالراء- بن جندب- بضم الدال وفتحها- ابن عامر بن غنم- بفتح الغين المعجمة وإسكان النون- ابن عديّ بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة الأنصاري الخزرجي النّجّاري النضري «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» كان يتسمّى بذلك ويفتخر به. وحقّ له ذلك، كنّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أبا حمزة» ببقلة كان يحبّها، وأمّه أمّ سليم وكانت خدمته للنبي صلّى الله عليه وسلم عشر سنوات، مدّة إقامته بالمدينة المنورة؛ ثبت ذلك في «الصحيح» ، وحمل عنه حديثا كثيرا. فروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم ألفي حديث ومائتين وستّة وثمانين حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على مائة وثمانية وستّين، وانفرد البخاريّ بثلاثة وثمانين، وانفرد مسلم بأحد وسبعين حديثا. وكان أكثر الصحابة مالا وأولادا، لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلم له بذلك. (رضي الله عنه) .
قال ابن قتيبة في «المعارف» : ثلاثة من أهل البصرة لم يموتوا حتّى رأى كلّ واحد منهم مائة ذكر من صلبه: أنس بن مالك، وأبو بكرة، وخليفة بن بدر.
واتفق العلماء على مجاوزة عمره مائة سنة، لأنه ثبت في «الصحيح» أنّه كان له قبل الهجرة عشر سنين، وكانت وفاته سنة: ثلاث وتسعين- بتقديم المثناة على السين- هذا هو القول الصحيح في وفاته. وهو الذي عليه الجمهور. فعمره- كما ترى- يزيد على المائة رحمه الله تعالى ورضي عنه. آمين.(1/176)
وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار: أنّ آدم أوصى ابنه شيثا فقال: أي بنيّ؛ أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التّقوى والعروة الوثقى، ...
(وروى) الحافظ عليّ بن الحسن الدمشقي أبو القاسم (ابن عساكر) رحمه الله تعالى (عن كعب الأحبار) جمع حبر- بفتح الحاء وكسرها- وإليه يضاف كالأول لكثرة كتابته بالحبر؛ حكاه أبو عبيد، والأزهريّ؛ عن الفراء.
وقال ابن قتيبة وغيره: كعب الأحبار: العلماء؛ واحدهم حبر؛ كما في «مشارق» القاضي، و «تهذيب» النووي، و «مثلثات» ابن السيّد، والنور وغيرهم. وأغرب صاحب «القاموس» في قوله: كعب الحبر، ولا تقل «الأحبار» فإنّها دعوى نفي غير مسموعة مع مزيد عدالة المثبتين، بل إضافته إلى الجمع أقوى في المدح؛ سواء قلنا إنّه المداد، أو العلماء؛ أي: ملجؤهم. انتهى «زرقاني» وتقدّمت ترجمته رحمه الله تعالى.
(أنّ آدم) عليه الصلاة والسلام (أوصى ابنه شيثا) الذي هو أجمل أولاده وأشبههم به وأحبّهم إليه وأفضلهم، وعلّمه الله الساعات والعبادة في كلّ ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وزوّجه الله أخته التي ولدت بعده؛ وكانت جميلة كأمّها حوّاء، وخطب جبريل وشهدت الملائكة، وكان آدم وليّها، ورزقه الله أولادا في حياة أبيه، وعمّر تسعمائة واثنتي عشرة سنة- وقيل: عشرين- ومات لمضيّ ألف واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم، ودفن في غار أبي قبيس، وكان وصيّا لآدم على أولاده، ولم يمت آدم حتّى بلغ أولاده وأحفاده أربعين ألفا، الصلبية منهم أربعون. انتهى «زرقاني؛ على «المواهب» » .
(فقال) - أي: آدم- (أي) بفتح الهمزة؛ حرف نداء للقريب أي يا- (بنيّ؛ أنت خليفتي من بعدي، فخذها) - أي: الخلافة- (بعمارة التّقوى) ؛ أي:
بعمارتك إيّاها بالتقوى فيها، بأن تقوم بحقّ الخلافة (والعروة الوثقى) : العقد(1/177)
وكلّما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمّد، فإنّي رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، ثمّ طفت السّماوات فلم أر فيها موضعا إلّا ورأيت اسم محمّد مكتوبا عليه، وإنّ ربّي أسكنني الجنّة، فلم أر فيها قصرا ولا غرفة إلّا وجدت اسم محمّد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمّد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنّة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، ...
المحكم، تأنيث الأوثق؛ مأخوذ من الوثائق- بالفتح- وهو حبل- أو قيد- يشدّ به الأسير، والدابّة. مستعارة للتمسّك بالحق.
(وكلّما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمّد، فإنّي رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش) أي: قوائمه (ثمّ) إني (طفت السّماوات فلم أر فيها موضعا إلّا ورأيت اسم محمّد مكتوبا عليه، وإنّ ربّي أسكنني الجنّة؛ فلم أر فيها قصرا ولا غرفة إلّا وجدت اسم محمّد مكتوبا عليه) ؛ أي: المذكور (ولقد رأيت اسم محمّد مكتوبا على نحور) ؛ جمع نحر: موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصّدر أي على صدور (الحور العين) : ضخام العيون، كسرت عينه بدل ضمّها!! لمجانسة الياء، ومفرده عيناء؛ كحمراء، (وعلى ورق قصب آجام) - جمع أجمة: الشجر الملتفّ؛ أي: على أغصان شجر- (الجنّة) .
والقصب: كلّ نبات لساقه أنابيب وكعوب؛ كما في «مختصر العين» .
(وعلى ورق شجرة طوبى) تأنيث الأطيب: شجرة في الجنة، (وعلى ورق سدرة المنتهى) ؛ وهما من عطف الجزء على الكلّ، لأنهما من جملة شجر الجنة، (وعلى أطراف الحجب) الأستار الّتي في الجنة، أو المحلّات التي لا يتجاوزها الرائي إلى ما وراءها إن صحّ ما يروى؛ من أن ثّمّ سبعين ألف حجاب مسيرة كلّ حجاب خمسمائة عام، لأنها في حقّ المخلوق. أما الخالق!! فمنزّه عن أن يحجبه(1/178)
وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره؛ فإنّ الملائكة تذكره في كلّ ساعاتها.
قال حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
أغرّ عليه للنّبوّة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن: أشهد
وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد
شيء، ولم يصحّ في ذلك غير ما في مسلم «حجابه النور» انتهى «زرقاني» .
(وبين أعين الملائكة فأكثر ذكره؛ فإنّ الملائكة تذكره في كلّ ساعاتها) :
بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فأسماؤه في العرش من قبل تكتب
(قال حسّان بن ثابت) الأنصاري شاعره المؤيّد بروح القدس (رضي الله تعالى عنه) آمين:
(أغرّ عليه للنّبوّة خاتم) كائن (من الله) ؛ أي: موجود له وكائن (من نور «1» ) صفتان ل «خاتم» ، فلم يتّحد حرفا جرّ بعامل واحد (يلوح) : يظهر، (ويشهد) : يشاهد.
(وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذّن «أشهد» ) وهذا من خواصّ هذا الاسم أيضا؛ وهو أنّ الله قرنه مع اسمه.
(وشقّ) - مبنيّ للفاعل؛ من (شقّ الشيء) إذا جعله قطعتين؛ أي: اشتق (- له من إسمه) بقطع الهمزة للضرورة اسما (ليجلّه) : يعظّمه (فذو العرش محمود، وهذا محمّد) . أخرج البخاريّ في «تاريخه الصغير» ؛ من طريق علي بن زيد بن جدعان؛ قال: كان أبو طالب يقول:
وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد
__________
(1) المحفوظ- كما في ديوانه-: من الله مشهود يلوح ويشهد.(1/179)
فتوارد حسّان معه، أو ضمّنه شعره. وبه جزم في «الخميس» ، ولم يعرف في العرب من تسمّى محمدا قبل النبي صلّى الله عليه وسلم إلّا جماعة حصرهم الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ؛ في خمسة عشر نفسا:
الأول- وهو أشهرهم-: محمد بن عديّ بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي.
الثاني: محمد بن أحيحة- بضم الهمزة وفتح المهملة- ابن الجلاح- بضم الجيم وتخفيف اللام آخره حاء مهملة- الأوسي.
الثالث: محمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر بن تميم العنبري التميمي.
الرابع: محمد بن البراء؛ ويقال: البر بن طريف- بمهملتين بوزن رغيف- ابن عتواره بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري العتواري.
الخامس: محمد بن الحارث بن حديج- بمهملتين فتحتية: فجيم مصغّر- ابن حويص.
السادس: محمد بن حرماز- بكسر المهملة وسكون الراء وآخره زاي- ابن مالك بن عمرو بن تميم اليعمري.
السابع: محمد بن حمران بن أبي حمران، واسمه ربيعة بن أبي ربيعة؛ واسمه: مالك الجعفي؛ المعروف ب «الشّويعر» مصغّر شاعر.
الثامن: محمد بن خزاعي- بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين فألف فمهملة فتحتية؛ اسم بلفظ النسب- ابن علقمة بن حرابة السّلمي؛ من بني ذكوان بطن من سليم.
التاسع: محمد بن خولي- بالخاء المعجمة: وسكون الواو- الهمداني.
العاشر: محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي.(1/180)
وأمّا اسم أحمد: فقد قال الباجوريّ في «حاشيته» :
هو في الأصل أفعل تفضيل، ...
الحادي عشر: محمد بن اليحمد- بضمّ التحتية وسكون المهملة وكسر الميم- الأزدي.
الثاني عشر: محمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة التميمي.
الثالث عشر: محمد بن الأسيّدي- بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر التحتية الثقيلة-.
الرابع عشر: محمد الفقيمي- بضم الفاء وفتح القاف وسكون التحتية-.
الخامس عشر: محمد بن عمرو بن مغفل- بضمّ أوّله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام-، والد هبيب- بموحدتين مصغّر-.
وكلّهم لم يدركوا الإسلام إلّا الأوّل؛ وهو محمد بن عدي، ففي سياق خبره الذي رواه البغويّ وابن سعد وابن شاهين وابن السّكن وغيرهم ما يشعر بإدراكه الإسلام. ولفظ الخبر؛ عن خليفة بن عبدة النصري قال: سألت محمد بن عدي:
كيف سمّاك أبوك في الجاهلية محمدا؟! قال: سألت أبي عمّا سألتني؛ فقال:
خرجت رابع أربعة من تميم أنا أحدهم، وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن عمرو، وأسامة بن مالك؛ نريد الشام، فنزلنا على غدير عند دير؛ فأشرف علينا الديراني؛ فقال لنا: إنّه يبعث منكم وشيكا نبي فسارعوا إليه. فقلنا: ما اسمه؟ قال:
محمد. فلما انصرفنا ولد لكلّ منا ولد فسمّاه محمدا لذلك. انتهى.
وقد ذكره ابن سعد والبغويّ والباروديّ وغيرهم في الصحابة، وأنكره ابن الأثير على ابن منده؛ وتبعه الذهبي، فقال: لا وجه لذكره فيهم.
قال في «الإصابة» : ولا إنكار عليه، لأن سياقه يقتضي أنّ له صحبة.
(وأمّا اسم أحمد!! فقد قال) الشيخ العلّامة إبراهيم (الباجوريّ) رحمه الله تعالى (في «حاشيته» ) على «الشمائل» : (هو في الأصل «أفعل» تفضيل)(1/181)
وسمّي بذلك لأنّه أحمد الحامدين لربّه؛ ففي «الصّحيح» : أنّه يفتح عليه يوم القيامة بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وكذلك يعقد له لواء الحمد، ويخصّ بالمقام المحمود.
وبالجملة: فهو أكثر النّاس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي أحمد ومحمّدا. ولهذين الاسمين الشّريفين مزيّة على سائر الأسماء، فينبغي تحرّي التّسمية بهما، ...
حذف المفضّل عليه قصدا للتعظيم نحو «الله أكبر» ، أي: من كلّ شيء. ثم نقل ولحظ أصله، فلا يرد عليه أنّه علم؛ فكيف يفيد ما ذكره؟.
(وسمّي بذلك!! لأنّه أحمد الحامدين لربّه) ، وكذلك معنى «أحمد» فاسمه مطابق لمعناه (ففي «الصّحيح» ) : البخاري ومسلم (أنّه يفتح عليه يوم القيامة) في المقام المحمود (بمحامد) - جمع محمدة، بمعنى حمد- (لم يفتح بها على أحد قبله) ؛ أي: يلهمه الله محامد عظيمة لم يلهمها لغيره، وأصل الفتح ضدّ الغلق؛ فاستعير للإلهام، (وكذلك يعقد له لواء الحمد) الحقيقي وعلم حقيقته عند الله؛ أي: لواء يتبعه كلّ حامد ومحمود، وأصحاب الحمد من لهم الشفاعة يومئذ كالأنبياء، أو هو تمثيل لشهرته في الموقف وعدم التأويل أسدّ- كما قيل- (ويخصّ بالمقام المحمود) ؛ وهو مقام الشفاعة العظمى الذي يحمده فيه الأوّلون والآخرون.
(وبالجملة فهو) صلّى الله عليه وسلم (أكثر النّاس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي أحمد ومحمّدا) ، لأنّ هذين الاسمين اشتقّا من أخلاقه صلّى الله عليه وسلم وخصائله المحمودة: التي لأجلها استحقّ أن يسمّى «محمدا» و «أحمد» .
(ولهذين الاسمين الشّريفين مزيّة) أي: فضل (على سائر الأسماء) ؛ أي:
سوى «عبد الله» و «عبد الرحمن» - على ما اعتمده العلامة ابن حجر في «التحفة» ؛ من أفضليتهما على اسمي «محمد» و «أحمد» - (فينبغي تحرّي التّسمية بهما) ؛ أي: باسمي «محمد» و «أحمد» ، وقد سمّى الإمام الشافعيّ(1/182)
فقد ورد في الحديث القدسيّ: «إنّي آليت على نفسي أن لا أدخل النّار من اسمه أحمد، ولا محمّد» .
ورواه الدّيلميّ عن عليّ ...
ولده محمدا؛ وقال: سمّيته بأحبّ الأسماء إليّ.
ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلم أنّ اسمه ميمون ونافع في الدنيا والآخرة، (فقد ورد في الحديث القدسيّ) الذي رواه أبو نعيم: «قال الله عزّ وجلّ: «وعزّتي وجلالي؛ لا عذّبت أحدا تسمّى باسمك في النّار» » .
كما جاء في التسمية ب «محمد» و «أحمد» فضائل عليّة في عدّة أحاديث.
فمنها ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «يوقف عبدان بين يدي الله تعالى فيأمر بهما إلى الجنّة، فيقولان: ربّنا بم استأهلنا الجنّة؛ ولم نعمل عملا تجازينا به الجنّة!؟
فيقول الله تعالى: ادخلا الجنّة؛ (إنّي آليت على نفسي أن لا أدخل النّار من اسمه أحمد ولا محمّد» ) .
ومنها ما (رواه) (الدّيلميّ) في «مسند الفردوس» ؛ (عن) أمير المؤمنين الإمام (عليّ) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المكي المدني الكوفي أمير المؤمنين «ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» .
وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية. وهي أوّل هاشمية ولدت هاشميا. أسلمت وهاجرت إلى المدينة.
وتوفيت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ونزل في قبرها.
وكنية علي: «أبو الحسن» . وكنّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أبا تراب» ، فكان أحبّ ما ينادى به إليه. وهو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيّدة نساء العالمين، وأبو السّبطين، وأوّل هاشمي ولد بين هاشميين، وأوّل خليفة من بني هاشم.(1/183)
رضي الله تعالى عنه: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمّد أو أحمد.. إلّا قدّس الله ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين) انتهى.
وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربّانيين؛ والشّجعان المشهورين، وأحد الزّهّاد المذكورين، وأحد السابقين إلى الإسلام.
توفي في الكوفة ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان سنة: أربعين. ضربه ابن ملجم «أشقى الآخرين لعنه الله» بسيف مسموم في جبهته فأوصله دماغه، ليلة الجمعة الموافق 17 رمضان سنة: أربعين هجرية في قصة يطول شرحها، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة على الأصحّ.
والأحاديث الصحيحة الواردة في فضله كثيرة، ومناقبة جمّة أفردت بالتأليف (رضي الله تعالى عنه) وكرّم وجهه في الجنة. آمين.
(ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه «محمّد» أو «أحمد» إلّا قدّس الله ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين. انتهى) .
قال العلّامة السيد عبد الله بن محمد بن الصّديق الغماري: وللحافظ أبي عبد الله:
الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي جزء مطبوع في فضل التسمية ب «محمد» و «أحمد» . انتهى. لكن قال المجد صاحب «القاموس» في خاتمة «سفر السعادة» ؛ باب فضيلة التسمية ب «محمد» و «أحمد» : والمنع من ذلك لم يصحّ فيه شيء. وتبعه العجلوني في «كشف الخفا» ، وسبقهما الحافظ ضياء الدين أبو حفص عمر بن بدر الموصلي في كتاب «المغني عن الحفظ والكتاب» ؛ فقال:
قال أبو حاتم الرازي: قد ورد في هذا الباب أحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس فيها ما يصحّ. وتعقّبه الشيخ حسام القدسي في رسالته «انتقاد المغني» بما فيه نظر، فليراجعه من أراده.(1/184)
[الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم]
الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبها من أوصافه الشّريفة وفيه عشرة فصول (الباب الثّاني) من الأبواب الثمانية (في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: صورته التي خلق عليها، (وما يناسبها من أوصافه الشّريفة) ؛ كصفة بصره، وشعره، وشيبه، وخضابه، وعرقه، وطيبه، وتطيّبه.
(وفيه عشرة فصول.(1/185)
[الفصل الأوّل في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها]
الفصل الأوّل في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها الفصل الأوّل:
في جمال صورته صلّى الله عليه وسلم) ؛ وهي: ما يظهر للناظرين من جسده (صلّى الله عليه وسلم) ، وفي «المصباح» ؛ قال سيبويه: الجمال رقّة الجسد، والأصل جمالة بالهاء مثل (صبح صباحة) لكنهم حذفوا الهاء تخفيفا لكثرة الاستعمال.
وما شاكلها) ، أي: ناسبها.
واعلم أنّ الكلام على خلقته صلّى الله عليه وسلم يستدعي الكلام على ابتداء وجوده؛ فاحتيج إلى ذكره، وإن أغفله المصنّف رحمه الله تعالى.
وملخصه أنه صحّ في «مسلم» أنّه قال: «إنّ الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . ومن جملة ما كتب في الذكر؛ وهو «أمّ الكتاب» : أنّ محمدا خاتم النبيين.
وصحّ أيضا: «إنّي عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته» أي: لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه.
وصحّ أيضا: يا رسول الله؛ متى كنت نبيّا؟! قال: «وآدم بين الرّوح والجسد» . وروي «كتبت» ؛ من الكتابة. وروى الترمذي وحسّنه: يا رسول الله؛ متى وجبت لك النبوة؟! فقال: «وآدم بين الرّوح والجسد» . ومعنى وجوب النبوة وكتابتها ثبوتها وظهورها في الخارج؛ أي: للملائكة، وروحه صلّى الله عليه وسلم في عالم الأرواح؛ إعلاما بعظيم شرفه وتميّزه عن بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(1/186)
.........
وخصّ الإظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد!! لأنّه أوان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد، والتمايز حينئذ أتمّ وأظهر فاختصّ صلّى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه حينئذ، ليتميّز على غيره تميّز أظهر وأتمّ.
وأجاب الغزالي في بعض كتبه عن وصف نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته، وخبر «أنا أوّل الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا» : بأن المراد بالخلق هنا التقدير، لا الإيجاد، فإنه قبل أن تحمل به أمّه لم يكن مخلوقا موجودا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير؛ لا حقة في الوجود. فقوله: «كنت نبيّا» - أي: في التقدير- قبل تمام خلقة آدم. إذ لم ينشأ إلّا لينتزع من ذريّته محمد صلّى الله عليه وسلم. وتحقيقه أنّ للدار في ذهن المهندسين وجودا ذهنيّا؛ سببا للوجود الخارجي وسابقا عليه، فالله تعالى يقدّر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا. انتهى.
وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين؛ وهو أنّه جاء: «إنّ الأرواح خلقت قبل الأجساد» . والإشارة ب «كنت نبيّا» إلى روحه الشريفة، أو حقيقة من حقائقه لا يعلمها إلّا الله تعالى، ومن حباه بالاطلاع عليها.
ثم إنّ الله تعالى يؤتي كلّ حقيقة منها ما شاء؛ في أيّ وقت شاء، فحقيقته صلّى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف بأن خلقها متهيئة له؛ وأفاضه عليه فصار نبيا، وكتب اسمه على العرش ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت؛ وإن تأخّر جسده الشريف المتّصف بها؛ فحينئذ فإيتاؤه النبوة والحكمة وسائر أوصاف حقيقته وكمالاته معجّل لا تأخير فيه، وإنما المتأخّر تكوّنه وتنقّله في الأصلاب والأرحام الطاهرة إلى أن ظهر صلّى الله عليه وسلم. ومن فسّر ب (علم الله تعالى أنّه سيصير نبيّا) !! لم يصل لهذا المعنى، لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء، فالوصف بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنّه أمر ثابت له، وإلّا لم يختصّ بأنه نبيّ حينئذ، إذ الأنبياء كلّهم كذلك بالنسبة لعلمه تعالى.
وقال العماد ابن كثير؛ في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية [81/ آل عمران] :(1/187)
.........
إنّ الله تعالى لم يبعث نبيا إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلم إن بعث؛ وهو حي:
ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأخذ العهد بذلك.
وأخذ السبكي من الآية: أنّه على تقدير مجيئه في زمانهم مرسل إليهم؛ فتكون نبوّته ورسالته عامّة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة. وتكون الأنبياء والأمم كلّهم من أمته. فقوله: «وبعثت إلى النّاس كافّة» يتناول من قبل زمانه أيضا، وبه يتبيّن معنى قوله «كنت نبيّا وآدم بين الرّوح والجسد» ، وكذا حكمة كون الأنبياء تحت لوائه في الآخرة وصلاته بهم ليلة الإسراء.
فأوّل الأشياء على الإطلاق: النور المحمّدي، ثم الماء، ثم العرش، ثم القلم. ولما خلق الله آدم جعل ذلك النور في ظهره؛ فكان يلمع في جبينه، ولما توفي كان ولده شيث وصيّه، فوصّى ولده بما وصّاه به أبوه «أن لا يوضع هذا النور إلّا في المطهّرات من النساء» ، ولم يزل العمل بهذه الوصية إلى أن وصل ذلك إلى عبد الله مطهّرا من سفاح الجاهلية كما أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك في عدّة أحاديث. ثم زوّج عبد المطلب ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا؛ فدخل بها، وحملت بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فظهر في حمله ومولده عجائب تدلّ لما يؤول إليه أمر ظهوره ورسالته.
وقد صح أنّ أمّه صلّى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاء له قصور الشام، وولد مختونا في قول- عام الفيل، وحكي الاتفاق عليه، والمشهور أنّه بعده بخمسين يوما، وقيل: بأربعين، وقيل: بعشر سنين، وقيل غير ذلك.
ثم الجمهور على أنّه ولد في شهر ربيع الأول، فقيل: ثانيه. وقيل: ثامنه.
وانتصر له كثير من المحدّثين. وقيل: عاشره. وقيل: ثاني عشره وهو المشهور.
وقيل غير ذلك، وذلك في يوم الاثنين- كما صحّ في «مسلم» - عقب الفجر- كما في رواية ضعيفة-(1/188)
قال في «المواهب» : (اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم.. الإيمان بأنّ الله تعالى جعل خلق بدنه الشّريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدميّ مثله.
ومدّة حمله تسعة أشهر، أو عشرة، أو ثمانية، أو سبعة، أو ستة: أقوال.
بمكة بمولده المشهور الآن؛ وهو الأصحّ. وقيل: بالشّعب. وقيل: بالروم.
ثم أرضعته حليمة السعدية، والمشهور موت أبيه بعد حمله بشهرين، وقيل: وهو في المهد، وماتت أمه ودفنت بالأبواء، وقيل: بالحجون. وجمع بعض كما في «الخميس» بأنها دفنت أوّلا بالأبواء؛ وكان قبرها هناك، ثم نبشت ونقلت إلى مكة؛ كما في الزرقاني على «المواهب» .
ومات جدّه كافله عبد المطلب؛ وله ثمان سنين، أو: تسع، أو: عشر، أو ست: أقوال.
ثم كفله عمّه شقيق أبيه أبو طالب.
وتزوّج خديجة؛ وهي بنت أربعين. وهدمت قريش الكعبة وعمره خمس وثلاثون سنة.
ثم لما بلغ أربعين سنة- أو: وأربعين يوما، أو: وشهرين- بعثه الله رحمة للعالمين يوم الاثنين؛ لخبر «مسلم» ، في رمضان، وقيل: ربيع. فأقام بمكّة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين.
(قال) - أي- العلّامة القسطلّاني (في «المواهب) اللّدنّيّة بالمنح المحمّديّة» :
(اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلّى الله عليه وسلم، الإيمان) ؛ أي: التصديق والاعتقاد (بأنّ الله تعالى جعل خلق) - أي: تقدير- (بدنه الشّريف على وجه) - أي: حال؛ وهيئة- (لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدميّ مثله) ؛ أي: لم يجتمع في بدن آدمي من المحاسن الظاهرة ما اجتمع في بدنه صلّى الله عليه وسلم. وسرّ ذلك: أنّ المحاسن الظاهرة آيات(1/189)
ولله درّ الأبوصيريّ حيث قال:
فهو الّذي تمّ معناه وصورته ... ثمّ اصطفاه حبيبا بارىء النّسم
على المحاسن الباطنة، والأخلاق الزكية؛ ولا أكمل منه صلّى الله عليه وسلم، ولا مساو له في هذا المدلول؛ فكذلك الدالّ، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتّضح من عظيم خلق نفسه الكريمة. وما يتّضح من عظيم أخلاق نفسه، آيات على ما تحقّق له من سرّ قلبه المقدّس، أي: ما اشتمل عليه من المعاني البديعة.
فالمعاني مكنونة فيه لا يطّلع عليها، ولكن يستدلّ عليها بما ظهر من أخلاقه وكمالاته. وهو صلّى الله عليه وسلم؛ وإن ظهر منه كمالات لا تحصى؛ فهي بالنسبة لما خفي كنقطة من بحر. فالمراتب إذن ثلاث: المشاهد دليل على الباطن، وذلك الباطن دليل على ما أودع في قلبه من العلوم والمعارف.
(ولله درّ الأبوصيريّ) : محمد بن سعيد الصّنهاجي الدّلاصي المولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ. ولد ب «دلاص» أول شوال سنة: - 608- ثمان وستمائة، وبرع في النظم. قال فيه الحافظ ابن سيّد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق. ومات سنة: - 695- 694- خمس؛ أو: أربع وتسعين وستمائة.
كان أحد أبويه من «بوصير الصعيد» والآخر من «دلاص» بفتح الدال المهملة: قرية ب «البهنسا» ، فركّبت النسبة منها؛ فقيل الدلاصيري. ثم اشتهر بالبوصيري؛ لنشأته بها، أو لأنّها بلد أبيه. فقوله «الأبوصيري» منتقد، لأنّ القرية إنما هي «بوصير» والنسبة إليها البوصيري، كما في «المراصد» و «اللباب» و «لبّه» في باب الموحدة؛ لا الهمزة. (حيث قال) في «بردة المديح» :
(فهو الّذي تمّ) : كمل (معناه) : حال باطنه، (وصورته) : حال ظاهره؛ بالرفع عطف على «معناه» والنصب مفعول معه (ثمّ اصطفاه) : اختاره (حبيبا بارىء) : خالق (النّسم) : جمع نسمة- بفتحتين-: وهي الإنسان.
و «ثمّ» للترتيب في الإخبار؛ دون الصفات، أو في الاصطفاء؛ كما قال المحلّي، نظرا للوجود الخارجي، فإن اتخاذه حبيبا ومخاطبته به بعد تمام معناه وصورته:(1/190)
منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وقد حكى القرطبيّ رحمه الله تعالى في (كتاب الصّلاة) ، أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه.. لما طاقت أعيننا رؤيته صلّى الله عليه وسلّم) انتهى.
(منزّه) : مبعّد (عن شريك في محاسنه) ؛ جمع محسن؛ بمعنى الحسن أي: لا شريك له في حسنه، (فجوهر الحسن) أصله (فيه غير منقسم) ؛ أي:
متفرّق.
ومعنى البيتين: هو الذي كمل باطنه في الكمالات، وظاهره في الصفات. ثم اختاره خالق الإنسان حبيبا لا شريك له في الحسن. وجوهره لا يقبل القسمة بينه وبين غيره. كما أن الجوهر الفرد المتوهّم في الجسم، ويقول المتكلمون: الجسم مركّب منه غير منقسم بوجه؛ لا بالفرض، ولا بالوهم، ومن كان موصوفا بكمال الصفات ظاهرا وباطنا كان محبوبا؛ قاله الشيخ خالد.
(وقد حكى) الشيخ العلّامة محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح- بإسكان الراء وبالحاء المهملتين- أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي (القرطبيّ) - بضم القاف والطاء المهملة وموحدة-؛ نسبة إلى قرطبة مدينة بالأندلس، المفسّر وكان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزّاهدين المشغولين بأمور الآخرة.
أوقاته ما بين توجّه وعبادة وتصنيف. وله تصانيف كثيرة.
أخذ عن أبي العبّاس أحمد بن عمر القرطبي شارح «مسلم» المتوفى بالإسكندرية سنة: - 626- ست وعشرين وستمائة. وأخذ عن غيره واستقر ب «منية ابن خصيب» ، وبها مات سنة: - 671- إحدى وسبعين وستمائة (رحمه الله تعالى في كتاب الصّلاة) ؛ عن بعضهم: (أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلّى الله عليه وسلم) ؛ رفقا من الله تعالى بنا، (لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه لما طاقت أعيننا رؤيته صلّى الله عليه وسلم) ؛ لعجزنا عن ذلك. (انتهى) ما في «المواهب» . ولقد أحسن البوصيري حيث قال:(1/191)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الجسم. رواه غير واحد.
وروى التّرمذيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس بالطّويل ...
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم
كالشّمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكلّ الطّرف من أمم «1»
و (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسن الجسم) ، والحسن- كما قال بعضهم-: عبارة عن كلّ بهج مرغوب فيه حسّا؛ أو عقلا. وهو هنا صادق بهما جميعا. والجسم:
هو الجسد من البدن والأعضاء. والمراد بحسن جسمه أنّه معتدل الخلق، متناسب الأعضاء؛ كما في المناوي.
(رواه) أي: ما ذكر من حسن جسمه (غير واحد) من المحدّثين؛ منهم الحافظ الترمذي في «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه. ومنهم الحافظ البيهقيّ عن رجل من الصّحابة؛ كما في الزرقاني. وذكره الإمام النووي في «التهذيب» .
(وروى) مسلم في «صحيحه» ، و (التّرمذيّ) في «الشمائل» ؛ (عن أنس) «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين» . والمراد حيث أطلق أنس بن مالك؛ وإن كان هناك جماعة يسمّى كلّ منهم أنسا. وقد تقدّمت ترجمته (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) «كان» مع المضارع لا تفيد التكرار، كما نقله النووي في «شرح مسلم» ؛ عن المحققين. وقال ابن الحاجب: تفيده، وليس المراد أنّها تفيده مطلقا، بل في مقام يقبله، لا كما هنا.
(ليس بالطّويل) خبر «كان» وليس لنفي مضمون الجملة حالا؛ وهو
__________
(1) أمم: قرب.(1/192)
البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، ...
المناسب هنا. وقيل: إنها لنفي مضمونها في الماضي، وعليه فتكون حالا ماضية قصد دوام نفيها (البائن) - بالهمز- ووهم من جعله بالياء لوجوب إعلال اسم الفاعل؛ إذا أعل فعله، كبائع وقائل. وهو إمّا من «بان يبين بيانا» ؛ إذا ظهر على غيره، وعليه فهو بمعنى الظاهر طوله. أو من «بان يبون بونا» ؛ إذا بعد، وعليه فهو بمعنى البعيد عن حدّ الاعتدال، ويصحّ أن يكون من البين؛ وهو القطع، لأن من رأى فاحش الطول تصوّر أنّ كلّا من أعضائه مبان عن الآخر. انتهى «مناوي» .
(ولا) عطف على خبر «ليس» ولا مؤكّدة للنفي، (بالقصير) - أي- المتردّد الداخل بعضه في بعض- كما سيأتي-. والمعنى أنّه كان متوسّطا بين الطول والقصر، لا زائد الطول ولا القصر.
وفي نفي أصل القصر ونفي الطول البائن لا أصل الطول إشعار بأنه صلّى الله عليه وسلم كان مربوعا؛ مائلا إلى الطول، وأنّه كان إلى الطول أقرب؛ كما رواه البيهقي.
ولا ينافيه وصفه الآتي بأنه ربعة!! لأنه أمر نسبي، ويوافقه خبر البراء: كان ربعة؛ وهو إلى الطول أقرب. وقد ورد عند البيهقي؛ وابن عساكر أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يماشيه أحد من الناس إلّا طاله صلى الله عليه وسلم، ولربّما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب إلى الرّبعة. وفي «خصائص ابن سبع» : كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من الجالس. قيل: ولعل السرّ في ذلك أنّه لا يتطاول عليه أحد صورة، كما لا يتطاول عليه معنى.
(ولا) - عطف على خبر «ليس» ولا مؤكّدة للنفي- (بالأبيض الأمهق) ؛ أي: الشديد البياض الخالي عن الحمرة والنّور؛ كالجص؛ وهو كريه المنظر ربّما توهّمه الناظر أبرص، بل كان بياضه نيّرا مشرّبا بحمرة؛ كما في روايات أخر؛ منها أنّه كان أزهر اللون. فالنفي للقيد فقط.
واعلم أنّ أشرف الألوان في هذه الدار البياض المشرّب بالحمرة، وفي الآخرة البياض المشرّب بصفرة.(1/193)
ولا بالآدم، ولا بالجعد ...
فإن قيل: من عادة العرب أن تمدح النساء بالبياض المشرّب بصفرة، كما وقع في لاميّة امرئ القيس. وهذا يدلّ على أنّه فاضل في هذه الدار أيضا.
أجيب بأنه لا نزاع في أنه فاضل فيها، ولكن البياض المشرّب بحمرة أفضل منه فيها، وحكمة التفرقة بين هذه الدار؛ وتلك الدار: أن الشّوب بالحمرة ينشأ عن الدم وجريانه في البدن وعروقه، وهو من الفضلات التي تنشأ عن أغذية هذه الدار، فناسب الشوب بالحمرة فيها. وأما الشّوب بالصفرة التي تورث البياض صقالة وصفاء؛ فلا ينشأ عادة عن غذاء من أغذية هذه الدار؛ فناسب الشوب بالصفرة في تلك الدار، فظهر أنّ الشوب في كلّ من الدارين بما يناسبه، وقد جمع الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم بين الأشرفين، ولم يكن لونه في الدنيا كلونه في الأخرى!! لئلا يفوته أحد الحسنيين. انتهى ملخصا من المناوي وابن حجر رحمهما الله تعالى.
(ولا بالآدم) ، أي: ولا بالأسمر الآدم؛ أي: شديد الأدمة أي: السمرة، وآدم- بمدّ الهمزة- أصله: أأدم- بهمزتين- على وزن «أفعل» أبدلت الثانية ألفا، وعلم مما ذكر أن المنفيّ إنّما هو شدّة السمرة، فلا ينافي إثبات السمرة في الخبر الآتي، لكن المراد بها الحمرة، لأن العرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر.
ومما يؤيّد ذلك رواية البيهقي كان أبيض؛ بياضه إلى السمرة.
وفي «مسند أحمد» ؛ عن الحبر: جسمه ولحمه أحمر. وفي رواية: أسمر إلى البياض.
فثبت بمجموع هذه الروايات أنّ المراد بالسمرة: حمرة تخالط البياض، وبالبياض المثبت ما يخالط الحمرة. وأما وصف لونه في أخبار بشدّة البياض كخبر البزار؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان شديد البياض. وخبر الطبراني؛ عن أبي الطّفيل: ما أنسى شدّة بياض وجهه!! فمحمول على البريق واللّمعان، كما يشير إليه حديث: كأنّ الشمس تحرك في وجهه، انتهى «مناوي وباجوري» .
(ولا بالجعد) - بفتح الجيم وسكون العين- من الجعودة؛ وهي في الشعر أن(1/194)
القطط ولا بالسّبط.
ومعنى (البائن) : الظّاهر طوله.
و (الأمهق) : الشّديد البياض، الخالي عن الحمرة.
و (الآدم) : الأسمر. و (الجعد) : من في شعره التواء.
و (القطط) : شديد الجعودة. و (السّبط) : مسترسل الشّعر.
يتكسّر تكسّرا تامّا، ولا يترسّل (القطط) - بفتحتين- كجسد على الأشهر، وبكسر الثاني؛ وهو شدّة الجعودة. قال المناوي: والجعد يرد بمعنى: الجواد، والكريم، والبخيل، واللئيم جميعا، ومقابل السّبط، ويوصف بالقطط في الكلّ؛ فالقطط لا يعيّن المراد، فلذا قابله بقوله:
(ولا بالسّبط) - بفتح المهملة وكسر الموحدة، وتسكن، وبفتحتين-. والمراد أنّ شعره ليس نهاية في الجعودة؛ وهي تكسره الشديد، ولا نهاية في السبوطة؛ وهي عدم تكسّره وتثنّيه بالكلية، بل كان وسطا بينهما، و «خير الأمور أوسطها» .
قال الزمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته.
وقد أحسن الله لرسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرق في غيره من الفضائل.
(ومعنى البائن) - بالهمزة-: (الظّاهر طوله، و) معنى (الأمهق: الشّديد البياض الخالي عن الحمرة) ، والنّور كالجصّ؛ وهو كريه المنظر ربما توهّمه الناظر برصا، بل كان بياضه صلّى الله عليه وسلم نيّرا مشرّبا بحمرة- كما تقدم-.
(و) معنى (الآدم: الأسمر) ، والسّمرة: منزلة بين البياض والسواد.
(و) معنى (الجعد: من في شعره التواء) ، وفي «المصباح» : جعد الشعر بضم العين وكسرها- جعودة، إذا كان فيه التواء وانقباض.
(و) معنى (القطط) - بفتحتين، وبفتح فكسر-: (شديد الجعودة، و) معنى (السّبط: مسترسل الشّعر) ؛(1/195)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمّة ...
(و) في «الشمائل الترمذية» ؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا) - بفتح الراء وكسر الجيم- وهو: الذي بين الجعودة والسّبوطة؛ قاله الأصمعيّ وغيره: ووقع في الروايات المعتمدة بضم الجيم!! فيحتمل أن يكون المراد به المعنى المتبادر المتعارف الذي يراد بلفظ الرجل؛ وهو المقابل للمرأة، ومعناه واضح، وهو خبر موطّىء، لأن الخبر في الحقيقة قوله (مربوعا) إذ هو يفيد الفائدة المعتدّ بها، كقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (13) [الحشر] ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (55) [النمل] .
والمربوع يرادف الرّبعة؛ وهو: المتوسط بين الطويل والقصير. وهذا تقريب؛ لا تحديد، فلا ينافي أنّه كان يضرب إلى الطول؛ كما في خبر ابن أبي هالة الآتي: كان أطول من المربوع؛ وأقصر من المشذّب.
(بعيد ما بين المنكبين) ، روي بالتكبير، و [بعيد] بالتصغير، و «ما» موصولة، أو موصوفة، لا زائدة؛ كما زعمه بعضهم. والمنكبان- تثنية منكب- وهو:
مجمع العضد والكتف، والمراد بكونه بعيد ما بين المنكبين: أنّه عريض أعلى الظهر، ويلزمه أنّه عريض الصدر، ومن ثمّ جاء في رواية: «رحب الصدر» ، وذلك آية النّجابة، وفي رواية التصغير إشارة إلى تقليل البعد؛ إيماء إلى أن بعد ما بين منكبيه لم يكن منافيا للاعتدال.
(عظيم الجمّة) - بضم الجيم وتشديد الميم- أي: كثيفها. قال حسوس:
والجمّة عند جمهور أهل اللغة: ما سقط من شعر الرأس إلى المنكبين. وأما الوفرة!! فهي: التي تصل إلى شحمة الأذن، وأما ما نزل عن الأذنين؛ ولم يصل إلى المنكبين!! فهو اللّمّة، وعلى هذا قول من قال:
الوفرة الشّعر لشحمة الأذن ... وجمّة إن هي لمنكب تكن(1/196)
إلى شحمة أذنيه.
ومعنى (الرّجل) : من في شعره تكسّر قليل.
و (الجمّة) : مجتمع شعر الرّأس؛ وهي أكثر من الوفرة واللّمّة.
وسمّ ما بينهما باللّمّة ... قد قال ذا جمهور أهل اللّغة
وقال الزّمخشريّ في المقدمة: الجمّة: ما تدلّى من الشعر إلى شحمة الأذن.
وفي «الصحاح» : الجمّة: الشّعر المجموع على الرأس وظاهره مطلقا.
وفي «ديوان الأدب» : إن الجمّة هي الشعر إذا تدلّى من الرأس إلى شحمة الأذن، وإلى المنكبين، وإلى أكثر من ذلك. فتحصّل أنّ في الجمّة ثلاثة أقوال:
1- ما وصل إلى المنكبين.
2- ما وصل إلى شحمة الأذن.
3- ما تدلّى من شعر الرأس مطلقا.
فقوله (إلى شحمة أذنيه) إنّما يأتي على القول الثاني والثالث؛ دون الأول.
انتهى «كلام حسّوس» .
(ومعنى الرّجل) - بكسر الجيم- (: من في شعره تكسّر قليل.
والجمّة) - بضمّ الجيم وتشديد الميم-؛ قال في «الصحاح» : هي (مجتمع شعر الرّأس؛ وهي) - أي: الجمّة- (أكثر من الوفرة و) أكثر من (اللّمّة) ، لأن الجمّة ما وصلت المنكب، والوفرة: ما بلغت شحمة الأذن، واللّمّة ما بينهما.
كما تقدّم. وعلى هذا فترتيبها «ولج» فالواو للوفرة، واللام للّمة، والجيم للجمّة.
وهذه الثلاثة اضطرب أهل اللغة في تفسيرها، وأقرب ما وفّق به أنّ فيها لغات، وكل كتاب اقتصر على شيء منها، كما يشير إليه كلام «القاموس» في مواضع؛ قاله الباجوري رحمه الله تعالى.(1/197)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شثن الكفّين والقدمين، ضخم الرّأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفّأ تكفّؤا؛ (و) روى الترمذي في «الشمائل» ؛ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شثن) - بمعجمة مفتوحة ومثلثة ساكنة- كذا في الشروح!! وفسّره ابن حجر العسقلاني بغليظ الأصابع والراحة. وهي المتبادر، ويؤيّده رواية «ضخم الكفّين والقدمين» .
قال ابن بطّال: كانت كفّه صلّى الله عليه وسلم ممتلئة لحما غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت ليّنة، كما ثبت في حديث أنس: «ما مسست خزّا، ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الكفّين) - تثنية كفّ- وهي: الراحة مع الأصابع، سمّيت به!! لأنّها تكفّ الأذى عن البدن؛ وهي مؤنّثة، (والقدمين) - تثنية قدم- وهي من الإنسان معروفة؛ وهي أنثى، وتصغيرها «قديمة» بالهاء. وجمعها: أقدام، وجمع بين الكفين والقدمين في مضاف واحد! لشدّة تناسبهما، ومن ثمّ لم يجمع بين الرأس والكراديس حيث قال:
(ضخم الرّأس) ؛ أي: عظيمه. وفي رواية «عظيم الهامة» وعظم الرأس دليل على كمال القوى الدماغية؛ وهو آية النّجابة.
(ضخم الكراديس) ؛ أي: عظيم رؤوس العظام، وهو بمعنى جليل المشاش الآتي. والكراديس- جمع كردوس؛ بوزن عصفور- وهو: رأس العظم. وقيل:
مجمع العظام؛ كالرّكبة والمنكب. وعظم ذلك يستلزم كمال القوى الباطنية.
(طويل المسربة) - بضم الراء كمكرمة، وقد تفتح الراء- وأمّا محل خروج الخارج! فهو مسربة- بالفتح فقط-، كما في «المصباح» . وسيأتي تفسير المسربة في المصنف: بأنها الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة.
(إذا مشى تكفّأ تكفّؤا) - بالهمز فيهما- وحينئذ يقرأ المصدر بضمّ الفاء؛ ك «تقدّم تقدّما» ، أو بلا همز تخفيفا، وحنيئذ يقرأ المصدر بكسر الفاء، ك «تسمّى تسمّيا» . وعلى كلّ فهو مصدر مؤكد، أي: يسرع المشي كأنه يميل بين(1/198)
كأنّما ينحطّ من صبب. ومعنى (شثن) : غليظ.
و (الكراديس) - جمع كردوس- وهو: مجمع العظام كالرّكبة والمنكب.
و (المسربة) : الشّعر الدّقيق الّذي كأنّه قضيب من الصّدر إلى السّرّة.
يديه من سرعة مشيه كما تتكفّأ السفينة في جريها. (كأنّما ينحطّ من صبب) ، وفي رواية كأنّما يهوي من صبب. وعلى كلّ فهو مبالغة في التكفّؤ، والانحطاط: النزول.
وأصله الانحدار من علوّ إلى سفل، وأسرع ما يكون الماء جاريا؛ إذا كان منحدرا.
(ومعنى شثن) - بشين معجمة وثاء مثلثة- وضبطه الجلال السيوطي بالمثناة فوق بدل المثلثة؛ وعلى كلّ فمعناه- (: غليظ) . ونقل عن الأصمعي أنّه فسّر «الشّثن» بالغلظ مع الخشونة. فقيل له: إنه ورد في وصف كفّه صلّى الله عليه وسلم اللّين والنعومة!! فآلى على نفسه أن لا يفسّر شيئا في الحديث أبدا. وتفسير أبي عبيدة بالغلظ مع القصر!! ردّ بما صحّ أنّه كان سائل الأطراف. وفي «القاموس» : شثنت كفّه: خشنت وغلظت. فمقتضاه أنّ الشثن معناه: الخشن الغليظ. وعليه فهو محمول على ما إذا عمل في الجهاد؛ أو مهنة أهله، فإنّ كفّه الشريفة تصير خشنة للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجعت إلى النعومة؛ كذا قاله الباجوري.
(والكراديس: جمع «كردوس» ) - بضمتين-: (وهو: مجمع العظام) ، فكلّ عظمين التقيا في مفصل يقال له «كردوس» ؛ على ما في «القاموس» ، وذلك (كالرّكبة، والمنكب) ، والورك.
(والمسربة) - بفتح الميم وسكون السين المهملة؛ وضم الراء وبالموحدة- هو: شعر بين الصدر والسرّة. على ما في «المهذب» . وظاهر الروايات أنّه ما دقّ من شعر الصّدر سائلا إلى السّرّة؛ كما ورد في حديث علي رضي الله عنه: المسربة (الشّعر) - بفتح العين وتسكن- (الدّقيق الّذي كأنّه قضيب) أي: غصن نظيف، أو سيف لطيف؛ على ما في «القاموس» . أو سهم ظريف؛ على ما في «المهذب» . ابتداؤها (من) أعلى (الصّدر) ، وانتهاؤها (إلى السّرّة) .(1/199)
و (التّكفّؤ) : الميل إلى سنن المشي، وهو: ما بين يديه كالسّفينة في جريها.
و (الصّبب) : المكان المنحدر من الأرض.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهّم؛ وأما (التّكفّؤ) !! فهو مصدر تفعّل- من الصحيح- تفعّلا ك «تقدّم تقدّما» ، وتكفّأ تكفؤا. والهمز حرف صحيح، ومعناه: (الميل إلى سنن المشي) - مثلث السين وبضمتين-: نهجه وجهته؛ كما في «القاموس» . وهذا التفسير قطع به الأزهريّ مخطّئا تفسيره بتمايل يمينا وشمالا؛ كالسفينة؛ بأنه من الخيلاء. وتكفّؤ السفينة: تمايلها على سمتها الذي يقصد. ويردّه قوله كأنما ينحطّ من صبب، فإنه مفسّر له. وقال الكسائي: أكفأت الإناء وكفأته: إذا كببته، وأكفأته: إذا أملته.
ومنه الحديث أي: تمايل إلى قدام كما تتكفّأ السفينة في جريها. انتهى.
وأجاب القاضي عياض بأن التمايل يمينا وشمالا إنّما يذمّ بالقصد؛ لا إن كان خلقة كالغصن، وهو حسن صواب. انتهى «زرقاني» .
فلأجل هذا قال المصنف: (وهو: ما بين يديه) أي: التمايل إلى قدام (كالسّفينة في جريها. والصّبب) - بفتح الصاد والموحدة الأولى- معناه: (المكان المنحدر من الأرض) ، يقال: انحدرنا في صبوب وصبب، أي: مكان منحدر.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» بسند فيه انقطاع؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنّه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعدا رجلا) الجعد- بفتح الجيم وسكون العين المهملة-: هو الشعر المتجعّد؛ أي: المتثنّي. والرّجل- قال الحافظ ابن حجر: بفتح الراء وكسر الجيم، وقد يضمّ، وقد يفتح، وقد يسكّن- ما فيه تكسّر يسير. انتهى. فكان شعره بين السّبوطة والجعودة.
(ولم يكن بالمطهّم) الرواية فيه بلفظ اسم المفعول فقط، وسيأتي تفسيره في كلام المصنف بالبادن: الكثير اللحم.(1/200)
ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرّب، أدعج العينين، ...
(ولا بالمكلثم) الرواية فيه بلفظ اسم المفعول فقط. ومعناه: مدوّر الوجه؛ كما سيأتي في كلام المصنف. والمراد أنّه أسيل الوجه مسنون الخدين، ولم يكن مستديرا غاية التدوير، بل كان بين الاستدارة والإسالة، وهو أحلى عند كلّ ذي ذوق سليم وطبع قويم.
ونقل الذهبيّ؛ عن الحكيم أنّ استدارة الوجه المفرطة دالّة على الجهل.
(وكان في وجهه تدوير) أي: شيء قليل منه، وليس كلّ تدوير حسنا كما علمت، وهذه الجملة كالمبيّنة لقوله «ولا بالمكلثم» .
(أبيض) - بالرفع- خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أبيض (مشرّب) بحمرة؛ كما في رواية ومشرب- بالتخفيف- من الإشراب؛ وهو: خلط لون بلون كأنه سقي به، أو [مشرّب] بالتشديد من التشريب؛ وهو مبالغة في الإشراب. وهذا لا ينافي ما في بعض الروايات: «وليس بالأبيض» ، لأن البياض المثبت ما خالطه حمرة، والمنفيّ ما لا يخالطه؛ وهو الذي تكرهه العرب؛ وتسمّيه «أمهق» .
تنبيه: صرّح العلماء رحمهم الله تعالى بكفر من قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم أسود، لأن وصفه بغير صفته في قوّة نفيه فيكون تكذيبا به، ومنه يؤخذ أنّ كلّ صفة علم ثبوتها بالتواتر كان نفيها كفرا، للعلّة المذكورة. وقول بعضهم «لا بد في الكفر في أن يصفه بصفة تشعر بنقصه، كالسواد هنا» لأنه لون مفضول!! فيه نظر، لأن العلّة ليست هي النقص، بل ما ذكر فالوجه أنّه لا فرق. انتهى «باجوري» .
(أدعج) - بمهملتين فجيم- (العينين) ؛ أي: شديد سواد حدقة العين مع سعتها. كما سيأتي في كلام المصنف، فلا يشكل بأنه أشكل. لأنّ الشّكلة في البياض؛ لا في السواد. كما يأتي. وقيل: الأدعج شديد بياض البياض وسواد السواد.(1/201)
أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد، ذا مسربة، شثن الكفّين والقدمين، إذا مشى.. تقلّع كأنّما ينحطّ من صبب، ...
(أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بالضم ويفتح- وهو حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر. ويقال له الهدب- بضم الهاء وسكون المهملة بعدها موحدة-.
والأهدب: الذي شعر أجفانه كثير مستطيل. وفي كلامه حذف مضاف أي: أهدب شعر الأشفار هي الأجفان التي تنبت عليها الأهداب ويحتمل أنّه سمّى النابت باسم المنبت للملابسة.
(جليل) - أي عظيم- (المشاش) - بضم الميم فمعجمتين بينهما ألف- جمع مشاشة- بالضم والتخفيف-: رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين. (و) جليل (الكتد) - بمثناة فوقية مفتوحة أو مكسورة- وسيأتي في كلام المصنف: أنّه مجمع الكتفين وهو الكاهل؛ أي: عظيم ذلك كلّه. وهو يدلّ على غاية القوّة ونهاية الشجاعة.
(أجرد) أي: هو أجرد؛ أي: غير أشعر؛ وهو: من عمّ الشعر جميع بدنه، فالأجرد: من لم يعمّه الشعر فيصدق بمن في بعض بدنه شعر كالمسربة والساعدين والساقين. وقد كان له صلّى الله عليه وسلم في ذلك شعر؛ فوصفه صلّى الله عليه وسلم بأنه أجرد باعتبار أكثر مواضعه، إما بجعل الأكثر في حكم الكلّ، أو تغليب ما لا شعر له على ما له شعر.
(ذا مسربة) - تقدّم شرحه- (شثن الكفّين والقدمين) تقدّم الكلام عليهما.
(إذا مشى تقلّع) في مشيه كأنه يقلع رجله من رجل، إذا أراد قوّة مشيه كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعا بائنا متداركا إحداهما بالأخرى؛ مشية أهل الجلادة والهمّة، لا كمن يمشي اختيالا ويقارب خطاه، فإنّ ذلك من مشي النساء.
فالتقلّع قريب من التكفّي. وقد سبق.
(كأنّما ينحطّ من صبب) ، وهذا مؤكّد لمعنى التقلّع، وتقدّم إيضاحه.(1/202)
وإذا التفت.. التفت معا، بين كتفيه خاتم النّبوّة.
وهو خاتم النّبيّين، أجود النّاس صدرا، ...
(وإذا التفت التفت معا) ؛ أي: بجميع أجزائه، فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة إذا نظر إلى الشيء، لما في ذلك من الخفّة وعدم الصيانة، وإنّما كان يقبل جميعا ويدبر جميعا، لأنّ ذلك أليق بجلالته ومهابته. وفي «ألفيّة العراقي» :
يقبل كلّه إذا ما التفتا ... وليس يلوي عنقا تلفّتا
وينبغي- كما قاله الدّلجي- أن يخصّ هذا بالتفاته وراءه، أما لو التفت يمنة أو يسرة!! فالظاهر أنّه بعنقه الشريف. وقيل: أراد بذلك أنّه لا يسارع. قال القسطلّاني: وهو أقرب لما يأتي: أنه كان جلّ نظره الملاحظة. انتهى.
(بين كتفيه خاتم) - بفتح التاء وكسرها، والكسر أشهر وأفصح، وهو في الأصل-: ما يختم به كالطابع. والمراد هنا الأثر الذي بين كتفيه المنعوت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة أنّه النبي الموعود به في تلك الكتب. وهو: قطعة لحم بارزة بين كتفيه بقدر بيضة الحمامة أو غيرها بحسب اختلاف الروايات فيه، وإضافته إلى (النّبوّة) لكونه علامتها.
وهذه الجملة غير معطوفة على ما قبلها لعدم المناسبة.
(وهو خاتم النّبيّين) أي: آخرهم، فلا نبيّ بعده تبتدأ نبوّته. فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام لأنّ نبوّته سابقة؛ لا مبتدأة بعد نبينا صلّى الله عليه وسلم. فعيسى إنّما ينزل حاكما بشريعته ومتابعا لها مستمدّا أحكامه من الكتاب والسنة.
وهذه الجملة حاليّة مكمّلة لما قبلها؛ أو معطوفة عليها لوجود المناسبة.
(أجود النّاس صدرا) ؛ أي: من جهة الصدر، والمراد به هنا القلب تسمية للحال باسم المحلّ، إذ الصدر محلّ القلب الذي هو محلّ الجود. والمعنى: أنّ جوده عن طيب قلب وانشراح صدر؛ لا عن تكلّف وتصنّع. وفي رواية: أوسع الناس صدرا؛ وهو كناية عن عدم الملل من الناس على اختلاف طباعهم وتباين(1/203)
وأصدق النّاس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة.. هابه، ...
أمزجتهم، كما أن ضيق الصّدر كناية عن الملل. انتهى «باجوري» .
(وأصدق النّاس لهجة) - بسكون الهاء وتفتح؛ والفتح أفصح- واللهجة: هي اللسان. لكن لا بمعنى العضو المعروف؛ بل بمعنى الكلام. لأنه هو الذي يتّصف بالصّدق؛ فلا مجال لجريان صورة الكذب في كلامه. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله «أصدق الناس» !! لزيادة التمكّن؛ كما في قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ) (2) [الإخلاص] . وإنما لم يجر على سننه فيما بعد!! اكتفاء في حصول النكتة بهذا.
(وألينهم عريكة) ألين، من اللّين؛ وهو ضدّ الصلابة. والعريكة: الطبيعة؛ وزنا ومعنى، ومعنى لينها: انقيادها للخلق في الحقّ. فكان معهم على غاية من التواضع وقلّة الخلاف والنفور. وهذه الجملة منبئة عن كمال مسامحته صلّى الله عليه وسلم ووفور حلمه؛ ما لم تنتهك حرمات الله تعالى.
(وأكرمهم عشرة) - بالكسر- اسم من المعاشرة؛ وهي المخالطة.
فمعاشرته صلّى الله عليه وسلم ومخالطته أكرم من جميع مخالطة الناس كما يدلّ عليه قوله: (من رآه بديهة) ؛ أي: رؤية بديهة، فهو مفعول مطلق، يعني فجأة من غير سابقة مخالطة ومعرفة أحواله، أو قبل النظر في أخلاقه العليّة وأحواله السّنيّة (هابه) ؛ أي: خافه لما فيه من صفة الجلال الربّانيّة، ولما عليه من الهيبة الإلهية والفيوضات السماوية.
قال ابن القيّم: والفرق بين المهابة والكبر: أنّ المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الربّ ومحبّته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حلّ فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة؛ فكلامه نور؛ وعلمه نور، إن سكت علاه الوقار، وإن نطق أخذ بالقلوب والأبصار.
وأما الكبر! فإنّه أثر من آثار امتلاء القلب بالجهل والظلم والعجب. فإذا امتلأ القلب بذلك ترحّلت عنه العبودية، وتنزّلت عليه الظلمات الغضبية، فمشيته بينهم(1/204)
ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
تبختر، ومعاملته لهم تكبّر، لا يبدأ من لقيه بالسلام؛ وإن ردّ عليه يريه أنّه بالغ في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه. وقد حمى الله حبيبه من هذه الأخلاق.
(ومن خالطه) ؛ أي: عاشره وصاحبه (معرفة) ؛ أي: مخالطة معرفة، أو لأجل المعرفة (أحبّه) حبّا شديدا حتى يصير أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين، لظهور ما يوجب الحبّ من كمال حسن خلقه ومزيد شفقته.
وخرج بقوله «معرفة» من خالطه تكبّرا، كالمنافقين، فلا يحبّه.
(يقول ناعته) ؛ أي: واصفه بالجميل على سبيل الإجمال، لعجزه عن أن يصفه وصفا تامّا بالغا على سبيل التفصيل: (لم أر قبله ولا بعده مثله) ؛ أي: من يساويه صورة وسيرة وخلقا وخلقا، إذ ليس في الناس من يماثله في الجمال، ولا في الخلق من يشابهه على وجه الكمال. هذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو هو في العلم والمعرفة، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» بعد أن عدّد بعض البعض من صفات جماله ونعوت كماله صلّى الله عليه وسلم- اعترف بالعجز عن استقصاء محاسن هذا الجناب الأرفع، ورجع إلى القصور عن إدراك كمالات هذا الشفيع المشفّع؛ إشارة إلى أن الجناب المذكور في غاية العلوّ ونهاية الارتفاع، فمن طاوله ورام استقصاء كمالاته عجز وانقطع.
ثمّ اعلم أنّ المنفيّ عموم الشّبه؛ لا أصله أو معظمه، فلا ينافي ما ذكره العلماء من أنّ الذين كانوا يشبهونه صلّى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وابنته فاطمة، وابناها الحسن والحسين، وجعفر بن أبي طالب، والسائب بن عبيد «جدّ الإمام الشافعي» ، وعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي، وكابس بن ربيعة «رجل من أهل البصرة» ؛ كان أنس إذا رآه بكى، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ومسلم بن معتب بن أبي لهب، وعبد الله بن أبي طلحة الخولاني، في آخرين من التابعين. وذكر أيضا فيهم عثمان بن عفان. قال في «المواهب» : وعدّهم بعضهم سبعا وعشرين نفسا. وإنّما ذكر المصنف في باب الخلق ما ليس منه محافظة على تمام الخبر.(1/205)
ومعنى (المطهّم) : البادن الكثير اللّحم. و (المكلثم) : المدوّر الوجه. و (أدعج العينين) : شديد سوادهما. و (أهدب الأشفار) :
طويل شعر الأجفان. و (المشاش) : رؤوس العظام. و (الكتد) :
مجتمع الكتفين. و (أجرد) : غير أشعر. و (تقلّع) : مشى بقوّة.
(ومعنى المطهّم) - بفتح الهاء المشددة-: (البادن) ؛ أي: عظيم البدن بكثرة لحمه، فقوله (الكثير اللّحم) صفة كاشفة للبادن؛ للمبالغة والتوضيح.
(و) معنى (المكلثم) : (المدوّر الوجه) ولا يكون إلّا مع كثرة اللحم.
(و) معنى (أدعج) - بمهملتين وجيم- (العينين: شديد سوادهما) ؛ أي:
شديد سواد حدقتهما مع سعة العين وشدّة بياضها. فالدّعج: شدّة بياض البياض وسواد السواد، وهو الأنسب بمقام المدح. وقد تقدّم قول آخر ثمّ.
(و) معنى (أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بضمّ أوله وقد يفتح-: (طويل شعر الأجفان) . ومعنى (المشاش) - بمعجمتين جمع مشاشة بالضمّ والتخفيف-: (رءوس العظام) كالمرفقين والكتفين والرّكبتين، أو: هي رءوس المناكب، أو العظام اللّيّنة، أو التي يمكن مضغها.
(و) معنى (الكتد) - بمثناة فوقية تفتح وتكسر-: (مجتمع الكتفين) ؛ تثنية كتف- بفتح أوله وكسر ثانيه، وبكسر أوله أو فتحه مع سكون ثانيه؛ كما في «القاموس» - (و) معنى (أجرد غير أشعر) قال في «القاموس» : رجل أجرد لا شعر عليه. فوصفه به مع وجود الشعر في مواضع من بدنه غالبيّ. وقول البيهقيّ في «التاج» : معنى «أجرد» هنا: صغير الشعر!! ردّ بقول «القاموس» : الأجرد إذا جعل وصفا للفرس كان بمعنى صغر شعره، وإذا جعل وصفا للرجل فمعناه:
لا شعر عليه، على أن لحيته الشريفة كانت كثّة. وقيل: معنى «أجرد» : أي لا غش فيه ولا غلّ، فهو على أصل الفطرة.
(و) معنى (تقلّع: مشى بقوّة) : أراد قوّة مشيه، كأنه يرفع رجله من الأرض(1/206)
و (اللهجة) : الكلام. و (العريكة) : الطّبيعة.
و (البديهة) : المفاجأة.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهل الخدّين، ضليع الفم، رفعا قويا. وذلك أبعد عن الكبر وأعون على قطع الطريق، لا كمن يختال يقارب خطاه، فإنّه شأن النساء.
(و) معنى (اللهجة) - بسكون الهاء وجيم، و [اللهجة] تحرّك أفصح:
(الكلام) والمعنى كلامه أصدق الكلام، فلا مجال لجريان صورة الكذب عليه.
(و) معنى (العريكة: الطبيعة) وزنا ومعنى. (و) معنى (البديهة:
المفاجأة) بالهمز، أي: البغتة، ومنه البديهي: الحاصل من غير التروّي. يقال بدهته بأمر؛ أي: فجأته. وفجأه الأمر: إذا جاءه بغتة.
تنبيه: قال الحافظ أبو نعيم: قد اختلفت ألفاظ الصحابة في نعته وصفاته، وذلك لما ركّب في الصدور من جلالته وعظيم مهابته، ولما جعل في جسده الشريف من النّور الذي يتلألأ ويغلب على بشرته، فأعياهم ضبط نعته وصفة حليته، حتّى قال بعضهم: كان مثل الشمس طالعة. وقال بعضهم: كان يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر. وقال بعضهم: لم أر قبله ولا بعده مثله. ولذلك السبب كان اختلافهم في نعت خلقته ولونه. انتهى «مناوي» .
(وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - فيما رواه مسلم، والترمذي؛ من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، والترمذي؛ من حديث هند بن أبي هالة، بألفاظ مختلفة- (سهل الخدّين) ؛ أي: غير مرتفع الوجنتين. وهو بمعنى خبر البزّار والبيهقي:
كان أسيل الخدّين. وذلك أعلى وأغلى وأحلى عند العرب.
(ضليع الفم) - بضاد معجمة مفتوحة: عظيمه، أو واسعه. والعرب تتمدح بسعة الفم وتذمّ ضيقه، لأن سعته دليل على الفصاحة. وكما تتمدح العرب بعظم الفم تتمدح بكثرة ريقه عند المقامات والخطب والحروب، لدلالته على ثبات(1/207)
سواء البطن والصّدر، أشعر المنكبين والذّراعين وأعالي الصّدر، طويل الزّندين، رحب الرّاحة، أشكل العينين، ...
الجنان، بخلاف الجبان؛ فإنّه يجفّ ريقه في هذه المحافل (سواء) - بفتح السين والواو والألف الممدودة وبالإضافة إلى (البطن والصّدر) وبعدمها، والمعنى أنّ بطنه وصدره الشريفان مستويان لا ينتأ أحدهما عن الآخر، فلا يزيد بطنه على صدره؛ ولا يزيد صدره على بطنه. (أشعر) ؛ أي: كثير شعر (المنكبين) - بفتح الميم وكسر الكاف- تثنية منكب؛ وهو: مجتمع رأس الكتف والعضد.
(و) أشعر (الذّراعين) - بكسر الذال- تثنية ذراع. وهو: من المرفق إلى الأصابع.
(و) أشعر (أعالي) - جمع أعلى- (الصّدر) ؛ أي: أنّ شعر هذه الثلاثة كثير غزير. وفي «القاموس» : والأشعر: كثير الشعر وطويله. انتهى.
(طويل الزّندين) - بفتح الزاي وسكون النون وبالدال المهملة- تثنية زند كفلس، وهو- كما قال الزمخشري في «الفائق» -: ما انحسر عنه اللحم من الذراع. قال الأصمعي: لم ير أحد أعرض زندا من الحسن البصري كان عرض زنده شبرا. (رحب) الرواية بفتح الراء- ويجوز الضم في اللغة- بمعنى السعة (الرّاحة) ؛ أي: واسع الكفّ حسّا ومعنى. قيل: رحب الراحة دليل الجود، وضيقها دليل البخل، والراحة: بطن الكفّ مع بطون الأصابع وأصلها من الرّوح؛ وهو الاتساع.
(أشكل العينين) ؛ أي: في بياضهما شيء من الحمرة، يقال: شكلت العين بكسر الكاف- إذا خالط بياضها حمرة، وفي جميع كتب الغريب: الشّكلة- بضم الشين-: حمرة في بياض العين. قال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الخيل شكل عيونها
والأشكل محمود ومحبوب. قال الحافظ العراقي: وهي- أي: الشّكلة-(1/208)
أحمر المآقي، منهوس العقبين.
ومعنى (ضليع الفم) : واسعه، وهو ممدوح لدلالته على الفصاحة.
و (أشكل العينين) : في بياضهما حمرة.
و (منهوس العقبين) : قليل لحمهما.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظيم العينين، أهدب الأشفار، إحدى علامات النبوة، ولمّا سافر إلى الشام مع ميسرة وسأل عنه الراهب ميسرة؛ فقال: في عينه حمرة. فقال: هو هو. انتهى.
وأما الشّهلة! فهي حمرة في سواد العين.
(أحمر المآقي) - جمع: موق وماق- وهو: شقّ العين مما يلي الأنف، والذي يلي الصّدغ؛ يقال له «لحاظ» .
(منهوس) - ضبطه الجمهور بالسين المهملة- أي: قليل لحم (العقبين) بفتح العين وكسر القاف-: تثنية عقب؛ هو: مؤخر القدم.
(ومعنى ضليع الفم) - بالضاد المعجمة-: (واسعه) ، وقيل: عظيمه (وهو ممدوح) عند العرب (لدلالته على الفصاحة) وسعة البلاغة.
(و) معنى (أشكل العينين: في بياضهما حمرة) يقال: ماء أشكل إذا خالطه دم. وهذا التفسير للشّكلة هو الصواب المعروف في كتب اللغة والغريب.
(و) معنى (منهوس) - بسين مهملة وفي رواية بمعجمة-: منهوش (العقبين) والمعنى واحد، أي: (قليل لحمهما) .
(و) روى البيهقيّ؛ عن علي رضي الله تعالى عنه قال:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عظيم العينين) ؛ أي: شديد اتساعهما، فهو بمعنى رواية الترمذي وغيره المارّة عن علي. «أدعج العينين» . قال الجوهري: الدّعج محرّكا-: شدّة سواد العين مع سعتها.
(أهدب الأشفار) ؛ جمع شفر- بالضمّ وتفتح- وهي: حروف الأجفان التي(1/209)
مشرّب العين بحمرة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم أبلج الحاجبين، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة. وكانت عيناه نجلاوين، أدعجهما، وكان في عينيه تمزّج من حمرة، وكان أهدب الأشفار حتّى تكاد تلتبس من كثرتها.
ينبت عليها الشعر. أي: الهدب. وإيهامه أنّ الأشفار هي الأهداب غير مراد، فقد قال ابن قتيبة: العامّة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط. وفي «المغرب» وغيره: لم يذكر أحد من الثقات أنّ الأشفار الأهداب، فهو إمّا على حذف مضاف؛ أي: الطويل شعر الأشفار، أو سمّي النابت باسم المنبت للملابسة.
(مشرّب العين) - بصيغة اسم المفعول مخفّفا ومشدّدا- (بحمرة) ؛ وهي عروق حمر دقاق، من علاماته في الكتب السابقة.
(و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم أبلج الحاجبين، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة) ؛ أي: كأن بين حاجبيه بلجة، أي: فرجة بيضاء دقيقة: لا تتبيّن إلّا لمتأمّل، فهو غير أقرن في الواقع؛ وإن كان أقرن بحسب الظاهر عند من لم يتأمّله، لأنّهما سبغا حتى كادا يلتقيان. قال الأصمعيّ: كانت العرب تكره القرن وتستحبّ البلج، والبلج هو: أن ينقطع الحاجبان؛ فيكون ما بينهما نقيّا.
(وكانت عيناه نجلاوين) - أي: واسعتين- (أدعجهما) ؛ أي: شديد سواد حدقتهما. (وكان في عينيه تمزّج من حمرة) ؛ هو بمعنى كونه أشكل العينين، وقد مرّ أن الشّكلة- بضمّ الشين-: الحمرة تكون في بياض العين. والشّهلة غير الشّكلة؛ وهي حمرة في سوادها.
(وكان أهدب الأشفار) جمع شفر- بالضم- وهو: حرف الجفن الذي ينبت عليه الهدب. قال ابن قتيبة: والعامّة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط، وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر. انتهى.
(حتّى تكاد تلتبس من كثرتها) روي ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ومن حديث علي رضي الله تعالى عنه بألفاظ مختلفة.(1/210)
وكان صلّى الله عليه وسلّم ضخم الرّأس واليدين والقدمين.
وكان صلّى الله عليه وسلّم سهل الخدّين صلتهما، ليس بالطّويل الوجه، ولا المكلثم. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطّول ما هو، ...
(و) روى البخاريّ في «باب اللباس» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم ضخم الرّأس) ؛ أي: عظيمه، لأنه يدلّ على قوّة الحواسّ والذكاء والفطنة. وفي رواية ضخم الهامة (واليدين) - يعني: الذراعين؛ كما جاء مبيّنا هكذا في رواية- (والقدمين) - يعني: ما بين الكعب إلى الركبة. وجمع بين الرأس واليدين والقدمين في مضاف واحد!! لشدّة تناسبها، إذ هي جميع أطراف الحيوان، وهو بدونها لا يسمّاه.
(و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم سهل الخدّين صلتهما) ، أي:
سائلهما من غير ارتفاع وجنتيه، وذلك أحلى عند العرب. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقيّ، والطبرانيّ؛ من حديث هند بن أبي هالة.
وروى البزار والبيهقي: كان أسيل الخدين. وأصلت الخدين: أسيلهما، هو المستوي الذي لا يفوت بعض لحم بعضه بعضا. انتهى شرح «الإحياء» ) .
(ليس بالطّويل الوجه ولا المكلثم) ؛ أي: لم يكن شديد تدوير الوجه.
والمكلثم: هو المدوّر الوجه، يقول: فليس كذلك ولكنه مسنون. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث علي: لم يكن بالمطهّم؛ ولا بالمكلثم. وكان في وجهه تدوير. الحديث. والمطهّم: هو المنتفخ الوجه، وقيل: الفاحش السّمن. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) روى البيهقيّ في «دلائل النبوة» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس صفة) ؛ أي: صفة كمال، (وأجملها) ؛ أي: الناس، لما منحه الله تعالى من الصفات الحميدة الجليلة.
(كان ربعة إلى الطّول، ما هو) يحتمل أنّ «ما» صلة، أو صفة لمصدر محذوف.(1/211)
بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدّين، شديد سواد الشّعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه.. وطىء بكلّها، ليس له أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبيه.. فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك.. يتلألأ.
ومعنى (أسيل الخدّين) : ليس فيهما ارتفاع.
و (الأكحل) : أسود أجفان العين خلقة.
والجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف؛ أي: هو يميل إلى الطول ميلا قليلا.
(بعيد) - بفتح فكسر- (ما بين المنكبين) ؛ أي: عريض أعلى الظهر؛ ويلزمه عرض الصدر. وذلك علامة النجابة.
(أسيل الخدّين) - بكسر المهملة- وفي رواية الترمذي «سهل الخدين» ؛ أي:
ليس في خدّيه نتوء؛ ولا ارتفاع. وأراد أنّ خدّيه أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلد.
(شديد سواد الشّعر، أكحل العينين) ؛ أي: شديد سواد أجفانهما. والكحل بفتحتين-: سواد في أجفان العين خلقة.
(أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه وطىء بكلّها) ؛ أي: لا يلصق القدم بالأرض عند الوطء، وهو مشي الشجاع، (ليس له أخمص) - بفتح الميم- أي:
خارج عن الحدّ؛ فله خموصة أزيد من الناس لكنها مع عدم الإفراط المخلّ بالجمال؛ (إذا وضع رداءه عن منكبيه؛ فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك) ؛ أي:
تبسّم (يتلألأ) ؛ أي: يلمع ويضيء، ويظهر من ثغره نور.
ولا يخفى ما في تعدّد هذه الصفات من الحسن، وذلك لأنّها بالتعاطف تصير كأنّها جملة واحدة.
(ومعنى «أسيل الخدّين» ) : أنّهما (ليس فيهما ارتفاع.
(و) معنى (الأكحل) هو: (أسود أجفان العين خلقة) أي: من أصل الخلقة.(1/212)
وكان صلّى الله عليه وسلّم شبح الذّراعين، بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين.
ومعنى (شبح الذّراعين) : عريضهما ممتدّهما.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبل العضدين والذّراعين، (و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم شبح الذّراعين) - قال المناوي: بشين معجمة فموحّدة مفتوحة، فحاء مهملة-: عريضهما ممتدّهما. والذّراعان: تثنية ذراع؛ وهو:
ما بين مفصل الكفّ والمرفق، أو من المرفق إلى أطراف الأصابع.
(بعيد) - بفتح فكسر- (ما بين المنكبين) ؛ أي: عريض أعلى الظهر.
و «ما» موصولة أو موصوفة؛ لا زائدة. لأنّ «بين» من الظروف اللازمة للإضافة، فلا وجه لإخراجه عن الظرفية بالحكم بزيادة «ما» . والمنكب: مجتمع رأس العضد والكتف، وبعد ما بينهما يدلّ على سعة الصدر، وذلك آية النجابة.
وجاء في رواية: «بعيد» مصغّرا، تقليلا للبعد المذكور؛ إيماء إلى أنّ بعد ما بين منكبيه لم يكن وافيا منافيا للاعتدال.
(أهدب أشفار العينين) ؛ أي: طويلهما غزيرهما- على ما مرّ-.
(ومعنى «شبح الذّراعين» ) : عبلهما (عريضهما ممتدّهما) ؛ ففي «المجمل» شبحت الشيء: مددته.
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبل) - بفتح العين المهملة وسكون الموحدة تليها لام، كذا ضبطه بعضهم بإسكان الباء. فإن كان الرواية، وإلّا! ففيه أيضا كسر الباء؛ بزنة فرخ- أي: ضخم قوي (العضدين) - تثنية:
عضد؛ بفتح العين وضمّ الضاد المعجمة وتسكّن تخفيفا؛ وهو ما بين المرفق والكتف.
(و) عبل (الذّراعين) : ضخمهما، والذراعان: تثنية ذراع؛ وهو: ما بين مفصل الكفّ والمرفق، أو: من المرفق إلى أطراف الأصابع.(1/213)
وما تحت الإزار من الفخذين والسّاق، طويل الزّندين، رحب الرّاحتين، سائل الأطراف، كأنّ أصابعه قضبان الفضّة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم معتدل الخلق في السّمن، فبدن في آخر عمره، ...
(و) عبل (ما تحت الإزار من الفخذين والسّاق) ، وذلك كلّه مما يؤذن بكمال قوّته؛ لما في الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلم أعطي قوّة ثلاثين رجلا.
(طويل الزّندين) ؛ أي: عظيمهما إذ الزند موصل عظم الذّراع؛ وهما زندان: الكوع والكرسوع؛ قاله في «شرح الإحياء» .
وقد مرّ أن: الزند ما انحسر من الذراع.
(رحب الرّاحتين) ؛ أي: واسعهما حسّا ومعنى، والراحة: باطن الكف.
(سائل الأطراف) - بالسين المهملة- أي: ممتدّها، وهي الأصابع امتدادا معتدلا بين الإفراط والتفريط. ويروى بالشين المعجمة: أي مرتفعها.
(كأنّ) - بالتشديد- (أصابعه) صلّى الله عليه وسلم (قضبان) - جمع قضيب؛ وهو:
الغصن. والمراد تشبيهها بقضبان- (الفضّة) في امتدادها وصفاء لونها. وهذا رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقيّ، والطبرانيّ بألفاظ شتّى مفرّقة؛ من حديث أبي هريرة، وعائشة، وهند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم معتدل الخلق) - بفتح الخاء المعجمة- (في السّمن) ، والمراد أنّه معتدل الصورة الظاهرة، بمعنى أن أعضاءه متناسبة غير متنافرة، وكلّ متناسب معتدل، وكلّ متوسط في كمّ وكيف معتدل، وكلّ مستقيم قويم معتدل.
(فبدن في آخر عمره) ، ولما كان إطلاق البادن يوهم الإفراط في السّمن المستدعي لرخاوة البدن وعدم استمساكه وهو مذموم اتفاقا؛ استدرك ونفى ذلك؛ فقال:(1/214)
وكان مع ذلك لحمه متماسكا، يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ.
وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطّويل البائن، ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الرّبعة إذا مشى وحده، ...
(وكان مع ذلك لحمه متماسكا) ؛ أي: كان أعضاؤه يمسك بعضها بعضا؛ من غير ترجرج (يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ) ؛ أي: الطعن في العمر والتقدّم في السن، وأراد أنّه في السنّ الذي شأنه استرخاء اللحم كان كالشباب.
(و) روى البخاريّ، ومسلم؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أحسن النّاس وجها) حتّى من يوسف. قال السيوطي: من خصائصه أنّه أوتي كلّ الحسن؛ ولم يؤت يوسف إلّا شطره.
(وأحسنهم خلقا) . قال القرطبي: الرواية بفتح الخاء وسكون اللام. قال:
والمراد حسن جسمه، بدليل قوله بعده: ليس بالطويل ... الخ. وأما ما في حديث أنس؛ فروايته بضمّ الخاء واللام، لأنه عنى به حسن المعاشرة بدليل بقية الخبر؛ نقله المناوي، وردّ ما جزم به ابن حجر من ضمّ الخاء واللام في هذا الحديث.
(ليس بالطّويل البائن) - بالهمز وجعله بالياء وهم- والمراد نفي الطول المفرط، (ولا بالقصير) هذه رواية الشيخين. وزاد في «الإحياء» :
(بل كان ينسب إلى الرّبعة) - بفتح فسكون- وقد يحرّك، وتأنيثه!! باعتبار النفس، ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث. إذ يقال في جمع كلّ منهما: ربعات بالسكون والتحريك- أي: أنّه يوصف بها، فيقال: هو ربعة لقربه منها، وذلك (إذا مشى وحده) ، فهو من نسبة الجزئي إلى كلّيّه.
واستأنفت السيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها جوابا لسؤال نشأ من مفهوم،(1/215)
ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من النّاس وهو ينسب إلى الطّول..
إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما، فإذا فارقاه.. نسبا إلى الطّول؛ ونسب هو صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّبعة.
وحدّه قولها: (ومع ذلك) ؛ أي: مع كونه ربعة معتدلا (فلم يكن يماشيه أحد من النّاس) بأن يمشي معه وبجنبه؛ (وهو ينسب إلى الطّول) ، المراد بنسبته إلى الطول اتصافه به وكونه معروفا به مشهورا؛ (إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: زاد عليه في الطول.
(ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما) ؛ أي: يزيد عليهما في الطول؛ إكراما من الله حتى لا يزيد أحد عليه صورة؛ (فإذا فارقاه نسبا إلى الطّول؛ وينسب هو صلّى الله عليه وسلم إلى الرّبعة) .
والسرّ في ذلك: هو التنبيه على أنّه لا يتطاول عليه أحد من الأمّة صورة، كما لا يتطاولون عليه معنى. وهذه الزيادة المذكورة في «الإحياء» رواها ابن عساكر، والبيهقي، وابن أبي خيثمة؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- كما في «المواهب» ببعض اختلاف في الألفاظ-:
وفي «الدلائل» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان ربعة إلى الطول مائل ... الحديث. وعند المنذري في «الزهريات» ؛ من حديثه: كان ربعة؛ وهو إلى الطول أقرب. وإسناده حسن.
وعند البيهقي؛ من حديث علي: وهو إلى الطول أقرب.
وعنده أيضا؛ من حديث عائشة: كان ينسب إلى الرّبعة.
وفي «زوائد المسند» لعبد الله بن أحمد: ليس بالذاهب طولا وفوق الرّبعة.
ولا تنافي بين الأخبار، لأنه أمر نسبيّ. فمن وصفه بالرّبعة أراد الأمر التقريبي؛ ولم يرد التحديد. ومن ثمّ قال ابن أبي هالة: كان أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب؛ وهو البائن الطول في نحافة. رواه الترمذي في(1/216)
ويقول صلّى الله عليه وسلّم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» .
وزاد ابن سبع في «الخصائص» : أنّه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس.. يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين.
«الشمائل» ، والطبرانيّ، والبيهقي. انتهى شرح «الإحياء» .
(و) كان (يقول صلّى الله عليه وسلم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» ) يعني المعتدل القامة.
رواه أبو بكر بن لال في «مكارم الأخلاق» . والديلمي؛ من حديث عائشة رضي الله عنها. ويروى عن الحسن بن علي: أنّ الله جعل البهاء والهوج في الطوال. قال السخاوي: وما اشتهر على الألسنة: «ما خلا قصير من حكمة!!» لم أقف عليه.
انتهى شرح «الإحياء» .
(وزاد) الإمام أبو الربيع (ابن سبع) - بإسكان الموحدة: بلفظ العدد، وقد تضمّ؛ كما في «التبصير» - (في) كتاب (الخصائص) ، ورزين (أنّه صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين) .
قال الشهاب الخفاجي في «نسيم الرياض» : وهل هذا محض إراءة لذلك؛ أو حقيقيّ يرجع عنه!؟ فيه تردّد. ولم يخلق أطول من غيره!! لخروجه عن الاعتدال الأكمل المحمود، ولكن جعل الله له هذا في رأي العين معجزة خصّه الله تعالى بها!! لئلا يرى تفوّق أحد عليه بحسب الصورة، وليظهر من بين أصحابه تعظيما له بما لم يسمع لغيره، فإذا فارق تلك الحالة زال المحذور وعلم التعظيم، فظهر كماله الخلقي. انتهى.
وقال الزرقاني: وحكمة ما رأيت ودليله قول علي: إذا جامع القوم غمرهم.
إذ هو شامل للمشي والجلوس. فقصّر من توقف فيه بأنه لم يره إلّا في كلام رزين وكلام الناقلين عنه. انتهى.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، والطبراني في «الكبير» ؛ عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت(1/217)
وكان صلّى الله عليه وسلّم فخما مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، ...
خالي هند بن أبي هالة- وكان وصّافا- عن حلية النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلّق به، فقال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم فخما) - بفاء مفتوحة فمعجمة ساكنة- (مفخّما) اسم مفعول من التفعيل، وهو خبر بعد خبر ل «كان» ، أي: كان عظيما في نفسه، معظّما في الصدور والعيون، لا يستطيع مكابر أن لا يعظّمه؛ وإن حرص على ترك تعظيمه، ولم يرد بالفخامة فخامة الجسم؛ وإن كان ضخما في الجملة (يتلألأ وجهه) ؛ أي: يشرق ويضيء كاللؤلؤ. وأصل تلألأ: ابيضّ فأشبه بياضه اللؤلؤ.
وسمي «لؤلؤا» !! لضوئه. وإنما بدأ الوصّاف بالوجه!! لأنه أشرف ما في الإنسان، ولأنه أوّل ما يتوجّه إليه النظر.
وقوله (تلألؤ القمر) ؛ أي: مثل إشراقه واستنارته (ليلة البدر) ؛ وهي ليلة أربع عشرة؛ ليلة كماله. وإنما سمّي فيها «بدرا» !! لأنّه يبدر بالطلوع فسبق طلوعه مغيب الشمس. وتشبيه بعض صفاته صلّى الله عليه وسلم بنحو الشمس والقمر إنّما جرى على عادة الشعراء والعرب، أو على التقريب والتمثيل، وإلّا! فلا شيء يعادل شيئا من أوصافه، إذ هي أعلى وأجلّ من كلّ مخلوق.
وشبّه الوصّاف تلألؤ الوجه بتلألؤ القمر؛ دون الشمس!! لأنّه ظهر في عالم مظلم بظلام الكفر؛ ونور القمر أنفع من نورها، فنور وجهه أنفع من نور الشمس.
وهذا كما ترى أحسن من الجواب: بأن القمر يتمكّن من النظر إليه، ويؤنس من يشاهده من غير أذى يتولّد عنه، بخلاف الشمس، فإنها تغشي البصر وتؤذي، على أنّه ورد تشبيهه بالشمس أيضا؛ كما سيأتي؛ كذا قال المناوي رحمه الله تعالى.
(أطول) - بالنصب- خبر آخر (من المربوع) عند إمعان النظر وتحقيق التأمّل، وقد عرفت أنّ وصفه بالربعة- فيما مرّ- تقريبي، فلا ينافي أنّه أطول من المربوع، ولا ريب أنّ القرب من الطول في القامة أحسن وألطف.(1/218)
وأقصر من المشذّب، عظيم الهامة، رجل الشّعر، إن انفرقت عقيقته.. فرقها، ...
ومن معجزاته أنّه صلّى الله عليه وسلم إذا دخل بين جماعة طوال كان في نظر الحاضرين أطول منهم جميعا، كما روي أنّه لم يكن أحد يماشيه من الناس إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان فيطولهما؛ فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ونسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الرّبعة، وقد مرّ ذلك قريبا.
(وأقصر من المشذّب) - بصيغة اسم المفعول-؛ أي: من الطويل البائن في نحافة. وأصل المشذّب: النخلة الطويلة التي شذّب عنها جريدها، أي: قطع وفرّق، لأن بذلك تطول. كذا قيل؛ نقله في «جمع الوسائل» .
(عظيم الهامة) - بالتخفيف- أي: الرأس، وعظم الرأس ممدوح، لأنّه أعون على الإدراكات والكمالات (رجل) - بكسر الجيم وسكونها- (الشّعر) - بفتح العين وسكونها- أي: في شعره تكسّر وتثنّ قليل.
(إن انفرقت عقيقته) ؛ أي: شعر رأسه الذي على ناصيته. وأصل العق:
الشق والقطع. والعقيقة في الحقيقة: الشعر الذي يولد عليه المولود قبل أن يحلق في اليوم السابع، فإذا حلق ونبت ثانيا فقد زال عنه اسم العقيقة، وربّما سمّي الشعر عقيقة بعد الحلق أيضا على المجاز، لأنّه منها؛ ونباته من نباتها. وبذلك جاء الحديث؛ لئلا يلزم أن يكون شعره باقيا من حيث ولادته، فإنّه مستبعد جدّا في العادة، فإنّ عادتهم حلق شعر المولود في السابع، وكذا ذبح الغنم وإطعام الفقراء. اللهم إلّا أن يقال إنه من الكرامات الإلهية؛ لئلا يذبح باسم الآلهة.
ويؤيده ما قاله القفّال المروزي في «فتاويه» من أنه يستحبّ لمن لم يعقّ عنه أن يعقّ عن نفسه، فإنّه صلّى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوّة، لكن يحتمل أنه ما اعتبر عقيقتهم لكونها على اسم غيره سبحانه. وفي رواية عقيصته- بالصاد المهملة؛ بدل القاف الثانية- والمشهور عقيقته- بقافين- ومعنى الخبر: أنّه إذا قبلت عقيقته الفرق بسهولة؛ بأن كان حديث عهد بنحو غسل (فرقها) - بالتخفيف- أي: جعل شعره(1/219)
وإلّا.. فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره.
أزهر اللّون، ...
نصفين: نصفا عن اليمين، ونصفا عن اليسار، قيل: بالمشط، وقيل: بيده.
(وإلّا) ؛ أي: وإن لم تقبل الفرق بأن كان شعره مختلطا متلاصقا، (فلا) يفرقها، بل يسدلها؛ أي: يرسلها على جبينه، فيجوز الفرق والسّدل، لكن الفرق أفضل، لأنّه الذي رجع إليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن المشركين كانوا يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلونها؛ فكان صلّى الله عليه وسلم يسدل رأسه، لأنه كان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق واستمرّ عليه. قال الحافظ العراقي في «ألفية السيرة» :
يحلق رأسه لأجل النّسك ... وربّما قصّره في نسك
وما قرّرناه مبنيّ على جعله قوله «وإلّا فلا» كلاما تاما، وما بعده مستأنف ليس من مدخول النفي؛ وهو ما حقّقه العصام، وعليه شرح ابن حجر والمناويّ والقاري وحسّوس، وتبعهم الباجوري. ثم قال:
ويصحّ أن يكون ما بعده من مدخول النفي، فيصير التركيب هكذا: وإلّا فلا (يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره) أي: جعله وفرة، وتقدّم أنّ الوفرة الشعر النازل من شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين.
وحاصل المعنى على التقرير الأول أنّ شعره صلّى الله عليه وسلم يجاوز شحمة أذنيه إذا جعله وفرة؛ ولم يفرقه، فإن فرقه؛ ولم يجعله وفرة وصل إلى المنكبين؛ وكان جمّة:
وعلى التقرير الثاني: أنّ عقيقته صلّى الله عليه وسلم إذا لم تنفرق؛ بل استمرت مجموعة لم يجاوز شعره شحمة أذنيه، بل يكون حذاء أذنيه فقط. فإن انفرقت عقيقته! جاوز شعره شحمة أذنيه، بل وصل إلى المنكبين. انتهى.
(أزهر اللّون) ؛ أي: أبيضه بياضا نيّرا، لأنه مشرّب بحمرة. كذا قال الأكثر، لكن قال السّهيلي: الزّهرة- في اللغة-: إشراق في اللون؛ بياضا وغيره.(1/220)
واسع الجبين، أزجّ الحواجب؛ سوابغ في غير قرن، ...
(واسع الجبين) ؛ أي: ممتدّ الجبين طولا وعرضا، وسعة الجبين محمودة عند كلّ ذي ذوق سليم. والجبين- كما في «الصحاح» - فوق الصّدغ؛ وهو:
ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال، فهما جبينان، فتكون الجبهة بين جبينين، وبذلك تعلم أن «أل» في «الجبين» للجنس، فيصدق بالجبينين كما هو المراد.
(أزجّ الحواجب) بمعنى مقوّس الحاجبين مع وفور الشعر وطوله في طرفه وامتداده، أو دقيقهما مع طول، لأن الزّجج- بزاي وجيمين محرّكة-: استقواس الحاجبين مع طول؛ كما في «القاموس» . أو دقّة الحاجبين مع سبوغهما إلى مؤخّر العين؛ كما في «الفائق» .
وإنّما قيل: «أزج الحواجب» ؛ دون «مزجّج الحواجب» !! لأن الزجج خلقة والتزجيج صنعة؛ والخلقة أشرف. وعليه قوله:
ومقلة وحاجبا مزجّجا
وقوله:
وزجّجن الحواجب والعيونا
أي: صنعن ذلك بدليل عطف العيون عليه.
والحواجب: جمع حاجب؛ وهو: ما فوق العين بلحمه وشعره، وهو صفة غالبة. أو هو الشعر الذي على العظم وحده، وسمّي به لمنعه الشمس عن العين، ووضع الحواجب موضع الحاجبين!! لأن التثنية جمع؛ أو للمبالغة في امتدادهما حتّى صارا كالحواجب.
(سوابغ) - بالسين والصاد والسين أفصح- جمع سابغة؛ أي: كوامل، وهو حال من الحواجب، لأنه في المعنى فاعل؛ أي: دقّت وتقوّست حال كونها سوابغ أي- كاملات. والأظهر أنّه منصوب على المدح (في غير قرن) - بالتحريك؛ مصدر قولك: رجل أقرن- أي: مقرون الحاجبين. وهو مكمل للوصف(1/221)
بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى العرنين، ...
المذكور، والمراد أنّ حاجبيه قد سبغا حتّى كادا يلتقيان ولم يلتقيا.
والقرن غير محمود عند العرب ويستحبون البلج، وهو الصحيح في صفته صلّى الله عليه وسلم، بخلاف ما روته أمّ معبد حيث قالت في صفته: أزجّ أقرن.
ويمكن أن يجمع بينهما على تقدير صحّة رواياتها: بأن يقال: كان بين حاجبيه فرجة دقيقة لا تتبين إلّا للمتأمل، فهو غير أقرن في الواقع؛ وإن كان أقرن بحسب الظاهر، فكأنه جمع من لطافة العرب وظرافة العجم صلّى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات «في غير قرن» . ففي بمعنى «من» ، و «غير» بمعنى «لا» ، أي: بلا قرن، وهو حال أيضا من الحواجب على الترادف؛ أو التداخل، والتداخل هو الأحسن.
(بينهما) ؛ أي: الحاجبين، وفيه تنبيه على أن الحواجب في معنى الحاجبين.
(عرق) أجوف يكون فيه الدم- وهو بكسر العين- والعصب غير أجوف. وهذا حال من الحواجب. وترك الواو في الجملة الاسمية جائز.
(يدرّه الغضب) ؛ من الإدرار- على الرواية الصحيحة- أي: بين الحاجبين عرق يصيّره الغضب ممتلئا دما؛ كما يصير الضرع ممتلئا لبنا. وفي ذلك دليل على كمال قوّته الغضبية التي عليها مدار حماية الديار وقمع الأشرار. والجملة صفة «عرق» .
(أقنى) - بقاف فنون مخففة- أي: طويل الأنف. يقال رجل أقنى وامرأة قنواء. (العرنين) - بكسر العين المهملة وسكون الراء وكسر النون الأولى- قيل:
هو ما صلب من الأنف. وقيل: الأنف كله، وهو المناسب هنا. والمراد أنّه طويل الأنف مع دقّة أرنبته، ومع حدب في وسطه، فلم يكن طوله مع استواء، بل كان في وسطه بعض ارتفاع، وهو وصف مدح.(1/222)
له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمّله أشمّ، كثّ اللّحية، سهل الخدّين، ضليع الفم، ...
(له نور يعلوه) الظاهر أنّ الضميرين راجعان إلى العرنين، لأن ما بعده من تتمات صفات الأنف، ويحتمل أنّه عائد للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّه الأصل، وكذا الضمير في قوله بعده «يحسبه من لم يتأمّله أشمّ» .
والنور: قال السعد التفتازاني: أجود تعريفاته: كيفية تدركها الباصرة أولا، وبواسطتها تدرك سائر المبصرات.
(يحسبه) - بكسر السين وفتحها- أي: يظن النبي صلّى الله عليه وسلم (من لم يتأمّله) : يمعن النظر فيه. والتأمّل إعادة النظر في الشيء مرّة بعد أخرى حتى يعرفه ويتحقّقه.
(أشمّ) مفعول ثان ل «يحسبه» .
والشّمم- بفتحتين-: ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها، ومع إشراف الأرنبة قليلا. وحاصل المعنى: أنّ الرائي له صلّى الله عليه وسلم يظنّه أشمّ لحسن قناه ولنور علاه، ولو أمعن النظر لحكم بأنه غير أشمّ.
(كثّ) - بتشديد المثلثة، وفي رواية. كثيف- (اللّحية) ، وفي أخرى:
عظيم اللحية، وعلى كلّ؛ فالمعنى أنّ لحيته صلّى الله عليه وسلم كانت عظيمة غليظة.
واللّحية- بكسر اللام على الأفصح-: الشّعر النابت على الذّقن، وهو مجتمع اللحيين (سهل الخدّين) غير مرتفع الوجنتين، وهو بمعنى خبر البزار والبيهقي (كان أسيل الخدين) ، وذلك أعلى وأغلى وأحلى عند العرب.
(ضليع الفم) - بضاد معجمة مفتوحة-: عظيمه. وقيل: واسعه.
والعرب تتمدح بسعة الفم وتذمّ بضيقه، لأنّ سعته دليل على الفصاحة.
قال الزمخشري: والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه ووفرت؛ فأجفر جنباه، ثم استعمل في موضع العظم؛ وإن لم يكن ثمّ أضلاع. انتهى.
ومن فسر ضليعه بعظيم الأسنان!! ففي كلامه نظر من وجهين:(1/223)
أشنب، مفلّج الأسنان، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جيد دمية في صفاء الفضّة، ...
الأول: أنّ إضافته إلى الفم تمنع منه، لأنها تقتضي أنّ المراد عظيم الفم؛ لا عظيم الأسنان.
والثاني: أن المقام مقام مدح، وليس عظم الأسنان بمدح؛ بخلاف عظم الفم.
(أشنب) - بشين معجمة ونون بعدها موحدة- أي: أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها (مفلّج الأسنان) ؛ بصيغة اسم المفعول من التفليج- بالفاء والجيم- أي: منفرجها، وهو خلاف متراصّ الأسنان. والفلج: انفراج ما بين الثنايا. وفي «القاموس» : مفلّج الثنايا: منفرجها. وظاهره اختصاص الفلج بالثنايا.
ويؤيده: إضافته إلى الثّنيّتين في خبر ابن عبّاس الآتي، وما قاله العصام من «أنّه يحتمل أنّ المراد الانفراج مطلقا» !! يردّه أن المقام مقام مدح، وقد صرح جمع من شرّاح «الشفاء» وغيرهم بأن انفراج جميع الأسنان عيب عند العرب:
والألصّ ضد المفلج فهو متقارب الثنايا. والفلج، أبلغ في الفصاحة، لأنّ اللسان يتّسع فيها.
(دقيق) - بالدال، وفي رواية: بالراء- (المسربة) - بفتح الميم وسكون السين المهملة وضمّ الراء-: الشعر المستدقّ ما بين اللّبّة إلى السّرة، ووصفها بالدقّة للمبالغة.
(كأنّ) - بتشديد النون- (عنقه) - بضمّتين ويسكّن- (جيد دمية) ؛ أي:
كأن عنقه الشريف عنق صورة متّخذة من عاج ونحوه (في صفاء الفضّة) فالجيد بكسر الجيم وسكون المثناة التحتية-: العنق، والدّمية- بضم الدال المهملة وسكون الميم بعدها مثناة تحتية-: الصورة المتّخذة من عاج ونحوه.
فشبّه عنقه الشريف بعنق الدّمية في الاستواء والاعتدال؛ وحسن الهيئة والكمال؛ والإشراق والجمال، لا في لون البياض، بدليل قوله «في صفاء(1/224)
معتدل الخلق.
بادن متماسك، ...
الفضة» !! لبعد ما بين لون العاج ولون الفضة من التفاوت.
وقد بحث فيه بأن في أنواع المعادن ما هو أحسن نضارة من العاج ونحوه، كالبلور، فلم آثر العاج؟ وأجيب بأن هذه الصورة قد تكون مألوفة عندهم؛ دون غيرها، لأن مصورها يبالغ في تحسينها ما أمكنه.
(معتدل الخلق) - بفتح الخاء المعجمة-: أي: معتدل الصورة الظاهرة بمعنى أن أعضاءه متناسبة غير متنافرة. وهذا الكلام إجمال بعد تفصيل بالنسبة لما قبله، وإجمال قبل التفصيل بالنسبة لما بعده. وهذه الفقرة بالنصب والرفع، والنصب أظهر.
(بادن) أي: سمين سمنا معتدلا، بدليل قوله فيما تقدم «لم يكن بالمطهّم» .
فالحقّ أنّه لم يكن سمينا جدّا؛ ولا نحيفا.
وفي «جمع الوسائل» : قال الحفني: قوله «بادن» روايتنا إلى هنا بالنصب، ومن هنا إلى آخر الحديث بالرفع. ويحتمل- كما قيل- أن يكون قوله «بادن» منصوبا كما يقتضيه السياق، ويكتفى بحركة النصب عن الألف كما هو رسم المتقدمين. ويؤيده ما وقع في «جامع الأصول» : بادنا- بالألف- وكذا في «الفائق» ، وكذا في «الشفاء» للقاضي عياض.
ولما كانت البدانة قد تكون من الأعضاء؛ وقد تكون من كثرة اللحم والسمن المفرط المستوجب لرخاوة البدن وهو مذموم؛ أردفه بما ينفي ذلك فقال:
(متماسك) يمسك بعض أجزائه بعضا من غير ترجرج، وقيل: معناه ليس بمسترخي البدن، حتّى أنه في السنّ الذي شأنه استرخاء البدن كان كالشاب. ولذلك قال الغزالي: لحمه متماسك يكاد يكون على الخلق الأول فلم يضرّه السنّ.(1/225)
سواء البطن والصّدر، عريض الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرّد، موصول ما بين اللّبّة والسّرّة ...
(سواء) - بفتح السين والواو والألف- (البطن والصّدر) برفع «سواء» منونا، ورفع «البطن» و «الصّدر» ، وفي بعض النسخ: سواء البطن والصدر؛ برفع «سواء» غير منون، وجرّ البطن والصدر على الإضافة. والمعنى: أن بطنه وصدره الشريفين مستويان لا ينتأ أحدهما عن الآخر؛ فلا يزيد بطنه على صدره؛ ولا يزيد صدره على بطنه.
(عريض الصّدر) ؛ كالمؤكّد لقوله «سواء البطن والصدر» ، وكون الصدر عريضا مما يمدح به في الرجال.
(بعيد ما بين المنكبين) روي بالتكبير والتصغير، والمراد بكونه (بعيد ما بين المنكبين) : أنّه عريض أعلى الظهر كما تقدّم. و «ما» موصولة.
(ضخم الكراديس) : غليظها عظيمها. قال في «الصحاح» : الضخم الغليظ من كلّ شيء. وفي «المصباح» : الضخم العظيم، وضخم عظم. ومن كلامهم:
العظم أساس البدن.
(أنور المتجرّد) - بكسر الراء المشددة؛ على أنّه اسم فاعل، وبفتحها على أنه اسم مكان، قيل: وهو أشهر، بل قيل: إنه الرواية-.
والمعنى أنّه نيّر العضو المتجرّد عن الشعر؛ أو عن الثوب، فهو على غاية من الحسن ونصاعة اللون. وعلم من ذلك أنّه وضع «أفعل» موضع «فعيل» ؛ كما قاله جمع.
(موصول ما بين اللّبّة والسّرّة) «ما» موصولة؛ أو موصوفة، واللّبّة- بفتح اللام وتشديد الباء-: النّقرة التي فوق الصدر، أو موضع القلادة منه، والسّرّة بضم أوّله المهملة-: ما بقي بعد القطع، والذي يقطع سرّ. قال في «الصحاح» . تقول: عرفت ذلك قبل أن يقطع سرّك، ولا تقل سرّتك. لأنّ السرة لا تقطع، وإنما هي الموضع الذي قطع منه السّرّ- بالضم-. والمعنى: وصل(1/226)
بشعر يجري كالخطّ، عاري الثّديين والبطن ما سوى ذلك، أشعر الذّراعين والمنكبين وأعالي الصّدر، ...
ما بين لبّته وسرّته (بشعر) جار ومجرور متعلق بموصول.
(يجري) ؛ أي: يمتد ذلك الشعر، فشبّه امتداده بجريان الماء؛ وهو امتداده في سيلانه (كالخطّ) ؛ أي: خطّ الكتابة. وروي كالخيط، والتشبيه بالخطّ أبلغ، لإشعاره بأن الشعرات مشبهة بالحروف، وهذا معنى «دقيق المسربة» الذي مرّ الكلام عليه. وفي رواية لابن سعد: له شعر من لبّته إلى سرّته يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره؛ أي: ما عدا أعاليه. أخذا مما يأتي شعر غيره.
(عاري) - أي: خالي- (الثّديين) - بفتح المثلثة: وسكون الدال-.
(و) عاري (البطن) من الشعر (ما سوى ذلك) الخطّ. وفي رواية: ممّا سوى ذلك. وهي أنسب وأقرب؛ أي: سوى محلّ الشعر المذكور، أما هو!! ففيه الشعر الذي هو المسربة.
والمعنى: لم يكن على ثدييه وبطنه شعر غير مسربته.
ويؤيّده ما وقع في حديث ابن سعد: له شعر من لبّته إلى سرّته، يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره. قال بعضهم: ولا شعر تحت إبطيه، ولعله أخذه من ذكر أنس وغيره «بياض إبطيه» . وردّه المحقق أبو زرعة بأنه لا يلزم من البياض فقد الشعر، على أنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتف شعر إبطيه؛ كما في «جمع الوسائل» .
(أشعر) ؛ أي: كثير شعر (الذّراعين) - بكسر الذال- تثنية ذراع من المرفق إلى الأصابع. (و) أشعر (المنكبين) تثنية منكب- بفتح الميم وكسر الكاف-:
مجتمع رأس الكتف والعضد، (و) أشعر (أعالي) جمع أعلى (الصّدر) ؛ أي:
أن شعر هذه الثلاثة غزير كثير. وهذا من تتمة الصفتين المارتين. والأشعر ضدّ:
الأجرد، وهو أفعل صفة لا أفعل تفضيل. وفي «القاموس» : الأشعر كثير الشعر(1/227)
طويل الزّندين.
رحب الرّاحة، شثن الكفّين والقدمين، ...
وطويله. وفي أكثر الشروح: أي كثيره. وقيل: طويله، والمقام يحتملهما والله أعلم.
(طويل الزّندين) - بفتح الزاي وسكون النون وبالدال المهملة؛ تثنية زند كفلس-: ما انحسر عنه اللحم من الذراع، وله رأسان: الكوع والكرسوع.
قال في «القاموس» : الكوع- بالضمّ-: طرف الزّند الذي يلي الإبهام.
والكاع طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الكرسوع- بالعين المهملة- كما في «القاموس» ولبعضهم:
فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي ... لخنصره الكرسوع والرّسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقّب ... ببوع، فخذ بالعلم واحذر من الغلط
والزّند مذكّر. قال الأصمعي: لم ير أحد أعرض زندا من الحسن البصري، كان عرض زنده شبرا.
(رحب الرّاحة) واسع الكفّ حسّا ومعنى. ولله درّ حسان بن ثابت الصحابي رضي الله عنه حيث قال:
له راحة لو أنّ معشار جودها ... على البرّ كان البرّ أندى من البحر
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر
والرواية بفتح الراء في «رحب» ، ويجوز الضمّ في اللّغة. وقيل: رحب الراحة دليل الجود، وضيقها دليل البخل. والرّاحة: بطن الكفّ مع بطون الأصابع، وأصلها من الرّوح؛ وهو الاتساع.
(شثن الكفّين والقدمين) ، سبق معناه، وأنّه فسّره ابن حجر العسقلاني بغليظ الأصابع والراحة، وهو المتبادر، ويؤيّده رواية «ضخم الكفين والقدمين» . قال ابن بطّال: كانت كفّه صلّى الله عليه وسلم ممتلئة لحما، غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت ليّنة؛ كما(1/228)
سائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء؛ ...
ثبت في حديث أنس: ما مسست خزّا؛ ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(سائل الأطراف) - بالسين المهملة وبهمز مكسور بعد ألف وفي آخره لام- أي: ممتدّ الأصابع طويلها طولا معتدلا بين الإفراط والتفريط، فكانت مستوية مستقيمة؛ وذلك مما يتمدّح به.
(خمصان) - بضمّ الخاء المعجمة وسكون الميم كعثمان، وبضمتين وبفتح فسكون- (الأخمصين) - بفتح الميم بلفظ التثنية- والأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء؛ مأخوذ من الخمص- بفتحتين-، وهو:
ارتفاع وسط القدم عن الأرض. والخمصان المبالغ فيه؛ أي: أن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض؛ كذا في «النهاية» . ولم يرتض ابن الأعرابي جعل الصيغة للمبالغة. وقال: إذا كان معتدل الخمص؛ لا مرتفعه جدا ولا منخفضه كذلك؛ فهو أحسن، بل غيره مذموم. انتهى.
ورجّح مقال ابن الأعرابي لأنه الأنسب بأوصافه؛ إذ هي في غاية الاعتدال.
ولا يعارضه خبر أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا وطىء بقدمه وطىء بكلّها، ليس له أخمص» !! لأنّ مراده سلب نفي الاعتدال، فمن أثبت الأخمص أراد أنّ في قدميه خمصا يسيرا، ومن نفاه نفى شدّته.
(مسيح القدمين) أي: أملسها من ظهرهما لوجود الخموصة في بطنها.
ومستويهما: ليّنهما بلا تكسّر؛ ولا تشقّق جلد بحيث (ينبو) على وزن: يدعو؛ أي: يتباعد ويتجافى (عنهما الماء) ؛ أي: إذا صبّ عليهما الماء مرّ سريعا لملاستهما ولينهما، وكان غليظ أصابعهما. يقال: نبا الشيء تجافى وتباعد وبابه «سما» ؛ كما في «المختار» .
وروى الإمام أحمد وغيره أنّ سبّابتي قدميه صلّى الله عليه وسلم كانتا أطول من بقيّة أصابعهما.(1/229)
إذا زال.. زال قلعا، يخطو تكفّيا ويمشي هونا، ...
وما اشتهر من إطلاق «أنّ سبّابتيه كانتا أطول من وسطاه» !؟ غلط، بل ذلك خاصّ بأصابع رجليه؛ كما قاله بعض الحفاظ.
(إذا زال زال قلعا) ؛ أي: إذا مشى رفع رجليه بقوّة كأنّه يقلع شيئا من الأرض؛ لا كمشي المختال. وقلعا حال؛ أو مصدر على تقدير مضاف؛ أي:
زوال قلع؛ وفيه خمسة أوجه: 1/ 3- فتح أوّله مع تثليث ثانيه؛ أي: فتحه وكسره وسكونه، و 4/ 5- ضمّ أوّله مع سكون ثانيه وفتحه.
والقلع- في الأصل-: انتزاع الشيء من أصله، أو: تحويله عن محلّه.
وكلاهما صالح لأن يراد هنا، لأنّه يرفع رجله بقوّة ويحوّلها كذلك.
(يخطو) - بوزن: يعدو-؛ أي: يمشي (تكفّيا) - بكسر الفاء المشددة بعدها ياء-؛ أي: مائلا إلى سنن المشي؛ لا إلى طرفيه. وهذه الجملة مؤكّدة لمعنى قوله «زال قلعا» .
(ويمشي هونا) - بالنون ك «ضربا» ، نعت لمصدر محذوف؛ أي: مشيا هونا، أو حال-؛ أي: هيّنا في تؤدة وسكينة. وهذه الجملة قيل: إنّها تفنّن في العبارة حيث عبّر عن المشي بعبارتين فرارا من كراهة تكرار لفظه. وقيل: تتميم لكيفية مشيه صلّى الله عليه وسلم، فقوله «إذا زال زال قلعا» بيان لكيفيّة رفع رجليه عن الأرض، وقوله «ويمشي هونا» بيان لكيفية وضعهما على الأرض.
وبهذا عرف أنّه لا تدافع بين الهون والتقلّع والانحدار، والهون: الرفق واللين. فكان صلّى الله عليه وسلم يمشي برفق ولين، وتثبّت ووقار، وحلم وأناة، وعفاف وتواضع، فلا يضرب برجله، ولا يخفق بنعله. وقد قال الزّهري: إنّ سرعة المشي تذهب بهاء الوجه. يريد الإسراع الخفيف، لأنه يخلّ بالوقار، إذ الخير في الأمر الوسط.
وهذه الصفة قد وصف الله تعالى بها عباده الصالحين بقوله (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [63/ الفرقان] . ولا يخفى أنّه صلّى الله عليه وسلم أثبت منهم في ذلك،(1/230)
ذريع المشية، إذا مشى.. كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت..
التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السّماء، ...
لأن كلّ كمال في غيره فهو فيه أكمل.
(ذريع المشية) - بكسر الميم- أي: واسع الخطو خلقة؛ لا تكلّفا. قال الراغب: الذريع: الواسع. يقال: فرس ذريع؛ أي: واسع الخطو، فمع كونه صلّى الله عليه وسلم كان يمشي بسكينة كان يمدّ خطوه حتّى كأن الأرض تطوى له.
(إذا مشى) - يصحّ أن يكون ظرفا لقوله «ذريع المشية» ، ولقوله- (كأنّما ينحطّ من صبب) ؛ أي: محلّ منحدر، والاحتمال الثاني هو المتبادر.
(وإذا التفت التفت) عطف على الجملة الشرطية الأولى. أعني «إذا زال زال قلعا» . لأنّ ما بعدها من لواحقها.
(جميعا) على وزن «فعيل» ، وفي بعض الروايات «جمعا» على وزن «ضربا» ، وهو منصوب على المصدر؛ أو الحال، أراد أنّه لا يسارق النظر، ولا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف، ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا؛ أي: بجميع أجزائه لمّا أن ذلك أليق بجلالته ومهابته.
(خافض) - بالرفع- خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو خافض (الطّرف) - بفتح الطاء وسكون الراء-: هو العين، وأما الطرف- بالتحريك- فهو آخر الشيء.
فطرف الحبل آخره. والمراد أنّه خافض البصر، لأن هذا شأن المتأمّل المشتغل بربّه، فلم يزل مطرقا متوجّها إلى عالم الغيب؛ مشغولا بحاله، متفكّرا في أمور الآخرة، متواضعا بطبعه.
ثم أردف ذلك بما هو كالتفسير له؛ أو التأكيد، فقال:
(نظره) ، أي: مطالعته (إلى الأرض أطول) ، أي: أكثر، أو زمن نظره إليها أطول؛ أي: أزيد وأمدّ (من نظره إلى السّماء) ، والمراد أنّ نظره إلى الأرض(1/231)
جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ...
حال السكوت وعدم التوجّه إلى أحد أطول من نظره إلى السماء، فلا ينافي ما ورد من حديث أبي داود؛ عن عبد الله بن سلام قال: «كان صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء. مع أنّه قد يحتمل أنّ الرفع محمول على حال توقّعه انتظار الوحي في أمر ينزل إليه. وقيل: الأكثر لا ينافي الإكثار؛ وإنما كان نظره إلى الأرض أطول لكونه أجمع للفكرة؛ وأوسع للاعتبار؛ لاشتغاله بالباطن وإعمال جنانه في تدبير ما بعث بسببه، أو لكثرة حيائه وأدبه مع ربّه، أو أنّه بعث لتربية أهل الأرض؛ لا لتربية أهل السماء.
والنظر- كما في «المصباح» -: تأمّل الشيء بالعين.
والأرض- كما قال الراغب-: الجرم المقابل للسماء. ويعبّر بها عن أسفل الشيء كما يعبر بالسماء عن أعلى الشيء. والطول: الامتداد. يقال «طال الشيء» : امتدّ. وأطال الله بقاءك: مدّه ووسّعه.
(جلّ نظره) - بضم الجيم واللام المشددة- أي: معظم نظره إلى الأشياء لا سيما إلى الدنيا وزخرفها (الملاحظة) ؛ أي: النظر باللّحاظ- بفتح اللام- وهو: شقّ العين مما يلي الصّدغ.
وأما الذي يلي الأنف!! فالموق، ويقال له: الماق. فلم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشّره، بل كان يلاحظها في الجملة؛ امتثالا لقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [131/ طه] الآية.
(يسوق أصحابه) ؛ أي: يقدّمهم بين يديه ويمشي خلفهم؛ كأنه يسوقهم، لأنّ الملائكة كانت تمشي خلف ظهره. روى الدارمي بإسناد صحيح أنّه صلّى الله عليه وسلم قال:
«خلّوا ظهري للملائكة» . وأخرج أحمد؛ عن جابر رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم يمشون أمامه، ويدعون ظهره للملائكة. انتهى.
ولأن من كمال التواضع أن لا يدع أحدا يمشي خلفه، وإيماء إلى مراعاة(1/232)
ويبدر من لقيه بالسّلام.
أضعفهم؛ فيتأخّر عنهم رعاية للضعفاء وإعانة للفقراء، لأن شأن الولي مع المولّى عليهم أن ينظر إليهم، ويربّي من يستحق التربية، ويعاتب من تليق به المعاتبة، ويؤدّب من يناسبه التّأديب، ويكمّل من يحتاج إلى التكميل، وإنما تقدّمهم في قصّة جابر؛ كما قال النووي!! لأنّه دعاهم إليه، فكان كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم.
(ويبدر) - بضم الدال؛ من باب «نصر» بمعنى: يسبق ويبادر، وفي نسخة: ويبدأ- (من لقيه) حتّى الصبيان؛ كما صرّح به جمع في الرواية عن أنس (بالسّلام) : بالتسليم، والمعنى أنّه كان يبادر ويسبق من لقيه من أمّته بتسليم التحية؛ لأنّه من كمال شيم المتواضعين؛ وهو سيّدهم.
وليست بداءته بالسلام لأجل إيثار الغير بالجواب الذي هو فرض؛ وثوابه أجزل من ثواب السنة؛ كما قاله العصام، لأنّ الإيثار في القرب مكروه؛ كما بيّنه النووي في «المجموع» في «باب التيمم» أتمّ بيان، ووضّحه ناظم «القواعد الفقهية» مع شرحها للجرهزي؛ تبعا للسيوطي في «الأشباه» .
وفي هذه الأفعال السابقة عن المصطفى صلّى الله عليه وسلم من تعليم أمّته كيفية المشي، وعدم الالتفات، وتقديم الصحب، والمبادرة بالسلام؛ ما لا يخفى على الموفّقين لفهم بعض أسرار أحواله حتى العاديّة؛ نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنّه وكرمه.
آمين.
تنبيه: من فضائله صلّى الله عليه وسلم أنّ الحقّ سبحانه ذكر أعضاءه عضوا عضوا في التنزيل، وذكره بجملته؛ فذكر وجهه في (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [144/ البقرة] ، وعينيه في (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [131/ طه] ، ولسانه في (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [97/ مريم] ، ويده وعنقه في (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [29/ الإسراء] ، وصدره وظهره في (أَلَمْ نَشْرَحْ) [1/ الشرح] ، وقلبه في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [193- 194/ الشعراء] ، وجملته في (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4) [القلم] ؛ ذكره المناوي رحمه الله.(1/233)
ومعنى (الفخم) : العظيم في نفسه. و (المفخّم) : المعظّم عند غيره. و (المشذّب) : الظّاهر الطّول مع نحافة. و (رجل الشّعر) :
مسترسله. و (العقيقة) : شعر الرّأس. و (وفره) : جعله وفرة، وهي الشّعر النّازل عن شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين. و (أزهر) :
مشرق اللّون، نيّره. و (أزجّ الحواجب) : مقوّسها مع طول.
(ومعنى الفخم) ؛ في قوله «فخما» : (العظيم في نفسه. و) معنى (المفخّم) ؛ في قوله «مفخّما» : (المعظّم عند غيره) حتّى الكفّار، وما وقع من بعضهم من رميه بالحجارة ونحو ذلك!! إنما هو من العناد في الكفر مع اعتقاد عظمته وتفخيمه.
(و) معنى (المشذّب) - بميم مضمومة فشين معجمة؛ فذال معجمة مشدّدة مفتوحتين فباء موحدة، على صيغة اسم المفعول؛ من التشذيب-: (الظّاهر الطّول مع نحافة) ؛ أي: نقص في اللحم.
(و) معنى (رجل) - بكسر الجيم؛ أفصح من فتحها وسكونها-: (الشّعر) بفتح العين وسكونها- (مسترسله) .
(و) معنى (العقيقة) - بقافين على المشهور-: (شعر الرّأس) سمّي «عقيقة» !! تشبيها بشعر المولود قبل أن يحلق، فإذا حلق ونبت ثانيا زال عنه اسم العقيقة، وربما سمّي الشعر «عقيقة» بعد الحلق؛ على الاستعارة، ومنه هذا الحديث.
(و) معنى (وفره: جعله وفرة) ؛ أي: مجموعا. (وهي) أي: الوفرة:
(الشّعر النّازل عن شحمة الأذن؛ إذا لم يصل إلى المنكبين) - على ما سبق-.
(و) معنى (أزهر) اللون: (مشرق اللّون؛ نيّره) في كلّ أجزاء بدنه.
(و) معنى (أزجّ الحواجب: مقوّسها مع طول) في طرفه- على ما في «القاموس» -. وفي «الصحاح» : دقّة الحاجبين بالطول. وفي «الأساس» :
الدقّة والاستقواس. ويمكن الجمع.(1/234)
و (السّوابغ) : الكاملات. و (أقنى العرنين) : طويل الأنف مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع.
و (الأشمّ) : مرتفع قصبة الأنف. و (الأشنب) : أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها.
و (المفلّج) : منفرج الثّنايا.
و (الدّمية) : صورة من رخام ونحوه. و (البادن) : السّمين سمنا معتدلا.
(و) معنى (السّوابغ) - بالسين والصاد؛ والسين أعلى، جمع سابغة-:
(الكاملات) ؛ أي: غزيرات الشعر، حتّى أنّ من لم يتأمّلها يظنّه أقرن، وفي نفس الأمر لا قرن. (و) معنى (أقنى) - بقاف فنون مخفّفة مفتوحة- (العرنين) بكسر المهملة وسكون الراء وكسر النون الأولى-: (طويل الأنف مع دقّة أرنبته؛ في وسطه بعض ارتفاع) ، فالعرنين: الأنف، وأوّله حيث يكون الشم، وجمعه:
عرانين. والقنا: طول الأنف ودقّة أرنبته وحدب في وسطه.
(و) معنى (الأشمّ: مرتفع قصبة الأنف) مع استواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا. (و) معنى (الأشنب) - بشين معجمة فنون فموحدة-: (أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها) .
(و) معنى (المفلّج) - بصيغة اسم المفعول-: (منفرج الثّنايا) ؛ جمع:
ثنيّة، أي: بين ثناياه فرجة لطيفة. والثّنايا: هي الأسنان الأربع التي في مقدّم الفم؛ ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. والرّباعيات: أربع أسنان بجانب الثنايا.
وسيأتي أنّه كان أفلج الثنيّتين.
(و) معنى (الدّمية) - بضم الدال المهملة وإسكان الميم وتحتية مفتوحة-:
(صورة) منقوشة (من رخام ونحوه) كالعاج، وكانوا يبالغون في تحسين عنقها.
(و) معنى (البادن) - بالدال المهملة-: (السّمين سمنا معتدلا) بلا إفراط.(1/235)
و (المتجرّد) : العضو العاري عن الشّعر. و (اللّبّة) : النّقرة الّتي فوق الصّدر. و (الرّحب) : الواسع. و (سائل الأطراف) :
طويلها طولا معتدلا. و (خمصان الأخمصين) : متجافيهما عن الأرض. و (الأخمص) : الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء من وسط القدم.
(و) معنى (المتجرّد) - بجيم وراء مشددة مفتوحتين-: (العضو العاري عن الشّعر) ؛ أو الثوب.
(و) معنى (اللبّة) - بفتح اللام وتشديد الباء الموحدة المفتوحة-: (النّقرة الّتي فوق الصّدر) ، أي: المنحر، وهي المتطامن الذي فوق الصدر وأسفل الحلق من الترقوتين، وفيه تنحر الإبل.
(و) معنى (الرّحب) - بفتح الراء وإسكان الحاء-: (الواسع)
(و) معنى (سائل الأطراف) - بالسين المهملة وبهمز مكسور بعد ألف؛ وفي آخره لام-: (طويلها طولا معتدلا) بين الإفراط والتفريط.
(و) معنى (خمصان) ؛ بضمّ المعجمة وفتحها مع سكون الميم فيها (الأخمصين) - بفتح الميم بصيغة التثنية-: (متجافيهما عن الأرض) ، ليس بالأرحّ الذي يمسّها أخمصاه. والأرحّ: بالراء والحاء المهملة المشددة.
(و) معنى (الأخمص) بزنة «الأحمر» - كما قال الزرقاني، وابن الأثير-:
(الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء) ؛ أي: المشي (من وسط القدم) ؛ وهو ما رقّ من أسفلها؛ مأخوذ من الخمص- بفتحتين-؛ وهو: ارتفاع وسط القدم عن الأرض، يقال منه: خمص القدم خمصا؛ من باب «تعب» ، فالرّجل أخمص، والمرأة خمصاء، والجمع خمص؛ مثل أحمر وحمراء وحمر، لأنّه صفة، وسمّي أخمصا!! لضموره، والخمصان: المبالغة فيه، أي: أنّ ذلك المحلّ من بطن قدميه شديد التجافي عن الأرض- على ما سبق ما فيه-.(1/236)
و (المسيح) : الأملس. و (ينبو) : يتباعد.
و (إذا زال.. زال قلعا) : إذا مشى.. رفع رجليه بقوّة.
و (ذريع المشية) : واسع الخطو خلقة لا تكلّفا.
و (الملاحظة) : النّظر باللّحاظ؛ وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ. و (يسوق أصحابه) : يقدّمهم بين يديه.
و (يبدر) : يبتدىء.
(و) معنى (المسيح) - بميم مفتوحة فسين مهملة مكسورة، فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة آخره-: (الأملس) .
(و) معنى (ينبو) - على وزن يدعو-: (يتباعد) ، ويتجافى.
(و) معنى (إذا زال زال قلعا) - بفتح القاف وسكون اللام-: أنه (إذا مشى رفع رجليه) رفعا (بقوّة) ؛ لا كمشي المختال.
(و) معنى (ذريع) - بوزن سريع- (المشية) - بكسر الميم-: (واسع الخطو خلقة؛ لا تكلّفا) ؛ أي: مع كون مشيه بسكينة كان يمدّ خطوه حتّى كأن الأرض تطوى له.
(و) معنى (الملاحظة) : مفاعلة من اللّحظ؛ وهو: (النّظر باللّحاظ) بفتح اللام-: (وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ) ، يقال: لحظه ولحظ إليه؛ أي: نظر إليه بمؤخّر العين، وأما الذي يلي الأنف!! فالموق والماق، واللّحاظ بالكسر مصدر-: لاحظته إذا راعيته. والصّدغ: ما بين العين والأذن.
(و) معنى (يسوق أصحابه: يقدّمهم بين يديه) ويمشي خلفهم كأنه يسوقهم.
(و) معنى (يبدر) ؛ كينصر: (يبتدىء) ويسبق. قال في «الصحاح» :
بدر إلى الشيء: أسرع، وتبادر القوم: تسارعوا. وفي «المصباح» : بدرت منه بادرة: سبقه غضبه. انتهى.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ، والدارمي في «مسنده» ، و «البيهقي» ؛ كلهم عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:(1/237)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفلج الثّنيّتين، إذا تكلّم ريء كالنّور يخرج من بين ثناياه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن البشر قدما.
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفلج الثّنيّتين) تثنية: ثنيّة- بتشديد الياء-، والأفلج من الفلج؛ أي: بعيد ما بين الثنايا والرباعيات. قال الطيبي: الفلج هنا: الفرق، بقرينة إضافته إلى الثنايا، فاستعمل الفلج مكان الفرق، إذ الفلج: فرجة بين الثنايا والرباعيات، والفرق: فرجة بين الثنايا. انتهى.
لكن ظاهر كلام «الصحاح» : أنّ الفلج مشترك بينهما! وعليه فلا حاجة إلى ما قاله الطيبي.
وفي الفم أربع ثنايا، وهي الأسنان التي في مقدّم الفم؛ ثنتان من أعلى، وثنتان من أسفل، فمراده بالثنيتين الجنس، وإلّا! فهي أربع- كما علمت-.
والرباعيات: أربع أسنان بجانب الثنايا. يعني: أنّ بين ثنيّتيه فرجة لطيفة.
وذلك يدلّ على الفصاحة والقدرة على الكلام، وتعدّه العرب جمالا.
(إذا) هي ومدخولها (تكلّم) خبر ثان ل «كان» (ريء) - بكسر الراء- بزنة قيل؛ على الأفصح، ويقال: بضمّ الراء وكسر الهمزة- وبني للمجهول!! إشارة إلى أن الرؤية لا تختصّ بأحد؛ دون أحد، ولذا لم يقل إذا تكلّم يخرج (كالنّور) ؛ أي: شعاع مثله، فالكاف بمعنى «مثل» ، فلا حاجة لتقدير شيء.
(يخرج من بين ثناياه) ، إمّا من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم وطريقه من بينها؛ معجزة له، وهو نور حسّيّ. ووهم من قال: معنوي. والمراد ألفاظه بالقرآن أو السنة، لأنه خلاف الظاهر المتبادر من قوله «ريىء» .
(و) روى ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عبد الله بن بريدة مرسلا- كما في «المواهب» و «الجامع الصغير» -؛ قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أحسن البشر قدما) - بفتحتين-؛ وهي: من الإنسان معروفة، وهي أنثى، وتصغيرها قديمة، والجمع أقدام.(1/238)
وعن ميمونة بنت كردم؛ قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة على سائر أصابعه. رواه الإمام أحمد ...
(و) في «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» : (عن ميمونة بنت كردم) - بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة بزنة «جعفر» - الثقفية، صحابيّة صغيرة لها حديث، ابنة صحابي رضي الله تعالى عنهما، حديثها عند أهل الطائف؛ لا عند أهل البصرة؛ كما ادّعى ابن عبد البر. نبّه عليه في «الإصابة» . إلّا أن يجاب بأن مراده يزيد بن هارون روايه عن أهل الطائف، لأنه بصري واسطي، وأصحاب الحديث يقولون: لم يرو هذا غير أهل البصرة ويريدون واحدا من أهلها؛ كما في «الألفية» .
(قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة) ؛ بدل من «إصبع» ؛ أي: ما نسيت طول كلّ أصبع من أصبعي قدميه السبابتين (على سائر) أي: باقي- (أصابعه.
رواه) إمام السّنّة (الإمام) البارع المجمع على جلالته وإمامته، وورعه وزهادته وحفظه، ووفور علمه وسيادته: أبو عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان- بالمثناة- ابن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب- بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة- ابن أفصى- بالفاء والصاد المهملة- ابن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ الشيباني؛ المروزي، ثم البغدادي.
خرج من «مرو» حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها إلى أن توفي.
ودخل مكة والمدينة، والشام واليمن، والكوفة والبصرة والجزيرة، وسمع من خلق كثير؛ منهم: يحيى القطان، وابن عيينة، وابن مهدي، وعبد الرزاق.
وروى عنه شيخه عبد الرزاق، وعلي ابن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وخلائق.(1/239)
وغيره.
وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة: - 164- أربع وستين ومائة، وتوفي ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة: - 241- إحدى وأربعين ومائتين هجرية، وعمره سبع وسبعون سنة تقريبا.
ودفن ببغداد، وقبره مشهور معروف يتبرّك به. وأحواله ومناقبه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف. رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه وأنواره وأسراره.
آمين.
(وغيره) ؛ أي: غير أحمد؛ كالطبراني في حديث طويل.
قال في «المواهب» : وقد اشتهر على الألسنة أن سبّابة النبي صلّى الله عليه وسلم كانت أطول من الوسطى. قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط ممّن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه! وقال شيخنا الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» : حديث سبابة النبي صلّى الله عليه وسلم وأنها كانت أطول من الوسطى!! اشتهر هذا على الألسنة كثيرا، وسلف جمهورهم الكمال الدميري، وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. انتهى ملخصا.
هذا؛ وقد اشتهر في المدائح قديما وحديثا أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه وأثرت. وأنكره السيوطي، وقال: لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت من خرّجه في شيء من كتب الحديث!! وكذا أنكره غيره، لكن صاحب «المواهب» ذكر في «الخصائص» في بعض نسخه تقويته بما حاصله: أنّه ما خصّ نبي بمعجزة أو كرامة إلّا ولنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم مثلها، وأثر قدمي إبراهيم بالمقام بمكّة متواتر، وفيه يقول أبو طالب:
وموطىء إبراهيم في الصّخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وفي البخاري حديث تأثير ضرب موسى في الحجر ستا أو سبعا، إذ فرّ بثوبه حين اغتسل. انتهى. إلّا أن مثل هذا لا يدفع إنكار وروده. والمثليّة التي لنبينا إمّا من جنسها؛ أو بغيرها أعلى أو مساو! كما نصّوا عليه.(1/240)
وكان صلّى الله عليه وسلّم في ساقيه حموشة.
ومعنى (الحموشة) : الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر، وينحدر من صبب، يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير تبختر. ومعنى (الهوينا) : تقارب الخطا.
انتهى؛ ذكره الزرقاني في «شرح المواهب» .
(و) روى الترمذي، والحاكم؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم في ساقيه) - روي بالإفراد والتثنية- (حموشة. ومعنى الحموشة) - بفتح الحاء المهملة وشين معجمة-: (الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين) . قال القاضي: حموشة الساق: دقّتها، يقال: حمشت قوائم الدابة إذا دقّت. هكذا ضبطه بعضهم. وقال بعضهم: خموشة- بضم الخاء المعجمة-:
دقّتها، وبكسره ليفيد التقليل. والمراد نفي غلظها، وذلك مما يتمدّح به. وقد أكثر أهل القيافة من مدح الحموشة وفوائدها. انتهى «مناوي» .
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر وينحدر من صبب) - محرّكة؛ أي: محلّ منحدر- (يخطو تكفّيا) - بالفاء والهمزة وبالياء تخفيف، والأصل الهمز- أي: مائلا إلى سنن المشي، أي: إلى قدّام، (ويمشي الهوينا بغير تبختر) ؛ أي: تكبّر واختيال.
(ومعنى الهوينا: تقارب الخطا) ، والمشي على الهينة؛ قاله السيّد مرتضى.
وقال: رواه البيهقي بلفظ «وإذا مشى فكأنّما يتقلّع في صخر وينحدر من صبب؛ يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير عثر» .
وروى الترمذي في «الشمائل» ، والطبرانيّ، والبيهقي؛ من حديث هند بن أبي هالة: وإذا زال زال تقلّعا، ويخطو تكفّيا، ويمشي هونا، ذريع المشية؛ إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب ... الحديث.
وروى مسلم؛ من حديث أنس: إذا مشى تكفّأ.(1/241)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. مشى أصحابه أمامه، وتركوا ظهره للملائكة.
وروى البيهقي؛ من حديث أبي هريرة: ما رأيت أحدا أسرع في مشيه منه، كأنّ الأرض تطوى له، إنّا لنجتهد؛ وإنه غير مكترث. وفي لفظ آخر له: يطأ بقدمه جميعا؛ إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
ومن حديث علي: إذا مشى تكفّأ تكفّؤا كأنّما ينحطّ من صبب ... الحديث.
وفي لفظ آخر له: وكان يتكفّأ في مشيته كأنما يمشي من صبب.
وفي لفظ آخر: إذا مشى تكفّأ كأنما يمشي من صعد.
وفي لفظ آخر: وكان إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صبب.
وفي لفظ آخر: إذا مشى يمشي قلعا كأنما ينحدر من صبب.
وفي لفظ آخر له: إذا مشى كأنما يتقلّع من صخر.
ومن حديث أنس: وكان يتوكّأ إذا مشى. انتهى. ولله درّ البوصيري رحمه الله تعالى حيث يقول:
سيّد ضحكه التّبسّم والمش ... ي الهوينا ونومه الإغفاء
(و) في «المواهب» : روي أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي) . انتهى.
(و) روى ابن ماجه، والحاكم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه) ، لأنّ المشي خلف الشخص صفة المتكبّرين، وكان سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلم لا متكبّرا ولا متجبّرا.
(وتركوا ظهره للملائكة) يحرسونه من أعدائه، ولا يعارضه قوله تعالى (وَاللَّهُ(1/242)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. لم يلتفت.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يلتفت وراءه إذا مشى، وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت حتّى يرفعوه عليه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. كأنّما يتوكّأ.
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [67/ المائدة] !! لأن هذا إن كان قبل نزول الآية؛ فظاهر. وإلّا! فمن عصمة الله تعالى له أن يوكّل به جنده من الملأ الأعلى؛ إظهارا لشرفه بينهم.
قاله المناوي.
(و) روى الحاكم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا مشى لم يلتفت) ، لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقّف، ومن يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة. أو لئلا يشغل قلبه بمن خلفه، ولكون أصحابه أمامه فهو يراعيهم ويلاحظهم ويعلّمهم. وهذا لا ينافي ما تقدّم؛ من أنّه كان إذا التفت التفت جميعا!! لإمكان حمل ما تقدّم على غير حالة المشي، أو ما هنا على الغالب. انتهى «عزيزي» .
(و) روى ابن سعد في «طبقاته» ، والترمذي الحكيم في «نوادره» ، وابن عساكر في «تاريخه» كلهم؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يلتفت وراءه إذا مشى) ، وذلك لشدّة استغراقه صلّى الله عليه وسلم في جلال مولاه، وكذا خلفاؤه لا يلتفتون لشيء من الدنيا لإعراضهم عنها؛ قاله الحفني.
(وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت) لتخليصه (حتّى يرفعوه عليه) ، قال المناوي: زاد الطبراني: لأنّهم كانوا يمزحون ويضحكون؛ وكانوا قد أمنوا التفاته صلّى الله عليه وسلم.
(و) روى أبو داود، والحاكم؛ عن أنس رضي الله عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا مشى كأنّما يتوكّأ) ؛ أي: لا يتكلّم كأنّه أو كأفاه فلم ينطق، ومنه خبر ابن الزبير: كان يوكىء بين الصفا والمروة سعيا. والمراد سعى سعيا شديدا؛ قاله المناوي.(1/243)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يمشي مشيا يعرف فيه أنّه ليس بعاجز ولا كسلان. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطأ عقبه رجلان قطّ، إن كانوا ثلاثة.. مشى بينهم، وإن كانوا جماعة.. قدّم بعضهم.
زاد بعضهم؛ عن العلقمي: والإيكاء في كلام العرب يكون بمعنى السعي الشديد. واستدلّ عليه الأزهريّ بحديث الزبير، ثم قال: وإنّما قيل للذي يشتدّ عدوه «موك» !! لأنه قد ملأ ما بين جري رجليه؛ وأوكىء عليه. انتهى.
وفي الحفني على «الجامع الصغير» : قوله يتوكّأ؛ أي: كان يمشي بشدّة بحيث يرى كأنّه يتوكّأ على عكازة؛ ولم يتوكّأ، فإنّ الذي يتوكّأ يمشي بقوّة؛ كذا قاله. والله أعلم.
(و) روى ابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يمشي مشيا يعرف فيه) - أي: به- (أنّه ليس بعاجز ولا كسلان) ، بل كانت أصحابه تجهد في المشي معه فلا تدركه؛ كأنما الأرض تطوى له، معجزة له.
ومع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأنّي وعدم العجلة، فكان يمشي على هينته ويقطع ما يقطع بالجهد بغير جهد. ولهذا قال أبو هريرة: إنّا كنّا لنجهد أنفسنا؛ وإنّه لغير مكترث.
(و) ذكر الإمام العارف بالله عبد الوهّاب الشعراني في «كشف الغمة» قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يطأ عقبه) ؛ أي: لا يمشي خلفه (رجلان قطّ) ؛ ولا أكثر من رجلين كما تفعل الملوك يتبعهم الناس كالخدم، أي: لا يكون له من يمشي خلفه من الأتباع كالسلطان، فيكون موطىء العقب، لأنّ من كان ذا مال؛ أو سلطان اتبعه الناس ومشوا خلفه، وهو صلّى الله عليه وسلم يكره أن يمشي أمام القوم، بل (إن كانوا ثلاثة مشى بينهم، وإن كانوا جماعة قدّم بعضهم) ، وكانت أصحابه لا تمشي خلفه، بل يمينه وشماله وأمامه؛ يفعل ذلك تواضعا لله تعالى واستكانة، وليطّلع على حركات أصحابه وسكناتهم؛ فيعلّمهم آداب الشريعة، ولتخلى ظهره(1/244)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس نعليه.. بدأ باليمنى، وإذا خلع.. خلع اليسرى. وكان إذا دخل المسجد.. أدخل رجله اليمنى.
وكان يحبّ التّيمّن في كلّ شيء أخذا وعطاء.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ...
للملائكة، ويوافق هذا الخبر قوله في الخبر المار: «كان يسوق أصحابه قدّامه» .
(و) روى أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا لبس نعليه بدأ باليمنى) - أي: بإنعال الرجل اليمنى-، (وإذا خلع خلع اليسرى) - أي: بدأ بخلعها لتمكث اليمين لابسة بعدها زمنا، إذ اللّبس تكريم؛ فاليمين أولى به-.
(وكان إذا دخل المسجد أدخل رجله اليمنى، وكان يحبّ التّيمّن) - أي:
الابتداء باليمين- (في كلّ شيء) من باب التكريم؛ (أخذا وعطاء) .
قال النّووي: قاعدة الشرع المستمرّة: استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التكريم، وما كان بضدّه فاستحبّ فيه التياسر. ويدلّ لذلك ما رواه أبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليمين لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» . انتهى.
فإذا أراد أن يدهن أو يمشط أحبّ أن يبدأ بالجهة اليمنى من الرأس؛ أو اللحية، وإذا أراد لبس النعل!! أحبّ أن يبدأ بالرجل اليمنى، فكان يحبّ التيمّن في طهوره وترجّله وتنعّله، وفي شأنه كلّه. وإنّما أحبّه!! لأنّه كان يحبّ الفأل الحسن، ولأن أصحاب اليمين أهل الجنة. انتهى «باجوري» .
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) ؛ واسمه عبد الرحمن بن صخر- على الأصحّ؛ من نحو ثلاثين قولا- وهو دوسي من الأزد.
وكنّي «أبا هريرة» ! لهرّة صغيرة كان يحملها ويحسن إليها.(1/245)
قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّ الشّمس تجري في ...
وكان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له.
نشأ يتيما ضعيفا في الجاهلية، وقدم المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر؛ فأسلم سنة سبع- بتقديم السين على الموحدة-، ولزم صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان يدور مع النبي صلّى الله عليه وسلم حيث دار.
وروى عنه خمسة آلاف حديث وثلثمائة وأربعة وسبعين حديثا؛ اتفق الشيخان منها على ثلثمائة وخمسة وعشرين حديثا، وانفرد البخاري بثلاثة وعشرين، وانفرد مسلم بمائة وتسعة وثمانين حديثا.
روى عنه من الصحابة والتابعين أكثر من ثمانمائة رجل؛ منهم ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وآخرون. قال ابن تيميّة:
صحب النبي صلّى الله عليه وسلم أقل من أربع سنين، فأخباره كلّها متأخّرة. انتهى.
وولي إمرة المدينة مدّة، ولما صارت الخلافة إلى عمر استعمله على البحرين، ثم رآه ليّن العريكة مشغولا بالعبادة؛ فعزله. وأراده بعد زمن على العمل؛ فأبى.
وكان أكثر مقامه بالمدينة المنورة، وتوفّي بها. وكان متصدّرا للفتيا.
وقد جمع شيخ الإسلام تقي الدين السبكي جزءا سماه «فتاوى أبي هريرة» رضي الله تعالى عنه. ولعبد الحسين شرف الدين كتاب في سيرته؛ وقد طبع.
وكانت وفاته سنة: - 59- تسع وخمسين- بتقديم المثناة على السين المهملة- رضي الله عنه ونفعنا بعلومه. آمين.
(قال: ما رأيت) ؛ أي: علمت. ويصحّ كونه بمعنى: أبصرت، والأول أبلغ (شيئا) - تنوينه للتنكير- (أحسن) - صفة «شيئا» على كون الرؤية «بصرية» ، ومفعول ثان على كونها «علمية» - (من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، والمراد منه: نفي كون شيء أحسن منه صلّى الله عليه وسلم، والمعنى أنّه أحسن مما عداه.
(كأنّ) - بتشديد النون- (الشّمس) ؛ أي: شعاعها (تجري في(1/246)
وجهه، ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّما الأرض تطوى له، إنّا لنجهد أنفسنا، وإنّه لغير مكترث.
وجهه) ؛ أي: لأن لمعان وجهه وضوءه يشبه لمعان الشمس وضوءها، فيكون قد شبّه لمعان وجهه الشريف وضوءه بلمعانها وضوئها، وهذا مما فيه المشبّه أبلغ من المشبّه به؛ كما في قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [35/ النور] .
وقصد الراوي بذلك إقامة البرهان على أحسنيّته، وخصّ الوجه! لأنه هو الذي تظهر فيه المحاسن، ولكون حسن البدن تابعا لحسنه غالبا.
(ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته) - بكسر فسكون للهيئة، وفي نسخة [مشيا] «1» بلفظ المصدر؛ وهو بفتح الميم بلا تاء، أي: في كيفية مشيه- (من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ كأنّما الأرض) - بالرفع- (تطوى له) ؛ أي: تجمع وتجعل مطويّة تحت قدميه.
ومرّ أنّه مع سرعة مشيه كان على غاية من الهون والتأنّي وعدم العجلة.
وأفاد بقوله «له» أنها لا تطوى لمن يماشيه؛ كما أوضحه بقوله:
(إنّا) - بكسر الهمزة؛ استئناف مبين- (لنجهد) - قال الجزري: بضمّ النون وكسر الهاء، ويجوز فتحهما؛ أي: إنا لنتعب (أنفسنا) ونوقعها في المشقّة في سيرنا معه صلّى الله عليه وسلم، والمصطفى كان لا يقصد إجهادهم، وإنّما كان طبعه ذلك، كما يدلّ عليه قوله (وإنّه لغير مكترث) ؛ أي: والحال أنّه صلّى الله عليه وسلم لغير مبال بحيث لا يجهد نفسه، بل يمشي على هينته؛ فيقطع من غير جهد ما لا نقطع بالجهد.
ومعنى الخبر: أنّه إذا مشى بالعادة ما قدرنا أن نلحقه مسرعين في المشي، ولو كنا مجتهدين في ذلك. واستعمال «مكترث» في النفي هو الأغلب، وفي الإثبات قليل شاذّ.
__________
(1) أضيفت للإيضاح.(1/247)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر.. لا يظهر له ظلّ.
وكان وجهه صلّى الله عليه وسلّم مثل الشّمس والقمر، وكان مستديرا.
(و) في «المواهب» : قال ابن سبع: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر لا يظهر له ظلّ) ، لأن النور لا ظلّ له.
قال غير ابن سبع: ويشهد له قوله صلّى الله عليه وسلم في دعائه «واجعلني نورا» ؛ أي:
والنور لا ظلّ له. وقد روى الترمذي الحكيم؛ عن ذكوان أبي صالح السّمان مرسلا. أنّه لم يكن له صلّى الله عليه وسلم ظلّ في شمس ولا قمر. انتهى؛ أي: لأنّه كان نورا، كما قال ابن سبع.
وقال رزين: لغلبة أنواره. قيل: وحكمة ذلك صيانته عن أن يطأ كافر على ظلّه. وإطلاق الظلّ على القمر مجاز، لأنّه إنما يقال له «ظلمة القمر ونوره» .
وفي «المختار» : ظلّ الليل: سواده، وهو استعارة، لأنّ الظل حقيقة ضوء شعاع الشمس؛ دون السواد، فإذا لم يكن ضوء؛ فهو ظلمة لا ظلّ. انتهى من «شرح المواهب» مع المتن.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال له رجل: (كان وجهه صلّى الله عليه وسلم) مثل السيف! فقال جابر: بل (مثل الشّمس) في مزيد الإشراق والإضاءة؛ لكنّه ليس مثلها في كونه لا يستطاع النظر إليه، ولذا قال:
(والقمر) في الحسن والملاحة وقوّة النظر إليه، ولمّا كان قد يتوهّم عدم استدارته؛ قال: (وكان) ؛ أي: وجهه (مستديرا) ، وفيه ردّ على من قال: كان وجهه مثل السيف. فأراد أن يزيل ما توهّمه القائل من معنى الطول الذي في السيف إلى معنى الاستدارة التي في القمر. وصرّح بهذا؛ وإن علم بالتشبيه بالقمر!! لمزيد الردّ وللتأكيد، ولئلا يتوهّم أنّ التشبيه من حيث الإشراق والنور؛ لا من جهة الاستدارة أيضا.(1/248)
وعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: ما رأيت من ذي لمّة في حلّة حمراء.. أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ورواية البخاري و «الشمائل» بلفظ: كان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل السيف.
قال: لا؛ بل مثل القمر.
(و) روى الشيخان: البخاريّ ومسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛
(عن البراء) - بفتح الموحدة وتخفيف الراء والمدّ؛ على وزن سحاب، وحكي فيه القصر- كنيته: أبو عمارة.
ولد عام ولادة ابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وأوّل مشهد شهده الخندق، وهو من المشاهير، نزل الكوفة وافتتح الري.
ومات بالكوفة أيّام مصعب بن الزبير سنة: اثنتين وسبعين هجرية.
(ابن عازب) - بمهملة وزاي مكسورة؛ على وزن فاعل- وهو أنصاريّ أوسي، وكلّ من البراء وأبيه صحابيّ (رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
ما رأيت) - أي: أبصرت- (من ذي لمّة) ؛ أي: صاحب لمّة- بكسر اللّام وتشديد الميم والجمع لمم-، سمّيت «لمّة» لأنّها تلمّ بالمنكبين، إذ هي الشعر المتجاوز شحمة الأذن مع الوصول إلى المنكب، لأنّها تطلق 1- على الواصل إليها؛ وهو المسمّى ب «الجمّة» ، و 2- على غيره وهو المسمّى ب «الوفرة» .
وهذا على القول الأول في تفسير اللّمّة.
وأما على القول الثاني! فالظاهر أنّه محمول على حالة تقصير الشعر- كما سبق- أي: ما رأيت صاحب لمّة حال كونه (في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ ولا مثله، فهو أحسن صورة. و «من» زائدة لتأكيد العموم.
والحلّة: ثوبان، أو ثوب له ظهارة وبطانة؛ كما في «القاموس» .
ولا يشترط أن يكون الثوبان من جنس، خلافا لمن اشترط ذلك.
سمّيت «حلّة» !! لحلول بعضها على بعض، أو لحلولها على الجسم؛ كما في «المشارق» .(1/249)
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّ الشّمس تجري في وجهه، وإذا ضحك.. يتلألأ في الجدر.
وقالت أمّ معبد ...
وهذا الحديث احتجّ به إمامنا لحلّ لبس الأحمر؛ ولو قانيا- أي- شديد الحمرة، غير أنه قد يخصّ بلبسه أهل الفسق؛ فحينئذ يحرم لبسه، لأنه تشبّه بهم، ومن تشبّه بقوم فهو منهم؛ كما في «الذحيرة» .
وأخطأ من كره لبسه مطلقا. منع لبسه ابن القيّم في «الهدي النبوي» ، وأجاز لبسه القاضي محمد بن علي الشوكاني في «نيل الأوطار» رحمهم الله تعالى. آمين.
(و) في «الشفاء» وشرحه للشيخ ملّا علي قاري الحنفي رحمه الله تعالى:
(قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) والمساواة منفيّة أيضا بالمشاهدة العرفية- (كأنّ الشّمس تجري في وجهه) ؛ أي:
يتوهّج كتوهّج الشمس لحسنه وصفائه وبهاء ضيائه، (وإذا ضحك يتلالأ) بهمزتين؛ أي: تلمع ثناياه كاللآلي (في الجدر) - بضمتين-: جمع الجدار؛ وهو حائط الدار، وأما الجدر- بفتح فسكون- فهو الحاجز الذي يحبس الماء، كما في حديث: «اسق يا زبير حتّى يبلغ الجدر» ، وليس مفردا بمعنى الجدار كما توهّم. أي: أن نور وجهه الشريف يشرق إشراقا يصل إلى الجدران المقابلة له، كما يكون ذلك من الشمس والقمر. وقيل: إنّه من نور يخرج من بين ثناياه وفمه؛ إذا افترّ وتبسّم. ففي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: يكاد يتلألأ في الجدر.
فتفاوته بحسب الأوقات، وبحسب خفّة ضحكه وشدّته. أو ما هنا محمول على المبالغة على تقدير «تكاد» . انتهى الشهاب الخفاجي؛ على «الشفاء» .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي.
(وقالت أمّ معبد) - بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح الموحدة ومهملة-(1/250)
في بعض ما وصفته به رضي الله تعالى عنها: أجمل النّاس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب.
الخزاعيّة: التي كانت نازلة بخباء في طريق المدينة المنورة، وقد نزل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم في هجرته لمّا خرج من غار ثور (في بعض ما) أي: كلام (وصفته به) في حديثها الطويل، الذي رواه البغوي، وابن شاهين، وابن السّكن، والطبرانيّ، وابن منده، والبيهقيّ وغيرهم؛ من طريق حرام بن هشام بن حبيش؛ عن أبيه؛ عن جدّه: حبيش بن خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة بن حرام الخزاعي؛ ويقال له حبيش الأشعري؛ وهو لقب والده خالد، وحبيش: أخو أمّ معبد؛ واسمها:
عاتكة بنت خالد، لها صحبة (رضي الله تعالى عنها) ، ولأخيها حبيش صحبة أيضا رضي الله عنه. وأورده ابن السّكن؛ من حديث أم معبد نفسها. فقال حرام بن هشام بن حبيش بن خالد: سمعت أبي يحدّث عن أمّ معبد- وهي عمّته- ... فساق القصّة. وقصّتها معه مشهورة مرويّة من طرق عديدة تعضدها وتصحّحها، وكان زوجها أبو معبد غائبا وهو صحابيّ قديم الوفاة رضي الله تعالى عنه، فلما أتاها أخبرته به، فاستوصفها إيّاه؛ فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه محلة، ولم تزر به صعلة، وسيم، قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، أقرن، إن صمت؛ فعليه الوقار، وإن تكلّم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب ... إلى آخر ما قالته في نعته من كلام بليغ؛ مشروح في السّير. فقوله: «في بعض ما وصفته به» ؛ أي في بعض كلام وصفته به. وأقحم لفظ «بعض» ! إشارة إلى أنّه كلام طويل مشتمل على وصفه وغيره؛ من قصّة الشاة وغيرها، واقتصر هنا على قوله: (أجمل النّاس) ؛ أي أتمّهم جمالا وحسنا صوريا (من بعيد، وأحلاه) ؛ أي: أحلى الناس.
وأفرد لأنّه اسم جنس فروعي لفظه دون معناه. وكذا قوله (وأحسنه) .
وفي بعض النسخ: «وأحلاهم وأحسنهم» (من قريب) ، أي: تبين حلاوة ملاحته، وطراوة فصاحته.(1/251)
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة إضحيان؛ وعليه حلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي ...
(و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن سمرة) بن جنادة بن جندب بن حجير بن رباب بن حبيب بن سواء- بالمدّ وضمّ السين- ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان- بالعين المهملة- ابن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان السّوائي، وهو وأبوه صحابيّان (رضي الله تعالى عنهما) .
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة حديث وستّة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثا، روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم عبد الملك بن عمير، وعامر بن سعد، والشعبيّ؛ توفي سنة:
ست وستين. روينا في «صحيح مسلم» ؛ عن جابر بن سمرة قال: والله؛ لقد صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر من ألفي صلاة. انتهى.
(قال) ؛ أي: جابر: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ليلة) - بالتنوين- (إضحيان) - بكسر الهمزة وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة وتخفيف التحتية، وفي آخره نون منونة- أي: ليلة مقمرة من أوّلها إلى آخرها.
قال في «الفائق» : يقال «ليلة إضحيان» ، و «إضحيانة» ، و «ضحيا» ، وهي المقمرة من أوّلها إلى آخرها. قال: وإفعلان في كلامهم قليل جدّا. انتهى.
والقياس: إضحانة، وكأنه لتأويل الليلة بالليل!!.
(وعليه حلّة حمراء) ؛ أي: والحال أن عليه حلّة حمراء، فالجملة حاليّة، والقصد بها بيان ما أوجب التأمّل وإمعان النظر فيه من ظهور مزيد حسنه صلّى الله عليه وسلم حينئذ، (فجعلت) ؛ أي: فصرت (أنظر إليه) ؛ أي: إلى وجهه تارة (و) أنظر (إلى القمر) تارة أخرى، (فلهو عندي) ؛ أي: فو الله لوجهه عليه الصلاة والسلام(1/252)
أحسن من القمر. ومعنى (إضحيان) : مقمرة.
وسأل رجل البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل السّيف؟ قال: لا، بل مثل القمر.
عندي (أحسن من القمر) ؛ فهو جواب قسم مقدّر، والتقييد بالعندية!! لافتخاره باعتقاده هذه القضية؛ لا لتخصيصه، فإنّ ذلك عند كلّ أحد رآه كذلك.
وإنّما كان صلّى الله عليه وسلم أحسن!! لأن ضوءه يغلب على ضوء القمر، بل وعلى ضوء الشمس، ففي رواية لابن المبارك وابن الجوزي: لم يكن له ظلّ، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه على ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلّا غلب ضوؤه على ضوء السراج.
(ومعنى) قوله (إضحيان) - بكسر الهمزة وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة وتخفيف التحتية وفي آخره نون منونة-: (مقمرة) من أوّلها إلى آخرها؛ كما قاله الزمخشري.
(و) روى البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له- عن أبي إسحاق السبيعي قال: (سأل رجل البراء بن عازب) هو وأبوه صحابيان (رضي الله تعالى عنهما) - وتقدّمت ترجمته قريبا-:
(أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل السّيف؟!) أي: في الاستنارة والاستطالة، فالسؤال عنهما معا. (قال: لا) أي: ليس مثل السيف في الاستنارة والاستطالة، (بل مثل القمر) المستدير الذي هو أنور من السيف، لكنه لم يكن مستديرا جدّا بل كان بين الاستدارة والاستطالة، وكونه صلّى الله عليه وسلم أحسن من القمر لا ينافي صحّة تشبيهه به في ذلك، لأن جهات الحسن لا تنحصر، على أن التشبيه بالقمر، أو بالشمس؛ أو بهما إنما هو على سبيل التقريب والتمثيل، وإلّا! فلا شيء يعادل شيئا من أوصافه صلّى الله عليه وسلم، إذ هي أعلى وأجلّ من كلّ مخلوق، وكما أنّ وجهه أبهى من الشمس والقمر؛ فنور قلبه أعظم ضياء منهما، فلو كشف الحقّ عن مشارق أنوار قلبه لانطوى نور الشمس والقمر في مشرقات أنوارها، وأين نور القمرين من نوره!! فالشمس يطرأ عليها الكسوف والغروب، وأنوار قلوب الأنبياء لا كسوف لها(1/253)
وكان لونه صلّى الله عليه وسلّم أزهر، ولم يكن بالأسمر، ولا بالشّديد البياض.
ولا غروب. ونور الشمس تشهد به الآثار، ونور القلب يشهد به المؤثّر، لكن لا بدّ للشمس من سحاب؛ وللحسناء من نقاب!!.
إن شمس النّهار تغرب باللّي ... ل وشمس القلوب ليست تغيب
(وكان لونه صلّى الله عليه وسلم أزهر) ؛ أي: أبيض بياضا نيّرا مشرقا، لأنه مشرّب بحمرة وقد وصفه جمهور أصحابه بالبياض؛ منهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعلي بن أبي طالب، وأبو جحيفة: ووهب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبّاس، وهند بن أبي هالة، والحسن بن علي، وأبو الطّفيل عامر بن واثلة، ومحرّش الكعبي «1» ، وعبد الله بن مسعود، والبراء بن عازب، وعائشة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأنس في رواية جميع أصحابه عنه ما عدا حميدا؛ فقال: أسمر. قال الحافظ العراقي: انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه؛ فقال: أزهر اللون. فهؤلاء ستّة عشر صحابيا وصفوه بالبياض. وقد مرّت رواية بعضهم، وستأتي رواية بعضهم. وما فسّرنا به الأزهر، من كونه أبيض ... الخ هو ما قاله الأكثر. لكن قال السّهيلي: الزّهرة- في اللغة-: إشراق في اللون بياضا؛ أو غيره.
(ولم يكن بالأسمر) الشديد السّمرة؛ وهو المعبّر عنه بالآدم، وإنّما يخالط بياضه الحمرة، لكنّها حمرة بصفاء. فيصدق عليه أنّه أزهر.
(ولا بالشّديد البياض) ، وهو المعبّر عنه ب «الأمهق» ؛ رواه البخاريّ والترمذيّ؛ من حديث أنس بلفظ: «أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم» ..
الحديث، ورواه الترمذي في «الشمائل» عن هند بن أبي هالة «أزهر اللون واسع الجبين» ... الحديث. وقد تقدّم.
__________
(1) تأتي روايته وترجمته بعد عدة صفحات فقط.(1/254)
ونعته عمّه أبو طالب فقال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ...
(ونعته عمّه) شقيق أبيه (أبو طالب) - واسمه: عبد مناف بن عبد المطلب؛ والد عليّ رضي الله عنه وإخوته: الحارث، وجعفر، وعقيل- (فقال) في قصيدة لاميّة طويلة أكثر من ثمانين بيتا؛ ذكرها ابن إسحاق بطولها.
(وأبيض) - بفتح الضاد، مجرور ب «ربّ» مقدّرة؛ كما صدر به الحافظ كالكرماني والسيوطي، وجزم به في «المغني» . أو منصوب، قال الحافظ ابن حجر: بإضمار «أعني» أو «أخصّ» . قال: والراجح أنّه بالنصب عطفا على «سيّدا» المنصوب في البيت قبله وهو:
وما ترك قوم لا أبا لك سيّدا ... يحوط الذّمار غير ذرب مواكل
انتهى.
وبه قطع الدّماميني في «مصابيحه» ، وردّ به على ابن هشام، واستظهره في «شرح المغني» ، وقال: هو من عطف الصفات التي موصوفها واحد، أو هو مرفوع خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الكرماني، وأفاده القسطلّاني عن ضبط الشرف اليونيني في نسخته من البخاري؛ أي: هو أبيض؛ ذكره الزرقاني في «شرح المواهب» ، في الجزء الأول، واقتصر في موضع آخر من الجزء الرابع على النصب؛ مصدّرا به والرفع، وردّ الجر. والله أعلم.
وفي رواية بدل «وأبيض» و «أبلج» من البلج- بفتحتين- وهو: نقاء ما بين الحاجبين.
(يستسقى) - بالبناء للمفعول- (الغمام) : السحاب (بوجهه) أي: يطلب السقي من الغمام بوجهه، والمراد ذاته، أي: يتوسّل إلى الله به. وهذا قاله عن مشاهدة لذلك، لما رأى في وجهه من مخايل ذلك؛ وإن لم يشاهده كما أبداه بعضهم احتمالا، وجزم به آخر فإنّه عجب.(1/255)
.. ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكان صلّى الله عليه وسلّم أزهر اللّون، كأنّ عرقه اللّؤلؤ، إذا مشى.. تكفّأ. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ...
(ثمال اليتامى) - بكسر المثلثة وخفّة الميم- هو: العماد والملجأ، والمطعم والمغيث، والمعين والكافي. (عصمة للأرامل) ؛ أي: يمنعهم مما يضرّهم؛ جمع أرملة؛ وهي الفقير التي لا زوج لها. قال الدماميني: هو بنصب «ثمال» ؛ و «عصمة» ويجوز رفعهما على أنهما خبرا محذوف. زاد القسطلّاني: وبجرّهما على أن «أبيض» مجرور. انتهى؛ ذكره الزرقاني على «المواهب» رحمه الله تعالى.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أزهر اللّون) ؛ أي: نيّره وحسنه. وفي «الصحاح» كغيره:
الأبيض المشرق، وبه أو ب «الأبيض المنير» فسّره عامّة المحدّثين؛ حملا على الأكمل، أو لقرينة. ولعل من فسّره بالأبيض الممزوج بحمرة نظر إلى المراد بقرينة الواقع. قال محقق: والأشهر في لونه أنّ البياض غالب عليه؛ لا سيما فيما تحت الثياب، لكن لم يكن كالجصّ، بل نيّر ممزوج بحمرة غير صافية، بل مع نور كدر؛ كما في «المغرب» . ولهذا جاء في رواية «أسمر» ، وبه يحصل التوفيق بين الروايات؛ ذكره المناوي في «كبيره» . وقال العزيزي: قال العلقمي: هو الأبيض المستنير المشرق، وهو أحسن الألوان، أي: ليس بالشديد البياض.
(كأنّ) - بالتشديد- (عرقه) - بالتحريك-: ما يترشّح من جلد الإنسان (اللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، (إذا مشى تكفّأ) - بالهمز، ودونه- قال الأزهري: معناه أنّه يميل إلى سننه وقصد مشيه. وقال في «الدر» : تكفّأ؛ أي:
تمايل إلى قدّام- بالتشديد- كالسفينة في جريها، وقال المناوي: أي: يسرع كأنّه يميل تارة إلى يمينه وأخرى إلى شماله انتهى «عزيزي» .
(و) في «الإحياء» - وعزاه في شرحه؛ إلى «دلائل النبوة» للبيهقي-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، ورواه أبو نعيم عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم(1/256)
أحسن النّاس وجها وأنورهم، لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر ليلة البدر.
وكانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق ...
أحسن النّاس وجها وأنورهم) . روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث البراء: كان أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ... الحديث، وللترمذيّ وابن ماجه؛ من حديث أنس: كان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس. (لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر) . وإنما اختير على الشمس!! لأنه يتمكّن من النظر إليه ويؤنس من شاهده من غير أذى يتولّد عنه، بخلاف الشمس؛ لأنها تغشي البصر، وقال:
(ليلة البدر!!) لأنّ القمر فيها في نهاية إضاءته وكماله. رواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث أبي إسحاق الهمداني عن امرأة من همدان سمّاها؛ قالت:
حججت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن، عليه بردان أحمران ... الحديث. وفيه قال: قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبّهيه فقالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله. انتهى. وقولها:
«مرّات» !! قال الزرقاني. كذا هنا!! فلعلها قبل الهجرة، إذ لم يحجّ بعد الهجرة سوى حجة الوداع. وقوله «1» : «فرأيته على بعير له» ؛ أي: في حجة الإسلام؛ كما في الزرقاني على «المواهب» .
(و) في «الإحياء» - وهو معزوّ إلى «دلائل النبوة» أيضا؛ من تتمة الحديث السابق-: (كانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق) .
واسمه: عبد الله بن أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمير بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مرّة بن كعب.
وأمّ أبي بكر؛ أمّ الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
__________
(1) هكذا في الأصل: وصوابه (وقولها ... ) .(1/257)
أسلم أبو [أبي] «1» بكر وأمّه وصحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون؛ بعضهم من بعض صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا آل أبي بكر الصديق؛ وهم عبد الله بن أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة؛ فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون. وأيضا أبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله تعالى عنهم.
ولقب أبي بكر «عتيق» ! لعتقه من النار، وقيل: لحسن وجهه وجماله.
وروى الترمذي بإسناده؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أبو بكر عتيق الله من النّار» فمن يومئذ سمّي «عتيقا» .
وأجمعت الأمة على تسميته «صدّيقا» . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنّ الله تعالى هو الذي سمّى أبا بكر على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدّيقا، وسبب تسميته أنّه بادر إلى تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولازم الصدق، فلم يقع منه هناة؛ ولا وقفة في حال من الأحوال.
وكانت له في الإسلام مواقف رفيعة؛ منها: قصته صبيحة الإسراء، وثباته وجوابه للكفّار في ذلك، وهجرته مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وترك عياله وأطفاله؛ وملازمته في الغار وسائر الطريق، ثمّ كلامه يوم بدر، ويوم الحديبية حين اشتبه الأمر على غيره في تأخّر دخول مكّة، ثم بكاؤه حين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله» ، ثم ثباته في وفاة رسول الله، وخطبته الناس وتسكينهم، ثم قيامه في قصة البيعة لمصلحة المسلمين، ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة بن زيد إلى الشام وتصميمه في ذلك، ثم قيامه في قتال أهل الردّة؛ ومناظرته للصحابة حتّى حجّهم بالدلائل، وشرح الله صدورهم لما شرح الله صدره من الحق؛ وهو قتال أهل الردة، ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام لفتوحه وإمدادهم بالإمداد، ثم ختم ذلك بمهمّ من أحسن مناقبه وأجلّ فضائله؛ وهو استخلافه على
__________
(1) أضيفت لضرورة صحّة المعنى، وليست في الأصل.(1/258)
رضي الله تعالى عنه حيث يقول:
أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الغمام
وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض كأنّما صيغ من فضّة، ...
المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفرّسه فيه ووصيته له، واستيداعه الله الأمّة، فخلفه الله فيهم أحسن الخلافة، وظهر لعمر- الذي هو حسنة من حسناته؛ وواحدة من فعلاته- تمهيد الإسلام وإعزاز الدين، وتصديق وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كلّه، وكم للصديق من مواقف وآثار!! ومن يحصي مناقبه ويحيط بفضائله غير الله عزّ وجلّ!!.
وكانت ولادته بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا بمكّة المكرّمة، وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ثلاث عشرة من الهجرة، وعمره: ثلاث وستون سنة كرسول الله صلّى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ومدّة خلافته: سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر.
روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستة، وانفرد البخاريّ بأحد عشر، ومسلم بحديث.
وسبب قلّة روايته مع تقدّم صحبته وإسلامه وملازمته للنبي صلّى الله عليه وسلم!! أنّه تقدّمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها.
(رضي الله تعالى عنه) وأرضاه (حيث يقول:
أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الغمام)
وقوله (زايله الغمام) أي: فارقه، فالبدر أضوأ ما يكون إذ ذاك.
(و) روى الترمذي في «الشمائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أبيض كأنّما صيغ) ؛ من الصوغ- بالغين المعجمة:
بمعنى صنع الحلي والإيجاد- أي: سبك وصنع (من فضّة) باعتبار ما كان يعلو بياضه صلّى الله عليه وسلم من النور والإضاءة، وفيه إيماء إلى تماسك أجزائه وتناسب أعضائه، ونورانيّة وجهه وسائر بدنه. وفي رواية لأحمد: فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة(1/259)
رجل الشّعر.
وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض مليحا مقصّدا.
فضة. وسيأتي. وعلم من ذلك أن المراد أنّه كان نيّر البياض (رجل) - بكسر الجيم وتسكن- (الشّعر) ؛ أي: لم يكن قططا؛ ولا سبطا. قال القرطبي: كأنّ شعره من أصل الخلقة مسرّحا. انتهى.
(و) روى مسلم، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ ل «الشمائل» - عن سعيد الجريري؛ قال: سمعت أبا الطفيل يقول: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري. قلت: صفه لي. قال:
(كان صلّى الله عليه وسلم أبيض) ؛ أي: بياضا مشرّبا بحمرة؛ لا خالصا كالبهق، لأنه لا جمال فيه (مليحا) ؛ أي: حسنا جميلا، لأنّه كان أزهر اللون، وهذا غاية الملاحة، فلم يقارب جماله أحد. وما أعطي يوسف!! إنّما هو جزء مما أعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (مقصّدا) - بتشديد الصاد المفتوحة؛ على أنه اسم مفعول من باب التفعيل- أي: متوسّطا. يقال رجل مقصّدا؛ أي: متوسط، كما يقال رجل قصد؛ أي: وسط، قال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [9/ النحل] أي: وسطه.
والمراد أنه صلّى الله عليه وسلم متوسّط بين الطول والقصر، وبين الجسامة والنحافة، بل جميع صفاته على غاية من الأمر الوسط، فكان في لونه وهيكله؛ وشعره وشرعه مائلا عن طرفي الإفراط والتفريط. وأمته وسط بين الأمم. وكان في قواه كذلك؛ فكان معتدل القوى، واعتدالها: أن لا يخرج إلى حدّ الإفراط والتفريط، ألا ترى أن اعتدال قوى العقل يعبّر عنه بالفطنة والكياسة!! فإن مالت عن الاعتدال إلى طرف الإفراط سمّي: مكرا وخداعا، أو إلى التفريط سمي: بلها وحمقا. وكذا اعتدال قوّة الغضب، فإنه يعبّر عنه بالشجاعة، فإن مالت إلى طرف الإفراط سمي:
تهوّرا، أو التفريط سمي: جبنا. وكذا اعتدال قوّة الشهوة يعبّر عنه بالعفة، فإن مالت إلى الإفراط سمي: شرها؛ أو التفريط سمي: خمودا. فالطرفان في سائر الأخلاق مذمومان، والاعتدال هو الوسط محمود. فحفظ صلّى الله عليه وسلم في ذلك كلّه من(1/260)
ومعنى (المقصّد) : المتوسّط بين الطّول والقصر.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بياضه بحمرة، وكان أسود الحدقة، أهدب الأشفار.
وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بحمرة، ضخم الهامة، محذوري الإفراط والتفريط. انتهى «مناوي، وباجوري» .
وقد روى هذا الحديث أبو داود بلفظ: كان أبيض مليحا، إذا مشى كأنما يهوي في صبوب. ورواه مسلم أيضا بلفظ: كان أبيض مليح الوجه.
(ومعنى المقصّد) - بالتشديد-: (المتوسّط بين الطّول والقصر) يعني: ليس بجسيم ولا نحيف، ولا طويل ولا قصير، كأنّه نحي به القصد من الأمور. قال البيضاوي:
المقصّد: المقتصد. يريد به المتوسّط بين الطويل والقصير؛ والناحل والجسيم.
(و) روى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبيض مشربا) - بالتخفيف والتشديد- (بياضه بحمرة) ، أي: يخالط بياضه حمرة؛ كأنه سقي بها.
(وكان أسود الحدقة) - بفتحات- أي: شديد سواد العين، (أهدب) بالدال المهملة- (الأشفار) جمع شفر- بالضم ويفتح-: حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر؛ أي: طويل شعر الأجفان كثيرا.
(و) روى البيهقي في «الدلائل» ؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه في الجنة؛ قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة) بالتخفيف من الإشراب، و [مشرّبا] بالتشديد من التشريب- يقال: بياض مشرب بحمرة- بالتخفيف- فإذا شدّد كان للتكثير والمبالغة، فهو هنا للمبالغة في البياض، لأن الإشراب خلط لون بلون؛ كأنّ أحد اللونين سقى الآخر.
(ضخم الهامة) - بالتخفيف- أي: عظيم الرأس، لأن الهامة هي الرأس، وعظمه ممدوح محبوب، لأنه أعون على الإدراكات ونيل الكمالات.(1/261)
أغرّ أبلج، أهدب الأشفار. ومعنى (الأغرّ) : الصّبيح.
و (الأبلج) : الحسن المشرق المضيء.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن عباد الله عنقا، لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب.
وكان صلّى الله عليه وسلّم من أحسن عباد الله شفتين ...
(أغرّ) ؛ أي: صبيحا، (أبلج) أي: مشرقا مضيئا. وقيل: الأبلج: خالي الشعر بين الحاجبين، فليس بأقرن الحاجبين، لأن العرب تمدح بعدم القرن.
(أهدب الأشفار) ؛ أي: أنّ لأشفاره هدبا؛ أي: شعرا أطول من غيره، أخذا من أفعل التفضيل، وحذف العاطف فيه وفيما قبله!! ليكون أدعى إلى الإصغاء إليه، وأبعث للقلوب على تفهّم خطابه. فإنّ اللفظ إذا كان فيه نوع غرابة وعدم ألفة أصغى السمع إلى تدبّره والفكر فيه، فجاءت المعاني مسرودة على نمط التعديد؛ إشعارا بأن كلّا منها مستقلّ بنفسه؛ قائم برأسه، صالح لانفراده بالغرض.
(ومعنى الأغرّ: الصّبيح. و) معنى (الأبلج: الحسن المشرق المضيء.)
وقيل: الأبلج: نقيّ ما بين الحاجبين من الشعر- كما تقدّم-.
(و) في «الإحياء» - وعزاه في «شرحه» إلى البيهقي في «دلائل النبوة» -؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقا؛ لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح؛ فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب) ، وما غيّبت الثياب من عنقه وما تحته! فكأنّه القمر ليلة البدر. هذا تمام الكلام، والحديث طويل جدا، ساقه في «شرح الإحياء» بطوله. وهو مشتمل على نفائس من أوصافه صلّى الله عليه وسلم.
(و) في «الإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم من أحسن عباد الله شفتين،(1/262)
وألطفهم ختم فم. وكان صلّى الله عليه وسلّم عريض الصّدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمرآة في استوائها، وكالقمر في بياضه.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم ثلاث عكن يغطّي الإزار منها واحدة.
وعن أمّ هانىء ...
وألطفهم ختم فم) . رواه البيهقي في «دلائل النبوة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو من جملة الحديث الطويل الذي تقدّمت الإشارة إليه.
(و) في «الإحياء» أيضا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم عريض الصّدر، لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمرآة في استوائها، وكالقمر في بياضه) .
قال في «شرحه» : رواه البيهقي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: وكان عريض الصدر ممسوحه كأنّه المرآة في سموتها واستوائها، لا يعدو بعض لحمه بعضا، على بياض القمر ليلة البدر. وهو من جملة الحديث الطويل الذي تقدمت منه جمل. وفي سنده نظر.
(و) في «الإحياء» أيضا: (كان له صلّى الله عليه وسلم ثلاث عكن) - العكن: جمع عكنة بالضم؛ طيّة من طيات البطن- (يغطّي الإزار منها واحدة) ، وتظهر اثنتان.
قال في «شرحه» : رواه البيهقيّ؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، إلّا أنّه قال: يغطي الإزار منها اثنتين وتظهر منها واحدة. ومنهم من قال: واحدة وتظهر اثنتان. ثم قال: تلك العكن أبيض من القباطي المطواة، وألين مسّا.
(وعن أمّ هانىء) - بهمزة في آخره-، لا خلاف بين أهل اللغة والأسماء، وكلّهم مصرّحون به.
واسم أم هانىء: فاختة بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب لأبويه رضي الله تعالى عنها، وهذا هو المشهور في اسمها. وقيل: اسمها هند، قاله(1/263)
رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت بطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض.
وعن محرّش الكعبيّ رضي الله تعالى عنه قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة ...
الإمامان الشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهما. وقيل: فاطمة؛ حكاه ابن الأثير.
أسلمت عام الفتح، وكانت تحت هبيرة بن عمرو؛ فولدت له عمرا وهانئا ويوسف وجعدة. وهرب زوجها إلى نجران ففرّق الإسلام بينهما؛ فعاشت أيّما، وماتت بعد سنة أربعين من الهجرة؛ بعد قتل أخيها عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما.
روت عن النبي صلّى الله عليه وسلم ستة وأربعين حديثا (رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
ما رأيت بطن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض) .
(و) أخرج الإمام أحمد ابن حنبل (عن محرّش) - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء الثقيلة ومعجمة- ضبطه ابن ماكولا؛ تبعا لهشام بن يوسف ويحيى بن معين. ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوّبه ابن السكن؛ تبعا لابن المديني كما في «الإصابة» ، وزاد في «التبصير» : وقال ابن سعد مخرّش- بالخاء المعجمة-. وقال بعضهم: مهملة. وقال الزمخشري: الصواب بالخاء المعجمة. انتهى. وفي «الجامع» لابن الأثير: ويقال: محرش؛ بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الراء مخففة وشين معجمة.
قال في «الإصابة» : وهو ابن سويد بن عبد الله بن مرّة الخزاعي (الكعبيّ) عداده في أهل مكة. وقيل: إنه ابن عبد الله. انتهى (رضي الله تعالى عنه.
قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الجعرانة) - بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء- وهو الأشهر وصوّبه النووي في «تهذيبه» ، ونقله عن الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ وأئمة اللغة، ومحقّقي المحدّثين، و [الجعرّانة] بكسر المهملة وتشديد الراء، وعليه عامّة المحدّثين، لكن عدّه الخطّابي من تصحيفهم.
وقال صاحب «المطالع» : كلا اللّغتين صواب:(1/264)
ليلا فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة.
وفي «المواهب» : عن مقاتل بن حيّان: ...
موضع مشهور بين الطائف ومكّة؛ وهو إليها أقرب، إذ بينهما ثمانية عشر ميلا؛ على ما قاله الرافعي والباجي المالكي وتبعهما الإسنوي. واثنا عشر؛ على ما قاله الفاكهي والأسدي وغيرهما. ورجّحه الفاسي بعد تحريره، فبينها وبين الحرم من جهتها نحو ثلاث أميال.
سمّيت «جعرانة» !! باسم امرأة من تميم، وقيل: من قريش. وهي المشار إليها بقوله تعالى (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [92/ النحل] وبها ماء شديد العذوبة.
قال الفاكهي: يقال إنه صلّى الله عليه وسلم حفر موضعه بيده الشريفة المباركة فانبجس فشرب منه، وسقى الناس. أو غرز رمحه فنبع. قال الواقدي كمجاهد: وإحرامه صلّى الله عليه وسلم بها من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى (ليلا) . قال الواقدي:
وكانت ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقين من ذي القعدة. انتهى.
(فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة) ، فاعتمر وأصبح بها كبائت. هذا بقية الحديث. وأخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي بإسناد حسن. قال الترمذي:
ولا يعرف له غيره. انتهى «زرقاني» .
(وفي «المواهب) اللدنية بالمنح المحمّدية» للعلامة القسطلّاني؛ (عن مقاتل بن حيّان) - بمهملة فتحتية مشددة- النّبطي- بفتح النون والموحدة- المفسّر أبي بسطام البلخي الخزار- بمعجمة وزايين- كما ضبطه الزرقاني على «المواهب» .
وهو مولى بكر بن وائل. وهو من تابعي التابعين، صدوق فاضل. روى عن سالم بن عبد الله، وعكرمة «مولى ابن عباس» وعطاء بن أبي رباح، وأبي بردة بن أبي موسى، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والحسن البصري، وأبي الصديق الناجي، وشهر بن حوشب، وعبد الله بن بريدة، والضحّاك بن مزاحم وغيرهم.
وروى عنه علقمة بن مرثد، وعتّاب بن محمد، وأبو جعفر الرازي،(1/265)
قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام: «اسمع وأطع، يا ابن الطّاهرة البكر البتول، إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين، فإيّاي فاعبد، وعليّ فتوكّل، فسّر لأهل سوران إنّي أنا الله الحيّ القيّوم الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة والنّعلين والهراوة، ...
وعبد الله بن المبارك، وخلائق غيرهم. واتفقوا على توثيقه والثناء عليه.
وروى له مسلم وأصحاب «السنن» ، وأخطأ الأزدي في زعمه «أنّ وكيعا كذّبه» ، وإنّما كذّب مقاتل بن سليمان!!. مات قبل الخمسين ومائة هجرية بأرض الهند.
(قال: أوحى الله تعالى إلى) المسيح (عيسى) ابن مريم- على نبينا و (عليه) الصلاة (والسّلام) -: جدّ في أمري ولا تهزل و (اسمع وأطع؛ يا ابن الطّاهرة البكر البتول) : المنقطعة عن الرجال؛ (إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك آية) : علامة دالّة على قدرتي (للعالمين) الإنس والجن والملائكة حيث خلقتك من غير فحل، (فإيّاي فاعبد) لا غيري، (وعليّ فتوكّل) ؛ لا على غيري، (فسّر لأهل سوران) - بالسريانية-: بلّغ من بين يديك (إنّي أنا الله الحيّ) الدائم البقاء، (القيّوم) : المبالغ في القيام بتدبير خلقه، (الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ) العربيّ (صاحب الجمل والمدرعة) - بكسر الميم- أي: القتال والملاحم؛ كما في «السّامي في الأسماء» ؛ وإن كانت في الأصل كالدّرّاعة ثوب، ولا يكون إلّا من صوف؛ كما في «القاموس» ؛ كذا في الزرقاني.
وقال المصنّف النبهاني في كتاب «الأسمى» : صاحب المدرعة هي نوع من الثياب، ولا تكون إلّا من الصوف، وهي علامة التواضع ولبس الصالحين.
انتهى.
(والعمامة والنّعلين والهراوة) - بكسر الهاء ثم راء فألف فواو فتاء تأنيث-:(1/266)
الجعد الرّأس، الصّلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدّين، الكثّ اللّحية، عرقه في وجهه كاللّؤلؤ، ...
العصا مطلقا، أو الضخمة.
(الجعد الرّأس) - بفتح الجيم وسكون العين- أي: جعودة متوسّطة، فلا يخالف قول أنس في «الصحيحين» والترمذي «ليس بالجعد القطط، ولا بالسّبط» القطط، بفتحتين: الشديد الجعودة كالسودان، والسّبط- بفتح فكسر أو سكون-:
المنبسط المسترسل الذي لا تكسّر فيه، فهو متوسّط بين الجعودة والسبوطة.
(الصّلت) : الواضح (الجبين، المقرون الحاجبين) .
وفي «شرح الإحياء» : المفروق الحاجبين. وهو الموافق لرواية ابن أبي هالة، وزيادة جملة وهي «الأنجل العينين» .
(الأهدب الأشفار، الأدعج العينين) - بمهملة وجيم- أي: الشديد سواد الحدقة مع سعتها، فلا يشكل بأنه «أشكل» ، لأن الشّكلة في البياض؛ لا في السواد.
(الأقنى الأنف) - بقاف فنون- مخففا من القنى. وفسّر في «النهاية» بالسائل الأنف المرتفع وسطه مع احد يدابه وارتفاع أعلاه.
(الواضح الخدّين) أي: ليس فيهما نتوء؛ ولا ارتفاع، فهو كقول هند:
«سهل الخدين» .
(الكثّ اللّحية) - بفتح الكاف ومثلثة-: غير دقيقها ولا طويلها وفيها كثافة؛ كما في «النهاية» . وفي «التنقيح» : كثير شعرها غير مسبلة. واللّحية- بكسر اللام وفتحها؛ وهو لغة الحجاز-: الشعر النابت على الذقن خاصّة.
(عرقه) - بالتحريك-: ما يرشح من جلده (في وجهه كاللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، وفي «شرح الإحياء» : كأنه اللؤلؤ. وللبيهقي؛ عن عائشة رضي الله(1/267)
وريح المسك ينفح منه، كأنّ عنقه إبريق فضّة» .
قوله: (صلت الجبين) : واضحه.
و (أدعج العينين) : شديد سواد العين.
و (أقنى الأنف) : طويله مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع.
قال ابن الأثير: ...
تعالى عنها: كان يخصف نعله وكنت أغزل؛ فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولّد نورا.
(وريح المسك ينفح) - بفتح الفاء- أي: يهبّ (منه) ويظهر رائحته، (كأنّ عنقه) - بضم المهملة والنون وتسكن- (إبريق فضّة) ؛ صفاء وطولا متوسطا لا مفرطا. قال في «شرح الإحياء» : رواه البيهقي في «دلائل النبوة» .
(قوله: صلت الجبين) معناه: (واضحه) . وقوله (أدعج العينين) معناه:
(شديد سواد العين) من الدّعج- بفتحتين- أي: مع اتساعها؛ كما في «الصحاح» وغيره. وفي «النهاية» : الدّعج: السّواد في العين وغيرها. وقيل: شدّة بياض البياض وسواد السواد.
(و) قوله (أقنى الأنف) معناه: (طويله مع دقّة أرنبته) ؛ أي: طرفه، (في وسطه بعض ارتفاع) وهو المعبّر عنه بالاحديداب.
هذا؛ وما وصفه به ابن أبي هالة في الحديث المتقدّم في قوله: «سوابغ من غير قرن» مخالف لما هنا في حديث مقاتل بن حيان من قوله: «المقرون الحاجبين» ، ومخالف لما في حديث أم معبد فإنّها قالت: «أحور أكحل، أزجّ أقرن» أي: مقرون الحاجبين!!.
(قال) العلّامة الحافظ مجد الدين (ابن الأثير) أبو السعادات مبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري.
ولد بجزيرة ابن عمر سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة ونشأ بها، ثم(1/268)
والصّحيح في صفة حواجبه صلّى الله عليه وسلّم أنّها سوابغ من غير قرن.
انتقل إلى الموصل، وأنشأ رباطا بقرية قرب الموصل تسمى «قصر حرب» . وكان أشهر العلماء ذكرا، وأكثر النبلاء قدرا.
وله المصنفات البديعة منها «جامع الأصول» و «النهاية في غريب الحديث» ، و «الإنصاف في الجمع بين «الكشف» و «الكشاف» » ، و «المصفّى المختار في الأدعية والأذكار» ، و «البديع شرح «الفصول» في النحو» ، و «الشافي» شرح «مسند الشافعي» ، وكتاب لطيف في صنعة الكتابة.
توفي في ذي القعدة سنة: - 606- ست وستمائة هجرية رحمه الله تعالى.
قال في «النهاية» : (والصّحيح في صفة حواجبه صلّى الله عليه وسلم أنّها سوابغ من غير قرن) ؛ كما وصفه به ابن أبي هالة. وقال غير ابن الأثير: إنه المشهور، وأن قول الحسن: «سألت خالي هند بن أبي هالة؛ وكان وصّافا» ردّ لما جاء بخلافه.
وجمع على تقدير الصحّة؛ بأنه بحسب ما يبدو للناظرين من بعد، أو بلا تأمّل.
وأما القريب المتأمّل فيرى بين حاجبه فاصلا مستبينا، فهو أبلج في الواقع؛ أقرن بحسب الظاهر للناظر من بعد، أو بلا تأمّل؛ كما في وصف أنفه: يحسبه من لم يتأمّله أشمّ؛ ولم يكن أشمّ. وبأن بينها شعرا خفيفا جدا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر وحديثها سفري وبأن القرن حدث له بعد، وكان أوّلا بلا قرن، واستبعد.
قال الأنطاكي وغيره: والقرن معدود من معايب الحواجب، والعرب تكرهه، وأهل القيافة تذمّه، ويستحبّون البلج خلاف ما عليه العجم. وإذا دقّقت النظر علمت أنّ نظر العرب أدقّ، وطبعهم أرقّ. انتهى زرقاني على «المواهب» .
قلت: هذا بحسب ما في «المواهب» . والذي في «شرح الإحياء» ؛ في حديث مقاتل بن حيان: «المفروق الحاجبين» ، وعليه؛ فهو يوافق كلام الوصّاف هند بن أبي هالة؛ فلتراجع نسخة «دلائل النبوة» للبيهقي التي هي الأصل. والله أعلم.
(و) روى ابن السّنّيّ في «عمل اليوم والليلة» - كما في المناوي؛ على «الجامع الصغير» - قال: ورواه عنه أيضا الطّبراني في «الأوسط» - قال الحافظ(1/269)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر وجهه في المرآة..
قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي فعدّله، وكرّم صورة وجهي فحسّنها، وجعلني من المسلمين» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر في المرآة.. قال: «الحمد لله الّذي حسّن خلقي وخلقي، وزان منّي ما شان من غيري» .
العراقي: وسنده ضعيف. ورواه عنه البيهقي في «الشّعب» ، وفيه هاشم بن عيسى الحمصي؛ أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال: لا يعرف- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه) ؛ أي: صورة وجهه (في المرآة) المعروفة- بالمدّ- (قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي) - بفتح فسكون- أي: صورة خلقي (فعدّله) - بالتشديد والتخفيف- أي: بسبب كونه كرّم صورته، (وكرّم صورة وجهي فحسّنها) ؛ فيسنّ النظر في المرآة وقول ذلك؛ ولو كانت صورة وجهه ليست حسنة. لأنّ المراد الحسن النسبي بالنسبة لغيره، (وجعلني من المسلمين) ليقوم بواجب شكر ربّه تقدّس.
(و) أخرج أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» - بسند فيه متروك؛ كما قال المناوي- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة؛ قال: «الحمد لله الّذي حسّن) - بالتشديد: فعّل- (خلقي) بسكون اللام- (وخلقي) - بضمّها- (وزان منّي ما شان) - أي: قبح- (من غيري) . قال الطيبي: فيه معنى قوله «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» فجعل النقص شينا؛ كما قال المتنبي:
ولم أر في عيوب النّاس عيبا ... كنقص القادرين على التّمام
وعلى نحو هذا الحمد حمد داود وسليمان (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (15) [النمل] انتهى.
ولعل النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول هذا مرّة؛ وهذا أخرى. فيندب النظر في المرآة والحمد على حسن الخلق والخلقة، لأنهما نعمتان يجب الشكر عليهما. ويقول:(1/270)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا أشبه النّاس بآدم صلّى الله عليه وسلّم، وكان أبي إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أشبه النّاس بي خلقا وخلقا» .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: ...
الحمد لله الذي حسن خلقي؛ وإن كان سيّىء الخلق، لأن المراد بالنسبة لمن هو أسوأ منه خلقا. وقد كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة. فقيل له، فقال: انظر فما كان في وجهي زين؛ فهو في وجه غيري شين أحمد الله عليه. انتهى «مناوي وحفني» .
(و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم يقول: أنا أشبه النّاس بآدم صلّى الله عليه وسلم، وكان أبي إبراهيم) خليل الرحمن (صلّى الله عليه وسلم أشبه النّاس بي خلقا) - بفتح الخاء وإسكان اللام- (وخلقا) . بضمتين.
قال في «شرح الإحياء» : رواه البيهقي في «دلائل النبوة» من جملة حديث طويل، ثم ساق الحديث بطوله بسنده إلى «دلائل النبوة» رحمه الله تعالى.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام- بالراء- ابن عمرو بن سواد بن سلمة- بكسر اللام- ابن سعد بن علي بن أسد بن ساردة- بالسين المهملة- ابن تزيد- بالتاء المثناة فوق- ابن جشم ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي السّلمي- بفتح السين واللام- المدني، الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) يكنى: أبا عبد الله، وقيل:
أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا محمد.
كان من كبار الصحابة وفضلائهم. غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة.
وهو أحد المكثرين في الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، روى عنه ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعين حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستين حديثا، وانفرد البخاريّ بستة وعشرين. وانفرد مسلم بمائة وستة وعشرين.
وروى عن أبي بكر وعمر وعليّ وأبي عبيدة ومعاذ وخالد بن الوليد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(1/271)
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ الأنبياء، ...
وروى عنه جماعات من أئمة التابعين؛ منهم سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، ومحمد الباقر، وعطاء، وسالم بن أبي الجعد، وعمرو بن دينار، ومجاهد، ومحمد بن المنكدر، وأبو الزبير، والشعبي، وخلائق.
واستشهد أبوه يوم أحد؛ فأحياه الله وكلّمه، وقال: يا عبد الله ما تريد؟
فقال: أن أرجع إلى الدنيا مرّة أخرى فأستشهد مرّة أخرى.
والمعنى: أريد زيادة رضاك؛ وهي الشهادة بعد الشهادة، وهذه المرتبة أعلى مقاما من حال أبي يزيد حين قيل له: ما تريد؟ فقال: أريد أن لا أريد. وقال بعض السادة من أهل السعادة: هذه أيضا إرادة. نعم من قال:
«أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد»
مستحسن جدّا، للحديث القدسي: «تريد وأريد، ولا يكون إلّا ما أريد» .
وكانت وفاة جابر بالمدينة المنورة سنة: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل: ثمان وستين، وهو ابن أربع وتسعين سنة.
وكان ذهب بصره في آخر عمره؛ وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة المنورة. وحيث أطلق «جابر» في كتب الحديث؛ فهو جابر بن عبد الله. وإذا أريد جابر بن سمرة! قيّد. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «عرض) - بصيغة المجهول- (عليّ) - بتشديد الياء- (الأنبياء) في النوم بأن مثّلت له صورهم على ما كانت عليه حال حياتهم، أو في اليقظة ليلة المعراج، لأنه رآهم ليلته بصورهم الحقيقية التي كانوا عليها حال الحياة، واجتمع بهم حقيقة في السموات، وفي بيت المقدس.
ويقرّب الأوّل رواية البخاري: «أراني اللّيلة عند الكعبة في المنام؛ فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من الرّجال تضرب لمّته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين؛ وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟(1/272)
فإذا موسى عليه السّلام ضرب من الرّجال كأنّه من رجال شنوءة.
قالوا: المسيح ابن مريم» .
ويؤيّد الثاني رواية البخاري أيضا: «ليلة أسري بي رأيت موسى ... »
الحديث. وفي ذلك إيماء إلى أفضليته صلّى الله عليه وسلم حيث لم يقل (عرضت عليهم) ، فإنّهم كالجنود له، والعسكر تعرض على السلطان؛ دون العكس. ولهذا قال بعض العارفين: إنّه صلّى الله عليه وسلم بمنزلة القلب في الجيش، والأنبياء مقدّمته، والأولياء ساقته، والملائكة يمنة ويسرة متظاهرين متعاونين، كما قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (4) [التحريم] . والشياطين قطّاع الطريق في الدين، والمراد بالأنبياء المعنى الأعمّ الشامل للرسل. (فإذا) - للمفاجأة- (موسى) على نبينا و (عليه) الصلاة و (السّلام) ، وهو عطف على محذوف؛ أي: فرأيت موسى؛ فإذا موسى ... الخ. وموسى معرّب موشى- بشين معجمة- سمّته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لمّا وجد بالتابوت بين ماء وشجر لمناسبته لحاله، فإنّ «مو» في لغة القبط: الماء، و «شى» في تلك اللغة: الشجر، فعرّب إلى موسى.
(ضرب) - بفتح فسكون- (من الرّجال) ؛ صفة ضرب؛ أي: نوع كائن من بين الرجال؛ وهو الخفيف اللحم المستدقّ، بحيث يكون جسما بين جسمين، لا ناحل ولا مطهّم. (كأنّه) - أي موسى- (من رجال شنوءة) التي هي قبيلة من اليمن؛ أو من قحطان، وهي على وزن فعولة: تهمز وتسهّل. قال ابن السّكّيت:
ربما قالوا شنوة كنبوة. ورجال هذه القبيلة متوسّطون بين الخفّة والسّمن.
والشّنوءة- في الأصل-: التباعد؛ كما في كلام «الصحاح» .
ومن ثمّ قيل لقّبوا به!! لطهارة نسبهم وجميل حسبهم، والمتبادر أنّ التشبيه بهم في خفّة اللحم، فيكون تأكيدا لما قبله، وبيانا له. وقيل: المراد تشبيه صورته بصورتهم؛ لا تأكيد خفّة اللحم، إذا التأسيس خير من التأكيد.
وقال بعضهم: الأولى أن يكون التشبيه باعتبار أصل معنى شنوءة؛ فلا يكون(1/273)
ورأيت عيسى ابن مريم [عليه السّلام] ، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود.
تأكيدا لما قبله؛ ولا بيانا له، بل هو خبر مستقلّ بالفائدة. وإنما لم يشبهه صلّى الله عليه وسلم بفرد معيّن؛ كسيدنا إبراهيم وعيسى!! لعدم تشخّص فرد معيّن في خاطره حال حكايته ذلك لأصحابه. والله أعلم.
(ورأيت) - بصيغة المتكلّم أي: أبصرت- (عيسى ابن مريم) بنت عمران الصدّيقة بنصّ القرآن (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [75/ المائدة] قيل: من ذرية سليمان بينها وبينه أربعة وعشرون أبا، ورفع عيسى عليه السلام وسنّها ثلاث وخمسون سنة، وبقيت بعده خمس سنين.
(فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة) - بمهملات- (ابن مسعود) رضي الله تعالى عنه الثقفي؛ لا الهذلي كما وهم. وهو أبو مسعود؛ أو أبو يعفور. وأمه قرشية؛ وهو الذي أرسلته قريش إلى المصطفى صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية فعقد معه الصلح؛ وهو كافر، ثمّ أسلم سنة تسع- بتقديم المثناة على السين المهملة- من الهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلم من الطائف، واستأذن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في الرجوع لأهله؛ فرجع ودعا قومه إلى الإسلام فرماه واحد منهم بسهم؛ وهو يؤذّن للصلاة؛ فمات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: «مثل عروة مثل صاحب ياسين؛ دعا قومه إلى الله فقتلوه» انتهى. وهو أحد الرجلين اللذين قالوا فيهما (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (31) [الزخرف]
وحلية عروة لم تضبط! ولعلّه اكتفى بعلم المخاطبين؛ فلم يحصل لنا المعرفة بحلية عيسى عليه السلام، لكن في رواية لمسلم: «فإذا هو ربعة أحمر كأنّه خرج من ديماس» أي: حمّام. وفي رواية أخرى: «فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء» فجمع بين الحديثين بأنّه كان له حمرة وأدمة لم يكن شيء منها في الغاية، فوصفه تارة بالحمرة؛ وتارة بالأدمة، وجمع أيضا بغير ذلك.
ولا يخفى أنّ «أقرب» مبتدأ؛ خبره عروة بن مسعود. و «من» موصولة وعائدها محذوف؛ أي: أقرب الذي رأيته، وبه متعلّق ب «شبها» المنصوب على(1/274)
ورأيت إبراهيم عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم؛ يعني نفسه.
ورأيت جبريل عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية» .
أنّه تمييز للنسبة، وصلة «القرب» محذوفة أي: إليه أو منه.
(ورأيت إبراهيم) الخليل على نبينا و (عليه) الصلاة و (السّلام) قال الماوردي في «الحاوي» : معناه بالسريانية «أب رحيم» ، وفيه خمس لغات بل أكثر: إبراهيم، وإبراهام؛ وهما أشهر لغاته، وبهما قرىء في السّبع، وإبراهم بضم الهاء، وكسرها، وفتحها-.
(فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم) . ولذلك ورد: «أنا أشبه ولد إبراهيم به» . (يعني نفسه) ؛ أي: يقصد النبيّ صلّى الله عليه وسلم بقوله «صاحبكم» نفسه الشريفة. وهذا من كلام جابر رضي الله تعالى عنه.
(ورأيت جبريل) - كفعليل. وفيه ثلاثة عشر وجها؛ بسط بعضهم الكلام عليها. وهو سرياني؛ معناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز. و «إيل» : اسم الله عند الجمهور. وقيل غير ذلك.
ثم قوله «رأيت جبريل» معطوف على قوله «عرض عليّ الأنبياء» عطف قصّته على قصّته، فليس داخلا في عرض الأنبياء حتى نحتاج إلى جعله منهم تغليبا.
غاية الأمر: أنّه ذكره في سياق الأنبياء مع كونه غير نبي!! لكثرة مخالطته لهم وتبليغ الوحي إليهم، نظير ما قيل في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ) [30- 31/ الحجر] انتهى «باجوري ومناوي رحمهما الله تعالى» .
(عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية) - بكسر الدال المهملة وسكون الحاء المهملة وبالتحتانية المفتوحة؛ على ما قاله أكثر أصحاب الحديث وأهل اللغة. وقال ابن ماكولا في «الإكمال» : بفتح الدال-.
وهو ابن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي الصحابي قديما المشهور، بل هو من كبار الصحابة.(1/275)
ومعنى (ضرب) : نوع.
و (شنوءة) : قبيلة من اليمن رجالها متوسّطون.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسع الظّهر، ...
شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشاهده كلّها بعد بدر، وبايع تحت الشجرة.
وفي «الصحيحين» : كان جبريل يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم في صورته غالبا، لأنه كان بارعا في الجمال؛ بحيث تضرب به الأمثال. وكان إذا دخل بلدا برز لرؤيته العواتق من خدورهن.
نزل الشام وسكن المزّة، وبقي إلى أيام معاوية رضي الله عنه. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث. وحديثه في «الصحيحين» . وكانت وفاته في سنة:
خمس وأربعين تقريبا.
قال جمع من العلماء: وحكمة إتيان جبريل في صورته أنّ القرآن عربيّ نزل بلسان عربي مبين، وعادة العرب قبل الإسلام لا يرسلون إلى ملك رسولا؛ إلّا مثل دحية في الجمال والفصاحة، والمصطفى صلّى الله عليه وسلم أعظم من الملوك؛ فكان يأتيه في صورته جريا على عادتهم.
ودحية هو رسول نبي الله صلّى الله عليه وسلم إلى قيصر، فلقيه بحمص، ثم عاد إليه رضي الله تعالى عنه.
(ومعنى ضرب) - بفتح المعجمة وسكون الراء وآخره باء موحدة-: (نوع) ؛ كما في «حاشية الباجوري» . (وشنوءة) - بفتح الشين المعجمة وضمّ النون؛ ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة بعدها تاء؛ على زنة: فعولة-: (قبيلة) معروفة (من اليمن) - ومنه أزد شنوءة- (رجالها متوسّطون) بين الخفّة والسّمن، سمّيت به لشناءة بينهم، أو لتشنّئهم: أي: بعدهم إمّا من الناس، أو من الأدناس، ويرجّحه قول «الصحاح» : الشنوءة على وزن فعولة: التعزّز وهو التباعد، ومن ثمّ قيل:
لقّبوا به لطهارة نسبهم وجميل حسبهم. انتهى «مناوي» .
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واسع الظّهر) ، وبه فسّر «بعيد(1/276)
ما بين كتفيه خاتم النّبوّة، وهو ممّا يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء ...
ما بين المنكبين» ؛ أي: عريض أعلى الظهر- كما تقدّم-، وقد روي «بعيد ما بين المنكبين» في عدّة أحاديث.
روى الشيخان: البخاريّ، ومسلم؛ من حديث البراء رضي الله تعالى عنه:
كان مربوعا بعيد ما بين المنكبين ... الحديث. وروى البيهقي، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «كان بعيد ما بين المنكبين» ، وفي لفظ لمسلم:
«له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين» .
(ما بين كتفيه خاتم النّبوّة) - بفتح التاء وكسرها-، والمراد به هنا الأثر الحاصل له بين كتفيه لمشابهته للخاتم الذي يختم به؛ وهو الطابع. وإضافته للنبوة للدّلالة عليها. (وهو ممّا يلي منكبه الأيمن) ، فالبينيّة المذكورة تقريبية. هذا قول، والصحيح أنّه كان عند أعلى كتفه الأيسر؛ قاله السّهيلي.
وقد وقع التصريح به عند مسلم، قال: حدّثنا حامد بن عمر البكراوي، وأبو كامل الجحدري؛ قالا: حدّثنا حمّاد بن زيد؛ عن عاصم الأحول؛ عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزا ولحما. وساق الحديث. وفيه: ثمّ درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوّة بين كتفيه عند نفض كتفه اليسرى ... الحديث.
والسّر في جعله على الجانب الأيسر: أنّ القلب في تلك الجهة، فجعل الخاتم في المحلّ المحاذي للقلب. وهل 1- ولد به، أو 2- وضع حين ولد، أو 3- عند شقّ صدره، أو 4- حين نبّىء!؟ أقوال. قال الحافظ ابن حجر: أثبتها الثالث.
وبه جزم القاضي عياض.
(فيه شامة سوداء) ، والشامة: علامة تخالف لون البدن التي هي فيه، جمعه شام وشامات؛ قاله في «القاموس» . وقال الجوهري: الشام جمع شامة؛ وهي(1/277)
تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف فرس.
وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة.
الخال؛ وهي من الياء «1» .
(تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف) - بضم العين وإسكان الراء- (فرس) ؛ وهو الشعر النابت في محدّب رقبتها. هكذا رواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» ، إلّا أنّه قال: متركّبات، بدل: متواليات؛ قاله في «شرح الإحياء» . وسيأتي عن الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ردّ هذه الرواية في صفة خاتم النبوة.
(وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: خاتم النبوة الذي بين كتفيه (غدّة) - بضم الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة- وهي؛ كما في «المصباح» : لحم يحدث بين الجلد واللحم، يتحرّك بالتحريم. (حمراء) ؛ أي: مائلة للحمرة، لئلا ينافي ما ورد في رواية مسلم: أنّه كان على لون جسده صلّى الله عليه وسلم؛ قاله في «جمع الوسائل» .
وفي الباجوري: قوله حمراء ... وفي رواية: أنّها سوداء، وفي رواية: أنّها خضراء، وفي رواية: كلون جسده، ولا تدافع بين هذه الروايات، لأنّه كان يتفاوت باختلاف الأوقات؛ فكانت كلون جسده تارة، وكانت حمراء تارة ...
وهكذا بحسب الأوقات.
(مثل بيضة الحمامة) . رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة» انتهى.
وفي تحديد خاتم النبوّة أقوال كثيرة؛ منها:
جمع عليه خيلان؛ كأنها الثآليل السود عند نفض كتفه. رواه مسلم؛ من
__________
(1) احتراز عن الألف: شأم، وعن الميم: شمم؛ إذ هي من: شيم.(1/278)
.........
حديث عبد الله بن سرجس.
وقيل: مثل زر الحجلة. رواه البخاري؛ من حديث السائب بن يزيد، وزاد:
وينمّ مسكا. ورواه مسلم بلا زيادة.
وقيل: كبيضة الحمام. رواه مسلم؛ من حديث جابر بن سمرة.
وقيل: مثل السلعة. رواه البيهقي؛ من حديث معاوية بن قرّة عن أبيه.
وقيل: شعر مجتمع. رواه الحاكم في «المستدرك» .
وقيل: مثل التفاحة. رواه الترمذي في «الشمائل» ، والبيهقي في «الدلائل» ؛ من حديث إياد بن لقيط.
وقيل: مثل بعرة البعير. رواه أيضا؛ من حديث أبي رمثة؛ عن أبيه.
وقيل: مثل السلعة. رواه أيضا؛ من حديثه؛ عن أبيه.
وقيل: لحمة ناتئة. رواه أيضا؛ من حديث أبي سعيد.
وقيل: بضعة ناشزة. رواه الترمذي في «الشمائل» .
وقيل: كالبندقة. رواه ابن عساكر في «التاريخ» . زاد الحاكم في «تاريخ نيسابور» : مكتوب فيه باللحم «محمد رسول الله» .
وقيل: كالمحجمة الضخمة. رواه البيهقي؛ من حديث التنوخي رسول هرقل.
وللسهيلي في «الروض» : كأثر المحجم النابضة على اللحم.
وقيل: شامة خضراء محتفرة في اللحم. رواه ابن أبي خيثمة في «التاريخ» .
وقيل: ثلاث شعرات مجتمعات؛ نقله القاضي.
وقيل: كبيضة حمام مكتوب بباطنها «الله وحده لا شريك له» ، وبظاهرها «توجّه حيث كنت فإنّك منصور» رواه الحكيم الترمذي؛ في «نوادر الأصول» .
وقيل: كان نورا يتلألأ. رواه ابن عائذ.
قال بعض العلماء: وليست هذه الروايات مختلفة حقيقة، بل كلّ شبّه بما سنح(1/279)
وعن بريدة بن الحصيب ...
له. وتلك الألفاظ كلّها مؤدّاها واحد، وهو: قطعة لحم. ومن قال: شعر، فلأن الشعر حوله متراكب عليه. كما في الرواية الأخرى. وقال القرطبي: الأحاديث الثابتة تدلّ على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلّل جعل كبيضة الحمامة، وإذا كثّر جعل كجمع اليد. وقال القاضي: رواية «جمع الكفّ» تخالف «بيض الحمام» ، و «زر الحجلة» فتتأوّل على وفق الروايات الكثيرة، أي: كهيئة الجمع؛ لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة.
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : وأمّا ما ورد أنها كانت كأثر محجم، أو كشامة خضراء؛ أو سوداء، أو مكتوب عليها: «محمد رسول الله» ، أو «سر فأنت منصور» ، أو تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها عرف فرس بمنكبه الأيمن، إلى غير ذلك!! فلم يثبت منه شيء. وتصحيح ابن حبان ذلك وهم.
قال الحافظ الهيثمي: من روى أنه كان على خاتم النبوة كتابة: «محمد رسول الله» !! فقد اشتبه عليه خاتم النبوة بخاتم اليد، إذ الكتابة المذكورة إنما كانت على خاتم اليد؛ دون خاتم النبوة. انتهى ملخصا «من شرح الإحياء» ، والمناوي، والباجوري.
(و) روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن بريدة) - مصغّر- (ابن الحصيب) بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة؛ مصغرا- ابن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح الأسلمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو سهل. ويقال:
أبو الحصيب. كان من أكابر الصحابة، أسلم قبل بدر؛ ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة. واستعمله النبي صلّى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وسكن المدينة. وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو؛ فمات بها سنة: اثنتين- أو ثلاث- وستين هجرية، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بخراسان.
روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم مائة وسبعة وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على(1/280)
رضي الله تعالى عنه قال: جاء سلمان الفارسيّ ...
حديث منها، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بأحد عشر حديثا.
وروى عنه ابناه عبد الله وسليمان (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
جاء سلمان الفارسيّ) الصحابي الكبير، أحد الذين اشتاقت لهم الجنة- نسبة لفارس- إما لكونه منها، أو من «أصفهان» ؛ والعرب يسمّون ما تحت ملوك العجم كلّه «فارس» ، و «أصبهان» كان منها. ولم يعلم اسم أبي سلمان، وسئل عن نسبه فقال: أنا سلمان ابن الإسلام:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا انتسبوا لقيس أو تميم
ويقال: سلمان الحبر- بالمهملة فالموحدة، وقيل: بالمعجمة والتحتية [الخير]- وهو صحابيّ كبير؛
قيل: عاش مائتين وخمسين سنة، وقيل: ثلثمائة وخمسين سنة، والأوّل أصحّ، ومات سنة: ستّ وثلاثين. روي له ستّون حديثا. وكان قوي الجسم، صحيح الرأي، عالما بالشرائع وغيرها، وأدرك حواري عيسى، وقرأ الكتابين، وأصله مجوسيّ. وهو الذي دلّ المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب حتى اختلف عليه المهاجرون والأنصار؛ كلاهما يقول: سلمان منا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سلمان منّا أهل البيت» .
وكان عطاؤه خمسة آلاف؛ يفرّقه ويأكل من كسب يده يعمل الخوص، وله مزيد اجتهاد في الزهد، فإنه مع طول عمره المستلزم لزيادة الحرص لم يزدد إلّا زهدا.
وسئل علي كرّم الله وجهه عنه؛ فقال: علم العلم الأوّل والعلم الآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منّا أهل البيت.
قيل: هرب من أخيه؛ وكان مجوسيا فلحق براهب، ثم بجماعة من الرهبان(1/281)
رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، ...
في القدس الشريف؛ وكان في صحبتهم إلى وفاة آخرهم، فدلّه الحبر إلى الحجاز، وأخبره بظهور النبي صلّى الله عليه وسلم. فقصد الحجاز مع جمع من الأعراب، فباعوه في وادي القرى من يهودي، ثم اشتراه منه يهوديّ آخر من قريظة؛ فقدم به المدينة، فأقام بها حتى قدمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان الراهب قد وصف له بالعلامات الدالّة على النبوة، فجاء (رضي الله عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: في السّنة الأولى من الهجرة (حين) - ظرف ل «جاء» - (قدم) - بكسر الدال- أي: فجاء حين أوقات قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم (المدينة) المنوّرة (بمائدة) - الباء للتعدية؛ أو للمصاحبة- أي:
ومعه مائدة. والمشهور عند أرباب اللغة: أنّ المائدة خوان عليه طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فلا يسمى «مائدة» ، بل يقال له «خوان» .
فالمائدة من الأشياء التي تختلف أسماؤها باختلاف أوصافها،
كالبستان؛ فإنه لا يقال له «حديقة» إلّا إذا كان عليه حائط.
وكالقدح؛ فإنّه لا يقال له «كأس» إلّا إذا كان فيه شراب.
وكالدلو؛ فإنه لا يقال له «سجل» إلّا إذا كان فيه ماء.
وكالمجلس؛ فإنه لا يقال له «ناد» إلّا وفيه أهله.
وكالمرأة؛ فإنّه لا يقال لها «ظعينة» إلّا ما دامت راكبة الهودج.
وكالقدح؛ فإنه لا يقال له «سهم» إلّا إذا كان فيه نصل وريش.
وكالشجاع؛ فإنّه لا يقال له «كميّ» إلّا إذا كان شاكي السلاح.
وكالخيط؛ فإنه لا يقال له «سمط» إلّا إذا كان فيه نظم. وهكذا ...
وحينئذ فقوله (عليها رطب) لتعيين ما عليها من الطعام؛ بناء على القول بأن الرّطب طعام. وعلى القول بأنه من الفواكه؛ وليس بطعام!! تكون المائدة هنا(1/282)
فوضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال:
«يا سلمان.. ما هذا؟» .
مستعارة للظرف، وإنما سمّيت «مائدة» لأنها تميد بما عليها؛ أي: تتحرّك. وقيل:
لأنها تميد من حولها مما عليها، أي: تعطيهم. فهي على الأول من ماد؛ إذا تحرك، وعلى الثاني من ماد؛ إذا أعطى. وربما قيل فيها: ميدة؛ كقول الراجز:
وميدة كثيرة الألوان ... تصنع للجيران والإخوان
(فوضعت) - بالبناء للمفعول- أي: المائدة (بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم) قال العراقي في «شرح تقريب المسانيد» : اعلم أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ ما أحضره سلمان كان رطبا فقط. وروى أحمد، والطبراني بإسناد جيد؛ من حديث سلمان نفسه أنه قال: فاحتطبت حطبا فبعته، فصنعت طعاما؛ فأتيت به النبي صلّى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني أيضا بإسناد جيّد: فاشتريت لحم جزور بدرهم؛ ثم طبخته، فجعلت قصعة ثريد فاحتملتها على عاتقي، ثم أتيت بها ووضعتها بين يديه. فلعل المائدة كان فيها طعام ورطب!!.
وأما ما رواه الطبراني؛ من حديث سلمان أيضا: أنّها تمر، فضعيف.
ولا مانع من الجمع بين الثلاثة لو صحّت الرواية، فتكون المائدة مشتملة على الرطب، وعلى الثريد، وعلى اللحم.
وخصّ الرطب؛ لكونه المعظم. والله أعلم.
(فقال: «يا سلمان) - ناداه بقوله «يا سلمان» جبرا لخاطره. ولعله صلّى الله عليه وسلم علم اسمه بنور النبوة، أو بإخبار من حضر، أو أنّه لقيه قبل ذلك وعرف اسمه (ما هذا؟» ) الذي وضعته بين يديّ، يعني: أي نوع من الأنواع التي نوّع الشرع الأشياء عليها وقسمها إليها: أهو صدقة، أم هدية؟! فليس السؤال عن حقيقة المائدة ومفهومها؛ كما هو المتبادر من التعبير ب «ما» ، لأنها يسأل بها عن الحقيقة، إذ ليس الغرض من بيان حقائق الأشياء في هذا المقام إلّا ما يدور عليه الاعتبار الشرعي، والشيء بدونه كأنّه لا حقيقة له.(1/283)
فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك. فقال: «ارفعها؛ فإنّا لا نأكل الصّدقة» . قال: فرفعها. فجاء الغد بمثله فوضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: «ما هذا يا سلمان؟» .
فقال: هديّة لك.
(فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك) عبّر هنا ب «على» ؛ وباللام فيما يأتي!! لأنّ المقصود من الصدقة معنى الترحّم، ومن الهدية معنى الإكرام، وشرّك هنا بينه صلّى الله عليه وسلم وبين أصحابه، واقتصر فيما يأتي عليه صلّى الله عليه وسلم!! إشارة إلى أن الأصحاب يشاركونه في المقصود من الصدقة، وأنّه مختصّ بالمقصود من الهدية.
(فقال: «ارفعها) - أي: المائدة، أو الصدقة من بين يديّ، أو: عني.
لرواية أحمد، والطبراني وغيرهما من طرق عديدة؛ أنّه صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
«كلوا» . وأمسك يده فلم يأكل. قال العراقي: فيه تحريم صدقة التطوّع على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الصحيح المشهور- (فإنّا لا نأكل الصّدقة» ) . الظاهر اللائق بالمقام أنّه أراد نفسه فقط، وأتى بالنون الدالّة على التعظيم اللائق بمقامه الشريف!! تحدثا بالنعمة. أي: أن الصدقة لا تليق بجنابه صلّى الله عليه وسلم لما فيها من معنى التراحم.
(قال) ؛ أي: بريدة بن الحصيب الراوي للحديث: (فرفعها) - أي- سلمان من عنده صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه؛ لا مطلقا- كما تقدّم- أو فرفعها بعد فراغهم من أكلها.
(فجاء) - أي- سلمان (الغد) - بنصب «الغد» - (بمثله) ؛ أي: فجاء سلمان في الغد بمثل ما جاء به أولا. أو المراد «من الغد» وقت آخر؛ وإن لم يكن هو اليوم الذي بعد اليوم الأول.
(فوضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال «ما هذا يا سلمان؟» ) أي: أهو صدقة أم هدية!؟ كما تقدّم، وخاطبه باسمه ثانيا تلطّفا على مقتضى رسمه.
(فقال: هديّة لك) . تقدّم حكمة تعبيره هنا باللام وحكمة الاقتصار عليه صلّى الله عليه وسلم.(1/284)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أبسطوا» ...
(فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه) - أي: بطريق الانبساط؛ دفها لوهمهم أنّ هذه مختصّة له؛ فليس لهم أن يأكلوا منها، وإشارة إالى حسن الأدب مع الخدم والأصحاب؛ إظهارا لما أعطيه من الخلق العظيم والكرم العميم- (: «أبسطوا» ) بهمزة مضمومة فموحّدة فمهملة-: أمر من البسط- بالموحدة والمهملتين-؛ من حدّ «نصر» . وفي رواية: «انشطوا» - بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الشين المعجمة-: أمر من النشاط. وفي أخرى: «انشقّوا» بالقاف المشددة. ومعنى هذه الرواية: انفرجوا ليتّسع المجلس. ومعنى الرواية التي قبلها: ميلوا للأكل معي، وكلّ ما مال الشخص لفعله وآثره؛ فقد نشط له. وأما الرواية الأولى فيحتمل أن معناها: انشروا الطعام ليصله كلّ منكم؛ فيكون من «بسطه» بمعنى «نشره» ، ويحتمل أن معناها: مدّوا أيديكم للطعام. فيكون من بسط يده؛ أي: مدّها.
ويحتمل أن معناها: سرّوا سلمان بأكل طعامه، فيكون من بسط فلان فلانا: سرّه.
ويحتمل أن معناها: وسّعوا المجلس ليدخل بينكم سلمان. فيكون من «بسط الله الرزق لفلان» : وسّعه. وعلى كلّ من هذه الروايات والاحتمالات؛ فقد أكل النبي صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه من هذه الهدية.
ويؤخذ من ذلك أنه يستحبّ للمهدى له يعطي الحاضرين مما أهدي له، وهذا المعنى مؤيّد لحديث: «من أهدي له هديّة؛ فجلساؤه شركاؤه فيها» ؛ وإن كان ضعيفا. والمراد بالجلساء؛ كما قال الترمذي في «نوادر الأصول» : الذين يداومون مجلسه، لا كلّ من كان جالسا إذ ذاك.
وحكي أن بعض الأولياء أهدي له هدية من الدراهم والدنانير، فقال له بعض جلسائه: يا مولانا؛ الهدية مشتركة. فقال: نحن لا نحبّ الاشتراك. فتغيّر ذلك القائل لظنّه أنّ الشيخ يريد أن يختصّ بالهدية. فقال الشيخ: خذها لك وحدك، فأخذها فعجز عن حملها، فأمر الشيخ بعض تلامذته فأعانوه.
وحكي أنّه أهدي لأبي يوسف هدية من الدراهم والدنانير؛ فقال له بعض(1/285)
ثمّ نظر إلى الخاتم على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فآمن به.
وكان لليهود، فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا وكذا درهما ...
جلسائه: يا مولانا؛ الهدية مشتركة. فقال: «أل» في «الهدية» للعهد، والمعهود هديّة الطعام. فانظر الفرق بين مسلك الأولياء ومسلك الفقهاء!!.
(ثمّ نظر إلى الخاتم) - بالفتح ويكسر- (على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أتى ب «ثم» لتراخي زمان النظر عن هذا المجلس، لما في كتب السّير: أنّ سلمان لبث بعد ذلك ينتظر رؤية الآية الثالثة التي أخبره عنها آخر مشايخه أنّه سيظهر حبيب عن قريب؛ ومن علاماته القاطعة على أنّه هو النبي الموعود الذي ختم به النبوة: أنّه لا يأكل الصدقة؛ ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة. فلما شاهد سلمان العلامتين المتقدمتين انتظر الآية الثالثة، إلى أن مات واحد من نقباء الأنصار؛ فشيّع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جنازته؛ وذهب معها إلى بقيع الغرقد، وجلس مع أصحابه في ذلك المكان ينتظر دفنه، فجاء سلمان واستدار خلفه لينظر إلى خاتم النبوة، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم استدباره عرف أنّه يريد أن يستثبت شيئا وصف له، فألقى الرداء عن ظهره؛ فنظر سلمان إلى الخاتم (فآمن به) ؛ بلا تراخ ولا مهلة، لتمام العلامات وتكامل الآيات، فالفاء متفرّع على مجموع ما سبق من الآيات الثلاث. أي: فلما تمّت الآيات وكملت العلامات آمن به.
(و) الحال أنّه (كان) رقيقا (لليهود) ؛ أي: يهود بني قريظة، ولعلّه كان مشتركا بين جمع منهم، أو كان لواحد منهم. (فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - يعني:
كان سببا في كتابة سيّده اليهودي له لأمره بذلك، أو لإعانته على وفاء ما لو كوتب عليه، فتجوّز ب «الشراء» عن إعانته في الأداء- (بكذا وكذا درهما) ، أي: بعدد يشتمل على العطف، ولم يبيّنه في هذا الحديث. وفي بعض الروايات أنّه: أربعون أوقية. قيل: من فضة، وقيل: من ذهب. والأوقية: كانت إذ ذاك أربعين درهما، وقد بقي عليه ذلك حتّى أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب، فقال: «ما فعل الفارسيّ المكاتب» فدعي له. فقال: «خذها فأدّها ممّا(1/286)
على أن يغرس لهم نخلا فيعمل سلمان فيه حتّى يطعم، فغرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّخيل ...
عليك» . قال سلمان: فأين تقع هذه مما عليّ!؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «خذها؛ فإنّ الله سيؤدّي عنك بها» . قال سلمان: فأخذتها؛ فوزنت لهم منها أربعين أوقية؛ فأوفيتهم حقّهم. فعتق سلمان رضي الله تعالى عنه. وقصّته مشهورة.
(على أن يغرس) - بفتح الياء وكسر الراء- (لهم) ؛ أي: لمن يملك سلمان (نخلا) ، وفي رواية «نخيلا» وهو والنخل بمعنى واحد، والواحدة النخلة.
و «على» بمعنى «مع» ؛ أي: مع أن يغرس. ويؤيده: ما في رواية «وعلى» بالواو العاطفة؛ أي: فكاتبوه على شيئين: الأواقي المذكورة، وغرس النخل مع العمل فيه حتّى يطلع. ولم يبين في هذا الحديث عدد النخل!! وفي بعض الروايات أنّه كان ثلثمائة. فقال صلّى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم» ، فأعانوه فبعضهم بثلاثين وديّة «1» ، وبعضهم بخمس عشرة، وبعضهم بما عنده حتى جمعوا ثلثمائة وديّة.
(فيعمل) - بالنصب معطوف على «يغرس» - (سلمان) - ليفيد أنّ عمله من جملة عوض الكتابة- (فيه) ، وفي بعض نسخ «الشمائل» : فيها. وكلّ صحيح، لأنّ النخل والنخيل يذكّران ويؤنّثان؛ كما في كتب اللغة.
(حتّى يطعم) - بالمثناة التحتية، أو الفوقية- وعلى كلّ فهو بالبناء للفاعل؛ أو المفعول، ففيه أربعة أوجه، لكن أنكر الحافظ ابن حجر بناءه للمجهول. وقال:
ليس في روايتنا وأصول مشايخنا!!. والمعنى على بنائه للفاعل؛ حتّى يثمر، وعلى بنائه للمفعول حتّى تؤكل ثمرته.
(فغرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّخيل) جميعها بيديه الكريمتين، لأنّه صلّى الله عليه وسلم خرج مع سلمان؛ فصار سلمان يقرّب له صلّى الله عليه وسلم الوديّ، فيضعه بين يديه.
قال سلمان: فو الذي نفسي بيده؛ ما مات منها وديّة، فأدّيت النخل؛ وبقي
__________
(1) فسيلة النخل.(1/287)
إلّا نخلة واحدة غرسها عمر، فحملت النّخل من عامها، ولم تحمل النّخلة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما شأن هذه النّخلة؟» . فقال عمر: يا رسول الله؛ أنا غرستها، فنزعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغرسها، فحملت من عامها.
عليّ المال حتّى أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة ... إلى آخر ما تقدّم.
(إلّا نخلة) - بالنصب على الاستثناء- (واحدة) للتأكيد (غرسها عمر) بن الخطّاب، وفي بعض الشروح أنّ حكاية غرس عمر رضي الله تعالى عنه نخلة وعدم حملها من عامها غير منقولة إلّا في حديث الترمذي، وليس فيما سواه من أخبار سلمان رضي الله تعالى عنه.
(فحملت) - أي: أثمرت- (النّخل من عامها) الذي غرست فيه- على خلاف المعتاد- استعجالا لتخليص سلمان من الرقّ ليزداد رغبة في الإسلام.
(ولم تحمل النّخلة) ؛ وفي رواية: ولم تحمل نخلة عمر، أي: لم تثمر من عامها وعدم حملها واقع على سنن ما هو المتعارف؛ إفادة لكمال امتياز رتبة النبي صلّى الله عليه وسلم عن رتبة غيره، ومقدّمة لمعجزتين من معجزاته، لأن غرس النخل له ميقات معلوم؛ (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما شأن هذه النّخلة؟» ) أي: ما حالها وما بالها. لم تحمل؛ مع أنّ صواحباتها قد حملت جميعا!.
(فقال عمر) رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ أنا غرستها) ، ولم تغرسها أنت؛ فلم تثمر كصواحباتها، ليظهر كمال تميّزك على غيرك. وكأنّ عمر رضي الله تعالى عنه ما عرف أنّه صلّى الله عليه وسلم أراد بالغرس إظهار المعجزة؛ بل مجرّد المعاونة.
(فنزعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغرسها) ثانيا بيديه في غير الوقت المعلوم لغرس النخل.
(فحملت من عامها) ؛ أي: من عام غرسها، وفي رواية «من عامه» ؛ أي:
الغرس. والحكمة من ذلك: أن يظهر المعجزة بإطعام الكلّ سوى ما لم يغرسه كل الظهور، ويتسبّب لظهوره معجزة أخرى؛ وهي غرس نخلة عمر ثانيا وإطعامها في عامها، ففيه معجزتان غير ما سبق: الغرس في غير أوان الغرس، والإثمار من عامه. والله أعلم.(1/288)
[الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله]
الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرى باللّيل في الظّلمة كما يرى بالنّهار في الضّوء.
(الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلم) وهو: النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات؛ كما في «المصباح» .
وهو بمعنى قول المتكلّمين: قوّة مودعة في العين، وهو صريح في أنّه شيء مخلوق في العين زائد عليها.
(و) في صفة (اكتحاله) ؛ أي: استعماله الكحل، وما يتعلّق بذلك.
أمّا بصره الشّريف! ففي «المواهب» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى باللّيل في الظّلمة) ؛ احترازا عمّا إذا كان مع القمر (كما يرى بالنّهار في الضّوء) متعلّق بالنهار، للاحتراز عما إذا كان في بيت مظلم؛ أو في يوم غيم، فلا يقال لا حاجة إليه بعد ذكر النهار. والمعنى أنّ رؤيته في النهار الصافي والليل متساوية، لأنّ الله تعالى لما رزقه الاطلاع بالباطن والاحاطة بإدراك مدركات القلوب؛ جعل له مثل ذلك في مدركات العيون، ومن ثمّ كان يرى المحسوس من وراء ظهره كما يراه من أمامه؛ كما يأتي.
قال القاضي عياض: وإنّما حدثت هذه الآية له بعد ليلة الإسراء، كما أن موسى كان يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ بعد ليلة الطور.
انتهى؛ نقله عنه الزرقاني على «المواهب» .
ولا يرد عليه حديث (أنّه صلّى الله عليه وسلم قام ليلة فوطىء على زينب بنت أمّ سلمة بقدمه(1/289)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى من خلفه من الصّفوف كما يرى من بين يديه.
وهي نائمة؛ فبكت، فقال: «أميطوا عنّا زيانبكم» !! لأنه حجب عن ذلك حينئذ، ليعلّم أنّه لا ينام أحد ببيت ذي الأهل؛ كذا قاله الزرقاني. وقال الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» : لأنّ زينب رضي الله تعالى عنها كانت بنتا صغيرة مغطّاة بإزار ونحوه في جانب البيت، ومثلها قد لا يرى بالنهار أيضا. انتهى.
وهذا الحديث الذي أورده المصنّف ذكره في «المواهب اللدنّيّة» ؛ وقال:
رواه البخاري، وتبعه المصنّف في «الأنوار المحمدية» ، وتعقّبه الزّرقاني في «شرح المواهب» بأنه لم يجده في البخاري، وإنما عزاه السيوطي وغيره للبيهقي في «الدلائل» ؛ وقال: إنّه حسن. قال شارحه: ولعله لاعتضاده!! وإلّا!! فقد قال السهيلي: ليس بقويّ. وضعّفه ابن دحية؛ أي: نقل تضعيفه في كتاب «الآيات البينات» ؛ عن ابن بشكوال، لأن في سنده ضعفا؛ فكيف يكون في البخاري!!. ورواه البيهقي؛ عن عائشة بلفظ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء. وبهذا اللفظ رواه ابن عديّ وبقيّ بن مخلد، وضعّفه ابن الجوزي والذّهبيّ، لكنه يعتضد بشواهده، فهو حسن؛ كما قال السيوطي. انتهى كلام الزرقاني، ونحوه في الشهاب الخفاجي على «الشفاء» .
(و) في «المواهب» و «شفاء» القاضي عياض؛ عن مجاهد بن جبر- فيما رواه عنه الحميدي «شيخ البخاري» ، والبيهقيّ، وابن المنذر مرسلا؛ في تفسير قوله تعالى (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)
(219) [الشعراء]- قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يرى من) - بفتح الميم: موصول- أي: الذي (خلفه من الصّفوف كما يرى من) - بفتح الميم- أي: الذي (بين يديه) .
قال الشهاب الخفاجي والقسطلّاني في «المواهب» : وهذا الحديث رواه مالك والبخاريّ ومسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن بلفظ: قال صلّى الله عليه وسلم:
«هل ترون قبلتي ههنا!!، فو الله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا خشوعكم، وإنّي لأراكم من وراء ظهري» .(1/290)
.........
وعند مسلم؛ من رواية أنس بن مالك أنه صلّى الله عليه وسلم؛ قال: «أيّها النّاس؛ إنّي إمامكم، فلا تسبقوني بالرّكوع ولا بالسّجود، فإنّي أراكم من أمامي ومن خلفي» .
وفي البخاريّ؛ عن أنس: صلّى بنا النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة ثمّ رقى المنبر؛ فقال في الصلاة وفي الركوع: «إنّي لأراكم من ورائي كما أراكم من أمامي» .
وفي مسلم: «إنّي لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يديّ» .
وفي أخرى لمسلم: «إنّي لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يديّ» .
وفي بعض الروايات لعبد الرزاق، والحاكم: «إنّي لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يديّ» ، ورواه أيضا مالك وأحمد وغيرهما وفي لفظه اختلاف. انتهى كلامهما.
قال في «المواهب» : وهذه الرؤية المذكورة في حديث ابن عبّاس وعائشة وأبي هريرة وأنس ومجاهد رؤية إدراك، أي: إبصار حقيقيّ خاصّ به صلّى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة، ولذا أخرجه البخاري في «علامات النبوّة» .
والرؤية من حيث هي؛ لا بقيد وصف المصطفى بها؛ لا تتوقّف على وجود آلتها التي هي العين عند أهل الحقّ، ولا تتوقّف على وجود شعاع؛ ولا على مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم العالي.
أما المخلوق! فتتوقّف صفة الرؤية في حقّه على الحاسّة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان ما ذكر من إبصاره من وراء ظهره خرق عادة في حقّه عليه الصلاة والسلام، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها.
قال الحرالّي- بفتح الحاء المهملة والراء وشد اللام-: وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالّة على ما في حقيقة أمره في الاطلاع الباطن؛ لسعة علمه ومعرفته، لمّا عرّفهم بربّه- بأن بلّغهم بأنه إله واحد في ذاته وصفاته، مستحقّ لأن يعبد.. وغير ذلك مما يليق به، ولم يعرّفهم بنفسه، وما اشتملت عليه ذاته من الكمالات- أطلعه على ما بين يديه مما تقدّم من أمر الله، وعلى ما وراء الوقت مما تأخّر من أمر الله؛(1/291)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى في الثّريّا أحد عشر نجما.
من كلّ ما يكون إلى يوم القيامة، فلما كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب؛ جعل الله تعالى له صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه؛ كما قال صلّى الله عليه وسلم. انتهى كلام الحرالي.
وحاصله- كما قاله بعضهم-: أنّه من قبيل الكشف عن المرئيات؛ فهو من الخوارق. انتهى كلام «المواهب» ؛ مع شيء من «شرح الزرقاني» .
(و) في «المواهب اللدنية» ؛ نقلا عن القاضي عياض: (كان) وفي «الشفاء» بلفظ: وقد حكي عنه (صلّى الله عليه وسلم) أنّه كان (يرى في الثّريّا أحد عشر نجما) ليلا؛ أو ليلا ونهارا؛ لما مرّ: أن رؤيته فيهما سواء، وعند السّهيلي: اثني عشر، وجزم القرطبيّ بالأول، ونظمه في أرجوزته؛ فقال:
وهو الّذي يرى النّجوم الخافيه ... مبيّنات في السّماء العاليه
أحد عشر نجما في الثّريّا ... لناظر سواه ما تهيّا
وقال السيوطي في «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» : هذا لم يوجد في شيء من كتب الحديث!! ونحوه قول الخيضري في خصائصه: ما ذكره القرطبيّ والسّهيلي: لم أقف له على سند ولا أصل يرجع إليه، والناس يذكرون أنها لا تزيد على تسعة أنجم فيما يرون. انتهى، وهذا عجيب مع قول التلمساني: جاء في حديث ثابت عن العبّاس، ذكره ابن أبي خيثمة. انتهى.
والثريا- مصغّر ثروة؛ وهي الكثرة- وهي: منزل من منازل القمر فيه نجوم مجتمعة جعلت علامة، فقول بعض الشراح «أنها كوكب» وهم منه؛ قال في «مباهج الفكر» : وهي ستة أنجم صغار طمس، ويظنّها من لا معرفة له سبعة، وهي مجتمعة بينها نجوم صغار؛ كالرشاش، وحكي أن الثريّا اثنا عشر نجما لم يحقّق الناس منها غير ستة؛ أو سبعة، ولم ير جميعها غير النبي صلّى الله عليه وسلم لقوّة جعلها الله تعالى في بصره.
والنجم علم لها بالغلبة، كالكوكب للزّهرة. انتهى شرح «الشفاء»(1/292)
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يقعد في بيت مظلم حتّى يضاء له بالسّراج. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه النّظر إلى الخضرة والماء الجاري.
للخفاجي؛ وشرح «المواهب» .
(و) روى ابن سعد في «طبقاته» ، والبزار- بسند فيه جابر الجعفي؛ عن أبي محمد- قال في «الميزان» : قال ابن حبان: وجابر قد تبرّأنا من عهدته، وأبو محمد: لا يجوز الاحتجاج به-؛ كما في المناوي؛ على «الجامع» -؛
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يقعد في بيت مظلم حتّى يضاء له بالسّراج) أي:
يوقد له السراج، ولكنه كان يطفيه عند النوم، وفي خبر رواه الطبراني؛ عن جابر رضي الله عنه: أنه كان يكره السّراج عند الصبح. انتهى.
(و) روى ابن السنّي، وأبو نعيم في «الطب النبوي» بسند ضعيف؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعجبه النّظر إلى الخضرة) - أي: الشجر والزرع الأخضر بقرينة قوله- (والماء الجاري) ؛ أي:
كان يحبّ مجرّد النظر إليهما ويلتذّ به؛ فليس إعجابه بهما ليأكل الخضرة، أو يشرب الماء، أو ينال فيهما حظّا سوى نفس الرؤية. قال الغزالي: ففيه أنّ المحبّة قد تكون لذات الشيء؛ لا لأجل قضاء شهوة منه، وقضاء الشهوة لذّة أخرى، والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار، والأطيار المليحة والألوان الحسنة، حتّى أنّ الإنسان ليفرج عنه الهمّ والغمّ بالنظر إليها؛ لا لطلب حظّ وراء النظر. انتهى «مناوي» .
(و) روى الطبرانيّ في «الكبير» ، وابن السّنّي، وأبو نعيم: كلاهما في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن أبي كبشة الأنماري رضي الله تعالى عنه.
وابن السني في «الطب النبوي» ، وابن حبان، وأبو نعيم؛ كلّهم عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.(1/293)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه النّظر إلى الأترجّ.
وكان يعجبه النّظر إلى الحمام الأحمر.
وأمّا اكتحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا اكتحل.. جعل في عين اثنتين ...
وأبو نعيم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وهو حديث ضعيف.
قالوا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعجبه النّظر إلى الأترجّ) المعروف؛ بضمّ الهمزة وسكون الفوقية وضمّ الراء وشدّ الجيم، - وفي رواية: «الأترنج» بزيادة نون بعد الراء وتخفيف الجيم: لغتان، قال السيوطي: وهو مذكور في التنزيل ممدوح في الحديث؛ منوّه به فيه بالتفضيل، بارد رطب، في الأولى يصلح غذاء ودواء ومشموما ومأكولا، يبرّد عن الكبد حرارته، ويزيد في شهوة الطعام، ويقمع المرّة الصفراء، ويسكّن العطش، وينفع للقوة، ويقطع القيء والإسهال المزمنين.
فائدة: في كتاب «المنن» أن الشيخ محمد الحنفي المشهور كان الجنّ يحضرون مجلسه؛ ثم انقطعوا، فسألهم؛ فقالوا: كان عندكم أترجّ. ونحن لا ندخل بيتا فيه أترج. انتهى.
(وكان يعجبه النّظر إلى الحمام الأحمر) ذكر ابن قانع في «معجمه» عن بعضهم: أن الحمام الأحمر المراد به في هذا الحديث: التفّاح، وتبعه ابن الأثير؛ فقال: قال أبو موسى: قال هلال بن العلاء: هو التفاح، قال: وهذا التفسير لم أره لغيره؛ قاله المناوي في «كبيره على الجامع الصغير» . وقال الحفني على «الجامع» : الحمام المراد به التفاح، فيكون من باب الاستعارة، ولم يقل أحد من الشرّاح التي بأيدينا أن المراد به الطير المعروف. انتهى كلام الحفني.
(وأمّا اكتحال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - أي: استعماله للكحل- (فقد) روى أبو يعلى، والطبراني في «الكبير» بإسناد ضعيف؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اكتحل جعل في عين) - بالتنوين- (اثنتين) ؛(1/294)
وواحدة بينهما؛ أي: جعل في كلّ عين مرودين، وواحد يقسم بينهما، فالمجموع وتر، وهو خمسة مراود.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اكتحل.. اكتحل وترا، وإذا استجمر.. استجمر وترا. وكان له صلّى الله عليه وسلّم مكحلة ...
أي: في كلّ عين مرودين (وواحدة بينهما) . قال المناوي: أي: في هذه؛ أو في هذه ليحصل الإيتار المطلوب، انتهى.
وقال الشيخ: (أي: جعل في كلّ عين مرودين، وواحد يقسم بينهما) ؛ أي: يكتحل ببعضه في اليمنى وبعضه في اليسرى، (فالمجموع وتر؛ وهو خمسة مراود) ؛ انتهى «عزيزي» .
قال المناوي في «كبيره» : وأكمل من ذلك ما ورد عنه أيضا في عدّة أحاديث أصحّ منها: أنّه يكتحل في كلّ عين ثلاثا- كما سيأتي- لكن السنة تحصل بكلّ. انتهى.
(و) روى الإمام أحمد في «مسنده» ، والطبرانيّ؛ عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اكتحل؛ اكتحل وترا) ؛ أي:
ثلاثا متوالية في العين اليمنى، وثلاثا متوالية في الشمال، هذا هو الأفضل، وإن كان أصل السّنّة يحصل بكيفيّات أخر في الوتر.
(وإذا استجمر) ؛ أي: تبخّر بنحو عود (استجمر وترا) ؛ أي: تبخّر ثلاث مرات، وسمّي التبخّر «استجمارا» !! لأن نحو العود يوضع على الجمر، وما قيل: «إنّ المراد استعمل الحجر في الاستنجاء» !! بعيد عن السياق؛ وإن كان صحيحا؛ قاله الحفني كالمناوي والعزيزي.
(و) روى الترمذيّ، وابن ماجه؛ كلاهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (كان له صلّى الله عليه وسلم مكحلة) - بضمّ أوّله وثالثه، وقياسها الكسر لأنّها اسم آلة، فهي من النوادر التي جاءت بالضمّ- والمراد منها: ما فيه الكحل؛ وهي معروفة، والمكحل كمفتح، والمكحال كمفتاح هو: الميل.(1/295)
يكتحل منها كلّ ليلة، ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه.
(يكتحل منها) بالإثمد (كلّ ليلة) - بالنصب- أي: في كلّ ليلة قبل أن ينام، وإنّما كان ليلا!! لأنّه أبقى للعين وأمكن في السراية إلى طبقاتها، لأنّه يلتقي عليه الجفنان. (ثلاثة) متوالية (في هذه) ؛ أي: اليمنى، (وثلاثة) كذلك (في هذه) ؛ أي: اليسرى. وحكمة التثليث: توسّطه بين الإقلال والإكثار.
ويسنّ فيه التيامن، لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ التيمّن في شأنه كلّه؛ قال الزين العراقي:
وهل تحصل سنّيّة التيمّن باكتحاله مرّة في اليمنى ومرّة في اليسرى؛ ثم يفعل ذلك ثانيا وثالثا، أو لا يحصل إلّا بتقديم المرّات الثلاث في الأولى؟!
الظاهر الثاني؛ قياسا على العضوين المتماثلين في الوضوء كاليدين، ويحتمل حصولها بذلك قياسا على المضمضة والاستنشاق في بعض صوره المعروفة في الجمع والتفريق.
وما ذكر في هذه الرواية من «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يكتحل كلّ ليلة ثلاثا» !! يخاف:
1- ما رواه الطبراني في «الكبير» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثة مراود، وفي الأخرى مرودين؛ يجعل ذلك وترا» ، و 2- ما رواه ابن عديّ في «الكامل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكتحل في اليمنى ثنتين، وفي اليسرى ثنتين؛ وواحدة بينهما» !! ومن ثمّ قيل- في خبر «من اكتحل فليوتر» المرويّ في أبي داود-: فيه قولان: أحدهما؛ كون الإيتار في كلّ واحدة من العينين.
الثاني: كونه في مجموعهما، قال الحافظ ابن حجر: والأرجح الأوّل؛ قال ابن سيرين: وأنا أحبّ أن يكون في هذه ثلاثا؛ وفي هذه ثلاثا، وواحدة بينهما ليحصل الإيتار في كلّ منهما، وفي مجموعهما، وبهذا صارت الأقوال في الإيتار ثلاثة.
وقد ذكر بعضهم أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفتتح في الاكتحال باليمنى، ويختم بها تفضيلا لها، وظاهره أنه كان يكتحل في اليمنى ثنتين وفي اليسرى كذلك، ثم يأتي بالثالثة(1/296)
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارقه في الحضر، ولا في السّفر خمس: المرآة، والمكحلة، والمشط، ...
في اليمنى ليختم بها ويفضّلها على اليسرى بواحدة.
ويمكن الجمع بين هذه الروايات باختلاف الأوقات ففعل كلا في وقت.
ثم اعلم أنّ الاكتحال عندنا- معاشر الشافعية- سنّة، للأحاديث الواردة فيه.
قال ابن العربي: الكحل يشتمل على منفعتين:
إحداهما: الزينة، فإذا استعمل بنيّتها فهو مستثنى من التصنّع المنهيّ عنه الذي يلبّس الصنعة بالخلقة؛ كالوصل والوشم والتفلّج والتنمّص؛ رحمة من الله لخلقه، ورخصة منه لعباده.
والثانية: التطبّب، فإذا استعمل بنيّته؛ فهو يقوّي البصر وينبت الشعر الذي يجمع النور للإدراك، ويصدّ الأشعة الغالبة له.
ثم إن كحل الزينة لا حدّ له شرعا، وإنما هو بقدر الحاجة في بدوّه وخفائه.
وأما كحل المنفعة! فقد وقّته صاحب الشرع كلّ ليلة كما تقرّر.
وفائدته: أنّ الكحل عند النوم يلتقي عليه الجفنان، ويسكّن حرارة العين، ويتمكّن الكحل من السراية في تجاويف العين، ويظهر تأثيره في المقصود من الانتفاع. انتهى ملخصا من «الباجوري، والمناوي» .
(و) روى العقيلي في «الضعفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وابن طاهر في كتاب «صفوة التصوف» ؛ من حديث أبي سعيد، والخرائطيّ؛ من حديث أم سعد الأنصارية، وطرقه كلّها ضعيفة- كما قاله المناوي في «كبيره» - قالوا:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يفارقه في الحضر؛ ولا في السّفر خمس) - من الآلات-: (المرآة) - بكسر الميم والمدّ-، (والمكحلة) - بالميم والحاء المضمومتين: وعاء الكحل-، (والمشط) - الذي يمتشط؛ أي: يسرّح به، وهو(1/297)
والسّواك، والمدرى.
و (المدرى) : شيء يعمل من حديد أو خشب، على شكل سنّ من أسنان المشط وأطول منه، يسرّح به الشّعر المتلبّد، ويستعمله من لا مشط له.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اكتحلوا بالإثمد، ...
بضم الميم عند الأكثر، وتميم تكسرها؛ قال في «المصباح» : وهو القياس.
قيل: وكان من عاج- (والسّواك، والمدرى) - بكسر الميم وبالدال المهملة بدون همزة- قال في «النهاية» : شيء يعمل من حديد؛ أو خشب على شكل سنّ من أسنان المشط، وأطول منه يسرّح به الشعر المتلبّد، ويستعمله من لا مشط له.
انتهى.
وفي ضمنه إشعار بأنه كان يتعهّد نفسه بالترجيل وغيره مما ذلك آلة له، وذلك من سننه المؤكّدة، لكنه لا يفعل ذلك كلّ يوم، بل نهى عنه، ولا يلزم من كون المشط لا يفارقه أن يمتشط كلّ يوم؛ فكان يستصحبه معه في السفر ليمتشط به عند الحاجة؛ ذكره الوليّ العراقي. انتهى من المناوي في «كبيره» .
قال المصنّف: (والمدرى) - بكسر الميم-: (شيء يعمل من حديد أو خشب) ؛ وهو الغالب (على شكل سنّ من أسنان المشط) - بضم الميم- (وأطول منه) - يقارب طول آلة الخرز- (يسرّح به الشّعر المتلبّد) بعضه فوق بعض، (ويستعمله من لّا مشط له) لتفكيك الشعر المجتمع المتماسك.
(و) روى الإمام أحمد؛ عن أبي النعمان الأنصاري رضي الله تعالى عنه بسند حسن، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «اكتحلوا بالإثمد) - بكسر همزته وميمه بينهما مثلثة ساكنة-: حجر الكحل المعدني المعروف؛ يجيء من المشرق، أي: دوموا على استعماله.(1/298)
فإنّه يجلو البصر، وينبت الشّعر» .
وفي رواية الإمام أحمد: «اكتحلوا بالإثمد المروّح» - أي: المطيّب- (فإنّه يجلو البصر) ؛ أي: يقوّيه ويحسّن العين، ويدفع الموادّ الرديئة المنحدرة إليها من الرأس، لا سيما إذا أضيف إليه قليل مسك.
(وينبت الشّعر» ) - بفتح العين- هنا لأجل الازدواج، ولأنّه الرواية، أي:
يقوي طبقات شعر العينين التي هي الأهداب- جمع هدب-، وإنبات شعرها مرمّة للعين، لأن الأشعار ستر للناظر، ولولاها لم يقو الناظر على النظر، فإنّما يعمل ناظر العين من تحت الشعر، فالكحل ينبته وهو مرمّته، وهذا من أدلّة الشافعية على سنّ الاكتحال.
واعتراض العصام عليهم ب «أنه؛ إنّما أمر به لمصلحة البدن، بدليل تعقيب الأمر بقوله: فإنّه ... إلى آخره، والأمر بشيء ينفع البدن لا يثبت سنّيّته» !!
ليس في محلّه، لأنّ المتبادر من الخبر أنّ الأمر بمطلق الاكتحال شرعيّ، وبخصوص الإثمد من بين سائر الأكحال إرشاديّ يتفاوت بتفاوت الأشخاص، ومن ثمّ قالوا: الاكتحال مندوب، وبخصوص الإثمد أولى. وهذا على التنزّل، وإلّا!! فقد ثبت في عدّة أخبار أنّه كان يكتحل بالإثمد، فروى البيهقيّ؛ من حديث أبي رافع أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد. وفي سنده مقال. ولأبي الشيخ في كتاب «أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم» بسند ضعيف؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إثمد يكتحل به عند منامه؛ في كلّ عين ثلاثا. انتهى.
والأصل في أفعاله صلّى الله عليه وسلم أنّها للقربة والتشريع ما لم يدلّ دليل على خلافه.
قال المحقق أبو زرعة: مذهب الشافعي أن الفعل المجرّد يدلّ على الندب، بل قال جمع من أصحابه: يدلّ على الوجوب. انتهى.
قال ابن محمود شارح «سنن أبي داود» : وتحصل سنيّة الاكتحال بتولّيه بنفسه، وبفعل غيره بأمره. وينشأ عنه جواز الوكالة في العبادة. انتهى.(1/299)
قال الباجوريّ: المخاطب بذلك الأصحّاء، أمّا العين المريضة فقد يضرّها الإثمد؛ وهو: حجر الكحل المعدنيّ المعروف، ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة.
وأقول: القياس الحصول؛ ولو بلا أمر، حيث قارنت نيّته فعل غيره، كما لو وضّأه غيره بغير إذنه وأولى. انتهى «مناوي وباجوري» .
(قال) العلّامة شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) رحمه الله تعالى في «حاشيته على شرح الشمائل الترمذية» ؛ تبعا للمناوي عند قوله: «اكتحلوا بالإثمد» : (المخاطب بذلك الأصحّاء) ؛ أي: أصحاب العيون الصحيحة، أي: السليمة من الرّمد ونحوه. (أمّا العين المريضة! فقد) يكون غير الإثمد خيرا لها، بل ربما (يضرّها الإثمد) . ثم رأيت العسقلاني قال: خيريّته باعتبار حفظه صحّة العين؛ لا في أمراضها، إذ الاكتحال به لا يوافق الرّمد.
(وهو) أي: الإثمد- بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة وكسر الميم بعدها دال مهملة-: (حجر الكحل المعدنيّ المعروف) ، قال في «المصباح» ك «التهذيب» : ويقال إنّه معرّب. (ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة) .
وقال الحفني؛ على «الجامع الصغير» : الإثمد هو الحجر الأسود من أيّ مكان كان، وقيل: خصوص الحجر الذي يجيء من «أصبهان» ، وتسمية غيره له بالإثمد!! لشبهه به في السواد، لكن المشهور الأوّل، وهو الذي يجيء من المشرق، وإنّما ينفع البصر إذا كان سليما، أو مريضا؛ وأخبر الطبيب العارف بنفعه لذلك المرض، فينبغي له إذا ضعف بصره أن يسأل الطبيب عمّا ينفعه، ولا يضع شيئا بلا سؤال. انتهى كلامه.
وفي «شرح القاموس» : الإثمد- بالكسر- حجر الكحل، وهو أسود إلى حمرة، ومعدنه بأصبهان، وهو أجوده، وبالمغرب وهو أصلب. وقال السّيرافي:(1/300)
وقال بعد قوله (يجلو البصر) : وهذا إذا اكتحل به من اعتاده، فإن اكتحل به من لم يعتده.. رمدت عينه.
الإثمد شبيه بحجر الكحل. انتهى كلام «شرح القاموس» .
(وقال) ؛ أي: الباجوري (بعد قوله «يجلو البصر) وينبت الشّعر» ؛ أي:
يقوّي البصر، ويقوي طبقات شعر العينين التي هي الأهداب. (وهذا إذا اكتحل به من اعتاده، فإن اكتحل به من لّم يعتده! رمدت عينه) ؛ أي: أصابها الرمد.(1/301)
[الفصل الثّالث في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم، وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك]
الفصل الثّالث في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم، وشيبه، وخضابه، (الفصل الثّالث) ؛ من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة شعره صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: مقداره طولا وكثرة وغير ذلك، والشّعر- بسكون العين وفتحها-:
الواحدة منه شعرة-؛ بسكون العين، وقد تفتح.
واعلم أنّ الشعر حيث جاء بدون تاء؛ فهو بفتح العين وتسكّن، وإذا جاء بالتاء فهو بسكونها وتفتح؛ قاله في «جمع الوسائل» . وقال ابن العربي: والشّعر في الرأس زينة، وتركه سنّة، وحلقه بدعة؛ قال بعض شرّاح «المصابيح» : لم يحلق النبي صلّى الله عليه وسلم رأسه في سنيّ الهجرة إلّا في عام الحديبية، وعمرة القضاء، وحجّة الوداع، فليعتبر الطول والقصر منه بالمسافات الواقعة منه في تلك الأزمنة، وأقصرها ما كان بعد حجة الوداع، فإنّه توفّي بعدها بنحو ثلاثة أشهر، ولم يقصّر شعره إلّا مرة واحدة؛ كما في «الصحيحين» ، انتهى «مناوي وباجوري» .
(و) في بيان ما ورد في (شيبه) صلّى الله عليه وسلم من الأخبار. والشّيب: ابيضاض الشعر المسودّ؛ كما في «المصباح» ، ويؤخذ من «القاموس» : أنه يطلق على بياض الشعر وعلى الشعر الأبيض.
(و) في بيان ما ورد في (خضابه) صلّى الله عليه وسلم من الأخبار، والخضاب؛ كالخضب مصدر بمعنى: تلوين الشعر بالحناء ونحوه، وهو عندنا- معاشر الشافعية- بغير السواد سنّة، وبالسواد حرام. يدلّ لنا:(1/302)
وما يتعلّق بذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل الشّعر حسنه، ليس..
1- ما في «الصحيحين» : لمّا جيء بأبي قحافة يوم الفتح للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ ولحيته ورأسه كالثّغامة بياضا؛ فقال: «غيّروا هذا بشيء واجتنبوا السّواد» .
و2- ما في «الصحيحين» أيضا؛ عن ابن عمر أنّه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة. زاد ابن سعد وغيره؛ عن ابن عمر أنه قال: فأنا أحبّ أن أصبغ بها.
و3- ما رواه أحمد، وابن ماجه؛ عن ابن وهب قال: دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو مخضوب بالحنّاء والكتم.
وعن أبي جعفر قال: شمط «1» عارضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخضب بحنّاء وكتم.
وعن عبد الرحمن الثمالي قال: كان رسول صلّى الله عليه وسلم يغيّر لحيته بماء السّدر، ويأمر بتغيير الشعر؛ مخالفة للأعاجم.
وفي حديث أبي ذر: «إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم» أخرجه الأربعة.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: دخل رجل على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو أبيض الرأس واللحية، فقال: «ألست مؤمنا» ؟! قال: بلى!. قال: «فاختضب» . لكن قيل: إنه حديث منكر. ولا يعارض ذلك ما ورد: أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه، لتأويله جمعا بين الأخبار- بأنه صلّى الله عليه وسلم صبغ في وقت وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهذا التأويل كالمتعيّن؛ كما قاله ابن حجر، انتهى؛ من الباجوري رحمه الله تعالى. (وما يتعلّق بذلك) من الترجيل والادّهان والتقنّع ونحوها!!
قال العلّامة حجّة الإسلام الغزاليّ في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل) بسكون الجيم وكسرها- (الشّعر) - بفتح العين- أي: مسترسله (حسنه؛ ليس
__________
(1) أي: ابيضّا شيبا.(1/303)
بالسّبط ولا الجعد القطط، وكان إذا مشطه بالمشط.. يأتي كأنّه حبك الرّمل، وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين، ...
بالسّبط) - بسكون الباء وكسرها-، (ولا الجعد القطط) - بفتحتين كجسد؛ على الأشهر، ويجوز كسر الطاء المهملة الأولى، - أي: شعره صلّى الله عليه وسلم ليس بنهاية في الجعودة؛ وهو: تكسّره الشديد؛ كشعر الحبش والزنوج، ولا بنهاية في السبوطة؛ وهو عدم تكسّره أصلا كشعر الهنود والجاوة، بل كان وسطا بينهما، و «خير الأمور أوساطها» .
قال الزّمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته.
وقد أحسن الله تعالى برسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرّق في الطوائف من الفضائل.
رواه البخاريّ، ومسلم، والبيهقي في «الدلائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
(وكان إذا مشطه بالمشط) - بضم الميم- أي: سرّحه به (يأتي كأنّه حبك) بضم الحاء المهملة والباء الموحدة- وهي: طرائق (الرّمل) .
وهذا يؤيّد من فسّر الرّجل بالمتكسّر قليلا، ولا ينافي ذلك ما تقدّم من الروايات، لأنّ الرّجولة أمر نسبيّ، فحيث أثبتت أريد بها الوسط بين السبوطة والجعودة، وحيث نفيت أريد بها السّبوطة؛ انتهى «شرح الإحياء» مع زيادة.
(وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين) .
قال العراقيّ: روى أبو داود، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه؛ من حديث أمّ هانىء: قدم مكّة؛ وله أربع غدائر. انتهى.
قلت: ورواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من طريق سفيان؛ عن ابن أبي نجيح؛ عن مجاهد قال: قالت أم هانىء: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة قدمة؛ وله أربع غدائر.(1/304)
وربّما جعل شعره على أذنيه؛ فتبدو سوالفه تتلألأ.
ومعنى (الغدائر) : الذّوائب، واحدتها غديرة.
و (الحبك) - جمع حباك- ككتاب، وهي: الطّريقة في الرّمل ونحوه. وكان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون الجمّة، وفوق الوفرة.
تعني: ضفائر، والغديرة والضفيرة: هي الذؤابة. ولفظ الترمذي في «الشمائل» .
قدم مكة قدمة؛ وشعره إلى أنصاف أذنيه، وله أربع غدائر.
والظاهر أنها عنت قدومه مكّة عام الفتح، لأنه حينئذ اغتسل وصلّى الضحى في بيتها، وقدماته إلى مكة أربع متّفق عليها: 1- في عمرة القضاء، و 2- الفتح، و 3- لما رجع من حنين؛ دخلها حين اعتماره من الجعرانة، و 4- في حجّة الوداع.
(وربّما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه) ؛ جمع سالفة؛ وهي: صفحة العنق (تتلألأ) ؛ أي: تضيء وتتنوّر من وبيص الطّيب. (ومعنى الغدائر) - بفتح الغين المعجمة والدال المهملة-: (الذّوائب) ؛ جمع ذؤابة؛ وهي الخصلة من الشعر إذا كانت مرسلة، فإن كانت ملويّة فعقيصة، والغدائر: (واحدتها غديرة) ، وكلّ من الغديرة والضفيرة بمعنى الذؤابة، ويقال: الغديرة: هي الذؤابة، والضفيرة: هي العقيصة.
(والحبك) - بضمتين- (جمع) : حبيكة؛ كطريقة وطرق، أو جمع (حباك ككتاب) وكتب، ومثال ومثل؛ (وهي: الطّريقة في الرّمل ونحوه) ، ومنه قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (7) [الذاريات] أي: صاحبة الطرق في الخلقة كالطرق في الرمل.
(و) روى أبو داود في «سننه» ، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم دون الجمّة) - بضم الجيم وتشديد الميم- (وفوق الوفرة) - بفتح الواو وسكون الفاء- ورواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» بلفظ: فوق الجمّة ودون الوفرة.(1/305)
.........
قال الحافظ العراقي في «شرح الترمذي» : ورواية أبي داود وابن ماجه هي الموافقة لكلام أهل اللغة، إلا أن تؤوّل رواية الترمذي. وذلك أنّه قد يراد بقوله «دون» النسبة إلى القلّة والكثرة، وقد يراد به النسبة إلى محلّ وصول الشعر، ورواية الترمذي محمولة على هذا التأويل: أي: أنّ شعره كان فوق الجمّة، أي:
أرفع في المحلّ، فعلى هذا يكون شعره لمّة؛ وهو بين الوفرة والجمّة. وتكون رواية أبي داود وابن ماجه معناها: كان شعره فوق الوفرة؛ أي: أكبر من الوفرة، ودون الجمّة؛ أي في الكثرة، وعلى هذا فلا تعارض بين الروايتين، فروى كلّ راو ما فهمه من الفوق والدون.
قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيّد؛ لولا أنّ مخرج الحديث متّحد!! وأجاب القسطلّاني: بأن إحدى الروايتين نقل بالمعنى، ولا يضرّه اتّحاد المخرج، لاحتمال أنّه وقع ممن دونه. انتهى. ونحوه قول بعضهم: مآل الروايتين على هذا التقدير متّحد معنى، والتفاوت بينهما إنما هو في العبارة، ولا يقدح فيه اتّحاد المخرج؛ وهو عائشة، لأن من دونها أدّى معنى إحدى العبارتين.
هذا؛ وقد يستعمل أحد اللفظين المتقاربين مكان الآخر كما سبق في «أفلج الثنيتين» ، حيث قالوا: الفلج يستعمل مكان الفرق؛ فكذا يقال بمثله هنا.
انتهى.
قال الحافظ العراقيّ: ورد في شعره صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أوصاف: جمّة، ووفرة، ولمّة، فالوفرة: ما بلغ شحمة الأذن، واللّمة: ما نزل عن شحمة الأذن، والجمة: ما نزل عن ذلك إلى المنكبين؛ هذا قول جمهور أهل اللغة، وهو الذي ذكره صاحب «المحكم» و «النهاية» و «المشارق» وغيرهم.
واختلف فيه كلام الجوهري؛ فذكره على الصواب في مادة «لمم» ، فقال:
واللّمة- بالكسر-: الشعر المتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمّة، وخالف في ذلك في مادة «وفر» فقال: والوفرة إلى شحمة الأذن ثم الجمّة، ثم(1/306)
وكان شعره صلّى الله عليه وسلّم يضرب إلى منكبيه، وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الجسم، ...
اللّمة التي ألمّت بالمنكبين، وما قاله في «باب الميم» هو الصواب الموافق لقول غيره من أهل اللغة، انتهى «زرقاني» .
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان شعره صلّى الله عليه وسلم يضرب إلى منكبيه) - مثنى منكب كمجلس؛ وهو: مجتمع رأس العضد والكتف، أي: يصل إليهما. كنّى بالضرب عن الوصول.
روى الشيخان؛ من حديث أنس: كان شعره يضرب منكبيه، وللبخاري أيضا: كان يضرب رأس النبي صلّى الله عليه وسلم منكبيه. (وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه) ؛ وهي: ما لان في أسفلها؛ وهي معلّق القرط. روى الشيخان؛ من حديث البراء:
يبلغ شعره شحمة أذنيه. وروى البيهقيّ في «الدلائل» ؛ عن أنس: كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه. وروى مسلم؛ عن أنس: كان شعره إلى أنصاف أذنيه. ولفظ الترمذي في «الشمائل» : عظيم الجمّة إلى شحمة أذنيه؛ أي:
تكاثفها ينتهي إلى شحمة أذنيه. وفي «الصحيحين» ؛ عن أنس: أنّه كان بين أذنيه وعاتقه. وفي أخرى عند الترمذي وغيره: فوق الجمّة؛ ودون الوفرة. وفي رواية: إن انفرقت عقيقته فرق، وإلّا! فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه. إذا هو وفره. وفي أخرى: كان إلى أذنيه. وفي أخرى: إلى كتفيه.
والجمع بين هذه الروايات: أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمتها، وما خلفها هو الذي يضرب منكبيه. أو بأنّ ذلك لاختلاف الأوقات، فكان إذا ترك تقصيرها بلغ المنكب، وإذا قصّرها كانت إلى الأذن؛ أو شحمتها؛ أو نصفها، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) قال النووي في «التهذيب» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسن الجسم) ؛ أي: معتدل الخلق متناسب الأعضاء. رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه، والبيهقي في «الدلائل» ؛ عن رجل من الصحابة- وقد تقدّم-.(1/307)
بعيد ما بين المنكبين، له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يسدل شعره، ...
(بعيد ما بين المنكبين) - روي بالتكبير والتصغير-، و «ما» موصولة؛ أو موصوفة؛ لا زائدة- كما زعمه بعضهم-
والمنكبان؛ تثنية منكب: وهو مجمع العضد والكتف، والمراد بكونه «بعيد ما بين المنكبين» : أنّه عريض أعلى الظهر. ويلزمه أنّه عريض الصدر، وقد تقدّم أنّه رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما.
(له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه) . انتهى كلام «التهذيب» ، وهو يشير إلى الجمع بين الروايات في صفة شعره صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدّم قريبا أنّ ذلك لاختلاف الأوقات. والله أعلم.
(و) روى البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يسدل) - بفتح أوله وسكون السين المهملة وكسر الدال المهملة، ويجوز ضمّ الدال؛ قاله الحافظ وغيره، وبالضمّ ضبطه الدمياطي في «حاشية الصحيح» ، والمنذري في «حاشية السنن» .
فاستفدنا أنّ الرواية بالوجهين؛ قاله الزرقاني- (شعره) ؛ أي: يترك شعر ناصيته على جبهته، لما في رواية للشيخين: سدل النبي صلّى الله عليه وسلم ناصيته. ولذلك قال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: المراد إرساله على الجبين واتخاذه كالقصّة، أي: بضم القاف، وإلّا! فالسدل لغة لا يخصّ الناصية، بل هو إرخاء الشعر حول الرأس من غير أن يقسمه نصفين، يقال: سدلت الثوب سدلا: أرخيته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه، فإن ضممتهما؛ فهو قريب من التلفيف، قالوا:
ولا يقال فيه: أسدلته- بالألف-.(1/308)
وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، (وكان المشركون) ؛ أي: كفّار مكّة (يفرقون) - بضم الراء وكسرها، روي مخفّفا وهو الأشهر، ومشددا من باب التفعيل- (رءوسهم) ؛ أي: شعر رءوسهم، والفرق- بفتح فسكون-: قسم الشعر نصفين؛ وإرسال نصف من جانب اليمين على الصدر، وإرسال نصف من جانب اليسار على الصدر، وهو ضدّ السّدل الذي هو: مطلق الإرسال من سائر الجوانب.
(وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم) ؛ أي: شعرها؛ وفي رواية:
أشعارهم، (وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب) اليهود حين كان عبدة الأوثان كثيرين، (فيما لم يؤمر فيه بشيء) ؛ أي: فيما لم يؤمر فيه وحي، أو فيما لم يطلب منه على جهة الوجوب، أو الندب، أو فيما لم يؤمر فيه بالمخالفة لهم، يعني فيما لم يخالف شرعه؛ إيجابا أو ندبا، فقصر الأمر هنا على حقيقته؛ وهو الوجوب تقصير، وإنما أحبّ موافقتهم! لتمسّكهم في زمانه ببقايا شرائع الرسل، والمشركون وثنيون؛ لا مستند لهم إلّا ما وجدوا عليه آباءهم.
قال الحافظ ابن حجر: فكانت موافقتهم أحبّ إليه من موافقة عبّاد الأوثان، فلما أسلم غالبهم أحبّ حينئذ مخالفة أهل الكتاب. انتهى.
وقال النووي وغيره: أو كان لاستئلافهم كما تألّفهم باستقبال قبلتهم، وتوقّف فيه بأن المشركين أولى بالتأليف، وردّ بأنه قد حرص أوّلا على تألّفهم؛ ولم يأل جهدا في ذلك، وكلما زاد زادوا نفورا، فأحبّ تأليف أهل الكتاب ليجعلهم عونا على قتال الآبين من عبدة الأوثان.
وقال القرطبي: حبّه لموافقتهم كان أوّلا في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم؛ ليتألّفهم حتى يصغوا إلى ما جاء به، فلما لم ينفع فيهم ذلك وغلبت عليهم الشّقوة أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، لقوله: «إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم» . انتهى «زرقاني» .(1/309)
ثمّ فرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه.
(ثمّ فرق) - بفتح الفاء والراء مخففا ومشددا- (رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأسه) ؛ أي:
ألقى شعره إلى جانبي رأسه، فلم يترك منه شيئا على جبهته.
وحكمة عدوله عن موافقة أهل الكتاب: أن الفرق أنظف وأبعد عن الإسراف في غسله، وعن مشابهة النساء.
قال العلماء: والفرق سنّة، لأنه الذي رجع إليه صلّى الله عليه وسلم، والصحيح جواز السّدل والفرق معا، لكن الفرق أفضل فقط، لأنه الذي رجع إليه صلّى الله عليه وسلم، فكأنّه ظهر الشرع به؛ لكن لا وجوبا، لأن من الصّحب من سدل بعد ذلك، فلو كان الفرق واجبا ما سدلوا بعد، ولهذا قال في «المطامح» : الحديث يدلّ على جواز الأمرين، والأمر فيه واسع.
وقال القاضي عياض: نسخ السّدل فلا يجوز فعله، ولا اتخاذ الناصية والجمّة، قال: ويحتمل أن المراد جواز الفرق؛ لا وجوبه، ويحتمل أن الفرق كان اجتهادا في مخالفة أهل الكتاب؛ لا بوحي، فيكون الفرق مستحبا. انتهى.
والقول بالنسخ ردّه ابن حجر، وقال القرطبي: أمّا توهّم النسخ!! فلا يلتفت إليه أصلا، لإمكان الجمع، لكن العسقلاني قال: جزم الحازمي أن السدل نسخ بالفرق، واستدلّ برواية معمر؛ عن الزهري، عن عبد الله بلفظ: ثم أمر بالفرق، وكان الفرق آخر الأمرين؛ أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» ، وهو ظاهر. والله أعلم.
قال ابن حجر: والذي يتّجه أنّ محل جواز السدل حيث لم يقصد به التشبّه بالنساء، وإلّا!! حرم من غير نزاع. انتهى.
هذا؛ والحديث الذي ساقه المصنّف رواه الترمذي في «الشمائل» - كما تقدّم-. وفي «صحيح البخاري» في الصفة النبوية وفي «اللباس» نحوه، وفي «صحيح مسلم» نحوه، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه؛ قاله الزرقاني على «المواهب» .(1/310)
ومعنى (سدل الشّعر) : إرساله.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن السّبلة.
ومعنى (السّبلة) : مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثّ اللّحية، ...
قال المصنف: (ومعنى سدل الشّعر) - فيما قاله العلماء-: (إرساله) على الجبين واتّخاذه كالقصة- أي: بضمّ القاف بعدها مهملة- انتهى، وهو المراد هنا.
وقيل: سدل الشعر: أن يرسله ولا يضمّ جوانبه. وقيل: السّدل: أن يرسل الشخص شعره من ورائه؛ ولا يجعله فرقتين. انتهى «جمع الوسائل» .
(و) روى الطبراني في «الكبير» ؛ عن العدّاء- بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة والمد- ابن خالد بن هودة العامري، أسلم يوم حنين هو وأبوه جميعا رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسن السبلة) - بالتحريك-: ما أسبل من مقدّم اللحية؛ ذكره الزمخشري. قال المصنف- تبعا للعزيزي-: (ومعنى السّبلة) - بالتحريك-:
(مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر) ؛ وهو الشّعرات التي تحت اللّحي الأسفل؛ أو الشارب، وقال الحفني: ما أسبل من مقدّم اللحية الذي تحت العنفقة وفوقه العارضان، انتهى.
(و) قال الغزالي في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثّ اللّحية) ؛ أي:
كثير شعر اللحية ملتفّها. رواه البيهقي؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
ورواه من طريق محمد بن علي بن أبي طالب؛ عن أبيه، ورواه من طريق نافع بن جبير؛ عنه: كان ضخم الهامة عظيم اللّحية، وفي لفظ: ضخم الرأس واللحية، ومن حديث أبي هريرة: كان أسود اللحية حسن الشعر، ومن طريق أبي ضمضم؛ عن رجل من الصحابة لم يسمّ: كان رجلا مربوعا حسن السبلة؛ قال: كانت اللحية تدعى في أول الإسلام سبلة، ورواه الطبراني في «الكبير»(1/311)
وكان يعفي لحيته ويأخذ من شاربه.
وسماه العدّاء بن خالد. انتهى شرح «الإحياء» . وقد سبقت رواية العدّاء آنفا.
(وكان يعفي لحيته) ؛ أي: يوفّرها، وسيأتي أنّه كان يأخذ من عرضها وطولها. (ويأخذ من شاربه) ؛ أي: يقصّه، في أيّ وقت احتاج إليه من غير تقييد بيوم، كما أفاده الحديث الذي رواه الترمذي وحسّنه؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقصّ شاربه، وحديث التقييد بالجمعة ضعيف.
وكان صلّى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحية وقصّ الشارب. روى البيهقي في «السنن» ، وابن عدي؛ من حديث عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه: «أحفوا الشّوارب وأعفوا اللّحى» . ورواه أيضا الطحاوي؛ من حديث أنس بزيادة: ولا تشبّهوا باليهود» .
وروى الترمذي- وقال: حسن صحيح-، والنسائي، والإمام أحمد؛ من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من لم يأخذ من شاربه فليس منّا» ؛ أي: ليس على طريقتنا الإسلامية، لندب ذلك مؤكّدا؛ فتاركه متهاون بالسنة، هذا مذهب الجمهور.. وأخذ جمع بظاهره فأوجبوا قصّه.
وروى الإمام أحمد؛ عن رجل من الصحابة رفعه: «من لم يحلق عانته ويقلّم أظفاره ويجزّ شاربه فليس منّا» وحسّنه بعض الحفاظ لشواهده.
وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حديث: «خالفوا المشركين، وفّروا اللّحى وأحفوا الشّوارب» . ومعنى «وفّروا» - بتشديد الفاء-:
اتركوها وافرة لتكثر وتغزر، ولا تتعرّضوا لها. وأحفوا قال النووي: بقطع الهمزة ووصلها؛ من أحفاه وحفاه: استأصله، وقال الزركشي: بألف قطع رباعي؛ أشهر وأكثر، وهو المبالغة في استقصائه، ومنه «أحفى في المسألة» إذا أكثر، وقال القاضي عياض: من «الإحفاء» ، وأصله الاستقصاء في أخذ الشارب، وفي معناه رواية: «أنهكوا الشّوارب» والمراد: بالغوا في قصّ ما طال منها حتّى تبين الشّفة بيانا ظاهرا استحبابا. وقيل: وجوبا.(1/312)
.........
وقد اختلف في قصّ الشارب وحلقه أيّهما أفضل!؟
فقال القاضي عياض: ذهب كثير من السلف إلى استيعاب الشارب، وحلقه لظاهر قوله صلّى الله عليه وسلم: «أحفوا وأنهكوا» وهو قول الكوفيين.
وذهب كثير منهم إلى منع الحلق، ومنهم الإمام مالك، قال: ويحفي الشارب ويعفي اللحى، وليس إحفاء الشارب حلقه؛ أي: بل أخذ ما طال عن الشفة بقصّ ونحوه، بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ. قال القرطبي: وأرى تأديب من حلق شاربه؛ لما فيه من التشبّه بالمجوس. وعن أشهب؛ عن مالك:
أنّ حلقه بدعة لذلك. قال: وأرى أن يوجع ضربا من فعله.
وقال النووي: المختار في قصّ الشارب أنّه يقصّه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفّه من أصله. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا، وكان المزنيّ والربيع يحفيان شاربهما، قال: وما أظنّهم أخذوا ذلك إلّا عنه.
وأما أبو حنيفة وأصحابه! فمذهبهم في شعر الرأس والشارب: أنّ الإحفاء الذي هو الإزالة بالكلية- أفضل من التقصير.
وأما أحمد!! فقال الأثرم: رأيته يحفي شاربه شديدا، ونصّ على أنّه أولى من القصّ.
قال في «فتح الباري» : وذهب ابن جرير إلى التخيير، فإنّه لمّا حكى قول مالك وقول الكوفيين؛ ونقل عن أهل اللغة أنّ الإحفاء هو الاستئصال؛ قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فالقصّ يدلّ على أخذ البعض، والإحفاء يدلّ على أخذ الكلّ، فكلاهما ثابت؛ فيخير فيما شاء.
قال الحافظ ابن حجر: فيؤخذ من قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث.
فأما الاقتصار على القصّ! ففي حديث المغيرة: ضفت النبي صلّى الله عليه وسلم وكان شاربي وفير فقصّه على سواك. رواه أبو داود والبيهقي بلفظ: فوضع السّواك تحت الشارب(1/313)
.........
وقصّ عليه. وأخرج البزار؛ عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل؛ فقال: «ائتوني بمقصّ وسواك» ، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه. وأخرج البيهقي والطبراني؛ عن شرحبيل بن مسلم الخولاني:
رأيت خمسة من الصحابة يقصّون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معديكرب، وعتبة بن عون السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر.
وأما الإحفاء! فأخرج الطبرانيّ، والبيهقيّ؛ عن عبد الله بن أبي رافع قال:
رأيت أبا سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق.
وأخرج الطبراني؛ عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة: أنّهم كانوا يحلقون شواربهم.
واختلف في كيفية قصّ الشارب: هل يقص طرفاه أيضا؛ وهما المسمّيان ب «السّبالين» ، أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس!؟
قال الغزالي في «الإحياء» : لا بأس بترك سباليه؛ وهما طرفا الشارب، فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم، ولا تبقى فيه زهومة الطعام، إذ لا يصل إليه. انتهى.
وروى أبو داود؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه: كنا نحفي السّبال إلّا في حجة وعمرة، وكره بعضهم إبقاءه؛ لما فيه من التشبّه بالأعاجم، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إياكم وزيّ الأعاجم!! وقال الإمام مالك: أميتوا سنّة العجم، وأحيوا سنّة العرب. وفيه تشبّه بالمجوس وأهل الكتاب، والقول بالكراهة أولى بالصواب، لما رواه ابن حبان في «صحيحه» ، والطبراني، والبيهقي؛ من حديث ميمون: «إنّهم يوفّرون سبالهم ويحلقون لحاهم؛ فخالفوهم» . فكان ابن عمر يجزّ سباله كما تجزّ الشاة أو البعير. انتهى.(1/314)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأخذ من لحيته الشّريفة، من عرضها وطولها.
وأما فعل عمر رضي الله تعالى عنه إن صحّ!! فلعله لم يبلغه النهي. انتهى من «المواهب اللدنية» مع شيء من «شرح الزرقاني» رحمهم الله تعالى. آمين.
(و) روى الترمذيّ- وقال: حديث غريب- من طريق عمرو بن شعيب؛ عن أبيه؛ عن جدّه رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته الشّريفة؛ من عرضها وطولها) بالسويّة؛ كما في رواية، أي: يأخذ الشّعر الزائد في الطول لتقرب من التدوير من جميع الجوانب، لأنّ الاعتدال محبوب، والطول المفرط قد يشوّه الخلق، ويطلق ألسنة المغتابين، ففعل ذلك مندوب ما لم ينته إلى تقصيص اللحية وجعلها طاقات؛ فإنه مكروه، وكان بعض السلف يقبض على لحيته فيأخذ ما تحت القبضة، وقال النّخعي: عجبت لعاقل كيف لا يأخذ من لحيته؛ فيجعلها بين لحيتين، فإنّ التوسّط في كلّ شيء حسن، ولذا قيل: كلما طالت اللحية تشمّر العقل، ففعل ذلك إذا لم يقصد الزينة والتحسين لنحو النساء سنّة، كما عليه جمع؛ منهم القاضي عياض وغيره، واختار النووي تركها بحالها مطلقا.. ثم لا ينافي فعله صلّى الله عليه وسلم قوله: «أعفوا اللّحى» . لأنّه في الأخذ منها لغير حاجة؛ أو لنحو تزين، وهذا فيما احتيج إليه لتشعّث؛ أو إفراط طول يتأذّى به، وقال الطيبي: المنهيّ عنه قصّها كالأعاجم، أو وصلها كذنب الحمار، وقال الحافظ ابن حجر: المنهيّ عنه الاستئصال أو ما قاربه، بخلاف الأخذ المذكور، انتهى.
لطيفة: قال الحسن بن المثنّى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة، ولم يتخذ لحية بين لحيتين؛ كان في عقله شيء. وجلس المأمون مع أصحابه مشرفا على دجلة، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط؛ إلا ونقص من عقله بقدر ما طال منها، وما رأيت عاقلا قطّ طويل اللحية!. فقال بعض الجلساء: ولا يردّ على أمير المؤمنين؛ إنه قد يكون في طولها عقل، فأقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة فاخر الثياب، فقال المأمون: ما تقولون فيه!! فقال بعضهم: يجب كونه قاضيا، فأمر بإحضاره، فوقف فسلّم فأجاد، فأجلسه المأمون واستنطقه فأحسن، فقال(1/315)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر تسريح لحيته.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح لحيته.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اهتمّ.. أكثر من مسّ لحيته.
المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدويه والكنية علوية. فضحك المأمون وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟ قال: فقيه أجيد المسائل. قال: ما تقول فيمن اشترى شاة فلما تسلّمها؛ خرج من استها بعرة؛ ففقأت عين رجل، فعلى من الدية!؟ قال: على البائع دون المشتري، لأنه لما باعها لم يشترط أنّ في استها منجنيقا، فضحك المأمون حتّى استلقى على قفاه وأنشد:
ما أحد طالت له لحية ... فزادت اللّحية في هيئته
إلّا وما ينقص من عقله ... أكثر ممّا زاد في لحيته
(و) قال المناوي في «كنوز الحقائق» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكثر تسريح لحيته) أي: تمشيطها وإرسال شعرها وحلّها بمشطها؛ رواه الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ، والبغوي في «شرح السنة» كلّهم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر القناع حتى كأنّ ثوبه ثوب زيّات، وسيأتي.
(و) أخرج الطبراني في «الأوسط» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح) بتشديد الراء- (لحيته) - أي: مشطها-.
(و) أخرج ابن السنّي، وأبو نعيم كلاهما في كتاب «الطب النبوي» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها ترفعه، وأبو نعيم في «الطب» أيضا؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بسند حسن:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اهتمّ أكثر من مسّ لحيته) ، فيعرف بذلك كونه(1/316)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اغتمّ.. أخذ لحيته بيده ينظر فيها.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا توضّأ.. خلّل لحيته بالماء.
مهموما، قال بعضهم: ويجوز كون مسّه لها تسليما لله تعالى بنفسه، وتفويضا لأمره إليه، فكأنه موجه نفسه إلى مولاه. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج الشيرازي في «الألقاب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو حديث حسن لغيره-: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اغتمّ) - بغين معجمة ومثناة فوقية- أي: حزن، قال في «المصباح» : غمّه الشيء غمّا؛ من باب (قتل) : غطاه، ومنه قيل للحزن غمّ، لأنه يغطي السرور. انتهى.
(أخذ لحيته) ؛ أي: تناولها (بيده ينظر فيها) كأنّه يتفكّر، أو يسلّي بذلك حزنه.
(و) في «الجامع الصغير» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا توضّأ خلّل لحيته بالماء) أي: أدخل الماء في خلالها بأصابعه الشريفة، فيندب تخليل اللّحية الكثّة، فإن لحيته الشريفة كانت كثّة، ومثلها كلّ شعر لا يجب غسل باطنه.
قال ابن القيّم: ولم يكن يواظب على التخليل. ورمز في «الجامع الصغير» لمن أخرجه برمز أحمد والحاكم وصحّحه؛ عن عائشة، والترمذي والحاكم؛ عن عثمان بن عفان- وقال الترمذي: حسن صحيح عنه-، والترمذي والحاكم؛ عن عمار بن ياسر، والحاكم؛ عن بلال المؤذّن، وابن ماجه والحاكم؛ عن أنس بن مالك، والطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة الباهلي، وعن أبي الدرداء، وعن أم سلمة، والطبراني في «الأوسط» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قال الحافظ الهيثمي: بعض هذه الطرق رجاله موثقون، وفي البعض مقال. انتهى.
وأشار المصنف- يعني السيوطي- باستيعاب مخرّجيه إلى ردّ قول أحمد وأبي زرعة «لا يثبت في تخليل اللحية حديث» ؛ قاله المناوي على «الجامع الصغير» .(1/317)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر اتّخاذ القناع.
(و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، والبغوي في «شرح السنة» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه) - بفتح الدال المهملة وسكون الهاء-: استعمال الدّهن- بالضم-، والدهن: ما يدهن به من زيت وغيره، وجمعه دهان- بالكسر-، وإكثاره ذلك إنما كان في وقت دون وقت، وفي زمن دون آخر، بدليل نهيه عن الادّهان إلّا غبّا في عدّة أحاديث.
قال ابن القيم: الدهن يسدّ مسام البدن، ويمنع ما تخلّل منه، والدهن في البلاد الحارة كالحجاز من آكد أسباب حفظ الصحة، وإصلاح البدن، وهو كالضروري لهم.
(وتسريح لحيته) بالماء، أو بماء الورد ونحوه، وهو عطف على دهن رأسه؛ كما هو ظاهر، لا على رأسه؛ كما وهم. والمراد تمشيطها وإرسال شعرها وحلّها بمشطها، ولا ينافيه ما في «أبي داود» من النهي عن التسريح كلّ يوم، لأنّه لا يلزم من الإكثار التسريح كل يوم، بل الإكثار قد يصدق على الشيء الذي يفعل بحسب الحاجة؛ ذكره الوليّ العراقي، ولم يرد أنّه كان يقول عند تسريحها شيئا؛ ذكره السيوطي.
(ويكثر اتّخاذ القناع) . قال السيوطي رحمه الله تعالى يعني: يتطيلس؛ نقله المناوي. وقال الحفني والعزيزي؛ كالمناوي في «كبيره» : والمراد باتخاذ القناع هنا: تغطية الرأس وأكثر الوجه، وذلك لما علاه من الحياء، ولذا كان يتقنّع عند الجماع، لأنه يستحيا منه عادة؛ وإن كان جائزا.
وقال المناوي في «كبيره» : وسبب إكثاره للتقنّع: أنّه كان قد علاه من الحياء من ربّه ما لم يحصل لبشر قبله؛ ولا بعده، وما ازداد عبد بالله علما إلا ازداد حياء من الله تعالى، فحياء كلّ عبد على قدر علمه بربّه، فألجأه ذلك إلى ستر منبع الحياء(1/318)
و (القناع) : خرقة توضع على الرّأس حين استعمال الدّهن لتقي العمامة والثّياب.
ومحلّه؛ وهو العين والوجه؛ وهما من الرأس، والحياء من عمل الروح، وسلطان الروح في الرأس، ثم هو ينشر في جميع البدن، فأهل اليقين قد أبصروا بقلوبهم أنّ الله يراهم؛ فصارت جميع الأمور لهم معاينة، فهم يعبدون ربّهم كأنّهم يرونه، وكلما شاهدوا عظمته ومنّته ازدادوا حياء، فأطرقوا رءوسهم وجلا، وقنّعوها خجلا.
وأنت بعد أن سمعت هذا التقرير انكشف لك أنّ من زعم «أن المراد هنا بالقناع: خرقة تلقى على الرأس لتقي العمامة من نحو دهن» لم يدر حول الحمى، بل في البحر فوه؛ وهو في غاية الظمأ!! انتهى.
وقال الحفني على «الجامع الصغير» : القناع عند أهل الله يسمّى الخلوة الصغرى، لأنّه يمنع من كثرة الاشتغال بالخلق والنظر إليهم. انتهى.
وقال الباجوري «على الشمائل» : صحّ عن ابن مسعود- وله حكم المرفوع-:
«التّقنّع من أخلاق الأنبياء» ، وفي خبر: «لا يتقنّع إلّا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» ويؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون للعلماء شعار يختصّ بهم، ليعرفوا فيسألوا ويمتثل أمرهم ونهيهم، وهذا أصل في لبس الطيلسان ونحوه، وله فوائد جليلة كالاستحياء من الله والخوف منه، إذ تغطية الرأس شأن الخائف الذي لا ناصر له؛ ولا معين، وكجمعه للتفكّر، لأنه يغطي أكثر وجهه، فيحضر قلبه مع ربّه، ويمتلىء بشهوده وذكره، وتصان جوارحه عن المخالفات، ونفسه عن الشهوات، ولذلك قال بعض الصوفية: الطيلسان الخلوة الصغرى. انتهى كلام الباجوري رحمه الله تعالى.
وبما قرّرناه تعلم ما في قول المصنف (والقناع) - بكسر القاف وخفة النون وفي آخره مهملة؛ كرجال-: (خرقة توضع على الرّأس حين) - أي: بعد- (استعمال الدّهن) - بالضم- (لتقي العمامة والثّياب) من أثر الدهن واتساخها به، شبّهت(1/319)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ادّهن.. صبّ في راحته اليسرى، فبدأ بحاجبيه، ثمّ عينيه، ثمّ رأسه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ التّيامن ...
بقناع المرأة. وفي «الصّحاح» : هو أوسع من المقنعة. انتهى.
(و) أخرج الشيرازي في «الألقاب» - وهو حديث حسن لغيره-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ادّهن) - بالتشديد على «افتعل» : تطلّى بالدّهن، أي: إذا أراد أن يدّهن- (صبّ) الدّهن (في راحته) ؛ أي: بطن كفّه (اليسرى) ، ثم أخذ الدهن باليمنى ودهن، (فبدأ بحاجبيه) فدهنهما أوّلا، (ثمّ عينيه ثمّ رأسه) ؛ أي: ثم عنفقته؛ ثم عارضيه، ثم بقيّة لحيته. انتهى «حفني» .
قال العزيزي: وفي رواية: كان إذا دهن لحيته بدأ بالعنفقة، وقال المناوي:
وفي رواية الطبراني؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان إذا دهن لحيته بدأ بالعنفقة.
(و) أخرج السبعة: أحمد، والبخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي في «جامعه» ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ببعض اختلاف في اللفظ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يحبّ) - وفي رواية لمسلم و «الشمائل» : ليحبّ- (التّيامن) - ولفظ رواية مسلم: التّيمّن، أي: الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن، وكلّ ما كان من باب التكريم؛ لأنّ اليمين مشتقة من اليمن؛ وهو البركة؛ وهو صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ الفأل الحسن، وأصحاب اليمين أهل الجنة، فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود ممدوح بيانا وشرعا؛ دنيا وآخرة، والشمال على النقيض، وقد شرف الله تعالى أهل الجنة بنسبتهم إليها، كما دمّ أهل النار بنسبتهم إلى الشمال؛ فقال (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ(1/320)
في طهوره إذا تطهّر، وفي ترجّله إذا ترجّل، وفي انتعاله إذا انتعل، وفي شأنه كلّه.
الْيَمِينِ) (91) [الواقعة] وعكس في أصحاب الشمال!! زاد البخاري في روايته:
ما استطاع، فنبّه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع.
(في طهوره) - بضمّ أوّله؛ أو فتحه: روايتان مسموعتان، ورواية الضمّ لا تحتاج إلى تقدير، لأن الطّهور- بالضم- هو الفعل، ورواية الفتح تحتاج إلى تقدير مضاف: أي في استعماله، لأن الطّهور- بالفتح-: ما يتطهّر به (إذا تطهّر) ؛ أي: وقت اشتغاله بالطهارة، وهي أعمّ من الوضوء والغسل.
وإنّما قال: إذا تطهّر!! ليدلّ على تكرّر المحبّة بتكرر الطهارة، كما في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [6/ المائدة] .
وقوله (وفي ترجّله) - بضم الجيم المشددة- أي: تمشيط شعر رأسه ولحيته، وفي معناه الادّهان (إذا ترجّل) ؛ أي: وقت إيجاد هذا الفعل، أي: ويحبّ التيامن في ترجّله وقت اشتغاله بالترجّل، فإذا أراد أن يدهن أو يمشط أحبّ أن يبدأ بالجهة اليمنى من الرأس أو اللحية.
(وفي انتعاله) ؛ أي: لبس نعله (إذا انتعل) ؛ أي: وقت إرادة لبس النعل، وفيه احتراز من حال الاختلاع، فإنه يبتدىء باليسار، أي: ويحبّ التّيامن في انتعاله وقت اشتغاله بالانتعال، فإذا أراد لبس النعل أحبّ أن يبدأ بالرجل اليمنى.
(و) يحبّ التيامن (في شأنه) - أي: في حاله- (كلّه) يعني: في جميع حالاته، وهذا عطف عامّ على خاصّ، لكن ليس على عمومه، بل مخصوص بما كان من باب التكريم، وأما ما كان من باب الإهانة!! فيستحبّ فيه التياسر.
ولذلك قال النووي: قاعدة الشرع المستمرّة استحباب البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التكريم والتشريف؛ كلبس الثوب والسراويل والخفّ والانتعال، ودخول المسجد والسواك، وتقليم الأظفار وقصّ الشارب، وترجيل الشعر ونتف الإبط، وحلق الرأس والاكتحال، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة،(1/321)
وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى.
والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وندب الصلاة عن يمين الإمام؛ وفي ميمنة المسجد، وغير ذلك مما هو في معناه يستحبّ التيامن فيه.
فأما ما كان بضدّه مثل: دخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخفّ، وأخذ النعلين ... وما أشبه ذلك!! فيستحبّ التياسر فيه. انتهى؛ نقله جسّوس مع زيادة من غيره.
ومما لا يخفى أن التّيامن في فعل بين أجزائه تقدّم وتأخّر، فلا تيامن في نحو غسل الوجه ومسح الأذنين لغير الأقطع، والله أعلم.
(و) أخرج أبو داود في «سننه» ، وغيره بالإسناد الصحيح- كما قاله النووي في «الأذكار» - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، (وكانت يده اليسرى لخلائه) ؛ أي: للاستنجاء، ويمكن أن يؤخذ من الخبر تقديم الرجل اليسرى؛ أو بدلها عند دخول؛ أو وصول الخلاء أو محلّ قضاء الحاجة من الفضاء، بأن يراد باليسرى ما يشمل اليد والرجل؛ من استعمال المشترك في معنييه، أو من عموم المجاز.
وقوله (وما كان من أذى) ؛ أي: من النوع الذي يعدّ بالنسبة لسائر الناس أذى، من المخاط والبصاق والدم ونحوه؛ فلإستقذار جنسه من باقي الناس جعل له صلّى الله عليه وسلم اليسرى، وأما بالنسبة إلى الحاصل منه صلّى الله عليه وسلم؛ فلا أذى، ولذا كانوا يدلكون به وجوههم ويسارعون إليه، وقد شرب ابن الزّبير دم حجامته، ومصّ مالك بن سنان دمه صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وشربت أمّ أيمن بوله، وهذا دليل على فقد الأذى منه، إذ يحرم على الإنسان تناول كلّ مؤذ للبدن، ومنه الريق بعد انفصاله من معدنه؛ لا فيه، فلا منع منه من حليلة «1» .
__________
(1) زوجة أو أمة.(1/322)
وإذا نام واضطجع.. اضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه، وشماله لما سوى ذلك.
وعن عائشة ...
وعدلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن قولها (من مستقذر) إلى ما عبّرت به!! لما في لفظ الاستقذار من البعد عن أن ينسب إليه صلّى الله عليه وسلم، فليس من مستقذر أصلا.
قال العلماء: من استقذر شيئا مما أضيف إليه صلّى الله عليه وسلم من الأحوال والأفعال؛ فهو كافر. انتهى شرح «الأذكار النووية» .
(و) قال الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» : و (إذا نام) صلّى الله عليه وسلم (واضطجع اضطجع على جنبه الأيمن) - تشريفا لجانب اليمين حال كونه- (مستقبل القبلة.) في اضطجاعه.
(و) أخرج الإمام أحمد؛ عن حفصة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يجعل يمينه) - أي: يده اليمنى- (لأكله وشربه ووضوئه) يحتمل أن يكون المراد: وأخذ ماء وضوئه. زاد في رواية: وصلاته، (وثيابه) يعني: للبس ثيابه؛ أو تناولها (وأخذه وعطائه) مما لا دناءة فيه.
(و) كان يجعل (شماله لما سوى ذلك) مما ليس من باب التكريم.
ورواه الإمام أحمد أيضا؛ عن حفصة أمّ المؤمنين أيضا بلفظ: كانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك. ورواه عنها أيضا البيهقيّ، قال ابن محمود شارح «سنن أبي داود» وهو حسن؛ لا صحيح، انتهى (مناوي) .
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة) أمّ المؤمنين بنت أبي بكر الصدّيقة بنت الصّديق رضي الله تعالى عنهما.(1/323)
رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أرجّل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض.
أمّها أمّ رومان- بضم الراء وسكون الواو على المشهور-، وهي أم عائشة وعبد الرحمن بن أبي بكر، أسلمت قبل الهجرة، وماتت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم بعد قصة الإفك، ونزل النبي صلّى الله عليه وسلم في قبرها رضي الله تعالى عنها. وكنية عائشة «أم عبد الله» كنّاها النبي صلّى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأسلمت صغيرة بعد ثمانية عشر إنسانا ممّن أسلم، وتزوّجها النبي صلّى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين؛ وهي بنت ستّ سنين، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة بعد منصرفه من بدر؛ في شوال سنة: اثنتين؛ وهي بنت تسع سنين.
وهي من أكثر الصحابة رواية، روي لها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث؛ اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاريّ بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بثمانية وستين.
روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين، وفضائلها ومناقبها مشهورة معروفة.
وتوفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة: سبع وخمسين، وصلّى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلا؛ فدفنت من ليلتها بعد الوتر، واجتمع على جنازتها أهل المدينة وأهل العوالي، وقالوا: لم نر ليلة أكثر ناسا منها (رضي الله تعالى عنها) ، وعن والديها وجميع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأرضاهم وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته. آمين.
(قالت: كنت أرجّل) - بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الجيم المكسورة؛ أي: أسرّح وأحسّن- (رأس رسول الله) - أي: شعر رأسه- (صلّى الله عليه وسلم) - فهو من قبيل إطلاق اسم المحل وإرادة الحال، أو على تقدير مضاف، ويؤخذ من هذا ندب تسريح شعر الرأس، وقيس به اللحية، وبه صرّح في خبر ضعيف- (وأنا حائض) جملة حالية، ولا يقال «حائضة» إلّا في شذوذ؛ لأنّ علامة التأنيث يؤتى بها للفرق(1/324)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يترجّل غبّا؛ أي: حينا بعد حين. وكان شيبه صلّى الله عليه وسلّم في الرّأس واللّحية شيئا قليلا، نحو سبع عشرة شعرة.
بين المذكّر والمؤنّث عند خوف اللّبس، وهو مأمون هنا لاختصاص الحيض بالأنثى؛ فلا حاجة إلى علامة التأنيث الفارقة، قال الناظم:
وما من الألفاظ بالأنثى يخصّ ... عن تاء استغنى لأنّ اللّفظ نصّ
وفيه دليل على طهارة يدها وسائر بدنها؛ ما لم يصبه دم من بدنها؛ وهو إجماع، وفيه دليل على عدم كراهة مخالطتها، وحلّ استخدام الزوجة برضاها في الترجيل ونحوه، وأنه ليس فيه نقص؛ ولا هتك حرمة؛ ولا إضرار بها، وأنه ينبغي للزوجة تولّي خدمة زوجها بنفسها، والله أعلم.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يترجّل) - أي يتمشّط- (غبّا) ؛ بغين معجمة مكسورة وموحدة مشددة؛ أصله: ورود الإبل الماء يوما وتركه يوما، ثم استعمل في فعل الشيء حينا وتركه حينا، كما قال (أي: حينا بعد حين) . والمراد: أنه كانت عادته صلّى الله عليه وسلم أنه لا يبالغ في الترجّل، بل يفعله يوما ويتركه يوما، ولا يواظب عليه، لأن مواظبته تشعر بشدّة الإمعان في الزينة والترفّه؛ وذلك شأن النساء، ولهذا قال ابن العربي: موالاته تصنّع، وتركه تدنّس، وإغبابه سنة. انتهى.
(و) قال العارف الشعراني في «كشف الغمة» : (كان شيبه صلّى الله عليه وسلم في الرّأس واللّحية) - أراد بها ما قابل الرأس؛ فيشمل العنفقة والصّدغين- (شيئا قليلا؛ نحو سبع عشرة شعرة) . رواه البيهقي في «الدلائل» ؛ من طريق حماد بن سلمة؛ عن ثابت؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قيل له: هل كان شاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ما شانه الله تعالى بالشيب، ما كان في رأسه إلا سبع عشرة- أو ثمان عشرة- شعرة، هكذا هو في نسخة «الدلائل» ، وفي لفظ له عند البيهقي: ما كان في رأسه ولحيته إلا سبع عشرة؛ أو ثمان عشرة شعرة.(1/325)
وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ قد شبت؟! قال:
«شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» ؛ ...
وعن أنس أيضا: ما عدّت في رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء. رواه الترمذي وغيره.
وروى البخاري من طريق الليث؛ عن أنس: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. ورواه البخاري ومسلم؛ عن أنس من طريق مالك عن ربيعة. وروى الترمذي في «الشمائل» من حديث ابن عمر: إنما كان شيبه صلّى الله عليه وسلم نحوا من عشرين شعرة بيضاء.
ويجمع بين هذه الأخبار بأنه اختلف فيها لاختلاف الأوقات، وبأن رواية الأربع عشرة إخبار عن العدّ، ورواية السبع عشرة إخبار عن الواقع، فهو لم يعدّ إلا أربع عشرة، وأما في الواقع فكان سبع عشرة؛ أو ثمان عشرة.
ونفي الشيب في رواية أنس؛ المراد به نفي كثرته لا أصله!!.
وسبب قلّة شيبه: أن النساء يكرهنه غالبا، ومن كره من النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا كفر، وإنما كان الشيب شينا مع أنه نور ووقار؛ لأن فيه إزالة بهجة الشباب ورونقه، وإلحاقه بالشيوخ الذين يكون الشيب فيهم عيبا عند النساء.
(و) أخرج الترمذي في «الشّمائل» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(قال أبو بكر) - الصدّيق- (رضي الله عنه: يا رسول الله، قد شبت) - أي: قد ظهر فيك أثر الشيب والضعف، مع أن مزاجك اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب- (قال: «شيّبتني هود) - بالصرف، أي: سورة هود، وبترك الصرف على أنه علم على السورة، وهما روايتان، ولا ينافي ذلك حديث أنس أنه لم يبلغ الشيب، لأن مقصوده نفي احتياجه إلى الخضاب الذي سئل عنه، إذ الروايات الصحيحة صريحة في أن ظهور الشيب في رأسه ولحيته لم يبلغ مبلغا يحكم عليه بالشيب- (والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» )(1/326)
لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال القيامة ممّا يوجب خوفه على أمّته صلّى الله عليه وسلّم.
زاد الطبراني: و «الحاقة» ، وزاد ابن مردويه: و «هل أتاك حديث الغاشية» ، وزاد ابن سعد: و «القارعة» ، و «سأل سائل» ، وفي رواية: و «اقتربت الساعة» .
وإسناد الشيب إلى السور المذكورة من قبيل الإسناد إلى السبب؛ فيكون مجازا عقليا، على حدّ قولهم: أنبت الربيع البقل، لأن المؤثّر حقيقة هو الله تعالى، وإنما كانت سببا في الشيب!! (لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال) - السعداء والأشقياء، وأحوال- (القيامة) وما تتعسّر؛ بل تتعذّر غايته على غير النفوس القدسية، وهو الأمر بالاستقامة كما أمر، الذي لا يمكن لأمثالنا وغير ذلك (ممّا يوجب) - استيلاء الخوف؛ لا سيما- (خوفه على أمّته صلّى الله عليه وسلم) . لعظيم رأفته بهم ورحمته، ودوام التفكّر فيما يصلحهم، وتتابع الغمّ فيما ينوبهم أو يصدر عنهم، واشتغال قلبه وبدنه وإعمال خاطره فيما فعل بالأمم الماضين، كما في بعض الروايات: «شيّبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» ، وذلك كلّه يستلزم ضعف الحرارة الغريزية، وضعفها يسرع الشيب ويظهره قبل أوانه. قال المتنبي:
والهمّ يخترق الجسيم مخافة ... ويشيب ناصية الصّبيّ ويخرم
لكن لما كان صلّى الله عليه وسلم عنده من شرح الصدر وتزاحم أنوار اليقين على قلبه ما يسلّيه؛ لم يستول ذلك إلّا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال ويستبين أنّ جماله غالب على جلاله، وإنّما قدّمت هود على بقية السور؛ لأنه أمر فيها بالثبات في موقف الاستقامة التي هي من أعلى المراتب، ولا يستطيع الترقّي إلى ذروة سنامها إلّا من شرّفه الله بخلع السلامة.
وقد أورد: أن ما اشتملت عليه هود من الأمر بالاستقامة مذكور في سورة الشورى، فلم أسند الشيب إليها دونها؟!
وأجيب: بأنه أول ما سمعه في هود، وبأن المأمور في سورة الشورى نبينا(1/327)
.........
فقط، وفي سورة هود نبينا ومن تبعه من أمة الإجابة، فلما علم أنّهم لم يخرجوا من عهدة القيام بهذا الأمر الخطير كما يجب؛ اهتم بحالهم وملاحظة عاقبة أمرهم، فصار معتكفا في زوايا الهموم والغموم، ولا ريب أن تدبير تلك العظائم يظهر الغمّ والهمّ، ويظهر في صفحات وجنات الإنسان الضعف والسقم. انتهى «مناوي» .
يقول العبد الضعيف عبد الله بن سعيد اللحجي مقيّد هذا التعليق اللطيف: إني وقفت على مؤلّف خاصّ يسمى «فيض الجود على حديث: شيّبتني هود» منسوب للشيخ العلّامة المحقّق عزّ الدين بن علي بن عبد العزيز المكي الزمزمي الشافعي المولود سنة: - 900- تسعمائة- بتقديم المثناة على السين المهملة-، والمتوفّى سنة: - 963- ثلاث وستين وتسعمائة، أطال فيه ذيول الكلام، وذكر أن هذا الحديث أخرجه على اختلاف ألفاظه وطرقه خاتمة الحفّاظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني في اختصاره كتاب «تخريج أحاديث الكشاف» للإمام أبي محمد الزيلعي، وأخرجه أيضا تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة» ؛ وأورده أتمّ من ابن حجر رحمهم الله تعالى. آمين.
وحاصل ما استقرّ عليه رأي الزمزمي في هذه الرسالة: أنه ردّ القول بأن المراد من هود آية (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [112/ هود] قال: ويحتاج بعد أن رددنا القول بأن المراد من سورة هود آية (فَاسْتَقِمْ)
[112/ هود] أن نبيّن المراد من الحديث!! قال:
وقد قدّمنا عن ابن عطية أنه إشارة إلى ما فيها مما حلّ بالأمم إلى آخره. قال: وهذا التأويل حسن في ذاته، لكنه لا يتأتّى في جميع السور الواردة من الطرق الصحيحة.
قال: ولم أر لغير ابن عطية من المفسّرين كلاما في ذلك!! قال:
فالصواب أن يحمل على أمر يوجد في جميع تلك السور، ولعله- والله أعلم- ذكر القيامة وأحوالها، فإنه موجود في جميع السور المذكورة في الروايات. أو يقال: المراد به ما هو أعمّ من ذلك مما يقتضي الخوف والفزع؛ مما هو موجود في جميع السور أو بعضها؛ كالأمر بالاستقامة.(1/328)
وسئل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ...
قال الزمزمي: ولما دخلت مدينة زبيد بعد تأليف هذا الجزء بسنين؛ وذلك عام 958- تسعمائة وثمان وخمسين، أفادني عالم تلك البلاد خاتمة المحقّقين؛ الفقيه:
عبد الرحمن بن زياد- أدام الله النفع بعلومه-: أن الإمام الغزالي- رحمه الله تعالى- ذكر في «الإحياء» أن المشيّب له صلّى الله عليه وسلم ما في سورة هود من ذكر الإبعاد، وأوقفني على الكتاب المذكور، فأحببت أن ألحق ههنا ما رأيته فيه بلفظه المسطور:
قال الغزالي- رحمه الله تعالى- فيما ترجم له بقوله:
القول في علامة محبّة العبد لله تعالى ما صورته: ولخصوص المحبّين مخاوف في مقام المحبّة ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشدّ من بعض، فأوّلها خوف الإعراض، وأشدّ منه خوف الحجاب، وأشدّ منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيّب سيّد المحبّين؛ إذ سمع قوله تعالى (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (68) [هود] ، (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (95) [هود] . وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من ألف القرب وذاقه وتنعّم به، فحديث البعد في حق المبعدين شيّب سماعه أهل القرب و [هم] في القرب. انتهى بحروفه.
وهو داخل فيما قرّرناه ثانيا، والحصر فيه غير مضرّ، لكن لا دليل على الحصر فيه، اللهم إلا أن يكون بإطلاع من الله لحجّة الإسلام عليه وتنبيه، وحسب الحجّة هذه الحجّة «1» ! والله أعلم. انتهى كلام الزمزمي رحمه الله تعالى.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال:
حدثنا أبي؛ عن شريك؛ عن عثمان بن موهب قال:
(سئل أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر الأزدي الدوسي (رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟) - أي: هل لوّن شعره بحنّاء أو نحوه- (قال:
__________
(1) الأولى: حجة الإسلام، والثانية: حجة البينة والبرهان.(1/329)
نعم.
وعن عبد الله بن محمّد بن عقيل قال: رأيت شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أنس بن مالك مخضوبا.
وفي «الصّحيحين» من طرق ...
نعم) - أي: قال أبو هريرة: نعم- يعني-: خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- لأن «نعم» لتقرير ما قبلها من نفي أو إثبات، وما هنا من الثاني.
ويوافق هذا الحديث ما في «الصحيحين» عن ابن عمر أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم:
يصبغ بالصفرة. وهو عند ابن سعد وغيره أيضا؛ عن ابن عمر بلفظ: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، فأنا أحب أن أصبغ بها، وغيرها من الأحاديث الدالّة على الخضاب، وقد تقدّمت الإشارة إلى الجمع بينها وبين الأخبار الواردة؛ بأنه صلّى الله عليه وسلم لم يغيّر شيبه: بأنه صلّى الله عليه وسلم خضب في وقت وترك الخضاب في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وسيأتي كلام النووي في ذلك.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أبي محمد (عبد الله بن محمّد بن عقيل) ك «دليل» بمهملتين بينهما مثناة- ابن أبي طالب الهاشمي المدني، وأمّ عبد الله زينب بنت علي، وعبد الله هذا قال فيه أبو حاتم وعدّة: ليّن الحديث، وقال ابن خزيمة: لا أحتجّ به، لكن كان أحمد وابن راهويه يحتجّان به، روى عن ابن عمر وجابر وعدّة، وعنه معمر وغيره، مات سنة: - 145- خمس وأربعين ومائة من الهجرة، خرّج له البخاري في «التاريخ» ، وأبو داود وابن ماجه (قال:
رأيت شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوبا) يمكن كون الخضب من أنس، فلا ينافي رواية أنس الأخرى أنه لم يبلغ شعره الخضاب!! على أن رواية أنس هذه قد حكم جمع بشذوذها.
(و) بيّنوه، فلا يقاوم ما (في «الصّحيحين» ) عنه (من طرق) صحيحة(1/330)
كثيرة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب، وإنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم ليكون أبقى له.
وفي «الصّحيحين» أيضا و «سنن أبي داوود» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ...
(كثيرة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب) .
(و) قد جاء أنه (إنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم؛ ليكون أبقى له) كما رواه مالك والدارقطني عن أبي هريرة، وعلى تقدير صحّة رواية أنس هذه؛ فقد جمع بأن الشعر لما تغيّر بكثرة الطيب سمّاه مخضوبا، وبأنه أراد بالنفي أكثر أحواله، وبالإثبات- إن صح عنه- أقلّها.
(وفي «الصّحيحين» أيضا) ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصّفرة. (و) في ( «سنن) الإمام الحافظ (أبي داود» ) سليمان بن الأشعث السجستاني، روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، وأبي بكر وعثمان «ابني أبي شيبة» ، وأحمد بن صالح، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وقتيبة بن سعيد؛ وخلائق. وروى عنه الترمذي، والنسائي، وأبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، وابن الأعرابي، وابن داسة التمّار واللؤلؤي؛ وهما اللذان يرويان عنه كتاب «السنن» .
واتفق العلماء على الثناء على أبي داود ووصفه بالحفظ التام، والعلم الوافر، والإتقان والورع والدين، والفهم الثاقب في الحديث وغيره، وكانت ولادته سنة:
202- مائتين واثنتين، وتوفي بالبصرة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة: - 275- خمس وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
(عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما) ؛ القرشي العدوي المدني، الصحابي الزاهد، أمّه وأمّ أخته حفصة: زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحي.(1/331)
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصفّر لحيته بالورس والزّعفران.
وعن قتادة ...
أسلم مع أبيه قبل بلوغه، وهاجر قبل أبيه، وأجمعوا على أنه لم يشهد بدرا لصغره، وقيل: شهد أحدا؛ وقيل: لم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد غزوة مؤتة، واليرموك، وفتح مصر وإفريقية، وكان شديد الاتّباع لآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم: ألف حديث وستمائة حديث. وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على: مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، وانفرد مسلم بأحد وثلاثين، روى عنه أولاده الأربعة: سالم وحمزة وعبد الرحمن وبلال؛ وخلائق لا يحصون من كبار التابعين وغيرهم.
ومناقبه كثيرة مشهورة، بل قلّ نظيره في المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في كل شيء من الأقوال والأفعال، وفي الزهادة في الدنيا ومقاصدها والتطلّع إلى الرئاسة وغيرها، وكان ابن عمر كثير الصدقة، فربما تصدّق في المجلس الواحد بثلاثين ألفا.
وكان ابن عمر يسرد الصوم، وهو أحد الصحابة الساردين للصوم، منهم:
عمر، وابنه، وأبو طلحة، وحمزة بن عمرو، وعائشة.
وهو أحد السبعة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأعتق ألف رقبة، وحجّ ستين حجّة، واعتمر ألف عمرة، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وأفتى في الإسلام ستين سنة، وتوفي بمكّة سنة: ثلاث وسبعين؛ وعمره ستّ وثمانون سنة، ودفن ب «ذي طوى» مقبرة المهاجرين، ومناقبه وأحواله كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه.
(أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصفّر لحيته بالورس) - وهو: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- (والزّعفران) معروف.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» قال: حدثنا محمد بن بشّار، قال:
حدثنا أبو داود، قال: حدّثنا همام؛ (عن) أبي الخطّاب (قتادة) - كسعادة- ابن(1/332)
قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنّما كان شيئا في صدغيه، ...
دعامة- بكسر الدال المهملة- ابن قتادة ابن عزيز- بفتح العين وبالزاي المكررة- ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس السدوسي البصري التابعي.
ولد أعمى، وسمع أنس بن مالك وابن المسيّب وغيرهم من التابعين.
روى عنه جماعة من التابعين؛ منهم: سليمان التيمي، وحميد الطويل، والأعمش، وأيوب، وخلائق من تابعي التابعين؛ منهم: مطر الورّاق وجرير بن حازم وشعبة والأوزاعي وغيرهم،
وأجمعوا على جلالته وتوثيقه وحفظه وإتقانه وفضله، وكان أحفظ أهل البصرة؛ لا يسمع شيئا إلا حفظه. توفي سنة: - 117- سبع عشرة ومائة، وقيل: ثمان عشرة ومائة؛ وهو ابن ست وخمسين، وقيل: خمس وخمسين رحمه الله تعالى.
(قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟) - أي: هل غيّر بياض رأسه ولحيته ولوّنه بالحنّاء ونحوه؛ لأن الخضب كالخضاب بمعنى: تلوين الشعر بحمرة- (قال: لم يبلغ ذلك) . أي: قال أنس: لم يبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلم حدّ الخضاب الذي في ضمن «هل خضب» ، فالضمير في «يبلغ» راجع للنبي صلّى الله عليه وسلم كما قاله بعض الشّرّاح- وهو الظاهر، وجعله بعضهم راجعا للشعر المفهوم من السياق.
وأتى باسم الإشارة [ذلك] الذي للبعيد!! ليشير إلى بعد وقت الخضاب.
(إنّما كان) - أي: شيبه المفهوم من السياق- (شيئا) أي: قليلا، أي:
بياضا يسيرا، وفي بعض النسخ «شيبا» بدل «شيئا» (في صدغيه) - بضم الصاد وإسكان الدال المهملتين، وقد يقال بالسين؛ تثنية: صدغ؛ بالضم- وهو ما بين لحاظ العين إلى أصل الأذن، ويسمى الشعر الذي تدلّى على هذا الموضع «صدغا» أيضا، ذكره في «المصباح» .(1/333)
ولكن أبو بكر رضي الله تعالى عنه خضب بالحنّاء والكتم.
و (الكتم) : ...
قال القسطلّاني: وهو المراد هنا، وما ذكر في هذه الرواية «من أنّ البياض لم يكن إلا في صدغيه» ؛ مغاير لما في البخاري من «أنّ البياض كان في عنفقته؛ وهي ما بين الذّقن والشّفة» !! ولعل الحصر في هذه الرواية إضافي، فلا ينافي ما في البخاري.
وأما قول الحافظ ابن حجر: ووجه الجمع: ما في مسلم؛ عن أنس: كان في لحيته شعرات بيض، لم ير من الشيب إلا قليل، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت، ولم يخضب؛ إنما كان البياض في عنفقته وفي الصّدغين وفي الرأس؛ نبذ متفرقة. انتهى.
فلم يظهر منه وجه الجمع كما قاله القسطلّاني في «شرح الشمائل» .
وقوله: «لم يخضب» قاله بحسب علمه، لما مرّ عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، (ولكن أبو بكر) الصدّيق (رضي الله تعالى عنه خضب) وجه الاستدراك: مناسبته له صلّى الله عليه وسلم وقربه منه سنّا (بالحنّاء) - بكسر المهملة وتشديد النون والمدّ ك «قثّاء» معروف- (والكتم) بفتحتين، والتاء المثناة مخففة-: نبت فيه حمرة، يخلط بالوسمة ويختضب به لأجل السواد، والوسمة كما في «المصباح» -: نبت يختضب بورقه.
ويشبه؛ كما في «النهاية» أن يكون معنى الحديث: أنه خضب بكل منهما منفردا عن الآخر، لأن الخضاب بهما معا يجعل الشعر أسود، وقد صحّ النهي عن السواد، فالمراد أنه خضب بالحنّاء تارة، وبالكتم تارة أخرى.
لكن قال القسطلاني: الكتم الصرف يوجب سوادا مائلا إلى الحمرة، والحنّاء الصرف يوجب الحمرة، فاستعمالهما معا يوجب بين السواد والحمرة. انتهى.
وعليه فلا مانع من الخضاب بهما معا، قال المصنف: (والكتم) - بفتح الكاف وفتح المثناة فوق مخففة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى يشدّد التاء،(1/334)
نبت فيه حمرة.
وقال النّوويّ: المختار أنّه صبغه في وقت، وتركه في معظم..
والمشهور التخفيف-: (نبت فيه حمرة) يخلط مع الوسمة للخضاب، وفي بعض كتب اللغة: هو ورق يشبه ورق الآس، يصبغ به، وفي كتب الطب: الكتم من نبات الجبال؛ ورقه كورق الآس؛ يخضب به مدقوقا، وله ثمر كقدر الفلفل، ويسودّ إذا نضج، ويعتصر منه دهن يستصبح به في البوادي، وقيل غير ذلك.
وقد اختلف العلماء؛ هل خضب عليه الصلاة والسلام أم لا؟ ومثار الخلاف اختلاف الرواية في ذلك، فأثبته ابن عمر وأبو هريرة وأبو رمثة؛ قال: «أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنّاء» . رواه الحاكم وأصحاب «السنن» ، وأنكره أنس كما تقدّم عنه.
وقال القاضي عياض: منعه الأكثرون لحديث أنس، وهو مذهب مالك؛ فوافق أنسا على الإنكار، وتأوّل حديث ابن عمر بحمله على الثياب؛ لا الشعر، وأحاديث غيره إن صحّت على أنّ تلوّنه من الطيب؛ لا من الصبغ، لما في البخاري وغيره. قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعره صلّى الله عليه وسلم؛ فإذا هو أحمر، فسألت فقيل:
احمرّ من الطيب.
قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف المسؤول المجيب بذلك!! إلا أنّ الحاكم روى أنّ عمر بن عبد العزيز قال لأنس: هل خضب النبي صلّى الله عليه وسلم فإني رأيت شعرا من شعره قد لوّن؟ فقال: إنما هذا الذي لوّن من الطيب الذي كان يطيّب به شعره فهو الذي غيّر لونه، فيحتمل أن يكون ربيعة سأل أنسا عن ذلك فأجابه، ووقع في «رجال مالك» للدارقطني و «الغرائب» له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
لما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم خضب من كان عنده شيء من شعره ليكون أبقى له- كما مر- فإن ثبت هذا! استقام إنكار أنس، ويقبل ما أثبته سواه من التأويل. انتهى.
(وقال) الإمام محيي الدين (النّوويّ) رحمه الله تعالى: (المختار أنّه صبغه) أي: الشعر- حقيقة، لأن التأويل خلاف الأصل (في وقت وتركه في معظم(1/335)
الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهو صادق.
الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى؛ وهو صادق.) قال: وهذا التأويل كالمتعيّن؛ لحديث ابن عمر في «الصحيحين» - أي المتقدم قريبا-: أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، قال: ولا يمكن تركه لصحته، ولا تأويل له. انتهى كلام النووي.
قال الزرقاني: وفيه نظر؛ إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر، ثم قد ورد ما يعيّن الأول؛ وهو ما في «سنن أبي داود» ؛ عن ابن عمر نفسه: كان يصبغ صلّى الله عليه وسلم بالورس والزعفران حتى عمامته، ولذا رجّحه عياض. انتهى كلام الزرقاني.
قال المناوي في «شرح الشمائل» بعد ذكر كلام النووي: وللمخالف أن يقول: تركه في معظم الأوقات وفعله على الندور؛ فيه شعور بأنه إنما فعله أحيانا بيانا للجواز؛ فقصاراه الإباحة، فدلالته على السّنّيّة من أين!؟ انتهى.
أما الإمام العلّامة الحافظ عبد الرحمن بن علي الدّيبع اليمني الزبيدي رحمه الله تعالى، فقد وافق القاضي عياضا على الإنكار، ولمّا بلغه عن بعض فضلاء عصره أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخضب لحيته أنكر ذلك عليه، وكتب هذه الأبيات:
والله ما وقّر المختار من مضر ... من ادّعى أنّه للشّيب قد خضبا
لم يبلغ الخضب فيما قاله أنس ... وهو الخبير به من دون من صحبا
إذ كان خادمه دهرا يلازمه ... ليلا وصبحا مقيما عنده حقبا
قالوا له: احمرّ منه الشّعر؟ قال: نعم ... من كثرة الطّيب تلك الحمرة اكتسبا
ما شاب شيبا إلى فعل الخضاب دعا ... بل كان يدخل تحت الحصر لو حسبا
إذا تدهّن وارى الدّهن ذاك فلم ... يرى له أثرا من رام أو طلبا
ومن يقل «قد أرتني أمّ سلمة مخ ... ضوبا من الشّعر» أي من طيبه انخضبا
إذ لم يقل إنّها قالت له خضب ال ... نّبيّ هذا مقالي الحقّ قد وجبا
ومن روى صبغه بالصّفرة اعتبروا ... ما قال في ثوبه أو نعله أدبا
لا في الشّعور وقس ما قيل فيه على ... ما قيل إنّ رسول الله قد كتبا(1/336)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتنوّر في كلّ شهر، ويقلّم أظفاره في كلّ خمسة عشر يوما.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلى ...
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن عتبة بن عبد قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشّعر) ؛ أي: بتغيير لونه الأبيض بالخضاب بغير سواد؛ كحنّاء، أما تغييره بالسواد! فحرام لغير الجهاد، ثم علّل الأمر بتغيير الشعر بقوله:
(مخالفة للأعاجم) ، فإنّهم لا يصبغون شعورهم، وهذا علّة للتغيير، والأعاجم؛ جمع: أعجم، أو أعجمي: وهم خلاف العرب.
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» - وهو حديث ضعيف-؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ قال (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يتنوّر) - أي: يستعمل النّورة لإزالة الشعر- (في كلّ شهر) مرّة. قال السيوطيّ: والتّنوّر مباح؛ لا مندوب، لعدم ثبوت الأمر به، وفعله؛ وإن حمل على الندب لكن هذا من العاديات! فهو لبيان الجواز، ويحتمل ندبه لما فيه من الامتثال، والكلام إذا لم يقصد الاتباع، وإلّا! كان سنّة. انتهى «نقله العزيزي عن المناوي» .
(ويقلّم أظفاره) - يعني: يزيلها بقلم؛ أو غيره فيما يظهر- (في كلّ خمسة عشر يوما) مرّة. قال الغزالي: قيل: إنّ النورة في كلّ شهر مرّة تطفىء الحرارة، وتنقي اللون، وتزيد في الجماع، وورد أنّه كان يقلّمها يوم الجمعة، وفي رواية:
كلّ يوم جمعة، ولعلّه كان يفعل ذلك تارة كلّ أسبوع، وتارة كل أسبوعين!! بحسب الحاجة. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج ابن سعد؛ عن إبراهيم، وعن حبيب بن أبي ثابت مرسلا؛ وسنده صحيح: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اطّلى) أصله: اتطلى- قلبت التاء طاء وأدغمت- يقال: طليته بالنّورة أو غيرها: لطّخته، واطّليت- بترك المفعول- إذا(1/337)
بالنّورة.. ولي عانته وفرجه بيده.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلى.. بدأ بعورته فطلاها بالنّورة، وسائر جسده أهله.
فعل ذلك بنفسه (بالنّورة) المعروفة؛ وهي: زرنيخ وجصّ (ولي عانته) وهي:
اسم للشعر النابت فوق ذكر الرجل وفرج المرأة؛ وهو قول ابن الأعرابي وابن السّكّيت، وقال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر على الفرجين؛ لا الشعر نفسه! واسمه الإسب- بكسر الهمزة وسكون المهملة-. انتهى زرقاني على «المواهب» .
(وفرجه بيده) الشريفة، ولا يمكّن أحدا من أهله من مباشرتها لشدّة حيائه، وفي رواية بدل «عانته» : «مغابنه» - بغين معجمة- جمع مغبن؛ من: غبن الثوب إذا أثناه، وهي: بواطن الأفخاذ وطيّات الجلد. قال ابن حجر: وهذا الحديث يقابله حديث أنس رضي الله تعالى عنه: كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه. وسنده ضعيف جدا. انتهى.
قال المناوي: وهذا الحديث- أي: المرويّ في المتن- رواه ابن ماجه والبيهقي- إلّا «فرجه» - عن أمّ سلمة. قال في «الفتح» : ورجاله ثقات، لكن أعلّ بالإرسال، وأنكر أحمد صحّته، وروى الخرائطيّ؛ عن أمّ سلمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ينوّره الرجل فإذا بلغ مراقه تولّى هو ذلك. انتهى.
(و) أخرج ابن ماجه؛ عن أم سلمة بإسناد جيد، ورواه عنها البيهقي أيضا- قال في «المواهب» : ورجاله ثقات، لكن أعلّ بالإرسال قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اطّلى) بالنورة (بدأ بعورته) - أي: ما بين سرّته وركبته- (فطلاها بالنّورة) المعروفة بيد نفسه، (و) طلى (سائر) - أي: باقي- (جسده) من كل ما فيه شعر يحتاج لإزالته (أهله) بالرفع فاعل «طلى» ، أي: بعض أهله؛ أي زوجاته.
وإنما لم يمكّن بعض الزوجات من طلاء عورته؛ مع أنه يجوز للزوجة نظر عورة زوجها بإذنه لشدّة حيائه صلّى الله عليه وسلم.(1/338)
.........
فاستعمال النورة مباح؛ لا مكروه، وتوقف السيوطي في كونها سنة، قال:
لاحتياجه إلى ثبوت الأمر بها؛ كحلق العانة ونتف الإبط.
وفعله وإن كان دليلا على السنة؛ فقد يقال: هذا من الأمور العادية التي لا يدلّ فعله لها على سنة. وقد يقال: فعله لبيان الجواز ككلّ مباح. وقد يقال: إنها سنة، ومحلّه كلّه ما لم يقصد اتّباع النبي صلّى الله عليه وسلم في فعله، وإلا! فهو مأجور، آت بالسنة. انتهى.
قال: وأما خبر «كان لا يتنوّر» !! فضعيف لا يقاوم هذا الحديث القوي إسنادا، على أنّ هذا الحديث مثبت وذاك ناف، والقاعدة عند التعارض تقديم المثبت.
قال ابن القيّم: لم يدخل نبينا صلّى الله عليه وسلم حماما قطّ. ويردّه ما رواه الخرائطيّ؛ عن أحمد بن إسحاق الورّاق عن سليمان بن ناشرة؛ عن محمد بن زياد الألهاني قال:
كان ثوبان مولى المصطفى صلّى الله عليه وسلم جارا لي، وكان يدخل الحمام، فقلت: فأنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تدخل الحمام!!. فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدخل الحمام، وكان يتنوّر.
وأخرجه أيضا يعقوب بن سفيان في «تاريخه» ؛ عن سليمان بن سلمة الحمصي؛ عن بقية؛ عن سليمان بن ناشرة به.
وأخرجه ابن عساكر في «تاريخه» من طريقه.
قال ابن القيم: وقد ورد في النّورة عدّة أحاديث هذا أمثلها، يعني حديث أمّ سلمة الذي في المتن، قال: وأما خبر «كان لا يتنوّر، وكان إذا كثر شعره حلقه» !! فجزم بضعفه غير واحد. انتهى من «المناوي الكبير» .
وما قرّره من دخوله صلّى الله عليه وسلم الحمام مخالف لما صرّح به ابن حجر وغيره أن العرب لم تعرف الحمام ببلادها إلّا بعد موته صلّى الله عليه وسلم. فليحرر.(1/339)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصّلاة.
(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ من حديث إبراهيم بن قدامة الجمحي عن الأغرّ، وكذا البزّار عنه؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة) . قال الحفني:
أي اتفق أنه وقع ذلك يوم الجمعة، لا أنه يطلب تأخيره إلى يوم الجمعة أو الخميس، بل المدار على الحاجة إلى ذلك، ولم يثبت في تخصيص يوم بالقص شيء. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: المعتمد أنه يسنّ كيفما احتاج إليه، ولم يثبت في استحباب قصّ الظفر يوم الخميس حديث، ولا في كيفيته، ولا في تعيين يوم له، وما عزي لعلي من النظم باطل. انتهى: وهذا النظم المعزوّ لعليّ:
ابدأ بيمناك وبالخنصر ... في قصّ أظفارك واستبصر
وكذا ما عزي لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر من النظم باطل أيضا؛ كما قاله الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى، وهو قوله:
في قصّ ظفرك يوم السّبت آكلة ...
قال الحفني في حاشية «الجامع الصغير» : لكن صحّ عندنا- كما في الفقه- أنه يطلب البدء بسبابة اليمين. انتهى. قال في «المواهب» : والمراد مما يأخذه من الأظفار: إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر، وإنما استحبّ!! لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدّ يمنع من وصول الماء فيما يجب غسله في الطهارة، ولا يصح الوضوء حينئذ. انتهى ملخصا مع الشرح.
(قبل أن يروح إلى الصلاة) قال المناوي: يعارضه خبر البيهقي؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: «المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم؛ لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضي الصلاة» . وخبره؛ عن ابن عمر:(1/340)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بدفن الشّعر والأظفار.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان:
الشّعر، والظّفر، والدّم، والحيضة، والسّنّ، والعلقة، والمشيمة.
«المسلم يوم الجمعة محرم فإذا صلّى فقد حلّ» والجواب بأنّ هذين ضعيفان، وهذا الجواب لا ينجع؛ إذ خبرنا ضعيف أيضا، وروى الديلمي في «مسند الفردوس» بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «من أراد أن يأمن الفقر وشكاية العين والبرص والجنون؛ فليقلّم أظفاره يوم الخميس بعد العصر، وليبدأ بخنصر يده اليمنى» . انتهى
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأمر بدفن الشّعر) - المبان بنحو قصّ أو حلق أو نتف من نحو رأس أو لحية- (والأظفار) المبانة بقصّ أو قطع أو غيرهما، لأن الآدمي محترم؛ فكذا أجزاؤه، فأمر بدفنها لئلا تتفرّق أجزاؤه، وقد يقع في النار أو غيرها من الأقذار، لكن ذلك الأمر على سبيل الندب؛ لا الوجوب!
(و) أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» بدون سند؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان:
الشّعر، والظّفر، والدّم) - قال الحكيم الترمذي: روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم احتجم، وقال لعبد الله بن الزبير: أخفه حيث لا يراك أحد، فلما برز شربه ورجع، فقال:
«ما صنعت» ؟ فقال: جعلته في أخفى مكان عن الناس. فقال: «شربته!؟» قال: نعم، قال له: «ويل للنّاس منك، وويل لك من النّاس» ، انتهى. أي:
للشدة التي حصلت له باختلاط دمه بدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيقاتل الناس ويقاتلونه، وإن كان شرب دمه جائزا مطلوبا للتبرّك، إلّا أنه يحصل منه الشدة المترتّب عليها ما ذكر. انتهى. «حفني ومناوي» .
(والحيضة) - بكسر الحاء المهملة: خرقة الحيض- (والسّن، والعلقة، والمشيمة) وهي ما يكون فيه المولود حين نزوله من بطن أمه، وإنما يأمر بدفن هذه(1/341)
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحلّاق يحلقه، وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل.
السبعة!! لأنها من أجزاء الآدمي فتحترم كما تحترم جملته لما تقدّم.
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ (عن أنس) بن مالك الصحابي الجليل خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم) في حجة الوداع (والحلّاق) معمر بن عبد الله- كما ذكره البخاري- وقيل: خراش بن أمية- بمعجمتين-، والصحيح الأول، فإنّ خراشا كان الحلّاق بالحديبية (يحلقه) - بكسر اللام- (وأطاف به أصحابه) - دار ما حوله- (فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل) تيمّنا وتبرّكا، وفي «الصحيحين» عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه صلّى الله عليه وسلم لمّا حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره.
قال القسطلّاني: ولم يرو أنه صلّى الله عليه وسلم حلق رأسه الشريف في غير نسك حج؛ أو عمرة فيما علمته، وبه جزم ابن القيّم؛ فقال: لم يحلق رأسه إلّا أربع مرات، قال العراقي في «نظم السيرة» :
يحلق رأسه لأجل النّسك ... وربّما قصّره في نسك
وقد رووا لا توضع النّواصي ... إلّا لأجل النّسك المحّاص
فتبقية الشعر في الرأس سنّة، ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته. انتهى.(1/342)
[الفصل الرّابع في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة]
الفصل الرّابع في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة روى مسلم ...
(الفصل الرابع) من الباب الثاني (في) - بيان ما ورد في (صفة عرقه) بفتح العين والراء- أي: رشح بدنه (صلّى الله عليه وسلم) ؛ لونا وريحا وكثرة، (و) في صفة (رائحته الطّبيعيّة) من غير أن يمسّ طيبا.
(روى) الإمام الحافظ الحجّة؛ أبو الحسين (مسلم) بن الحجّاج بن مسلم القشيري؛- من بني قشير؛ قبيلة من العرب معروفة. النيسابوريّ.
إمام أهل الحديث، سمع قتيبة بن سعيد، والقعنبيّ، وأحمد ابن حنبل، وخلائق من الأئمة، وروى عنه أبو عيسى الترمذي، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد وهو رواية «صحيح مسلم» -، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وخلائق.
وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلوّ مرتبته وحذقه في هذه الصنعة، وتقدّمه فيها، وتضلّعه منها.
ومن أكبر الدلائل على جلالته وإمامته وورعه وحذقه وقعوده في علوم الحديث واضطلاعه منها وتفنّنه فيها كتابه «الصحيح» ، الذي لم يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان، ومع هذا ف «صحيح البخاري» أصحّ وأكثر فوائد، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح المختار.(1/343)
عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير العرق. وكان عرقه صلّى الله عليه وسلّم في وجهه كاللّؤلؤ، وأطيب من المسك الأذفر.
وكانت وفاته عشية الأحد، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة:
261- إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة رضي الله تعالى عنه ورحمه رحمة الأبرار. آمين.
(عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ أنّه قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثير العرق) ؛ وهو قطعة من حديث سيأتي.
(و) أخرج أبو نعيم وغيره؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان عرقه صلّى الله عليه وسلم في وجهه كاللّؤلؤ) في الصفاء والبياض، واللؤلؤ- بهمز أوله وآخره، وبتركهما، وبهمز الأول دون الثاني وعكسه-.
وفي مسلم؛ عن أنس: كان صلّى الله عليه وسلم أزهر اللون كأنّ عرقه اللؤلؤ ... الحديث.
وروى البيهقيّ؛ من حديث عائشة: كان يخصف نعله؛ وكنت أغزل، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتلألأ نورا.
وروى البيهقي؛ من حديث علي: كان عرقه اللؤلؤ.
(وأطيب من المسك الأذفر) - بذال معجمة- أي: شديد الرائحة ويقع على الكريه، ويفرّق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به، وأمّا بدال مهملة!! فخاصّ بالنتن.
روى البيهقيّ؛ من حديث علي: ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر، وفي سنده رجل مجهول، والمراد بيان رائحته الذاتية؛ لا المكتسبة، لأنه لو أريد المكتسبة لم يكن فيه كمال مدح، بل لا تصحّ إرادتها وحدها، ومع كونه كان كذلك؛ وإن لم يمسّ طيبا؛ كان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات؛ مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة ومجالسته المسلمين، وللاقتداء به في التطيّب فإنّه سنّة أكيدة.(1/344)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. ثقل لذلك، وتحدّر جبينه عرقا كأنّه جمان، وإن كان في البرد.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأتي أمّ سليم فيقيل عندها، ...
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد صحيح؛ عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي ثقل لذلك) النزول (وتحدّر) - بفتح الحاء وتشديد الدال المهملتين-؛ أي: سال (جبينه عرقا) بالتحريك؛ تمييز- (كأنّه جمان) - بضم الجيم وتخفيف الميم-، أي: لؤلؤ، لثقل الوحي عليه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (5) [المزمل] ؛ (وإن كان) نزوله (في البرد) ؛ أي: الزمن البارد، لشدّة ما يلقى عليه من القرآن، ولضعف القوّة البشرية عن تحمّل مثل ذلك الوارد العظيم، وللوجل من خوف تقصير فيما أمر به من قول أو فعل، ولشدّة ما يأخذ به نفسه من جمعه في قلبه وحفظه، فيعتريه لذلك حال كحال المحموم، وحاصله: أنّ الشدّة إما لثقله، أو لإتقان حفظه، أو لابتلاء صبره، أو للخوف من التقصير؛ قاله المناوي في «كبيره» .
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ من طريق أبي قلابة؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يأتي أمّ سليم) - بالتصغير- بنت ملحان- بكسر الميم- ابن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية النجّاريّة، يقال اسمها سهلة، أو رميلة، أو رميثة، أو مليكة، أو أنيقة، وهي: الغميصا- بضم الغين المعجمة-، أو الرميصاء- بالراء-، اشتهرت بكنيتها؛ وهي أمّ أنس بن مالك «خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ، وكانت تحت أبي طلحة، وهي من الصحابيّات الفاضلات، وكانت وفاتها في خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، ولفظ الحديث؛ كما في «مسلم» : حدثنا عفّان بن مسلم؛ قال: حدّثنا وهيب؛ قال:
حدّثنا أيوب؛ عن أبي قلابة؛ عن أنس؛ عن أم سليم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يأتيها (فيقيل عندها.) - قال في «النهاية» : القيلولة: الاستراحة نصف النهار؛ وإن لم يكن معها نوم، يقال: قال يقيل قيلولة؛ فهو قائل. انتهى.(1/345)
فتبسط له نطعا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أمّ سليم؛ ما هذا؟» . قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب.
وفي رواية قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال:
«أصبت» .
وكان كفّه صلّى الله عليه وسلّم ألين من الحرير، (فتبسط له نطعا) - بفتح النون وكسرها مع فتح الطاء وسكونها- أربع لغات، وهو: بساط من أديم معروف؛ (فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب) والقوارير.. الحديث.
وفي رواية؛ عن ثابت؛ عن أنس بن مالك قال: دخل علينا النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال عندنا، فعرق، وجاءت أمّي بقارورة؛ فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبي صلّى الله عليه وسلم؛ (فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «يا أمّ سليم؛ ما هذا) الّذي تصنعين» !! (قالت) : هذا (عرقك) . خبر موطّىء لقوله (نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب) . قال الأبّي: وكانت رائحة العرق أخصّ من رائحة البدن كما يوجد في ضدّ طيب الرائحة، فإنّ ذا الرّائحة الكريهة هي منه في حالة العرق أكره منها في حالة عدم العرق.
(وفي رواية) لمسلم؛ من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة؛ عن أنس: (قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال: «أصبت» ) - بكسر التاء- خطاب لأمّ سليم.
وهذه الأحاديث ترجم لها الإمام النووي في «شرح مسلم» : باب طيب عرقه صلّى الله عليه وسلم والتبرّك به، قال النووي: وفيه الدخول على المحارم، وجواز النوم على الأدم؛ وهي الأنطاع والجلود. انتهى.
(و) قال الشعراني في «كشف الغمة» : (كان كفّه صلّى الله عليه وسلم ألين من الحرير،(1/346)
وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلّى الله عليه وسلّم بطيب أم لم يمسّها، وكان يصافح الرّجل فيظلّ يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصّبيّ فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه.
وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلّى الله عليه وسلم بطيب؛ أم لم يمسّها) ؛ أي:
الكف، وفيه قلب، إذ الظاهر «مسّ بها طيبا؛ أم لا» ، وهو إشارة إلى أن طيبه ذاتيّ.
روى مسلم في «صحيحه» ؛ عن أنس رضي الله عنه: ما شممت شيئا قطّ؛ مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا مسست شيئا قطّ؛ حريرا ولا ديباجا ألين مسّا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. انتهى.
(وكان يصافح) ؛ أي: يمسّ النبي صلّى الله عليه وسلم بصفحة يده (الرّجل) - وفي رواية:
يصافحه المصافح؛ وهو: من يريد مصافحته- (فيظلّ) - بفتح الظاء المعجمة- (يومه) - منصوب على الظرفية- (يجد ريحها) الطّيبة طيبا خلقيا، خصّه الله به معجزة وتكرمة، فالإضافة عهدية.
وعند الطبراني؛ من حديث وائل بن حجر: كنت أصافح رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يمسّ جلدي جلده فأتعرّفه بعد في يدي؛ وإنّه لأطيب من ريح المسك. وهذا صادق ببقائه أكثر من يوم لم يقيد التعرف بزمن.
(ويضع يده على رأس الصّبيّ) ؛ أيّ صبي كان لا معيّن، (فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه) لشدّة فوحه برائحتها الحاصلة بمسّه، والفاء للسببية؛ أي: يعرف أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم مسّه فيميّز من بينهم، وفي رواية «لريحها» - باللام التعليلية- ومعناهما واحد، وفي رواية «من ريحها» ، ويحتمل أنّ ذلك في يومه، وأنّه يستمرّ مدّة طويلة.
وهذا الحديث رواه أبو نعيم، والبيهقي بإسناد ضعيف؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمخالفة في آخره، ولفظ عائشة رضي الله تعالى عنها: ويضعها على رأس الصبي؛ فيعرف من بين الصبيان أنّه مسح على رأسه. انتهى.(1/347)
وقال أنس: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح خدّه، ...
وأورده ابن دحية في «المستوفى» بلفظ: وكان صلّى الله عليه وسلم إذا صافح أحدا فيظلّ يومه يجد ريحها. والباقي كما في «المتن» .
(وقال أنس) - كما في البخاري في صفة النبي صلّى الله عليه وسلم-: (ما مسست) - قال الحافظ وغيره: بمهملتين الأولى مكسورة، ويجوز فتحها والثانية ساكنة- (ديباجا) - بكسر المهملة وحكي فتحها، وقال أبو عبيد: الفتح مولّد؛ أي ليس بعربي. قال في «النهاية» : الديباج- بكسر الدال-: الثياب المتخذة من الإبريسم «فارسي معرّب» وقد تفتح داله، ويجمع على ديابيج- بالياء التحية-، ودبابيج بالباء الموحدة- وفي «المصباح» : الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم. انتهى.
(ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، أي: بل كفّه الشريفة كانت الين من كلّ شيء، ولا ينافيه ما مرّ أنّه شثن الكف؛ لأنّ معناه- كما تقدم- أنّه غليظها، فمع كونه غليظ الكفّ كان ناعمها، وتمام الحديث: ولا شممت ريحا قطّ، أو عرقا قطّ أطيب من ريح أو عرق النبي صلّى الله عليه وسلم. هذا بقيّة الحديث عند البخاري، وأخرجه مسلم بنحوه كما تقدّم.
(و) روى مسلم في «صحيحه» ؛ (عن جابر بن سمرة) الصحابي ابن الصحابي (رضي الله تعالى عنهما) قال:
صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان؛ فجعل يمسح خدّي أحدهم واحدا واحدا، قال: وأمّا أنا فمسح خدّي. فذكره المصنف بمعناه حيث قال:
(أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسح خدّه) تأنيسا وشفقة وتبريكا.(1/348)
قال: فوجدت ليده بردا وريحا؛ كأنّما أخرجها من جؤنة عطّار.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل.
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يسلك طريقا فيتبعه ...
(قال) جابر: (فوجدت) - أي أحسست- (ليده) أي: كفّه وما قاربها (بردا) حقيقيا، لرواية «أبرد من الثلج» لا لعارض مسّ ماء، وهذا ممدوح عند العرب لا سيما في الزمن الحارّ، ولا بعد في أنه خاصّ به مع كمال حرارته الغريزية، وقيل: هو عبارة عن لين كفّه ورطوبته، والأقرب أنّه بمعنى الراحة واللّذة والطيب.
قال في «النهاية» : كلّ محبوب عندهم بارد، و «برد الظل طيب العيش» ، و «الغنيمة الباردة: الهنية» .
(و) وجدت لها (ريحا؛ كأنّما أخرجها) - أي: اليد؛ لأنها مؤنثة- (من جؤنة) - بضم الجيم وسكون الهمزة، ويقال بواو ساكنة تليها نون وهاء تأنيث-:
شبه صندوق صغير مغشى بجلد وزند مستدير، يضع العطار فيها عطره، وهو: كلّ ما طابت رائحته، أي: كأنّ ريح يده ريح ما أخرج من جؤنة (عطّار) مضمّخا بالعطر، والجملة صفة «ريحا» ، أو مستأنفة، وقال يزيد بن الأسود: ناولني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك. رواه البيهقي.
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن إبراهيم مرسلا- وهو حديث حسن-: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل) ، لأنّه كان رائحة الطيب صفته؛ وإن لم يمسّ طيبا، فكلما مرّ على محلّ عبق طيبا؛ فكان الشخص إذا شمّ ذلك الطيب عرف أنّه صلّى الله عليه وسلم مرّ من ذلك المحل؛ وإن لم ير ذاته الشريفة- كما سيأتي-.
(و) أخرج البخاري في «تاريخه» ، والبيهقي، والدارمي، وأبو نعيم بألفاظ متقاربة؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يسلك طريقا فيتبعه) - بالرفع؛ أي: يأتي بعد ذهابه منه، لا يمشي تابعا له،(1/349)
أحد.. إلّا عرف أنّه قد سلكه من طيب عرفه.
وذكر إسحاق بن راهويه: ...
وهو بالتخفيف والتشديد، ويجوز نصبه، أي: يمشي بعده بزمان قليل، فالفاء للتعقيب- (أحد) فاعل «يتبع» على حال من الأحوال (إلّا) على حال (عرف أنّه) صلّى الله عليه وسلم (قد سلكه) ؛ أي: دخل الطريق ومرّ فيه (من طيب عرفه) - بالفاء-:
ريحة الطيب، والضمير للنبي صلّى الله عليه وسلم، فيفيد طيب ريح بدنه؛ وإن لم يعرق، وذلك لأن القلب الطّاهر الحيّ يشمّ منه رائحة الطيب، كما أن القلب الخبيث الميت يشمّ منه رائحة النتن، لأن نتن القلب والروح يتّصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعرق يفيض من الباطن، والنفس الطيّبة يقوى طيبها ويفوح عرف عرقها حتّى يبدو على الجسد، والخبيثة بضدّها؛ كذا قال بعضهم؛ نقله الزرقاني رحمه الله تعالى.
ولله درّ من قال:
ولو أنّ ركبا يمّموك لقادهم ... نسيمك حتّى يستدلّ به الرّكب
وروى أبو يعلى، والبزار بإسناد صحيح؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب؛ وقالوا: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذا الطريق.
وما أحسن قول من قال في هذا المعنى:
يروح على غير الطّريق الّتي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته
تنفّسه في الوقت أنفاس عصره ... فمن طيبه طابت له طرقاته
تروح له الأرواح حيث تنسّمت ... له سحرا من حبّه نسماته
قوله «تنفّسه» مبتدأ، وقوله «أنفاس عصره» - بالصاد- خبر على حذف مضاف؛ أي: أهل عصره، وذلك لأن النّفس الواحد منه في وقت يعمّ أهل الأرض جميعا. انتهى.
قال في «الشفا» : (وذكر إسحاق بن راهويه) : أبو يعقوب المروزي، الإمام(1/350)
أنّ تلك كانت رائحته بلا طيب صلّى الله عليه وسلّم.
الزاهد الثقة المجتهد، أمير المؤمنين في الحديث- كما قاله ابن حنبل رحمه الله تعالى- وهو الذي أحيا السّنة بالمشرق. ما سمع شيئا إلّا حفظه، وما حفظ شيئا فنسيه، قال: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألف حديث أسردها. وهو عالم خراسان، طاف البلاد لجمع الحديث، أخذ عنه الإمام أحمد ابن حنبل، والبخاري، ومسلم وغيرهم، استوطن نيسابور وتوفي بها سنة:
238- ثمان وثلاثين ومائتين، وولادته سنة: - 161- إحدى وستين ومائة، و «راهويه» لقب أبيه إبراهيم بن مخلد التميمي الحنظلي، لقب به!! لأنّه ولد بطريق مكة و «راه» بالفارسية: معناه الطريق، و «هو» بالهاء والواو المفتوحتين والمثناة التحتية الساكنة والهاء المكسورة في المشهور، ويقال [راهويه] بضم الهاء وسكون الواو وتحتانية مفتوحة ك «نفطويه» ، وهو أحبّ عند المحدثين، آخره «هاء» .
(أنّ تلك) الرائحة التي كانت تشمّ منه وتبقى في الطريق (كانت رائحته) الذاتيّة المدركة منه صلّى الله عليه وسلم (بلا طيب) يمسّه ويتطيّب منه من خارج، ومع هذا كان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في طيب ريحه؛ لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي ومجالسة المسلمين؛ قاله النووي. ولأنه حبّب إليه كما قال: «حبّب إليّ من دنياكم: النّساء، والطّيب» كما سيأتي.
وروى ابن مردويه؛ عن أنس رضي الله عنه: كان صلّى الله عليه وسلم منذ أسري به ريحه ريح عروس؛ وأطيب من ريح عروس. ولا دلالة فيه على أنّ مبدأ طيب ريح جسده من ليلة الإسراء؛ كما زعم من زعم!! إذ ريح عروس أخصّ من مطلق رائحة طيبه، فلا ينافي أنّه طيّب الرائحة من حين ولد؛ كما رواه أبو نعيم والخطيب: أنّ أمّه آمنة لما ولدته، قالت: ثمّ نظرت إليه؛ فإذا هو كالقمر ليلة البدر، ريحه يسطع كالمسك الأذفر (صلّى الله عليه وسلم) .
وقد تقدّم ما يدلّ على ما قاله إسحاق من الأحاديث. فما قيل «أنّه لم يظهر من(1/351)
وعن أمّ عاصم امرأة عتبة بن فرقد السّلميّ قالت: كنّا عند عتبة أربع نسوة، فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب؛ لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا، وكان إذا خرج إلى النّاس.. قالوا:
ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنّا لنجتهد في الطّيب، ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ ذلك؟! ...
رواه، والظاهر ثبوته عندهم» !! من قلة التتبّع؛ قاله الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» .
(وعن أمّ عاصم امرأة عتبة) - بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية- (ابن فرقد) - بفتح الفاء والقاف بينهما راء ساكنة- ابن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة (السّلميّ) - وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد- شهد خبير وقسم له منها، فكان يعطيه لبني أخواله عاما ولبني أعمامه عاما، وغزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم غزوتين، وولّاه عمر رضي الله عنه في الفتوح، ففتح الموصل سنة: ثمان عشرة مع عياض بن غنم، ونزل بعد ذلك الكوفة، ومات بها. ذكره في «الإصابة» .
(قالت: كنّا عند عتبة) - حال من- (أربع نسوة) ، لأنّه في الأصل صفة لها، فلما قدّم أعرب حالا، و «أربع» خبر كان، (فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب) ؛ أي: في تحصيل أحسنه واستعماله، (لتكون أطيب من صاحبتها) كما هو شأن الضرائر، (وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا) مطيّبا (يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا وكان إذا خرج إلى النّاس؛ قالوا: ما شممنا) - بكسر الميم الأول وتفتح، وإسكان الثانية- (ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما:
إنّا لنجتهد في الطّيب؛ ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ) - بحذف ألف «ما» الاستفهامية، لأنّه يحذف إذا دخل عليها حرف الجر، أي: من أي سبب- (ذلك) الوصف الذي ثبت لك؟!.(1/352)
فقال: أخذني الشّرى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتيته، فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي، وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثمّ مسح ظهري وبطني بيده، فعبق بي هذا الطّيب من يومئذ. رواه الطّبرانيّ في «معجمه الصّغير» .
وروى أبو يعلى ...
(فقال: أخذني الشّرى) - كالصّدى: بثور صغار حمر حكّاكة مكربة، تحدث دفعة غالبا، وتشتدّ ليلا لبخار حارّ يثور في البدن دفعة؛ كما في «القاموس» - (على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي) وما حوله، واقتصر عليه بكونه أفحش، ويحتمل خلافه، (فنفث) - أي: تفل- (في يده) الشريفة (ثمّ مسح ظهري وبطني بيده) الشريفة. (فعبق) - بفتح الباء، أي: لزق- (بي هذا الطّيب من يومئذ.
رواه الطّبرانيّ) : سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللّخمي الشامي، أبو القاسم، من كبار المحدثين، أصله من طبرية الشام؛ وإليها نسبته، ولد بعكا سنة: - 260- ستين ومائتين هجرية، ورحل إلى الحجاز واليمن ومصر والعراق وفارس والجزيرة، وتوفي بأصبهان سنة: - 360- سنة ستين وثلثمائة هجرية، وله ثلاثة معاجم في الحديث: «كبير» و «صغير» و «أوسط» ؛ طبع الصغير «1» ، رتّب فيه أسماء المشايخ على الحروف، وله كتب في التفسير، والأوائل، ودلائل النبوة، وغير ذلك، رحمه الله تعالى آمين (في «معجمه الصّغير» ) و «الكبير» أيضا، كما في «الإصابة» .
(وروى أبو يعلى) : أحمد بن علي بن المثنّى التميميّ الموصليّ الحافظ
__________
(1) والكبير والأوسط أيضا؛ على نقص في الكبير.(1/353)
والطّبرانيّ قصّة الّذي استعان بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة فسلت له فيها من عرقه، وقال: «مرها فلتطّيّب به» ، فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب، فسمّوا «بيت المطيّبين» .
المشهور الثقة، نعته الذهبي ب «محدّث الموصل» ، عمّر طويلا وتفرّد ورحل الناس إليه، وزاد عمره على المائة، وكانت وفاته سنة: - 307- سبع وثلثمائة- بتقديم المهملة على الموحدة- بالموصل، وله كتب منها «المعجم» في الحديث، و «مسندان» كبير وصغير.
(والطّبرانيّ) ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (قصّة) - مفعول «روى» - (الّذي استعان بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة) - أي: طلبها من الرجل- (فسلت) ؛ أي: مسح بأصبعه (له فيها من عرقه) - محرّكة؛ أي بعضه- (وقال: «مرها فلتطّيّب به» ) وهذا الحديث ذكره المصنف بالمعنى تبعا لصاحب «المواهب» .
ولفظ أبي يعلى والطبرانيّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
جاء رجل فقال: يا رسول الله؛ إنّي زوّجت ابنتي؛ وأنا أحبّ أن تعينني بشيء، قال: «ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدا فاتني بقارورة واسعة الرّأس وعود شجرة، وآية ما بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب» .
فلما كان من الغد أتاه بذلك، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يسلت العرق عن ذراعيه حتّى امتلأت القارورة؛ فقال: «خذها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتطيّب به» .
(فكانت إذا تطيّبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب) ، وإن بعدوا عن دارها؛ هذا ظاهره، ولا مانع؛ إذ هو أمر خارق، (فسمّوا «بيت المطيّبين» ) قال الذهبي: حديث منكر؛ أي ضعيف. انتهى «زرقاني» .(1/354)
[الفصل الخامس في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه]
الفصل الخامس في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكّة يتطيّب منها. ومعنى (السّكّة) : طيب ...
(الفصل الخامس) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة طيبه صلّى الله عليه وسلم وتطيّبه) ؛ أي: استعماله الطيب وما يتعلّق بذلك
فائدة: يتأكّد الطّيب للرجال في نحو يوم الجمعة، والعيدين، وعند الإحرام، وحضور الجماعة، والمحافل، وقراءة القرآن، والعلم، والذكر، ويتأكّد لكلّ من الرجل والمرأة عند المباشرة، فإنّه من حسن المعاشرة.
روى أبو داود في «سننه» ، والترمذي في «شمائله» بسند حسن؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه) قال: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سكّة) - بضم السين المهملة وتشديد الكاف، - قيل: هي طيب مركّب، وقيل: وعاء الطيب، فإن كان المراد بها هنا نفس الطيب فمن في قوله (يتطيّب منها) للتبعيض، وإن كان المراد بها الوعاء فهي للابتداء.
قال العلّامة ابن حجر الهيتمي: والظاهر أنّ المراد بها: ظرف يوضع فيه الطيب؛ كما يشعر به قوله «منها» ، لأنه لو أريد بها نفس الطيب لقيل يتطيب بها؛ وقد علمت أنّه يصحّ إرادة نفس الطيب؛ وتكون «من» للتبعيض.
وإنما قيل «منها» ليشعر بأنه يستعمل بدفعات، بخلاف ما لو قيل بها، فإنه يوهم أنّه يستعمله بدفعة؛ كما قاله ميرك. انتهى «باجوري» .
(ومعنى السّكّة) - بتشديد السين والكاف-: (طيب) يتّخذ من الرامك ...(1/355)
مجموع من أخلاط، ويحتمل أن يكون وعاء.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ المسك فيمسح به رأسه ولحيته.
- بكسر الميم وتفتح-؛ وهو: شيء أسود يخلط بمسك، ويعرك ويقرص ويترك يومين، ثم يثقب بمسلّة؛ ثم ينظم في خيط، وكلّما عتق عبق؛ كذا في «القاموس» .
وقال الجزري في «تصحيح المصابيح» : هي طيب (مجموع من أخلاط.
ويحتمل أن يكون وعاء) للطيب. انتهى «باجوري» وغيره.
وروى النسائي، والبخاري في «تاريخه» ؛ عن محمد بن علي؛ قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتطيّب؛ قالت: نعم بذكارة الطيب:
المسك والعنبر، انتهى. قال في «النهاية» : ذكارة الطيب- بالكسر- وذكورته:
ما يصلح للرجال، وهو ما لا لون له؛ كالمسك، والعنبر، والعود. انتهى.
(و) أخرج أبو يعلى بسند حسن؛ عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأخذ المسك) - بكسر الميم-؛ وهو طيب معروف، وأصله دم يتجمّد في خارج سرّة الظبية ثم ينقلب طيبا، وهو طاهر إجماعا، ولا يعتدّ بخلاف الشيعة. انتهى «باجوري» .
(فيمسح به رأسه ولحيته) ، ظاهره أن استعمال الطيب مطلوب مطلقا، ولو كان الشخص خاليا عن الناس، فيسنّ التطيّب بسائر أنواع الطيب، وأفضله المسك، ولا عبرة بقول العامّة «إنّه طيب النساء» .
وقال حجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: الجاهل يظنّ أنّ ذلك من حبّ التزيّن للناس؛ قياسا على أخلاق غيره، وتشبيها للملائكة بالحدادين، وهيهات!! فقد كان مأمورا بالدعوة، وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم، وتحسين صورته في أعينهم، لئلا تزدريه نفوسهم، فينفّرهم ذلك عنه، ويتعلّق المنافقون به في تنفير الناس عنه، وهذا الفعل واجب على كل عالم تصدّى لدعوة الخلق إلى الحق. انتهى؛ نقله المناوي في «كبيره» .(1/356)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّخ رأسه بالمسك.
وكان أنس لا يردّ الطّيب؛ وقال: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان لا يردّ الطّيب.
فائدة: ليس من الكبر التجمّل بالملابس ونحوها، بل قد يكون ذلك مندوبا؛ كالتجمّل للصلوات والجماعات ونحوها، وفي حقّ المرأة لزوجها وهو لها، وفي حقّ العالم لتعظيم العلم في نفوس الناس، وقد يكون واجبا في حقّ ولاة الأمور وغيرهم؛ إذا توقف عليهم تنفيذ الواجب، فإن الهيئة المزرية لا تصلح معها مصالح العامّة في هذه الأعصار، لما جبلت عليه النفوس الآن من التعظيم بالصور؛ عكس ما كان عليه السلف الصالح من التعظيم بالدين والتقوى. انتهى؛ ذكره السيد محمد بن أحمد عبد الباري الأهدل في «نشر الأعلام» ؛ شرح «البيان والإعلام» للسيد أبي بكر بن أبي القاسم الأهدل رحمه الله.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز النسائي:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يضمّخ) - بتشديد الميم وآخره خاء معجمة- أي:
يلطّخ (رأسه بالمسك) بأن يأخذ المسك بيده الشريفة فيمسح به رأسه؛ كما بيّنته الرواية السابقة.
(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن ثمامة بن عبد الله قال: (كان أنس) بن مالك (لا يردّ الطّيب، وقال) - أي:
أنس-: (إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لا يردّ الطّيب) - أي: لخفّة المنّة فيه، وقد ورد النهي عن ردّه مقرونا ببيان الحكمة، في حديث صحيح: رواه أبو داود، والنسائي، وأبو عوانة؛ من طريق عبيد الله بن أبي جعفر؛ عن الأعرج؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من عرض عليه طيب فلا يردّه، فإنّه خفيف المحمل طيّب الرّائحة» . قال ميرك: وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن قال «ريحان» بدل «طيب» ! ورواية الجماعة أثبت.(1/357)
وعن أبي عثمان النّهديّ رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أعطي أحدكم الرّيحان ...
والمحمل هنا- بفتح الميم الأولى وكسر الثانية-، والمراد به الحمل- بفتح الحاء المهملة-، والمعنى أنّه ليس بثقيل؛ بل قليل المنّة، ومع هذا طيّب الرائحة، والطّيب ذو الرائحة الطيبة جعله الله تعالى نافعا لمالكه وغيره، فلا يختصّ مالكه إلّا بكونه حامله، والمقصود منه مشترك بينه وبين غيره، والهديّة إذا كانت قليلة وتتضمّن منفعة فلا تردّ، لئلا يتأذّى المهدي؛ إذا لم يكن طماعا. انتهى «باجوري وعلي قاري» .
ويلحق بالطيب كلّ ما لا منّة فيه كالوسادة والدّهن والحلو، ورزق من يحتاج إليه، وقد أوصلها السيوطي إلى سبعة، ونظمها فقال:
عن المصطفى سبع يسنّ قبولها ... إذا ما بها قد أتحف المرء خلّان
فحلو وألبان ودهن وسادة ... ورزق لمحتاج وطيب وريحان
(و) أخرج أبو داود في «مراسيله» ، والترمذي في «الشمائل» و «الجامع» ؛ وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ (عن أبي عثمان النّهديّ) - بفتح النون وسكون الهاء- نسبة إلى بني نهد قبيلة باليمن، واسمه عبد الرحمن بن ملّ- بتثليث الميم وتشديد اللام- ابن عمرو بن عدي، مشهور بكنيته، ثقة عابد، مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم؛ ولم يجتمع به، فليس بصحابي، وإنما سمع من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي موسى، وروى عنه قتادة وغيره، ومات سنة:
خمس وتسعين- بتقديم المثناة على المهملة-، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل أكثر، فالحديث مرسل؛ كما صرّح به السيوطيّ في «الجامع الصغير» (رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أعطي) - بالبناء للمفعول- و (أحدكم) - نائب فاعل؛ وهو المفعول الأول والريحان مفعول ثان-، أي: إذا عرض على أحدكم- (الرّيحان) - وهو كلّ نبت طيّب الريح من أنواع المشمومات؛ على ما في(1/358)
فلا يردّه؛ فإنّه خرج من الجنّة» .
وعن أنس رضي الله عنه: كان أحبّ الرّياحين إليه صلّى الله عليه وسلّم الفاغية.
«النهاية» ، فمنه الورد والفاغية والنّمام وغيرها- (فلا يردّه) - بفتح الدال-، وهو نصّ في كونه نهيا، بخلاف ما لو روي- بضم الدال- فإنه يحتمل أنّها نافية، فيكون نفيا لفظا؛ نهيا معنى، كقوله تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (79) [الواقعة] . وتقدّم قريبا خبر مسلم: «من عرض عليه ريحان فلا يردّه فإنّه خفيف المحمل طيّب الرّيح» .
(فإنّه خرج من الجنّة» ) ، يحتمل أن بذره خرج من الجنة، وليس المراد أنه خرجت عينه من الجنّة.
وإنّما خلق الله الطيب في الدنيا!! ليذكر به العباد طيب الجنة، ويرغبون فيها بزيادة الأعمال الصالحة؛ ليصلوا بسببها إلى الجنة.
والحاصل أنّ طيب الدنيا أنموذج من طيب الجنة، وإلّا! فطيبها يوجد ريحه مسيرة خمسمائة عام؛ كما في حديث.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ من حديث عبد الحميد بن قدامة- وهو حسن لغيره- (عن أنس) خادم رسول الله (رضي الله عنه) قال:
(كان أحبّ الرّياحين) - جمع ريحان: نبت طيّب الريح؛ أو كلّ نبت طيب الريح؛ كذا في «القاموس» وفي «المصباح» : الريحان كل نبت طيب الريح، لكن إذا أطلق عند العامة انصرف إلى نبات مخصوص- (إليه صلّى الله عليه وسلم الفاغية) نور الحنّاء، وهو من أطيب الرياحين وأحسنها، وجاء خبر «أنّها سيّدة الرّياحين في الدّنيا والآخرة» .
وفي «الشّعب» ؛ عن ابن درستويه: الفاغية: عود الحناء يغرس مقلوبا فيخرج بشيء أطيب من الحناء فيسمّى «الفاغية» ، وفيه منافع كثيرة من أوجاع(1/359)
و (الفاغية) : زهر الحنّاء.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّيح الطّيّبة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب والرّائحة الحسنة، ويستعملهما كثيرا، ويحضّ عليهما، ...
العصب والفالج والصداع وأوجاع الجنب والطحال وغيرها.
(والفاغية: زهر الحنّاء) ، وقيل: عود الحناء- كما سبق-.
(و) أخرج أبو داود، والحاكم- وهو حديث صحيح؛ كما قال العزيزي-؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبه الرّيح الطّيّبة) ، لأنها غذاء الروح، والروح مطيّة القوى، والقوى تزداد بالطيب، وهو ينفع الدماغ والقلب وجميع الأعضاء الباطنة، ويفرح القلب ويسرّ النفس، وهو أصدق شيء للروح وأشدّه ملاءمة لها، وبينه وبين الروح نسب قريب، فلهذا كان أحبّ المحبوبات إليه من الدنيا؛ ذكره المناوي في «الكبير»
(و) في «الشفاء» للقاضي عياض: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يحبّ الطّيب) وهو كل ما يتطيّب به؛ من بخور ومسك وعنبر ونحوها، (والرّائحة الحسنة) الحاصلة من غير جنس الطيب، كالريحان وسائر الزهور العطرة، ولذا كان صلّى الله عليه وسلم لا يردّ هديّتها (ويستعملهما) أي: الطيب والرائحة (كثيرا) أي: في أكثر أوقاته استعمالا مناسبا لكلّ منهما، مع أنّه بذاته بل وبفضلاته طيب؛ كما هو مقرّر في محلّه، وكان استعمالها لزيادة المبالغة بنيّة ملاقاة الملائكة، فإنّهما تقوّيان الحواسّ، وتورثان النشاط والقوة، والملائكة تحبّهما وتكره الرائحة الخبيثة، بعكس الشياطين.
(ويحضّ عليهما) بضمير التثنية للطيب والرائحة، وفي نسخة «عليها» فالضمير لها، لأنها المقصودة من الطيب، لا لأنّها أعمّ كما قيل لتغايرهما، أي:
كان صلّى الله عليه وسلم يحثّ الناس ويحرّضهم على استعمال ذلك، لما لهم فيه من الفوائد،(1/360)
ويقول: «حبّب إليّ من دنياكم: النّساء، ...
ولحضور الملائكة الحفظة والكتبة عندهم، ولملاقاتهم له بما يحبّه، ومن مروءة الإنسان نظافته وطيب رائحته.
(ويقول) - كما في الحديث الذي رواه النسائي، والطبرانيّ في «الأوسط» و «الصغير» ، والحاكم في «المستدرك» - بسند جيد بدون لفظ: وجعلت؛ وقال: على شرط مسلم-، والبيهقي في «سننه» ، وأبو عوانة في «مستخرجه على الصحيح» ، وابن عدي في «كامله» ، - وقال العقيلي: إنّه ضعيف، لكن قال الحافظ: إسناده حسن، قال الشهاب الخفاجيّ كالحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» : وأخرجه أحمد وأبو يعلى في «مسنديهما» ، قال الزرقاني:
وأخرجه الإمام أحمد في «كتاب الزهد» ، ووهم من عزاه ل «مسنده» - كلّهم؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ( «حبّب) - بالبناء للمفعول- (إليّ من دنياكم: النّساء) لنقل ما بطن من الشريعة مما يستحيا من ذكره بين الرجال.
قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل نبوّتهم، وذلك أن النّور إذا امتلأ منه الصدر، فغاص في العروق؛ التذّت النفس والعروق؛ فأثار الشهوة وقوّاها.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السرّ في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّ الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يستحيا من ذكره، وما لا يستحيا منه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشدّ الناس حياء، فجعل الله له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله؛ ويسمعنه من أقواله التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال، ليكتمل نقل الشريعة، فقد نقلن ما لم يكن ينقله غيرهن، في ما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوّته، ومن جدّه واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كلّ ذي لبّ أنّها لا تكون إلّا لنبي، وما كان يشاهدها غيرهنّ، فحصل بذلك كلّ خير عظيم. انتهى «عزيزي» .(1/361)
والطّيب، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» .
(والطّيب،) لأنّه حظّ الملائكة، ولا غرض لهم في شيء من الدنيا سواه، فكأنّه يقول: حبّي لهاتين إنما هو لأجل غيري، قال الطيبي: جيء بالفعل مجهولا!! دلالة على أنّ ذلك لم يكن من جبلّته وطبعه، وأنه مجبور على هذا الحبّ؛ رحمة للعباد ورفقا بهم، بخلاف الصلاة فمحبوبة له بذاتها فلذا قال:
(وجعلت قرّة عيني) - فرحها وسرورها- (في الصّلاة» ) ذات الركوع والسجود، لأنّها محلّ المناجاة ومعدن المصافاة.
وقيل: المراد صلاة الله وملائكته عليه، ومنع بأنّ السياق يأباه.
وقدّم النساء!! للاهتمام بنشر الأحكام وتكثير سواد الإسلام، وأردف بالطّيب؛ لأنّه من أعظم الدوعي لجماعهنّ، مع حسنه بالذّات وكونه كالقوت للملائكة، وأفرد الصلاة عنهما!! لأنّها غيرهما بحسب المعنى، إذ ليس فيها تقاضي شهوة نفسانية؛ كما فيهما.
قال العلامة ابن الحاج في كتابه «المدخل» : وانظر إلى حكمة قوله عليه الصلاة والسلام «حبّب إليّ» ولم يقل: أحببت، وقال «من دنياكم» ، فأضافها إليهم؛ دونه عليه الصلاة والسلام، فدلّ على أن حبّه كان خاصّا بمولاه تبارك وتعالى، فلذا غاير؛ فقال: «وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» ، فكان عليه الصلاة والسلام بشري الظّاهر؛ ملكوتي الباطن، وكان عليه الصلاة والسلام لا يأتي إلى شيء من الأحوال البشرية إلّا تأنيسا لأمّته وتشريعا لها، لا لأنّه محتاج إلى شيء من ذلك بحيث لو تركه لأضرّ به، ألا ترى إلى قوله تعالى (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [50/ الأنعام] ، فقال «لكم» ولم يقل «إني ملك» ؛ فلم ينف الملكيه عنه إلّا بالنسبة إليهم، أعني بكونه ملكا في معانيه عليه الصلاة والسلام؛ لا في ذاته الكريمة، إذ أنه عليه الصلاة والسلام يلحق بشريته ما يلحق البشر، ولهذا قال سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي: هو بشر ليس كالأبشار، كما أن الياقوت حجر ليس كالأحجار، وهذا منه رحمه الله تعالى على(1/362)
ورواية: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» .. لا أصل لها، ففي «المواهب» : ...
سبيل التقريب للفهوم، فدلّ على أنّه صلّى الله عليه وسلم كان ملكيّ الباطن، ومن كان ملكي الباطن ملك نفسه، فلا تغلب عليه بحب شيء من الدنيا. انتهى كلام «المدخل» ؛ نقله عنه القسطلّاني.
قال المصنف رحمه الله: (ورواية: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» ) ؛ كما اشتهر على الألسنة (لا أصل لها، ففي) «شرح الشفاء» للعلامة ملّا علي قاري:
إنّ لفظ «ثلاث» خطأ فاحش. ومما يدلّ على بطلانه تغيّر سياق الحديث في قوله:
«وجعلت ... الخ» . انتهى. وقال الشهاب الخفاجي: إنّها غير ثابتة؛ وإن أثبتها الزمخشري والغزاليّ في «الإحياء» ، والقاضي عياض تبعا لهم، وقد أفردنا هذا الحديث بتعليقة مستقلة. انتهى.
وفي ( «المواهب) اللدنية» للعلامة القسطلاني:
تنبيه: وقع في «الإحياء» للغزالي في موضعين، وفي تفسير آل عمران؛ من «الكشاف» عند قوله تعالى (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [97/ آل عمران] وتبعه البيضاوي، وكذا وقع للراغب وابن عربي في «الفصوص» وكثير من كتب الفقهاء «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» ، وقالوا: إنه عليه الصلاة والسلام، قال «ثلاث» ولم يذكر إلّا اثنتين: الطّيب والنّساء!! لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تعيين ما يصلح جعله مثالا للمتروك، ومنه قول الشاعر:
إنّ الأحامرة الثّلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا
الخمر والماء القراح وأطّلي ... بالزّعفران فلا أزال مولّعا
وبعضهم ينشدها هكذا:
إنّ الأحامرة الثّلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا
الرّاح واللّحم السّمين وأطّلي ... بالزّعفران فلن أزال مولّعا(1/363)
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر:
فلم يذكر الماء، وهذا عندهم يسمّى «طيّا» ، وهو: أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلّم، كإبهامه على السامع، لعدم إرادة المتكلّم وقوف السامع عليه لنكتة، وأنشد الزّمخشريّ شاهدا عليه قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
فصرّح بذكر ثلثين وطوى ذكر الثالث، كأنه قيل: والثالث من الأخيار الذين ليسوا موالي ولا عبيدا، وفائدة الطيّ عندهم: تكثير ذلك الشيء، لتذهب النفس كلّ مذهب ممكن، لكن هذا التكلّف إنّما يجيء لو ورد لفظ «ثلاث» ولم يرد!!.
فقد (قال شيخ الإسلام) شهاب الملّة والدين أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد أبو الفضل (الحافظ ابن حجر) : لقب لبعض آبائه، الكناني العسقلاني القاهريّ الشافعي، الحافظ الكبير الشهير، الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعلله في الأزمنة المتأخّرة.
ولد في ثاني عشر شعبان سنة: - 773- ثلاث وسبعين وسبعمائة بمصر.
ونشأ بها يتيما في كنف أحد أوصيائه فحفظ القرآن؛ وهو ابن تسع، وتفقّه بالبلقيني والبرماوي وابن الملقّن والعزّ بن جماعة، وعليه أخذ غالب العلوم الآلية والأصولية، ثم حبّب الله إليه فنّ الحديث، فأقبل عليه بكلّيّته فعكف على الزين العراقي وحمل عنه علم الحديث؛ سندا ومتنا، وعللا واصطلاحا.
وارتحل إلى بلاد الشام والحجاز واليمن ومكة، وأكثر جدا من المسموع والشيوخ، وسمع العالي والنازل، واجتمع له من ذلك ما لم يجتمع لغيره، وأدرك من الشيوخ جماعة كلّ واحد رأس في فنّه الذي اشتهر به؛ فالتنوخيّ في معرفة القراءات، والعراقيّ في الحديث، والبلقينيّ في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقّن في كثرة التصانيف، والمجد صاحب «القاموس» في حفظ اللغة، والعزّ بن جماعة في تفنّنه في علوم كثيرة بحيث كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها.(1/364)
إنّ لفظ «ثلاث» لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى، وكذلك قاله الوليّ العراقيّ ...
ثم تصدّى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه؛ مطالعة وإقراء، وتصنيفا وإفتاء، وتفرّد بذلك، وشهد له بالحفظ والإتقان القريب والبعيد، والعدوّ والصديق، حتّى صار إطلاق لفظ «الحافظ» عليه كلمة إجماع، ورحل الطلبة إليه من الأقطار، وطارت مؤلفاته في حياته، وانتشرت في البلاد، وتكاتبت الملوك من قطر إلى قطر في شأنها، وهي كثيرة جدّا عدّدها السخاوي في «الضوء اللامع» ، وأخذ عنه الناس طبقة بعد طبقة، وألحق الأصاغر بالأكابر.
واستمر على طريقته حتى مات في أواخر ذي الحجة سنة: - 852- اثنين وخمسين وثمانمائة، وكان له مشهد لم ير مثله، ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
قال في تخريج أحاديث «الكشاف» : (إنّ لفظ «ثلاث» لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى) ، لأن الصلاة ليست من أمور الدنيا.
(وكذلك قاله) شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم (الوليّ) ؛ أي: ولي الدين بن زين الدين (العراقيّ) الحافظ ابن الحافظ، الإمام العلّامة المتفنّن المحقّق البارع.
ولد في سحر يوم الإثنين ثالث ذي الحجة سنة: - 762- اثنتين وستين وسبعمائة بالقاهرة، وأحضره والده على جماعة من الشيوخ، ورحل به إلى دمشق فأحضره بها على أعيان علمائها، وأخذ عمن دبّ ودرج، وكتب الطّباق وضبط الأسماء، وتدرّب بوالده في الحديث وفنونه، وكذا في غيره من فقه وأصول وعربية ومعان وبيان، وبرع في جميع ذلك وشارك في غيرها من الفضائل، وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس، واستمرّ يترقّى لمزيد ذكائه حتى ساد، وأبدأ وأعاد، وظهرت نجابته ونباهته، واشتهر فضله وبهر عقله، مع حسن خلقه وخلقه، وشرف نفسه، وتواضعه، وانجماعه، وصيانته وديانته، وأمانته،(1/365)
في «أماليه» ، ...
وعفّته، وضيق حاله وكثرة عياله، ودرّس وهو شاب في حياة أبيه؛ وقال أبوه مادحا لدروسه:
دروس أحمد خير من دروس أبه ... وذاك عند أبيه منتهى أربه
وولي القضاء بعد موت والده، فسار فيه أحسن سيرة، بعفّة ونزاهة، وحرمة وصرامة، وشهامة ومعرفة، وله مؤلفات كثيرة، وأقرأ مصنّفاته في حياته، وكان موته مبطونا شهيدا آخر يوم الخميس سابع عشر من شعبان سنة؛- 826- ست وعشرين وثمانمائة، ثم دفن إلى جنب والده بتربته رحمه الله تعالى.
(في «أماليه» ) - جمع إملاء؛ وهو: من وظائف العلماء قديما، خصوصا الحفاظ من أهل الحديث في يوم من أيّام الأسبوع يوم الثلاثاء؛ أو يوم الجمعة، وهو المستحبّ، كما يستحبّ أن يكون في المسجد لشرفهما «1» .
وطريقهم في الإملاء: أن يكتب المستملي في أوّل القائمة: هذا مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا، ويذكر التاريخ، ثم يورد المملي بأسانيده أحاديث وآثارا، ثم يفسّر غريبهما ويورد من الفوائد المتعلّقة بها بإسناد؛ أو بدونه ما يختاره ويتيسر له، وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيا كثيرا، ثم ماتت الحفّاظ وقلّ الإملاء.
وقد شرع الحافظ السيوطيّ في الإملاء بمصر سنة: - 872- اثنتين وسبعين وثمانمائة، وجدّده بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ ابن حجر، على ما قاله في «المزهر» .
وكتب الأمالي كثيرة: منها أمالي أبي زرعة الوليّ العراقي المذكورة، وهي تنوف عن ستمائة مجلس، وقبلها أمالي ابن السّمعاني، وابن عساكر، وابن دريد، وابن الشجري، وابن الحاجب، أمالي الحافظ السلامي، أمالي المحاملي، أمالي
__________
(1) أي: شرف الجمعة وشرف المسجد.(1/366)
وعبارته: (ليست هذه اللّفظة: وهي (ثلاث) في شيء من كتب الحديث ...
بديع الزمان الهمذاني، أمالي ثعلب، أمالي الزمخشري، أمالي الزجاج، أمالي الإمام الرافعي، أمالي الإمام الشافعي، أمالي شمس الأئمة السرخسي، أمالي الإمام أبي يوسف، أمالي الحاكم أبي عبد الله، أمالي قاضي خان، أمالي القالي، أمالي القضاعي، أمالي الحافظ ابن حجر العسقلاني، وهذه الأمالي أغلبها في الحديث، وبعضها في النحو والعربية، وبعضها في الفقه.
وقد كانت سنّة الإملاء انقطعت بموت الحافظ ابن حجر وتلاميذه كالحافظين السخاوي والسيوطي، وبهما ختم الإملاء، فأحياه بعد مماته نادرة الدنيا في عصره ومصره، الذي لم يأت بعد الحافظ ابن حجر وتلاميذه أعظم منه اطلاعا، ولا أوسع رواية، ولا أعظم شهرة، ولا أكثر منه علما بهذه الصناعة الحديثية، الشيخ العلامة الحافظ السيد محمد بن محمد مرتضى الزبيدي المتوفى سنة: - 1205- خمس ومائتين وألف رحمه الله تعالى، خرّيت هذه الصناعة، ومالك زمام تلك البضاعة، فأحيا إملاء الحديث على طريق السلف، في ذكر الأسانيد والرّواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، ووصلت أماليه إلى نحو أربعمائة مجلس، كان يملي في كل إثنين وخميس، وقد جمع ذلك في مجلدات، ذكر ذلك الحافظ السيد عبد الحي الكتاني في كتاب «فهرس الفهارس» رحمهم الله تعالى. آمين.
(وعبارته) قال العلامة المحقق أحمد بن حجر الهيتمي المكي رحمه الله تعالى في كتابه «الحق الواضح» : المقرّر الناقل متى قال «وعبارته كذا» تعيّن عليه سوق العبارة المنقولة بلفظها، ولم يجز له تغيير شيء منها، وإلّا كان كاذبا، ومتى قال:
«قال فلان» كان بالخيار بين أن يسوق عبارته بلفظها؛ أو بمعناها من غير نقلها، لكن لا يجوز له تغيير شيء من معاني ألفاظها، انتهى نقله عنه في «الفوائد المكية» .
(ليست هذه اللّفظة: وهي «ثلاث» في شيء من كتب الحديث) فليست(1/367)
وهي مفسدة للمعنى؛ فإنّ الصّلاة ليست من أمور الدّنيا، وكذا صرّح به الزّركشيّ وغيره، كما حكاه شيخنا- يعني الحافظ السّخاويّ ...
مدرجة أيضا، كما زعمه من لا إلمام له بالفن، فالمدرج الملحق بحديث من قول راو بلا ظهور فصل.
(وهي مفسدة للمعنى، فإنّ الصّلاة ليست من أمور الدّنيا. وكذا صرّح به) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر بدر الدين (الزّركشيّ) بوزن: الجعفري، التركي الأصل المصري الشافعي المشهور، العلامة المحقق الفقيه الأصولي المتفنن، المولود سنة: - 745- خمس وأربعين وسبعمائة، والمتوفى سنة:
794- سبعمائة وأربع وتسعين- بتقديم المثناة على المهملة-.
له تصانيف كثيرة في عدّة فنون، منها «البرهان في علوم القرآن» ، و «البحر المحيط» في الأصول، و «لقطة العجلان» ، و «الديباج في توضيح المنهاج» ، و «الخادم شرح الروضة» ، و «الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة» ، و «قواعد الفقه» وغيرها، رحمه الله تعالى.
قال في «الأحاديث المشتهرة» له: لم يرد فيه لفظ «ثلاث» وزيادته محيلة للمعنى، فإن الصلاة ليست من الدنيا. (وغيره) وكأنّهم لم يعتبروا توجيه الزمخشري وغيره بأنه من الطي، لأنّه إنّما يصار إليه لو وجدت «1» ، أما حيث لم توجد؛ فلا داعي للتوجيه، بل ذكر التوجيه والاعتناء به يوهم قاصر الباع في الحديث ورودها؛ (كما حكاه) ؛ أي: ما نقله عن الحافظ ابن حجر والوليّ العراقي والبدر الزركشي (شيخنا- يعني) العلّامة (الحافظ) أبا الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر الملقب «شمس الدين (السّخاويّ» ) الأصل، نسبة ل «سخا» : قرية غربي الفسطاط بمصر بلد آبائه، القاهري المولد والنشأة،
__________
(1) أي لفظة «ثلاث» في الحديث.(1/368)
في «المقاصد الحسنة» - وأقرّه) انتهى.
وأنكره أيضا ابن القيّم ...
الشافعي المذهب، الإمام شيخ الإسلام، المؤرّخ المحقّق الرّحالة الناقد.
المولود بالقاهرة في شهر ربيع الأول سنة: - 831- إحدى وثلاثين وثمانمائة، والمتوفى سنة: اثنتين وتسعمائة- بتقديم المثناة على السين- وقد تقدمت ترجمته رحمه الله تعالى
(في) كتابه ( «المقاصد الحسنة) في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة» (وأقرّه) قائلا: ما رأيتها في شيء من طرق الحديث بعد مزيد التفتيش، وقال في جزء ألّفه في هذا الحديث: يمكن أن تكون الصلاة في أمور الدنيا بالنظر إلى اللذّة الحاصلة لمديمها؛ كما قال في «الإحياء» : جعل الصلاة من جملة ملاذّ الدنيا، لأنّ كلّ ما يدخل في الحس والمشاهدة؛ فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا، والتلذّذ بتحريك الجوارح بالسجود والركوع!! إنما يكون في الدنيا؛ فلذا أضافها إليها؛ انتهى.
(انتهى) ؛ أي كلام «المواهب» ممزوجا بشيء من «شرح الزرقاني» عليها.
(وأنكره) ؛ أي لفظ «ثلاث» . (أيضا) ؛ من آض إذا رجع، وكلمة «أيضا» لا تستعمل إلّا مع شيئين بينهما توافق، ويمكن استغناء كلّ منهما عن الآخر، وهو مفعول مطلق حذف عامله وجوبا؛ سماعا، أو حال حذف عاملها وصاحبها، والتقدير على الأول: ارجع إلى إنكار لفظ «ثلاث» رجوعا، وعلى الثاني: أنكر لفظ «ثلاث» راجعا إلى الإنكار لها ثانيا.
قال الجلال السّيوطي: وتوقّف ابن هشام في عربيتها، وظنّ أنها مولّدة من استعمال الفقهاء، وليس كما ظنّ، فقد ثبتت عربيتها في الكلام الفصيح، وساق جملة من الأحاديث الدالّة على صحّة ما قاله، فليراجعه من أراده.
(ابن القيّم) : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الزرعي الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي، العلامة الحافظ المجتهد المصنّف المشهور البارع، ولد سنة: - 691- إحدى وتسعين وستمائة، وأخذ عن(1/369)
والده والصفيّ الهندي، وابن تيمية، وبرع في جميع العلوم، وغلب عليه حبّ ابن تيمية، حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، ومات في شهر رجب سنة: - 751- إحدى وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى.
قال في «زاد المعاد» : من رواه «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» فقد وهم، ولم يقل صلّى الله عليه وسلم «ثلاث» ، والصلاة ليست من أمور الدنيا حتى تضاف إليها. انتهى.
قال الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة: - 1162- اثنتين وستين ومائة وألف هجرية، في كتابه «كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس» ؛ بعد سوق ما تقدّم عن ابن حجر والولي العراقي والزركشي وابن القيّم ما نصّه:
وأقول: في قولهم «بل هي مفسدة للمعنى؛ كقول الزركشي زيادة «ثلاث» محيلة للمعنى.. الخ» نظر؛ وإن أقرّوه، بل المحيل زيادة «من دنياكم ثلاث» ؛ لا لفظ «ثلاث» فقط فتأمّل.
وقال الجلال السيوطي في تخريج أحاديث «الشفاء» : أخرجه النسائي، والحاكم، عن أنس بدون «ثلاث» . لكن عند أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الدنيا ثلاثة أشياء: النساء والطّيب والطعام، فأصاب اثنتين؛ ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب؛ ولم يصب الطعام..
إسناده صحيح، إلا أن فيه رجلا لم يسمّ. انتهى.
وأقول: يؤخذ منه أن الثالثة هي الطعام على فرض ثبوت ثلاث فتأمّل. انتهى كلام العجلوني.
وقد ذكر لفظة «ثلاث» الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، الأصولي النحوي المتكلّم الواعظ، صاحب التصانيف القريبة من مائة المتوفى سنة: - 406- ست وأربعمائة، وألف فيها جزءا مفردا، ووجّهها في هذا الجزء،(1/370)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب ويكره الرّائحة الرّديئة.
وأطنب في ذلك، ونقله عنه العلامة الحافظ السخاوي في جزئه الذي ألّفه في هذا الحديث، فليطلبه من أراد.
(و) قال الغزالي في «الإحياء» ، والشعراني في «كشف الغمة» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحبّ الطّيب) ، والروائح الطيبة؛ وإن كان هو طيّب الرائحة دائما كما مرّ- (ويكره الرّائحة الرّديئة) ؛ لأنها تضرّ بالروح وتحبّها الشياطين؛ عكس الملائكة، فإنها تحبّ الرائحة الطيبة، وقد سبق الكلام على حكمة محبّته للطيب وفوائده.(1/371)
[الفصل السّادس في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل السّادس في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم عن أنس رضي الله تعالى عنه: ما بعث الله نبيّا إلّا حسن الوجه، حسن الصّوت، وكان نبيّكم أحسنهم وجها، وأحسنهم صوتا.
(الفصل السّادس) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة صوته) الشريف (صلّى الله عليه وسلم) ، وقد كان صوته على غاية من الحسن والسّعة؛ كما صرّحت به الأحاديث؛ فقد روى الترمذيّ في «جامعه» ، والدارقطني؛ من حديث قتادة (عن أنس رضي الله تعالى عنه) ؛ أي: موقوفا: (ما بعث الله نبيّا إلّا) - وقد خلقه- (حسن الوجه حسن الصّوت.) ليدلّ حسن ظاهره على حسن باطنه، إذ الظاهر عنوان الباطن، (وكان نبيّكم) من ابتداء وجوده وخلقته (أحسنهم) ؛ أي: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وجها، وأحسنهم صوتا) ، فحسن الوجه يدلّ على كمال الخلق والخلق؛ لأنّ الظاهر عنوان الباطن؛ كما قيل:
يدلّ على معروفه حسن وجهه ... وما زال حسن الوجه أهدى الدّلائل
وقال آخر في ضدّ ذلك:
يدلّ على قبح الطّويّة ما ترى ... بصاحبها من قبح بعض ملامحه
وحسن الصوت بكونه جهوريّا يسمع من بعيد؛ مع لطف فيه يدرك بالذوق، ولا يلزمه كونه على رسم الموسيقى. وهذا يدلّ على أنه صلّى الله عليه وسلم كان أجمل من يوسف وأحسن صوتا من داود عليهم الصلاة والسلام، باعتبار الصّباحة والملاحة وزيادة البلاغة والفصاحة، وكانت قراءته صلّى الله عليه وسلم في بيته ليلا تسمع عند الكعبة، وفيما بعد من(1/372)
وكان صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أسمع العواتق في خدورهنّ.
منازل المدينة، وقد أعطى الله نبينا محمّدا صلّى الله عليه وسلم كمال الجلال والجمال من تمام الصباحة؛ فما رآه أحد إلّا هابه، ومن تمام الملاحة؛ فما رآه أحد إلّا أحبّه:
منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وأما قوله في حديث المعراج في يوسف: «فإذا أنا برجل [أحسن] ما خلق الله، قد فضل النّاس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب» رواه البيهقي، والطبراني، وابن عائذ!! فيحمل على أن المراد غير النبي صلّى الله عليه وسلم.
ويؤيّده القول بأن المتكلّم لا يدخل في عموم خطابه، وقوله في رواية مسلم:
«فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» !! حمله ابن المنيّر على أن المراد أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلّى الله عليه وسلم.
قال السخاوي في كتاب «الامتنان» : وقد سئل الجلال المحلي رحمه الله تعالى عن حديث (أعطي نبيّنا جميع الحسن. ويوسف شطره) !! فقيل: كيف يكون الشيء الواحد جميعه في شيء ونصفه في آخر!؟ فقال: لم يظهر لي جوابه، وكذا قال ابن حجر رحمهم الله تعالى؛ نقله عنه الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» .
قال في «المواهب» : (وكان صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبلغ حيث) - أي:
مكانا- (لا يبلغه صوت غيره) ، و «حيث» هنا بمعنى المكان مجرّدة عن الظرفية.
(فعن البراء) - بتخفيف الراء- (قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم) فعلا صوته (حتّى أسمع العواتق) جمع عاتق؛ وهي: الشابّة أوّل ما تدرك. وقيل: التي لم تبن من والديها، ولم تتزوّج؛ وقد أدركت وشبّت، وتجمع أيضا على عتّق؛ كما في «النهاية» . وخصّهنّ بالذّكر!! لبعدهنّ واحتجابهن في البيوت، فسماعهنّ آية علوّ صوته زيادة على غيره (في خدورهنّ) جمع خدر؛ أي: ستر، ويطلق على(1/373)
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة على المنبر، فقال للنّاس: «اجلسوا» ، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في بني غنم، فجلس في مكانه.
وقال عبد الرّحمن بن معاذ التّيميّ رضي الله تعالى عنه: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى، ففتح الله أسماعنا، حتّى إن كنّا البيت إن كان فيه امرأة، وإلّا فلا. رواه البيهقي.
(و) أخرج أبو نعيم: (قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر؛ فقال للنّاس «اجلسوا» .
فسمعه عبد الله بن رواحة) بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس الأكبر بن مالك الأعز بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الحارثي المدني رضي الله تعالى عنه- تقدمت ترجمته-.
(وهو في بني غنم) - بغين معجمة مفتوحة فنون ساكنة فميم آخرة،: بطن من الخزرج بالمدينة- (فجلس في مكانه) ؛ مبالغة في الامتثال لأمره صلّى الله عليه وسلم، مع أنّه ليس مأمورا بذلك، إذ قصده أمر الحاضرين للخطبة بالجلوس.
(و) أخرج ابن سعد: (قال عبد الرّحمن بن معاذ) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي (التّيميّ) ابن عمّ طلحة بن عبيد الله، قال البخاري وغيره: له صحبة. وعدّه ابن سعد من مسلمة الفتح «1» (رضي الله تعالى عنه: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمنى، ففتح الله أسماعنا) بأن خلق الله فيها قوّة سمع زيادة على معتادها، فكأنها كانت مغلقة ففتحت؛ فشبّه الأسماع بأبواب مغلقة، وأثبت لها الفتح تخييلا؛ فهو استعارة بالكناية تخييلية (حتّى) غاية لمقدر؛ أي: فقويت حتّى (إن كنّا) - مخففة من الثقيلة، بدليل اللام في
__________
(1) أي الذين أسلموا في فتح مكة.(1/374)
لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا.
وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا نسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جوف اللّيل عند الكعبة، وأنا على عريشي.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. اشتدّ غضبه وعلا صوته، ...
- (لنسمع ما يقول؛ ونحن في منازلنا) وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي بلفظ: «ففتحت أسماعنا» بدل قوله: «ففتح الله أسماعنا» .
(و) أخرج ابن ماجه؛ (عن أمّ هانىء) بنت أبي طالب واسمها: فاختة، وهي شقيقة الإمام علي كرّم الله وجهه- وقد مرّت ترجمتها- (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كنّا نسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في جوف اللّيل عند الكعبة) - متعلق ب «قراءة» - (وأنا على عريشي) ؛ أي: سريري، وحمله عليه أبلغ من سقف بيتي، كما هو أحد معاني العريش كالعرش؛ كما في «القاموس» ، فسماعها له وهي على سريرها داخل بيتها البعيد عن محلّ القراءة دليل على قوّته.
وفي «الصحيحين» ؛ عن البراء: قرأ صلّى الله عليه وسلم في العشاء (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (1) فلم أسمع صوتا أحسن منه. وروى أبو الحسن بن الضحاك؛ عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه قال: كان صلّى الله عليه وسلم حسن النغمة.
(و) أخرج مسلم؛ عن جابر بن سمرة، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم؛ عن جابر رضي الله تعالى عنهما: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا خطب) ؛ أي: وعظ (اشتدّ غضبه) لله سبحانه وتعالى على من خالف زواجره. قال القاضي عياض:
يعني بشدّته: أنّ صفته صفة الغضبان، وهذا شأن المنذر المخوّف، ويحتمل أنّه لنهي خولف فيه شرعه، وهكذا تكون صفة الواعظ مطابقة لما يتكلّم به. وقال النووي: أو كان عند إنذاره أمرا عظيما. زاد في رواية: واحمرّت عيناه.
(وعلا صوته) ؛ أي: رفع صوته ليؤثر وعظه في خواطر الحاضرين حتّى(1/375)
كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم.
(كأنّه منذر) : محذّر (جيش) ؛ أي: كمن ينذر قوما من جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم، فإنّ المنذر المعلم يعرّف القوم بما يدهمهم من عدوّ؛ أو غيره، وهو المخوّف أيضا حال كونه (يقول: صبّحكم) - بفتح الصاد والباء المشدّدة- أي: أتاكم الجيش وقت الصباح (ومسّاكم) - بالفتح- مثقّلا؛ أي: أتاكم وقت المساء.
قال الطّيبي: شبّه حاله في إنذاره وخطبته بقرب يوم القيامة، وتهالك الناس فيما يراد بهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم يقصد الإحاطة بهم؛ بغتة بحيث لا يفوته منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته وتحمرّ عيناه ويشتدّ غضبه على تغافلهم؛ فكذا حاله صلّى الله عليه وسلم عند الإنذار، وفيه أنّه يسنّ للخطيب تفخيم أمر الخطبة ورفع صوته وتحريك كلامه، ويكون مطابقا لما تكلّم به من ترغيب وترهيب.
قال في «المطامح» : فيه دليل على إغلاظ العالم على المتعلّم، والواعظ على المستمع وشدّة التخويف.
ثم هذا قطعة من حديث، وبقيته عند ابن ماجه وغيره: ويقول: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» ، ويقرن بين أصابعه السّبّابة والوسطى. ثم يقول: «أمّا بعد؛ فإنّ خير الأمور كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» . انتهى «مناوي وزرقاني» .(1/376)
[الفصل السّابع في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره]
الفصل السّابع في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. يرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. احمرّت وجنتاه.
(الفصل السّابع) ؛ من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة غضبه صلّى الله عليه وسلم و) في صفة (سروره) ، أما غضبه فقد ذكر العارف الشعراني في كتاب «كشف الغمة» : أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا غضب) لله تعالى (يرى رضاه وغضبه) ؛ أي: أثرهما (في وجهه) الشريف (لصفاء بشرته) - محرّكة-: ظاهر الجلد، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لطيف الظاهر والباطن، وهو علامة اعتدال المزاج.
روى أبو الشيخ في «كتاب أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم» ؛ من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرف رضاه وغضبه بوجهه ... الحديث، وإسناده ضعيف.
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ؛ عن ابن مسعود، وعن أم سلمة رضي الله عنها: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا غضب احمرّت وجنتاه) تثنية وجنة؛ وهي ما ارتفع من لحم الخدّ، والجمع وجنات؛ مثل سجدة وسجدات، وهذا لا ينافي ما وصفه الله به من الرأفة والرحمة، لأنّه كما أنّ الرحمة والرّضا لا بدّ منهما للاحتياج إليهما؛ كذلك الغضب في حيّزه وأوانه ووقته وإبّانه، قال تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [2/ النور] ، وقال (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [29/ الفتح] ، فهو إذا غضب إنما يغضب لإشراق نور الله على قلبه؛ ليقيم حقوقه وينفّذ أوامره، وليس هو من قبيل العلو في الأرض، وتعظيم المرء نفسه، وطلب تفرّدها بالرئاسة، ونفاذ الكلمة في شيء.(1/377)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب وهو قائم.. جلس، وإذا غضب وهو جالس.. اضطجع، فيذهب غضبه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. لم يجترىء عليه أحد إلّا عليّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبعد النّاس غضبا، وأسرعهم رضا.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يغضب لربّه عزّ وجلّ، ولا يغضب لنفسه.
(و) أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب «ذم الغضب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا غضب وهو قائم جلس، وإذا غضب وهو جالس اضطجع) ، لأن ذلك أبعد عن المسارعة إلى الانتقام؛ وأسكن للحدّة، (فيذهب غضبه) وهو تعليم للأمّة، وإلا فغضبه صلّى الله عليه وسلم لله تعالى فلا ينبغي تسكينه، وكان تارة يتوضّأ لإطفاء الغضب.
(و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» ، والحاكم في «المستدرك» ؛ وقال:
صحيح، والطبراني بزيادة؛ كلّهم عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا غضب لم يجترىء) - بسكون الهمزة- (عليه أحد) . زاد الطبراني: أن يكلمه (إلّا) أمير المؤمنين (عليّ) بن أبي طالب، لما يعلمه من مكانته عنده وتمكّن ودّه من قلبه بحيث يحتمل كلامه في حال الحدّة، فأعظم بها منقبة للإمام علي تفرّد بها عن غيره.
(و) في «الإحياء» و «كشف الغمّة» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم أبعد النّاس غضبا، وأسرعهم رضا) . هذا من المعلوم.
ويدلّ على ذلك إخباره صلّى الله عليه وسلم: أنّ بني آدم خيرهم بطيء الغضب سريع الفيء.
رواه الترمذي؛ من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: حديث حسن، وهو صلّى الله عليه وسلم خير بني آدم وسيّدهم.
(و) في «كشف الغمة» «كالإحياء» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يغضب لربّه عزّ وجلّ) ، ولا يغضب لأجل الدنيا، لعدم نظره إليها ومبالاته بها، (ولا يغضب لنفسه) ،(1/378)
وكان ينفّذ الحقّ وإن عاد ذلك بالضّرر عليه وعلى أصحابه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كره شيئا.. عرف ذلك في وجهه.
ولا ينتصر لها، بل يعفو عن المعتدي عليه؛ لكمال حسن خلقه، فلم يبق فيه حظّ من حظوظ الدنيا وشهواتها وإراداتها، بل تمحّضت حظوظه وأغراضه وإرادته لله سبحانه وتعالى، فهو معرض عن حقوق نفسه؛ قائم بحقوق ربه.
قال العراقي: رواه الترمذي في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة، وفيه: وكان لا تغضبه الدنيا وما كان منها، فإذا تعدّي الحقّ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه؛ ولا ينتصر لها. وفيه راو لم يسمّ. انتهى؛ نقله شارح «الإحياء» .
(و) فيهما أيضا: (كان ينفّذ) - بالفاء المشددة والذال المعجمة- (الحقّ؛ وإن عاد ذلك بالضّرر عليه وعلى أصحابه) ، أشار به إلى قصّة أبي جندل بن سهيل بن عمرو، وهي عند البخاري في قصّة الحديبية، وذكرها في «الشروط» مطوّلة؛ كذا وجد بخطّ الحافظ ابن حجر في طرّة كتاب شيخه، وقد أغفله العراقي؛ قاله في «شرح الإحياء» .
(و) روى الطبراني في «الأوسط» - بإسنادين؛ رجال أحدهما رجال الصحيح- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا كره شيئا عرف) - رواية الطبراني: رؤي- (ذلك في وجهه) الشّريف، لأنّ وجهه؛ كالشمس والقمر، فإذا كره شيئا كسا وجهه ظلّ كالغيم على النّيّرين، فكان لغاية حيائه لا يصرّح بكراهته، لأنه لا يواجه أحدا بما يكره، بل إنما يعرف في وجهه.
وهذا الحديث أصله في «الصحيحين» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، ولفظه: كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه. ذكره المناوي.(1/379)
وأمّا سرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ.. استنار وجهه كأنّه القمر.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ.. فكأنّ وجهه المرآة، وكأنّ الجدر يرى شخصها فيه.
(وأمّا سرور رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: فرحه بشيء!! (فقد) روى البخاريّ ومسلم؛ من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه) ؛ أي: أضاء ورئي فيه البشر (كأنّه) أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور وهو جبينه (القمر) ؛ في الإشراق والاستنارة، ورواية «الصحيحين» : قطعة قمر.
وكأنّ المصنّف حذف لفظة «القطعة» جريا على عادة البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد بقطعة. وكعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة الفصحاء البلغاء، فلا يعدل عن المتعارف بينهم إلّا لسبب، فلا بدّ للتقييد بذلك من حكمة.
ووجه العدول؛- كما قال البلقيني-: أنّ القمر فيه قطعة يظهر فيها سواد؛ وهو المسمى بالكلف، فلو شبّه بالمجموع لدخلت هذه القطعة في المشبّه به، وغرضه إنما هو التشبيه على أكمل الوجوه، فلذا قال: كأنه «قطعة قمر» يريد القطعة الساطعة الإشراق الخالية من شوائب الكدر. انتهى.
(و) في «المواهب اللدنية» ؛ نقلا عن «النهاية» لابن الأثير:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا سرّ فكأنّ) - بتشديد النون- (وجهه المرآة) التي ترى فيها صور الأشياء، وهي ممدودة على وزن: مفتاح، جمعها مراء؛ على وزن جوار وغواش؛ كما في «المصباح» .
(وكأنّ) - بتشديد النون- (الجدر) - بضمتين جمع جدار-؛ وهو الحائط تلاحك وجهه، والملاحكة: شدّة الملاءمة؛ أي (يرى شخصها) - أي: الجدر- (فيه) أي: في وجهه صلّى الله عليه وسلم لشدّة ضيائه وصفائه، والله أعلم.(1/380)
[الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه]
الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه (الفصل الثّامن) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلم) .
قال أهل اللغة: التبسّم مبادىء الضحك، أي: مقدّماته، والضحك: انبساط الوجه؛ أي: تهلّله وتلألؤه حتّى تظهر الأسنان من السرور، فإذا تهلّل الوجه لسرور قام به؛ انفتح الفم على الهيئة المعروفة، فإن كان بصوت؛ وكان بحيث يسمع من بعيد، فهو القهقهة، وإلّا يسمع من بعد؛ وهو بصوت فالضحك.
فالفارق بين الثلاثة: أنّ التبسّم: انفتاح الفم بلا صوت. والضحك: انفتاحه مع صوت قليل. والقهقهة: انفتاحه بصوت قوي.
والضحك خاصّة للإنسان، والغالب أنّه ينشأ من سرور يعرض للقلب، وقد يضحك غير المسرور.
ويجوز فيه أربع لغات، وهي فتح أوله وكسره مع سكون ثانيه، وكسر أوله وثانيه، وفتح أوله وكسر ثانيه؛ كما يؤخذ من «القاموس» ، وهكذا كلّ ما كان ثلاثيا عينه حرف حلق نحو فخذ. انتهى.
(و) في بيان ما ورد في صفة (بكائه) ؛ بالمدّ والقصر، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جمع الشاعر اللغتين؛ فقال:
بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
والبكاء أنواع: 1- بكاء رحمة ورأفة، و 2- بكاء خوف وخشية، و 3- بكاء(1/381)
وعطاسه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا افترّ ضاحكا.. افترّ عن مثل سنا البرق إذا تلألأ، ...
محبّة وشوق، و 4- بكاء فرح وسرور، و 5- بكاء جزع من ورود مؤلم على الشخص لا يحتمله، و 6- بكاء حزن، و 7- بكاء مستعار؛ كبكاء المرأة لغيرها من غير مقابل، و 8- بكاء مستأجر عليه؛ كبكاء النائحة، و 9- بكاء موافقة؛ وهو بكاء من يرى من يبكي فيبكي؛ ولا يدري لأي شيء يبكي، و 10- بكاء كذب؛ وهو بكاء المصرّ على الذنب.
وبكاؤه صلّى الله عليه وسلم تارة يكون رحمة وشفقة على الميت، وتارة يكون خوفا على أمته، وتارة يكون خشية من الله تعالى، وتارة يكون اشتياقا ومحبّة مصاحبا للإجلال والخشية، وذلك عند استماع القرآن- كما سيأتي-.
(و) في بيان ما ورد في (عطاسه) صلّى الله عليه وسلم، وهو مصدر من عطس يعطس- بالكسر- عطاسا- بضمّ العين على وزن غراب-.
قال في «الاقتراح» : هو خاصّ بالإنسان، فلا يقال لغيره؛ ولو للهرة؛ نقله شيخنا. وفي الحديث: كان يحبّ العطاس ويكره التثاؤب.
قال ابن الأثير: لأنّ العطاس إنما يكون مع خفّة البدن وانفتاح المسام وتيسير الحركات، والتثاؤب بخلافه، وسبب هذه الأوصاف تخفيف الغذاء والإقلال من الطعام والشراب. انتهى شرح «القاموس» .
أما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم!! فقد ذكر القاضي عياض في «الشفاء» ، والغزاليّ في «الإحياء» أنّه (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا افترّ) - بتشديد الرّاء؛ أي: إذا أبدى أسنانه حال كونه- (ضاحكا) ؛ أي: متبسّما (افترّ) - أي: كشف- (عن مثل سنا) بقصر «سنا» ، وقد يمدّ، وقيل: بالقصر: النّور، وبالمد: الشرف والعلو، أي:
يشبه ضوء- (البرق إذا تلألأ) في ظلمة الليل، أي: إذا كشف صلّى الله عليه وسلم عن أسنانه في حال ضحكه ظهر من فمه وبياض أسنانه لمعان كلمعان البرق، وهو تشبيه لنور ثغره.(1/382)
وعن مثل حبّ الغمام.
وكان صلّى الله عليه وسلّم جلّ ضحكه التّبسّم.
وإنما خصّ التشبيه بحال التبسم والسرور، وشبه ذلك بالبرق دون ما هو أضوأ منه؛ كالشمس والبدر!! إشارة إلى أنه لا يدوم ضحكه وانفتاح فمه، لأنّ كثرة الضحك غير محمودة، ولم يكن ذلك من دأبه صلّى الله عليه وسلم، ولأنّ تبسّمه لمخاطبه يعقبه نفع، وخير من عطائه وكلامه ورضاه، كما يعقب البرق المطر والرحمة العامّة.
وهذا رواه البيهقي مسندا؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
(و) يفترّ (عن مثل حبّ الغمام) في بياضه ونقائه وصفائه.
والغمام: هو السحاب، وحبّه: البرد- بفتحتين- الذي يشبه اللؤلؤ، والمعنى أنّه يضحك ضحكا حسنا كاشفا عن مثل حبّ الغمام في البياض والصفا والبريق واللمعان.
وورد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المارّ: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان إذا ضحك يتلألأ في الجدر، أي: يشرق عليها إشراقا كإشراق الشمس.
قال ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» : والتشبيه الثاني أولى من الأوّل. انتهى.
وهذا رواه الترمذي في «الشمائل» والدارميّ، والبيهقي؛ من حديث هند بن أبي هالة وعائشة رضي الله تعالى عنهما.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ، والقاضي عياض في «الشفاء» ؛ من طريق الترمذي؛ عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) متواصل الأحزان. وساق الحديث إلى أن قال:
(جلّ) - بضم الجيم وتشديد اللام؛ أي: معظم- (ضحكه) وأكثره (التّبسّم) . وهو: بشاشة الوجه من غير تأثر تامّ في هيئة الفم، وقال: «جلّ» !! لأنّه ربما ضحك حتّى بدت نواجذه. كما سيأتي الكلام على ذلك، وهذا لا ينافي ما رواه البخاري في «الأدب» ، وابن ماجه في «سننه» : «لا تكثر الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب» .(1/383)
وعن عبد الله بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعن عائشة رضي الله [تعالى] عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطّ مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه لهواته.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عبد الله بن الحارث) بن جزء بجيم مفتوحة فزاي ساكنة فهمزة آخره- الزّبيدي مصغّرا، صحابي سكن مصر، خرّج له أبو داود وابن ماجه، ومات بعد الثمانين. قيل: سنة ست، وقيل:
خمس، وقيل: سبع، وقيل: ثمان بعد أن عمي، وعمّر عمرا طويلا، وهو آخر من مات بمصر من الصحابة (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، لأنّ شأن الكمّل إظهار الانبساط والبشر لمن يريدون تألّفه واستعطافه، مع تلبّسهم بالحزن المتواصل باطنا، فكثرة تبسّمه صلّى الله عليه وسلم لا تنافي كونه متواصل الأحزان. فاندفع ما أورد من أنه إذا كان كثير التبسّم كيف يكون متواصل الأحزان؟! فهو صلّى الله عليه وسلم دائم البشر؛ ومع ذلك هو دائم الحزن الباطن، حتّى أنّه قد تبدو آثاره على صفحات وجهه.
(و) أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» ؛ (عن عائشة رضي الله) تعالى (عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطّ مستجمعا ضاحكا) ضحكا تامّا بحيث ينفتح فمه (حتّى أرى منه لهواته) - بفتحات؛ جمع لهاة، وتجمع على لهيات ولهى؛ مثل حصاة وحصى وحصيات؛ كما في «المصباح» - وهي:
اللحمة التي بأعلى الحنجرة؛ أي: الحلق من أقصى الفم، وتمام الحديث: إنما كان يتبسم. والمعنى ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك؛ أي مطمئنا قاصدا للضحك الذي يغلب وقوعه للناس، بحيث يضحك ضحكا تامّا؛ مقبلا بكليته على الضحك، إنما كان يتبسّم، والتبسم أقلّ الضحك وأحسنه.(1/384)
وعن عبد الله بن الحارث أيضا قال: ما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا تبسّما.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يحدّث حديثا إلّا تبسّم.
وكان ضحك أصحابه صلّى الله عليه وسلّم عنده التّبسّم من غير صوت، اقتداء به، وتوقيرا له، وكانوا إذا جلسوا عنده.. كأنّما على رؤوسهم الطّير.
قال في «الكشاف» : وكذلك ضحك الأنبياء لم يكن إلّا تبسّما. انتهى، وعليه فهو من خواصّه على الأمم؛ دون الأنبياء، انتهى «زرقاني» .
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» - وقال: غريب من حديث الليث بن سعد- (عن عبد الله بن الحارث) بن جزء (أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال:
ما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا تبسّما) . هذا الحصر إضافيّ؛ أي: بالنسبة للغالب، لما تقرّر أنّه صلّى الله عليه وسلم ضحك أحيانا حتّى بدت نواجذه، إلّا أن يحمل على المبالغة.
(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» ؛ عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يحدّث حديثا) - يناسبه التبسّم، وفي رواية:
«بحديث» - (إلّا تبسّم) ؛ أي: ضحك قليلا بلا صوت.
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان ضحك أصحابه صلّى الله عليه وسلم عنده) ؛ أي: في حضرته (التّبسّم) لا غير. أي: (من غير صوت؛ اقتداءا به) في كيفية ضحكه وهيئته، (وتوقيرا له) ؛ أي: تعظيما لحرمته.
(وكانوا إذا جلسوا عنده) ، رواية الترمذي في «الشمائل» : إذا تكلّم أطرق جلساؤه (كأنّما) بزيادة «ما» الكافّة (على رؤوسهم الطّير) في السكوت والسكون؛ مهابة له وإجلالا، لشهودهم عليّ شأنه وكمال مرتبته، وتخلّقهم بأخلاقه، لا لسوء خلق فيه، حاشاه الله من ذلك.
وفي التشبيه تنبيه على المبالغة في وصفهم بالسكوت والسكينة وعدم الخفّة،(1/385)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جرى به الضّحك.. وضع يده على فيه. كان صلّى الله عليه وسلّم من أضحك النّاس، وأطيبهم نفسا.
وورد في أحاديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه- أي: أضراسه- وإن كان ...
لأنّ الطير لا يكاد يقع إلّا على شيء ساكن من الحركة. و «أل» في «الطير» للجنس، فالمراد جنس الطير مطلقا، وقيل: للعهد، والمعهود الباز.
وهذا الحديث؛ قال في «شرح الإحياء» : رواه الترمذي في «شمائله» من حديث هند بن أبي هالة في أثناء حديثه الطويل. انتهى. وفيه تغيير في اللفظ.
(و) أخرج البغوي في «معجمه» ؛ عن والد مرّة الثقفي رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا جرى به الضّحك) ؛ أي: إذا وجد سببه وقوي عليه وغلبه؛ ولم يقدر على ردّه (وضع يده على فيه) حتّى لا يبدو شيء من باطن فمه، ولئلا يقهقه، وهذا كان نادرا.
وأما في أغلب أحواله!! فكان لا يضحك إلّا تبسّما.
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» و «الأوسط» ؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم من أضحك النّاس، و) من (أطيبهم نفسا) ، بل كان أجود الناس على الإطلاق وأحسنهم خلقا، ومع ذلك لا يركن إلى الدنيا، ولا يشغله شاغل عن ربّه، بل كان استغراقه في حبّ الله إلى حدّ بحيث يخاف في بعض الأحيان أن يسري إلى قلبه فيحرقه، وإلى قالبه فيهدمه؛ فلذلك كان يضرب يده على فخذ عائشة رضي الله تعالى عنها أحيانا؛ ويقول: «كلّميني» ، ليشتغل بكلامها عن عظيم ما هو فيه، لقصور طاقة قالبه عنه، وكان طبعه الأنس بالله، وكان أنسه بالخلق عارضا رفقا ببدنه؛ ذكر ذلك كلّه الغزالي. انتهى «مناوي» .
(وورد في أحاديث) صحيحة (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت) ؛ أي:
ظهرت (نواجذه) - بكسر الجيم وبالذال المعجمة- (أي: أضراسه، وإن كان(1/386)
الغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلّم التّبسّم.
الغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلم التّبسّم) ؛ كما جاء في صفة ضحكه «جلّ ضحكه التبسم» وقد تقدّم، والاقتداء به إنّما يكون فيما هو أغلب أحواله.
قال العلقمي: قال العلامة محمد بن يوسف الدمشقي: قال أبو الحسن بن الضّحّاك: صحّت الأخبار وتظاهرت بضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غير موطن حتّى تبدو نواجذه. وثبت عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما.
ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن التبسّم كان الأغلب عليه، ويمكن أن يكون الناقل عنه «أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما» ، لم يشاهد من النبي صلّى الله عليه وسلم غير ما أخبر به، ويكون من روى عنه «أنه ضحك حتى بدت نواجذه» قد شاهد ذلك في وقت ما؛ فنقل ما شاهده، فلا اختلاف بينهما لاختلاف المواطن والأوقات، ويمكن أن يكون في ابتداء أمره كان يضحك حتّى تبدو نواجذه في الأوقات النادرة، وكان آخر أمره لا يضحك إلّا تبسّما، وقد وردت عنه صلّى الله عليه وسلم أحاديث تدلّ على ذلك، ويمكن أن يكون من روى عنه أنّه كان لا يضحك إلّا تبسّما شاهد ضحكه حتّى بدت نواجذه نادرا؛ فأخبر عن الأكثر وغلّبه على القليل النادر.
على أن أهل اللغة قد اختلفوا في النواجذ ما هي؟
فقال جماعة: إنّ النواجذ أقصى الأضراس من الفم موضعا، فعلى هذا تتحقّق المعارضة، ويمكن الجمع بين الأحاديث بما قلنا.
ومنهم من قال: إنّ النواجذ هي الأنياب. وقال آخرون: هي الضواحك، فعلى هذين لا يكون في ظاهر الأخبار معارضة، لأنّ المتبسّم يلزمه ذلك.
قال في «النهاية» : النواجذ- بكسر الجيم وبالذال المعجمة- وهي من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك؛ والأكثر الأشهر أنّها أقصى الأسنان، والمراد الأول، لأنّه ما كان يبلغ به الضحك حتّى تبدو أضراسه، كيف وقد تقدّم أنّ جلّ ضحكه التبسّم!؟ وإن أريد بها الأضراس! فالوجه فيه أن يراد به مبالغة مثله في(1/387)
فعن أبي ذرّ رضي الله [تعالى] عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعلم أوّل رجل يدخل الجنّة، ...
ضحكه، من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس القولين لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان.. انتهى؛ نقله العزيزي على «الجامع الصغير» .
ثم شرع المصنف في ذكر الأحاديث التي صرّح فيها بالنواجذ قائلا:
(فعن أبي ذرّ) جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن الرفيقة بن حرام بن غفار بن مليك بن ضمرة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الغفاري الحجازي.
من السابقين إلى الإسلام. صحب النبي صلّى الله عليه وسلم حتّى مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائتا حديث وواحد وثمانون حديثا، اتفقا منها على اثني عشر حديثا، وانفرد البخاري بحديثين، وانفرد مسلم بسبعة عشر حديثا.
روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن غنم، وجبير بن نفير، وخلق سواهم.
وتوفي بالربذة سنة: اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه ابن مسعود، ثم قدم ابن مسعود المدينة فأقام عشرة أيام؛ ثم توفي.
وكان أبو ذر طويلا عظيما، وكان زاهدا متقللا من الدنيا، وكان مذهبه أنّه يحرم على الإنسان ادخار ما زاد على حاجته، وكان قوّالا بالحقّ رضي الله تعالى عنه.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» بألفاظ مختلفة، ولفظ الترمذي في «الشمائل» :
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث؛ قال: حدّثنا وكيع؛ قال: حدّثنا الأعمش؛ عن المعرور بن سويد؛ عن أبي ذر (رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي لأعلم) بالوحي (أوّل رجل يدخل الجنّة) - في(1/388)
وآخر رجل يخرج من النّار، يؤتى بالرّجل يوم القيامة فيقال:
اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له: عملت يوم كذا.. كذا وكذا، وهو مقرّ لا ينكر، وهو مشفق من كبارها، نسخة من «الشمائل» : إني لأعلم آخر رجل يدخل الجنة- (وآخر رجل يخرج من النّار) - ولم يذكر أوّل رجل يدخل النار، لأنّ كلامه فيمن يدخل الجنة.
وإنما ذكر آخر رجل يخرج من النار!! لأنه آخر رجل يدخل الجنة، ولذا اقتصر عليه في أصحّ النسخ، وزاد علمه ليزيد وثوقا فيما أخبر به. فليس قوله (يؤتى بالرّجل يوم القيامة) تفصيلا لأول رجل يدخل الجنة كما وهم، بل هو استئناف لبيان حال رجل آخر، فلا تعلّق له بما قبله، إذ أوّل داخل هو المصطفى صلّى الله عليه وسلم؛ ولا ذنب له، وفي بعض النسخ: «ويؤتى بالرّجل يوم القيامة» ، بالواو التي للاستئناف.
(فيقال) ؛ أي: يقول الله للملائكة: (اعرضوا) - بهمزة وصل وكسر راء؛ أمر من العرض- (عليه) ؛ أي: على الرجل (صغار ذنوبه) - بكسر الصاد؛ أي:
صغائر ذنوبه، أي: أظهروها له في صحيفته، أو بصورها، وفيه دليل على أنّ الصغيرة ذنب، وأنّ من الذنوب صغائر وكبائر- (ويخبأ) - بصيغة المجهول؛ من الخبء بالهمز. أي: يخفى- (عنه) - أي: الرجل- (كبارها) أي: كبائر ذنوبه للحكمة الآتية، أي: والحال أنّه يخبأ عنه كبارها، فالجملة حالية، ويحتمل أن تكون معطوفة على «اعرضوا» ؛ فتكون أمرا في المعنى، فكأنّه قيل: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، واخبئوا عنه كبارها، أي: كبائر ذنوبه.
(فيقال له: عملت) ؛ أي: من القول والفعل (يوم كذا) ؛ أي: الوقت الفلاني من السّنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة (كذا وكذا) ؛ أي: عددا من الذنوب، ف «كذا وكذا» كناية عن العدد المشتمل على عطف، (وهو مقرّ لا ينكر) ؛ أي: فيتذكّر ذلك ويصدّقه هنالك، (وهو مشفق) ؛ من الإشفاق؛ وهو الخوف، والجملة حال؛ أي: والحال أنّه خائف (من كبارها) ؛ أي: من كبار ذنوبه، أي: من المؤاخذة بها، فإنّ من يؤاخذ بالصغيرة فبالأولى أن يعاقب بالكبيرة.(1/389)
فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا لا أراها ههنا» . قال أبو ذرّ: فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه.
(فيقال) ؛ أي: فيقول الله للملائكة (أعطوه) - بقطع الهمزة- (مكان) ؛ أي: بدل (كلّ سيّئة عملها حسنة) لتوبته النصوح، قال الله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [70/ الفرقان] ، أو لغلبة طاعاته، أو لإقراره بالذنب والخوف منه، أو لغير ذلك مما يعلمه الله.
(فيقول) ؛ أي: طمعا في الحسنات: (إنّ لي ذنوبا لا أراها ها هنا» ) !! أي: في موضع العرض، أو في صحيفة الأعمال، وفي رواية: «ما أراها ها هنا!!» وإنما يقول ذلك مع كونه مشفقا منها!!، لأنّه لما قوبلت صغائرها بالحسنات طمع أن تقابل كبائرها بها أيضا، وزال خوفه منها، فسأل عنها لتقابل بالحسنات أيضا.
(قال أبو ذرّ: فلقد رأيت) ؛ أي: فوالله لقد رأيت، - وإنما أقسم!! لئلا يرتاب في خبره، لما اشتهر من أنّه صلّى الله عليه وسلم لا يضحك إلّا تبسّما- (رسول الله صلّى الله عليه وسلم ضحك) تعجّبا من الرجل حيث كان مشفقا من كبار ذنوبه، ثم صار طالبا لرؤيتها، وبالغ في الضحك (حتّى بدت) : ظهرت (نواجذه) - بمعجمة-: أقصى أضراسه، أي: أضراسه كلّها، وكانت مبالغته في الضحك نادرة، والمكروه الإكثار منه؛ كما في رواية البخاري: «لا تكثروا الضّحك فإنّه يميت القلب» .
والغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلم التبسّم، ولذلك جاء في صفة ضحكه «جلّ ضحكه التبسم» ، وينبغي الاقتداء به فيما هو أغلب أحواله.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والإمام أحمد، والترمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» ، وابن ماجه في «سننه» ، ولفظ «الشمائل» : حدّثنا هنّاد بن السريّ؛ قال: حدّثنا أبو معاوية؛ عن الأعمش؛ عن إبراهيم؛ عن عبيدة السلماني؛(1/390)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعرف آخر أهل النّار خروجا، ...
(عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بن مسعود) بن غافل- بالغين المعجمة والفاء- ابن حبيب بن سمح بن فار- بالفاء وتخفيف الراء- ابن مخزوم بن صاهلة بالصاد المهملة والهاء- ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الهذلي، حليف بني زهرة الكوفي.
وأمّه أمّ عبد بنت عبد ودّ بن سواء؛ هذيل أيضا.
أسلمت وهاجرت فهو صحابيّ ابن صحابية.
أسلم عبد الله قديما حين أسلم سعيد بن زيد؛ قبل عمر بن الخطاب بزمان، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد، وشهد اليرموك، وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة.
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، وانفرد مسلم بخمسة وثلاثين.
روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وأنس وجابر، وأبو سعيد، وعمران بن حصين، وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة وخلائق لا يحصون من كبار التابعين.
نزل الكوفة في آخر أمره، وتوفي بها سنة: اثنتين وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: عاد إلى المدينة، وتوفي وهو ابن بضع وستين سنة، وكان من كبار الصحابة وساداتهم وفقهائهم ومقدّميهم في القرآن والفقه والفتوى وأصحاب الحلق وأصحاب الأتباع في العلم (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي لأعرف) - بالوحي كما مر- (آخر أهل النّار) من عصاة المؤمنين (خروجا) - منصوب على التمييز، وفي بعض النسخ المصححة(1/391)
رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنّة.
قال: فيذهب ليدخل فيجد النّاس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول: ربّ؛ قد أخذ النّاس المنازل، فيقال له: أتذكر الزّمان الّذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، ...
«خروجا من النّار» - (رجل) قيل: اسمه جهينة- مصغرا-، وقيل: هنّاد الجهني (يخرج منها زحفا) - مفعول مطلق من غير لفظ الفعل، أو حال بمعنى زاحفا، والزحف: المشي على الاست مع إشراف الصدر، وفي رواية «حبوا» ؛ وهو:
المشي على اليدين والرجلين والركبتين، ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال أنّه يزحف تارة ويحبو أخرى- (فيقال له) - أي: من قبل الله؛ كما تقدّم-: (انطلق) أي:
اذهب مخلى سبيلك محلولا أسارك، (فادخل الجنّة.
قال: فيذهب) إليها (ليدخل) - يعني: لكي يدخلها فيشرع ليدخلها- (فيجد النّاس) - أي: أهلها- (قد أخذوا) - أي: كلّ منهم- (المنازل) ؛ أي: منازل الجنة، أي درجاتها؛ وهي جمع منزل؛ وهي موضع النزول، ويخيّل له أنّه لم يبق موضع لنزول غيرهم (فيرجع) عن الشروع في دخولها،
(فيقول) ؛ أي: قبل أن يسأل عن سبب رجوعه؛ أو بعده: (ربّ) ؛ أي:
يا رب (قد أخذ النّاس) ؛ أي: كلّ منهم (المنازل) كأنّه ظنّ أنّ الجنّة إذا امتلأت بساكنيها لم يكن للقادم فيها منزل، فيحتاج أن يأخذ منزلا منهم.
(فيقال له) ؛ أي: من قبل الله- كما تقدم-: (أتذكر) - بحذف إحدى التاءين، - أي أتتذكر (الزّمان الّذي كنت فيه؟) أي: في الدنيا الضيّقة بحيث إذا امتلأت بساكنيها لم يكن للقادر فيها منزل، فيحتاج إلى أن يأخذ منزلا من أصحاب المنازل، فتقيس عليه الزمن الذي أنت فيه الآن في الجنّة، وتظنّ أنّها ضيّقة كالدنيا.
(فيقول: نعم) أتذكّر الزمن الذي كنت فيه في الدنيا الضيقة.(1/392)
فيقال له: تمنّ. قال: فيتمنّى، فيقال له: فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا. قال: فيقول: أتسخر بي ...
(فيقال له) ؛ أي: من قبل الله- كما مرّ-: (تمنّ) ؛ أي: اطلب ما تقدّره في نفسك وتصوّره فيها، من كلّ جنس ونوع تشتهي، من وسع الدار وكثرة الأشجار والثمار، فإنّ لك مع امتلائها مساكن كثيرة وأماكن كبيرة، وجنات تجري من تحتها الأنهار، كلّها على طريق خرق العادة بقدرة الملك الغفار، وكل ما تمنيته متيسر في هذه الدار الواسعة، ولا تقس حال الآخرة بحال الدنيا، فإن تلك دار ضيّقة ومحنة، وهذه دار متسعة ومنحة.
(قال) ؛ أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (فيتمنّى) ؛ أي: يطلب ما يقدره في نفسه ويصوره فيها، (فيقال له) من قبل الله: (فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا) ؛ أي: أمثالها زيادة على الذي تمنّيت، فضعف الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، لكن المضاعفة ليست بالمساحة والمقدار؛ بل بالقيمة، فما يعطاه في الآخرة، يكون مقدار عشرة أضعاف الدنيا، بحسب القيمة؛ لا بالوزن والمقدار؛ كذا قال الباجوري.
وأصل هذا الكلام للغزالي؛ كما نقله عنه المناوي في «شرح الشمائل» ساكتا عليه، لكن الباجوري عقّبه بقوله: ولا مانع من المضاعفة بالمساحة والمقدار.
كما وجد بخط الشبراوي، فإنّه روي أنّ أدنى أهل الجنة منزلة من يسير في ملكه ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، وينظر إلى جنانه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأرفعهم الذي ينظر إلى ربّه بالغداة والعشي. انتهى.
(قال) - أي- النبي صلّى الله عليه وسلم: (فيقول) - دهشا لما ناله من السرور، ببلوغ ما لم يخطر بباله من كثرة الحور والقصور-: (أتسخر) ؛ أي: أتستهزىء (بي) - بالباء الموحدة؛ كما في نسخ «الشمائل» المصحّحة، ولم يكن ضابطا لما قاله، ولا عالما بما يترتّب عليه، بل جرى على عادته في مخاطبة المخلوق، فهو كمن قال صلّى الله عليه وسلم في حقّه- إنّه لم يضبط نفسه من الفرح في الدعاء-؛ فقال: أنت عبدي وأنا(1/393)
وأنت الملك» . قال: فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه.
وعن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: قال سعد ...
ربّك، وفي نسخة: أتسخرني- بالنون- (وأنت) ؛ أي: والحال أنّك أنت (الملك» ) !! - بكسر اللام- وليست السخرية من دأب الملوك، وأنا أحقر من أن يسخر بي ملك الملوك، وهذا نهاية الخضوع، وهو سبب لكمال جود الملك تقدّس، ولذلك نال ما نال من الإكرام.
(قال) - أي- عبد الله بن مسعود: (فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - أي: فوالله لقد رأيت ... إلخ، وإنّما أقسم لئلا يرتاب في خبره، لما اشتهر أنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلم كان لا يضحك إلّا تبسّما- (ضحك حتّى بدت) ؛ أي: ظهرت (نواجذه) جمع:
ناجذ، وهو آخر الأسنان على المشهور، تعجّبا من دهش الرجل، ومن غلبة رحمته تعالى على غضبه.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» بسنده (عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص) القرشي الزّهري المدني التابعي، سمع أباه، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأسامة، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وعائشة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.
روى عنه ابنه داود، وسعيد بن المسيب، وخلق من التابعين، واتفقوا على توثيقه. وتوفي بالمدينة المنورة سنة: ثلاث- وقيل: سنة أربع- ومائة، وقيل غير ذلك رحمه الله تعالى.
(قال) ؛ أي: عامر: (قال سعد) بن أبي وقّاص- يعني أباه-، وهو أبو إسحاق سعد بن مالك بن وهب- ويقال: أهيب- ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزّهري المكيّ المدني.
أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وتوفي وهو عنهم راض، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أمر(1/394)
رضي الله تعالى عنه: لقد رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك يوم الخندق حتّى بدت نواجذه.
الخلافة إليهم، وأسلم قديما بعد أربعة- وقيل: بعد ستة- وهو ابن سبع عشرة سنة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، وأوّل من أراق دما في سبيل الله تعالى.
وهو من المهاجرين الأوّلين، هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليها.
شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، وكان يقال له «فارس الإسلام» ، وأبلى يوم أحد بلاء شديدا.
وكان مجاب الدعوة، وحديثه في دعائه على الرجل الكاذب عليه من أهل الكوفة وهو أبو سعدة، وأجيبت دعوته فيه في ثلاثة أشياء «1» مشهور في «الصحيحين» .
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، وانفرد مسلم بثمانية عشر.
روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن سمرة، والسائب بن يزيد، وعائشة رضي الله عنهم.
واعتزل الفتنة فلم يقاتل في شيء من الحروب التي وقعت بين الصحابة.
وتوفي سنة: - 55- خمس وخمسين، وقيل غير ذلك (رضي الله تعالى عنه:
لقد رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق) - كجعفر: حفير حول أسوار المدينة، معرّب كندة؛ على ما في «القاموس» ، لأنّ الخاء والدال والقاف لا تجتمع في كلمة عربية- (حتّى بدت نواجذه.
__________
(1) وهي: أنه كان لا يسير بالسرية، لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعونّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة؛ فأطل عمره وأطل فقره وعرّضه بالفتن. وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.(1/395)
قال: قلت: كيف كان ضحكه؟
قال: كان رجل معه ترس، وكان سعد راميا، وكان الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس يغطّي جبهته، ...
قال) ؛ أي: عامر (قلت) لسعد: (كيف كان) ؛ أي: على أي حال كان (ضحكه؟ قال) - أي- سعد: (كان رجل) من الكفّار (معه ترس) ، الجملة خبر «كان» ، والترس: ما يستتر به في حال الحرب، وفي رواية: «قوس» بدل: ترس. (وكان سعد راميا) ؛ أي: يحسن الرمي، ثم إن كان هذا من كلام سعد؛ كما هو الظاهر، كان فيه التفات، إذ كان الظاهر أن يقول: وكنت راميا، وإن كان من كلام عامر!! فلا التفات، غير أنّه عبّر عنه باسمه؛ ولم يقل أبي؛ ومثله كثير في أسانيد الصحابة رضي الله عنهم.
(وكان) - هذا من كلام سعد بكل تقدير- (الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس) ؛ أي: يفعل كذا وكذا بالترس، أي: يشير به يمينا وشمالا، فالمراد بالقول هنا الفعل، قال صاحب «النهاية» : والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام، تقول: قال بيده؛ أي: أخذ، و: قال برجله؛ أي مشى، و: قالت به العينان سمعا وطاعة؛ أي: أومأت به، و: قال بالماء على يده؛ أي: صبّه، و: قال بثوبه؛ أي: رفعه، و: قال بالترس؛ أي: أشار به وقلبه، وقس على هذه الأفعال ... وعلى هذا فالجارّ والمجرور- أعني قوله «بالترس» - متعلّق ب «يقول» بمعنى يفعل.
وقوله (يغطّي جبهته) مستأنف مبيّن للإشارة في قوله «كذا وكذا» ؛ أي:
يغطي جبهته حذرا من السهم، ويحتمل أن القول باق على حقيقته، والمعنى يقول: كذا وكذا من القول القبيح في حقّ النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يصرّح سعد بما بعده وهو قوله: بغطّي جبهته؛ أي: حذرا من السهم- كما مر- وهي جملة حاليّة من فاعل «يقول» ، والأول هو الأظهر.(1/396)
فنزع له سعد بسهم، فلمّا رفع رأسه.. رماه فلم يخطىء هذه منه يعني: جبهته- وانقلب الرّجل وشال برجله، فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه. قال: قلت: من أيّ شيء ضحك؟
(فنزع له سعد بسهم) ؛ أي: نزع لأجله سهما من كنانته ووضعه في الوتر، فالباء زائدة، لأن «نزع» يتعدّى بدونها.
(فلمّا رفع) الرجل (رأسه) من تحت الترس فظهرت جبهته (رماه) سعد بالسهم الذي نزعه له (فلم يخطىء) - بضم الياء وسكون الخاء وبالهمز- وفي نسخة: فلم يخط- بفتح الياء وضم الطاء- غير مهموز، من الخطوة، أي: فلم يخط (هذه منه) ؛ أي: الجبهة من الرّجل، ولم يتعدّها؛ ولم يتجاوزها (يعني:
جبهته) من كلام عامر؛ أي: يقصد سعد باسم الإشارة جبهة الرجل، والجبهة:
ما بين الحاجبين إلى الناصية؛ وهي موضع السجود.
(وانقلب الرّجل) ؛ أي: صار أعلاه أسفله، وسقط على استه (وشال برجله) ؛ أي: رفعها، والباء للتعدية، أو زائدة.
قال في «المصباح» : شال شولا من باب «قال قولا» : رفع، يتعدّى بالحرف على الأفصح، ويقال «شالت الناقة بذنبها عند اللّقاح» : رفعته، وأشالته بالألف لغة، وفي نسخة من «الشمائل» : فشال، وفي أخرى منها: وأشال، وفي أخرى أيضا: وأشاد، والكلّ بمعنى واحد.
(فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه) فرحا وسرورا برمي سعد للرجل وإصابته له، وما يترتّب على ذلك من إخماد نار الكفر، وإذلال أهل الضلال؛ لا من رفعه لرجله وكشف عورته.
(قال: قلت) وفي نسخة صحيحة: «فقلت» ، والقائل هو عامر كما هو ظاهر، وقيل: هو محمد الراوي؛ عن عامر: (من أيّ شيء ضحك) ؟ أي: من أجل أيّ سبب ضحك النبي صلّى الله عليه وسلم: هل من رمي سعد للرجل وإصابته؟ أو من رفعه(1/397)
قال: من فعله بالرّجل.
وعن عليّ بن ربيعة قال: شهدت عليّا رضي الله تعالى عنه أتي بدابّة ليركبها، فلمّا وضع رجله في الرّكاب.. قال: باسم الله.
لرجله وافتضاحه بكشف عورته؟ فلأجل هذا الاحتمال استفسر الراوي- وهو عامر- سعدا عن سبب ضحكه صلّى الله عليه وسلم.
(قال) ؛ أي سعد، أو عامر: (من فعله بالرّجل) ؛ أي: ضحك من أجل رميه الرجل وإصابته؛ لا من رفعه لرجله وافتضاحه بكشف عورته، لأنّه لا يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يضحك لهذا؛ بل لذاك.
(و) أخرج أبو داود في «سننه» ، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ له: (عن عليّ بن ربيعة) بن نضلة الوالبيّ البجلي، أبو المغيرة الكوفي، يروي عن علي بن أبي طالب وسلمان، وعنه الحكم وأبو إسحاق، وثّقه ابن معين والنسائي، له في البخاريّ ومسلم فرد حديث، وخرج له الستة.
(قال: شهدت عليّا) ؛ أي: ابن أبي طالب- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه) ؛ أي: شاهدته وحضرته (أتي) - بالبناء للمفعول-، والجملة حال؛ أي: والحال أنّه أتاه بعض خدمه (بدابّة ليركبها) ، والدابّة في العرف الطارئ:
فرس، أو بغل، أو حمار، وأصلها: كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان؛ ذكرا كان، أو أنثى، ثم خصّ بما ذكر.
(فلمّا وضع رجله في الرّكاب) - بكسر الراء- (قال: باسم الله) ؛ أي:
أركب، فالجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف.
وأتى بذلك!! اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه قوله الآتي: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وكأنّه صلّى الله عليه وسلم أخذه من قوله تعالى- حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام لما ركب السفينة- (بِسْمِ اللَّهِ) [41/ هود] ، لأن الدابة في البرّ كالسفينة في البحر؛ كما أفاده العصام، غير أنّه لم يفصح عن ذلك حيث قال: كأنّه(1/398)
فلمّا استوى على ظهرها.. قال: الحمد لله، ثمّ قال:
(سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف: 13- 14] .
ثمّ قال: الحمد لله (ثلاثا) ، والله أكبر (ثلاثا) ، ...
مأخوذ من قول نوح لما ركب السفينة ... الخ.
واعترض عليه بعض الشرّاح بأن عليّا نقل ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلم وتأسّى به، فكيف يقال «إنّه مأخوذ من قول نوح» !! وهو مبنيّ على ما فهمه المعترض؛ من أن مراد العصام أن عليّا هو الآخذ لذلك من قول نوح، وليس كذلك، بل النبي صلّى الله عليه وسلم هو الآخذ له كما علمت.
(فلمّا استوى) ؛ أي: استقرّ (على ظهرها؛ قال: الحمد لله) - أي: شكرا لله على هذه النعمة العظيمة، وهي تذليل هذه الدابة، وإطاقته لنا على ركوبها مع الحفظ عن شرّها.
(ثمّ قال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ) أي: ذلل (لَنا) أي: لأجلنا، أي تنزيها له عن الاستواء على مكان كالاستواء على الدابة؛ أو تنزيها له عن الشريك، أو عن العجز عن تسخير هذه الدابّة وتذليلها لنا، وقوله (هذا) - أي: المركوب (وَما كُنَّا لَهُ) - أي: لتسخيره- (مُقْرِنِينَ) - أي: مطيقين لولا تسخيره لنا- (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (14) [الزخرف] . أي: وإنّا إلى حكمه وجزائه لراجعون في الدار الآخرة.
وإنما قال ذلك!! لأن ركوب الدابّة قد يكون سببا للتلف، فقد ينقلب عنها فيهلك، فتذكر الانقلاب إلى ربّ الأرباب، فينبغي لمن اتصل به سبب من أسباب الموت أن يكون حاملا له على التوبة والإقبال على الله تعالى في ركوبه ومسيره، فقد يحمل من فوره على سريره.
(ثمّ قال: الحمد لله ثلاثا) ؛ أي ثلاث مرات، كرّره لعظمة تلك النعمة، التي ليست مقدورة لغيره تعالى، (والله أكبر ثلاثا) ؛ تعجبا للتسخير، أو دفعا لكبر(1/399)
سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي؛ فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت.
ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟
قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟
قال: «إنّ ربّك ليعجب من عبده إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب أحد غيره» .
النفس من استيلائها على المركوب. (سبحانك؛) - أي: تنزيها لك عن الحاجة إلى ما يحتاج إليه عبادك، وإنما أعاد التسبيح!! توطئة لما بعده، ليكون مع اعترافه بالظّلم أنجح لإجابة سؤاله- (إنّي ظلمت نفسي) بعدم القيام بشكر هذه النعمة العظمى وغيرها من النعم (فاغفر لي) أي: استر ذنوبي؛ فلا تؤاخذني بالعقاب عليها، (فإنّه) ؛ أي لأنّه (لا يغفر الذّنوب) أحد (إلّا أنت) ، ففيه إشعار للاعتراف بتقصيره، مع إنعام الله عليه.
(ثمّ ضحك) ؛ أي: علي. (فقلت) - أي: له؛ كما في نسخة من «الشمائل» ، وفي أخرى: فقال؛ أي عليّ بن ربيعة، وفيه التفات: (من أيّ شيء ضحكت) ؟! وفي نسخة من «الشمائل» : من أيّ شيء تضحك (يا أمير المؤمنين) هذا يدلّ على أنّ هذه القضية كانت في أيام خلافته.
(قال) ؛ أي عليّ مجيبا له: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صنع كما صنعت) قولا وفعلا، (ثمّ ضحك) كما ضحكت.
(فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: «إنّ ربّك ليعجب) أي: ليرضى، فالمراد بالعجب في حقّه تعالى لازمه؛ وهو الرضا، لاستحالة حقيقته عليه تعالى، ولهذا الرضى المقتضي لفرح النبي صلّى الله عليه وسلم ومزيد النعمة عليه ضحك، ولمّا تذكّر عليّ كرم الله وجهه ذلك أوجب مزيد شكره وبشره فضحك.
وقوله (من عبده) - الإضافة للتشريف- (إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم) - حال: أي قال ذلك حال كونه يعلم- (أنّه) - أي: الشأن- (لا يغفر الذّنوب أحد غيره» ) !! كذا في بعض نسخ «الشمائل» ، وهو ظاهر، لأنه من(1/400)
وأمّا بكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكي:
رحمة لميّت، و: خوفا على أمّته وشفقة، و: من خشية الله تعالى، كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي بعض نسخ «الشمائل» : غيري. وتوجيهه أن يجعل «يعلم» مقولا لقول محذوف؛ أي: قائلا يعلم، ويجعل ذلك حالا من فاعل «يعجب» ، والمعنى أنه تعالى يعجب من عبده إذا قال «ربّ اغفر لي» حالة كونه تعالى قائلا يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري؛ كما يؤخذ من المناوي. انتهى «باجوري» .
(وأمّا بكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان) - بضم الميم-: يسيل دمعهما، وإثبات النون مع «حتى» قليل، نحو:
أن تقرآن على أسماء ويحكما ... منّي السّلام وأن لّا تشعرا أحدا
أو على حذف المبتدأ، أي: أنّهما تهملان، أو هما تهملان، ف «حتّى» ابتدائية. نحو:
...
حتّى ماء دجلة أشكل
(ويسمع لصدره أزيز) - بزايين منقوطتين-: أي صوت، وأصل الأزيز:
غليان القدر.
(يبكي رحمة لميّت) استئناف بيانيّ، وهو الواقع في جواب سؤال مقدّر نشأ مما قبله، كأن قائلا قال له: لم كان يبكي؟ فقال: يبكي رحمة لميت.
(وخوفا على أمّته وشفقة) عليهم، (ومن خشية الله تعالى) ؛ وهي خوف مقرون بتعظيم ناشىء عن معرفة كاملة، وهي للعلماء بالله تعالى، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [28/ فاطر] ؛ أي: لا الجهال، وقال صلّى الله عليه وسلم: «أنا أتقاكم لله وأشدّكم لله خشية» . فالخشية أخصّ من الخوف، وخشية الله تعالى هي خوف عقابه، مع تعظيمه بأنه غير ظالم في فعله، بخلاف مطلق الخوف، فإنه يتحقّق عند تهديد الظالم له.(1/401)
و: عند سماع القرآن، و: أحيانا في صلاة اللّيل.
فعن عبد الله بن الشّخّير رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
(وعند سماع القرآن، وأحيانا في صلاة اللّيل) ؛ قاله في «الهدي النبوي» ، نقله عنه في «المواهب» .
أما بكاؤه في صلاة الليل، ففيما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» وهذا لفظها، ورواه ابن خزيمة وابن حبّان في «صحيحيهما» ؛
(فعن عبد الله بن الشّخّير) - بمعجمتين مشددتين مسكورتين فمثناة تحتية فراء- ابن عوف بن كعب بن وقدان بن الجريش «وهو معاوية» بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكعبي الجرشي البصري، نزيل البصرة.
صحابيّ من مسلمة الفتح، خرّج له الجماعة إلا البخاريّ، وأدرك الجاهلية والإسلام، وروى له مسلم في «صحيحه» حديثين، روى عنه ابناه زيد ومطرّف (رضي الله تعالى عنه، قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلّي) ؛ أي: والحال أنّه يصلي. فالجملة حاليّة، وكذا جملة قوله (ولجوفه) : صدره (أزيز) - بزايين منقوطتين بينهما تحتية على وزن فعيل- أي: غليان. وقيل: صوت (كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم وآخره لام- هو: القدر من النحاس، وقيل: كلّ قدر يطبخ فيه، سمّي بذلك!! لأنّه إذا نصب فكأنّه أقيم على رجلين.
ويؤخذ من ذلك أنّه إذا لم يكن الصوت مشتملا على حرفين؛ أو حرف مفهم لم يضرّ في الصلاة.
وفي رواية ابن خزيمة وابن حبّان بلفظ «كأنين الرّحى» (من البكاء) ؛ أي:
من أجله بسبب عظيم الخوف والإجلال لله سبحانه وتعالى، وذلك مما ورثه من أبيه إبراهيم، فإنه كان يسمع من صدره صوت كغليان القدر على النار من مسيرة ميل.
وفيه دلالة على كمال خوفه وخضوعه لربّه، قال: «إنّي لأعلمكم بالله وأشدّكم له خشية» وقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» رواهما البخاريّ.(1/402)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ» ، فقلت: يا رسول الله؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» . فقرأت سورة النّساء ...
ومن هذا الحديث الذي في المتن ونحوه استنّ أهل الطريق الخوف والوجل والتواجد في أحوالهم، وهذا الحال إنّما كان يعرض له صلّى الله عليه وسلم عند تجلّي الله عليه بصفات الجلال والجمال معا، فيمتزج الجلال مع الجمال، وإلّا! فالجلال غير الممزوج لا يطيقه أحد من الخلائق، وإذا تجلّى الله عليه بصفات الجمال المحض تلألأ سرورا ونورا وملاطفة وإيناسا وبسطا.
(و) أما بكاؤه عند سماع القرآن! ففيما أخرجه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» واللفظ لها؛
(عن عبد الله بن مسعود) الصحابيّ الجليل صاحب النعلين والوساد- وقد مرّت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:
قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ وهو على المنبر- كما في «الصحيحين» -: ( «اقرأ عليّ» ) بتشديد الياء. (فقلت يا رسول الله؛ أقرأ عليك) ؛ أي: أأقرأ عليك؟
فهو استفهام محذوف الهمزة. (و) الحال أنّه (عليك) ؛ لا على غيرك (أنزل) !!
فهم ابن مسعود أنّه أمره بالقراءة ليتلذّذ بقراءته؛ لا ليختبر ضبطه وإتقانه، فلذا سأل متعجبا، وإلّا! فلا مقام للتعجب.
(قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري) ، وإنما أحبّ ذلك!! لكون السامع خالصا لتعقّل المعاني، بخلاف القارىء، فإنّه مشغول بضبط الألفاظ وإعطاء الحروف حقّها، ولأنّه اعتاد سماعه من جبريل، والعادة محبوبة بالطبع.
ومن فوائد هذا الحديث التنبيه على أن الفاضل لا ينبغي أن يأنف من الأخذ عن المفضول، فقد كان كثير من السلف يستفيدون من طلبتهم.
(فقرأت سورة النّساء) ؛ أي: شرعت في قراءتها، وفي ذلك ردّ على من(1/403)
حتّى بلغت: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء: 41] . قال:
فرأيت عيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تهملان.
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنة له صغيرة ...
قال: «لا يقال سورة النساء» مثلا، وإنما يقال «سورة تذكر فيها النساء» .
(حتّى بلغت) ؛ أي: وصلت إلى قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (41) [النساء] .
وفي «الصحيحين» زيادة أنه قال له: «حسبك الآن» ، ومعنى الآية- والله أعلم-: فكيف حال من تقدّم ذكرهم، إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد يشهد عليها بعملها؛ فيشهد بقبيح عملها وفساد عقائدها وهو نبيّها، وجئنا بك يا محمد على هؤلاء الأنبياء شهيدا، أي: مزكّيا لهم ومثبتا لشهادتهم، وقيل: الذين يشهدون للأنبياء هذه الأمة والنبي صلّى الله عليه وسلم يزكّيها.
(قال) ؛ أي: ابن مسعود: فالتفتّ إليه (فرأيت عيني رسول الله صلّى الله عليه وسلم تهملان) بفتح التاء وسكون الهاء وضم الميم أو كسرها- أي: تسيل دموعهما لفرط رأفته ومزيد شفقته؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم استحضر أهوال القيامة وشدّة الحال التي يحقّ لها البكاء.
وفيه ندب الاستماع للقراءة، والإصغاء إليها والبكاء عندها، والتدبّر والتواضع لأهل العلم ورفع منزلتهم، وجواز استماع القرآن من محلّ عال والقارىء أسفل منه، وجواز طلبها ممّن هو دونه رتبة وعلما، وحلّ أمر الغير بقطع قراءته للمصلحة. والله أعلم.
(و) أما بكاؤه رحمة لميت!! ففيما أخرجه النسائي، والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له-: (عن ابن عبّاس) الهاشمي- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنة له) - زاد النسائي في روايته- (صغيرة) ؛ وهي بنت بنته زينب من أبي العاصي بن الربيع، فنسبتها إليه مجازية، وليس المراد بنته لصلبه، لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان له أربع بنات، وكلّهنّ كبرن وتزوّجن، وإن كان ثلاث منهن(1/404)
تقضي، فاحتضنها فوضعها بين يديه، فماتت وهي بين يديه وصاحت أمّ أيمن، فقال: - يعني: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم-:
«أتبكين عند رسول الله؟!» . أي: بكاء محظورا مقترنا بالصّياح دالّا على الجزع ...
متن في حياته، لكن لا يصلح وصف واحدة منهن بالصغر، وقد وصفها في رواية النسائي بالصغر، فتعيّن أن يكون المراد إحدى بنات بناته؛ وهي أمامة بنت بنته زينب المتقدّمة.
(تقضي) - بفتح التاء وكسر الضاد-؛ أي: تشرف على الموت، وإن كان أصل القضاء الموت؛ لا الإشراف عليه، ومع ذلك لم تمت حينئذ، بل عاشت بعده صلّى الله عليه وسلم حتّى تزوّجها عليّ بن أبي طالب. ومات عنها، كما اتفق عليه أهل العلم بالأخبار.
(فاحتضنها) ؛ أي: حملها في حضنه- بكسر الحاء- وهو: ما دون الإبط؛ أي: الكشح.
(فوضعها بين يديه) ؛ أي: بين جهتيه المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه، فسمّيت الجهتان «يدين» لكونهما مسامتتين لليدين، كما يسمّى الشيء باسم مجاوره.
(فماتت) ؛ أي: أشرفت على الموت- كما علمت- (وهي بين يديه) الجملة حالية؛ أي: والحال أنها بين يديه، (وصاحت) ؛ أي: صرخت (أمّ أيمن) بفتح الهمزة والميم- واسمها بركة- بفتح الباء الموحدة والراء- وكنّيت بابنها أيمن رضي الله عنه، وهي حاضنته صلّى الله عليه وسلم ومولاته، ورثها من أبيه وأعتقها حين تزوّج بخديجة، وزوّجها لزيد مولاه، وأتت له بأسامة، وماتت بعد وفاة عمر بعشرين يوما.
(فقال- يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلم-) وهذا تفسير من التابعي، والضمير في «يعني» راجع إلى ابن عباس: ( «أتبكين) - بهمزة الاستفهام الإنكاري- (عند رسول الله؟!» ) صلّى الله عليه وسلم!! (أي) أتبكين (بكاء محظورا مقترنا بالصّياح؛ دالّا على الجزع) وعدم الرضا بالقضاء، والقصد من ذلك الإنكار والزجر، وإنما قال: عند رسول الله. ولم يقل عندي!! لأنّ ذلك أبلغ في الزجر وأمنع عن الخروج عما جوّزته(1/405)
فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: «إنّي لست أبكي، إنّما هي رحمة، إنّ المؤمن بكلّ خير على كلّ حال، إنّ نفسه تنزع من بين جنبيه؛ وهو يحمد الله عزّ وجلّ» .
الشريعة. والصياح؛ وهو: رفع الصوت بالبكاء حرام، لكنّها لما رأت دمع عينيه ظنت حلّه؛ (فقالت: ألست أراك تبكي) ؟ فأنا تابعتك واقتديت بك، وظنّي جواز البكاء؛ وإن اقترن بنحو صياح!!
(قال: «إنّي لست أبكي) بكاء على سبيل الجزع وعدم الصبر كبكائك، ولا يصدر عني ما نهى الله عنه من الويل والثبور والصياح وغير ذلك، بل بكائي دمع العين فقط (إنّما هي) ؛ أي: الدمعة التي رأيتها (رحمة» ) ؛ أي أثر رحمة جعلها الله تعالى في قلبي.
ولا ينافي هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها (ما بكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ميت قطّ وإنّما غاية حزنه أن يمسك لحيته) لأنّ مرادها ما بكى على ميت أسفا عليه بل رحمة له.
ويؤيّده ما ورد: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضي الرّبّ، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» ؛ قاله ملا علي قاري في «جمع الوسائل» رحمه الله.
ثمّ إنّه صلّى الله عليه وسلم بيّن وجه كونها رحمة؛ فقال: (إنّ المؤمن) - الكامل ملتبس- (بكلّ خير على كلّ حال) - من نعمة أو بلية، لأنه يحمد ربّه على كلّ منهما، أما النعمة! فظاهر، وأما البلية! فلأنه يرى أنّ المحنة عين المنحة لما يترتّب عليها من الثواب، كما قال: - (إنّ نفسه) - أي: روحه- (تنزع) - بصيغة المفعول؛ أي: تقبض- (من بين جنبيه؛ وهو) - أي والحال أنه- (يحمد الله عزّ وجلّ) ، فلا تشغله تلك الحالة من الحمد.
قال في «جمع الوسائل» : والمعنى ينبغي أن يكون المؤمن الكامل ملابسا بكلّ خير على كلّ حال من أحواله، حتّى أنه في نزع روحه يحمد الله تعالى، ويراه من الله سبحانه رحمة له وكرامة، وخيرا له من حياته، فإن الموت تحفة المؤمن وهدية الموقن. انتهى.(1/406)
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: شهدنا ابنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان.
وعن عائشة رضي الله عنها: ...
(و) فيما أخرجه البخاريّ في «صحيحه» ، والترمذي في «الشمائل» واللفظ له: (عن أنس بن مالك) خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه قال:
شهدنا) - أي: حضرنا- (ابنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم) هي: أمّ كلثوم، ووهم من قال (رقية) ، فإنّها ماتت ودفنت ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة بدر.
ولما عزّي صلّى الله عليه وسلم برقيّة قال: «الحمد لله، دفن البنات من المكرمات» . ثم زوّج عثمان «أمّ كلثوم» هذه، وقال: «والّذي نفسي بيده؛ لو أنّ عندي مائة بنت لزوّجتكهنّ واحدة بعد واحدة» .
(ورسول الله) - أي: والحال أن رسول الله- (جالس على القبر) أي: على طرفه (فرأيت عينيه تدمعان) - بفتح الميم- أي: تسيل دموعهما، وتمام الحديث؛ فقال: «أفيكم رجل لم يقارف اللّيلة» ؟! قال أبو طلحة: أنا، قال:
«انزل» فنزل في قبرها. انتهى ... الحديث.
ومعنى «لم يقارف» ؛ أي: لم يجامع تلك الليلة، فالمقارفة كناية عن الجماع، وأصلها الدنوّ واللّصوق، وفي رواية: «لا يدخل القبر أحد قارف البارحة» ، فتنحّى عثمان لكونه كان باشر تلك الليلة أمة له، فمنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نزول قبرها؛ معاتبة له لاشتغاله عن زوجته المحتضرة، وأيضا فحديث العهد بالجماع قد يتذكّر ذلك فيذهل عما يطلب من أحكام الإلحاد وإحسانه.
(و) فيما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» وفي «الشمائل» باختلاف في الألفاظ- وهذا لفظ «الشمائل» -: (عن عائشة) بنت أبي بكر الصّديقة بنت الصّديق- تقدّمت ترجمتها- (رضي الله) تعالى (عنها) وعن والدها، وعن أصحاب رسول الله أجمعين، وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته. آمين.(1/407)
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل عثمان بن مظعون، وهو ميّت، وهو يبكي.
(أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّل) - بتشديد الباء- (عثمان) في وجهه، أو بين عينيه (بن مظعون) - بالظاء المعجمة-، وكان أخاه من الرضاع،
وهو قرشيّ أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وكان حرّم الخمر في الجاهلية، وهو أوّل من مات من المهاجرين بالمدينة؛ في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة، وكان عالما عابدا مجتهدا من فضلاء الصحابة، ودفن بالبقيع، ولما دفن قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم السّلف هو لنا» .
وقوله (وهو ميّت) جملة حالية؛ أي: والحال أن عثمان ميّت، وفيه ندب تقبيل الميت الصالح.
قال ابن حجر الهيتمي في «فتح الإله شرح المشكاة» : حكم المسألة إن كان الميت صالحا سنّ لكلّ أحد تقبيل وجهه التماسا لبركته، واتباعا لفعله صلّى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون- كما سيأتي-
وإن كان غير صالح؟ جاز ذلك بلا كراهة لنحو أهله وأصدقائه، لأنّه ربّما كان مخففا لما وجده من ألم فقده، ومع الكراهة لغير أهل الميت، إذ قد لا يرضى به؛ لو كان حيا من غير قريبه وصديقه، ومحلّ ذلك كلّه ما لم يحمل التقبيل فاعله على جزع؛ أو سخط كما هو الغالب من أحوال النساء، وإلّا حرم؛ أو كره. ذكره في «شرح الأذكار» . انتهى.
(وهو) - أي: والحال أن النبي صلّى الله عليه وسلم- (يبكي) ؛ أي: حتى سالت دموع النبي صلّى الله عليه وسلم على وجه عثمان؛ كما في «المشكاة» .
قال في «جمع الوسائل» : وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن سفيان الثوري؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت، قال: فرأيت دموع النبي صلّى الله عليه وسلم تسيل على خدّ عثمان.(1/408)
هو أخوه من الرّضاعة.
وكانت عيناه صلّى الله عليه وسلّم كثيرة الدّموع والهملان.
وكسفت الشّمس مرّة، ...
وأخرج أيضا عن أبي النضر؛ قال: مرّ بجنازة عثمان بن مظعون، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذهبت ولم تلبّس منها بشيء» ، يعني: من الدنيا.
وهذا مرسل، لكن له شاهد عند ابن الجوزي في «كتاب الوفاء» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لمّا مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلّى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه، وقبّل بين عينيه، ثم بكى طويلا، فلما رفع السرير؛ قال: «طوبى لك يا عثمان؛ لم تلبّسك الدّنيا، ولم تلبّسها» ، انتهى.
قال المصنّف: (هو) - أي: عثمان- (أخوه) ؛ أي أخو النبي صلّى الله عليه وسلم (من الرّضاعة) - وقد تقدم ذلك-.
(و) أمّا بكاؤه خوفا على أمته! ففيما ذكره الشعراني في «كشف الغمة» بقوله: (كانت عيناه صلّى الله عليه وسلم كثيرة الدّموع والهملان) - محركة-، يقال: هملت عينه تهمل- بالكسر- وتهمل- بالضم-، هملا وهملانا وهمولا: فاضت كانهملت، انتهى «قاموس» .
(وكسفت الشّمس) أي: استتر نورها كلّه؛ أو بعضه، يقال كسفت- بفتح الكاف- وانكسفت بمعنى، وأنكر الفرّاء «انكسفت» ، وكذا الجوهريّ ونسبه إلى العامّة.
(مرّة) على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم موت ولده إبراهيم، ففي البخاري:
كسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم.(1/409)
فجعل صلّى الله عليه وسلّم يبكي في الصّلاة وينفخ، ويقول: «يا ربّ؛ ألم تعدني أن لا تعذّبهم وأنا فيهم، وهم يستغفرونك؟ ونحن نستغفرك يا ربّ» .
وجمهور أهل السير على أنّه مات في العاشرة. وقيل: في التاسعة، وذكر النووي أنّه لم يصلّ لكسوف الشمس إلّا هذه المرّة.
وأما خسوف القمر! فكان في الخامسة، وصلّى له صلاة الخسوف؛ انتهى.
والمشهور في استعمال الفقهاء: أنّ الكسوف للشمس والخسوف للقمر؛ قاله الحافظ.
(فجعل صلّى الله عليه وسلم يبكي في الصّلاة وينفخ) ؛ من غير أن يظهر النفخ. ولا من البكاء حرفان أو حرف مفهم، أو أنّه كان يغلبه ذلك بحيث لا يمكنه دفعه.
(ويقول: «يا ربّ؛ ألم تعدني أن لّا تعذّبهم، وأنا فيهم) بقولك (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [33/ الأنفال] ... الآية، ربّ ألم تعدني أن لا تعذبهم (وهم يستغفرونك) ، أي بقولك (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (33) [33/ الأنفال] (ونحن نستغفرك يا ربّ» ) .
وإنما قال ذلك!! لأن الكسوف مظنّة العذاب، وإن كان وعد الله لا يتخلّف، لكن يجوز أن يكون مشروطا بشرط اختلّ.
وهذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الشمائل» باختلاف في الألفاظ، وفي بعضها بدون ذكر البكاء والنفخ؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال في «جمع الوسائل» : ووقع في رواية أحمد وابن خزيمة وابن حبان والطبراني بلفظ: وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد، وذلك في الركعة الثانية. انتهى.(1/410)
وأمّا عطاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا عطس.. وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عطس.. حمد الله، فيقال له: يرحمك الله، فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره العطسة الشّديدة في المسجد.
(وأمّا عطاس رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فقد) ثبت فيما رواه أبو داود، والترمذي؛ وقال حسن صحيح، والحاكم؛ وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي، كلّهم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا عطس) - بفتح الطاء؛ من باب «ضرب» ، وقيل: من باب «قتل» - (وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض) ، وفي رواية:
غضّ (بها صوته) ؛ أي: لم يرفعه بصيحة كما يفعله العامّة، وفي رواية لأبي نعيم: خمّر وجهه وفاه، وفي أخرى: كان إذا عطس غطّى وجهه بيده؛ أو ثوبه ... الخ، قال التوربشي: هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء، فإنّ العطاس يكره الناس سماعه، ويراه الراءون من فضلات الدّماغ.
(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» بإسناد حسن؛ عن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين: (كان صلّى الله عليه وسلم إذا عطس حمد الله) - بكسر الميم- أي: أتى ب «الحمد» عقبه، والوارد عنه: الحمد لله رب العالمين، وروي:
الحمد لله على كلّ حال؛ (فيقال له: يرحمك الله) ظاهره الاقتصار على ذلك، لكن ورد عن ابن عباس بإسناد صحيح يقال: عافانا الله وإيّاكم من النار، يرحمكم الله، ولا يسنّ تشميت العاطس إلّا بعد أن يحمد الله تعالى، ويسنّ تذكيره الحمد؛ (فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم» ) ؛ أي: حالكم.
(و) أخرج البيهقي في «سننه» ، وكذا في «الشعب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكره العطسة الشّديدة في المسجد)(1/411)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت بالعطاس.
أمّا التّثاؤب: فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرهه من غيره، وقد حفظه الله تعالى منه، وما تثاءب نبيّ قطّ.
- زاد في رواية: أنّها من الشيطان-، والعطسة الشديدة مكروهة في المسجد وغيره، لأنّه كان يكره رفع الصوت بالعطاس، لكنها في المسجد أشدّ كراهة.
انتهى. «مناوي وعزيزي» .
(وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يكره رفع الصوت بالعطاس.
أمّا التّثاؤب) !! قال القاضي: تفاعل؛ من الثوباء- بالمد- وهو: فتح الحيوان فمه، لما عراه من تمطّي وتمدّد لكسل وامتلاء، وهي جالبة النوم الذي هو من حبائل الشيطان، فإنّه به يدخل على المصلي ويخرجه عن صلاته، فلذا كرهه صلّى الله عليه وسلم؛ كما قال المصنف:
(فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرهه من غيره) ؛ أي: يكره سببه؛ وهو كثرة الأكل، لأنّه المفضي إلى التكاسل عن العبادة، لأن من أكل كثيرا شرب كثيرا؛ فنام كثيرا؛ ففاته خير كثير.
ويطلب ممّن غلبه التثاؤب أن يضع يده اليسرى على فيه لدفع الشيطان.
(وقد حفظه الله تعالى منه) ، لأنّه من الشيطان، والأنبياء معصومون من الشيطان، وذكر المصنف التثاؤب لأنّ كلامه في شمائله صلّى الله عليه وسلم، ومنها عدم التثاؤب بخلاف غيره، فليس ذكره استطرادا لمضادّته للضحك.
(و) قد ورد في «تاريخ البخاري» و «مصنف ابن أبي شيبة» ؛ عن يزيد بن الأصمّ ابن أخت ميمونة؛ «أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها» مرسلا:
(ما تثاءب نبيّ قطّ) . قال مسلم بن عبد الملك: ما تثاءب نبيّ قط، وإنّها من علامة النبوة، وفي «البخاري» مرفوعا: «إنّ الله يحبّ العطاس ويكره التّثاؤب» .(1/412)
[الفصل التّاسع في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته]
الفصل التّاسع في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلّم بكلام بيّن فصل، ...
(الفصل التّاسع) من الباب الثاني (في) بيان ما ورد في (صفة كلامه صلّى الله عليه وسلم وسكوته) .
والكلام: اسم مصدر بمعنى التكلّم. أو بمعنى ما يتكلّم به، ويصحّ إرادة كلّ منهما هنا، إذ يلزم من بيان صفة المتكلّم صفة ما يتكلّم به؛ وبالعكس.
وقد كان صلّى الله عليه وسلم أعذب خلق الله كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتّى كأنّ كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح.
ينظّم درّ الثّغر نثر مقوله ... فيا حسنه في نثره ونظامه
يناجي فينجي من يناجي من الجوى ... فكلّ كليم برؤه في كلامه
روى الترمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسرد) - بضم الراء؛ من السرد- وهو: الإتيان بالكلام على الولاء، فمعنى «يسرد» : يأتي بالكلام على الولاء ويتابعه، ويستعجل فيه (كسردكم) وفي نسخة: سردكم-، بدون كاف، والمعنى عليها، فهو منصوب بنزع الخافض (هذا) الذي تفعلونه فإنه يورث لبسا على السامعين.
(ولكن كان يتكلّم بكلام بيّن) - بتشديد التحتية المكسورة- أي: ظاهر.
(فصل) - بالجر: تأكيد ل «بيّن» - أي: مفصول ممتاز بعضه من بعض،(1/413)
يحفظه من جلس إليه.
وكان في كلامه صلّى الله عليه وسلّم ترتيل.
وكان كلامه صلّى الله عليه وسلّم يحفظه كلّ من سمعه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّم بكلمة.. أعادها ثلاثا ...
بحيث يتبيّنه من يسمعه، ويمكنه عدّه، وهذا أدعى لحفظه ورسوخه في ذهن السامع؛ مع كونه يوضّح مراده، ويبيّنه بيانا تامّا، بحيث لا يبقى فيه شبهة.
(يحفظه) - أي: كلامه- (من جلس) عنده وأصغى (إليه) ؛ لظهوره وتفصيله، والجلوس ليس بقيد، فالمراد أصغى إليه؛ وإن لم يجلس، ولو من الكفار الذين لا رغبة لهم في سماعه.
وفي «سنن أبي داود» ؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلامه كلاما فصلا؛ يفهمه كلّ من سمعه. قال الزين العراقي: وإسناد حسن.
(و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما؛ قال: (كان في كلامه صلّى الله عليه وسلم) - وفي رواية: كان في قراءته- (ترتيل) : تأنّ وتمهّل مع تبيين الحروف والحركات، بحيث يتمكن السّامع من عدّها.
(و) أخرج النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان كلامه صلّى الله عليه وسلم يحفظه كلّ من سمعه) من العرب وغيرهم، لظهوره وتفاصيل حروفه وكلماته، واقتداره لكمال فصاحته على إيضاح الكلام وتبيّنه، ولهذا تعجّب الفاروق من شأنه؛ وقال: مالك أفصحنا؛ ولم تخرج من بين أظهرنا؟!. قال: «كانت لغة إسماعيل قد درست- أي: متممات فصاحتها- فجاءني بها جبريل فحفظتها» . انتهى «مناوي» .
(و) أخرج الإمام أحمد والبخاريّ، والترمذيّ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله «صلّى الله عليه وسلم» - قال الكرماني: قال الأصوليون: مثل هذا التركيب يشعر بالاستمرار- (إذا تكلّم بكلمة) ؛ أي: بجملة مفيدة (أعادها ثلاثا)(1/414)
حتّى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم.. سلّم عليهم ثلاثا.
من المرّات. قال ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» : ولعل الأوّل للسماع، والثاني للتنبيه، والثالث للفكر، والأظهر أنّ الثلاث باعتبار مراتب مدارك العقول من الأعلى والأوسط والأدنى. انتهى كلامه.
(حتّى تفهم) هذا بيان للمراد من تكرير الثلاث، وفي رواية البخاري:
«ليفهم» - بمثناة تحتية مضمومة وبكسر الهاء-، وفي رواية له بفتحها.
(عنه) ؛ أي: لتحفظ وتنقل عنه، وذلك إمّا لأنّ من الحاضرين من يقصر فهمه عن وعيه؛ فيكرره ليفهم ويرسخ في الذهن، وإمّا أن يكون المقول فيه بعض إشكال فيتظاهر بالبيان؛ دفعا للالتباس.
وفي «المستدرك» : «حتى تعقل عنه» بدل «حتى تفهم» ، وهذا من شفقته وحسن تعليمه وشدّة النّصح في تبليغه. قال ابن التين: وفيه أن الثلاث غاية ما يقع به الإقرار والبيان.
(وإذا أتى على قوم) ؛ أي: وكان إذا قدم على قوم (فسلّم عليهم) هو من تتميم الشرط (سلّم عليهم) - جواب الشرط- (ثلاثا) في سلام الاستئذان، بأن أراد الدخول على قوم في محلّهم؛ فيكرّر لهم السلام ثلاثا إذا لم يعلم سماعهم من مرّة أو مرّتين ليعلمهم أنّه يستأذنهم في الدخول.
قال في «الفتح» : وقد فهم البخاريّ هذا بعينه، فأورد هذا الحديث مقرونا بحديث أبي موسى في قصّة عمر، لكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع أيضا منه إذا خشي أن لا يسمع سلامه. انتهى.
وسبقه إليه جمع منهم ابن بطّال؛ فقال: يكرّره إذا خشي أنّه لا يفهم عنه أو لا يسمع، أو أراد الإبلاغ في التعليم، أو الزجر في الموعظة.
وقال النووي في «الأذكار» و «الرياض» : هذا محمول على ما لو كان الجمع(1/415)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يتحدّث.. يكثر أن يرفع طرفه إلى السّماء.
كثيرا. وجرى عليه ابن القيّم؛ فقال: هذا في السلام على جمع كثير لا يبلغهم سلام واحد، فيسلّم الثاني والثالث؛ إذا ظنّ أنّ الأول لم يحصل به إسماع، ولو كان هديه دوام التسليم ثلاثا؛ كان صحبه يسلّمون عليه كذلك، وكان يسلّم على كلّ من لقيه ثلاثا، وإذا دخل بيته سلّم ثلاثا، ومن تأمّل هديه علم أنّه ليس كذلك، وأن تكرار السلام كان أحيانا لعارض. إلى هنا كلامه.
قال الكرماني: والوجه أنّ معناه: كان إذا أتى قوما يسلّم تسليمة الاستئذان، ثم إذا قعد سلّم تسليم التحية، ثم إذا قام سلّم تسليمة الوداع، وهذه التسليمات كلّها مسنونة، وكان يواظب عليها.
انتهى؛ قاله المناويّ في «كبيره» مع شيء من العزيزي والحفني.
(و) أخرج أبو داود، والبيهقيّ في «دلائل النبوة» بإسناد حسن؛ عن عبد الله بن سلام- بالفتح والتخفيف- الإسرائيليّ الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يكثر أن يرفع طرفه إلى السّماء) ؛ انتظارا لما يوحى إليه وشوقا إلى الرفيق الأعلى؛ ذكره الطيبي.
وقوله «جلس يتحدّث» ! خرج به حالة الصلاة، فإنّه كان يرفع بصره فيها إلى السماء أوّلا حتّى نزلت آية الخشوع في الصلاة فتركه.
فإن قلت: ينافيه أيضا ما ورد في عدّة أخبار: أن نظره إلى الأرض كان أكثر من نظره إلى السماء!!؟
قلت: يمكن الجواب بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فإذا كان مترقّبا لنزول الوحي عليه متوقعا هبوط الملك إليه؛ نظر إلى جهته شوقا إلى وصول كلام ربّه إليه، واستعجالا ومبادرة لتنفيذ أوامره، وكان في غير هذه الحالة نظره إلى الأرض أطول؛ ذكره المناوي في «كبيره» .(1/416)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يحدّث حديثا، لو عدّه العادّ.. لأحصاه.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) يسرد الحديث سردكم هذا! كان (يحدّث حديثا) ؛ ليس بمهذرم مسرع، ولا متقطّع يتخلّله السّكتات بين أفراد الكلم، بل يبالغ في إيضاحه وبيانه بحيث (لو عدّه العادّ) ، أي: لو أراد المستمع عدّ كلماته أو حروفه (لأحصاه) ، أي: أمكنه ذلك بسهولة، والمراد بذلك: المبالغة في التفهيم والترتيل، وهذا أتت به عائشة رضي الله تعالى عنها تعرّض بأبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وصدر الحديث: عن عروة؛ عنها أنّها قالت: ألا يعجبك أبو فلان- ولفظ «مسلم» : أبو هريرة- جاء فجلس إلى جانب حجرتي؛ يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسرد، يسمعني ذلك؛ وفي رواية: فقال: ألا تسمعين يا ربّة الحجرة!! وكنت أسبّح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كان ... فذكرت الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: واعتذر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ بأنّه كان واسع الرّواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكّن من التّرتيل عند إرادة التّحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم عليّ القوافي.
ومن حديث عائشة المذكور أخذ أنّ على المدرّس أن لا يسرد الكلام سردا، بل يرتّله ويزيّنه ويتمهل ليتفكّر فيه هو وسامعه، وإذا فرغ من مسألة أو فصل سكت قليلا ليتكلّم من في نفسه شيء. انتهى «مناوي» .
وأخرج التّرمذيّ في «الجامع» ، و «الشّمائل» ، والحاكم؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثا حتى تعقل عنه» ؛ أي: ليتدبّرها السّامعون، ويرسّخ معناها في القوّة العاقلة.
وفيه أن الثّلاثة غاية الإعذار والبيان؛ كما قال ابن التين، فمن لم يفهم بها لا يفهم بما زيد عليها؛ ولو مرّات عديدة.(1/417)
وكان صلّى الله عليه وسلّم طويل الصّمت.
وكان صلّى الله عليه وسلّم كثير السّكوت، ...
وقد ورد: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان لا يراجع بعد ثلاث؛ وفيه ردّ على من كره إعادة الحديث، وأنكر على الطّالب الاستعادة، وعدّه من البلادة.
قال ابن المنيّر: والحقّ أنّه يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذا لم يعد، بل الإعادة عليه آكد من الابتداء، لأنّ الشّروع ملزم. انتهى «زرقاني» .
(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد صحيح؛ من حديث سماك؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما. قال سماك: قلت لجابر: أكنت تجالس النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، و (كان) ؛ أي: رسول الله (صلّى الله عليه وسلم طويل الصّمت) ، في غير أوقات الذّكر، فالمراد الصّمت عمّا لا ثواب فيه، وذلك لأنّ كثرة السّكوت من أقوى أسباب التوقير، وهو من الحكمة وداعية للسّلامة من اللّغط، ولهذا قيل: من قلّ كلامه قلّ لغطه. وهو أجمع للفكر. انتهى.
وتمام الحديث بعد قوله «طويل الصّمت» : قليل الضّحك. انتهى «مناوي» .
(و) في «الشّفاء» للقاضي عياض: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كثير السّكوت) لتفكّره في مشاهدة الملكوت وتذكّره مطالعة الجبروت.
وكان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتّقدير والتفكّر.
فأمّا تقديره ففي تسوية النّظر، والاستماع بين النّاس، وأمّا تفكّره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم في الصّبر؛ فكان لا يغضبه شيء يستفزّه، وجمع له في الحذر أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأي بما أصلح أمّته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدّنيا والآخرة؛ ذكره في «الشفاء» للقاضي عياض.
وهذا الحديث رواه التّرمذي في «الشمائل» ؛ من حديث هند بن أبي هالة(1/418)
لا يتكلّم في غير حاجة، ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم نزر الكلام، سمح المقالة، ...
رضي الله تعالى عنه بلفظ: طويل السّكوت (لا يتكلّم في غير حاجة) ؛ أي: من قضيّة ضروريّة دينيّة، أو دنيويّة، أو مسألة عملية أو علميّة، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (3) [المؤمنون] ، ولحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
(ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل) ؛ بما لا يستحسن ذكره ولا يباح أمره، إذا صدر عمّن تكلّم بناء على جهله، لقوله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (199) [الأعراف] . والظّاهر أنّ المراد بالإعراض هو الصّفح وعدم الاعتراض، فيختصّ بالمكروهات التّنزيهيّة على مقتضى القواعد الشرعيّة.
وأمّا المحرّمات القطعيّة؛ وكذا المكروهات التحريميّة!! فلا بدّ للشّارع من أن يأمر ويزجر قياما بحقّ النّبوّة والرّسالة. انتهى «ملّا علي قاري» .
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز ابن ماجه:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يخزن) - بالخاء وضمّ الزّاي المعجمتين والنون آخره- أي: يصون (لسانه) ، ومنه الخزانة، لأنّه لا يحبّ كثرة الكلام، قال:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخازن
(إلّا فيما يعنيه) - بفتح المثنّاة التحتية وكسر النون- أي: يهمّه وينفعه من جواهر كلمه وزواجر حكمه صلّى الله عليه وسلم.
وفي «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني رحمه الله تعالى:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم نزر الكلام) ؛ أي: قليله عند الحاجة إليه، (سمح المقالة) ؛ أي: سهل الكلام يواتيه بلا تكلف.(1/419)
يعيد الكلام مرّتين ليفهم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم كلامه كخرزات النّظم.
وكان يعرض عن كلّ كلام قبيح، ويكني عن الأمور المستقبحة في العرف إذا اضطرّه الكلام إلى ذكرها.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله تعالى بين كلّ خطوتين.
(يعيد الكلام مرّتين) ؛ أو أكثر، كثلاث، وهي غاية ما يقع به الإيضاح والبيان، وذلك (ليفهم) عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا يراجع بعد ثلاث.
(و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كلامه كخرزات النّظم) الخرزات: جمع خرزة محركة، وهي: اسم لما ينظم من جواهر وغيرها، والنّظم المنظوم باللّؤلؤ والخرز، وهو في الأصل مصدر؛ يقال: نظم من لؤلؤ، ونظم اللّؤلؤ ينظمه نظما ونظاما- بالكسر-، ونظّمه تنظيما، ألّفه وجمعه في سلك فانتظم وتنظّم. والمعنى: إنّ كلامه مفصّل ممتاز بعضه من بعض، ظاهر الكلمات والحروف، مع حلاوة في منطقه، وذلك لكمال فصاحته.
روى الطّبراني من حديث أمّ معبد: وكأن منطقه خرزات النّظم ينحدرن، حلو المنطق؛ لا نزر ولا هذر.
(وكان يعرض عن كلّ كلام قبيح) لا يرضاه، فيعلم بإعراضه عنه أنّه غير مرضيّ له صلّى الله عليه وسلم، وهذا من وقاره، وليس المراد به أن يكون حراما، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لا يقرّ على مثله.
(ويكني عن الأمور المستقبحة في العرف إذا اضطرّه الكلام إلى ذكرها) كقوله:
«خذي فرصة ممسّكة فتطهّري بها» . فإن اقتضى الحال التّصريح صرّح بذلك، كقوله للرّجل: «أنكتها» ، بعد قوله له: «لعلّك قبّلت!! لعلّك فاخذت!!» وذلك لأن الحكم الشّرعيّ هنا يترتّب على التّصريح بالجماع.
(وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى بين كلّ خطوتين) .(1/420)
[الفصل العاشر في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل العاشر في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شديد البطش.
وعن ابن إسحاق ...
(الفصل العاشر) ؛ من الباب الثّاني (في) بيان ما ورد في (صفة قوّته) القوّة: واحدة القوى، مثل غرفة وغرف، وكان تام القوّة في أعضائه (صلّى الله عليه وسلم) ، كما أنّه تام القوّة في حقوق الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، مراقب لحدوده حافظ لها؛ لا يخاف في الله لومة لائم، وقد جاءت الأخبار الدّالة على قوّته البدنيّة.
فقد أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن محمد بن الحنفيّة مرسلا، ورواه أبو الشّيخ من رواية أبي جعفر معضلا؛ كما قال المناوي، ما «1» ذكره المصنّف في قوله:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شديد البطش) ؛ أي: القوّة عند الاحتياج إلى ذلك، قد أعطي قوّة أربعين في البطش والجماع؛ كما في خبر الطّبرانيّ عن ابن عمرو.
ولأبي الشّيخ عن علي: كان من أشدّ النّاس بأسا. ومع ذلك فلم تكن الرّحمة منزوعة عن بطشه، لتخلّقه بأخلاق الله، وهو سبحانه ليس له وعيد وبطش شديد؛ ليس «2» فيه شيء من الرّحمة واللّطف.
(وعن) محمد (بن إسحاق) بن يسار المطّلبيّ مولاهم، لأنّ جده يسارا من سبي عين التمر، فهو مطّلبيّ بالولاء، وهو من أهل المدينة المنوّرة، وكان إماما في
__________
(1) مفعول (أخرج ابن سعد) وما عطف عليه.
(2) جملة ليس وما معها خبر «ليس» التي قبلها.(1/421)
وغيره: أنّه كان بمكّة رجل شديد القوّة يحسن الصّراع، وكان النّاس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم، فبينما هو ذات يوم في شعب من شعاب مكّة إذ لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له:
«يا ركانة؛ ألا تتّقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟» . فقال له: يا محمّد؛ هل من شاهد يدلّ على صدقك؟ فقال: «أرأيتك إن صرعتك، أتؤمن بالله ورسوله؟» . قال: نعم يا محمّد. فقال له: «تهيّأ للمصارعة» . فقال: تهيّأت. فدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المغازي والسّير، له كتاب «السّيرة النّبويّة» التي هذّبها ورواها عنه ابن هشام، وله كتاب «الخلفاء» وكتاب «المبتدأ» وكان من حفّاظ الحديث، وزار الإسكندرية وسكن بغداد فمات بها سنة: - 151- إحدى وخمسين ومائة؛ رحمه الله تعالى.
(و) عن (غيره) في كتاب «السّيرة النّبويّة» : (أنّه كان بمكّة رجل) هو ركانة (شديد القوّة يحسن الصّراع) - بكسر الصاد مصدر؛ صارع مصارعة وصراعا- (وكان النّاس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم) - بابه نفع- (فبينما هو ذات يوم في شعب) - بالكسر- الطريق أو في الجبل (من شعاب مكّة إذ لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له: «يا ركانة؛ ألا تتّقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟» ) ، فتؤمن بالله ورسوله، أو كما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(فقال) أي: ركانة (له: يا محمّد؛ هل) لك (من شاهد يدلّ على صدقك) فيما تقوله؟ (فقال: «أرأيتك) ، أي: أخبرني (إن صرعتك؛ أتؤمن بالله ورسوله؟» ) - بهمزة الاستفهام-.
(قال: نعم يا محمّد) ، وصريح هذا أن السّائل له في المصارعة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وفي رواية البلاذري: أنّ السّائل ركانة، فيحتمل أن كلا منهما توارد مع الآخر في السّؤال.
(فقال له: «تهيّا للمصارعة» . فقال: تهيّات. فدنا) منه (رسول الله صلّى الله عليه وسلم(1/422)
فأخذه، ثمّ صرعه.
قال: فتعجّب ركانة من ذلك، ثمّ سأله الإقالة والعود، ففعل به ثانيا وثالثا، فوقف ركانة متعجّبا، وقال: إنّ شأنك لعجيب.
فأخذه ثمّ صرعه، قال: فتعجّب ركانة من ذلك) ؛ لأنّه كان مستحيلا عنده أنّ أحدا يصرعه.
(ثمّ سأله الإقالة) ممّا توافقا عليه، وهو الإيمان إن صرعه، ولم تكن الموافقة بينهما على قطيع من الغنم كما قد يتوهّم، لأنّ المعاقدة على الغنم إنّما كانت مع ابنه يزيد؛ كما في «الإصابة» .
(والعود) إلى المصارعة (ففعل به) ذلك (ثانيا وثالثا. فوقف ركانة متعجّبا؛ وقال: إنّ شأنك لعجيب) ؛ رواه الحاكم في «المستدرك» ؛ عن أبي جعفر عن أبيه محمد بن ركانة.
ورواه أبو داود، والتّرمذيّ، من رواية أبي الحسن العسقلاني؛ عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة؛ عن أبيه: أنّ ركانة صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ... الحديث.
وكذا أخرجه البيهقي؛ من رواية سعيد بن جبير التّابعي المشهور.
قال في «الإصابة» : ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطّلبيّ.
روى البلاذري أنّه قدم من سفر فأخبر خبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بمكّة قبل الإسلام، وكان أشدّ النّاس، فقال: يا محمّد؛ إن صرعتني آمنت بك!. فصرعه فقال: أشهد أنّك ساحر. ثم أسلم بعد، وأطعمه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خمسين وسقا، وقيل: لقيه في بعض جبال مكّة؛ فقال: يا ابن أخي بلغني عنك شيء، فإن صرعتني علمت أنّك صادق، فصارعه فصرعه، وأسلم ركانة في فتح مكّة، وقيل: عقب مصارعته، ومات في خلافة معاوية. قال الزّبير: وقال أبو نعيم: في خلافة عثمان، وقيل:
عاش إلى سنة: - 41- إحدى وأربعين. انتهى باختصار.(1/423)
وقد صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحيّ، وكان شديدا، بلغ من شدّته أنّه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرّى الجلد، ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المصارعة، ...
(وقد صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم جماعة غير ركانة؛ منهم) ابنه يزيد بن ركانة؛ قال أبو عمر بن عبد البر: له ولأبيه صحبة ورواية، روى عنه ابناه عليّ، وعبد الرّحمن، وأبو جعفر الباقر.
وأخرج ابن قانع من طريق يزيد بن أبي صالح؛ عن علي بن يزيد بن ركانة: أنّ أباه أخبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا ركانة بأعلى مكّة؛ فقال: «يا ركانة، أسلم» .
فأبى، فقال: «أرأيت إن دعوت هذه الشّجرة- لشجرة قائمة- فأجابتني! تجيبني إلى الإسلام؟» . قال: نعم.
فذكر عن ابن عباس قال: جاء يزيد بن ركانة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ومعه ثلثمائة من الغنم، فقال: يا محمّد؛ هل لك أن تصارعني!! قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» . قال: مائة من الغنم، فصارعه فصرعه. ثم قال: هل لك في العود، قال: «وما تجعل لي؟» قال: مائة أخرى، فصارعه فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمد؛ ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليّ منك، وأنا أشهد أن لّا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فقام عنه ورد عليه غنمه؛ ذكره في «الإصابة» ، قد صارع ركانة وابنه جميعا.
ومنهم (أبو الأسود الجمحيّ) - بضمّ الجيم وفتح الميم ومهملة-؛ نسبة إلى جمح: بطن من قريش، كما قاله السّهيليّ، ورواه البيهقيّ.
(وكان شديدا، بلغ من شدّته أنّه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرّى الجلد) ؛ أي: ينشّق ويتقطّع (ولم يتزحزح) ، أي: يتحرك، (عنه، فدعا) هو (رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المصارعة؛(1/424)
وقال: إن صرعتني.. آمنت بك، فصرعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يؤمن.
وأمّا قوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجماع:
فقد قال أنس رضي الله تعالى عنه: إنّه كان صلّى الله عليه وسلّم يدور على نسائه في السّاعة الواحدة من اللّيل والنّهار؛ وهنّ إحدى عشرة.
وقال: إن صرعتني آمنت بك. فصرعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يؤمن) ، وفي قصّته طول.
(وأمّا قوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجماع! فقد) أعطي الحدّ الكثير الزّائد على العادة من أمر الجماع وقوّة الباءة، وأعطي القدرة على قوّة الشّهوة بكثرة الجماع.
(قال أنس) بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم (رضي الله تعالى عنه) فيما رواه البخاريّ في «صحيحه» ؛ من طريق هشام؛ عن قتادة بن دعامة، و «النّسائيّ» في «سننه» :
(أنّه كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يدور على نسائه) ؛ أي: يجامعهنّ (في السّاعة الواحدة) ، المراد بها الزّمن القليل؛ لا السّاعة النّجوميّة (من اللّيل) ؛ أي: مرة (والنّهار) ؛ أي: تارة، (وهنّ) ؛ أي: مجموعهن (إحدى عشرة) - بسكون الشّين وتكسر-؛ تسع زوجاته، ومارية وريحانة سريّتاه، وتمام الحديث: قال قتادة: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟! قال: كنا نتحدّث أنه أعطي قوّة ثلاثين. انتهى.
ووقع عند الإسماعيليّ؛ من رواية أبي موسى عن معاذ بن هشام: «أربعين» بدل «ثلاثين» ؛ قال الحافظ ابن حجر: وهي شاذّة من هذا الوجه.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على النّاس بأربع: بالسّماحة، والشّجاعة، وكثرة الجماع، وشدّة البطش» . رواه الطّبراني في «الأوسط» .(1/425)
وأخرج ابن منيع: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يطوف على تسع نسوة في ضحوة.
وعن صفوان بن سليم مرفوعا: «أتاني جبريل بقدر فأكلت منها، فأعطيت قوّة أربعين رجلا في الجماع» .
(وأخرج ابن منيع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يطوف على تسع نسوة في ضحوة) .
(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» برجال الصّحيح لكنّه مرسل؛ قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى؛ عن أسامة بن زيد؛
(عن صفوان بن سليم) - بضمّ السّين مصغرا- المدني أبي عبد الله الزّهري «مولاهم» .
تابعيّ صغير ثقة مفت، عابد إمام كبير، قدوة ممن يستشفى بحديثه، وينزل القطر من السّماء بذكره. ويقال: لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة. وأنّه مات وهو ساجد.
ويقال: إن جبهته نقّبت من كثرة السّجود، روى عن ابن عمر وغيره، وعنه مالك وطبقته، روى له السّتة، مات سنة: اثنتين وثلاثين ومائة هجرية رحمه الله تعالى.
(مرفوعا) ؛ مرسلا: (أتاني جبريل بقدر) - بكسر فسكون-: إناء يطبخ فيه؛ مؤنّثة. (فأكلت منها) ؛ بإذن، إذ وضع الطعام إذن، وظاهره أنّها من الجنّة، ولا مانع أنّ طعامها يخرج إلى الدّنيا، لكنّه يسلب الخصوصيّة في حقّ غير نبيّنا، (فأعطيت قوّة) - أي: قدرة- (أربعين رجلا) من رجال أهل الجنّة (في الجماع) .
قيّد به! ليدلّ على أنّ القوّة في غيره أولى، إذ هو محل العجز غالبا، لا سيما عند الكبر، وحديث القدر هذا صحيح مرسل، ووصله ضعيف، ولم يعلم ما في القدر، وزعم أنه هريسة!! لا يصحّ، لأنّ أحاديث الهريسة كلّها واهية، بل قال ابن ناصر: إنّها موضوعة، وقال غيره: ضعيفة جدّا، وقال الذّهبيّ: واهية. انتهى «زرقاني» .(1/426)
وعن طاووس ومجاهد: ...
(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ (عن) أبي عبد الرحمن (طاوس) يقرأ بواوين، قيل: وبهمز- قال الصاغاني: والاختيار أن يكتب «طاوس» علما بواو واحدة ك «داود» .
قال ابن معين: لقّب بذلك! لأنّه كان طاوس القراء.
وهو ابن كيسان اليماني، همداني من بني حمير «مولاهم» ، أصله من الفرس، وأمّه مولاة لقوم من حمير، وكان مسكنه مدينة الجند- بفتح الجيم وبفتح النون-: بلدة معروفة باليمن، ويتردّد مع ذلك إلى صنعاء، وربما أقام بها مدّة.
وهو من كبار التّابعين والعلماء والفضلاء والصّالحين، بل هو أحد الأبدال، أدرك خمسين من الصحابة وصحبهم وأخذ عنهم، وروى عن أبي هريرة، وابن عبّاس، وعائشة، وعليّ بن أبي طالب وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وغيرهم رضي الله عنهم.
قال الزمخشري: كان خلق طاوس يحكي خلق الطاوس.
وذكر ابن الجوزي في كتاب «صفوة الصفوة» : أنّه صلّى الصّبح بوضوء العشاء أربعين سنة.
روى عنه ابنه عبد الله، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وعطاء، وابن المنكدر، والزهري، وغيره ممن لا يحصون كثرة، واتفقوا على جلالته وفضيلته، ووفور علمه وصلاحه وحفظه وتثبّته، وكان معظّما عند سائر النّاس.
وكان كثير الحجّ إلى بيت الله تعالى، يقال: إنّه حجّ أربعين حجّة، وكانت وفاته بمكّة يوم التّروية؛ سنة: ستّ ومائة، وقد بلغ عمره بضعا وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
(و) عن (مجاهد) مرسلا، وهو أبو الحجّاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي «مولاهم» وهو تابعيّ إمام؛ متّفق على جلالته وإمامته.(1/427)
أعطي صلّى الله عليه وسلّم قوّة أربعين رجلا في الجماع.
وفي رواية عن مجاهد: قوّة بضع وأربعين رجلا من أهل الجنّة.
وعن زيد بن أرقم ...
سمع ابن عمر وابن عباس، وجابرا وأبا سعيد، وأبا هريرة، وغيرهم من الصّحابة، ومن التّابعين طاوسا وابن أبي ليلى وآخرين.
روى عنه طاوس وعكرمة، وعمرو بن دينار، وأبو الزّبير، والأعمش وخلائق لا يحصون. واتفقوا على إمامته وجلالته وتوثيقه، وهو إمام في الفقه والتفسير والحديث، ومناقبه كثيرة مشهورة، مات وهو ساجد سنة: إحدى ومائة؛ وعمره ثلاث وثمانون سنة. وقيل غير ذلك، رحمه الله تعالى؛
(أعطي صلّى الله عليه وسلم قوّة أربعين رجلا في الجماع) . ولا ينافيه رواية الصّحيح السّابقة «قوّة ثلاثين» ، لجواز أنّهم تحدثوا بذلك قبل بلوغهم الزّيادة.
(وفي رواية عن مجاهد) أنّه أعطي (قوّة بضع) - بكسر الباء-: من الثلاثة إلى التّسعة، (وأربعين رجلا من أهل الجنّة) . رواها الحارث بن أبي أسامة.
وفي «الحلية» لأبي نعيم عن مجاهد: قوّة أربعين رجلا، كلّ رجل من رجال أهل الجنّة.
وروى التّرمذيّ: «إنّ رجال أهل الجنّة؛ قوّة كلّ رجل منهم بقوّة سبعين رجلا» . وصحّحه؛ وروى «بقوّة مائة رجل» . وقال: صحيح غريب؛ قلت:
فعلى هذا كان صابرا عنهن غاية الصّبر، لكثرة الاشتياق إليهنّ. انتهى «شرح الشفاء» لملا علي قاري.
(و) روى الإمام أحمد، والنّسائي، وصحّحه الحاكم؛ (عن) أبي عمرو:
(زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس بن النّعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ.
غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، استصغر يوم أحد، وكان يتيما في(1/428)
رفعه: «إنّ الرّجل من أهل الجنّة ليعطى قوّة مئة في الأكل والشّرب والجماع والشّهوة» .
حجر عبد الله بن رواحة، وسار معه في غزوة مؤتة.
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعون حديثا؛ اتفق البخاريّ، ومسلم على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بستة، روى عنه أنس بن مالك، وابن عباس، وخلائق من التابعين.
نزل الكوفة وتوفّي بها سنة: ستّ وخمسين. وقيل: ثمان وستين، رضي الله تعالى عنه (رفعه) إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ( «إنّ الرّجل من أهل الجنّة ليعطى قوّة مائة) في رواية الطّبراني: مائة رجل- (في الأكل والشّرب والجماع والشّهوة» ) عطف سبب على مسبّب، لأنّ الجماع يتسبّب عن الشّهوة.
وخصّها!! لأنّ ما عداها راجع إليها، إذ الملبس والمسكن من الشّهوة، ولا يرد أنّ كثرة الأكل والشّرب في الدّنيا مجمع على ذمّها، لأنّه لما ينشأ عنها من فتور وتوان وتثاقل عن العبادة، ومن أمراض؛ كتخمة وقولنج، وأهل الجنّة مأمونون من ذلك كلّه، إذ كل ما فيها لا يشبه شيئا ممّا في الدّنيا إلّا في مجرّد الاسم، ألا ترى أنّه زاد في رواية الطّبرانيّ في «الكبير» برجال ثقات: «حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده، فإذا بطنه قد ضمر» !! انتهى «زرقاني» .
خاتمة: قال في «المواهب» : لمّا كان عليه الصّلاة والسلام ممّن أقدر على القوّة في الجماع، وأعطي الكثير منه؛ أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره، وهو الزيادة على أربع.
قال ابن عبّاس: تزوّجوا؛ فإنّ أفضل هذه الأمّة أكثرها نساء. رواه البخاريّ؛ يشير إليه صلّى الله عليه وسلم، وقيّد بهذه الأمّة!! ليخرج مثل سليمان عليه الصلاة والسلام، فإنّه كان أكثر نساء من المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني: والذي يظهر أن مراد ابن عبّاس بالخير: النّبي صلّى الله عليه وسلم، وبالأمّة أخصّاء أصحابه، وكأنّه أشار إلى أن ترك التزوّج(1/429)
مرجوح، إذ لو كان راجحا ما آثر النبيّ صلّى الله عليه وسلم غيره، وكان- مع كونه أخشى لله تعالى وأعلمهم به؛ كما صحّ في الحديث- يكثر التزوّج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطّلع عليها الرّجال؛ وقد جاء عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- من ذلك الكثير الطيّب، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة، بكونه كان لا يجد ما يتمتّع به من القوت غالبا، وإن وجد؛ فكان يؤثر بأكثره ويصوم كثيرا ويواصل، والصوم يضعف النكاح، بل هو له وجاء، ومع ذلك فكان يدور على نسائه في السّاعة الواحدة، ولا يطاق ذلك إلّا مع قوّة البدن!! وقوّة البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقوّيات من مأكول ومشروب، وهي عنده- عليه الصلاة والسلام- نادرة قليلة جدّا؛ أو معدومة أصلا.
وقال بعض العلماء في حكمة زيادته على أربع: لما كان الحرّ لفضله على العبد يستبيح من النّساء أكثر ممّا يستبيح العبد؛ وجب أن يكون النّبي صلّى الله عليه وسلم لفضله على جميع الأمّة يستبيح من النّساء أكثر ممّا تستبيحه الأمّة، ولزيادة فضله على جميع الخلق لم يتقيّد ما أبيح له بعدد، ولم يقصر ما يباح له على ضعف ما يباح للحرّ فقط.
قالوا: ومن فوائد ذلك زيادة التّكليف في القيام بهنّ مع تحمّل أعباء الرّسالة، فيكون ذلك أعظم لمشاقّه وأكثر لأجره.
ومنها: أنّ النّكاح في حقّه عبادة مطلقا.
ومنها: نقل محاسنه الباطنة، فقد تزوج عليه الصلاة والسلام أمّ حبيبة بنت أبي سفيان؛ وكان أبوها في ذلك الوقت عدوه ويحاربه، وتزوّج صفيّة بنت حيي؛ وقد قتل أباها وعمّها وزوجها في غزوة خيبر، فلو لم يطّلعن من بواطن أحواله على أنّه أكمل خلق الله تعالى؛ لكانت الطباع البشريّة تقتضي نفرتهنّ عنه، وميلهن إلى آبائهنّ وقرابتهنّ، فكان في كثرة النّساء عنده بيان لمعجزاته، ولمعرفة كماله باطنا، كما عرف منه الرّجال كماله ظاهرا، وهذه حكم ونكات لا تتزاحم، بل كلّ من ظهر له شيء منها أبداه. انتهى كلام «المواهب» مع شيء من الشّرح.(1/430)
[الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه]
الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه وفيه ستّة فصول (الباب الثّالث في) بيان ما ورد في (صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ من قميص وإزار وعمامة وغيرها.
(و) في صفة (فراشه) بكسر الفاء- ومنه خاتمه ونعله، (و) في صفة (سلاحه) ؛ من سيف أو رمح أو حربة وغيرها، (وفيه) أي: هذا الباب (ستّة فصول) يأتي بيانها.(1/431)
[الفصل الأوّل في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها]
الفصل الأوّل في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها (الفصل الأوّل) من الباب الثّالث (في) بيان ما ورد في (صفة لباسه صلّى الله عليه وسلم) .
في «الصحاح» وغيره: إنّ اللّباس بوزن كتاب: ما يلبس، وكذا الملبس بوزن المذهب، واللّبس بوزن حمل، واللّبوس بوزن صبور.
واللّباس تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون واجبا؛ كاللّباس الذي يستر العورة عن العيون. ومندوبا؛ كالثّوب الحسن للعيدين، والثّوب الأبيض للجمعة ومحرما؛ كالحرير للرجال. ومكروها؛ كلبس الخلق دائما للغنيّ. ومباحا؛ وهو ما عدا ذلك.
وقوله (من قميص) : هو اسم لما يلبس من المخيط الذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب ولا يكون من صوف؛ كذا في «القاموس» ، مأخوذ من التّقمّص، بمعنى: التّقلّب، لتقلّب الإنسان فيه، وقيل: سمي باسم الجلدة الّتي هي غلاف القلب، فإنّ اسمها القميص، (وإزار) : وهو ما يستر أسفل البدن، (ورداء) : وهو ما يستر أعلاه،
(وقلنسوة) - بفتح القاف واللّام وسكون النّون وضمّ المهملة وفتح الواو-:
غشاء مبطّن يستر الرأس، فهي من ملابس الرّأس، كالبرنس الذي تغطى به العمامة من نحو شمس ومطر.
قال ابن العربي: القلنسوة من لباس الأنبياء والصّالحين السّالكين، تصون الرّأس وتمكّن العمامة وهي من السّنة، وحكمها أن تكون لاطية لا مقبية، إلّا أن(1/432)
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في «الشّفا» :
يفتقر الرّجل إلى أن يحفظ رأسه عمّا يخرج منه من الأبخرة؛ فيقبّها ويثقب فيها، فيكون ذلك تطبّبا. انتهى (مناوي) .
(وعمامة) : كلّ ما يلفّ على الرّأس. والعمامة سّنة، لا سيّما للصّلاة وبقصد التجمّل، لأخبار كثيرة فيها؛ جمعها بعضهم في مؤلف سماه «الدّعامة» ، وتحصل السّنة بكونها على الرّأس؛ أو على قلنسوة، ففي الخبر: «فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» .
وأما لبس القلنسوة وحدها فهو زيّ المشركين، وما ورد مما يفيد: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يلبس القلنسوة وحدها!! فلعلّه حين يكون في البيت. (ونحوها) ، أي:
المذكورات كجبّة وبرد.
(قال) الفقيه الإمام (القاضي) أبو الفضل (عياض) - بكسر العين المهملة وفتح المثنّاة، وبعدها ألف وضاد معجمة- ابن موسى بن عياض اليحصبيّ السّبتيّ الغرناطيّ المالكيّ، صاحب التّصانيف الجليلة، المتبحّر في العلوم النّقليّة والعقليّة، المتوفّى سنة: - 544- أربع وأربعين وخمسمائة؛ في جمادى الآخرة بمرّاكش- وقد تقدمت ترجمته- (رحمه الله تعالى في) كتاب ( «الشّفا» ) الّذي كلّه حسنات، وقد شوهدت بركته حتى لا يقع ضرر لمكان كان فيه، ولا تغرق سفينة كان فيها، وإذا قرأه مريض أو قرىء عليه شفاه الله تعالى، وقد جرّبه بعضهم وكان ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله تعالى منه، وقال في ذلك:
ما بالكتاب هواي لكنّ الهوى ... أمسى بمن أمسى به مكتوبا
كالدّار يهوى العاشقون بذكرها ... شغفا بها لشمولها المحبوبا
أرجو الشّفاء تفاؤلا باسم الشّفا ... فحوى الشّفاء وأدرك المطلوبا
وبقدر حسن الظّنّ ينتفع الفتى ... لا سيّما ظنّ يصيح مجيبا
وقد ذكر القاضي عياض الكلام الآتي في «الشفاء» أثناء الضّرب الثّالث مما(1/433)
(انظر سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم وخلقه في المال.. تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وأحلّت له الغنائم؛ ولم تحلّ تدعو إليه ضرورة الحياة قائلا: (انظر سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: طريقته وهديه (وخلقه) - بضمّتين أو ضمّ فسكون- أي: سجيّته الشريفة، (في المال) ؛ أي:
في حقّ أخذه وعطائه، وامتناعه عن التلبّس بوجوده وبقائه، (تجده) - بالجزم؛ أي: تعلمه- (قد أوتي خزائن الأرض) ؛ أي: عرضت عليه (ومفاتيح البلاد) ؛ أي: أعطيت له، كما ورد في الحديث الصحيح في «مسلم» : «بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض؛ فوضعت في يدي» .
وفي كتاب «الوفا» ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه مسندا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أتيت بمقاليد الدّنيا على فرس أبلق، عليه قطيفة من سندس» وإليه أشار الصّرصريّ رحمه الله تعالى بقوله:
بعثت مقاليد الكنوز جميعها ... تهدى إليه على سراة حصان
جعلت عليه قطيفة من سندس ... فله استقام الزّهد عن إمكان
ومثله ثابت من طرق عديدة، وهذا يدل على أنّ الله تعالى أعطاه ذلك حقيقة.
وخزائن الأرض: دفائنها ومعادنها، بأن يطلعه الله تعالى عليها، ويجعل الملائكة الموكّلين بها طوع يده. فإنّ السّلطان خزينته بيد خازنها حاضر مطيع لديه، فهذا معنى كونها في يده عرفا.
وأمّا المفاتيح!! فإن كانت بمعنى الخزائن؛ فكذلك، وإن كانت جمع مفتاح بمعنى آلة الفتح!! فإعطاؤها إرسالها؛ كما هو ظاهر الحديث السّابق.
وقيل: إنّه كناية عن فتح البلاد عليه وعلى أمّته بعده، وجباية أموالها إليهم، واستخراج كنوزها لديهم، وتلويح بالتوصّل إليها كما يتوصّل بالمفاتيح إلى ما أغلق عليه من أبوابها. انتهى شرح «الشّفا» للخفاجيّ والقاري.
(وأحلّت له الغنائم) ؛ لزيادة الفضيلة، (ولم تحلّ) بصيغة المجهول(1/434)
لنبيّ قبله، وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلّم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب ...
المناسب ل «أحلت» ، أو بفتح أوّله وكسر ثانيه؛ أي: والحال أنّها لم تبح (لنبيّ قبله) ، إذ جاء في الآثار أنّهم كانوا يجمعون الغنائم فتأتي نار من السّماء فتأكلها، وفي حديث مسلم: «لم تحلّ الغنائم لأحد من قبلنا، وذلك لأنّ الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا» .
والغنيمة: ما يؤخذ من الكفّار، وكذا الفيء. وفرّق الفقهاء بينهما؛ بأنّ الفيء: ما يحصل بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، والغنيمة: ما حصل بقتال. وقد يستعمل كلّ منهما لما يعمّ الآخر كما فيما نحن فيه (وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلم بلاد الحجاز) ، وهي مكة، والمدينة، والطائف، واليمامة، وخيبر وقراها، وطرقها الممتدّة بينها. وقيل: غير ذلك، وقيل: المدينة نصفها حجازيّ ونصفها تهاميّ، والحجاز بمعنى الحاجز.
وسمّيت هذه البلاد بالحجاز!! لأنّها تحجز بين نجد وتهامة، أو بين اليمن والشّام. وقيل غير ذلك.
(واليمن) - بالرفع والجر- وسمّي به!! لكونه عن يمين الكعبة لمن وقف بالباب ووجهه لخارج، وهو المعتبر لكونه بمنزلة المنبر.
(وجميع جزيرة) - فعيلة- من جزر الماء؛ وهو انكشافه ورجوعه، ضدّ المدّ. وجزيرة (العرب) : ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق طولا، ومن جدّة وما والاها ومن ساحل البحر إلى أطراف الشّام عرضا؛ عند الأصمعي. وقال أبو عبيدة من حفر أبي موسى الأشعريّ إلى أقصى اليمن طولا، ومن رمل قبرس إلى منقطع السّماوة عرضا.
وسميت جزيرة!! لأنّ بحر فارس وبحر الحبشة ودجلة والفرات أحاطت بها، وقال مالك: جزيرة العرب الحجاز واليمن واليمامة، وما لم يبلغه ملك فارس والروم.
وقيل: جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن، ولعل هذا معنى قول مالك.(1/435)
وما دانى ذلك من الشّام والعراق، وجلب إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلّا بعضه، وهادنه ...
(وما دانى ذلك) ؛ أي: ما قارب بلاد الحجاز وجزيرة العرب (من الشّام) بالهمز السّاكن وإبداله ألفا، ويقال بفتح الشّين والمدّ؛ على وزن فعال، وهو يذكّر ويؤنّث.
والمشهور أنّ حد الشّام من العريش إلى الفرات طولا، وقيل: إلى نابلس.
وعرضا من جبل طيّ من نحو القبلة إلى بحر الرّوم وما سامت ذلك من البلاد، وقد دخله النّبي صلّى الله عليه وسلم، إلّا أنّه لم يدخل دمشق، بل بلغ إلى بصرى (مدينة حوران) .
قال ابن عساكر في «تاريخه» : دخل الشّام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(والعراق) ؛ أي: عراق العرب، وهو إقليم معروف، وفيه مدن عظيمة وقرى، وطوله من تكريت إلى عبّادان وهي قرية، ولذا قيل في المثل «ما وراء عبّادان قرية» ؛ وعرضه من القادسيّة إلى حلوان، ودجلة حدّه: جانبها الأيمن للعراق؛ واليسار لفارس.
ويدخل في حدود العراق البصرة والكوفة.
أمّا عراق العجم! فهو إقليم خراسان.
ولفظ «العراق» عربي، وقيل: فارسي معرب، وقيل: سمّي عراقا لكثرة عروق أشجاره، (وجلب) ، أي: جيء، وفي بعض نسخ «الشّفاء» : وجبيت (إليه من أخماسها) في الغنيمة، (وجزيتها) من أهل الذّمّة، (وصدقاتها) من أغنياء الأمّة (ما لا يجبى) ، أي: ما لا يؤتى به (للملوك إلّا بعضه) ، أي: لكثرته مع زيادة بركته، روي: أن أعظم مال أتي به إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم من مال الجزية ما قدم عليه من البحرين، وقدره مائة ألف درهم وثمانون ألف درهم.
(وهادنه) ، أي: صالحه، - وفي نسخة صحيحة من «الشفاء» : وهادته(1/436)
جماعة من ملوك الأقاليم ...
- بالتاء الفوقيّة- بمعنى: أهدت إليه صلّى الله عليه وسلم- (جماعة من ملوك الأقاليم) هدايا فقبلها منهم، والأقاليم جمع إقليم كقنديل، وذلك لأن المتقدمين قسموا الأرض سبعة أقسام، سمّوا كل قسم منها إقليما، كما يعلم من فن مساحة الأرض المسمّى جغرافيا، وحد كل إقليم وما فيه من البلدان مفصّل في كتب الهيئة والمساحة.
وقيل: أراد بالأقاليم النّواحي والبلدان، وإن كانت من إقليم واحد أو إقليمين من السّبعة بطريق المجاز، وهو بهذا المعنى مستعمل أيضا، كما يقال: أقاليم مصر فسمّوا كلّ ناحية إقليما.
والهديّة: ما يبعث بلا عوض إلى المهدى إليه إكراما.
وممن هاداه- صلّى الله عليه وسلم- المقوقس ملك القبط، أهدى له جاريتين وكسوة وبغلة بيضاء وهي دلدل.
وهاداه فروة بن عمرو الجذاميّ «عامل قيصر» ، بعد ما تبرع بالإسلام، وأهدى له بغلة بيضاء تسمّى فضة، وفرسا وأثوابا وقباء من سندس، ولما بلغ ذلك قيصر حبسه مدّة طويلة، ثم أرسل يقول له: ارجع لدينك أطلقك وأعيد لك ملكك.
فأبى؛ وقال: لا أفارق دينه، وإنّك لتعلم أنّه حقّ، ولكن ضننت بملكك، فقال:
صدق والإنجيل.
ومنهم أكيدر دومة؛ كما في «البخاري» .
وأما هدايا غير الملوك التي كانت تصل مع الوفود! فكثيرة لا تحصى كما يعلم من السّير، وأهدى له الرّهبان أيضا كراهب نجران.
ولا منافاة بين قبوله هديّة من لم يسلم منهم كالمقوقس، وردّه بعض هدايا المشركين؛ وقوله: «إنا لا نقبل زيد المشركين» - أي عطيّتهم!! لأنه كان يقبل الهديّة ممّن يرجو إسلامه استئلافا له؛ لما فيه من المصلحة للمسلمين، ويردّ هديّة غيره.(1/437)
فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلّا دينارا أرصده لدين» .
ثمّ إنّ قبول النّبي صلّى الله عليه وسلم الهديّة من خصائصه، لانتفاء التّهمة في حقّه صلّى الله عليه وسلم، ولا يجوز لغيره من الحكّام.
(فما استأثر) ؛ أي: ما انفرد وما استبدّ وما اختصّ (بشيء منه) دون أصحابه، لرؤيته أنّه أحقّ به كما يفعله الملوك فيما يليق بها.
(ولا أمسك منه درهما) ؛ أي: لم يبق لنفسه منه شيئا، ولم يجعله عنده أو في يده. (بل صرفه في مصارفه) ؛ أي: أنفقه في مواضعه من أنواع الخير وأصناف البرّ (وأغنى به غيره) من الجند والمؤلّفة قلوبهم، لغناه بربّه واستغنائه بقلبه، (وقوّى به المسلمين) بصرفه في مهمّاتهم وقضاء حاجاتهم، وفيما ينصرهم على أعدائهم، ودفع بلائهم، وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر.
(وقال) ؛ أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري، ومسلم، مسندا؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-: ( «ما يسرّني) - أي: لم يجعلني في سرور وفرح- (أنّ لي أحدا ذهبا) ، أي: مثل أحد أو نفس أحد يكون ملكا لي وهو ذهب حقيقة. وقوله «ذهبا» ! تمييز، أي: من ذهب، و «أحد» :
بضمّتين وقد تسكّن حاؤه-: اسم جبل معروف قريب من المدينة المنوّرة. سمّي به!! لتوحّده وانقطاعه عمّا هناك من الجبال، وقال صلّى الله عليه وسلم فيه: «أحد جبل يحبّنا ونحبّه» .
(يبيت عندي منه) ؛ أي: من مقدار أحد ذهبا، (دينار إلّا دينارا) - بالنّصب على الاستثناء، وبالرّفع على البدل: روايتان- (أرصده) - بفتح الهمزة وضمّ الصّاد، من الرصد، ويجوز ضمّ الهمزة وكسر الصّاد المهملة؛ من الإرصاد- أي:
أحفظه منتظرا (ل) قضاء (ديني) - بفتح الدّال المهملة وسكون المثنّاة التحيّة(1/438)
وأتته دنانير مرّة، فقسمها، وبقيت منها بقيّة، فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها، وقال: «الآن استرحت» .
ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله، ...
والنّون، وإرصاده للدّين!! إمّا لأنّ صاحبه غائب، أو لأنّه لم يحلّ أجله. وفيه دليل على جواز الاستقراض، وأنّه لا ينبغي أن يكون المرء مستغرقا في الدين حتى لا يجد له وفاء.
(وأتته دنانير مرّة) وهي كثيرة (فقسمها) ، أي: على من استحقّها، (وبقيت منها بقيّة) ؛ أي: قليلة يسيرة، - وفي نسخة من «الشّفا» : «ستّة» - (فدفعها لبعض نسائه) نظرا إلى حدوث حاجة لهنّ إليها- وفي رواية: «فرفعها بعض نسائه» بالراء- وهو إمّا بأمره، وإما على عادة النّساء في حفظ المال لأمر المعاش وغيره.
(فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها) ؛ اتكالا على كرم ربّه عند الاحتياج إليها، (وقال: «الآن استرحت» ) أي: حصل الرّاحة لقلبي المعتمد على رزق ربّي.
وفيه دلالة واضحة على ما كان عليه من التقلّل من الدّنيا، وملازمة الفاقة في أيّام حياته إلى أوان مماته، كما يدل عليه ما بعده، وإنّما لم يأخذه النّوم حتى قسمها!! لخوفه أن يفجأه الأجل قبل تفريقها، فانظر هذا مع أنه غفر له صلّى الله عليه وسلم ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر بعد ما عصمه الله تعالى، انظره مع أشقياء هذا الزّمان، وصرفهم بيت المال في هوى أنفسهم، قاتلهم الله أنّى يؤفكون. انتهى «شرح الشهاب الخفاجي» .
(ومات ودرعه) - مؤنّثة- وهي الزردته (مرهونة) ، أي: عند يهوديّ وهو أبو الشّحم. قال ابن الجوزي: إنّ الّتي رهنها صلّى الله عليه وسلم هي «ذات الفضول» (في نفقة عياله) ، جمع عيل، وهو: من تلزمه نفقته، وكانت مرهونة إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير على ما في «البخاريّ» و «الترمذي» و «النّسائي» ، وفي «البزّار» : أربعين. وفي «مصنف عبد الرزاق» : وسق شعير وهو ستّون صاعا.
ويمكن الجمع بتعدّد الواقعة.(1/439)
واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعوه إليه ضرورته، وزهد فيما سواه.
فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة، ...
ومنه علم جواز معاملة الكفّار؛ مع أن كسبهم لا يخلو من خبث، وجواز الرّهن على الثمن المؤجّل، وقيل: إنّه افتكها قبل وفاته، لكن الأصحّ خلافه، لصريح حديث ابن عباس: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ.
ولا ينافي ذلك خبر: «نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه» !! لأنه محمول على غير الأنبياء.
وكان له صلّى الله عليه وسلم عدّة أدراع: «ذات الفضول» . سميت بها! لطولها، أهداها له سعد بن عبادة رضي الله عنه لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبدر، وذات الحواشي، ودرعان أصابهما من بني قينقاع «السّعديّة» و «فضّة» ، ويقال: إنّ السّعدية كانت درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت، و «البتر» ، و «الحريق» . فهذه سبع.
(واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه) - بفتح الكاف وكسرها- أي: من أجلها أو في حقّها (على ما تدعوه إليه ضرورته) ، أي: على مقدار قليل لا بدّ له منه، ممّا تقتضيه الحاجة الضّرورية إليه.
(وزهد) - بكسر الهاء بصيغة الماضي، معطوف على «اقتصر» أي: لم يرغب (فيما سواه) ، أي: ما سوى مقدار الضّرورة.
(فكان يلبس) - بفتح الياء المثنّاة وفتح الباء الموحّدة- (ما وجده) حاضرا عنده بلا تكلّف، (فيلبس في الغالب الشّملة) - بفتح المعجمة وسكون الميم- وما يشتمل به من الأكسية الّتي يلتحف بها كما في «الفتح» . وقيل: يختصّ بما له هدب. وقال ابن دريد: كساء يؤتزر به وهي البردة، وتسمية العوامّ ما يلفّ على الرّأس «شملة» اصطلاح حادث.(1/440)
والكساء الخشن، والبرد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الدّيباج المخوّصة بالذّهب، ويرفع لمن لم يحضر؛ إذ المباهاة في الملابس ...
(والكساء) : قريب من البرد؛ (الخشن) - بفتح فكسر- أي: الغليظ، ضدّ الدّقيق الليّن. (والبرد) - بضمّ أوّله وسكون الرّاء- أي: اليمانيّ؛ وهو الثّوب الّذي فيه خطوط. (الغليظ) ، أي: الخشن، واختار هذا كله زهدا وقناعة وتنزّها عمّا يلبسه من لا خلاق له تفاخرا، وليس ذلك من عجزه صلّى الله عليه وسلم عن فاخر الألبسة، بل لعدم ميله إليها كما قال.
(ويقسم) - بالتّخفيف، ويجوز تشديده بقصد التكثير- (على من حضره) ؛ أي: حضر عنده (أقبية) ، جمع قباء: وهو المخيط من اللباس. (الدّيباج) بكسر الدّال وقد تفتح- وهو نوع من الحرير معروف. (المخوّصة) - بضمّ الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة يليها صاد مهملة وهاء-: المزيّنة (بالذّهب) ؛ أي: المنسوجة بأعلام من ذهب كالخوص.
(ويرفع) ؛ أي: يدّخر منها (لمن لم يحضر) القسمة إلى أن يحضر فيعيطها له، إشارة لقصّة مخرمة الّتي رواها البخاري ومسلم؛ عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي أبي: بلغني أنّه صلّى الله عليه وسلم جاءته أقبية، فاذهب بنا إليه.
فذهبنا؛ فوجدناه في منزله، فقال: ادعه لي، فأعظمت ذلك. فقال: يا بنيّ؛ إنّه ليس بجبّار. فدعوته صلّى الله عليه وسلم فخرج ومعه قباء من ديباج مزرّر بالذّهب، فقال:
«يا مخرمة، خبّأت لك هذا» ، وجعل صلّى الله عليه وسلم يريه محاسنه، ثمّ أعطاه له، فنظر إليه فقال: «رضي مخرمة» فأعطاه إيّاه. زاد البخاري: وكان في خلق مخرمة شدّة محبّة.
وجزم الدّاوودي أنّ قوله «رضي مخرمة» من كلام النّبي صلّى الله عليه وسلم، ورجّح الحافظ أنّه من كلام مخرمة. (إذ المباهاة) تعليل لاقتصاره على ما تدعو ضرورته إليه؛ أي: لأنّ إظهار الفخر (في الملابس) ؛ جمع ملبس- بفتح الميم والباء- وهو(1/441)
والتّزيّن بها.. ليست من خصال الشّرف والجلالة، وهي من سمات النّساء. والمحمود منها نقاوة الثّوب، ...
واللّباس بمعنى، وأصل المباهاة المفاخرة، فنزّل إظهارها والعجب بها (والتّزيّن بها) ؛ أي: إظهار الزينة في الملابس منزلة ذلك.
(ليست من خصال الشّرف) ؛ أي: شمائل أصحاب الشّرافة (و) أصحاب (الجلالة) ، أي: العظمة المعنويّة، أي: إنّ المغالاة في ذلك وإظهاره ليس مما يعدّ شرفا، ولا ممّا يقصده الأشراف.
قال الخفاجي: قال الفقهاء: لبس الثّوب الجميل للتّزيّن مباح في الجمع والأعياد ومجامع النّاس، وما يستر العورة ويدفع الحرّ والبرد واجب، وما فيه جمال لصاحبه مسنون، بشرط أن لا ينوي به العظمة والزّينة، بل إظهار نعمة الله وتعظيم من يجتمع لملاقاته، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يفعله، وقلت في ذلك:
نصيحة لطيفة ... قالت بها الأكياس
كل ما اشتهيت والبس ... ما تشتهيه النّاس
وقد تقدّم في الفصل الخامس في صفة طيبه، الكلام على التجمّل واللّباس بأبسط ممّا هنا، فاعتمد ما هناك.
(وهي) ، أي: المباهاة (من سمات) - بكسر السّين- أي: من خصال (النّساء) ومن في حكمهنّ كالأطفال، وأكثر من يتباهى بذلك محدث النعمة ومن لا قدر له.
(والمحمود) ؛ أي: الممدوح (منها) عند الله وعند النّاس (نقاوة) - بفتح النون وضمّها- أي: نظافة (الثّوب) ؛ أي: كونه نقيّا من الوسخ والنّجاسة.
قال الخفاجي: وفي «البستان» : يستحبّ للرّجل الذي له مروءة وعلم أن تكون ثيابه نقيّة من غير كبر، ورأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رجلا وسخت ثيابه، فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقّي ثيابه» . وقال أيضا: «ما على الرّجل حرج أن يتّخذ ثوبين سوى(1/442)
والتّوسّط في جنسه، وكونه لبس مثله.. غير مسقط لمروءة جنسه.
وفي «المواهب» : إنّ الجمال في الصّورة واللّباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ:
فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له؛ كما كان صلّى الله عليه وسلّم يتجمّل للوفود، ...
ثوبي مهنته» . وفي المثل: «المروءة الظّاهرة في الثّياب الطّاهرة» . انتهى كلام الخفاجي.
(والتّوسّط في جنسه) ، أي: المحمود في اللّباس استعمال الوسط منه، فلا يكون نفيسا جدّا ولا خسيسا، لورود الذّمّ عن لبس الشّهرتين. قال النووي: كانوا يكرهون الشّهرتين: الثّياب الجياد والثّياب الرّذلة، إذ الأبصار تمتدّ إليهما جميعا، وبهذا ورد الحديث. انتهى؛ نقله الزرقاني على «المواهب» .
(وكونه لبس) - بضم فسكون- (مثله) ، أي: ممّا تلبسه أمثاله حال كونه (غير مسقط لمروءة جنسه) ، أي: لا يعدّ مسقطا لمروءة أمثاله، فينبغي أن يوافق أمثاله في لباسهم ولا يخالفهم؛ فيوقع النّاس في الفتنة.
(و) قال القسطلّاني (في «المواهب) اللدنيّة» : (إنّ الجمال في الصّورة) لتحسينها بإزالة الشّعث، (و) في (اللّباس) بكونه ليس جنس لابسه. (والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ) فهو جائز.
(فالمحمود منه: ما كان لله وأعان على طاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره والاستجابة) ؛ أي: الإجابة (له، كما كان صلّى الله عليه وسلم يتجمّل للوفود) لملاقاتهم، استعانة على تنفيذ أوامر الله تعالى، لما جرت به عادة البشر من انقيادهم لصاحب الهيئة وقبول كلامه.(1/443)
وهذا نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب، والخيلاء فيه؛ فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى، ونصر دينه، وغيظ عدوّه.
والمذموم منه: ما كان للدّنيا، والرّئاسة، والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه.
وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن الوصفين، وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يضيّق بالاقتصار بالاقتصار على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس الغالي، بل يستعمل ما تيسّر.
(وهذا نظير لباس آلة الحرب للقتال) لإعلاء كلمة الله تعالى، وتخويف أعدائه، (ولباس الحرير في الحرب) على قول من أجازه، (والخيلاء) : التبختر (فيه) وإظهار العجب، (فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى) :
الشّهادة له بالوحدانيّة ولنبيّه بالرّسالة، (ونصر دينه وغيظ عدوّه.
والمذموم منه) ؛ وهو النّوع الثّاني: (ما كان للدّنيا والرّئاسة والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه) ، فإنّ كثيرا من النّاس ليس له همّة في سوى ذلك، بئست الهمّة. كما قال الشّاعر يهجو:
إنّي رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثّياب وتشبعوا
(وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ) ؛ وهو النّوع الثّالث (فهو: ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن) هذين (الوصفين) لا يحمد ولا يذمّ فهو جائز، (وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) يتجوّز من اللباس؛ أي: يتوسّع و (لا يضيّق بالاقتصار على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس) أي: (الغالي) - بالغين المعجمة- (بل يستعمل ما تيسّر) بلا كلفة.(1/444)
ثمّ قال: روى أبو نعيم في «الحلية» ...
ولذا أورد البخاري في الباب حديث عمر في جلوس النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في المشربة، لمّا حلف «لا يدخل على نسائه شهرا» ، وفيه: فدخلت فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على حصير قد أثّر في جنبه، وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها ليف، وإذا أهب معلقة وقرظ.
وحديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: استيقظ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: «لا إله إلّا الله؛ ماذا أنزل اللّيلة من الفتن؟! ماذ أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجر؟! كم من كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» . ففيه التحذير من لبس رقيق الثّياب الواصفة للجسد، وهو وجه إدخاله في هذه التّرجمة.
وروى أبو نعيم، وابن عدي؛ عن عبادة بن الصّامت- رضي الله تعالى عنه- قال: صلّى بنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- في شملة أراد أن يتوشّح بها فضاقت، فعقدها في عنقه هكذا- وأشار سفيان إلى قفاه- ليس له غيرها.
(ثم قال) في «المواهب اللدنيّة» بعد نقل كلام «الشّفاء» السابق:
وقد (روى أبو نعيم) الحافظ المؤرّخ أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، ولد سنة: - 336- ستّ وثلاثين وثلثمائة هجرية، وكان من الثّقات المعروفين بالحفظ والإتقان.
ومن مؤلّفاته «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» ، و «معرفة الصّحابة» و «طبقات المحدّثين والرواة» و «دلائل النّبوّة» و «ذكر أخبار أصبهان» .
وكانت وفاته سنة: - 430- ثلاثين وأربعمائة؛
(في) كتاب ( «الحلية» ) الذي قيل فيه: إنّه لم يصنّف مثله، ولما صنّفه حمل الكتاب في حياة مؤلّفه إلى نيسابور فاشتروه بأربعمائة دينار.
وهو كتاب حسن معتبر يتضمن أسامي جماعة من الصّحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الأئمّة الأعلام المحقّقين والمتصوّفة والنّسّاك، وبعض أحاديثهم وكلامهم، رحمه الله تعالى.(1/445)
عن ابن عمر مرفوعا: «إنّ من كرامة المؤمن على الله عزّ وجلّ..
نقاء ثوبه، ورضاه باليسير» .
وله من حديث جابر: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقّي به ثيابه؟» .
قال: وكانت سيرته صلّى الله عليه وسلّم في ملبسه أتمّ وأنفع للبدن وأخفّ عليه؛ فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات، ...
(عن ابن عمر) بن الخطاب (مرفوعا) قال: ( «إنّ من كرامة المؤمن على الله عزّ وجلّ) - أي: نفاسته وعزّته، أي: من حسن حاله الّذي يثيبه عليه، ويصير به مقرّبا عنده- (نقاء ثوبه) - أي: نظافته ونزاهته عن الأدناس- (ورضاه) - بالقصر- (باليسير) ؛ من ملبس ومأكل ومشرب أو من الدّنيا، قيل: دخل زائر على أبي الحسن العروضيّ؛ فوجده عريانا!! فقال: نحن إذا غسلنا ثيابنا نكون كما قال القاضي أبو الطيّب:
قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت وزرّروا الأبوابا
(وله) أيضا؛ (من حديث جابر) - رضي الله تعالى عنه- (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا وسخة ثيابه؛ فقال: «أما وجد) - وفي نسخة: «أما رأى» - (هذا شيئا ينقّي به ثيابه» .) استفهام توبيخي على وسخ ثوبه، ولم يخاطبه لئلّا ينكسر خاطره، وإشارة إلى أنّ الحكم لا يختصّ به.
(قال) في «المواهب» أيضا: (و) قد (كانت سيرته صلّى الله عليه وسلم في ملبسه أتمّ) :
اسم تفضيل، وكذا قوله (وأنفع للبدن، وأخفّ عليه) ، والمفضّل عليه محذوف؛ أي: ممّا جرت العادة بلبسه.
(فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها) حاملها (ويضعفه، ويجعله عرضة للآفات) كصداع ومرض عين وزكام؛ كما يشاهد من حال أصحابها.(1/446)
ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية الرّأس من الحرّ والبرد، وكذلك الأردية والأزر أخفّ على البدن من غيرها، ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم يطوّل أكمامه ويوسّعها) انتهى.
(ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية) - بكسر الواو، وفتحها لغة-: حفظ (الرّأس من الحرّ والبرد) ، بل كانت وسطا بين ذلك، (وكذلك الأردية) : جمع رداء، (والأزر) : جمع إزار، (أخفّ على البدن من غيرها) كالجوخ والفراء، (ولم يكن صلّى الله عليه وسلم يطوّل أكمامه ويوسّعها) ، بل كان كمّ قميصه إلى الرّسغ كما سيأتي.
قال ابن القيّم: وأمّا هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، وعمائم كالأبراج!! فلم يلبسها عليه الصّلاة والسّلام هو ولا أحد من أصحابه، وهي مخالفة لسنّته؛ وفي جوازها، فإنّها من جنس الخيلاء. انتهى.
قال صاحب «المدخل» : ولا يخفى على ذي بصيرة أن كمّ بعض من ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهيّ عنه، لأنّه قد يفصّل من ذلك الكم ثوب لغيره. انتهى. وهو حسن.
لكن حدث للنّاس اصطلاح بتطويلها، وصار لكلّ نوع من النّاس شعار يعرفون به، فيجوز لمن صارت شعاره، بل قد يطلب، لأن مخالفته تخلّ بمروءة صاحبه، وما كان من ذلك على سبيل الخيلاء؛ فلا شكّ في تحريمه؛ ولو كان شعارا، وما كان على طريق العادة! فلا تحريم فيه، بل يجوز ما لم يصل إلى جرّ الذّيل الممنوع منه.
ونقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على العادة للنّاس وزاد على المعتاد في اللّباس لمثل لابسه في الطّول والسّعة، فينبغي تجنّب ذلك. (انتهى) ؛ أي: كلام «المواهب» مع شيء من شرح الزّرقاني رحمهم الله تعالى.
(و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، كلهم؛ عن أمّ سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت:(1/447)
وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسه..
القميص. و (القميص) : اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب، ولا يكون من صوف. كذا في «القاموس» .
(كان أحبّ الثّياب) جمع ثوب، وهو: اسم لما يستر به الشّخص نفسه؛ مخيطا كان أو غيرها- (إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبسه) ؛ جملة حالية عن «أحب الثياب» وتذكير الضمير!! باعتبار الثوب، (القميص) وفيه إشعار بما لأجله كان أحبّ إليه، إنّه كان يحبّه للبسه؛ لا لنحو إهدائه، فهو أحبّ إليه لبسا، وقوله «أحبّ» اسم «كان» ؛ فيكون مرفوعا، والقميص خبرها؛ فيكون منصوبا، وهو المشهور في الرّواية، وقيل عكسه، أي: بنصب «أحبّ» على أنّه الخبر، ورفع «القميص» على أنّه اسم «كان» ، قال الزرقاني: ورجّح بأنّه وصف، فهو أولى بكونه حكما.
ولا يرد عليه أن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين منع تقديم الخبر!! لأنّ محله حيث لا ناسخ؛ كما في قوله (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [15/ الأنبياء] ، (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [147/ آل عمران] . انتهى.
ومعنى كون القميص أحبّ- كما قال المناوي وغيره-: أنّه كان يميل إلى لبسه أكثر من غيره، لأنّه أستر للبدن من الإزار والرّداء، لاحتياجهما إلى حلّ وعقد، بخلاف الثّوب، ولخفّة مؤنته وخفّته على البدن، ولابسه أقلّ كبرا من لابس غيره.
فالقميص أحبّها إليه لبسا، والحبرة أحبّها إليه رداء، فلا يعارض حديث أنس الآتي: كان أحبّ الثياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبسه الحبرة. أو أن القميص أحبّ المخيط، والحبرة أحبّ غيره، انتهى.
(والقميص) - جمعه قمصان وقمص بضمّتين- وهو: (اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب) غير مفرّج؛ (يلبس تحت الثياب، ولا يكون) إلّا من قطن، أمّا (من صوف!) فلا؛ (كذا في «القاموس» ) ، مأخوذ من التقمّص(1/448)
ولم يكن له صلّى الله عليه وسلّم سوى قميص واحد؛ فقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين، ولا قميصين ولا رداءين ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال.
وكان كمّ قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ.
بمعنى التقلّب؛ لتقلّب الإنسان فيه. وقيل: سمّي باسم الجلدة الّتي هي غلاف القلب، فإن اسمها القميص، وهو مذكّر، وقد يؤنّث، والظّاهر أنّ المراد في الحديث القطن والكتّان؛ دون الصوف، لأنّه يؤذي البدن ويدرّ العرق، ويتأذّى بريح عرقه المصاحب.
(و) قال الباجوري كالمناوي: (لم يكن له صلّى الله عليه وسلم سوى قميص واحد؛ فقد ورد) في «الوفا» بسنده؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم غداء لعشاء؛ ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين؛ ولا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال) . انتهى كلامهما.
قال المصنف في «جواهر البحار» بعد ذكره ذلك: وقد صرح بعض الأئمّة بضعف هذا الحديث. (و) أخرج أبو داود، والتّرمذي في «الجامع» - وقال:
حسن غريب، وفي «الشّمائل» واللّفظ لها- ورواه أيضا البيهقي في «الشّعب» ؛ كلهم عن أسماء بنت يزيد الأنصارية- رضي الله تعالى عنها- قالت:
(كان كمّ) - بالضم وتشديد الميم- (قميص) - وفي رواية: «كان كمّ يد» - (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - قال الزّين العراقي: رواية التّرمذي في «الشمائل» مقيّدة بالقميص، وروايته في «الجامع» مطلقة، فيحتمل حملها عليه، ويحتمل العموم- (إلى الرّسغ) - بضم الرّاء وسكون السّين أو الصّاد لغتين، ثم غين معجمة بزنة قفل. قال الزّرقاني: وبالضّاد رواه الترمذي، وأبو داود، وبالسّين غيرهما-.(1/449)
و (الرّسغ) : مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمّه مع الأصابع.
وحكمة كونه إلى الرّسغ: أنّه إن جاوز اليد منع لابسه سرعة الحركة والبطش، وإن قصر عن الرّسغ! تأذّى السّاعد ببروزه للحرّ والبرد، فكان جعله إلى الرّسغ وسطا، وخير الأمور أوساطها، فينبغي لنا التأسّي به.
ولا يعارض هذه الرّواية رواية «أسفل من الرسغ» ! لاحتمال تعدّد القميص، أو المراد: التقريب، أو الاختلاف بحسب أحوال الكمّ، فحال جدّته وعقب غسله يكون أطول لعدم تثنّيه وتجعّده، وإذا بعد عن ذلك تثنّى وقصر.
ولا يعارضه أيضا ما رواه الحاكم وصحّحه، وأبو الشّيخ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبس قميصا وكان فوق الكعبين، وكان كمّه إلى الأصابع.! لأنّ الرّسغ مخصوص بقميص السّفر، أما في الحضر فكان يلبس قميصا من قطن فوق الكعبين؛ وكمّاه مع الأصابع، كما جمع بينهما بذلك بعضهم؛ نقله الجلال السيوطي قائلا:
ويؤيده ما أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي؛ عن علي: أنه كان يلبس القميص ثم يمدّ الكمّ حتّى إذا بلغ الأصابع قطع ما فضل؛ ويقول: «لا فضل للكمّين على الأصابع» . انتهى. ويجري ذلك في أكمامنا.
قال الحافظ زين الدّين العراقي: ولو أطال أكمام قميصه حتّى خرجت عن المعتاد؛ كما يفعله كثير من المتكبّرين!! فلا شكّ في حرمة ما مسّ الأرض منها بقصد الخيلاء، وقد حدث للناس بتطويلها، فإن كان من غير قصد الخيلاء بوجه من الوجوه! فالظاهر عدم التحريم. انتهى.
(والرّاسغ) - بالسّين والصّاد لغتان صحيحتان-: (مفصل) - بزنة مسجد- (ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان) ، وهو مختصّ في الآدميّ باليد؛ دون الرّجل.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كمّه مع الأصابع) ؛(1/450)
وكان قميصه صلّى الله عليه وسلّم فوق الكعبين، وكان كمّه مع الأصابع. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس قميصا.. بدأ بميامنه.
وعن قرّة ...
ورمز له برمز الحاكم، وهذا قطعة من الحديث الآتي بعده.
(و) أخرج الحاكم؛ عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:
(كان قميصه صلّى الله عليه وسلم فوق الكعبين) ؛ أي: إلى أنصاف ساقيه؛ كما في رواية:
(وكان كمّه مع الأصابع) ؛ أي: مساويا لا يزيد ولا ينقص عنها، وقد علمت أنّ هذا محمول على حالة الحضر، فلا يعارض ما تقدّم أنّ كمّه إلى الرسغ.
وقد أخرج البيهقي في «الشّعب» ؛ من طريق مسلم الأعور؛ عن أنس:
أنّه صلّى الله عليه وسلم كان له فميص من قطن قصير الطّول قصير الكمّ.
وأخرج أيضا؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان يلبس قميصا قصير الكمّين والطّول. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج التّرمذي في «جامعه» بسند- قال العراقي: رجاله رجال الصّحيح- وأخرجه النّسائي أيضا كلاهما؛ عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا لبس قميصا بدأ بميامنه) ؛ جمع ميمنة: كمرحمة ومراحم، والمراد بها هنا: جهة اليمين.
فيندب التيامن في اللّبس كما يندب التياسر في النّزع، لخبر أبي داود؛ عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما-: كان إذا لبس شيئا من الثّياب بدأ بالأيمن، فإذا نزع بدأ بالأيسر. وله من حديث أنس: كان إذا ارتدى أو ترجّل بدأ بيمينه، وإذا خلع بدأ بيساره. قال الزّين العراقي: وسندهما ضعيف.
(و) أخرج أبو داود، وابن ماجه، والتّرمذي في «الجامع» وصحّحه؛ وفي «الشّمائل» ، وابن حبّان وصحّحه أيضا؛ (عن قرّة) - بضم القاف وفتح الراء(1/451)
ابن إياس رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رهط من مزينة لنبايعه، وإنّ زرّ قميصه مطلق، قال:
فأدخلت يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم.
المشددة- (ابن إياس) - بالكسر- ابن هلال المزني.
صحابيّ نزل البصرة، ومات سنة: أربع وستين هجرية، خرّج له الأربعة (رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رهط) ، أي: مع رهط، فتكون «في» بمعنى «مع» ، كقوله تعالى (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) [38/ الأعراف] ؛ أي: مع أمم، والرّهط- بفتح الرّاء وسكون الهاء- اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ وهو من ثلاثة إلى عشرة أو إلى أربعين، ويطلق على مطلق القوم؛ كما في «القاموس» ، ولا ينافي التعبير ب «الرّهط» رواية أنّهم كانوا أربعمائة!! لاحتمال تفرّقهم رهطا رهطا؛ وقرّة كان مع أحدهم، أو أنّه مبنيّ على القول الأخير.
(من مزينة) - بالتصغير- قبيلة من مضر، وأصله اسم امرأة.
(لنبايعه) - أي: على الإسلام، وهو متعلّق بقوله «أتيت» - (وإنّ زرّ قميصه) بالإضافة (مطلق) - بلام- أي: غير مربوط، والجملة حال.
(قال) : قرّة (فأدخلت يدي) - بصيغة الإفراد- (في جيب قميصه) ؛ أي:
فتحته الّتي عند النّحر؛ إذ جيب القميص: ما ينفتح على النّحر، وجمعه:
أجياب، وجيوب، ويطلق الجيب أيضا على ما يجعل في صدر الثّوب أو جنبه ليوضع فيه الشّيء، لكنّ المراد من الجيب في هذا الحديث طوقه المحيط بالعنق، وهذا يدلّ على أنّ جيب قميصه صلّى الله عليه وسلم على الصّدر كما هو المعتاد الآن؛ قال الجلال السّيوطي: وظنّ من لا علم عنده أنّه بدعة؛ وليس كما ظن. انتهى.
(فمسست) - بكسر السّين الأولى في اللّغة الفصحى، وحكي فتحها- (الخاتم) ؛ أي: خاتم النّبوّة، والمسّ: الجسّ باليد، يقال: مسسته؛ إذا أفضيت إليه بيدك من غير حائل. هكذا قيّدوه، والظّاهر أنّ قرّة كان يعلم الخاتم،(1/452)
وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحبرة بوزن عنبة- برد يمانيّ محبّر؛ أي: مزيّن محسّن.
وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردان أخضران، فيهما خطوط خضر ...
وإنّما قصد التبرّك، ومن ثمّ اغتفر له صلّى الله عليه وسلم هذا الفعل الذي ينافيه جلالة منصبه الكبير، ورعاية الأدب معه، لا سيّما بحضرة النّاس.
وفي هذا الحديث حلّ لبس القميص، وحلّ الزّرّ فيه، وحلّ إطلاقه، وسعة الجيب بحيث تدخل اليد فيه، وإدخال يد الغير في الطّوق لمسّ ما تحته تبرّكا، وكمال تواضعه صلّى الله عليه وسلم.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنّسائي، والتّرمذي، في «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أن يلبسها- هذا لفظ رواية الشّيخين- (الحبرة) - بالنصب، خبر «كان» ، و «أحبّ» : بالرفع، اسمها، ويجوز عكسه- والحبرة؛ (- بوزن عنبة-: برد يمانيّ) من قطن (محبّر) - بالتّشديد- (أي: مزيّن محسّن) بخطوط حمر، والتّحبير: التّزيين والتّحسين، والظّاهر أنّه إنّما أحبّها للينها وحسن انسجام صنعتها وموافقتها لجسده الشّريف، فإنّه كان على غاية من النّعومة واللّين، فيوافقه اللّيّن النّاعم، وأمّا شديد الخشونة فيؤذيه، ولا يعارض ذلك ما تقدّم من أنّه كان الأحبّ إليه القميص، لأنّ ذلك بالنسبة لما خيط وهذا بالنّسبة لما يرتدي به، أو أنّ محبّته للقميص كانت حين يكون عند نسائه، والحبرة كانت حين يكون بين صحبه، على أنّ هذا الحديث أصحّ من حديث أمّ سلمة السّابق لاتّفاق الشّيخين عليه، فلا يعارضه الحديث السّابق، والله أعلم.
(و) في «كشف الغمّة» للإمام الشّعرانيّ رحمه الله تعالى: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بردان) - تثنية برد، وهو؛ كما في «القاموس» : ثوب مخطّط- (أخضران) ، أي: (فيهما خطوط خضر) ، أي: مخطّطان بخطوط خضر،(1/453)
لا بحتا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الثّياب الخضر.
وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه حلّة حمراء ...
(لا بحتا) - بفتح الموحّدة وسكون المهملة وفوقية، أي: خالصا، لما علمت أن البرد ثوب مخطّط، فتعقيبه بالخضرة يدلّ على أنّه مخطّط بها، ولو كان أخضر بحتا لم يكن بردا.
روى التّرمذي في «جامعه» وفي «الشمائل» ؛ عن أبي رمثة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وعليه بردان أخضران.
(و) في «إحياء علوم الدين» للغزالي رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يعجبه الثّياب الخضر) ، أغفله العراقيّ في تخريجه.
وقد روى أبو الشّيخ وأبو نعيم في «الطب» من حديث أنس: كان أحبّ الألوان إليه الخضرة. أي: من الثّياب وغيرها، لأنّ الخضرة من ثياب الجنّة. قال ابن بطّال: وكفى به شرفا موجبا للمحبّة. ورواه كذلك البزار.
وأخرج ابن عديّ والبيهقيّ؛ عن قتادة قال: خرجت مع أنس رضي الله تعالى عنه إلى أرض فقيل: ما أحسن هذه الخضرة! فقال أنس: كنا نتحدّث أنّ أحبّ الألوان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم الخضرة. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» بسنده؛ (عن أبي جحيفة) بتقديم الجيم على الحاء المهملة-: وهب بن عبد الله السّوائي- بضمّ المهملة والمدّ- مشهور بكنيته.
ويقال له «وهب الخير» ، صحابيّ مشهور معروف، وصحب عليا ومات سنة: - 74- أربع وسبعين هجرية. (رضي الله تعالى عنه قال:
رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ، أي: في بطحاء مكّة في حجّة الوداع، كما صرّح به في رواية البخاريّ. (وعليه حلّة حمراء) ؛ أي: والحال أنّ عليه حلّة حمراء،(1/454)
كأنّي أنظر إلى بريق ساقيه. و (الحلّة) بالضّمّ: إزار ورداء، ولا تكون حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة.
فالجملة حالية، (كأنّي أنظر إلى بريق) لمعان (ساقيه) .
والظّاهر أنّ «كأنّ» للتّحقيق، لأنّها قد تأتي لذلك، وإنّما نظر إلى بريق ساقيه! لكون الحلّة كانت إلى أنصاف ساقيه الشّريفتين.
وهذا يدلّ على جواز النظر إلى ساق الرّجل، وهو إجماع حيث لا فتنة؛ ويؤخذ منه ندب تقصير الثّياب إلى أنصاف السّاقين، فيسنّ للرّجل أن تكون ثيابه إلى نصف ساقيه، ويجوز إلى كعبيه، وما زاد حرام إن قصد به الخيلاء. وإلّا كره، ويسنّ للأنثى ما يسترها، ولها تطويله ذراعا على الأرض، فإن قصدت الخيلاء! فكالرّجل.
وهذا التفصيل يجري في إسبال الأكمام وتطويل عذبة العمائم، وعلى قصد الخيلاء يحمل ما رواه الطّبراني: «كلّ شيء مسّ الأرض من الثّياب فهو في النّار» . وما رواه البخاريّ: «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النّار» . أي:
محلّه فيها فتجوّز به عن محله.
(و) في «القاموس» (الحلّة- بالضّمّ-: إزار ورداء) مثلا، برد أو غيره، وإلا فمتى وجد ثوبان على البدن كانا حلّة، على ما يفيده قوله:
(ولا تكون) ، أي: توجد (حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة) . وفي «المصباح» : الحلة لا تكون إلّا من ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل كغرفة وغرف. وفي «الفتح» : قال أبو عبيد: الحلل: برود اليمن، والحلّة: إزار ورداء. ونقله ابن الأثير وزاد: إذا كان من جنس واحد، وقال ابن سيده في «المحكم» : الحلّة برد أو غيره.
وحكى عياض: أنّ أصل تسمية الثّوبين «حلّة» أنّهما يكونان جديدين كما حل خيطهما، وقيل: لا يكون الثّوبان حلّة حتّى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حلّ عليه، والأوّل أشهر. انتهى.(1/455)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكسو بناته خمر القزّ والإبريسم. و (الخمر) - ك «كتب» ، جمع خمار- وهو: ما تغطّي به المرأة رأسها.
قال سفيان أحد رواة هذا الحديث: أظنّ هذه الحلّة الحمراء المذكورة في الحديث مخطّطة؛ لا حمراء قانية. انتهى. وهذا بناء على مذهبه من حرمة الأحمر البحت، أي: الخالص.
وقال ابن القيّم: غلط من ظنّ أنّها حمراء بحت لا يخالطها غيرها، وإنّما الحلّة الحمراء بردان يمانيّان مخطّطان بخطوط حمر مع سود، وإلّا؛ فالأحمر البحت منهيّ عنه أشدّ النّهي، فكيف يظنّ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه لبسه؟!
وردّ هذا بأنّ حمل الحلّة على ما ذكر مجرّد دعوى، والنهي عن الأحمر البحت للتّنزيه؛ لا للتّحريم، ولبسه صلّى الله عليه وسلم للأحمر القاني مع نهيه عنه!! لتبيين الجواز، فقد ردّه الطبراني؛ من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان يلبس يوم العيد بردة حمراء، قال الهيثمي: ورجاله ثقات، فالصّحيح جواز لبس الأحمر؛ ولو قانيا، انتهى «باجوري» مع زيادة.
(و) أخرج ابن النجار في «تاريخه» ؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكسو بناته خمر) - بخاء معجمة مضمومة- (القزّ) - بفتح القاف وشدّ الزّاي؛ معرّب- (والإبريسم) .
قال الليث: القزّ هو ما يعمل منه الإبريسم. ولهذا قال بعضهم: القزّ والإبريسم مثل الحنطة والدّقيق، فالإبريسم ما يؤخذ من القزّ كأخذ الدّقيق من الحنطة.
وفيه أن استعمال القزّ والحرير جائز للنّساء.
(والخمر) - بضمتين- (ك: «كتب» ؛ جمع خمار) ككتاب، (وهو:
ما تغطّي به المرأة رأسها) ، واختمرت وتخمّرت: لبست الخمار. انتهى «مناوي» .(1/456)
وكان يتّبع الحرير من الثّياب.. فينزعه. وكان قيمة ثوبه صلّى الله عليه وسلّم عشرة دراهم. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه أسمال مليّتين.
وقوله (مليّتين) - تصغير ملاءة- وهي: كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد.
(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد حسن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلّى الله عليه وسلم (يتّبع) - بفتح أوّله وتشديد ثانيه، وقيل:
بفتح أوّله وسكون ثانيه- (الحرير من الثّياب) ، أي: الحرير الخالص أو ما أكثره حرير، (فينزعه) ، أي: يأمر بنزعه عن الرّجال، ويمنعهم من لبسه، لما في الحرير من الخنوثة التي لا تليق بشهامة الرّجال، فيحرم لبسه على الرّجال.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان قيمة ثوبه صلّى الله عليه وسلم عشرة دراهم، و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن قيلة) - بقاف مفتوحة ومثنّاة تحتية ساكنة- (ابنت مخرمة) - بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الرّاء والميم- السرية، وقيل: العنبريّة، وقيل: القنويّة، صحابيّة لها حديث طويل في الصّحاح، خرّج لها البخاريّ في «الأدب» ، وأبو داود؛ (رضي الله تعالى عنها قالت:
رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه أسمال مليّتين) ، أي: والحال أنّ عليه أسمال مليّتين، والأسمال: جمع سمل- بسين مهملة وميم مفتوحة- كسبب وأسباب، وهو:
الثّوب الخلق، والمراد بالجمع ما فوق الواحد، فيصدق بالاثنين وهو المتعيّن هنا، لأنّ إضافته إلى المليّتين للبيان.
(وقوله «مليّتين» ) تثنية مليّة بضمّ الميم وفتح اللّام وتشديد الياء المفتوحة- وهي (تصغير ملاءة) بضم الميم والمدّ؛ لكن بعد حذف الألف، (وهي) ، أي:
الملاءة؛ كما في «القاموس» .
(كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد) . وفي(1/457)
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو يتوكّأ على أسامة رضي الله تعالى عنه، وعليه ثوب «النّهاية» : هي الإزار، وفي «الصحاح» : الملحفة، ولا تدافع، لصدقها على التعريف الأوّل «بكل» ، وتمام الحديث بعد قوله «مليّتين» : كانتا بزعفران وقد نفضته، وفي الحديث قصّة طويلة. انتهى كلام «الشمائل» .
ومعنى قوله «كانتا بزعفران» ؛ أي: كانت المليّتان مصبوغتين بزعفران، وقوله «وقد نفضته» ؛ أي: وقد نفضت الأسمال الزعفران، ولم يبق منه إلّا الأثر القليل؛ فلبسه صلّى الله عليه وسلم لهاتين المليتّين، لا ينافي نهيه عن لبس المزعفر، لأنّ النهي محمول على ما إذا بقي لون الزّعفران براقا، بخلاف ما إذا نفض وزال عن الثّوب ولم يبق منه إلا الأثر اليسير، فليس هذا منهيّا عنه.
(و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» بسنده؛ (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج) ؛ أي: من بيته (وهو يتوكّأ) هكذا هو في «الشّمائل» في باب الاتكاء: من التوكّؤ، ومنه قوله تعالى (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) [18/ طه] . وفي نسخة من «الشمائل» : يتّكىء من الاتّكاء، ومنه قوله تعالى (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) [13/ الإنسان] وفي نسخة: وهو متوكّىء بصيغة اسم الفاعل؛ وكلها بمعنى واحد، وهو الاعتماد، أي: يعتمد لضعفه من المرض (على أسامة) بن زيد بن حارثة بن شراحيل القضاعيّ الكلبي، صحابيّ مشهور، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن مولاه وابن مولاته أم أيمن، وحبّه وابن حبّه، أمّره صلّى الله عليه وسلم على جيش فيه عمر رضي الله عنه؛ وعمره دون عشرين سنة، مات سنة: - 54- أربع وخمسين، عن خمس وسبعين سنة بالمدينة المنورة، (رضي الله تعالى عنه) وعن والده آمين.
وخروجه صلّى الله عليه وسلم ذلك في مرض موته، بدليل ما رواه الدارقطني: أنّه خرج بين أسامة والفضل وزيد إلى الصّلاة في المرض الّذي مات فيه، ويحتمل أنّه في مرض غيره؛ (وعليه) ، أي: على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم (ثوب) - بالتّنوين، والجملة حاليّة من(1/458)
قطريّ قد توشّح به.. فصلّى بهم. و (قطريّ) : نسبة إلى القطر؛ وهو: نوع من البرود اليمانيّة تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة. و (توشّح به) أي: ...
ضمير «خرج» أو «يتوكّأ» - (قطريّ) - بقاف مكسورة وطاء مهملة ساكنة بعدها راء- (قد توشّح) ، أي: تغشى (به) - والجملة صفة- (فصلّى بهم) ، أي:
بالنّاس.
وقد أخرج ابن سعد؛ من طريق أبي ضمرة اللّيثي؛ عن حميد؛ عن أنس أنّه قال: آخر صلاة صلّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع القوم في مرضه الّذي قبض فيه، في ثوب واحد متوشّحا به قاعدا.
(و) قوله (قطريّ) - بكسر القاف وإسكان الطّاء بعدها راء، ثم ياء النّسبة-:
(نسبة إلى القطر) - بكسر القاف وسكون الطّاء بعدها راء- (وهو: نوع من البرود اليمانيّة) - نسبة لليمن على غير قياس- (تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة) ، ونوع من حلل جياد يحمل من بلد بالبحرين اسمها قطر- بفتحتين-، فكسرت القاف للنّسبة وسكّن الطّاء على خلاف القياس، كذا قاله شراح «الشمائل» كالمناوي، وعلي القاري، والباجوري، وغيرهم، وتبعتهم وهو غير جيد.
والمعتمد عندي هو القول الثّاني وهو أن الثوب القطريّ منسوب إلى قطر بفتحتين- إقليم بجهة البحرين من الخليج العربيّ، ويقرأ هكذا: ثوب قطريّ؛ بفتح القاف وبفتح الطّاء المهملة وكسر الرّاء، وآخر ياء، نسبة إلى قطر بفتحتين-، البلد المعروف في الخليج العربيّ، وهو مشهور بصنع البرود والثّياب من قديم الزّمان إلى عصرنا الحاضر، لكن لمّا كثرت الثّياب المستوردة من الخارج؛ وهي أنضر وأقلّ ثمنا؛ آثروها على صنع بلادهم، فقلّت صنعة الثّياب عندهم، وكل ذلك مكيدة من الكفّار لأهل الإسلام، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
(و) قوله (توشّح به) - بتشديد الشّين المعجمة- قال الباجوري: (أي:(1/459)
وضعه فوق عاتقيه، أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة وعليه مرط من شعر أسود.
و (المرط) : كساء طويل واسع.
وعن المغيرة بن شعبة ...
وضعه فوق عاتقيه) - تثنية عاتق- وهو: ما بين المنكب والعنق، يذكّر ويؤنّث، (أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه) . انتهى.
(و) أخرج مسلم، وأبو داود، والتّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» (عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها قالت:
«خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، أي: من بيته (ذات غداة) ؛ العرب تستعمل ذات يوم وذات ليلة ويريدون حقيقة المضاف إليه نفسه، وما هنا كذلك، فلفظ «ذات» مقحم للتأكيد، والمعنى: خرج بكرة (وعليه مرط) كمسك (من شعر) - بفتح العين المهملة وتسكن- (أسود) - بالرفع على أنه صفة «مرط» ، أو بالجر بالفتحة على أنه صفة شعر، والجملة حال من فاعل «خرج» ، وفي «الصحيحين» : كان له كساء يلبسه، ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» .
وكان يلبس الكساء الخشن، ويقسم أقبية الخزّ المخوّصة بالذّهب في أصحابه، ولم تطلب نفسه التغالي في اللّباس والمباهاة فيه، لأنّ المحمود للرجال نقاوة الثّوب والتوسّط في جنسه، وعدم إسقاطه لمروءة لابسه كما مرّ.
(والمرط) - بكسر فسكون- هو: (كساء طويل واسع) ؛ من خزّ أو صوف أو شعر أو كتّان، يؤتزر به.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» مختصرا باللّفظ الّذي أورده المصنّف، وهو في «الصّحيحين» وغيرهما مطول؛ (عن المغيرة بن شعبة) الثقفي الكوفي.(1/460)
رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبس جبّة روميّة ضيّقة الكمّين.
صحابيّ مشهور، وكان من خدم المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأسلم عام الخندق، وأخرج له الستّة، وروي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة وستّة وثلاثون حديثا، اتفق البخاريّ ومسلم منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، وانفرد مسلم بحديثين. قيل:
إنه أحصن ألف امرأة في الإسلام، وولاه عمر بن الخطاب البصرة مدّة، ثم نقله عنها فولّاه الكوفة، فلم يزل عليها حتى قتل عمر، فأقرّه عليها عثمان ثم عزله، وشهد اليمامة وفتح الشّام، وذهبت عينه يوم اليرموك، وشهد القادسيّة، وشهد فتح نهاوند، واعتزل الفتنة، وشهد الحكمين، ثم استعمله معاوية على الكوفة، فلم يزل عليها حتى توفّي بها سنة خمسين، قالوا: هو أوّل من وضع ديوان البصرة، وهو أحد دهاة العرب (رضي الله تعالى عنه) . وهم أربعة كما قيل:
من العرب العرباء قد عدّ أربع ... دهاة فما يؤتى لهم بشبيه
معاوية عمرو بن عاص مغيرة ... زياد هو المعروف بابن أبيه
(أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لبس) ؛ أي: في السّفر، قالوا: وكان ذلك في غزوة تبوك.
(جبّة) - بضمّ الجيم وتشديد الموحدة- (روميّة) ؛ نسبة للروم.
قال الحافظ ابن حجر: وفي أكثر روايات «الصحيحين» وغيرهما جبّة شاميّة؛ نسبة للشّام!! ولا تناقض؛ لأن الشّام كانت يومئذ مساكن الرّوم، وإنّما نسبت إلى الرّوم أو إلى الشّام لكونها من عمل الرّوم الّذين كانوا في الشّام يومئذ، وهذا يدلّ على أنّ الأصل في الثّياب الطّهارة؛ وإن كانت من نسيج الكفّار، لأنّه صلّى الله عليه وسلم لم يمتنع من لبسها مع علمه بمن جلبت من عندهم؛ استصحابا للأصل.
(ضيّقة الكمّين) بيان لقوله «روميّة» ؛ أي: بحيث إذا أراد إخراج ذراعيه لغسلهما تعسّر، فيعدل إلى إخراجهما من ذيلها، ويؤخذ منه- كما قاله العلماء-:
أنّ ضيق الكمّين مستحب في السّفر؛ لا في الحضر، وإلّا! فكانت أكمام الصّحب بطاحا؛ أي: واسعة.(1/461)
و (الجبّة) : ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته من صوف.
وكان كمّه صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ، ولبس القباء والفرجيّة، ولبس جبّة ضيّقة الكمّين في سفره.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: ...
(والجبّة) من الملابس معروفة، والجمع جبب، ك: «غرفة وغرف» ؛ قاله في «المصباح» . وقيل: هي (ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته) - بالكسر-: ما يظهر للعين، وهو خلاف البطانة (من صوف.
و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان كمّه صلّى الله عليه وسلم إلى الرّسغ) - بضمّ الرّاء وسكون السّين المهملة، آخره غين معجمة- بوزن قفل، وهو: مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان، وقد تقدّم الكلام على ذلك.
(ولبس) صلّى الله عليه وسلم (القباء) - بفتح القاف والموحدة، ممدودا-: هو الثّوب المشقوق من أمام كالجبّة المعهودة، (و) لبس (الفرجيّة، ولبس جبّة) شاميّة (ضيّقة الكمّين في سفره) ؛ كما في «الصّحيحين» وغيرهما، وقد تقدّم آنفا.
(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ؛ (عن أسماء بنت أبي بكر) الصديق (رضي الله تعالى عنهما) امرأة الزّبير بن العوّام.
أسلمت قديما بعد سبعة عشر إنسانا، وهي أسنّ من عائشة، وهي أختها لأبيها، وكان عبد الرّحمن بن أبي بكر أخو أسماء شقيقها. سمّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ذات النّطاقين» ، لأنّها صنعت للنّبي صلّى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لمّا هاجرا؛ فلم تجد ما تشدّها به؛ فشقّت نطاقها وشدّت به السّفرة، فسمّاها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ذات النطاقين.
هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزّبير، فولدته بعد الهجرة، فكان أوّل مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة من المهاجرين، وبلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سنّ، ولم ينكر من عقلها شيء.(1/462)
أنّها أخرجت جبّة طيالسة كسروانيّة، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالدّيباج، ...
روي لأسماء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثا.
وتوفّيت بمكّة في جمادى الأولى سنة: - 73- ثلاث وسبعين، بعد قتل ابنها عبد الله بيسير رضي الله تعالى عنها. وذلك فيما رواه عنها عبد الله مولاها قال:
(إنّها أخرجت) إلينا (جبّة) بإضافة جبة إلى (طيالسة) - لا بالتنوين-، وهي نوع من الثّياب لها علم.
والطيالسة: جمع طيلسان- بفتح اللام على المشهور-. (كسروانيّة) - بكسر الكاف وفتحها والسّين ساكنة والرّاء مفتوحة- نسبة إلى كسرى ملك الفرس- بكسر الكاف وفتحها-؛ فهما في كسروانية على اللغتين في المنسوب إليه، (لها لبنة) بكسر اللام وإسكان الباء الموحدة- أي: رقعة (ديباج) في جيب القميص «1» ، والدّيباج- بفتح الدال وكسرها-: جمعه ديابيج، وهو عجمي معرّب، وهو نوع من ثياب الإبريسم، (وفرجاها مكفوفان) - وفي رواية: وفرجيها مكفوفين؛ بالنّصب: مفعول لفعل محذوف، أي: ورأيت فرجيها مكفوفين. وفي رواية:
وفروجها مكفوفة- (بالدّيباج) ؛ أي: عمل على جيبها وكمّيها وذيلها وفرجيها كفاف من حرير، وكفّة كل شيء- بالضمّ-: طرفه وحاشيته. قاله الزرقاني على «المواهب» .
وقال الأبّي؛ نقلا عن القاضي عياض: الفرج في الثوب: الشقّ في أسفله من خلف وأمام، وإنّما يكون في الأقبية من ملابس العجم. ومعنى مكفوفين: جعل منهما كفّة- بالضمّ-: وهو ما يكفّ به جوانبها، وكل شيء مستطيل كفّة بالضمّ-. قال الخطابي: والمكفّف بالحرير: ما اتّخذ جيبه منه؛ وكان لذيله وأكمامه كفاف منه. قال السّيّد العلّامة محمّد بن أحمد عبد الباري الأهدل في «نشر
__________
(1) هي المعروفة في زماننا ب (القبّة) .(1/463)
قالت: هذه جبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت.. قبضتها، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يلبسها، ...
الأعلام» . يحلّ تطريف، - أي: تسجيف- للكمّين والطّوق، والجيب، والذّيل؛ بالحرير قدر العادة الغالبة لأمثاله في تلك النّاحية؛ وإن جاوز أربع أصابع، فإن جاوز العادة! حرم.
ويحلّ تطريز وترقيع قدر أربع أصابع مضمومة معتدلة، ولو تعدّد؛ فالأصح الجواز بشرط أن لا يزيد المجموع على ثمان أصابع؛ وإن زاد على طرازين، فلو كان في طرفي العمامة علم كل واحد منهما أربع أصابع؛ جاز، وإلّا! فلا.
والتطريز: جعل الطراز الذي هو حرير خالص مركبا على الثّوب. أما التّطريز بالإبرة! فكالنسج، فيعتبر الأكثر و؟؟ زنا منه ومما طرز فيه، وكذا يعتبر الوزن أيضا في الأردية الثّمينة المنسوج فيها حاشية من حرير؛ وإن زادت على أربع أصابع، أخذا مما ذكروه في تعريف الطراز.
والظّاهر أنّ الحظاية المعروفة التي تركّب في طرف العمامة يجري فيها تفصيل الطراز، فإن كان عرضها أربع أصابع فأقلّ؛ حلّت، وإلّا! فلا. هذا إذا كانت الحظاية حريرا خالصا، أما إذا نسج معها كتّان أو قطن؛ فيعتبر فيها مع الثّوب الوزن. انتهى كلام السيد في «نشر الأعلام» .
(قالت) أي؛ أسماء: (هذه جبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت) عائشة، أي؛ ماتت رضي الله تعالى عنها (قبضتها) بضمّ المثنّاة الفوقيّة- أي: أخذت الجبّة المذكورة.
(وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يلبسها) - بفتح الموحدة- مضارع لبس- بكسر الموحّدة- من اللّباس، فإن كان من اللّبس- بفتح اللّام- بمعنى الخلط؛ فيقال فيه: لبس- بفتح الباء- في الماضي، يلبس- بكسر الموحدة- في المضارع، قال تعالى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (9) [الأنعام] . وقد نظم حاصل هذا بعضهم فقال:
لعين مضارع في لبس ثوب ... أتى فتح وفي الماضي بكسر(1/464)
فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.
ومعنى (اللّبنة) : رقعة في جيب القميص.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس ما وجد؛ فمرّة شملة، ومرّة برد حبرة يمانيّة، ومرّة جبّة صوف، ما وجد من المباح لبس.
وفي خلط الأمور أتى بعكس ... لعينهما فخذه بغير عسر
(فنحن نغسلها للمرضى) - وفي رواية: للمريض منّا إذا اشتكى- (نستشفي) نطلب الشفاء- (بها) لمخالطتها لعرقه وملابستها لبدنه، (ومعنى اللّبنة) - بكسر اللّام وإسكان الموحدة- (رقعة) ؛ أي: قطعة من حرير (في جيب القميص) ولو جديدا، وليس المراد أنّها جعلت فيه لإصلاح خلله. وفيه من الفقه: جواز لبس ما له فرجان، وأنّه لا كراهة فيه، وأنّ المراد بالنّهي عن الحرير المتمحّض منه، وأنّه ليس المراد تحريم كلّ جزء منه، بخلاف الخمر والذّهب، فإنّه يحرم كلّ جزء منهما، وعلى الرّجال في الذّهب؛ قاله النّووي في «شرح مسلم» .
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني، و «إحياء علوم الدّين» للإمام الغزاليّ رحمهما الله تعالى:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس ما وجد) ؛ من غير قيد، (فمرّة) يلبس (شملة، ومرّة) يلبس (برد) - بضم أوّله وسكون الرّاء- مضافا إلى (حبرة) - بوزن عنبة- (يمانيّة) ؛ وهو الثّوب الّذي فيه خطوط، (ومرّة) يلبس (جبّة صوف) بالإضافة.
(ما وجد من المباح لبس) قال العراقيّ: روى البخاريّ؛ من حديث سهل بن سعد: جاءت امرأة ببردة، قال سهل: هل تدرون ما البردة؟ هي الشّملة؛ منسوج في حاشيتها، وفيه: فخرج إلينا وإنّها لإزاره ... الحديث.
ولابن ماجه؛ من حديث عبادة بن الصامت: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى في شملة قد عقد عليها. وفيه الأحوص بن حكيم مختلف فيه.
وللشّيخين؛ من حديث أنس: «كان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يلبسها(1/465)
و (الشّملة) : كساء صغير يؤتزر به.
وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ...
الحبرة» ، ولهما؛ من حديث المغيرة: «وعليه جبّة من صوف ضيّقة الكمّين» .
انتهى «شرح الإحياء» .
وقد تقدّم ذلك بزيادة: (والشّملة) - بفتح المعجمة وسكون الميم-:
ما يشتمل به من الأكسية التي يلتحف بها؛ كما في «الفتح» ، وقيل: يختصّ بماله هدب. وقال ابن دريد: (كساء صغير يؤتزر به) ؛ وهي البردة، وتسمية العوامّ:
ما يلفّ على الرأس شملة؛ اصطلاح حادث.
(و) أخرج البخاريّ في فرض الخمس وفي اللّباس، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن أبي موسى الأشعريّ) : عبد الله بن قيس، الصحابي المشهور، الكوفي.
قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة قبل هجرته إلى المدينة، فأسلم ثمّ هاجر إلى الحبشة، ثمّ هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحاب السّفينتين بعد فتح خيبر، فأسهم لهم منها.
ولأبي موسى مع حسن صوته فضيلة ليست لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
هاجر ثلاث هجرات؛ هجرة من اليمن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة، وهجرة من مكّة إلى الحبشة، وهجرة من الحبشة إلى المدينة المنوّرة، واستعمله النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على «زبيد» و «عدن» وساحل اليمن، واستعمله عمر على «الكوفة» و «البصرة» .
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مئة وستون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على خمسين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، وانفرد مسلم بخمسة عشر.
وتوفّي بمكّة، وقيل: بالكوفة سنة: خمسين، أو إحدى وخمسين (رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا) أم المؤمنين (عائشة) - الصّدّيقة بنت الصديق، وقد تقدمت ترجمتها- (رضي الله تعالى عنها كساء) - بكسر أوله- من صوف(1/466)
ملبّدا وإزارا غليظا؛ فقالت: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذين. و (الكساء) : ما يستر أعلى البدن. و (الملبّد) :
المرقّع. و (الإزار) : ما يستر أسفل البدن. و (غلظه) : ...
(ملبّدا) - بتشديد الموحدة بصيغة اسم المفعول- أي: مرقّعا، كما قاله النووي في «شرح مسلم» .
(وإزارا) - بكسر الهمزة-: الملحفة، يذكّر ويؤنّث؛ فيقال: هو الإزار، وهي الإزار، وربما أنّث بالهاء، والمراد هنا: ما يستر أسفل البدن، ويقابله الرّداء: وهو ما يستر أعلى البدن، (غليظا) ، أي: خشنا، صفة للإزار، وفي رواية عند مسلم موصولة، وعند البخاريّ تعليقا: أخرجت إلينا عائشة إزارا غليظا ممّا يصنع باليمن، وكساء من هذه الّتي تدعونها الملبّدة.
(فقالت: قبض) - بصيغة المجهول- ونائب الفاعل قوله (رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: أماته الله تعالى وهو (في هذين) ؛ أي: الكساء والإزار المذكورين، وأرادت أنّهما كانا لباسه وقت مفارقته للدّنيا صلّى الله عليه وسلم، مع ما فيهما من الرّثاثة والخشونة، فلم يكترث صلّى الله عليه وسلم بزخرفة الدنيا، ولا بمتاعها الفاني، مع أنّ ذلك كان بعد فتح الفتوح وفي قوّة الإسلام وكمال سلطانه.
ويؤخذ من ذلك: أنّه ينبغي للإنسان أن يجعل آخر عمره محلا لترك الزّينة.
(والكساء) - بكسر الكاف: - (ما يستر أعلى البدن) ؛ وهو الرداء، ضدّ الإزار، وجمعه: أكسية؛ بلا همز.
(والملبّد) - بضمّ الميم وفتح اللّام وتشديد الموحدة المفتوحة- قال ابن الأثير في «النهاية» : هو (المرقّع) - بضمّ الميم وفتح الرّاء وشدّ القاف- يقال: لبّدت القميص ألبده، ولبدته بالتّخفيف، ويقال للخرقة التي يرقع بها صدر القميص: اللّبدة بالكسر-. وقيل: الملبّد الذي ثخن وسطه وصفق، حتى صار يشبه اللّبدة- بالكسر-.
(والإزار) - بكسر أوّله-: (ما يستر أسفل البدن) ؛ ضد الرّداء، (وغلظه)(1/467)
خشونته.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم كساء ملبّد يلبسه ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» .
- بكسر الغين المعجمة وفتح اللّام-: (خشونته) .
وفي الحديث ندب حفظ آثار الصّالحين والتّبرك بها؛ من ثيابهم، ومتاعهم، فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها حفظت هذا الكساء والإزار اللّذين قبض فيهما للتبرّك بهما.
فائدة: ذكر ابن الجوزي في «الوفا» بإسناده؛ عن عروة بن الزّبير قال: كان طول رداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعين ونصفا.
ونقل ابن القيّم عن الواقديّ: أن رداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم برد طوله ستّة أذرع في ثلاثة أذرع وشبر، وإزاره من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين. انتهى «جمع الوسائل» .
(و) في «المواهب» و «الإحياء» : (كان له صلّى الله عليه وسلم كساء ملبّد) ؛ أي:
مرقّع، أو ما ثخن وسطه حتى صار كاللّبد، (يلبسه ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» ) . قال في «المواهب» : رواه الشّيخان. قال الزرقاني: لم أره فيهما ولا في أحدهما بهذا اللّفظ في مظانّه! فليراجع.
وقال في «شرح الإحياء» : قال العراقي: روى الشّيخان؛ من رواية أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبدا وإزارا غليظا؛ فقالت:
في هذين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد تقدم.
وروى البخاريّ من حديث عمر: «إنّما أنا عبد» . ولعبد الرزاق في «المصنف» من رواية أيوب السختياني مرفوعا معضلا: «إنّما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» .
قلت: وروى تمام وابن عساكر من حديث ابن عمر: «من لبس الصّوف وانتعل(1/468)
وكان له صلّى الله عليه وسلّم كساء أسود، فوهبه، فقالت له أمّ سلمة: بأبي أنت وأمّي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال:
«كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ أحسن من بياضك على سواده.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتقنّع بردائه تارة ويتركه ...
بمخصوف ... » الحديث. وفيه: «أنا عبد بن عبد، آكل أكلة العبد، وأجلس جلسة العبد ... » الحديث. انتهى كلام «شرح الإحياء» ملخصا. وهو يؤيد كلام الزرقاني رحمه الله تعالى.
(و) في «الإحياء» : (كان له صلّى الله عليه وسلم كساء أسود فوهبه) لآخر، (فقالت له أمّ سلمة) - رضي الله تعالى عنها-: (بأبي أنت وأمّي) يا رسول الله؛ (ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: «كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ) كان (أحسن من بياضك على سواده) .
قال في «شرح الإحياء» : قال العراقي: لم أقف عليه من حديث أمّ سلمة.
ولمسلم من حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها-: خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحّل أسود. ولأبي داود، والنّسائي: صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلم بردة سوداء من صوف فلبسها.. الحديث، وزاد فيه ابن سعد في «الطّبقات» : فذكرت بياض النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وسوادها. ورواه الحاكم بلفظ: جبة، وقال: صحيح على شرط الشّيخين.
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشّعراني- رحمه الله تعالى-:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يتقنّع بردائه) . قال الوليّ العراقيّ في «شرح تقريب الأسانيد» : التقنّع معروف؛ وهو تغطية الرّأس بطرف العمامة، أو برداء، أو نحو ذلك.
وقال ابن الحاجّ في «المدخل» : وأما قناع الرجل!! فهو أن يغطّي رأسه بردائه ويردّ طرفه على أحد كتفيه. انتهى. واحترز به عن قناع المرأة؛ فإنّها خرقة لطيفة تجعلها على رأسها. (تارة) - التارة: المرّة، وجمعها تارات- (ويتركه) - أي:(1/469)
أخرى، وهو الّذي يسمّى في العرف: الطّيلسان.
التقنّع- تارة (أخرى، و) التقنّع قال السيوطي: (هو) التّطيلس. وقال الشّعراني: الرّداء: هو (الّذي يسمّى في العرف: «الطّيلسان» ) - بفتح الطّاء واللّام على الأشهر الأفصح- بزنة «فيعلان» ، وحكى القاضي عياض والنّووي والمجد «1» : كسر اللّام وضمّها، وفيه لغة: الطّالسان بالألف، حكاها ابن الأعرابي.
اعتراض ابن القيم والتعقّب عليه قال ابن القيم: ولم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه لبسه، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت في «صحيح مسلم» من حديث النّواس بن سمعان عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: أنّه ذكر الدّجّال فقال: «يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطّيالسة» .
ورأى أنس جماعة عليهم الطّيالسة فقال: ما أشبههم بيهود خيبر!.
قال: ومن ها هنا كرهه جماعة من السّلف والخلف؛ لما روى أبو داود، والحاكم؛ أنّه قال: «من تشبّه بقوم فهو منهم» . وفي «التّرمذيّ» : «ليس منّا من تشبّه بغيرنا» .
وأمّا ما جاء في حديث الهجرة أنّه صلّى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه متقنّعا بالهاجرة! فإنّما فعله صلّى الله عليه وسلم تلك السّاعة ليختفي بذلك؛ للحاجة. ولم يكن عادته التقنّع، وقد ذكر أنس عنه صلّى الله عليه وسلم: أنّه كان يكثر القناع، وهذا إنّما كان يفعله للحاجة؛ من الحرّ ونحوه. انتهى كلام ابن القيّم؛ نقله في «المواهب» .
وتعقّبه بقوله: أمّا قوله: إنّه صلّى الله عليه وسلم إنّما فعل ذلك للحاجة؛ فيردّ عليه حديث سهل بن سعد: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يكثر القناع. رواه البيهقي في «الشعب» ، والتّرمذيّ.
وللبيهقيّ في «الشعب» أيضا، وابن سعد في «طبقاته» ؛ من حديث أنس
__________
(1) الفيروز أبادي.(1/470)
.........
بلفظ: يكثر التقنع. فهذا وما أشبهه يرد قول ابن القيم أنّه لم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه لبسه.
الطيلسان ثوب لا يؤدّى شكره وفي «طبقات» ابن سعد مرسلا: ذكر الطّيلسان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هذا ثوب لا يؤدّى شكره» . وفيه أحاديث كثيرة.
وأما قوله: ولا أحد من أصحابه! فيردّه ما أخرجه التّرمذيّ وصحّحه، والحاكم في «المستدرك» بسند على شرط الشّيخين؛ عن مرّة بن كعب- أو كعب بن مرة- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقرّبها، فمرّ رجل مقنّع في ثوب- وفي لفظ: «بردائه» - فقال: «هذا يومئذ على الهدى» . فقمت فإذا هو عثمان بن عفّان- رضي الله تعالى عنه-؛ فهذا صحابي من أجلّاء الصّحابة تقنّع، ورآه المصطفى كذلك وأقرّه!
وروى أبو يعلى وابن عساكر: صعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلم المنبر؛ وأصحابه تحت المنبر، وأبو بكر مقنّع في القوم. فهذا خير الصحابة تقنّع بحضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأقرّه! وروى ابن عساكر: أنّ عمر تقنّع في خلافته يوم عيد.
وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» ؛ عن أبي العلاء قال: رأيت الحسن بن علي يصلّي وهو مقنّع رأسه.
وأخرج ابن سعد؛ عن سليمان بن المغيرة قال: رأيت الحسن بن عليّ يلبس الطّيالسة.
وأخرج ابن سعد أيضا؛ عن عمارة بن زاذان قال: رأيت على الحسن بن علي طيلسانا أندقيّا. فهؤلاء أربعة من الصّحابة تطيلسوا.
وأما التّابعون! فثبت عن طاوس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري أخرجه عنهم ابن سعد-، ومسروق، وإبراهيم النّخعي، وسعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة-، ومحمّد بن واسع- عند ابن عساكر-، وميمون بن مهران(1/471)
.........
- عند ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» - وروى البيهقي؛ عن خالد بن حراش قال: جئت مالك بن أنس؛ إمام دار الهجرة، فرأيت عليه طيلسانا، فقلت:
يا أبا عبد الله؛ هذا شيء أحدثته أم رأيت النّاس عليه؟ قال: لا؛ بل رأيت النّاس عليه. والآثار عن السّلف في ذلك كثيرة.
وأما ما ذكره ابن القيّم من قصّة اليهود الخارجين مع الدّجال ويهود خيبر؛ فقال الحافظ ابن حجر: إنّما يصلح الاستدلال به في الوقت الّذي تكون فيه الطّيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة، فصار ذلك داخلا في عموم المباح، وقد ذكره العزّ بن عبد السّلام في أمثلة البدعة المباحة. وقد يصير من شعار قوم؛ فيصير تركه من الإخلال بالمروءة؛ فيرتقي عن الإباحة إلى الطّلب.
وقيل: إنّما أنكر أنس ألوان الطّيالسة؛ لأنّها كانت صفراء، وقد صحّ النّهي عن الصفرة.
انتهى كلام «المواهب» مع شيء من الشرح.
قال المناوي في شرح «الشمائل» : وقد كثر كلام النّاس في الطّيلسان، والحاصل أنّه قسمان:
1- محنّك: وهو ثوب طويل عريض قريب من الرّداء، مربّع، يجعل فوق العمامة، يغطّي أكثر الوجه، ثم يدار طرفه- والأولى اليمين من تحت الحنك- إلى أن يحيط بالرّقبة جميعها، ثمّ يلقى طرفاه على المنكبين.
و2- مقوّر: وهو ما عدا ذلك، فيشمل: المدوّر، والمثلّث، والمربّع، والمسدول؛ وهو ما يرخى طرفاه من غير ضمّهما أو أحدهما؛ ومنه: الطّرحة المعتادة لقاضي القضاة الشّافعي المختصّة به.
والأوّل- يعني: المحنّك- مندوب اتفاقا، ويتأكّد لصلاة وحضور جمعة وعيد ومجمع. والثّاني- يعني: المقوّر بأنواعه- مكروه، لأنه من شعار أهل الذّمّة.
انتهى.(1/472)
.........
وقال السّيوطي: كلّ من وقع في كلامه من العلماء كراهة للطيلسان وكونه شعارا لليهود؛ إنّما أراد المقوّر الّذي على شكل الطرحة؛ يرسل من وراء الظّهر والجانبين من غير إدارة تحت الحنك، ولا إلقاء لطرفيه على الكتفين.
وأما المربّع الذي يدار من تحت الحنك ويغطي الرّأس وأكثر الوجه ويجعل طرفاه على الكتفين! فلا خلاف أنه سنة. انتهى. نقله الزرقاني على «المواهب» .
قال المناوي في شرح «الشّمائل» : ووقع في أكثر الأحاديث التعبير عن التّطيلس بالتقنّع، وعن الطّيلسان بالقناع.
ومن ثمّ قال الحافظ ابن حجر في مجيء المصطفى صلّى الله عليه وسلم لبيت الصّدّيق متقنّعا أي: مطيلسا رأسه-: هذا أصل لبس الطّيلسان. قال: والتقنّع: تغطية الرّأس وأكثر الوجه برداء أو غيره، وصرّحوا بأنّ القناع الّذي يحصل به التقنّع الحقيقيّ: هو الرداء، وهو يسمّى «طيلسانا» ، كما أن الطّيلسان قد يسمّى «رداء» .
ومن ثمّ قال ابن الأثير: الرّداء يسمّى الآن «طيلسانا» . فما على الرّأس مع التّحنيك: الطّيلسان الحقيقي، ويسمّى «رداء» مجازا. وما على الأكتاف: هو الرّداء الحقيقي، ويسمّى «طيلسانا» مجازا. وصحّ عن ابن مسعود- وله حكم المرفوع-: «التّقنّع من أخلاق الأنبياء» . وفي خبر أنّ: «التّقنّع باللّيل ريبة» .
وفي خبر: «لا يتقنّع إلّا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» . وأخذ من ذلك:
أنّه ينبغي أن يكون للعلماء شعار مختصّ بهم؛ ليعرفوا فيسألوا ويمتثل ما أمروا به ونهوا عنه.
وللطّيلسان فوائد جليلة: فيها صلاح الظّاهر والباطن؛ كالاستحياء من الله والخوف منه، إذ تغطية الرّأس شأن الخائف الآبق الّذي لا ناصر له ولا معين، ولجمعه للفكر لكونه يغطّي أكثر الوجه، فتندفع عن صاحبه مفاسد كثيرة، وتجتمع همّته؛ فيحضر قلبه مع ربّه ويمتلىء بشهوده وذكره، وتصان جوارحه عن المخالفات، ونفسه عن الشّهوات، وهذه أسباب لإفاضة أنواع الجلالة والمهابة، ولذلك قال بعض الصّوفية: الطّيلسان الخلوة الصّغرى. انتهى.(1/473)
وكان صلّى الله عليه وسلّم غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن، وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف والكتّان.
ولبس صلّى الله عليه وسلّم الشّعر الأسود. ولبس مرّة بردة من الصّوف.. فوجد ريح الضّأن فطرحها.
(و) في «زاد المعاد» لشمس الدّين ابن القيّم: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم غالب ما يلبس هو وأصحابه) معطوف على الضمير المستتر في يلبس، والشّرط موجود، على حدّ قول صاحب «الألفيّة» :
وإن على ضمير رفع متّصل ... عطفت فافصل بالضّمير المنفصل
(ما نسج) - أي: الثّياب المنسوجة- (من القطن) ؛ قميصا أو رداء أو غيرهما.
والقطن- بضمّ فسكون، وبضمّتين- شجر معروف، قد يعظم ويبقى عشرين سنة.
(وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف) لمزيد تواضعه، ولأنّ لبسه من سنن الأنبياء.
قال ابن مسعود: كان الأنبياء يركبون الحمير، ويلبسون الصّوف، ويحتلبون الشّاة. رواه أبو داود الطّيالسيّ. وعنه صلّى الله عليه وسلم قال: «كان على موسى يوم كلّمه ربّه كساء صوف، وكمّة صوف، وجبّة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» . رواه التّرمذيّ وقال: غريب. والحاكم وصححّه على شرط البخاريّ كلاهما؛ عن حميد الأعرج؛ عن عبد الله بن الحارث؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والكمّة- بضمّ الكاف وتشديد الميم-: القلنسوة الصغيرة. انتهى.
(و) ما نسج من (الكتّان) - بفتح الكاف وتشديد المثنّاة الفوقيّة آخره نون- عربي معروف، وسمّي بذلك!! لأنّه يكتنّ، أي: يسودّ إذا ألقي بعضه على بعض. والثّياب المنسوجة من الكتّان معتدلة الحرّ والبرد واليبوسة، ولا تلزق بالبدن، ويقل قملها.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني: (لبس) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم الشّعر الأسود) ، وقد تقدّم بيانه، (ولبس مرّة بردة من الصّوف؛ فوجد ريح الضّأن فطرحها) . فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلم بردة سوداء،(1/474)
وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سراويل، ...
فلبسها، فلما عرق فيها؛ وجد ريح الصّوف فقذفها. وكانت تعجبه الرّيح الطيّبة.
أخرجه أبو داود، والنّسائي في «سننه» ، وذكره البغوي في «المصابيح» .
(و) في «كشف الغمّة» أيضا: (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سراويل) ؛ قال ابن سيده: فارسي معرّب؛ يذكّر ويؤنّث. ولم يعرف أبو حاتم السجستاني التذكير، والأشهر عدم صرفه. قال الحافظ ابن حجر: والتأنيث أكثر؛ ففي «القاموس» :
فارسية معرّبة، وقد تذكّر، جمعها سراويلات، أو جمع «سروال، وسراولة، وسرويل» - بكسرهنّ- وليس في الكلام فعويل غيره، والسّراوين- بالنّون-: لغة في السّراويل، والشّروال- بالشين-: لغة. وفي «المصباح» : الجمهور على أن السّراويل أعجميّة، وقيل: عربيّة؛ جمع سروالة تقديرا، والجمع سراويلات.
واختلف؛ هل لبسها النبي صلّى الله عليه وسلم أم لا؟! فجزم بعض العلماء بأنّه عليه الصلاة والسلام لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النّوويّ في ترجمة عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه من كتاب «تهذيب الأسماء واللغات» أنّه رضي الله عنه لم يلبس السّراويل في جاهليّة ولا إسلام إلّا يوم قتله. فإنّهم كانوا أحرص شيء على اتّباعه صلّى الله عليه وسلم.
لكن قد ورد في حديث عند أبي يعلى الموصلي بسند ضعيف جدا؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت السوق يوما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجلس إلى البزّازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السّوق وزّان يزن، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتّزن وأرجح» .
فقال الوزّان: إنّ هذه الكلمة ما سمعتها من أحد!!. قال أبو هريرة: فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء في دينك أن لا تعرف نبيّك! فطرح الميزان.
ووثب إلى يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يقبّلها، فجذب يده صلّى الله عليه وسلم منه، وقال:
«يا هذا؛ إنّما تفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنّما أنا رجل منكم» ، فوزن وأرجح، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم السّراويل. قال أبو هريرة: فذهبت لأحمله(1/475)
عنه، فقال: «صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله، إلّا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» .
قال: قلت: يا رسول الله؛ وإنك لتلبس السّراويل؟ قال: «أجل! في السّفر والحضر، وباللّيل والنّهار، فإنّي أمرت بالسّتر فلم أجد شيئا أستر منه» .
وكذا أخرجه ابن حبّان في «الضّعفاء» ؛ عن أبي يعلى، ورواه الطّبراني في «الأوسط» ، والدّارقطني في «الأفراد» ، والعقيلي في «الضّعفاء» ؛ ومداره على يوسف بن زياد الواسطيّ وهو واه لا يحتمل تفرّده، بل بالغ ابن الجوزيّ فذكر الحديث هذا في «الموضوعات» ، وتعقّبه السّيوطي، واقتصر الحافظ ابن حجر وغيره على أنّه ضعيف.
لكن صحّ شراء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم للسّراويل من غير هذا الطّريق؛ فقد روى أحمد، وأصحاب «السّنن الأربعة» ، وصحّحه ابن حبّان؛ عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبد بزّا من هجر، فأتينا مكّة، فجاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن بمنى، فساومنا سراويل، فبعناه منه، فوزن ثمنه؛ وقال للوزّان: «زن وأرجح» .
وروى النّسائي وأحمد؛ عن أبي صفوان مالك بن عميرة الأسديّ: أنّه باع من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر رجل سراويل، فلمّا وزن له أرجح له. وهذه القصّة غير الّتي في حديث أبي يعلى؛ لأنّها بعد الهجرة، إذ أبو هريرة إنّما جاء في خيبر.
قال في «الإصابة» : مالك بن عميرة- بفتح العين- وقيل عمير- مصغّرا بلا هاء- حديثه يشبه حديث سويد بن قيس، فقيل إنّهما واحد اختلف في اسمه.
انتهى.
وفي «الهدي النبوي» لابن القيّم: والظّاهر أنّه صلّى الله عليه وسلم إنّما اشتراه ليلبسه، وقد روي أنّه لبس السّراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه، وبإذنه، قال أبو عبد الله الحجازيّ في حاشيته على «الشفاء» : وما قاله في «الهدي» من أنّه صلّى الله عليه وسلم لبس السّراويل!! قالوا سبق قلم. انتهى. من «المواهب» مع زيادة من شرح الزرقاني.(1/476)
ولبس النّعل الّتي تسمّى: التّاسومة.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم ملاءة مصبوغة بالزّعفران، تنقل معه إلى بيوت أزواجه، فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة، فترشّها بالماء، فتظهر رائحة الزّعفران، فينام معها فيها.
(ولبس) صلّى الله عليه وسلم (النّعل الّتي تسمّى) في العرف (التّاسومة) : هي ما له سير يستر بعض الأصابع ممّا يلي أصولها، وبعض ظهر القدم من تلك الجهة.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشّعراني رحمه الله تعالى:
(كان له صلّى الله عليه وسلم ملاءة) - بالضمّ والمدّ-: الإزار، يقال: تملأت: لبست الملاءة، وتصغير الملاءة: مليئة. ورد في الحديث: «وعليه أسمال مليّتين» ؛ تصغير «ملاية» ؛ مثنّاة مخفّفة الهمز. والملاءة: قيل إنّها مرادفة للرّيطة بالفتح-. وقيل: الملاءة الملحفة ذات اللّفقين، فإن كانت ليست ذات لفقين؛ فهي ريطة. انتهى «شرح القاموس» . (مصبوغة بالزّعفران) معروف، يقال:
زعفرت الثّوب: صبغته بزعفران، فهو مزعفر- بالفتح اسم مفعول- (تنقل معه إلى بيوت أزواجه) بالنّوبة، (فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة؛ فترشّها بالماء) ، الظّاهر أنّ القصد برشّها التّبريد، لأنّ قطر الحجاز في غاية الحرّ، ويحتمل أنّها ترشّها بماء ممزوج بنحو طيب كما يفعله النّساء الآن، أو لأجل أن تظهر رائحة الزّعفران منها؛ كما قال: (فتظهر رائحة الزّعفران) منها إذا رشّت بالماء، (فينام معها) - أي: مع صاحبة النّوبة- (فيها) ؛ أي: الملاءة.
روى الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف؛ عن أنس بن مالك: أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان له ملحفة مصبوغة بالورس والزّعفران، يدور بها على نسائه، فإذا كانت ليلة هذه رشّتها بالماء، وإذ كانت ليلة هذه رشّتها بالماء. انتهى.
وفيه حلّ لبس المزعفر والمورّس، ويعارضه بالنسبة للمزعفر حديث الشّيخين: نهى أن يتزعفر الرّجل. وبه أخذ الشّافعيّ، ولا فرق بين ما صبغ قبل(1/477)
وكانت له صلّى الله عليه وسلّم ملحفة مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها وحدها، وربّما لبس الكساء وحده وما عليه غيره.
وكان صلّى الله عليه وسلّم ربّما صلّى باللّيل في الإزار، وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه، وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك.
النّسج وبعده. وأما المورّس! فذهب جمع من أصحابه لحلّه؛ تمسّكا بهذا الخبر، المؤيّد بما صحّ: أنّه كان يصبغ ثيابه بالورس؛ حتّى عمامته. لكن ألحقه جمع بالمزعفر في الحرمة. انتهى «مناوي» .
(و) في «كشف الغمة» و «الإحياء» : (كانت له صلّى الله عليه وسلم ملحفة) - بكسر الميم-: الملاءة الّتي تلتحف بها المرأة (مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها وحدها) . قال العراقيّ: روى أبو داود، والتّرمذيّ؛ من حديث قيلة بنت مخرمة قالت: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعليه أسمال ملاءتين كانتا بزعفران. قال الترمذيّ:
لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن حسّان. قلت: ورواته موثّقون.
ولأبي داود؛ من حديث قيس بن سعد: «فاغتسل، ثمّ ناوله أبي سعد ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها ... » . الحديث. ورجاله ثقات.
(وربّما لبس) صلّى الله عليه وسلم (الكساء وحده وما عليه غيره) . قال العراقي: رواه ابن ماجه، وابن خزيمة؛ من حديث ثابت بن الصّامت: أن النّبي صلّى الله عليه وسلم صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفّف به ... الحديث. وفي رواية البزّار: في كساء. انتهى شرح «الإحياء» .
(و) في «الإحياء» : (كان صلّى الله عليه وسلم ربّما صلّى باللّيل في الإزار وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه) - بضم الهاء وإسكان الدال-: طرف الثوب، (وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك) .
قال العراقيّ: روى أبو داود؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم صلّى في ثوب بعضه عليّ. ولمسلم: كان يصلّي من اللّيل وأنا إلى جنبه،(1/478)
وكانت ثيابه صلّى الله عليه وسلّم كلّها مشمّرة فوق الكعبين، وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق، ...
وأنا حائض، وعليّ مرط وعليه بعضه إلى جنبه.
وللطّبراني في «الأوسط» ؛ من حديث أبي عبد الرّحمن حاضن عائشة رضي الله عنها: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وعائشة يصلّيان في ثوب واحد، نصفه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ونصفه على عائشة. وسنده ضعيف.
(و) في «كشف الغمة» و «إحياء علوم الدين» : (كانت ثيابه صلّى الله عليه وسلم كلّها مشمّرة فوق الكعبين) - مثنى كعب-، واختلف فيه أئمة اللّغة؛ فقال أبو عمرو بن العلاء، والأصمعي، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم عند ملتقى السّاق والقدم، فيكون لكل قدم كعبان؛ عن يمنتها ويسرتها، وقد صرّح بهذا الأزهري وغيره. وقال ابن الأعرابي وجماعة: هو المفصل بين السّاق والقدم. وقيل غير ذلك.
(وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق) ، قال العراقي: روى أبو الفضل محمّد بن طاهر في كتاب «صفوة التصوّف» ؛ من حديث عبد الله بن بسر: «كانت ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إزاره فوق الكعبين، وقميصه فوق ذلك، ورداؤه فوق ذلك» وإسناده ضعيف.
وللحاكم وصححه؛ من حديث ابن عبّاس: كان يلبس قميصا فوق الكعبين ... الحديث، وهو عند ابن ماجه بلفظ: قميصا قصير اليدين والطّول.
وسندهما ضعيف.
وللتّرمذيّ في «الشمائل» ؛ من رواية الأشعث قال: سمعت عمّتي تحدّث عن عمّها؛ فذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وفيه: فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
ورواه النّسائي وسمّى الصّحابي: عبيد بن خالد، واسم عمة الأشعث: رهم بنت الأسود. ولا تعرف!! انتهى.(1/479)
وكان قميصه مشدود الأزرار، وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها.
وعن عبيد بن خالد رضي الله تعالى عنه قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي ...
(وكان قميصه مشدود الأزرار) - واحدها: زرّ بالكسر- (وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها) . قال العراقي: رواه أبو داود، وابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ من رواية معاوية بن قرّة بن إياس قال: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في رهط من مزينة، فبايعناه، وإن قميصه لمطلق الأزرار. وقد تقدّم.
وللبيهقيّ من رواية زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر يصلّي محلول أزراره، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعله.
وللطّبراني؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف:
دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي محتبيا محلّل الأزرار.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي في «السنن» ؛ (عن عبيد بن خالد) - ويقال ابن خلف المحاربيّ، ويقال: عبيد؛ بفتح أوله، ويقال عبيدة؛ بفتح العين وزيادة هاء. وذكره ابن عبد البرّ: بضمّ أوله وبالهاء؛ صحابيّ يعدّ في الكوفيّين- (رضي الله تعالى عنه) له حديث في إسبال الإزار، ذكره في «الإصابة» .
(قال: بينا أنا أمشي بالمدينة؛ إذا إنسان خلفي) ، أي: فاجأني كون إنسان خلفي بين أزمنة كوني أمشي في المدينة. ف «بين» «1» : ظرف للفعل الذي دلّت عليه «إذا» الّتي للمفاجأة، وأصلها: «بين» ، فأشبعت فتحتها فتولّدت الألف، وقد تزاد فيها «ما» ، فيقال: بينما. ولا تضاف «بينا» و «بينما» إلا إلى اثنين فصاعدا،
__________
(1) هكذا في الأصل!! والصواب: بينا؛ بالألف.(1/480)
يقول: «ارفع إزارك فإنّه أتقى وأبقى» ، فإذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي بردة ملحاء، ...
أو ما قام مقامهما؛ كقوله تعالى (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [68: البقرة] . وقدّم المسند إليه للتّخصيص أو للتّقوّي. وعبّر بصيغة المضارع استحضارا للصّورة الماضية، والباء في قوله ب «المدينة» بمعنى «في» . وقوله (يقول) خبر المبتدأ الّذي هو (إنسان) ؛ المخصوص بالوصف، أي: يقول ذلك الإنسان: ( «ارفع إزارك) عن الأرض، وهذا على عادته في نصح أصحابه، (فإنّه) - أي: الرفع- (أتقى) بمثنّاة فوقيّة- أي: أقرب إلى التّقوى، للبعد عن الكبر والخيلاء، وفي رواية:
«أنقى» بالنّون، أي: أنظف، فإنّ الإزار إذا جرّ على الأرض ربّما تعلق به نجاسة فتلوّثه، (وأبقى) - بالباء الموحّدة-؛ أي: أكثر بقاء ودواما.
وفيه إرشاد إلى أنّه ينبغي للّابس الرّفق بما يستعمله، واعتناؤه بحفظه، لأنّ إهماله تضييع وإسراف، فقد علّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أمره بالمصلحة الدّينيّة؛ وهي طهارة القلب أو القالب أوّلا، لأنّها المقصودة بالذّات، وثانيا بالمنفعة الدّنيويّة، فإنّها التّابعة للأخرى.
وفيه إيماء إلى أنّ المصالح الأخرويّة لا تخلو عن المنافع الدّنيويّة.
(فإذا هو) - أي: الإنسان- (رسول الله) ، هكذا في أكثر نسخ «الشمائل» ، وفي بعضها: فالتفتّ فإذا هو رسول الله (صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي) ؛ أي: الإزار- تؤنّث وتذكّر- (بردة) - بضمّ فسكون- كساء صغير مربّع، ويقال كساء أسود صغير، (ملحاء) - بفتح الميم والحاء المهملة وسكون اللّام والمدّ- هي في الأصل: البياض يخالطه سواد، والمراد: بردة سوداء فيها خطوط بيض تلبسها الأعراب.
والظّاهر أنّ هذا جواب لقوله «أبقى» بموحدة، أي: إنّها بردة مبتذلة لا يؤبه لها ليراعي ما يقيها؛ إذ ليست من الثّياب الفّاخرة، وكأنّه يريد أنّ هذا ثوب لا اعتبار(1/481)
قال: «أما لك فيّ أسوة؟!» ، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
ومعنى (ملحاء) : سوداء فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب، ليست من الثّياب الفاخرة. و (الأسوة) : القدوة.
وعن سلمة بن الأكوع ...
به، ولا يلبسه في المجالس والمحافل، وإنّما هو ثوب مهنة؛ لا ثوب زينة، فأجابه صلّى الله عليه وسلم بطلب الاقتداء به حيث:
(قال: «أما) - كلمة «ما» للنفي، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ أي: ليس (لك فيّ) - بتشديد الياء- أي: في أقوالي وأفعالي (أسوة) - بضمّ الهمزة أفصح من كسرها- أي: اقتداء واتباع. ومراده صلّى الله عليه وسلم طلب الاقتداء به، وإن لم يكن في تلك البردة خيلاء؛ سدّا للذّريعة، وكأنّه صلّى الله عليه وسلم علم أنّه لم يفهم مراده فغيّر الأسلوب.
(فنظرت) ، أي: تأمّلت لبسته صلّى الله عليه وسلم؛ (فإذا إزاره) ينتهي (إلى نصف ساقيه) صلّى الله عليه وسلم. قال النّوويّ: القدر المستحبّ فيما ينزل إليه طرف الإزار: نصف السّاقين، والجائز بلا كراهة: ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عنهما؛ إن كان للخيلاء حرم، وإلّا كره، وفي معنى الإزار: القميص وكلّ ملبوس، وهذا في حقّ الرّجل، أما المرأة! فيسنّ لها جرّه على الأرض قدر شبر، وأكثره ذراع؛ ذكره الباجوريّ وغيره.
(ومعنى ملحاء) - بفتح الميم والمهملة بينهما لام ساكنة؛ ممدود-: تأنيث أملح وهي في الأصل: بياض يخالطه سواد، والمراد هنا: بردة (سوداء؛ فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب؛ ليست من الثّياب الفاخرة) ؛ قاله الباجوري.
(و) معنى (الأسوة) - بضم الهمزة وكسرها-: (القدوة) ، أي: الحالة التي يكون عليها الإنسان في اتباع غيره.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن) أبي إياس (سلمة) بن عمرو (ابن الأكوع) ، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله بن قشير بن خزيمة بن مالك بن(1/482)
رضي الله تعالى عنه قال: كان عثمان بن عفّان ...
سلامان بن أسلم الأسلمي؛ شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ ثلاث مرّات: في أول الناس، ووسطهم، وآخرهم.
وكان شجاعا راميا محسنا خيّرا فاضلا، غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات؛ ويقال شهد غزوة مؤتة، روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم سبعة وسبعون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على ستة عشر حديثا، وانفرد البخاريّ بخمسة، وانفرد مسلم بتسعة.
وتوفّي بالمدينة المنورة سنة: أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة (رضي الله تعالى عنه، قال:
كان) أبو عمرو ذو النورين (عثمان بن عفّان) بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكيّ؛ ثم المدني، أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين.
أسلم قديما؛ دعاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة. ويقال له «ذو النورين» !! لأنّه تزوّج بنتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم إحداهما بعد الأخرى، قالوا: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبيّ غيره، تزوّج رقية أوّلا فماتت في أيام غزوة بدر، ثم تزوّج أختها أمّ كلثوم وتوفيت عنده سنة:
تسع من الهجرة.
وكان حسن الوجه، رقيق البشرة، كثّ اللحية، وقد قيل فيهما:
أحسن شيء قد يرى إنسان ... رقيّة وزوجها عثمان
وكان محبّبا في قريش، واشترى بئر رومة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشورى الذين توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهو عنهم راض، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المنفقين في سبيل الله الإنفاق العظيم، وأحد أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
روي له من الحديث مائة حديث وستة وأربعون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم(1/483)
رضي الله تعالى عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي؛ يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله [تعالى] عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضلة ساقي فقال: «هذا موضع الإزار، ...
منها على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، وانفرد مسلم بخمسة.
وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة: خمس وثلاثين؛ وهو ابن تسعين سنة (رضي الله تعالى عنه يأتزر) - بهمزة ساكنة، ويجوز إبدالها ألفا؛ كما في «جمع الوسائل» - أي: يلبس الإزار ويرخيه (إلى أنصاف ساقيه) ، والمراد بالجمع في الأنصاف: ما فوق الواحد بقرينة ما أضيف إليه.
والساق: ما بين الركبة والقدم.
(وقال) ؛ أي: عثمان- على الأظهر- (هكذا) - أي: مثل هذا الاتّزار المذكور- (كانت إزرة) - بكسر أوله-: اسم لهيئة الاتّزار؛ أي كانت إزرة (صاحبي) أي: هيئة ائتزاره هكذا؛ أي: كهذه الهيئة التي رأيتها مني (يعني) ؛ أي: يريد ويقصد عثمان بقوله «صاحبي» : (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) . وقائل ذلك سلمة رضي الله تعالى عنه.
(و) أخرج النسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه، وابن حبّان كلّهم؛ (عن حذيفة بن اليمان) - بكسر النون بلا ياء- لقب والده حسل بن جابر اليماني. أسلم هو وأبوه قبل بدر. وتقدّمت ترجمته (رضي الله عنهما قال) - أي حذيفة-:
(أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعضلة ساقي) العضلة- بفتح العين وسكون الضاد؛ كطلحة، أو [عضلة] بتحريكها-: كلّ عصب له لحم بكثرة. قال الحافظ العراقي:
وهي هنا اللحمة المجتمعة أسفل من الركبة من مؤخّر الساق.
(فقال: «هذا موضع الإزار) - أي: هذا المحلّ موضع طرف الإزار، أو(1/484)
فإن أبيت.. فأسفل، فإن أبيت.. فلا حقّ للإزار في الكعبين» .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رآني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسبلت إزاري فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار.. في النّار» ، نهاية موضع الإزار؛ فهو على حذف مضاف- (فإن أبيت) ! - أي: امتنعت من الاقتصار على ذلك وأردت التجاوز- (فأسفل) - أي: فموضعه أسفل من العضلة بقليل بحيث لا يصل إلى الكعبين-.
(فإن أبيت! فلا حقّ) - أي: فإن امتنعت من الاقتصار على ما دون الكعبين؛ فاعلم أنّه لا حقّ- (للإزار في) وصوله إلى (الكعبين) .
وظاهره أنّ إسباله إلى الكعبين ممنوع، لكن ظاهر رواية البخاريّ: «ما أسفل من الكعبين فهو في النّار» يدلّ على جواز إسباله إلى الكعبين، ويحمل ما هنا على المبالغة في منع الإسبال إلى الكعبين؛ لئلا يجرّ إلى ما تحتهما على وزان خبر «كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .
(و) أخرج الطبرانيّ؛ من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب؛ (عن) أبي عبد الرحمن عبد الله (ابن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما، قال: رآني النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أسبلت إزاري) - أي: أرخيته- (فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» ) . عقابا للابسه.
(و) في البخاري والنسائي؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين) من الرجل (من الإزار في النّار» ) . «ما» موصولة وبعض صلته محذوف؛ وهو «كان» . و «أسفل» خبره فهو منصوب، ويجوز الرفع، أي: ما هو أسفل: أفعل تفضيل، ويحتمل أنّه فعل ماض، ويجوز أنّ «ما» نكره موصوفة ب «أسفل» ؛ ذكره الحافظ ابن حجر.(1/485)
وهو محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الّذي ورد فيه الوعيد.
وقال القسطلّاني: «ما» موصولة في محلّ رفع مبتدأ، و «في النار» الخبر، و «أسفل» خبر مبتدأ محذوف؛ وهو العائد على الموصول، أي: «ما هو أسفل» ، وحذف العائد لطول الصّلة، أو المحذوف «كان» و «أسفل» نصب خبرها، و «من» الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الجنس.
قال الخطّابي: يريد أنّ الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنّى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أنّ الذي دون الكعبين من القدم يعذّب بالنار؛ عقوبة له، وحاصله: أنّه من باب تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حلّ فيه.
انتهى؛ ملخّصا.
وهذا استبعاد لوقوع الإزار في النار. وأصله ما أخرجه عبد الرزاق؛ عن عبد العزيز بن أبي رواد: أنّ نافعا سئل عن ذلك، فقال: وما ذنب الثّياب!! بل هو من القدمين، لكن في حديث ابن عمر المارّ: «كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» .
وأخرج الطبراني بسند حسن؛ عن ابن مسعود: أنّه رأى أعرابيّا يصلي قد أسبل؛ فقال: «المسبل في الصلاة ليس من الله في حلّ ولا حرام» .
ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، فيكون من وادي (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [98/ الأنبياء] ، أو يكون من الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أنّ الذي يتعاطى المعصية أحقّ بذلك؛ ذكره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» .
(وهو) - أي: هذا الإطلاق في الأحاديث المارّة- (محمول على ما ورد من قيد) - بالدال؛ أي: التقييد بحالة- (الخيلاء) - بضمّ الخاء المعجمة وفتح المثناة التحتية؛ ممدود- (فهو الّذي ورد فيه الوعيد) بالاتفاق، ونصّ الشافعيّ على أنّ التحريم مخصوص بالخيلاء، فإن لم يكن لها! كره.(1/486)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرخي إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه.
وقد أخرج أصحاب «السنن» إلّا الترمذيّ واستغربه، وابن أبي شيبة؛ من طريق عبد العزيز بن أبي رواد؛ عن سالم بن عبد الله بن عمر؛ عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرّ منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» فبيّن في هذه الرواية أنّ الحكم ليس خاصّا بالإزار؛ وإن جاء في أكثر طرق الأحاديث بلفظ «الإزار» . قال ابن جرير الطبري:
إنّما ورد الخبر بلفظ «الإزار» !! لأنّ أكثر الناس في عهده صلّى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس القميص والدرائع؛ كان حكمها حكم الإزار في النهي.
قال ابن بطّال؛ تعقّبا على ابن جرير: هذا قياس صحيح لو لم يأت النصّ بالثوب، فإنّه يشمل جميع ذلك، فلا داعية للقياس مع وجود النصّ.
وفي تصوير جرّ العمامة نظر، إذ لا يتأتّى جرّها على الأرض كالثوب والإزار، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات!! لأنّ جرّ كلّ شيء بحسبه، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال.
وهل يدخل في الزجر من جرّ الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه، أم لا يدخل!؟ محلّ نظر لعدم النصّ عليه. والذي يظهر أنّ من أطالها حتّى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين وغيرهم؛ كفلّاحي مصر دخل في ذلك.
وقال الزين العراقي: ما مسّ الأرض منها لا شكّ في تحريمه، بل لو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يبعد. انتهى؛ من «المواهب» وشرحها.
(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن يزيد بن أبي حبيب البصري «1» مرسلا: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرخي) - من أرخى- (إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه) حال المشي؛ لئلا يصيبه نحو قذر؛ أو شوك.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعله: (المصري) .(1/487)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا.. سمّاه باسمه؛ قميصا، أو عمامة، أو رداء، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» .
(و) أخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود، والحاكم، والنسائي في «اليوم والليلة» وابن السّنّي بسند صحيح كلهم؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا) ؛ أي: لبس ثوبا جديدا (سمّاه) أي الثوب (باسمه؛ قميصا) ؛ أي: سواء كان قميصا، (أو عمامة، أو رداء) .
كان يقول «رزقني الله هذه العمامة» . (ثمّ يقول: «اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه) - الضمير راجع إلى المسمى؛ كما قاله الطيبي.
وهذه الجملة تعليل للجملة السابقة أعني «لك الحمد» (أسألك من خيره) أي: الخير الذي يصاحب لبسه كشكر الله تعالى على تيسيره- (وخير ما صنع له) أي: استعماله في طاعة الله وعبادته؛ بأن توفّقني للطاعة فيه كالصلاة، فقوله «وخير ما صنع له» كالتفسير لقوله «من خيره» -.
(وأعوذ بك من شرّه) - أي: الشرّ المصاحب للبسه؛ كالعجب به- (وشرّ ما صنع له) ؛- أي: استعماله في المعاصي، أي: لا يقع مني عصيان فيه؛ كزنا وشرب خمر، وليس المراد أنّه صنع بقصد المعصية كما هو ظاهر الحديث؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
وقال ابن علّان في «شرح الأذكار» : والمراد ما صنع لأجله من خير كحلّه وصلاح نيّة فاعله، أو شرّ كضدّ ذلك. والخير في المقدّمات يستدعي الخير في المقاصد، وكذا الشرّ، وشاهده: «وإنّما يلبّس علينا صلاتنا قوم لا يحسنون الطّهور» .
وقال ميرك: خير الثوب نقاؤه، وكونه ملبوسا للضرورة، والحاجة؛(1/488)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس ثوبا جديدا.. حمد الله تعالى، وصلّى ركعتين، وكسا الخلق.
لا للفخر والخيلاء، وخير ما صنع له هو الضرورات التي من أجلها يصنع اللّباس؛ من الحرّ والبرد، وستر العورة، والمراد من سؤال الخير في هذه الأمور أن يكون مبلّغا إلى المطلوب الذي لأجله صنع الثوب من العون على العبادة والطاعة لمولاه، وفي الشرّ عكس المذكورات؛ وهو كونه حراما؛ أو نجسا، أو لم يبق زمانا طويلا، أو يكون سببا للمعاصي والشرور. انتهى.
قال المناوي: وفيه ندب الذّكر المذكور لكلّ من لبس ثوبا جديدا، والظاهر أنّ ذلك يستحبّ لمن ابتدأ لبس غير الثوب الجديد، بأن كان ملبوسا.
ثم رأيت الزين العراقيّ قال: يستحبّ عند لبس الجديد وغيره، بدليل رواية ابن السني في «اليوم والليلة» : إذا لبس ثوبا. انتهى. وفيه دليل على استحباب افتتاح الدعاء بالحمد لله والثناء عليه؛ ذكره العزيزي.
(وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبا جديدا حمد الله تعالى) - كما تقدّم التصريح به آنفا في الحديث- قال العراقي: روى الحاكم في «المستدرك» ، والبيهقي في «الشّعب» ؛ من حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا بثيابه فلبسها، فلما بلغ تراقيه؛ قال: «الحمد لله الّذي كساني ما أتجمّل به في حياتي وأواري به عورتي» . قال البيهقي: إسناده غير قويّ.
وروى ابن السّنّي؛ من حديث معاذ بن أنس رفعه: «من لبس ثوبا؛ فقال (الحمد لله الّذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة) غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» . انتهى شرح «الإحياء» .
(وصلّى ركعتين) شكرا لله تعالى على هذه النعمة، (وكسا الخلق) بفتحتين-: الثوب البالي للمذكّر والمؤنث، جمعه: خلقان كعثمان.
روى الترمذيّ؛ وقال: غريب، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه؛ من حديث(1/489)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا.. لبسه يوم الجمعة.
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«من لبس ثوبا جديدا؛ فقال: الحمد لله الّذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمّل به في حياتي ثمّ عمد إلى الثّوب الّذي أخلق فتصدّق به؛ كان في حفظ الله، وفي كنف الله عزّ وجلّ، وفي ستر الله حيّا وميتا» .
ورواه كذلك ابن أبي شبية، وابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» ، والطبراني في «الدعاء» كلّهم؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وروى الترمذيّ؛ وقال: حسن غريب؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: «ما من مسلم كسا مسلما ثوبا إلّا كان في حفظ الله ما دام عليه منه خرقة» ، وهو عند ابن النجار: «من كسا مسلما ثوبا كان في حفظ من الله عزّ وجلّ ما بقي عليه منه خرقة» . ورواه الحاكم؛ وتعقّب.
وروى أبو الشيخ؛ بلفظ: «من كسا مسلما ثوبا لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط؛ أو سلك» .
(و) أخرج الخطيب في «تاريخه» بسند ضعيف؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا) ؛ أي: استحدث ثوبا جديدا (لبسه) ؛ أي: ابتدأ لبسه (يوم الجمعة) ، لكونه أفضل أيّام الأسبوع، فتعود بركة يوم الجمعة على الثوب؛ وعلى لابسه، فيطلب لبس الجديد فيه حيث كان أبيض؛ أو غير أبيض، وليس عنده أبيض، وإلّا لبسه لحظة وعمل فيه عملا صالحا، ثم خلعه ولبس الأبيض؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
(و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ، وابن خزيمة في «صحيحه» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال:(1/490)
وكان له صلّى الله عليه وسلّم برد يلبسه في العيدين والجمعة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد.
(كان له صلّى الله عليه وسلم برد) - بضم فسكون-: قال الحفني: أي رداء يرتدي به؛ طوله أربعة أذرع وعرضه ثلاثة أذرع، ولونه الخضرة؛ أي: كما في رواية أخضر.
(يلبسه) - بفتح الموحدة- (في العيدين والجمعة) وكان يتجمّل به للوفود أيضا، وهذا كان منه عبادة، لأنّه مأمور بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط عن أعينهم لم يرغبوا في اتباعه؛ فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين العوامّ تمتدّ إلى الظاهر؛ دون السرائر. ولله درّ من قال وأحسن في المقال:
قيمة المرء فضله عند ذي الفض ... ل وما في يديه عند الرّعاع
فإذا ما حويت علما ومالا ... صرت عين الزّمان بالإجماع
وإذا منهما غدوت خليّا ... كنت في النّاس من أخس المتاع
وأخذ من ذلك الإمام الرافعي أنّه يسنّ للإمام يوم الجمعة أن يزيد في حسن الهيئة واللباس ويتعمّم ويرتدي، وأيّده ابن حجر بخبر الطبراني؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان له ثوبان يلبسهما في الجمعة، فإذا انصرف طوينا هما إلى مثله.
فائدة: ذكر الواقدي أنّ طول ردائه صلّى الله عليه وسلم كان ستّة أذرع في عرض ثلاثة، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين؛ لا ذراعين وشبر، وأنّه كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. انتهى؛ نقله المناوي في «شرح الكبير؛ على «الجامع الصغير» .
وسيأتي الكلام على مقدار ذرعهما.
(وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد) ليبيّن حلّ لبس ذلك.
روى البيهقي في «سننه» ؛ من حديث حفص بن غياث بن الحجاج؛ عن أبي جعفر؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة.(1/491)
وكان صلّى الله عليه وسلّم برد حبرة يلبسه في كلّ عيد.
ومرّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ...
ورواه الطبراني؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الهيثمي: رجاله ثقات.
وفي ذلك ردّ على من كره لبس الأحمر القاني؛ وزعم أنّ المراد بالأحمر هنا ما هو ذو خطوط حمر: تحكّم لا دليل عليه.
قال في «المطامح» : ومن أنكر لباس الأحمر؛ فهو متعمّق جاهل، وإسناده لمالك باطل؛ قاله المناوي في «الكبير» .
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان له صلّى الله عليه وسلم برد حبرة) - بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة؛ بوزن عنبة-: ثوب يمانيّ من قطن، أو كتّان مخطّط؛ يقال (برد حبرة) على الوصف، و (برد حبرة) على الإضافة، وهو أكثر في استعمالهم، والجمع: حبر وحبرات، مثل عنب وعنبات.
قال الأزهري: ليس حبرة موضعا، أو شيئا معلوما، إنّما هو وشي معلوم أضيف الثوب إليه، كما قيل «ثوب قرمز» بالإضافة، والقرمز: صبغة. فأضيف الثوب إلى الوشي والصبغ للتوضيح. انتهى «مصباح» . ونحوه في «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي.
(يلبسه في كلّ عيد) يتجمل به كعادته في التجمّل للعيد والوفود.
(ومرّ) أمير المؤمنين سيدنا أبو حفص (عمر بن الخطّاب) بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي المدني (رضي الله تعالى عنه) .
أسلم قديما؛ بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة؛ بعد دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار الأرقم؛ فظهر الإسلام بمكّة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهّادهم.(1/492)
مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّوق فرأى حلّة من سندس ...
وهو أوّل من سمّي أمير المؤمنين، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا وأحدا، والخندق وبيعة الرّضوان، وخيبر والفتح وحنينا والطائف وتبوك وسائر المشاهد.
وكان شديدا على الكفّار والمنافقين، وأجمع السّلف على كثرة علمه ووفور فهمه، وزهده وتواضعه، ورفقه بالمسلمين وإنصافه، ووقوفه مع الحقّ وتعظيمه آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشدّة متابعته له، واهتمامه بمصالح المسلمين وإكرامه أهل الفضل والخير.
وفضائله أكثر من أن تحصى، ومحاسنه أوفر من أن تستقصى؛ رضي الله تعالى عنه.
روي له عن النبي صلّى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم منها على ستة وعشرين حديثا، وانفرد البخاريّ بأربعة وثلاثين، وانفرد مسلم بأحد وعشرين.
وطعن رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم سنة: أربع وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما.
وقيل غير ذلك في مدّة الخلافة، وتاريخ الطعن والوفاة، وعمره ثلاث وستّون سنة على الصحيح المشهور، كما أنّ سنّ النبي صلّى الله عليه وسلم وسنّ أبي بكر وعليّ وعائشة ثلاث وستّون سنة- على الصحيح- رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.
(مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بالسّوق) - بضمّ المهملة؛ مؤنّث سماعي وقد يذكّر، كما أشار إليه الكرماني-، سمّيت بذلك لسوق البضائع إليها، وقيل: لقيام الناس فيها على سوقهم؛ جمع ساق. وقيل: لتصاكك السّوق فيها من الازدحام؛ ذكره في «شرح الأذكار» . وفي كثير من الروايات: أنّ ذلك عند باب المسجد.
(فرأى) ؛ أي: عمر رجلا يسمّى عطاردا التميمي يقيم (حلّة من سندس)(1/493)
فقال: يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد، فقال: «إنّما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» .
يعرضها للبيع، وكان عطارد رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم. وفي رواية: حلّة من إستبرق. وفي أخرى: من ديباج، أو حرير. وفي رواية: حلّة سيراء:
والحلّة: ثوبان من جنس. قال في «القاموس» : الحلّة- بالضم- إزار ورداء مثل برد أو غيره، ولا تكون إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة.
وفي «المصباح» : الحلّة لا تكون إلا من ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل، كغرفة وغرف- وقد مرّ الكلام على الحلّة-.
والديباج: ثوب متّخذ من إبريسم، والسيراء- بسين مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية مفتوحة ثم راء ثم ألف ممدودة-: برود يخالطها حرير متضلّعة بالحرير. قالوا كأنها شبهت خطوطها بالسّيور. والإستبرق: غليظ الديباج.
(فقال) ؛ أي: عمر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد!) . لفظ الحديث: عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلّة سيراء عند باب المسجد؛ فقال: يا رسول الله؛ لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك!! وفي رواية: فقال: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمّل بها للعيد وللوفد.
(فقال) رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ( «إنّما يلبس هذه) - الثياب الحرير- (من لّا خلاق له في الآخرة» ) يعني: من لا حظّ له ولا نصيب له من لبس الحرير في الآخرة، فعدم نصيبه كناية عن عدم دخوله الجنة؛ ولباسهم فيها حرير. وهذا إن استحلّ، وإلّا! فهو تهويل وزجر. وقيل: معناه من لا حرمة له. وقيل: من لا دين له.
وتمام الحديث:
ثمّ جاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها حلل، فأعطى عمر منها حلّة، فقال عمر:
يا رسول الله؛ كسوتنيها؛ وقد قلت في حلّة عطارد ما قلت!؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم(1/494)
وكانت الصّحابة ...
«إنّي لم أكسكها لتلبسها» . فكساها عمر أخا له مشركا بمكّة. رواه البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه- واللفظ لمسلم-.
وفيه دليل لتحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، وإباحة هديّته، وإباحة ثمنه، وجواز إهداء المسلم إلى المشرك ثوبا وغيره، واستحباب لبس أنفس ثيابه يوم الجمعة والعيد؛ وعند لقاء الوفود ونحوهم، وعرض المفضول على الفاضل؛ والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه التي قد لا يذكرها، وفيه صلة الأقارب والمعارف؛ وإن كانوا كفّارا.
وقد يتوهّم متوهّم أنّ فيه دليلا على أن رجال الكفّار يجوز لهم لبس الحرير!! وهذا وهم باطل، لأن الحديث إنّما فيه الهدية إلى كافر، وليس فيه الإذن له في لبسها. وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك إلى عمر وعليّ وأسامة رضي الله عنهم، ولا يلزم منه إباحة لبسها لهم، بل صرّح صلّى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات بأنّه إنّما أعطاه لينتفع بها بغير اللبس.
والمذهب الصحيح الّذي عليه المحقّقون والأكثرون: أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ فيحرم عليهم الحرير كما يحرم على المسلمين. والله أعلم؛ قاله النووي في «شرح مسلم» .
(وكانت الصّحابة) - قال في «شرح الأذكار» : بفتح الصاد في الأصل مصدر، قال الجوهري: ويقال: صحبه وصحب به.
والصحابة: بمعنى الأصحاب واحده «صاحب» بمعنى الصحابي:
وهو من اجتمع بنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم مؤمنا به بعد نبوّته في حال حياة كلّ؛ اجتماعا متعارفا بأن يكون في الأرض على العادة، بخلاف ما يكون في السماء، أو بين السماء والأرض؛ وإن لم يره؛ أو لم يرو عنه شيئا، أو لم يميّز- على الصحيح-.
وأمّا قولهم «ومات على الإسلام» !! فهو شرط لدوام الصحبة؛ لا لأصلها.
وقيل في تعريفه غير ذلك.(1/495)
.........
وتعرف الصحبة: 1- بالتّواتر، أو 2- الاستفاضة، أو 3- قول صحابيّ، أو 4- قوله (أنا صحابي) إذا كان عدلا؛ وأمكن ذلك، فإن ادّعاه بعد مائة سنة من وفاته صلّى الله عليه وسلم فإنّه لا يقبل. وزاد ابن حجر 5- أن يخبر آحاد التابعين بأنّه صحابيّ؛ بناء على قبول التزكية من واحد- وهو الراجح-.
والصحابة كلهم عدول؛ من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به.
وأكثرهم حديثا أبو هريرة، ثم ابن عمر، ثم أنس بن مالك، ثم عائشة أم المؤمنين، ثم ابن عبّاس، ثم جابر بن عبد الله، ثم أبو سعيد الخدري. وقد نظمهم من قال:
سبع من الصّحب فوق الألف قد نقلوا ... من الحديث عن المختار خير مضر
أبو هريرة سعد جابر أنس ... صدّيقة وابن عبّاس كذا ابن عمر
وأكثرهم فتيا ابن عبّاس؛ قاله أحمد ابن حنبل.
وقال ابن حزم: أكثر الصحابة فتوى مطلقا سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وزيد بن ثابت، وعائشة. قال: ويمكن أن يجمع من فتيا كلّ واحد من هؤلاء مجلّد ضخم.
قال: ويليهم عشرون: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأمّ سلمة.
قال: ويمكن أن يجمع من فتيا كلّ واحد منهم جزء صغير.
قال: وفي الصحابة نحو مائة وعشرين نفسا يقلّون في الفتيا جدّا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث؛ كأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد. ثمّ سرد الباقين. انتهى نقله عن السيوطي رحمه الله تعالى.
ومن الصحابة العبادلة؛ وهم ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن(1/496)
.........
عمرو بن العاص. وليس ابن مسعود منهم، لأنّه تقدّم موته قبل حدوث الاصطلاح، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم فإذا اجتمعوا على شيء قيل «هذا قول العبادلة» ، وكذا ليس منهم من يسمّى عبد الله من الصحابة، فلا يطلق عليهم العبادلة؛ وهم جماعة يبلغون نحو ثلثمائة رجل.
قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه، وأفضلهم على الإطلاق أبو بكر الصدّيق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تعالى عنهما بإجماع أهل السنة، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب، هذا قول جمهور أهل السنة.
قال أبو منصور البغداديّ: أصحابنا مجمعون على أنّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم تمام العشرة المشهود لهم بالجنة: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة: عامر بن الجراح، ثم أهل بدر وهم ثلثمائة وبضعة عشر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
وممّن له مزيّة أهل العقبتين من الأنصار، والسابقون الأوّلون؛ وهم من صلّى إلى القبلتين.
ووردت أحاديث في تفضيل أعيان من الصحابة مذكورة في كتب السنة؛ فلتراجع من هناك.
وأوّل الصحابة إسلاما! قيل: أبو بكر الصديق، وقيل: علي، وقيل: زيد، وقيل: خديجة؛ وهو الصواب عند جماعة من المحققين. والأورع أن يقال أوّل من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال.
وآخرهم موتا على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي وفضائلهم كثيرة شهيرة نكتفي منها بهذا القدر.(1/497)
رضي الله تعالى عنهم يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ، والمصبّغات من الثّياب.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير الجمعة، ...
(رضي الله تعالى عنهم) أجمعين آمين، ورزقنا محبّتهم والأدب معهم، وحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحب الحوض المورود والمقام المحمود صلّى الله عليه وسلم.
(يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد) مأخوذ من العود؛ وهو التكرار لتكرّره كلّ عام، أو لعود السرور بعوده، أو لكثرة عوائد الله تعالى؛ أي: إفضاله على عباده فيه، أو لعود كلّ فيه لقدره ومنزلته، هذا يضيف وذاك يضاف، وذا يرحم وذاك يرحم. وأصله: عود؛ قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وجمع على أعياد، مع أنّ كون أصله الواو يقتضي جمعه على أعواد؛ فرقا بذلك بينه وبين أعواد الخشب. انتهى شرح الأذكار» .
(أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ) - بضمّ أوّله مع كسر اللام وتشديد الياء- واحده حلي- بفتح الحاء وإسكان اللام-: اسم لكلّ ما يتزيّن به من مصاغ الذهب والفضّة، (والمصبّغات) - بتشديد الموحدة- (من الثّياب) - مما يجوز لبسه؛ كالمصبوغ بالورس والعصفر- على الخلاف-، وهي من أحسن الثياب الموجودة في ذلك العصر، لأنّه يسنّ التزيّن بأحسن الثياب وأرفعها قيمة في العيدين، والجديد أولى؛ ولو كان غير أبيض في العيدين- بخلاف الجمعة- فإنّ الأبيض فيها أفضل من غيره؛ ولو كان الغير جديدا وذا قيمة. والفرق: أن القصد في العيد: إظهار النعم وإشهار الزينة؛ وهما بالأرفع قيمة أنسب، والقصد في الجمعة: إظهار التواضع.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني، و «إحياء علوم الدين» للإمام حجّة الإسلام الغزالي: (كان له صلّى الله عليه وسلم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير الجمعة) .(1/498)
وربّما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره؛ يعقد طرفيه بين كتفيه، وربّما أمّ به النّاس على الجنائز، وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه، ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ.
قال العراقيّ: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ؛ من حديث عائشة بسند ضعيف- زاد: فإذا انصرف طويناهما إلى مثله. وقد تقدّم قريبا في الشرح، ويعارضه حديث عائشة عند ابن ماجه: ما رأيته يسبّ أحدا، ولا يطوى له ثوب.
قلت: ويمكن الجمع بينهما بأن يستثنى؛ أي: غير ثوبي الجمعة. وقد تقدّم أنّه كان له برد أخضر يلبسه للجمعة والعيد.
(وربّما لبس) صلّى الله عليه وسلم (الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه) .
قال العراقي: روى الشيخان؛ من حديث عمر في حديث اعتزاله أهله: فإذا عليه إزاره، وليس عليه غيره.
وللبخاريّ؛ من رواية محمد بن المنكدر صلى بنا جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب. وفي رواية له: وهو يصلّي في ثوب ملتحفا به ورداؤه موضوع. وفيه: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي هكذا.
(وربّما أمّ به النّاس على الجنائز) . قال العراقي: لم أقف عليه.
(وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه) ؛ يدلّ له حديث جابر السابق آنفا. (ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ) .
قال العراقيّ: روى أبو يعلى بإسناد حسن؛ من حديث معاوية قال: دخلت على أمّ حبيبة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم؛ فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، فقلت: يا أمّ حبيبة؛ أيصلّي النبي صلّى الله عليه وسلم في الثوب الواحد!؟ قالت: نعم، وهو الذي كان فيه ما كان- يعني: الجماع-. ورواه الطبراني في «الأوسط» .(1/499)
وكان إذا قدم عليه الوفد.. لبس أحسن ثيابه، وأمر علية أصحابه بذلك. وكان رداؤه صلّى الله عليه وسلّم طوله ستّة أذرع، في ثلاثة وشبر. وكان إزاره أربعة وشبرا، في عرض ذراعين وشبر.
(و) أخرج البغويّ في «معجمه» ؛ عن جندب بن مكيث- بوزن عظيم؛ آخره مثلثة؛ ابن عمر بن جراد، مديني له صحبة- عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد) - جمع وافد؛ كصحب جمع صاحب، يقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة؛ إذا خرج إلى نحو ملك لأمر- (لبس أحسن ثيابه) لأنّه أهيب وأدعى لامتثال أمره والعمل بوعظه، وسيأتي قريبا في الشرح أنّ ثوبه الذي كان يخرج فيه إلى الوفد القادمين عليه أخضر. (وأمر علية) - بكسر العين وسكون اللام- (أصحابه) ؛ أي: معظمهم؛ وهم: من كان عنده ثياب حسنة أمره (بذلك) ؛ أي: بلبسها، لأنّ ذلك يرجّح في عين العدو ويكبته، فهو يتضمّن إعلاء كلمة الله تعالى ونصر دينه وغيظ عدوّه، فلا يناقض ذلك خبر «البذاذة من الإيمان» ، لأنّ التجمّل المنهيّ عنه ثمّ: ما كان على وجه الفخر والتعاظم، وليس ما هنا من ذلك القبيل. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
وقال في «شرح الشمائل» : ويسنّ لكلّ أحد مؤكّدا حسن الهيئة ومزيد التجمّل، والنظافة في الملبوس، لكن المتوسّط نوعا بقصد التواضع أفضل من الأرفع، فإن قصد به إظهار النعمة والشكر عليها! احتمل التساوي للتعارض، وأفضلية الأول!! لكونه لا حظ فيه للنفس بوجه وأفضلية الثاني للخبر الحسن:
«إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» .
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان رداؤه صلّى الله عليه وسلم طوله ستّة أذرع في ثلاثة وشبر، وكان إزاره أربعة وشبرا في عرض ذراعين وشبر) .
قال ابن حجر الهيتمي: وكان إزاره صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع وشبرا؛ في عرض ذراعين وشبر، وكان طول ردائه ستّة أذرع؛ وعرضه ثلاثة أذرع وشبرا، أو شبرين.(1/500)
ولبس صلّى الله عليه وسلّم الأبراد الّتي فيها خطوط حمر.
وكان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص.
وقيل: أربعة أذرع ونصف؛ في عرض ذراعين وشبر. وقيل: أربعة أذرع؛ في عرض ذراعين ونصف. انتهى؛ نقله المناويّ في «شرح الشمائل» .
وتعقّبه بقوله: «وفي بعض ما ذكره نظر!! فقد روى أبو الشيخ في كتاب «أخلاق المصطفى صلّى الله عليه وسلم» من رواية عروة بن الزبير مرسلا: كان طول رداء النبي صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع وعرضه ذراعين ونصف ... الحديث. قال الحافظ العراقيّ: وفيه ابن لهيعة.
وفي «طبقات ابن سعد» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان له إزار من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر.
وفي «الوفا» لابن الجوزي: كان طول إزاره أربعة أذرع وعرضه ذراعين ونصفا. وروى الدّمياطي: أنّ رداءه الذي كان يخرج فيه للوفود أخضر في طول أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر. انتهى كلام المناوي.
(ولبس صلّى الله عليه وسلم الأبراد) - جمع برد؛ وهو عند أهل اللسان: ثوب مخطّط، والمراد هنا الأبراد (الّتي فيها خطوط حمر) ، لا بحتا، إذ لو كانت كذلك لا تكون برودا.
روى الطبراني؛ من حديث ابن عبّاس أنّه كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الحافظ الهيثمي: ورجاله ثقات. وروى البيهقيّ في «السنن» : أنّه كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. انتهى مناوي؛ على «الشمائل» .
قال في «جمع الوسائل» : وأمّا ما روي «أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» !! فمحمول على المخطّط بخطوط حمر؛ كما يدلّ عليه البرد. انتهى.
(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص) ، ففي «صحيح مسلم» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما(1/501)
.........
قال: رأى النبي صلّى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين؛ فقال: «إنّ هذا لباس الكفّار، فلا تلبسهما» .
وفي «صحيح البخاري» من حديث طويل؛ عن البراء أنّه صلّى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر. قال ابن القيّم: فالأحمر البحت منهيّ عنه أشدّ النهي، وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرهما نظر، وأمّا كراهته! فشديدة. وأورد الحديثين السابقين.
والجواب عن الحديث الأوّل: أنّه إنّما نهى ابن عمر عن ذلك!! لأنّه لباس الكفار؛ وكانوا كثيرا، لا لكونه أحمر فمحطّ النهي التشبّه بهم. وقد ارتفع ذلك فصار داخلا في عموم المباح.
والجواب عن حديث البراء: أنّه يحتمل أن المياثر من حرير، فنهى عنها لأجله، ويحتمل أن يكون النهي لحمرتها، فلا حجّة فيه.
قال النووي: اختلف العلماء في الثياب المعصفرة؛ وهي المصبوغة بعصفر!! فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك؛ لكنه قال: غيرها أفضل منها، فهي خلاف الأولى.
وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، ومن هؤلاء مالك والشافعي في المعتمد من مذهبيهما، وحملوا النهي الوارد في «الصحيحين» عن أنس: نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل!! حملوه على هذا المذكور من كراهة التنزيه، لأنّه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام لبس حلّة حمراء؛ فلبسه لبيان الجواز لا ينافي نهيه، لأنّ النهي للكراهة، والفعل لبيان الجواز.
وفي «الصحيحين» ؛ من حديث ابن عمر أنّه صلّى الله عليه وسلم صبغ بالصّفرة؛ أي:
الورس، كما في رواية أبي داود. وأمّا حديث عمران عند الطبراني: «إيّاكم والحمرة، فإنّها أحبّ الزّينة إلى الشّيطان» !! ففي إسناده ضعف، وحديث رافع بن خديج: «أنّه صلّى الله عليه وسلم رأى الحمرة قد ظهرت فكرهها» رواه أحمد!! لا يدلّ(1/502)
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالبياض من الثّياب؛ ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم؛ فإنّها من خير ثيابكم» .
على التحريم لحمل الكراهة على التنزيه؛ جمعا بين الأدلّة. انتهى ملخصا من «المواهب» للقسطلاني؛ مع شيء من الشرح.
قلت: قال في «بشرى الكريم» : نصّ أصحابنا- معاشر الشافعية- على حرمة لباس الثوب المزعفر، وكذا نصّوا على حرمة المعصفر؛ سواء صبغ قبل نسجه أم بعده؛ أخذا بإطلاقهم كما صحّت به الأحاديث، واختاره البيهقي وغيره.
ولم يبالوا بنصّ الشافعي على حلّه، ولا بكون جمهور العلماء على حلّه.
وجرى محمد الرملي والخطيب الشربيني على حلّ المعصفر مطلقا. والمعتمد في المورّس حلّه، لما صحّ أنّه صلّى الله عليه وسلم كان يصبغ ثيابه بالورس حتّى عمامته، ويحلّ استعمال الورس والزّعفران في البدن على خلاف كبير. انتهى كلام «بشرى الكريم» .
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالبياض) - أي: الزموا لبس الأبيض، ف «عليكم» اسم فعل بمعنى «الزموا» . والمراد من البياض الأبيض، بولغ فيه حتّى كأنّه عين البياض على حدّ «زيد عدل» كما يرشد لذلك بيانه بقوله- (من الثّياب، ليلبسها) - بلام الأمر وفتح الموحدة- (أحياؤكم) - أي: البسوها وأنتم أحياء، فيسنّ لبسها، ويحسن إيثارها في المحافل كشهود الجمعة وحضور المسجد والمجالس التي فيها مظنّة لقاء الملائكة؛ كمجالس القراءة والذّكر- (وكفّنوا) أي: لتكفنوا أو هو التفات- (فيها موتاكم) - أي: لمواجهة الميت للملائكة، وقد تقدّم أنّها تطلب لمظنّة لقاء الملائكة- (فإنّها) - أي: البيض- (من خير ثيابكم» ) . وهذا بيان لفضل البياض من الثياب، ويليها الأخضر، ثم الأصفر.(1/503)
وفي «المواهب» : عن عروة: ...
واعلم أنّ وجه إدخال هذا الحديث في باب لباسه صلّى الله عليه وسلم لا يخلو عن خفاء، إذ ليس فيه تصريح بأنّه كان يلبس البياض، لكن يفهم من حثّه على لبس البياض أنّه كان يلبسه، وقد ورد التصريح بأنّه كان يلبسه فيما رواه الشيخان؛ عن أبي ذر حيث قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض ... الحديث.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحثّ على لبس الأبيض من الثياب؛
منها: ما أخرجه الترمذي في «الشمائل» ؛ عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البسوا البياض، فإنّها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم» .
ومنها ما أخرجه أصحاب «السنن» ؛ عن سمرة بن جندب: «عليكم بهذه الثّياب البيض، ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم» وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد، وابن سعد، والروياني، والطبراني، والبيهقي، والضياء بزيادة: «فإنّها من خير ثيابكم» .
ومنها ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم وغيرهما؛ من حديث ابن عبّاس: «خير ثيابكم البيض، فالبسوها أحياء، وكفّنوا فيها موتاكم» . قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. انتهى شرح «الإحياء» ؛ مع زيادة.
(وفي «المواهب) اللّدنّيّة» للعلّامة القسطلّاني؛ (عن) أبي عبد الله (عروة) بن الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشي الأسدي المدني، التابعي الجليل، فقيه المدينة المنورة، أحد الفقهاء السبعة.
سمع أباه، وأخاه: عبد الله، وأمّه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وسعيد بن زيد، وحكيم بن حزام، وابنه هشام بن حكيم، والعبادلة الأربعة.
وغيرهم من الصحابة والتابعين.
روى عنه عطاء، وابن أبي مليكة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والزهري،(1/504)
أنّ طول رداء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر. وفيها: لطيفة: قيل: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يبدو منه إلّا طيب.. كان آية ذلك في بدنه الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب. قيل: ولم يقمل ثوبه.
وقال ابن سبع في «الشّفا» ، والسّبتيّ ...
وعمر بن عبد العزيز، وبنوه: هشام ومحمد ويحيى وعبد الله وعثمان؛ بنو عروة، وخلائق من التابعين وغيرهم.
وكان بحرا لا يكدّر، وكان ثقة كثير الحديث، فقيها عالما، مأمونا ثبتا، وهو مجمع على جلالته وعلوّ مرتبته ووفور علمه. ومناقبه كثيرة مشهورة.
ووفاته سنة: - 94- أربع وتسعين من الهجرة في قول الجمهور. وقال البخاري: سنة: - 99- تسع وتسعين، رحمه الله تعالى:
(أنّ طول رداء النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر) وعزاه لتخريج الدمياطي وهو مرسل، ورواه أبو الشيخ في «الأخلاق النبوية» ؛ عن عروة بلفظ:
وعرضه ذراعان ونصف. قال الحافظ العراقي: وفيه ابن لهيعة.
(وفيها) ؛ أي «المواهب» : (لطيفة) :؛ (قيل: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يبدو) : يظهر (منه إلّا طيب كان آية) : علامة (ذلك في بدنه) : جسده (الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب) ، فما اتّسخ له ثوب قطّ. (قيل: ولم يقمل) بفتح الميم- (ثوبه) قطّ، أي: لم يوجد فيه شيء من قمل؛ وإن كانت المادة للتكثير.
(وقال) أبو الربيع سليمان (بن سبع) - بإسكان الموحدة وقد تضم- (في) كتاب ( «الشّفا» ، و) قال (السّبتيّ) - بفتح السين وسكون الموحدة ففوقية نسبة إلى «سبتة» : مدينة بالمغرب. وجزم الرشاطي بأن «سبتة» بالفتح، والتي ينسب إليه السّبتي- بالكسر-؛ قاله ابن حجر في «التبصير» .(1/505)
في «أعذب الموارد وأطيب الموالد» : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ قال: ونقل الفخر الرّازيّ: ...
(في) كتاب ( «أعذب الموارد وأطيب الموالد» ) «1» ؛ قالا:
(لم يكن القمّل يؤذيه) لعدم وجوده في ثيابه؛ (تعظيما له، وتكريما صلّى الله عليه وسلم) ، ولفظ ابن سبع: لم يكن فيه قمل لأنّه نور، ولأنّ أصل الذباب من العفونة؛ ولا عفونة فيه، وأكثره من العرق؛ وعرقه طيب!!
لكن يشكل عليه ما رواه أحمد والترمذي في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ومن لازم التفلّي وجود شيء يؤذيه في الجملة: إمّا قملا؛ أو برغوثا، أو نحو ذلك.
ويمكن أن يجاب بأن التفلّي لاستقذار ما علق بثوبه الشريف من غيره، ولو لم يحصل منه أذى في حقّه صلّى الله عليه وسلم. وهذا فيه بحث، لأنّ أذى القمل هو غذاؤه من البدن على ما أجرى الله العادة، وإذا امتنع الغذاء لا يعيش الحيوان عادة.
(ثمّ قال) ؛ أي: القسطلّاني في «المواهب» : (ونقل الفخر الرّازيّ) بالراء والزاي بينهما ألف آخره ياء- نسبة إلى الري؛ وهي: مدينة كبيرة مشهورة من بلاد الدّيلم بين قومس والجبال، وألحقوا الزاي في النسب على خلاف القياس.
وهو الإمام المفسّر المتكلّم الأصولي: محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري الشافعي، أبو المعالي وأبو عبد الله؛ المعروف ب «الفخر الرازي» ، ويقال له «ابن الخطيب» ؛ أي: خطيب الري.
وأصله من طبرستان، ومولده في الري سنة: - 543- ثلاث- أو أربع- وأربعين وخمسمائة، ورحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان؛ حتّى صار أحد الفقهاء الشافعية الفحول، وأوحد زمانه في المعقول والمنقول، وإمام الدنيا في عصره بلا مدافع، رئيس المتكلّمين والمحققين في وقته بلا منازع.
__________
(1) هكذا في الأصل. والصواب عكسه، إذ «الشفاء» للسبتي؛ و «أعذب الموارد» لابن سبع.(1/506)
إنّ الذّباب لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض.
وألّف المؤلفات النافعة المشهورة نحو مائتي مصنّف؛ منها التفسير الحافل المسمّى «مفاتيح الغيب» في ثمانية مجلدات، وكتاب «المحصول في علم الأصول» ، و «المطالب العالية في علم الكلام» .
وأقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها، وكان يحسن الفارسية، وكان معظّما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلاد شتّى، وكان يعظ ويحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء، والعلماء والأمراء، والفقراء والعامة.
وكان له عبادات وأوراد، ولا كلام في فضله، وكان مع غزارة علمه في فنّ الكلام يقول: «من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز» .
وكانت وفاته في ذي الحجة، قيل: بسبب السّمّ، لأن الكرّامية كانوا يبغضونه لتزييفه مذهبهم وإقامة الحجج والبراهين عليهم، فدسوا عليه من سقاه سمّا، فمات ففرحوا بموته، وذلك سنة: - 606- ست وستمائة هجرية رحمه الله تعالى.
(إنّ الذّباب) . اسم جنس؛ واحده ذبابة يقع على المذكّر والمؤنّث، ويجمع الذباب على «ذبّان» - بالكسر- كغربان، و «ذبّان» - بالضم- كقضبان، وعلى أذبّة كأغربة، وهو أجهل الحيوانات لأنّه يرمي نفسه في المهلكات، ومدّة حياته أربعون يوما، وأصل خلقته من العفونات، ثم يتوالد بعضه من بعض؛ يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود يرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذبّ:
إذا طرد، وآب: إذا رجع، لأنّك تذبّه فيرجع عليك. انتهى «حواشي الجلالين» .
(لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض) . وتعقّب ذلك كلّه بعضهم بعدم ثبوته؛ قاله الزرقاني.
والبعوض!! قال في «الخازن» : صغار البقّ، وهو من عجيب خلق الله(1/507)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس قلنسوة بيضاء.
و (القلنسوة) : غشاء مبطّن يستر الرّأس.
تعالى، فإنّه في غاية الصّغر؛ وله ستة أرجل وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم مجوّف، وهو مع صغره يغوّص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل؛ فيبلغ منه الغاية حتّى إنّ الجمل يموت من قرصته. انتهت عبارته.
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ، وأبو الشيخ، والبيهقيّ في «الشعب» ، عن ابن عمر بن الخطاب قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس قلنسوة) - بفتح القاف واللام وسكون النون وضم السين المهملة وفتح الواو- من ملابس الرأس كالبرنس الذي تغطى به العمامة من نحو شمس ومطر؛ قاله المناوي.
(بيضاء) ، وفي رواية لابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن عائشة: كان يلبس قلنسوة بيضاء لاطئة. أي: لاصقة برأسه غير مقبية. أشار به إلى قصرها وخفّتها.
وأخرج أبو الشيخ؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث قلانس: قلنسوة بيضاء مضرّبة، وقلنسوة برد حبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر، وربّما وضعها بين يديه إذا صلّى. وإسناده ضعيف.
قال الحافظ العراقي في «شرح الترمذي» : وأجود إسناد في القلانس ما رواه أبو الشيخ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يلبس القلانس في السّفر ذوات الآذان، وفي الحضر المضمرة- يعني الشامية-.
(والقلنسوة) بوزن: فعنلوة، قال الفرّاء في «شرح الفصيح» : هي (غشاء) أسود؛ أو أبيض أو غيرهما (مبطّن) - بتشديد الطاء المهملة وآخره نون- أي: له بطان، أي: يشتمل على بطانة وظهارة، وقد لا يكون له بطان.
(يستر الرّأس) ، أي: يلبس في الرأس وتلفّ عليه العمامة كالطربوش ونحوه.(1/508)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم، ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة، ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحرب.
وكان ربّما نزع قلنسوته، فجعلها سترة بين يديه وهو يصلّي، وربّما لم تكن العمامة، فيشدّ العصابة على رأسه وعلى جبهته.
(و) أخرج الرّوياني في «مسنده» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يلبس القلانس) - جمع قلنسوة- (تحت العمائم) جمع عمامة- (و) تارة يلبسها (بغير العمائم) .
الظاهر أنّه كان يفعل ذلك في بيته، وأمّا إذا خرج للناس؛ فيظهر أنّه كان لا يخرج إلّا بالعمامة يلفّها عليها للهيبة الباعثة على امتثال أمره.
(ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة) ؛ أي: المحشوّة، (ويلبس القلانس ذوات الآذان في الحرب) ، حال كونه في الحرب.
(وكان ربّما نزع قلنسوته) من فوق رأسه؛ (فجعلها سترة بين يديه؛ وهو يصلّي) ، الظاهر أنّه كان يفعل ذلك عند عدم تيسّر ما يستتر به، أو بيانا للجواز.
قال بعض الشافعية فيه وفيما قبله: لبس القلنسوة اللاطئة بالرأس والمرتفعة، والمضربة وغيرها؛ تحت العمامة وبلا عمامة: كلّ ذلك ورد؛ قاله المناوي.
(وربّما لم يكن) ؛ أي: لم توجد (العمامة، فيشدّ العصابة) - بكسر العين المهملة-: كلّ ما عصب به الرأس من منديل؛ أو خرقة ونحوهما (على رأسه؛ وعلى جبهته) . ذكره في «الإحياء» .
قال العراقي: رواه البخاريّ؛ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:(1/509)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه.
صعد النبي صلّى الله عليه وسلم المنبر قد عصب رأسه بعصابة دسماء ... الحديث.
(و) أخرج الترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- وقال حسن غريب-: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اعتمّ) ؛ أي: لفّ العمامة على رأسه (سدل عمامته) - أي: أرخاها- (بين كتفيه) من خلفه نحو ذراع؛ وفيه مشروعية العذبة، فهي سنّة.
قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك. قال عبيد الله: ورأيت القاسم بن محمد وسالما يفعلان ذلك؛ هذا تمام رواية الترمذي.
قال الحافظ ابن حجر: وأمّا مالك! فقال: إنّه لم ير أحدا يفعله إلّا عامر بن عبد الله بن الزبير. انتهى. وفي بعض طرق الحديث أنّ الّذي كان يرسله بين كتفيه هو الطرف الأعلى؛ وهو يسمّى «عذبة» لغة.
ويحتمل أنّه الطرف الأسفل حتى يكون عذبة في الاصطلاح العرفي الآن.
ويحتمل أنّ المراد الطّرفان معا، لأنّه ورد أنّه قد أرخى طرفيها بين كتفيه؛ بلفظ التثنية، وفي بعض الروايات «طرفها» بلفظ الإفراد، ولم يكن صلّى الله عليه وسلم يسدل عمامته دائما، بدليل رواية مسلم: أنّه صلّى الله عليه وسلم دخل مكّة بعمامة سوداء. من غير ذكر السّدل.
وصرّح ابن القيّم بنفيه؛ قال: لأنّه صلّى الله عليه وسلم كان على أهبة من القتال والمغفر على رأسه فلبس في كلّ موطن ما يناسبه؛ كذا في «الهدي النبوي» . وبه عرف ما في قول صاحب «القاموس» : لم يفارقها قط!!
وقد استفيد من الحديث أنّ العذبة سنّة، وكأنّ حكمة سنّها: ما فيها من تحسين الهيئة، وإرسالها بين الكتفين أفضل. وإذا وقع إرسالها بين اليدين- كما يفعله الصوفية وبعض أهل العلم- فهل الأفضل إرسالها من الجانب الأيمن؛ لشرفه، أو من الجانب الأيسر؛ كما هو المعتاد!! وفي حديث أبي أمامة؛ عند الطبراني ما يدلّ على تعيين الأيمن، لكنّه ضعيف.(1/510)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يدير العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه، ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه.
واستحسن الصوفية إرسالها من الجانب الأيسر، لكونه جانب القلب، فيتذكّر تفريغه مما سوى ربّه. قال بعض الشافعية: ولو خاف من إرسالها نحو خيلاء!! لم يؤمر بتركها؛ بل يفعلها ويجاهد نفسه، وأقلّ ما ورد في طولها أربع أصابع، وأكثر ما ورد فيه ذراع وبينهما شبر، ويحرم إفحاشها بقصد الخيلاء.
وقد جاء في العذبة أحاديث كثيرة- ما بين صحيح وحسن- ناصّة على فعل المصطفى صلّى الله عليه وسلم لها لنفسه، ولجماعة من صحبه، وعلى أمره به، فهي سنّة مؤكّدة محفوظة لم يتركها الصلحاء. انتهى. باجوري على «الشمائل» .
(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» ، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» - بسند قال فيه الحافظ الهيثمي؛ عقب عزوه للطبراني: رجاله رجال الصحيح إلّا عبد السلام، وهو ثقة- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يدير العمامة على رأسه ويغرزها) أي: يغرز طرفها (من ورائه) لتكون العذبة من خلف؛ لا من أمام (ويرسل لها ذؤابة) - بذال معجمة مضمومة، فواو، فألف، فموحّدة؛ مهموز-: ضفيرة الشعر المرسلة، فإن لويت!! فعقيصة.
وتطلق أيضا على طرف العمامة؛ وهي العذبة المرادة هنا.
والأفضل جعلها (بين كتفيه) ، فإنّه أكثر أحواله صلّى الله عليه وسلم، وحديثه أصحّ، وتارة يجعلها عن يمينه قريبة من الأذن اليمنى.
وقد استدلّ جمع بكون المصطفى صلّى الله عليه وسلم أرسلها بين الكتفين تارة، وإلى الجانب الأيمن أخرى، على أنّ كلا سنّة. وهذا الحديث مصرّح بأنّ أصل العذبة سنّة؛ وهو مفاد الأحاديث فإلى سنية أصلها سنية إرسالها إذا أخذت من فعله صلّى الله عليه وسلم.
قال السيوطي: من علم أنّ العذبة سنّة وتركها استنكافا أثم؛ أو غير مستنكف؛ فلا.(1/511)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه، وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة.
وروى أبو الشيخ ابن حيّان في كتاب «أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم» من حديث ابن عمر؛ قال أبو عبد السلام بن أبي حازم: قلت لابن عمر: كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتمّ؟! قال: يدير كور العمامة على رأسه، ويغرسها من ورائه، ويرخي لها ذؤابة بين كتفيه.
قال الحافظ العراقي: هذا الحديث يقتضي أنّ الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى. انتهى «زرقاني» .
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا اعتمّ) - بتشديد الميم؛ أي: لفّ عمامته على رأسه- (سدل عمامته) - أي:
أرخى طرفها الذي يسمى: العذبة- (بين كتفيه) .
قال الزين العراقي: وهل المراد سدل الطرف الأسفل حتى يكون عذبة؛ أو الأعلى بحيث يغرزها ويرسل منها شيئا خلفه!! كلّ محتمل؛ ولم أر التصريح يكون المرخيّ من العمامة عذبة إلا في حديث واحد مرسل؛ مع أنّ العذبة لغة: الطرف، فالطرف الأعلى يسمى «عذبة» لغة؛ وإن تخالفا للاصطلاح العرفي الآن.
وفي بعض طرق الحديث أنّ الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى، ويحتمل أنّ المراد الطرفان معا. إلى هنا كلامه؛ نقله المناوي في «شرح الشمائل» .
(وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة) .
وقد تحصّل ممّا تقدّم أن للابس العمامة أن لا يتّخذ عذبة، وله أن يتخذها من خلفه، أو من بين يديه، أو من بين يديه ومن خلفه معا، وأنّ الأفضل اتّخاذها، وأن تكون بين الكتفين؛ ثمّ المنكب الأيمن.
وفي «المدخل» : نقل مالك رحمه الله تعالى أنّهم كانوا يعتمّون حتى تطلع(1/512)
وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك كطريق المغاربة.
الثريّا، ومعنى ذلك أنّ طلوعها إنّما يكون في زمن الحر فيزيلونها. انتهى. قاله جسوس على «الشمائل» .
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك) - محركة: ما تحت الذّقن من الإنسان، قال السيوطيّ في «مختصر النهاية» : والتحنّك: التلحّي؛ وهو أن يدير العمامة من تحت الحنك- (كطريق المغاربة) ، أي: لما فيه من الفوائد التي منها أنّها تقي العنق الحرّ والبرد، وتثبتها عند ركوب الخيل وغيرها، وتغني عما اتّخذه كثيرون من كلاليب عوضا عن الحنك، وهذه اللّبسة أنفع اللّبسات، وأبعدها من التكلّف والمشقّة؛ قاله المناوي.
قال الحافظ عبد الحقّ الإشبيليّ: وسنّة العمامة بعد فعلها: أن يرخي طرفها ويتحنّك به، فإن كانت بغير طرف ولا تحنيك! فذلك يكره عند العلماء.
وفي «المدخل» : لا بدّ في العمامة من فعل سنن تتعلّق بها؛ من تناولها باليمين؛ وقول باسم الله، والذكر الوارد إن كان ما لبس جديدا، وامتثال السنّة في صفة التعمّم من التحنيك، والعذبة، وتصغير العمامة. انتهى.
ومنه أيضا؛ عن الغزالي: أنّ تعتمّ قائما، وتتسرول قاعدا.
ومنه أيضا: كان سيّدي أبو محمّد رحمه الله تعالى يقول: إنّما المكروه العمامة التي ليس فيها تحنيك ولا عذبة، فإن كانا معا فهو الكمال في امتثال السنّة، وإن كان أحدهما! فقد خرج به عن المكروه. ذكره جسوس؛ وهو مالكيّ المذهب- وقال المناوي: شافعيّ المذهب- في «شرح الشمائل» : ولا يسنّ تحنيك العمامة عند الشافعيّة، واختار بعض الحفّاظ ما عليه كثيرون؛ أنه يسنّ وهو تحديق الرقبة وما تحت الحنك واللّحية ببعض العمامة، وأطالوا في الاستدلال له بما ردّ عليهم،(1/513)
وكانت له صلّى الله عليه وسلّم عمامة تسمّى (السّحاب) ، فوهبها لعليّ رضي الله تعالى عنه، فربّما طلع عليّ فيها فيقول صلّى الله عليه وسلّم: «أتاكم عليّ في السّحاب» .
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامة سدل طرفها على منكبي، ...
وممّن جرى على ندبه ابن القيّم، وقد جاء أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدخل عمامة تحت حنكه. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.
(و) في «الإحياء» ، و «كشف الغمّة» : (كانت له صلّى الله عليه وسلم عمامة) - بكسر العين- كما في «القاموس» وغيره، وحكى بعضهم ضمّها (تسمّى «السّحاب» ) وله عمائم أخرى غيرها؛ كما بيّنه الشامي (فوهبها لعليّ) بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) وقد تقدّمت ترجمته.
(فربّما طلع عليّ فيها؛ فيقول صلّى الله عليه وسلم: «أتاكم عليّ في السّحاب» ) .
قال العراقيّ: رواه ابن عديّ، وأبو الشيخ؛ من حديث جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده، وهو مرسل ضعيف جدا. ولأبي نعيم في «دلائل النبوّة» من حديث عمر، في أثناء حديث عمامته السحاب الحديث. انتهى.
ومن هنا اشتبه على الرافضة، فزعموا أنّ المراد بالسحاب التي في السماء؛ فقالوا: هو حيّ ورفع في السحاب، وهذا من ضلالهم وجهلهم بالسنّة. انتهى «شرح الإحياء» .
(و) روى ابن أبي شيبة، وأبو داود الطّيالسيّ، والبيهقي؛ (عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعمامة سدل طرفها على منكبي.) لم يبيّن أهو الأيمن أو الأيسر، لكن سيأتي في الحديث بعده، ما يؤخذ منه أنّ المنكب هنا الأيمن.(1/514)
وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» .
وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يولّي واليا حتّى يعمّمه، ويرخي لها عذبة من جانب الأيمن نحو الأذن.
(وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» ) بالكسر- فأحبّ فعل ما أمدّني به بمن أولّيه أو أعمّمه،
(وقال: «إنّ العمامة حاجز) - أي: مميّز- (بين المسلمين) - لأنّهم يتعمّمون- (والمشركين» ) لأنّهم لا عمائم لهم.
(و) روى الطبراني في «الكبير» بسند ضعيف؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم لا يولّي واليا) ، أي: حاكما على جهة من جهات الإسلام (حتّى يعمّمه) بيده الشريفة، أي: يدير العمامة على رأسه (ويرخي لها عذبة) - بالذال المعجمة- من خلفه (من جانب الأيمن نحو الأذن) إشارة إلى أنّ من ولي من أمر الناس شيئا ينبغي أن يراعي من تجمل الظاهر ما يوجب تحسين صورته في أعينهم، حتى لا ينفروا عنه وتزدريه نفوسهم.
وفيه ندب العذبة، وعدّها السيوطيّ من خصائص هذه الأمة؛ قاله «المناوي على الجامع» .
ويؤخذ من هذا الحديث تعيين الجانب الذي تجعل فيه العذبة، لكن قال الحافظ الزين العراقيّ: وإذا وقع إرخاء العذبة من بين اليدين؛ كما يفعله الصوفية وبعض أهل العلم!! فهل المشروع فيه إرخاؤها من الجانب الأيسر كما هو المعتاد، أو الأيمن لشرفه؟ قال: ولم أر ما يدلّ على تعيين الأيمن إلّا في حديث ضعيف عند الطبرانيّ!! وبتقدير ثبوته؛ فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن، ثم يردّها إلى الجانب الأيسر؛ كما يفعله بعضهم، إلّا أنّه صار شعار الإماميّة، فينبغي تجنّبه لترك(1/515)
وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.
التشبّه بهم. انتهى. نقله الزرقاني وغيره.
(و) أخرج مسلم، والترمذيّ في «الجامع» ، و «الشمائل» ، وأصحاب «السنن» (عن جابر) بن عبد الله الأنصاريّ- تقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة) زادها الله شرفا.
سمّيت مكة لقلّة مائها، من قولهم: «امتكّ الفصيل ضرع أمّه» إذا امتصّه، وقيل: لأنّها تمكّ الذنوب، أي: تذهب بها.
ولها أسماء كثيرة: بكة بالباء، والبلدة، والبلد الأمين، وأمّ القرى، وأم رحم، وصلاح؛ كقطام، والباسّة، وغيرها. وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى، كما في أسماء الله وأسماء رسوله.
ولا نعلم بلدا أكثر أسماء من مكة والمدينة، لكونها أفضل الأرض.
واختلف أيّهما أفضل!! فعند الشافعيّ والجمهور أنّ مكّة أفضل الأرض وبعدها المدينة، وعند مالك المدينة أفضل ثم مكّة، ولكلّ من الفريقين دليل ومسلك وتعليل؛ رضي الله عن الجميع، ورزقنا الأدب مع الجميع، وأماتنا بالمدينة بجوار الحبيب الشفيع، وأحلّنا المحلّ الرفيع، بفضله ورحمته. آمين.
(يوم الفتح) أي: فتح مكّة الذي أعزّ الله به الإسلام وأهله، وأظهره على الدين كلّه (وعليه) أي: على رأسه (عمامة سوداء) زاد مسلم: بغير إحرام.
قال الحافظ العراقيّ: اختلفت ألفاظ حديث جابر هذا في المكان والزمان الذي لبس فيه العمامة السوداء، فالمشهور أنّه يوم الفتح، وفي رواية البيهقي: يوم ثنيّة الحنظل، وذلك يوم الحديبية! قال: ويجاب بأن هذا ليس اضطرابا، بل لبسها في الحديبية وفي الفتح معا، إذا لا مانع من ذلك، إلّا أنّ الإسناد واحد؛ فليتأمل!! انتهى.(1/516)
.........
وفي رواية البخاريّ، ومسلم، و «أصحاب السنن» ؛ من طريق مالك عن الزهري عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.
ويجمع بينهما بأنّ العمامة السوداء كانت فوق المغفر، أو تحته وقاية من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للقتال، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وجمع بينهما القاضي عياض بأنّ أوّل دخوله كان على رأسه المغفر، ثمّ بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه- كما في مسلم، و «السنن» ، و «الشمائل» -: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء. زاد مسلم: قد أرخى طرفها بين كتفيه؛ لأنّ الخطبة إنّما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة،
قال الوليّ العراقيّ: وهو أولى وأظهر في الجمع من الأوّل، وتعقّبه بعضهم:
بأنّ الصواب الجمع الأول.
قال النووي: وفي الحديث جواز لبس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه. انتهى. وصحة لبس المصطفى للسواد، ونزول الملائكة يوم بدر بعمائم صفر لا يعارض عموم الخبر الصحيح الآمر بالبياض؛ لأنّه لمقاصد اقتضاها خصوص المقام؛ فقد قال العلماء: إنّ الحكمة في إيثار الأسود يوم الفتح على البياض الممدوح: الإشارة إلى ما منحه الله تعالى به ذلك اليوم من السّؤدد الذي لم يتّفق لأحد من الأنبياء قبله، وإلى سؤدد الإسلام وأهله، وإلى أنّ الدين المحمديّ لا يتبدل؛ لأنّ السواد أبعد تبدّلا من غيره.
وقد لبس السواد جماعة منهم عليّ يوم قتل عثمان وغيره، والحسن فقد كان يخطب في ثياب سود، وعمامة سوداء، وابن الزبير كان يخطب بعمامة سوداء، وأنس، وعبد الله بن جرير، وعمّار كان يخطب كل جمعة بالكوفة؛ وهو أميرها(1/517)
وقال ابن حجر ...
وعليه عمامة سوداء، ومعاوية فإنّه لبس عمامة سوداء، وجبّة سوداء، وعصابة سوداء! وابن المسيّب كان يلبسها في العيدين، وابن عبّاس كان يعتمّ بها، والخلفاء العبّاسيّون باقون على لبس السواد، وكثير من الخطباء على المنابر، ومستندهم ما سبق من دخول المصطفى صلّى الله عليه وسلم مكّة بعمامة سوداء؛ أرخى طرفها بين كتفيه، فخطب بها، فتفاءل الناس لذلك بأنّه نصر وعزّ، وقد جمع السيوطي جزءا في لبس السواد، وذكر فيه أحاديث وآثارا.
وقد زعم بعض الخلفاء العباسيّين من أولاد المعتصم: أنّ تلك العمامة التي دخل بها صلّى الله عليه وسلم مكّة وهبها لعمه العبّاس، وبقيت بين الخلفاء يتداولونها بينهم، ويجعلونها على رأس من تقرّر له الخلافة.
وسأل الرشيد الأوزاعي عن لبس السواد، فأجابه بأنّه يكرهه، لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبّي فيه محرم، ولا يكفّن فيه محرم «1» ، والظاهر أنّ مراده غير العمامة.
قال القرطبيّ: وفي هذا الحديث دليل للمسوّدة، غير أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكن ذلك منه دائما، ولا في كل لباسه، بل في العمامة خاصة، لكن إذا أمر إمام بلبس ذلك وجب.
وفي «شرح الزيلعي» : يسنّ لبسه لخبر فيه، وكيف ما كان الأفضل في لبس الخطبة البياض. وقال ابن القيم: لم تكن عمامة المصطفى صلّى الله عليه وسلم كبيرة يؤذي الرأس حملها، ولا صغيرة تقصر عن وقاية الرأس؛ من نحو حر أو برد، بل كانت وسطا بين ذلك، وخير الأمور الوسط.
(وقال) الإمام العلّامة، شيخ الإسلام، أبو العبّاس، شهاب الدين؛ أحمد بن محمد بن عليّ (بن حجر) الأنصاري السعدي، المصري، الهيتميّ ثمّ
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب «ميت» .(1/518)
المكّيّ: اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ- ...
(المكّيّ) المشهور ب «ابن حجر الهيتميّ» ؛ نسبة إلى محلّة «أبي الهيتم» بالمثنّاة الفوقية من إقليم الغربيّة بمصر شيخ الشافعية، وسلطان الشريعة، وخاتمة المحقّقين، فريد عصره، ووحيد دهره.
ولد في بلدة محلّة «أبي الهيتم» سنة: - 909- تسع وتسعمائة- بتقديم المثناة على المهملة فيهما- ونشأ بها، وحفظ القرآن، ثمّ انتقل إلى القاهرة.
وتلقّى العلم في الأزهر المعمور، فحفظ المختصرات، وأخذ عن جمع من العلماء؛ منهم شيخ الإسلام زكريّا الأنصاريّ، وهو أجلّهم، وقرأ على الشيخ عميرة المصريّ، والشهاب الرّمليّ، وأبي الحسن البكريّ، وغيرهم.
وبرع في جميع العلوم؛ خصوصا فقه الشافعيّة، وصنّف التصانيف الحسنة المفيدة، ثمّ انتقل من مصر إلى مكّة المشرّفة.
وسبب انتقاله أنه اختصر «الروض» لابن المقرىء، وشرع في شرحه، فأخذه بعض الحسّاد وفتّته وأعدمه؛ فعظم عليه الأمر، واشتد حزنه، وانتقل إلى مكة وصنّف بها التصانيف الكثيرة الجليلة، منها «تحفة المحتاج شرح المنهاج» للإمام النووي، وهو أجلّ كتبه.
وكان زاهدا متقلّلا على طريقة السلف، آمرا بالمعروف؛ ناهيا عن المنكر، واستمرّ على ذلك حتى مات [بمكة ودفن] سنة: - 973- ثلاث وسبعين- أو أربع وسبعين وتسعمائة- رحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين.
قال رحمه الله تعالى: (اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ-) ؛
كالحافظ ابن حجر، فقد قال في «فتاويه» : لا يحضرني في طول عمامة النبي صلّى الله عليه وسلم قدر محدود، وقد سئل عنه الحافظ عبد الغني فلم يذكر شيئا.
وكالحافظ السيوطي فإنّه قال: لم يثبت في مقدارها حديث، وفي خبر ما يدلّ على أنّها عشرة أذرع، والظاهر أنّها كانت نحو العشرة، أو فوقها بيسير.(1/519)
في طول عمامته صلّى الله عليه وسلّم وعرضها شيء. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرقة، إذا توضّأ.. تمسّح بها.
وكالحافظ السخاوي؛ فإنّه قال في «فتاويه» : رأيت من نسب لعائشة: أنّ عمامته في السفر بيضاء، وفي الحضر سوداء، وكلّ منها سبعة أذرع، وهذا شيء ما علمته! انتهى.
وعلى كلام هؤلاء الحفاظ عوّل ابن حجر المكي في تصريحه بأنه لم يتحرّر (في طول عمامته صلّى الله عليه وسلم وعرضها شيء) .
وما وقع للطبرانيّ في طولها «أنّه نحو سبعة أذرع» ، ولغيره «أنّه نقل عن عائشة:
أنّها سبعة أذرع في عرض ذراع، وأنّها كانت في السفر بيضاء وفي الحضر سوداء من صوف، وأنّ عذبتها في السفر من غيرها، وفي الحضر منها» !! لا أصل له.
وفي «تصحيح المصابيح» لابن الجزريّ: تتبّعت الكتب، وتطلّبت من السّير والتواريخ لأقف على قدر عمامة المصطفى صلّى الله عليه وسلم فلم أقف على شيء، حتى أخبرني من أثق به أنّه وقف على شيء من كلام النووي ذكر فيه أنّه كان للمصطفى عمامة قصيرة. وعمامة طويلة، وأنّ القصيرة كانت ستة أذرع، والطويلة اثني عشر ذراعا. انتهى «زرقاني» .
وقد ألّف العلماء رحمهم الله تعالى قديما وحديثا في العمامة المؤلفات النافعة، منهم الشيخ ابن حجر المكي؛ له كتاب: «درّ الغمامة في العذبة والطيلسان والعمامة» ، ومنهم السيّد محمد بن جعفر الكتّاني، المغربيّ، له كتاب:
«الدعامة لمعرفة أحكام سنّة العمامة» . فمن أراد الاطّلاع على ما فيهما فليراجعهما؛ خصوصا الأخير منهما، فإنّه مفيد جدا.
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خرقة) - بكسر الخاء المعجمة- (إذا توضّأ تمسّح بها) . رمز له برمز الدارقطني.
وفي «الجامع الصغير» : كان له صلّى الله عليه وسلم خرقة يتنشّف بها بعد الوضوء، ورمز له برمز الترمذيّ، والحاكم عن عائشة.(1/520)
وكان منديله صلّى الله عليه وسلّم باطن قدميه.
قال المناوي: قال الترمذي عقبه: ليس بالقائم، ولا يصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم فيه شيء، وفيه أبو معاذ: سليمان بن أرقم ضعيف عندهم، وقد رخّص قوم من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء. انتهى.
وقال قبل ذلك: وحينئذ لا يكره التنشّف، بل لا بأس به وعليه جمع.
وذهب آخرون إلى كراهته؛ لأنّ ميمونة أتته بمنديل فردّه، ولما أخرجه الترمذيّ؛ عن الزهري: أنّ ماء الوضوء يوزن.
وأجاب الأوّلون: بأنّها واقعة حال يتطرّق إليها الاحتمال، وبأنّه إنّما ردّه مخافة مصيره عادة، ويمنع دلالته على الكراهة؛ فإنّه لولا أنّه يتنشّف لما أتته به، وإنّما ردّه! لعذر كاستعجال، أو لشيء رآه فيه، أو لوسخ، أو تعسف ريح.
وفي هذا الحديث إشعار بأنّه كان لا ينفض ماء الوضوء عن أعضائه! وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: «لا تنفضوا أيديكم في الوضوء؛ كأنّها مراوح الشّيطان» . قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم أجده. وقد أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ، وابن أبي حاتم في «العلل» . انتهى كلام المناوي في «الكبير» .
(و) في «إحياء علوم الدين» ، و «كشف الغمّة» ، و «كنوز الحقائق» :
(كان منديله صلّى الله عليه وسلم) - المنديل- بكسر الميم وفتحها، وكمنبر- هو الذي يتمسّح به، وهو مذكّر، ولا يجوز فيه التأنيث- (باطن قدميه) .
قال العراقي: لا أعرفه من فعله!! وإنّما المعروف فيه ما رواه ابن ماجه؛ من حديث جابر رضي الله تعالى عنه: كنّا زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قليلا ما نجد الطعام، فإذا وجدناه لم تكن لنا مناديل إلّا أكفّنا وسواعدنا. والله أعلم.(1/521)
[الفصل الثّاني في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبه]
الفصل الثّاني في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فراش من أدم، حشوه ليف، طوله ذراعان أو نحوهما، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه.
(الفصل الثّاني) من الباب الثالث (في) بيان ما ورد في (صفة فراشه صلّى الله عليه وسلم) ، وقدره، وخشونته ليقتدى به في ذلك.
(و) في صفة (ما يناسبه) ويتعلّق به؛ كوسادة.
والفراش- بكسر الفاء- بمعنى مفروش، ككتاب بمعنى مكتوب، وهو: اسم لما يفرش، كاللباس لما يلبس، وجمعه فرش، ككتاب وكتب، ويقال له أيضا:
فرش من باب التسمية بالمصدر، وقد ورد في «صحيح مسلم» : «فراش للرّجل، وفراش لزوجته، وفراش للضّيف، وفراش للشّيطان» .
وإنّما أضافه إلى الشيطان!! لأنّه زايد على الحاجة مذموم.
قال الإمام الشعراني رحمه الله في «كشفة الغمّة» : (كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فراش من أدم) - بفتحتين- جمع أديم؛ وهو الجلد المدبوغ؛ (حشوه) - بالفتح- أي:
الأدم باعتبار لفظه، وإن كان معناه جمعا، فالجملة صفة لأدم، أو حالية من «فراش» ، و «كان» تامّة؛ أي: محشوّه (ليف) - بكسر اللّام- أي: من ليف النخل كما هو الغالب عندهم.
(طوله ذراعان أو نحوهما، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه) .(1/522)
وكان متقلّلا من أمتعة الدّنيا كلّها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلّها.. فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها.
وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتك؟ قالت: من أدم، حشوه ليف.
قال في «تيسير الوصول إلى جامع الأصول» للحافظ الديبع: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف» أخرجه الخمسة إلّا النسائي. انتهى.
وهو في «الشمائل» من رواية عروة بن الزبير؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «إنّما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف» .
(و) قال الإمام النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» : (كان) صلّى الله عليه وسلم (متقلّلا من أمتعة) - جمع متاع، وهو في اللّغة: كل ما ينتفع به كالطعام، والبزّ، وأثاث البيت. وأصل المتاع: ما يتبلغ به من الزاد- (الدّنيا) ؛ فعلى، وسمّيت دنيا لدنوها، والجمع الدّنا مثل الكبرى والكبر، وإنّما كان متقلّلا من أمتعة الدنيا (كلّها) ؛ لأنّ الله تعالى أمره أن لا يمدّن عينيه إلى الدنيا وزهرتها، (و) إلى ما متّع به أهلها؛ فمن ثمّ اقتصر منها على أقلّ ممكن مع تيسيرها عليه، ف (قد) عرضت عليه كنوزها، و (أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلّها) روى مسلم في «صحيحه» : «بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» ؛ (فأبى أن يأخذها) ، وما أرادها، (واختار الآخرة عليها) ، ولو أراد الدنيا لكان أشكر الخلق بما أخذه منها، ولأنفقه كلّه في مرضاة الله تعالى وسبيله.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من حديث محمد الباقر مرسلا قال:
(سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها) ، أي: أنّ سائلا سألها: (ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: من أدم حشوه ليف) .
وفيه أنّ النّوم على الفراش المحشوّ، واتّخاذه لا ينافي الزهد، هبه من أدم أو(1/523)
و (الأدم) - جمع أديم على غير القياس- وهو: الجلد المدبوغ، ويجمع على: أدم.
وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت عليّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطيفة مثنيّة، فبعثت إليّ بفراش حشوه الصّوف، فدخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذا يا عائشة؟!» ، قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصاريّة دخلت فرأت فراشك فبعثت إليّ بهذا، فقال: «ردّيه يا عائشة، فو الله لو غيره، حشوه ليف أو غيره؛ لأنّ عين الأدم واللّيف ليست شرطا، بل لأنّها المألوفة عندهم، فيلحق بها كل مألوف مباح.
نعم الأولى لمن غلب عليه الكسل، وميل نفسه إلى الراحة والترفّه أن لا يبالغ في حشو الفراش؛ لأنّه سبب ظاهر في كثرة النوم، والغفلة؛ والبطء عن المهمّات والخيرات بدليل حديث حفصة الآتي.
(والأدم) - بفتحتين- (جمع) أدمة، أو جمع (أديم على غير القياس، و) الأديم (هو الجلد المدبوغ) أو الأحمر، أو مطلق الجلد؛ على ما في «القاموس» .
(ويجمع) أيضا (على أدم) - بضمتين- وهو القياس. مثل بريد وبرد.
(و) أخرج البيهقي، وأبو الشيخ في كتاب «الأخلاق النبوية» ، وابن سعد في «الطبقات» (عنها) ، أي: عن عائشة (رضي الله تعالى عنها قالت:
دخلت عليّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطيفة) ، وفي رواية عباءة (مثنيّة، فبعثت إليّ بفراش حشوه الصّوف، فدخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا عائشة؟!» قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصاريّة) - مفاده أنّها سمّتها له فنسي الراوي اسمها، أو أبهمها لغرض فعبّر عنها بفلانة- (دخلت فرأت فراشك فبعثت إليّ بهذا. فقال: «ردّيه يا عائشة؛ فو الله لو(1/524)
شئت لأجرى الله تعالى معي جبال الذّهب والفضّة» .
و (القطيفة) : دثار له خمل.
وسئلت حفصة رضي الله تعالى عنها: ...
شئت لأجرى الله تعالى معي جبال الذّهب والفضّة» ) . فاتّخاذي لهذا الفراش ليس عجزا عن غيره، بل اختيار لعدم الترفّه المشعر بالمباهاة وحظّ النفس، واتّباعا لقوله تعالى (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) *، وفي رواية ابن سعد، وأبي الشيخ: «فلم أردّه، وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ثلاث مرات: ردّيه يا عائشة، فو الله ... الخ. قالت: فرددته» .
وفيه أنّها لم تردّه بمجرد أمره؛ لأنّها لم تفهم تحتّمه، بل فهمت أنه أراد إن شئت، ولذا لمّا صرح بتحتّمه ردّته.
(والقطيفة) - بفتح القاف وكسر الطاء المهملة على وزن فعلية- هي: (دثار) بالكسر- ما يتدثّر به الإنسان؛ وهو: ما يلقيه عليه من كساء، أو غيره فوق الشعار (له خمل) - بفتح الخاء المعجمة وإسكان الميم- مثل فلس، الهدب، وقد يقال للخمل: قطيفة، ويقال للقطيفة: طنفسة، وتجمع القطيفة على قطائف وقطف بضمتين-
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ من طريق محمد الباقر مرسلا قال:
سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت:
من أدم حشوه ليف.
و (سئلت) أمّ المؤمنين (حفصة) بنت الفاروق؛ عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين (رضي الله) تعالى عنه و (عنها) آمين، وهي شقيقة عبد الله بن عمر.
ولدت وقريش تبني البيت قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم بخمس سنين، وتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة في شعبان؛ على رأس ثلاثين شهرا قبل أحد.
وكانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت خنيس بن(1/525)
ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتك؟ قالت:
مسحا نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلمّا كان ذات ليلة.. قلت: لو ثنيته أربع ثنيات لكان أوطأ له، ...
خذافة السهمي، وكان ممّن شهد بدرا، وتوفي بالمدينة المنورة.
قال ابن سعد: توفي عنها مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم من بدر، ثمّ بعد أن تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم طلّقها طلقة، ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام، قال: إنّها صوامة، قوامة، وزوجتك في الجنّة، وأوصى عمر إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى أخيها عبد الله، قال: قال ابن سعد: قال الواقدي: توفّيت حفصة في شعبان سنة:
45- خمس وأربعين، وهي بنت ستين سنة.
وروي لها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستّون حديثا، رحمها الله تعالى ورضي عنها وعن سائر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: مسحا) أي كان مسحا- بكسر الميم وسكون السين- وهو: كساء خشن يعدّ للفراش من صوف (نثنيه) بصيغة المتكلّم مع الغير من المبني للفاعل (ثنيتين) - بكسر أوّله- تثنية: ثنية كسدرة، وفي رواية: ثنيين بدون تاء- بكسر الثاء- تثنية ثني كحمل، يقال: ثناه إذا عطفه وردّ بعضه على بعض. (فينام عليه.
فلمّا كان ذات ليلة) «كان» تامّة، و «ذات» بالرفع فاعل، ويروى بالنصب على الظرفية، وعليه ففاعل «كان» ضمير عائد على الوقت، وعلى كلّ من الروايتين فلفظة «ذات» مقحمة، أو صفة لموصوف محذوف، أي ساعة ذات ليلة.
(قلت) أي: في نفسي، أو لبعض خدمي: (لو ثنيته) بصيغة المتكلم الواحد (أربع ثنيات) - بكسر المثلثة- منصوب على أنّه مفعول مطلق، أي: أربع طبقات (لكان أوطأ) ، أي: ألين (له) من وطؤ الفراش فهو وطيء؛ كقرب فهو قريب.(1/526)
فثنيناه له بأربع ثنيات، فلمّا أصبح.. قال: «ما فرشتموا لي اللّيلة؟» .
قالت: قلنا: هو فراشك، إلّا أنّا ثنيناه بأربع ثنيات، قلنا: هو أوطأ لك، قال: «ردّوه لحالته الأولى؛ فإنّه منعتني وطأته صلاتي اللّيلة» . و (المسح) : كساء خشن من صوف يعدّ للفراش.
ومعنى (أوطأ) : ألين؛ من وطؤ الفراش فهو وطيء، كقرب فهو قريب.
(فثنيناه له بأربع ثنيات) - بكسر المثلثة- بحيث صارت طاقاته أربعا فنام عليه، (فلمّا أصبح قال: «ما فرشتموا لي) أي: أي شيء فرشتم لي (اللّيلة) الماضية؟
ولعلّه لما أنكر نعومته ولينه ظنّ أنّه غير فراشه المعهود فسأل عنه، وأتى بصيغة المذكر للتّعظيم، أو لتغليب بعض الخدم.
(قالت: قلنا: هو فراشك) أي: المعهود بعينه (إلّا أنّا) أي: غير أنّا (ثنيناه بأربع ثنيات) - بكسر المثلثة- (قلنا: هو) : أي: المثني بأربع ثنيات (أوطأ) أي: ألين (لك) وأرفق لبدنك.
(قال: «ردّوه) - أي: فراشي- (لحالته الأولى) - أي: كونه مثنيا ثنيتين- (فإنّه) - أي: الحال والشأن- (منعتني وطأته صلاتي اللّيلة» ) أي: منعني لينه تهجّدي تلك اللّيلة الماضية؛ لأنّ تكثير الفراش سبب في كثرة النوم، ومانع من اليقظة غالبا، بخلاف تقليله فإنّه يبعث على اليقظة من قرب غالبا.
(والمسح) - بكسر الميم، وإسكان السين المهملة- (كساء خشن) غير ليّن يتّخد (من صوف يعدّ للفراش) يشبه كساء، أو ثياب سود من شعر يلبسها الزهاد، والرهبان.
(ومعنى «أوطأ» ) - بالهمز-: (ألين) مشتق (من) مصدر (وطؤ الفراش) بالضم- بمعنى لان، من باب حسن يحسن، يقال: وطؤ الفراش (فهو وطيء، كقرب) - بضم الراء- أي: على وزنه. (فهو قريب) والوطاء ككتاب: المهاد الوطيء، أي: الليّن.(1/527)
وكان له صلّى الله عليه وسلّم عباءة تفرش له حيثما انتقل، تثنى طاقين تحته. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما ينام على الحصير وحده، ليس تحته شيء غيره.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على (و) في «طبقات الصوفيّة» للعلّامة المناوي رحمه الله تعالى: (كان له صلّى الله عليه وسلم عباءة) - بالمدّ كسحابة-: ضرب من الأكسية فيه خطوط. وقيل: هي الجبّة من الصوف. قال الصرفيّون: همزته عن ياء، وإنّه يقال: عباءة وعباية، ولذلك ذكره الجوهريّ في «المعتل» . انتهى «شرح القاموس» . وتجمع العباءة على عباء بحذف الهاء، وتجمع على عباءآت أيضا. انتهى «مصباح» .
(تفرش له حيثما انتقل) في بيوت أزواجه بعد أن (تثنى طاقين) فتجعل (تحته. وكان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما ينام على الحصير) .
قال ابن بطّال: هي ما صنع من سعف النخل وشبهه، قدر طول الرجل فأكثر؛ قاله في «الفتح» . ولعلّ المراد بها: الخصفة المذكورة في حديث الحاكم الآتي.
وكان ينام عليه (وحده، ليس تحته) صلّى الله عليه وسلم (شيء غيره) أي: غير الحصير، لتواضعه، وزهده في الدنيا وزينتها.
(وعن عبد الله بن مسعود) الهذليّ، تقدّمت ترجمته (رضي الله تعالى عنه) قال: نام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على حصير فقام؛ وقد أثر في جنبه، فبكيت. فقال:
«ما يبكيك؟» قلت: كسر وقيصر على الخزّ والديباج؛ وأنت نائم على الحصير، هذا يا رسول الله بأبي وأمي؟! لو كنت أذنتنا ففرشنا لك شيئا يقيك منه؟ فقال:
«ما لي وللدّنيا، وما أنا في الدّنيا إلّا كراكب استظلّ تحت شجرة، ثمّ راح وتركها» .
رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حسن صحيح، وكذا صحّحه الحاكم، والضياء في «المختارة» .
ورواه الطبرانيّ، ولفظه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (قال: دخلت على(1/528)
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في غرفة كأنّها بيت حمّام، وهو نائم على حصير قد أثّر بجنبه، فبكيت، فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» ، قلت: يا رسول الله؛ كسرى وقيصر يطؤون على الخزّ والدّيباج والحرير؛ وأنت نائم على هذا الحصير، قد أثّر بجنبك.
فقال: «فلا تبك يا عبد الله، فإنّ لهم الدّنيا ولنا الآخرة» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: حدّثني عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير، قال: فجلست ...
النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو في غرفة كأنّها بيت حمّام) - بتشديد الميم- أي: أنّ فيها من الحرّ والكرب كما في بيت الحمام، (وهو نائم على حصير قد أثّر بجنبه، فبكيت) شفقة عليه. (فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» .
قلت: يا رسول الله؛ كسرى) ملك الفرس، (وقيصر) ملك الرّوم (يطؤون) : يمشون (على الخزّ) - بخاء وزاي معجمتين- (والدّيباج والحرير) ، وأراد بالجمع ما فوق الواحد، أو أراد وقومهما؛ (وأنت نائم على هذا الحصير قد أثّر بجنبك؟!) ، وأنت رسول الله وأفضل خلقه، وهما كافران!
(فقال:) أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم (: «فلا تبك يا عبد الله، فإنّ لهم الدّنيا) وهي فانية كأنّها لم تكن- (ولنا الآخرة» ) . وهي باقية، وهي الحيوان، ولنا في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم عجّلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدنيا.
(وعن) عبد الله (بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: حدّثني) الفاروق؛ أبو حفص (عمر بن الخطّاب) ؛ أمير المؤمنين (رضي الله تعالى عنه قال:
دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو على حصير قال: فجلست،(1/529)
فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع، وإذا إهاب معلّق، فابتدرت عيناي، فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟» . فقلت: يا نبيّ الله؛ وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبيك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلّا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثّمار والأنهار، وأنت نبيّ الله وصفوته وهذه خزائنك؟! قال: «يا ابن الخطّاب؛ ...
فإذا عليه إزاره؛ وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير) - بفتح الشين المعجمة وتكسر- (نحو الصّاع، وإذا إهاب) ، جلد لم يدبغ، أو مطلقا، دبغ أو لم يدبغ، والمراد جنس إهاب، فلا ينافي رواية «الصحيحين» أهب (معلّق، فابتدرت عيناي) : بادرت بإرسال الدموع مسرعة؛ (فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟» . فقلت: يا نبيّ الله؛ وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثّر في جنبيك، وهذه خزائنك) ؛ أي: الأماكن المعدة للادّخار (لا أرى فيها إلّا ما أرى) من شعير نحو صاع؛ (وذاك كسرى وقيصر في الثّمار والأنهار، وأنت نبيّ الله؛ وصفوته) مختاره، (وهذه خزائنك) لا أرى فيها إلا ما أرى!! وكرّره مبالغة في إظهار التأسّف.
(قال: «يا ابن الخطّاب) - وفي رواية البخاريّ ومسلم-: «فو الله ما رأيت في بيته شيئا يردّ البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسّع على أمّتك، فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله. فجلس صلّى الله عليه وسلم وكان متّكئا؛ فقال: «أو في هذا أنت يا ابن الخطّاب؟!» - بهمزة استفهام وواو عطف على مقدر بعدها- قال الكرماني: أي: أنت في مقام استعظام التّجمّلات الدنيويّة واستعجالها؟!.
وفي رواية للشّيخين أيضا: «أو في شكّ أنت يا ابن الخطّاب!!» أي: أنت(1/530)
أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدّنيا؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الدّنيا، وهي وشيكة الانقطاع، وإنّا قوم أخّرت لنا طيّباتنا في آخرتنا» .
في شكّ أنّ التوسّع في الدنيا مرغوب عنه؟!. فقلت: يا رسول الله استغفر لي» .
أي: من اعتقادي أنّ تجمّل الدنيا مرغوب فيه، قال:
( «أما ترضى أن تكون لنا الآخرة) الباقية (ولهم الدّنيا» ) الفانية؟ وجمع ضمير لهم!! على إرادتهما ومن تبعهما، أو كان على مثل حالهما، بدليل رواية الشيخين. وهذا الحديث رواه ابن ماجه بإسناد صحيح بهذا اللّفظ الذي أورده المصنّف.
ورواه الحاكم بلفظ: قال عمر رضي الله عنه: «استأذنت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخلت عليه في مشربة؛ وإنّه لمضطجع على خصفة، وإنّ بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوّة ليفا، وإنّ فوق رأسه لإهاب «1» عطين، وفي ناحية المشربة قرظ، فسلّمت عليه وجلست؛ فقلت: أنت نبيّ الله وصفوته وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟!.
فقال: ( «أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الدّنيا، وهي وشيكة) - بمعجمة وكاف: قريبة- (الانقطاع) ، أي: الزوال (وإنّا قوم أخّرت لنا طيّباتنا في آخرتنا» ) ، وإضافة الآخرة لهم!! لأنّهم المنتفعون بها، حتّى كأنّها منسوبة لهم؛ لا لغيرهم.
وفي رواية للشيخين: «أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدّنيا» .
فقلت: استغفر لي؛ يا رسول الله.
قال النووي في «شرح مسلم» : وهذا يحتجّ به من يفضّل الفقر على الغنى،
__________
(1) بالنصب اسم «إن» وكتب بحذف الألف على لغة ربيعة وجرى عليه كثير من المحدثين. وعطين أي متغيرا منتنا اهـ.(1/531)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرير مرمّل بالبرديّ، وعليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبرديّ، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما عليه، فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نائم عليه، فلمّا رآهما.. استوى جالسا، فنظرا، فإذا أثر السّرير في جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: يا رسول الله؛ ما يؤذيك ...
لما في مفهومه أنّ بمقدار ما يتعجّله من طيّبات الدنيا يفوته من ادّخار الأجر له في الآخرة، وقد يتأوّله الآخرون بأنّ المراد أنّ حظّ هؤلاء من النعيم ما تعجّلوه في الدنيا، ولا حظّ لهم في الآخرة لكفرهم.
(و) أخرج ابن حبّان في «صحيحه» المسمى ب «الأنواع والتقاسيم» ؛ (عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سرير مرمّل) - بضم الميم وفتح الراء وشدّ الميم- بالبرديّ بفتح فسكون-: نبات يعمل منه الحصر على لفظ المنسوب إلى البرد، كما في «المصباح» . فالمعنى أنّ قوائم السرير موصولة مغطّاة بما نسج من ذلك النبات؛ كذا قال الزرقاني.
وفي حديث عمر في الصحيح: فإذا هو مضطجع على رمال حصير. قال القسطلاني: بكسر الراء وتضم، أي: سرير مرمول بما يرمّل به الحصير، أي:
ينسج، ورمال الحصير ضلوعه المتداخلة فيه كالخيوط في الثوب. انتهى.
قال في «النهاية» : والمراد أنّه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف؛ ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. انتهى كلامه.
(وعليه) - أي السرير- (كساء أسود، وقد حشوناه بالبرديّ، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما عليه؛ فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم نائم عليه، فلمّا رآهما استوى جالسا) إكراما لهما، (فنظرا فإذا أثر السّرير في جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالا:
يا رسول الله؛ ما يؤذيك) - بحذف همزة الاستفهام تخفيفا- أي: أما يؤذيك(1/532)
خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؛ وهذا كسرى وقيصر على فرش الدّيباج والحرير؟! فقال عليه الصّلاة والسّلام: «لا تقولا هذا؛ فإنّ فراش كسرى وقيصر في النّار، وإنّ فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنّة» .
وما عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضجعا قطّ، إن فرش له.. اضطجع، وإلّا.. اضطجع على الأرض.
ومعنى (مرمّل) : ...
(خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؛ وهذا كسرى وقيصر) أتى بالإشارة لتحقّق كونهما (على فرش الدّيباج والحرير؟!) ، حتّى كأنّهما مشاهدان يشار إليهما.
(فقال عليه الصّلاة والسّلام: «لا تقولا هذا، فإنّ فراش كسرى وقيصر في النّار) - كناية عن عذابهما وحقارتهما؛ بجعل النار ظرفا لفراشهما محيطة به- (وإنّ فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنّة» ) ، لم يقل «في الجنّة» على نمط ما قبله!! إشارة إلى تصرّفه فيها كيف شاء، وذلك أبلغ في تعظيمه من مجرّد كون فراشه وسريره بها.
وقد أشار إلى ما تقدّم الحافظ زين الدين العراقي في «ألفيّته في السيرة» فقال:
فراشه من أدم وحشوه ... ليف فلا يلهي بعجب زهوه
وربّما نام على العباءة ... بثنيتين عند بعض النّسوة
وربّما نام على الحصير ... ما تحته شيء سوى السّرير
(وما عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) - عبارة القسطلّاني في «المواهب اللّدنّيّة» :
ويروى أنّه عليه الصلاة والسلام ما عاب- (مضجعا قطّ) ؛ أي: مكانا يضطجع فيه (إن فرش له اضطجع) على ما فرش له، (وإلّا) يفرش له شيء (اضطجع على الأرض) صلّى الله عليه وسلم.
(ومعنى مرمّل) - بضم الميم وفتح الراء وشد الميم الثانية آخره لام-(1/533)
منسوج. و (البرديّ) : نبات.
وتغطّى صلّى الله عليه وسلّم باللّحاف، قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما أتاني جبريل وأنا في لحاف امرأة منكنّ.. غير عائشة» .
(منسوج) بالسعف كما تقدّم آنفا.
(والبرديّ) - بفتح الباء الموحدة وسكون الراء آخره ياء مثنّاة على لفظ المنسوب- هو (نبات) يعمل منه الحصر كما تقدّم.
(وتغطّى صلّى الله عليه وسلم باللّحاف) بزنة كتاب: كلّ ثوب يتغطّى به، والجمع لحف؛ كما في «المصباح» .
(قال) النّبيّ (عليه الصّلاة والسّلام) فيما رواه البخاريّ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: اجتمع صواحبي إلى أمّ سلمة؛ فقلن: والله؛ إنّ النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، وإنّا نريد الخير كما تريد عائشة. فمري رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار. فذكرت ذلك أمّ سلمة له. قالت:
فأعرض عنّي، فلمّا عاد إليّ ذكرت له ذلك فأعرض عنّي، فلمّا كان في الثالثة ذكرت له فقال: «يا أمّ سلمة؛ لا تؤذيني في عائشة، فو الله (ما أتاني جبريل) - وفي رواية: «ما نزل عليّ الوحي» - (وأنا في لحاف امرأة منكنّ غير عائشة» ) رضي الله تعالى عنها إكراما من الله لها وسبق عناية بها.
وقيل: لمبالغتها في تنظيف ثيابها، أو لمكان والدها، وأنّه لم يفارق النبي صلّى الله عليه وسلم في أغلب أحواله، فسرى سرّه إلى ابنته؛ مع مزيد حبّ المصطفى لها.
وفيه فضلها على جميع نسائه، ويحتمل أنّ المراد غير خديجة؛ لأنها ماتت قبل ذلك فلم تدخل في الخطاب بقوله: منكنّ؛ قاله الحافظ ابن حجر، وجزم السيوطيّ بما أبداه احتمالا.
ثمّ المصنّف ذكر هذا دليلا لقوله تغطّى باللّحاف؛ لأنّ الاستثناء من النفي(1/534)
وكان وساده الّذي يتّكىء عليه من أدم، حشوه ليف.
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على وسادة على يساره.
إثبات، فكأنّه قيل: أتاني وأنا متغطّ بلحاف عائشة، والمتبادر أنّها معه فيه.
(و) أخرج الإمام أحمد؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
(كان وساده) - بكسر الواو-: المخدّة (الّذي يتّكىء عليه من أدم) - بفتحتين- جمع أدمة أو أديم، وهو الجلد المدبوغ. (حشوه) أي الأدم (ليف) .
والجملة صفة لأدم، وفيه إيذان بكمال زهده وإعراضه عن الدنيا ونعيمها، وفاخر متاعها، وحلّ اتّخاذ الوسادة ونحوها من الفرش.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: «كان وسادته التي ينام عليها باللّيل من أدم حشوها ليف» .
وفيه حل اتّخاذ الوسادة ونحوها، والنوم عليها، وغير ذلك. قالوا: لكن الأولى لمن غلبه الكسل، والميل للدّعة والترفّه أن لا يبالغ في حشو الفراش؛ لأنّه سبب لكثرة النوم والغفلة، والشغل عن مهمّات الخيرات.
(و) أخرج أبو داود، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وقال: حسن غريب- (عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه؛ قال:
رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي: أبصرته حال كونه (متّكئا على وسادة) - بكسر الواو- كإفادة: ما يتوسّد به من المخدّة- بكسر الميم وفتح الخاء المعجمة- وقد يقال:
وساد- بلا تاء-، وأساد- بالهمزة- بدل الواو (على يساره) ؛ أي: حال كون الوسادة موضوعة على يساره. أي: جانبه الأيسر، فهو صفة لوسادة، جيء به لبيان الواقع لا للتّقييد، فيحلّ الّاتكاء يمينا أيضا.
وقد بيّن الراوي في هذا الخبر التّكأة، وهي الوسادة هنا، وكيفيّة الاتّكاء.(1/535)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على الحصير.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على بساط.
والتّكأة بوزن اللّمزة: ما يتّكأ عليه من وسادة وغيرها ممّا هيء وأعدّ لذلك، فخرج الإنسان فلا يسمى تكأة؛ وإن اتّكىء عليه.
(و) في «كنوز الحقائق» : (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يصلّي على الحصير) من غير سجّادة تبسط له فرارا عن تزيين الظاهر للخلق، وتحسين مواقع نظرهم، فإنّ ذلك هو الرياء المحظور، وهو؛ وإن كان مأمونا منه لكنّ قصده التشريع.
والمراد بالحصير: ما نسج من ورق النخل، هكذا كانت عادتهم.
ثمّ هذا الحديث رمز له المناوي في «كنوزه» برمز عبد الرزاق! ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم؛ عن المغيرة بن شعبة بلفظ: كان يصلي على الحصير، والفروة المدبوغة.
قال المناوي: وعورض هذا الحديث بما رواه أبو يعلى، وابن أبي شيبة، وغيرهما من رواية شريح أنّه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؛ والله سبحانه وتعالى يقول (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (8) [الإسراء] ؟! قالت: لم يكن يصلّي عليه. ورجاله كما قال الحافظ الزين العراقي: ثقات.
وأجيب تارة بأنّ المنفيّ في خبرها المداومة، وتارة أخرى أجيب بأنّها إنّما نفت علمها، ومن علم صلاته على الحصير مقدّم على النافي، وبأنّ حديثها؛ وإن كان رجاله ثقات؛ لكن فيه شذوذ ونكارة. فإنّ القول «بأنّ المراد في الآية الحصير التي تفرش» مرجوح مهجور، والجمهور على أنّه من الحصر، أي: ممنوعون عن الخروج منها؛ أفاده الحافظ العراقي قال: وفيه ندب الصلاة على الحصير، ونحوه مما يقي بدن المصلي عن الأرض، وقد حكاه الترمذيّ عن أكثر أهل العلم؛ ذكره المناوي.
(و) أخرج ابن ماجه، والحاكم، وابن أبي شيبة بسند حسن؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يصلّي على بساط) أي: حصير كما في «شرح(1/536)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يستحبّ أن تكون له فروة مدبوغة يصلّي عليها.
أبي داود» للوليّ العراقيّ، وسبقه إليه أبوه في «شرح الترمذيّ» حيث قال: في «سنن أبي داود» ما يدلّ على أنّ المراد بالبساط الحصير.
قال ابن القيّم: كان يسجد على الأرض كثيرا، وعلى الماء، والطين، وعلى الخمرة المتّخذة من خوص النخل، وعلى الحصير المتّخذ منه، وعلى الفروة المدبوغة؛ كذا في «زاد المعاد» . ولا ينافيه إنكاره في «المصايد» على الصوفيّة ملازمتهم للصلاة على سجادة. وقول ابن القيّم: «لم يصلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سجادة قطّ، ولا كانت السجادة تفرش بين يديه» !!، مراده السجادة من صوف على الوجه المعروف، فإنّه كان يصلّي على ما اتّفق بسطه. انتهى؛ ذكره المناوي في «الكبير» رحمه الله تعالى.
(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» بسند ضعيف؛ عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يستحبّ) ؛ أي: يحب (أن تكون له فروة مدبوغة) . الفروة قيل: بإثبات التاء، وقيل: بحذفها، والجمع فراء؛ كسهم وسهام، وهو على أنواع: فمنها السمور، والأزق، والقاقون، والسنجاب، والنافه، والقرسق، وأولاهنّ أعلاهنّ، وهي جلود حيوانات تدبغ فتخيط ويلبس بها الثياب، يلبسونها اتّقاء البرد. قال الأزهريّ: الجلدة إذا لم يكن عليها وبر، ولا صوف لا تسمّى «فروة» . انتهى «شرح القاموس» .
(يصلّي عليها) بيّن به أنّ الصلاة على الفروة لا تكره، وأنّ ذلك لا ينافي كمال الزهد، وأنّه ليس من الورع الصلاة على الأرض، لأنّ محلّ ذلك القلب.
وفيه إشارة إلى أنّ التنزّه عنها توهّما لتقصير الدبّاغ عن التطهير ليس من الورع، وإيماء إلى أنّ الشرط تجنّب النجاسة إذا شوهدت، وعدم تدقيق النظر في استنباط الاحتمالات البعيدة، وقد أخطأ قوم استفرغوا أنظارهم في دقائق الطهارة والنجاسة، وأهملوا النظر في دقائق الرياء والظلم!! فانظر كيف اندرس من الدين رسمه؛ كما اندرس تحقيقه وعلمه!! نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق إلى أقوم طريق. انتهى. مناوي رحمه الله تعالى.(1/537)
[الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم كان خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ورق، ...
(الفصل الثّالث) من الباب الثالث:
(في) بيان ما ورد في (صفة خاتمه) بفتح التاء المثنّاة فوق وكسرها- وفي صفة تختّمه (صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: لبسه الخاتم.
والمراد بالخاتم الطابع الذي كان يختم به الكتب، لا خاتم النبوّة؛ فإنّه البضعة الناشزة بين كتفيه، وليس مرادا هنا.
وفي الخاتم عشر لغات نظمها الحافظ ابن حجر في قوله:
خذ عدّ نظم لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيا ما حواها قطّ نظّام
خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيتوم وخيتام
والهمز مع فتح خاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتمّ العشر خأتام
قالوا: والخاتم حلقة ذات فصّ من غيرها، فإن لم يكن لها فصّ فهي فتخة بفاء ومثناة فوقية وخاء معجمة- كقصبة.
قال ابن العربي: والخاتم عادة في الأمم ماضية، وسنّة في الإسلام قائمة.
وقال ابن جماعة وغيره: وما زال الناس يتّخذون الخواتيم سلفا وخلفا من غير نكير.
(كان خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ورق) - بكسر الراء وتسكّن تخفيفا- أي: فضّة، وأخذ بعض أئمة الشافعيّة من إيثار المصطفى صلّى الله عليه وسلم الفضّة كراهة التختّم بنحو حديد أو(1/538)
وكان فصّه حبشيّا.
نحاس. وأيّد بما في رواية أنّه رأى بيد رجل خاتما من صفر؛ فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام؟» فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النّار» ؟.
ويويّده أيضا ما في رواية: «أنّه أراد أن يكتب كتابا إلى الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى» ؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم من حديد، فجعله في أصبعه، فأتاه جبريل فقال له: انبذه من أصبعك. فنبذه من أصبعه وأمره بخاتم آخر يصاغ له، فعمل له خاتم من نحاس؛ فجعله في أصبعه، فقال له جبريل: انبذه، فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق؛ فجعله في أصبعه. فأقرّه جبريل ... » إلى آخر الحديث.
لكن اختار النوويّ أنّه لا يكره، لخبر الشيخين: «التمس؛ ولو خاتما من حديد» ، ولو كان مكروها لم يأذن فيه، ولخبر أبي داود: كان خاتم النبي صلّى الله عليه وسلم من حديد ملويّا عليه فضّة. قال: وخبر النهي ضعيف.
ويؤخذ من الحديث أنّه يسن اتّخاذ الخاتم، ولو لم يحتجه لختم وغيره، وعدم التعرض في الخبر لوزنه!! يدلّ على أنّه لا تحجير في بلوغه مثقالا فصاعدا، ولذلك أناط بعض الشافعية الحكم بالعرف؛ أي: بعرف أمثال اللّابس.
لكن ورد النهي عن اتّخاذه مثقالا في خبر حسن، وضعّفه النوويّ في «شرح مسلم» ، لكنّه معارض بتصحيح ابن حبّان وغيره له، وأخذ بعضهم بقضيته.
وللرجل لبس خواتيم، ويكره أكثر من اثنين.
(وكان فصّه) - بفتح أوّله وكسره؛ وقد يضمّ وبتشديد الصاد-: ما ينقش فيه اسم صاحبه أو غيره (حبشيّا) ؛ أي: حجرا منسوبا إلى الحبش، لأنّه معدنه.
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» عن أنس رضي الله تعالى عنه.(1/539)
و (الورق) : الفضّة. و (الفصّ) : ما يكتب عليه اسم صاحبه.
و (الحبشيّ) : منسوب إلى الحبش، فإنّه كان من جزع؛ وهو: خرز فيه بياض وسواد، أو من عقيق، ومعدنهما بالحبشة.
(والورق) - بكسر الراء وتسكّن تخفيفا-: (الفضّة) وهي في الأصل النقرة المضروبة، وقيل: النقرة مضروبة أوّلا. (والفصّ) قال القسطلّاني: بفتح الفاء والعامّة تكسرها، وأثبتها بعضهم لغة، وزاد بعضهم الضمّ، وعليه جرى ابن مالك في «المثلّث» . انتهى.
وفي «القاموس» : الفصّ للخاتم مثلّثة، ووهم الجوهريّ في جعله الكسر لحنا. نعم قال ابن السكّيت والفارابيّ: إنّه رديء.
وللفصّ معان كثيرة، والمراد هنا: (ما يكتب) أي: ينقش (عليه اسم صاحبه) أو غيره. (والحبشيّ: منسوب إلى الحبش) ؛ أي: جيء به من الحبشة، (فإنّه كان من جزع) - بفتح الجيم وسكون الزاي- (وهو: خرز فيه بياض وسواد) يشبه به الأعين، (أو من عقيق) كأمير (ومعدنهما بالحبشة) . وهذا أقرب ممّا قيل: إنّ معدنهما باليمن؛ وهي من الحبشة، أو أنّ لونه حبشيّ، أي:
أحمر يميل إلى السواد، أو صانعه حبشيّ، أو مصنوع كصنع الحبشة. هذا عصارة ما في الشروح المشهورة والزّبر المتداولة!! لكن الوجه الذي لا محيد عنه ما قاله الجلال السيوطيّ وغيره؛ اعتمادا على ما في «مفردات» ابن البيطار: إنّ الحبشيّ نوع من الزبر جد يكون ببلاد الحبش؛ لونه يميل إلى الخضرة، من خواصّه أنّه ينقي العين، ويجلو ظلمة البصر؛ ذكره المناوي في «شرح الشمائل» .
وأمّا خاتم العقيق!! فعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«تختّموا بالعقيق، واليمين أحقّ بالزّينة» . وفي سنده مجهول، بل قال في «اللسان» : هو موضوع بلا ريب، لكن لا أدري من وضعه. انتهى.
وروي بلفظ: «تختّموا بالعقيق فإنّه ينفي الفقر» .(1/540)
ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه لبس خاتما كلّه عقيقا.
وعن عائشة مرفوعا: «تختّموا بالعقيق فإنّه مبارك» أخرجه ابن عديّ،
والبيهقيّ في «الشعب» ؛ من طريق يعقوب بن الوليد وهو متروك، بل كذّبه أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما.
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: «من تختّم بالعقيق لم يزل يرى خيرا» . أخرجه ابن حبّان في «الضعفاء» ؛ من طريق أبي بكر بن شعيب؛ عن مالك؛ عن الزهريّ؛ عن عمرو بن الشّريد؛ عن فاطمة. قال ابن حبّان: إنّ ابن شعيب يروي عن مالك ما ليس من حديثه، لا يحلّ الاحتجاج به.
قال السخاوي: وهذا الحديث عند الطبرانيّ، وأبي نعيم، وغيرهما من طرق سواه، ومع ذلك فهو باطل، وكذا ورد في خاتم العقيق أحاديث غير هذا؛
كحديث عمر: «تختّموا بالعقيق، فإنّ جبريل أتاني به من الجنّة، وقال:
تختّم به، وأمر أمّتك أن تتختّم به» . رواه الديلميّ؛ وهو موضوع.
وحديث علي: «من تختّم بالعقيق، ونقش فيه: وما توفيقي إلّا بالله وفّقه الله لكلّ خير، وأحبّه الملكان الموكلان به» . وهذا كذب؛ قاله السخاوي.
وكلّ ما ورد في خاتم العقيق من الأحاديث؛ فإنّه لا يثبت؛ وإن كثرت طرقه كما قاله الحافظ ابن رجب-.
قال القسطلاني في «المواهب» : (ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه لبس خاتما كلّه) تأكيد لخاتم (عقيقا) نعت له. قال السيوطي في «مختصر الموضوعات» : وأمثل ما ورد في هذا الباب حديث البخاريّ في «التاريخ» : «من تختّم بالعقيق لم يقض له إلّا بالّتي هي أحسن» . انتهى. فهذا أصل أصيل فيه. انتهى؛ نقله الزرقاني رحمه الله تعالى.
والعقيق كأمير: خرز أحمر تتّخذ منه الفصوص يكون باليمن بالقرب من الشّحر، يتكوّن ليكون مرجانا فيمنعه اليبس والبرد.(1/541)
وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم من فضّة فصّه منه.
قال التيفاشي: يؤتى به من اليمن من معادن له بصنعاء؛ ثمّ يؤتى به إلى «عدن» ، ومنها يجلب إلى سائر البلاد، وذكر «القاموس» في مادة قرأ: أنّ معدن العقيق في موضع قرب صنعاء يقال له «مقرأ» ، وبسواحل بحر روميّة منه جنس كدر كماء يجري من اللّحم المملّح، وفيه خطوط بيض خفيّة؛ وهو المعروف بالرطبي؛ قاله التيقاشي.
وأجود أنواعه الأحمر، فالأصفر، فالأبيض، وغيرها رديء، ومن خواصّ الأحمر منه: أنّ من تختم به سكنت روعته عند الخصام، وزال عنه الهمّ والخفقان، وانقطع عنه الدم من أي موضع كان؛ ولا سيّما النساء اللّواتي يدوم طمثهنّ، وشربه يذهب الطحال، ويفتح السدد، ونحاتة جميع أصنافه تذهب حفر الأسنان، ومحروقه يثبت متحرّكها ويشدّ اللّثّة، والواحدة «عقيقة» بهاء، والجمع عقايق. قاله في «شرح القاموس» .
(و) أخرج البخاريّ، وغيره، وهذا لفظ «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان خاتمه صلّى الله عليه وسلم من فضّة فصّه منه) «من» تبعيضية.
والضمير للخاتم؛ أي: فصّه من بعضه؛ لا أنّه حجر منفصل عنه.
قال العراقيّ: لم ينقل كيف كان فصّ الخاتم: أمربّعا، أم مثلثا، أم مدورا؟ إلّا أنّ التربيع أقرب إلى النقش فيه. انتهى.
وقد تقدّم في رواية مسلم أنّ فصّه كان حبشيا.
قال النوويّ في «شرح مسلم» : قال ابن عبد البرّ رواية «فصّه منه» أصحّ.
وقال غيره: كلاهما صحيح، ويجمع بينهما بتعدّد الخاتم، فلا تعارض بين رواية مسلم، والبخاريّ. وبهذا جمع البيهقيّ؛ فقال في «الشعب» : حديث كان فصّه حبشيا فيه دلالة على أنّه كان له خاتمان، أحدهما فصّه حبشيّ، والآخر فصّه منه.
وقال في موضع آخر: الأشبه بسائر الروايات أنّ الذي كان فصّه حبشيا هو(1/542)
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضّة، فكان يختم به ولا يلبسه.
الخاتم الذي اتّخذه من ذهب ثمّ طرحه، والذي كان فصّه منه هو الذي اتّخذه من فضة.
وفي حديث معيقيب: كان خاتمه من حديد ملويّ عليه فضّة، فربّما كان في يده، وليس في شيء من الأحاديث أنّه ظاهر بينهما؛ أي: لبسهما معا.
ووافقه على هذا الجمع ابن العربيّ، والقرطبيّ، والنوويّ، قال الحافظ ابن حجر: وهو أظهر. وقد ورد في حديث غريب كراهة كون فصّ الخاتم من غيره.
ففي كتاب «المحدّث الفاصل» ؛ من رواية عليّ بن زيد؛ عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه كره أن يلبس خاتما ويجعل فصّه من غيره، فالمستحبّ أن يكون فصّ الخاتم منه لا من غيره.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:
أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم اتّخذ) أي: اقتنى (خاتما من فضّة) .
جزم ابن سيّد الناس بأنّ اتّخاذه صلّى الله عليه وسلم للخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنّه كان في السادسة، وجمع بأنّه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ لأنّه إنما اتّخذه عند إرادة مكاتبة الملوك، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ستّ، ووجّه الرسل الذين أرسلهم إلى الملوك في المحرم من السابعة، وكان الاتّخاذ قبيل التوجيه. قال ابن العربي: وكان قبل ذلك إذا كتب كتابا ختمه بظفره.
قال الزين العراقي: ولم ينقل كيف كانت صفة خاتمه الشريف: هل كان مربعا، أو مثلثا، أو مدوّرا؟ وعمل الناس في ذلك مختلف، لكن التربيع أقرب إلى النقش فيه والختم به.
(فكان يختم به) الكتب التي يرسلها للملوك (ولا يلبسه) - بفتح الموحدة-.
وهذا ينافي الأخبار الآتية الدالة على أنّه كان يلبسه في يمينه.(1/543)
وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يلبس خاتمه في يمينه.
ويدفع التنافي بأنّ له صلّى الله عليه وسلم خاتمين؛ أحدهما: منقوش بصدد الختم به، وكان لا يلبسه، والثاني: كان يلبسه ليقتدى به، أو أنّ المراد أنّه لا يلبسه دائما بل غبّا، فلا منافاة حينئذ. وقد يقال: لم يلبسه أوّلا بل اتّخذه لضرورة الختم؛ ولم يلبسه، فخاف من توهّم أنّه اتّخذه لزينة فلبسه، والله أعلم.
(و) أخرج أبو داود، والنسائي، وابن حبّان وصحّحه، والترمذيّ في «الشمائل» واللّفظ له؛ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:
(كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يلبس) - بفتح الباء-؛ من اللّبس- بضم اللّام- (خاتمه) بفتح التاء وتكسر- (في يمينه) ؛ أي: في خنصر يده اليمنى، فالتختّم فيها أفضل اقتداء به صلّى الله عليه وسلم لكونه أكثر أحواله؛ كما قال ابن حجر، ولأنّ التختّم فيه نوع تكريم، وتشريف، وتزيّن، واليمنى بذلك أحقّ، وكونه صار شعار الروافض!! لا أصل له.
وتختّمه في اليسار الذي أخذ به مالك؛ ففضّله على اليمين!! حمله الشافعيّة على بيان الجواز، وقول بعضهم: «التختّم في اليسار مرويّ عن عائشة، وجميع الصحب، والتابعين» !! معارض بقول الحافظ الزين العراقيّ في «شرح الترمذيّ» وتبعه تلميذه الحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى-: ورد تختّمه في اليمين من رواية تسعة من الصحابة، وفي اليسار من رواية ثلاثة منهم. هكذا قال الحافظان، وذكرهما الثلاثة فقط يعكّر عليه نقل الزين العراقي نفسه التختّم في اليسار عن الخلفاء الأربعة، وابن عمرو، وعمرو بن حريث، لكنّ سنده إلى الخلفاء الأربعة منقطع.
وقول ابن رجب «ورد في حديث أنّ تختّمه في اليسار آخر الأمرين من فعله صلّى الله عليه وسلم» !! لا يقاوم نقل الترمذيّ عن البخاريّ أنّ التختّم في اليمين أصحّ شيء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب، وإذا كان أصحّ؛ فلا وجه للعدول عن ترجيح أفضليّته.
ويجمع بين روايات اليمين وروايات اليسار: بأنّ كلّا منها وقع في بعض الأحوال، أو أنّه صلّى الله عليه وسلم كان له خاتمان؛ كلّ واحد في يد على ما فيه، كما تقدم(1/544)
والتّختّم في اليسار ليس مكروها، ولا خلاف الأولى، بل هو سنّة لوروده في أحاديث صحيحة، لكن التّختّم في اليمين أفضل؛ لأنّ أحاديثه أصحّ ...
الجمع بذلك، بين ما فصّه حبشيّ، وما فصّه منه. ذكره المناوي، والباجوري؛ قالا: وقد أحسن الحافظ العراقيّ حيث نظم ذلك فقال:
يلبسه كما روى البخاري ... في خنصر يمين أو يسار
كلاهما في مسلم ويجمع ... بأنّ ذا في حالتين يقع
أو خاتمين كلّ واحد بيد ... كما بفصّ حبشيّ قد ورد
(و) بالجملة ف (التّختّم في اليسار) - بفتح الياء- (ليس مكروها) كراهة تنزيه؛ (ولا خلاف الأولى، بل هو) ؛ أي: التختّم في اليسار (سنّة لوروده في أحاديث صحيحة) منها حديث مسلم، عن أنس رضي الله عنه:
«كان خاتمه صلّى الله عليه وسلم في هذه، وأشار لخنصر يسراه. ومنها حديث أبي داود؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يساره.
بل قال في «المواهب» : إنّه نصّ الإمام أحمد في رواية صالح؛ قال: التختّم في اليسار أحبّ إليّ. وهو مذهب الإمام مالك.
ويروى أنّه كان يلبسه في يساره، وكذلك الإمام الشافعيّ. بل ذكر بعض الحفاظ أنّ التختّم في اليسار مرويّ عن عامّة الصحابة، والتابعين، ومعنى كونه مرويّا عن عامتهم أنّهم قائلون بأفضليّته على اليمين، لا أنّهم نقلوه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
(لكن التّختّم في اليمين أفضل) من التختّم في اليسار، بل قال الترمذيّ في «جامعه» : روي عن أنس: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم تختّم في يساره، وهو لا يصح. انتهى.
لكنّ كلام الترمذيّ مردود برواية مسلم السابقة وغيرها، ولذلك ساغ قوله:
(لأنّ أحاديثه) ؛ أي: التختم في اليمين (أصحّ) ، وأكثره من أحاديث التختّم في اليسار، فقد روى البخاريّ، والترمذي؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:(1/545)
قاله الباجوريّ.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتختّم في يساره.
كان صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه. ورواه مسلم، والنسائي؛ عن أنس رضي الله عنه وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن جعفر.
روى حمّاد بن سلمة قال: رأيت ابن أبي رافع يتختّم في يمينه، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت عبد الله بن جعفر يتختّم في يمينه. وقال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه» . أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ، وقال الترمذيّ: قال محمّد- يعني البخاريّ-: هذا أصحّ شيء روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب.
وفي «الشمائل» للترمذيّ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه.
وروى أبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن محمّد بن إسحاق قال:
رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمنى فسألته، فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، ولا إخاله إلّا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يمينه؛ (قاله) ؛ أي: هذا الكلام الذي نقله المصنّف متصرّفا فيه؛ قاله شيخ الإسلام إبراهيم (الباجوريّ) في حاشيته المسماة ب «المواهب اللدنية على الشمائل الترمذيّة» .
(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يتختّم في يساره) ورمز له برمز مسلم، وقد مرّ حديث أبي داود؛ عن ابن عمر في ذلك. بل قال الحافظ ابن رجب:
وقد جاء التصريح بأنّ تختّمه عليه الصلاة والسلام في يساره كان آخر الأمرين، في حديث رواه سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير؛ عن عبد الله بن عطاء؛ عن نافع؛ عن ابن عمر: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتختّم في يمينه، ثمّ إنّه حوّله(1/546)
.........
إلى يساره. أخرجه ابن عديّ، وأبو الشيخ، واعتمد ذلك البغويّ في «شرح السنة» . وجمع بها بين الأخبار.
وتعقّبه الطبريّ: بأنّ ظاهره النسخ وليس بمراد، وقال الحافظ ابن حجر: لو صحّ هذا لكان قاطعا للنزاع! لكنّ سنده ضعيف، وله شاهد عند ابن عساكر عن عائشة بإسناد ضعيف أيضا.
وجمع البيهقيّ بين أحاديث تختّمه في يمينه، وأحاديث تختّمه في يساره؛ بأنّ الذي لبسه في يمينه خاتم الذهب، ثمّ نبذه كما في حديث ابن عمر، والذي في يساره خاتم الفضّة. انتهى «زرقاني» .
ولم يبيّن في هذا الحديث وما قبله من الأحاديث في أيّ الأصابع وضعه فيها، لكن الذي في «الصحيحين» : تعيين الخنصر. بل في مسلم، وأبي داود، والترمذيّ: النهي عن لبسه في السبابة والوسطى، ولم يثبت في الإبهام والبنصر شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا عن صحبه!! فثبت ندبه في الخنصر فقط، فالسنّة إذن جعله في الختصر.
وحكمته: أنّه أبعد عن الامتهان فيما يتعاطاه الإنسان باليد، وأنّه لا يشغل اليد عمّا تزاوله من الأعمال، بخلاف ما لو كان في غير الخنصر. انتهى «مناوي» .
والحاصل: أنّه يجوز التختّم في اليمين واليسار؛ ولو لغير ذي منصب، وتحصل السنّة بكلّ منهما، كما تحصل السنّة بلبس الخاتم؛ ولو مستعارا، أو مستأجرا، والأوفق للاتّباع للبسه بالملك، وكونه في الخنصر أفضل.
ويجوز تعدّد الخواتيم اتخاذا. وأمّا الاستعمال: فمفهوم كلام الرافعي عدم الجواز، وبه صرّح المحبّ الطبريّ؛ فقال: المتّجه أنّه لا يجوز للرجل أن يلبس خاتمين من فضة في يديه، أو في إحداهما؛ لأنّ استعمال الفضّة حرام، إلا ما وردت به الرخصة، ولم ترد إلّا في خاتم واحد.
وفي «التحفة» لابن حجر: ويتّجه اعتماد كلام «الروضة» الظاهر في حرمة(1/547)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يجعل فصّ خاتمه ممّا يلي كفّه.
التعدّد مطلقا؛ لأنّ الأصل في الفضة التحريم على الرجل؛ إلّا ما صحّ الإذن فيه، ولم يصحّ في الأكثر من الواحد.
ثمّ رأيت المحبّ الطبريّ علّل بذلك، وهو ظاهر جليّ. انتهى.
هذا معتمد «التحفة» ، لكنّه صرح في «الإمداد» ، و «النهاية» ، وغيرهما بكراهة لبس خاتمين. انتهى.
ويكره للرجل لبسه في غير الخنصر، ويجوز لبسه بفصّ، وبدونه، وجعله في باطن الكفّ أفضل، لأنّ حديثه أصحّ من حديث جعله في ظاهر الكفّ.
ويجوز نقشه ولو بذكر؛ ولا يكره، ويسنّ كونه دون مثقال، فإن بلغ مثقالا، وعدّه العرف إسرافا حرم، وإلّا! فلا على الأوجه، والعبرة بعرف أمثال اللّابس كما اعتمده في «التحفة» و «النهاية» -.
قال في «الإمداد» : ينبغي أنّ العرف لو اختلف باختلاف المحالّ، أو الحرف، ونحوهما: يقيّد أهل كلّ محلّ أو حرفة بعرفه. انتهى؛ نقله عنه الكردي.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يجعل فصّ خاتمه) - مثلّث الفاء كما تقدّم- (ممّا يلي كفّه) ؛ أي: ما يلي بطن كفّه؛ كما في مسلم، فجعله كذلك أفضل اقتداء بفعله صلّى الله عليه وسلم.
قال العلماء: ولم يأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، فيجوز جعل فصّه في باطن الكفّ وظاهرها، وقد عمل السلف بالوجهين، وممّن اتّخذه في ظاهرها الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ قالوا: ولكن الأفضل الأوّل اقتداء به صلّى الله عليه وسلم، ولأنّه أصون لفصّه، وأسلم، وأبعد عن الزهد والإعجاب؛ كذا ذكره النووي في «شرح مسلم» .(1/548)
وكان نقش خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (محمّد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتب إلى العجم ...
والكفّ مؤنثة؛ سمّيت بذلك!! لأنّها تكفّ؛ أي: تدفع عن البدن.
(و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان نقش خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «محمّد» سطر) مبتدأ وخبر، (و «رسول» سطر) مبتدأ وخبر أيضا، ويجوز في «رسول» التنوين بقطع النظر عن الحكاية، وترك التنوين نظرا للحكاية.
(و «الله» سطر) مبتدأ وخبر أيضا، ويجوز في لفظ الجلالة الرفع بقطع النظر عن الحكاية، والجرّ بالنظر لها.
وظاهر ذلك أنّ «محمّدا» هو السطر الأوّل، و «رسول» هو السطر الثاني، ولفظ «الجلالة» هو السطر الثالث.
ويؤيّده رواية الإسماعيلي: «محمّد» سطر، والسطر الثاني «رسول» ، والسّطر الثالث «الله» . وفي «تاريخ ابن كثير» عن بعضهم أنّ كتابته كانت مستقيمة، وكانت تطبع كتابة مستقيمة «1» . انتهى. وهو معجزة ظاهرة.
(و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ واللفظ لها:
(عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم) حين رجع من الحديبية (أن يكتب) المكاتيب التي فيها الدعوة إلى الله تعالى، ويرسلها (إلى العجم) ؛ أي: إلى عظمائهم وملوكهم، والمراد بالعجم ما عدا العرب، فيشمل الروم وغيرهم.
__________
(1) هكذا في الأصل!!.(1/549)
قيل له: إنّ العجم لا يقبلون إلّا كتابا عليه خاتم. فاصطنع خاتما، فكأنّي أنظر إلى بياضه في كفّه.
وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى كسرى، (قيل له) - أي: قال له رجل، قيل: من قريش، وقيل: من العجم- (: إنّ العجم لا يقبلون) - أي: لا يعتمدون- (إلّا كتابا عليه خاتم) - بالفتح والكسر- أي: نقش خاتم، فهو على تقدير مضاف. وعدم قبولهم له! لأنّه إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ؛ فلا يعملون به، ولأنّ ترك ختمه تشعر بترك تعظيم المكتوب إليه، بخلاف ختمه، فإنّ فيه تعظيما لشأنه.
(فاصطنع خاتما) ؛ أي: فلأجل ذلك أمر بأن يصطنع له خاتم، فالتركيب فيه مجاز عقلي، على حد قولهم: بنى الأمير المدينة؛ والصانع له كان يعلى بن أمية.
(فكأنّي أنظر إلى بياضه) ، أي: بياض الخاتم، لأنه كان من فضة (في كفّه) . ظاهره أنّه من باطن أصبعه، وفي ذلك إشارة إلى كمال إتقانه، واستحضاره لهذا الخبر حال الحكاية، كأنّه يخبر عن مشاهدة.
ويدلّ هذا الحديث على مشروعيّة المراسلة بالكتب، وقد جعل الله ذلك سنّة في خلقه، أطبق عليها الأوّلون والآخرون. وأوّل من استفاض ذلك عنه نبيّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام، إذ أرسل كتابه إلى بلقيس مع الهدهد.
ويؤخذ منه ندب معاشرة الناس بما يحبّون، وترك ما يكرهون واستئلاف العدوّ بما لا يضرّ، ولا محذور فيه شرعا؛ قاله المناوي.
(و) في «الصحيحين» و «الشمائل الترمذيّة» ، - واللّفظ لها-: (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كتب) - أي: أراد أن يكتب ليوافق الرواية السابقة- (إلى كسرى) - بكسر أوّله وفتحه-: ملك فارس، وهو معرّب خسرو بفتح الخاء، وسكون السين، وفتح الراء- أي: واسع الملك. والنسبة إليه «كسرويّ» ، وإن شئت «كسريّ» . وعن أبي عمرو: جمع كسرى: أكاسرة على غير(1/550)
وقيصر، والنّجاشيّ، فقيل له: إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا بخاتم، فصاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما حلقته فضّة، ونقش فيه: (محمّد رسول الله) .
قياس، فإنّ قياسه: كسرون؛ نقله ابن الكمال.
(وقيصر) ملك الروم، (والنّجاشيّ) ملك الحبشة، مخفّف عند الأكثر، وكان ذلك لقبا لكلّ من ملك إقليما من ذلك، ك «فرعون» لمن ملك القبط، و «العزيز» لمن ملك مصر، و «تبّع» لمن ملك حمير، و «خاقان» لمن ملك التّرك.
وسيأتي الكلام على النجاشي في مبحث الخف.
(فقيل له:) - وعند ابن سعد: فقالت له قريش-: (إنّهم) ؛ أي: هؤلاء الملوك (لا يقبلون كتابا إلّا) مختوما (بخاتم) ، لأنه إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ كما تقدم، ولذلك صرّح أصحابنا في «كتاب قاض إلى قاض» بأنّه لا بدّ من ختمه.
(فصاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتما) ؛ أي: أمر بصوغه. والصوغ: تهيئة الشيء على أمر مستقيم، وتقدّم أنّ الصايغ كان يعلى بن أميّة (حلقته) - بسكون اللام، وقد تفتح- (فضّة) ، فيه إشعار بأنّه لم يكن فصّه فضّة، بل حبشيّ- على ما تقدّم في بعض الروايات- (ونقش) ببنائه للفاعل؛ أي: أمر، أو للمفعول، وهو عليه حقيقة (فيه) أي: في الخاتم؛ أي: فصّه: (محمّد رسول الله) ، وختم به الكتب.
فلما جاء كتابه إلى كسرى مزّقه، فدعا عليه؛ فمزّق ملكه.
ولما أتى إلى هرقل حفظه فحفظ ملكه.
ولما أتى الكتاب إلى النجاشي أسلم، وذلك سنة ستّ، واسمه أصحمة، ومات سنة تسع، وصلّى على جنازته، وكتب له كتابا ثانيا ليزوّجه أمّ حبيبة رضي الله تعالى عنها.
وفي هذا الحديث وما قبله: حلّ نقش اسم الله تعالى على الخاتم، والردّ على من كره ذلك؛ كابن سيرين. وقد كان نقش خاتم عليّ: لله الملك. وحذيفة؛(1/551)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يختم الكتب ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، فكان يلبسه في يمينه، ...
وابن الجرّاح: الحمد لله. وأبي جعفر الباقر: العزّة لله. وإبراهيم النخعي: الثّقة بالله. ومسروق: باسم الله. فأولى نقش اسم الإنسان، ونسبه، ولقبه؛ ليحصل به تمييزه.
قال ابن جماعة: ونقش الخواتم تارة تكون كتابة؛ وتارة تكون غيرها، فإن لم تكن كتابة؛ بل لمجرّد التحسين! فهو مقصد مباح إذا لم يقارنه ما يحرّمه، كنقش نحو صورة، وإن كان كتابة! فتارة ينقش من الألفاظ الحكميّة ما يفيد تذكّره كلّ وقت وعدم الغفلة عنه؛ كما روي أنّ عمر نقش على خاتمه: كفى بالموت واعظا. وهذا مقصد صالح، وتارة ينقش اسم صاحبه للختم به، وهذا هو المراد هنا. انتهى.
(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم يختم الكتب) - جمع كتاب- (ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» ) - بضمّ المثنّاة الفوقيّة المشدّدة، وفتح الهاء على وزان: رطبة، والسكون لغة، وأصل التاء واو، يقال: اتّهمته في قوله؛ شككت في صدقه. أي: أنّ الكتاب إذا لم يختم تطرّق إلى مضمونه الشكّ- كما تقدم-.
(و) أخرج الإمام مالك في «الموطّأ» ، والبخاريّ؛ ومسلم في «صحيحيهما» ، وأبو داود، والنسائي، والترمذيّ، في «الجامع» و «الشمائل» - واللّفظ لها- (عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتما من ذهب) ، زاد البخاريّ: «وجعل فصّه مما يلي كفّه، ونقش فيه محمّد رسول الله» . لكن ليس فيه قوله:
(فكان يلبسه في يمينه) ؛ أي: قبل تحريم الذهب على الرجال. قال(1/552)
فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب، فطرحه، وقال: «لا ألبسه أبدا» ، فطرح النّاس خواتيمهم.
وعن ابن عمر أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضّة، وجعل فصّه ممّا يلي كفّه، ...
البيهقيّ: وهذا الخاتم هو الذي كان فصّه حبشيا. (فاتّخذ النّاس خواتيم) ؛ جمع خاتم، والياء فيه للإشباع. (من ذهب) تبعا له صلّى الله عليه وسلم. (فطرحه) ، أي: رمى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وقال: «لا ألبسه أبدا» ) لما رأى من زهوّهم بلبسه، وصادق ذلك نزول الوحي بتحريمه، ففي «الصحيحين» : قال البراء: فصعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر فألقاه، ونهى عن التختّم بالذّهب.
وفي ذلك التصريح بأنّه لم يقتصر على الإلقاء؛ لأنّه بمجرّده لا يدلّ على التحريم. قال القسطلّاني في «المواهب» : وهو- أي: التحريم- مذهب الأئمّة الأربعة: مالك، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد وأكثر العلماء رضي الله تعالى عنهم. (فطرح النّاس خواتيمهم) ؛ أي: من أيديهم تبعا له صلّى الله عليه وسلم. والخواتيم:
جمع خاتم؛ كالخواتم، والياء فيه للإشباع.
قال ابن حجر: وهذا الحديث هو الناسخ لحلّه؛ مع قوله صلّى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وقد أخذ ذهبا في يد وحريرا في يد؛ وقال: «هذان حرام على ذكور أمّتي؛ حلّ لإناثها» .
ووقع لبعض من لا إلمام له بالفقه هنا تخليط فاجتنبه، كيف والأئمّة الأربعة على تحريمه؟! للنهي عنه في حديث «الصحيحين» وغيرهما، ورخّصت فيه طائفة، واستدلّوا بأنّ خمسة من الصحابة ماتوا وخواتيمهم من ذهب، ويردّ بأنّ ذلك إن صحّ عنهم يتعيّن حمله على أنّه لم يبلغهم النهي عنه. انتهى.
(و) في «مسلم» ، و «الشمائل» ؛- واللّفظ لها-: (عن ابن عمر أيضا) رضي الله تعالى عنهما (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم اتّخذ خاتما من فضّة) ؛ أي: للختم به، وفي رواية: اتّخذها خاتما كلّه من فضّة (وجعل فصّه ممّا يلي كفّه) . وفي رواية(1/553)
ونقش فيه محمّد رسول الله، ونهى أن ينقش أحد عليه.
لمسلم: ممّا يلي باطن كفّه. وهي تفسير للأولى.
وعورض هذا الحديث بما رواه أبو داود؛ من رواية الصّلت بن عبد الله قال:
رأيت ابن عبّاس يلبس خاتمه هكذا؛ وجعل فصّه على ظهرها. قال: ولا إخال ابن عبّاس إلّا وقد كان يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه كذلك.
وقد يجمع بما قاله الزين العراقيّ من أنه وقع مرّة هكذا ومرّة هكذا، قال:
ورواية جعله ممّا يلي كفّه أصحّ؛ فهو الأفضل. قال ابن العربي: ولا أعلم وجهه.
ووجّهه النوويّ بأنّه أبعد عن الزهو والعجب، وبأنّه أحفظ للنقش الذي فيه من أن يحاكي أن ينقش مثله، أو يصيبه صدمة، أو عود صلب، فيغيّر نقشه الذي اتّخذ لأجله.
(ونقش فيه) - أي: أمر بنقشه فهو بالبناء للفاعل، لكن على المجاز على حد قولهم: بنى الأمير المدينة- (محمّد رسول الله) ؛ أي: هذه الألفاظ.
قال الزين العراقيّ: وهل قصد به اسمه فقط!؟ فيكون قول «رسول الله» صفة لقوله «محمّد» لا خبر له، ويكون كما لو كتب: محمد بن عبد الله، كما نقش ابن عمر على خاتمه عبد الله بن عمر، وعليه فيكون خبر المبتدأ محذوفا؛ أي:
مالكه، أو صاحبه «محمد رسول الله» ، وكأنّه رمز به إلى صاحبه، كما رمز في كتب الحديث إلى صاحب تلك الرواية بكتابة اسمه عليها!! أو أراد به الإتيان بإحدى كلمتي الشهادة على أنّه مبتدأ وخبر؟ وعليه فهل أريد بعض القرآن؛ فيكون حجّة على جواز ذلك، وردّ على من كرهه من السلف، أو لم يقصد به القرآن؟ كلّ محتمل.
ويدلّ على أنّه أريد إحدى كلمتي الشهادة؛ الحديث الوارد في نقش كلمتي الشهادة على الخاتم. انتهى؛ نقله المناوي.
(ونهى) أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم (أن ينقش) بضمّ القاف (أحد عليه) أي: مثل نقشه؛ وهو: محمد رسول الله، كما يدلّ له رواية البخاريّ، ومسلم؛ عن أنس:(1/554)
وهو الّذي سقط من معيقيب في بئر أريس.
و (معيقيب) : هو من أهل بدر، وكان يلي خاتم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، والخلفاء من بعده.
اتّخذ رسول الله خاتما من فضّة، ونقش فيه: «محمّد رسول الله» ، وقال للنّاس:
«إنّي اتّخذت خاتما من ورق، ونقشت فيه: محمّد رسول الله. فلا ينقش أحد على نقشه» .
والحكمة في النهي عن ذلك: أنّه كان يختم به للملوك، فلو نقش غيره مثله لأدّى إلى الإلباس والفساد.
وما روي أنّ معاذا نقش على خاتمه: (محمّد رسول الله) وأقرّه المصطفى صلّى الله عليه وسلم!! فلم يثبت، وبفرض ثبوته!! فهو قبل النهي، ويظهر- كما قاله ابن جماعة، والزين العراقيّ-: أنّ النهي خاصّ بحياته صلّى الله عليه وسلم أخذا من العلّة. انتهى باجوري بزيادة.
(وهو الّذي سقط من معيقيب) بن أبي فاطمة الدوسيّ (في بئر أريس) بوزن «أمير» ، وهي الكائنة في قباء، ويقال لها: بئر الخاتم. (ومعيقيب) - بضمّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتيّتين، وقاف مكسورة بينهما، وموحدة في آخره- تصغير معقاب ك «مفضال» ، (هو) مولى سعد بن أبي العاص، وكان (من أهل بدر) : أسلم قديما بمكّة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها حتّى قدم على النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالمدينة.
(وكان يلي خاتم المصطفى صلّى الله عليه وسلم) بالمدينة المنوّرة، (و) يلي خاتم (الخلفاء من بعده) ، واستعمله أبو بكر، وعمر، وعثمان على بيت المال.
وهو قليل الحديث. قيل: مرويّاته سبعة أحاديث؛ اتّفق البخاريّ ومسلم على واحد منها، وانفرد البخاريّ بواحد. ومات سنة: أربعين هجريّة، وقيل: في آخر خلافة عثمان، وقيل: في خلافة عليّ.
قال الزركشيّ وغيره: كان به علّة من جذام، فعولج بأمر عمر بن الخطّاب(1/555)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ورق، فكان في يده، ثمّ كان في يد أبي بكر، وفي يد عمر، ثمّ كان في يد عثمان ...
بالحنظل فوقف، وكان بأنس طرف من برص. قال بعض الحفّاظ: ولا يعرف في الصحابة من أصيب بذلك غيرهما.
(و) أخرج الشيخان: البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» ، والترمذيّ في «الشمائل» ، وغيرها؛ (عن عبد الله بن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتما من ورق) - بكسر الراء- وفي رواية: من فضّة.
وكان اتّخاذه سنة سبع، كما جزم به ابن سيّد الناس، وجزم غيره بأنّه في السادسة!! وجمع الحافظ ابن حجر بينهما بأنّه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة؛ كما مرّ، وكان صانع الخاتم يعلى بن منيّة، وهو اسم أمّه، واسم أبيه: أميّة؛ كما تقدّم.
وروى الدارقطنيّ، وغيره؛ عن يعلى بن منيّة قال: أنا صنعت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه: محمد رسول الله.
(فكان في يده) ؛ أي: في خنصر يده اليمنى، فهو من باب إطلاق الكلّ وإرادة الجزء، وهكذا يقال في لاحقه، (ثمّ) بعد وفاة المصطفى صلّى الله عليه وسلم (كان في يد أبي بكر) الصدّيق رضي الله تعالى عنه مدّة خلافته، (و) بعد أبي بكر كان (في يد عمر) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه مدّة خلافته، (ثمّ) بعد موت عمر (كان في يد عثمان) بن عفّان رضي الله تعالى عنه ستّ سنين من خلافته، كما في بعض الروايات، وثمّ هنا للتراخي في الرتبة.
وظاهر هذا الحديث مخالف لما ورد، من أنّ أبا بكر جعل الخاتم عند معيقيب ليحفظه ويدفعه للخليفة وقت الحاجة إلى الختم؛ كما رواه أبو داود، وغيره. بل في رواية البخاريّ؛ عن ابن عمر: «فلبس الخاتم بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان» .(1/556)
حتّى وقع في بئر أريس، نقشه: محمّد رسول الله.
وهو صريح في المخالفة لرواية أبي داود وغيره، وتدفع المخالفة بأنّهم لبسوه أحيانا للتبرّك، وكان مقرّه عند معيقيب؛ جمعا بين الروايات.
وقيل: المراد من كون الخاتم في أيديهم أنّه كان عندهم في تصرّفهم، كما يقال في العرف: هذا الشيء في يد فلان؛ أي: عنده وفي تصرّفه، فلا يلزم منه لبسه، وهذه تردّه رواية البخاريّ المارّة، والله أعلم.
ويؤخذ من ذلك: أنّه يجوز للشخص استعمال ختم منقوش باسم غيره بعد موته. لأنّه لا التباس بعد موته، قال النووي: وفي الحديث التبرّك بآثار الصالحين، ولبس ملابسهم. انتهى.
(حتّى وقع) ؛ أي: إلى أن سقط في أثناء خلافة عثمان منه، كما في رواية البخاريّ، أو من معيقيب، كما في «الشمائل» ، وبعض طرق مسلم، ويحتمل كما في «القسطلّاني» - أنّه لمّا طلبه من معيقيب ليختم به شيئا استمرّ في يده، وهو متفكّر في شيء يعبث به، ثمّ دفعه في تفكّره إلى معيقيب، فاشتغل بأخذه فسقط، فنسب سقوطه لكلّ منهما، أحدهما حقيقة، والآخر مجازا. هذا غاية ما جمع به، والراجح من حيث الصناعة الأوّل، لاتّفاق رواية الشيخين عليه. انتهى.
(في بئر) - بالهمز، وتخفّف، وهي مؤنثة- (أريس) - بفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون المثنّاة التحتية، آخره سين مهملة، بوزن جليس، يصرف ولا يصرف- وهي بئر بحديقة قريبة من مسجد قباء؛ نسبة إلى رجل من اليهود اسمه أريس، وهو الفلّاح بلغة أهل الشام، ويقال لها: بئر الخاتم أيضا.
(نقشه) ؛ أي: نقش ذلك الخاتم أو نقش فصّه: (محمّد رسول الله) ، أي:
هذه الكلمة على الترتيب، زاد في رواية أبي داود، والنسائي: فاتّخذ عثمان خاتما، ونقش فيه: محمّد رسول الله، فكان يختم به. وله شاهد من مرسل عليّ بن الحسين عند ابن سعد في «الطبقات» .(1/557)
قال الباجوريّ: (وفي وقوعه إشارة إلى أنّ أمر الخلافة كان منوطا به، فقد تواصلت الفتن، وتفرّقت الكلمة، وحصل الهرج، ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلّى الله عليه وسلّم ما في خاتم سليمان من الأسرار؛ لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد.. ذهب ملكه، وخاتمه صلّى الله عليه وسلّم لمّا فقد من عثمان.. انتقض عليه الأمر، وفي «الصحيح» ؛ عن أنس: كان خاتم النبيّ صلّى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلمّا كان عثمان جلس في بئر أريس، فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به فسقط، فاختلفنا ثلاثة أيّام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده.
قال الحافظ ابن حجر وغيره: كان ذلك في السنة السابعة من خلافته رضي الله تعالى عنه.
(قال الباجوريّ) كالحافظ ابن حجر، وغيره: (وفي وقوعه) ؛ أي:
سقوطه في البئر (إشارة إلى أنّ أمر الخلافة) من حيث جمع الكلمة، واستقرار الأمور (كان منوطا) - أي: مربوطا ومعلّقا- (به) ؛ أي: بذلك الخاتم، لما فيه من السرّ؛ لأنّه من آثار الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم، (فقد تواصلت) - أي: تتابعت- (الفتن) بعد سقوطه، (وتفرّقت الكلمة) - أي: كلمة المسلمين- ونقموا على عثمان أشياء، واختلّ نظام الطاعة له، وكان من أمر عثمان ما هو مذكور في التواريخ. ثم أسندت الخلافة بعده إلى عليّ بن أبي طالب؛ مع وجود المنازعين له بسبب قتلة عثمان الذين كانوا في جيش عليّ، ووقعت حروب طاحنة بين الجماعة؛ التابعين لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وبين الجماعة المخالفين له، (وحصل) شقاق كبير بين الطائفتين، وكثر (الهرج) ؛ أي: القتل بين الفريقين، (ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلّى الله عليه وسلم) شيء من الأسرار؛ مثل (ما) كان (في خاتم) نبيّ الله (سليمان) بن داود عليهما الصلاة والسلام (من الأسرار) ، وذلك (لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد ذهب ملكه، و) كذلك (خاتمه صلّى الله عليه وسلم) ؛ فإنّه (لمّا فقد من عثمان) بن عفّان (انتقض عليه الأمر) ، وخرج عليه الخارجون، ووقع الاختلاف(1/558)
وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله، واتّصلت إلى آخر الزّمان) انتهى.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أشفق من الحاجة ينساها.. ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط.
إلى الآن، (وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله) شهيدا مظلوما؛ وهو يقرأ القرآن، والمصحف بين يديه، فوقع الدم على قوله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (137) [البقرة] .
(و) كان ذلك مبدأ الفتن التي (اتّصلت إلى آخر الزّمان) . قال ابن علّان في شرح «الأذكار» : والناس يعجبون من خاتم سليمان؛ وكانت المعجزة به في الشام فحسب! وهذا الخاتم مذ عدم اختلفت الكلمة، وزال الاتّفاق في جميع بلاد الإسلام، من أقصى خراسان إلى آخر بلاد المغرب! حفظنا الله وإيّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. آمين. (انتهى) ؛ أي: كلام الباجوري.
(و) أخرج ابن سعد، والحكيم الترمذيّ؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أشفق من الحاجة ينساها؛ ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط) . ورواه أبو يعلى؛ عن ابن عمر بلفظ: كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط في أصبعه خيطا ليذكرها. وفي سنده سالم بن عبد الأعلى؛ رماه ابن حبّان بالوضع، واتّهمه أبو حاتم بهذا الحديث، وقال: هذا حديث باطل. وروى ابن شاهين في «الناسخ» له النهي عنه، ثم قال: وجميع أسانيده منكرة، ولا أعلم شيئا منها صحيحا. ولابن عديّ بسند ضعيف؛ عن واثلة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة أوثق في خاتمه خيطا. وللدار قطني في «الأفراد» ؛ عن رافع بن خديج قال: رأيت في يد النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خيطا، فقلت:
ما هذا؟! قال: «أستذكر به» . انتهى. ذكر ذلك كلّه في «كشف الخفا ومزيل الإلباس» .(1/559)
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل الخلاء.. نزع خاتمه.
والذكر والنسيان من الله تعالى، لكنّ ربط الخيط سبب من الأسباب؛ لأنه نصب العين، فإذا رآه! ذكر ما نسي. فهذا سبب وضعه الله تعالى لعباده كسائر الأسباب، كحوز الأشياء بالأبواب، والأقفال، ونحوهما، وأهل اليقين؛ وهم الأنبياء لا تضرّهم الأسباب، بل يتعيّن فعلها عليهم للتشريع. والنسيان- كما قال بعض العارفين- من كمال العرفان؛ لأنّ الله تعالى نزّه نفسه عنه، وجعله من حقيقة العبد.
(و) أخرج أبو داود، والترمذيّ وقال: حسن، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبّان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، لكن قال النوويّ: ضعّفه أبو داود، والنسائي، والبيهقيّ، والجمهور، قال: وقول الترمذي: حسن! مردود. انتهى. وكذا رواه الترمذيّ في «الشمائل» ، واللّفظ لها، كلّهم؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء) - بالفتح والمدّ-؛ أي:
أراد الدخول إلى المحلّ الذي يتخلّى فيه لقضاء الحاجة، ويسمّى ب «الكنيف» ، والحش، والبراز- بفتح الموحّدة- والغائط، والمذهب، والمرفق، والمرحاض.
وسمّي بالخلاء! لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، أو لأنّ الشيطان الموكّل به اسمه «خلاء» ، ونصبه بنزع الخافض لا بالظرفيّه؛ خلافا لابن الحاجب، لأنّ «دخل» عدّته العرب بنفسه إلى كلّ ظرف مكان مختصّ، تقول: دخلت الدار، ودخلت المسجد، ونحوهما، كما عدّت «ذهب» إلى الشام خاصّة؛ فقالوا:
ذهبت الشام، ولا يقولون: ذهبت العراق، ولا اليمن. انتهى «مناوي» .
(نزع) ، وفي رواية أبي داود، وغيره: وضع (خاتمه) - بفتح التاء، وتكسر- أي: نزعه ووضعه خارج الخلاء، لاشتماله على اسم معظّم، بل على جملة من القرآن وهي (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) [49/ الفتح] . فاستصحابه في الخلاء مكروه تنزيها، وقيل: تحريما! وقد صرّح في رواية الحاكم بأنّ سبب الوضع ما نقش(1/560)
وجاء رجل وعليه خاتم من شبه.
وفي رواية: من صفر؛ وهو: نوع من النّحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام؟!» ، فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل عليه، ففيه: أنّ استصحابه في الخلاء ما نقش عليه معظّم مكروه كراهة تنزيه، وقيل كراهة تحريم. ولو نقش اسم معظّم كمحمّد، وجبريل، وقصد به المعظّم! كره استصحابه؛ كما رجحّه ابن جماعة، فإن لم يقصده! فلا؛ أخذا من الرافعيّ، نصّ الشافعي على حلّ كتابة «الله» في وسم نعم الصدقة «1» ؛ مع كونها تتلطّخ بالخبث؛ لأنّ المقصود من ذلك إنّما هو التمييز.
(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، والترمذيّ، وأبو داود، وابن حبّان في «صحيحه» ، والضياء في «المختارة» ، وأبو يعلى والبزّار في «مسنديهما» ، وغيرهم؛ باختلاف في بعض الألفاظ، وكلّهم يروونه عن بريدة- بالتصغير- بن الحصيب- بمهملتين مصغّرا أيضا- رضي الله تعالى عنهما قال: (جاء رجل) ، رواية الجماعة المذكورين: أنّه رأى رجلا جاء (وعليه خاتم من شبه) - بفتح الشين المعجمة والموحدة، وبإسكان الموحدة وكسر المعجمة؛ لغتان- ضرب من النحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، وسمّي بذلك لشبهه بالذهب لونا، (وفي رواية) للترمذيّ: (من صفر) - بضمّ الصاد المهملة، وإسكان الفاء، وبالراء، بدل من شبه، وهما بمعنى. (وهو) - أي: الصّفر- (نوع من) جيّد (النّحاس كانت الأصنام تتّخذ) - أي: تصنع- (منه) في الجاهليّة، (فقال:) - أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم للرّجل- ( «ما لي أجد) - أشمّ- (منك ريح الأصنام؟!» ) فضمّن «أجد» معنى «أشمّ» ، وأطلق على الأثر الذي يدركه منه: «ريحا» مجازا. (فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد، فقال) : - أي: النبيّ صلّى الله عليه وسلم- ( «ما لي أرى عليك حلية أهل
__________
(1) العلامة التي توضع على إبل الصدقة لتتميز عن غيرها وتصرف إلى مصارفها.(1/561)
النّار؟!» ، فطرحه، وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟
قال: «من ورق ولا تتمّه مثقالا» .
النّار؟!» ) - أي: زيّ الكفّار- فكرهه لذلك، أو لرائحته؛ (فطرحه) ، ثم قال له بعد ما جاءه وعليه خاتم من ذهب فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل الجنّة؟!» .
فطرحه.
(وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟ قال: «من ورق) - بكسر الراء- وفي رواية: «اتّخذه من فضّة؛ (ولا تتمّه مثقالا» ) - بكسر فسكون- درهم وثلاثة أسباع درهم.
قال ابن الأثير: وهو في الأصل مقدار من الوزن أيّ شيء كان؛ قلّ أو كثر.
فمعنى مثقال ذرة: وزنها. انتهى. وفي رواية: «ولا تزده على مثقال» .
وروي عند ابن عديّ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أراد صلّى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى فقال رجل: إنّهم لا يقرؤون كتابا إلّا مختوما، فأمر أن يعمل له خاتم من حديد، فقال له جبريل: انبذه من أصبعك! فنبذه، وأمر بخاتم من نحاس، فقال له جبريل: انبذه! فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق، فجعله في أصبعه، فأقرّه جبريل. انتهى.
قال ابن حجر: يجوز التختّم بنحو: الحديد، والنحاس، والرصاص بلا كراهة. وخبر: «ما لي أرى عليك حلية أهل النّار؟» لرجل وجده لابسا خاتما من حديد! ضعيف، لكن حسّنه بعضهم، فالأولى ترك ذلك. انتهى.
وقال النووي في شرح «المهذّب» : قال صاحب «الإبانة» : يكره الخاتم من حديد، أو شبه «1» ، وتابعه صاحب «البيان «2» » فقال: يكره الخاتم من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لحديث بريدة المذكور. وقال صاحب «التتمة» : لا يكره
__________
(1) الشبه- بفتحتين-: من المعادن، ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع النحاس.
(2) في الفقه الشافعي للعمراني.(1/562)
.........
الخاتم من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لحديث «الصحيحين» ؛ عن سهل:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال للّذي خطب الواهبة نفسها: «التمس ولو خاتما من حديد!!» . قال: ولو كان فيه كراهة! لم يأذن فيه. وفي «سنن» أبي داود بإسناد جيّد؛ عن معيقيب الصحابيّ: كان خاتمه عليه الصلاة والسلام من حديد ملويّ عليه فضّة. والمختار أنّه لا يكره؛ لهذين الحديثين. انتهى.
وقال في «شرح مسلم» في الكلام على حديث المرأة الواهبة [نفسها] «1» :
وفي هذا الحديث جواز اتّخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسّلف حكاه القاضي عياض، ولأصحابنا الشافعيّة في كراهته وجهان، أصحّهما: لا يكره؛ لأنّ الحديث في النهي عنه ضعيف. انتهى كلام النوويّ.
واعترض تضعيفه للحديث بتصحيح ابن حبّان، والضياء، وغيرهما له، فاعتذر القسطلّاني عن النووي بأنه تضعيف نسبيّ؛ أي: أنّ تضعيفه للحديث إنّما هو بالنسبة إلى مقاومة حديث سهل بن سعد في «الصحيحين» ، وغيرهما، في قصة الواهبة نفسها؛ لا مطلقا! فمعنى التضعيف: تقديم حديثهما عليه، على القاعدة في تقديم مرويّهما عند التعارض على غيره؛ وإن كان صحيحا، أو حسنا! إذ كيف يتوهّم أنّه ضعّفه مطلقا، - أي: حقيقة- وله في ذلك عدّة شواهد؛ إن لم ترفعه إلى درجة الصحّة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن؟! قال المناوي: وهذا الاعتذار جرى فيه على عادة أهل القرن العاشر من الانتصار لكلام النوويّ كيفما كان.
والإنصاف: أنّ خبر النّهي دليل صالح لكراهة التنزيه، وحديث «الصحيحين» بيان للجواز معها؛ فلا معارضة، ولذا رجّح المالكيّة كراهة الحديد ونحوه. وإنّما يقدّم خبر الشيخين عند تحقّق المعارضه. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: نفسه. والصواب ما أثبتناه.(1/563)
[الفصل الرّابع في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه]
الفصل الرّابع في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه (الفصل الرّابع) من الباب الثالث (في) بيان ما ورد في (صفة نعله صلّى الله عليه وسلم) ، وكيفية لبسه إيّاها، وما يتعلّق بذلك.
والنّعل: كل ما وقيت به القدم عن الأرض، وهي مؤنّثة، والجمع: أنعل، ونعال؛ مثل سهم وأسهم وسهام، وربّما ذكّرت النعل باعتبار الملبوس؛ لأنّ تأنيثها غير حقيقي.
ولا تشمل الخفّ عرفا؛ ومن ثمّ أفردها بترجمة؛ فقال:
(و) في بيان ما ورد في صفة (خفّه) صلّى الله عليه وسلم.
والخفّ معروف، جمعه: خفاف؛ كرمح، ورماح.
وذكر بعض أهل السيّر: أنّه كان له صلّى الله عليه وسلم عدّة خفاف؛ منها أربعة أزواج أصابها من خيبر، ومع ذلك؛ فقد كان صلّى الله عليه وسلم ربّما مشى حافيا، لا سيّما إلى العيادات، تواضعا، وطلبا لمزيد الأجر. كما أشار إلى ذلك الحافظ زين الدين العراقيّ رحمه الله تعالى في «ألفيّته» بقوله:
يمشي بلا نعل ولا خفّ إلى ... عيادة المريض حوله الملا
قال ابن العربيّ: والنّعل لباس الأنبياء، وإنّما اتّخذ الناس غيره لما في أرضهم من الطين. انتهى. ولعلّه أخذه من قوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [21/ طه] مع ما ثبت من لبسه صلّى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر عند مسلم رفعه: «استكثروا من النّعال، فإنّ الرّجل لا يزال راكبا ما انتعل» .
وكان ابن مسعود صاحب النّعلين، والوساد، والسّواك، والطّهور؛ كما في(1/564)
كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبالان ...
«الصحيح» :، كان يلي ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان يلبسه نعليه إذا قام، وإذا جلس جعلهما ابن مسعود في ذراعيه حتّى يقوم صلّى الله عليه وسلم.
وروى محمّد بن يحيى؛ عن القاسم بن محمّد قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقوم إذا جلس رسول الله ينزع نعليه من رجليه، ويدخلهما في ذراعيه، فإذا قام ألبسه إيّاهما، فيمشي بالعصا أمامه حتى يدخله الحجرة.
وقد ذكره جماعة؛ منهم ابن سعد: أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان صاحب نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإداوته. انتهى من «جمع الوسائل» و «جواهر البحار» للمصنّف.
روى الترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:
(كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبالان) - تثنية قبال؛ بكسر القاف وبالموحّدة آخره لام-.
وفي البخاريّ، وأبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، والنسائي؛ عن قتادة؛ عن أنس أنّ نعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لها قبالان بالإفراد. وفي رواية المستملي والحموي: أنّ نعلي النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان لهما- بالتثنية فيهما-.
وفي «الشمائل» بإسناد صحيح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبالان. انتهى. والمراد أنّ لكلّ فردة قبالين، بدليل رواية التثنية في البخاريّ.
وقال الكرماني: أي: لكلّ واحد من نعل كلّ رجل قبال واحد.
وردّه الحافظ ابن حجر بما للطبرانيّ، والبزّار- برجال ثقات- والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبالان، ولنعل أبي بكر قبالان، ولنعل عمر قبالان، وأوّل من عقد عقدا واحدا عثمان رضي الله عنه. انتهى؛ أي: أوّل من اتّخذ قبالا واحدا عثمان.
ووجه بأنّه أراد أن يبيّن أنّ اتخاذ القبالين قبل ذلك؛ ليس لكراهة قبال واحد، ولا لمخالفة الأولى؛ بل لكون ذلك هو المعتاد.(1/565)
مثنّى شراكهما.
و (القبال) : هو زمام يوضع بين الأصبع الوسطى والّتي تليها، ويسمّى شسعا.
وبذلك يعلم أنّ ترك النّعلين ولبس غيرهما ليس مكروها؛ ولا خلاف الأولى.
(مثنّى) - بضمّ الميم، وفتح المثلّثة وتشديد النّون المفتوحة، أو بفتح الميم وسكون المثلّثة وكسر النّون وتشديد الياء؛ روايتان من التّثنية، وهو: جعل الشّيء اثنين، ولا يليق جعله من الثّني؛ وهو ردّ شيء إلى شيء-.
(شراكهما) - بكسر الشّين المعجمة: أحد سيور النّعل يكون على وجهها، أي:
كان شراك نعله مجعولا اثنين، و «مثنى» بصيغة اسم المفعول صفة، و «شراكهما» نائب عن الفاعل، ويصحّ جعل «مثنى» خبرا مقدّما، و «شراكهما» مبتدأ مؤخّرا.
وهذا الحديث إسناده صحيح؛ كما قال الحافظ العراقيّ، ورواه ابن ماجه بسند قويّ. قال المصّنّف في «جواهر البحار» : صرّح بعض الحفّاظ بأنّ نعله صلّى الله عليه وسلم كانت صفراء، قال: وفي رواية أبي الشّيخ؛ عن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه: أنّ نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت من جلود البقر. وفي لفظ أبي ذرّ: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نعلين مخصوفتين من جلود البقر.
وروى الحارث بن أبي أسامة؛ عن حميد قال: حدّثني من سمع الأعرابيّ يقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليه نعلان من بقر. قال: وجزم بعض الحفّاظ بأنّه صلّى الله عليه وسلم كانت له نعل من طاق واحد، ونعل من أكثر. قال: وورد في خبر ضعيف أنّه صلّى الله عليه وسلم قال: «أمرت بالنّعلين والخاتم» .
وروى الطّبرانيّ؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: حمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعله بالسبّابة من يده اليسرى. انتهى كلام «جواهر البحار» .
(والقبال) - بكسر القاف وبالموحّدة ولام آخره- قال الباجوريّ وغيره: (هو زمام يوضع بين الأصبع الوسطى والّتي تليها، ويسمّى شسعا) - بكسر الشّين(1/566)
وكان صلّى الله عليه وسلّم يضع أحد القبالين بين الإبهام والّتي تليها، والآخر بين الوسطى والّتي تليها. و (الشّراك) : السّير.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان يلبس النّعال السّبتيّة؛ وهي الّتي لا شعر عليها، و ...
المعجمة، وسكون السّين المهملة- بوزن (حمل) ؛ كما في «القاموس» .
(و) قال الباجوريّ، والمصنّف في «جواهر البحار» ، وغيرهما: أفاد بعض حفّاظ الأئمّة أنّه (كان صلّى الله عليه وسلم يضع أحد القبالين) أي: الزمامين (بين الإبهام) ؛ أي:
إبهام رجله (والّتي تليها، و) يضع الزّمام (الآخر بين) الأصبع (الوسطى والّتي تليها) ، ويجمعهما؛ أي: الزّمامين إلى السّير الّذي بظهر قدمه؛ وهو الشّراك الّذي على وجهها، وكان مثّنى؛ كما في عدّة أحاديث. انتهى.
(والشّراك) - بكسر الشّين المعجمة وخفّة الرّاء وكاف آخره- هو: (السّير) الرقيق الّذي يكون في النّعل على ظهر القدم.
(و) أخرج البخاريّ ومسلم وغيرهما؛ في حديث طويل، والترمذيّ في «الشمائل» مختصرا، كلّهم من طريق الإمام مالك؛ عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ؛ عن عبيد بن جريج.
(عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب (رضي الله تعالى عنهما، أنّه) ؛ أي:
ابن عمر (كان يلبس) - بفتح الباء الموحّدة- (النّعال) ؛ أي: يختار لبسها (السّبتيّة) - بكسر السّين المهملة وسكون الموحّدة وكسر المثّناة الفوقيّة-: (وهي الّتي لا شعر عليها) ، نسبة للسّبت- بكسر السّين- وهو جلود البقر المدبوغة، سمّيت بذلك! لأنّ شعرها سبت عنها، أي: حلق وأزيل، إذ السّبت: القطع، أو لأنّها أسبتت بالدّباغ.
(و) لفظ «الشّمائل» ؛ عن عبيد بن جريج: أنّه قال لابن عمر: رأيتك تلبس(1/567)
قال: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس النّعال الّتي ليس فيها شعر، ويتوضّأ فيها، فأنا أحبّ أن ألبسها.
النّعال السّبتيّة!! (قال: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبس النّعال الّتي ليس فيها شعر) . وهي السّبتيّة كما علمت.
(ويتوضّأ فيها) ؛- أي- لكونها عارية عن الشّعر، فتليق بالوضوء فيها، لأنّها تكون أنظف، بخلاف الّتي فيها الشّعر؛ فإنّها تجمع الوسخ.
وظاهر قوله (ويتوضّأ فيها) : أنّه يتوضأ والرّجل في النّعل. وقال النّوويّ:
معناه أنّه يتوضّأ ويلبسها بعد ورجلاه رطبتان، وفيه بعد لأنّه غير المتبادر من قوله (ويتوضّأ فيها) .
(فأنا أحبّ أن ألبسها) ؛ أي: اقتداء به صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن الأثير وغيره: وجه السّؤال كونها نعال أهل النّعمة والسّعة، ولم تنعلها الصحابة، ففي صدر الحديث عند الشّيخين؛ عن عبيد أنّه قال: رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها؛ وعدّ منها هذه؟! فأجابه: بأنّه لبسها اقتداء بالمصطفى!! ولعل ترك الصّحابة للبسها أنّ فرض صحّة الاستغراق وأنّ ما نفاه عنهم السّائل هو الواقع، إذ يحتمل أنّ نفيه باعتبار علمه أنّهم لم يبلغهم فيه شيء، وامتاز ابن عمر عنهم بحفظ ذلك عن المصطفى، فالحجّة فيما رآه وفعله؛ لا في تركهم، وهذا الحديث يدلّ على طهارتها.
وقد تقرّر أنّها كانت متّخذة من جلد مدبوغ، فيحتمل أنّه طهّرها بالدّبغ والغسل، ويحتمل أنّها من مذكّى، وكان دباغها لإزالة الشّعر فقط.
وفيه جواز لبس النّعال على كل حال. وقال الإمام أحمد: يكره في القبور، لقول المصطفى صلّى الله عليه وسلم لمن رآه يمشي بنعليه فيها: «اخلع نعليك» .
وأجيب باحتمال كونه لأذى فيهما. انتهى «مناوي وزرقاني» .(1/568)
وعن عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه أنّه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في نعلين مخصوفتين- أي:
مخروزتين- ضمّ فيهما طاق إلى طاق.
(و) في «الشّمائل» أيضا (عن) أبي سعيد (عمرو) - بفتح العين- (بن حريث) بضمّ الحاء ومثلّثة آخره مصغّرا- ابن عمرو بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، صحابي صغير، وأمّا عمرو بن حريث المصري! فاختلف في صحبته.
وعمرو بن حريث المخزومي أخرج حديثه السّتة، ومات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ وله اثنا عشر سنة، وسكن الكوفة، وهو أوّل قرشيّ اتّخذ بالكوفة دارا، ومسح النّبيّ صلّى الله عليه وسلم رأسه ودعا له بالبركة في صفقته وبيعته؛ فكسب مالا عظيما؛ فكان من أغنى أهل الكوفة، وولي لبني أميّة بالكوفة، وشهد القادسيّة وأبلى فيها.
روى عنه ابنه جعفر، وخليفة؛ واصنع؛ وهارون: مواليه، وعطاء بن السّائب، والوليد بن سويع، وسراقة بن محمّد، وإسماعيل بن أبي خالد وجماعة من التّابعين، وتوفّي سنة: - 85- خمس وثمانين هجريّة، وله عقب بالكوفة.
(رضي الله تعالى عنه أنّه قال) ؛ ولفظ «الشّمائل» : حدّثنا أحمد بن منيع؛ قال: حدّثنا أبو أحمد؛ قال: حدّثنا سفيان؛ عن السدّي قال: حدّثني من سمع عمرو بن حريث يقول:
(رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي في نعلين مخصوفتين- أي: مخروزتين-) بحيث (ضمّ فيهما طاق إلى طاق) ؛ من الخصف وهو: ضمّ شيء إلى شيء وجمعه إليه، قال العلّامة ابن حجر: قد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه كان يخصف نعله، أي: يضع طاقا فوق طاق، والمراد من هذا الحديث: أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلّي بالنّعلين وهما طاهرتان؛ قاله في «جواهر البحار» .
وفي ذلك ردّ على من زعم أنّها كانت من طاق واحدة، وأنّ العرب كانت تمتدح به، وجعله من لباس الملوك، لكن جمع بأنّه كانت له نعل من طاق واحدة ونعل من أكثر؛ كما دلّت عليه عدّة أخبار! وهو حسن.(1/569)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يأكل- يعني الرّجل- بشماله، ...
وفي سند هذا الخبر كما ترى مجهول، لكن صحّ من غير ما طريق أنّه كان يخصف نعله بيده الكريمة، وثبت أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها سئلت عمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر؛ يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.
وفي رواية لأحمد وابن حبان عنها: يخيط ثوبه ويخصف نعله.
وفي رواية لابن سعد عنها: يرقع ثوبه ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم.
وفي رواية: يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة.
وقد نظم معنى ذلك الحافظ العراقيّ في «ألفيّة السّيرة» بقوله:
يخصف نعله يخيط ثوبه ... يحلب شاته ولن يعيبه
يخدم في مهنة أهله كما ... يقطع بالسّكّين لحما قدّما
وفي هذا الحديث جواز الصّلاة في النّعلين، لكن إن كانتا طاهرتين. والله أعلم.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الشّمائل» ؛ (عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم نهى أن يأكل- يعني الرّجل-) هذا كلام الرّاوي؛ عن جابر أو من قبله. وذكر الرّجل!! لأنّه الأصل والأشرف؛ لا للاحتراز.
وقال بعضهم: المراد بالرّجل الشّخص، بطريق عموم المجاز، فيصدق على الصّبيّ؛ لأنّه من أفراده، وفي البخاريّ ما يدلّ له.
(بشماله) - متعلّق ب «يأكل» ، وهو- بكسر الشّين المعجمة- اليد اليسرى، فالأكل بها بلا ضرورة مكروه كراهة تنزيه عند الشّافعية، وكراهة تحريم عند كثير من المالكية والحنابلة، واختاره بعض الشّافعيّة؛ لما في «مسلم» : أنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله؛ فقال له: «كل بيمينك» . فقال له: لا أستطيع. فقال(1/570)
أو يمشي في نعل واحدة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا انتعل أحدكم.. فليبدأ باليمين، وإذا نزع.. فليبدأ بالشّمال، ...
له: «لا استطعت» . فما رفعها إلى فيه بعد ذلك. ولا يخفى ما في الاستدلال بذلك على التحريم من البعد. انتهى «مناوي» .
(أو يمشي) - عطف على «يأكل» - (في نعل واحدة) - بالتأنيث، فالمشي في نعل واحدة مكروه تنزيها؛ حيث لا عذر. قال البيهقيّ:
وجه النّهي ما فيه من القبح والشّهرة ومدّ الأبصار نحو من يفعل ذلك، وكل لباس صار صاحبه شهرة في القبح فحكمه أن يتقى، لأنّه في معنى المثلة. انتهى.
و «أو» للتّقسيم لا للشّكّ كما وهم، فكلّ ممّا قبلها وما بعدها منهيّ عنه على حدته، على حدّ قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (24) [الإنسان] ، وحملها على الواو يفسد المعنى، لأنّ المعنى عليه النّهي عن مجموعهما؛ لا عن كلّ على حدته.
(و) أخرج البخاريّ، وأبو داود، والتّرمذيّ في «اللباس» وفي «الشّمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال:
«إذا انتعل أحدكم) - أي: إذا أراد أن يلبس أحدكم نعليه- (فليبدأ باليمين) أي: بالجانب اليمين- لأنّ التّنفّل من باب التّكريم، واليمين لشرفها تقدّم في كل ما كان من باب التّكريم، ولفظ البخاريّ: «بالرّجل اليمنى» . وللحمويّ والمستملي «باليمين» ؛ أي: بالنّعل اليمنى.
(وإذا نزع) ؛ أي: أراد خلعهما (فليبدأ بالشّمال) ؛ أي: بالجانب الشّمال، لأنّ النّزع من باب التّنقيص.
والشّمال لعدم شرفها تقدّم في كلّ ما كان من باب التقيص، لكن في إطلاق كون النّزع من باب التنقيص نظر، إذ كلّ من الحفا والانتعال له محلّ يليق به، وقد يكون الحفا في بعض المواطن ليس إهانة للرّجل بل إكراما.(1/571)
فلتكن اليمين أوّلهما تنعل وآخرهما تنزع.
فالأولى قول الحكيم التّرمذيّ: اليمين محبوب الله ومختاره من الأشياء، فأهل الجنّة عن يمين العرش يوم القيامة، وأهل السّعادة يعطون كتبهم بأيمانهم، وكاتب الحسنات على اليمين؛ وكفّة الحسنات من الميزان عن اليمين؛ فاستحقّت أن تقدّم اليمين، وإذا كان الحقّ في التّقديم لليمين أخّر نزعها ليبقى ذلك الحقّ لها أكثر من اليسرى.
(فلتكن) الرّجل (اليمين) - لفظ البخاريّ والتّرمذي «فلتكن اليمنى» - (أوّلهما) - منصوب على أنّه خبر «كان» - (تنعل) - بالمثنّاة الفوقيّة والتحتيّة؛ مبنيّا للمفعول؛ والجملة حاليّة، (وآخرهما) بالنصب؛ خبر «كان» (تنزع) بالمثناة الفوقية والتحتية-؛ مبنيّا للمفعول، والجملة حالية. ويجوز أن يكون «أوّلهما» و «آخرهما» بالنّصب على الحال، و «تنعل» و «تنزع» : خبر «كان» ، والتّذكير في ذلك باعتبار العضو، وهذا تأكيد لما قبله كما لا يخفى.
قال ابن عبد البرّ: فمن بدأ في الانتعال باليسرى أساء بمخالفته السنّة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي أن ينزع النّعل من اليسرى ثم يبدأ باليمين.
وقال الحافظ ابن حجر: ويمكن أنّ مراد ابن عبد البرّ ما إذا لبسهما معا، فبدأ باليسرى فلا يشرع له نزعهما ثم لبسهما على التّرتيب المشروع لفوات محلّه.
قال القسطلّانيّ: وفيه تأمّل؛ لأنّ من فعل ذلك فعليه نزعهما معا ويستأنف لبسهما على ما أمر به، فكأنّه ألغى ما وقع منه أوّلا. انتهى؛ ذكره الزّرقاني على «المواهب» .
قال في «جمع الوسائل» : وأنت تعرف أنّ نزعهما معا ولبسهما معا ممّا لا يكاد يتصوّر في أفعال العقلاء. انتهى.
أقول: يتصوّر ذلك فيما إذا كان جالسا على كرسيّ مثلا؛ أو ألبسه غيره،(1/572)
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يتحدّث.. يخلع نعليه.
قال الباجوريّ: (كانت نعله صلّى الله عليه وسلّم مخصّرة، معقّبة، ملسّنة، كما رواه ...
فيتصوّر حينئذ لبسهما معا وخلعهما معا بلا كلفة؛ والله أعلم؛ قاله الزرقاني.
ونقل عياض وغيره الإجماع على أنّ الأمر فيه للاستحباب. انتهى.
وكان عليه الصّلاة والسّلام ينهى أن ينتعل الرّجل قائما. وفي رواية: وهو قائم.
رواه أبو داود، والتّرمذيّ؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه. ورواه التّرمذيّ أيضا؛ عن أنس.
قال الزّرقاني: لأنّ لبسها قاعدا أسهل وأمكن، فهو نهي تنزيه وإرشاد، ولذا أخذ منه الطّيبي وغيره تخصيص النّهي بما في لبسه قائما تعب كالتّاسومة والخفّ؛ لا قبقاب أو سرموجة. انتهى.
(و) أخرج البيهقيّ في «شعب الإيمان» بإسناد ضعيف؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث يخلع نعليه) أي:
ينزعهما فلا يلبسهما حتى يقوم لأجل راحة قدميه. وتمام الحديث: فخلعهما يوما وجلس يتحدّث، فلمّا انقضى حديثه قال لغلام من الأنصار: «يا بنيّ؛ ناولني نعلي» . فقال: دعني أنا أنعلك. قال: «شأنك فافعله» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«اللهمّ؛ إنّ عبدك يستجيب «1» إليك فأحبّه» . انتهى أي: أنّه قد تقرّب إليك بخدمة رسولك. فهنيئا له بهذه الدّعوة من سيّد البشر صلّى الله عليه وسلم.
(قال) العلّامة إبراهيم (الباجوريّ) الشّافعيّ في كتاب «المواهب اللّدنّيّة على الشّمائل المحمّديّة» : وقد (كانت نعله صلّى الله عليه وسلم مخصّرة) - بالتّشديد على صيغة اسم المفعول؛ كمعظّمة، وسيأتي معناها- (معقّبة) - بالتّشديد كمعظّمة أيضا، ومثله قوله: (ملسّنة؛ كما رواه) الإمام الحافظ المحدّث الثّقة، أبو عبد الله محمد
__________
(1) يتحبب.(1/573)
ابن سعد في «الطّبقات» ) .
و (المخصّرة) : هي الّتي لها خصر دقيق.
و (المعقّبة) : هي الّتي لها عقب، أي: سير من جلد في مؤخّر النّعل يمسك به عقب القدم. و (الملسّنة) : ...
(ابن سعد) بن منيع الزّهري مولاهم.
ولد في البصرة سنة: - 168- ثمان وستين ومائة، وصحب الواقديّ المؤرّخ زمانا، فكتب له، وروى عنه، وعرف ب «كاتب الواقديّ» .
قال الخطيب في «تاريخ بغداد» : محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدلّ على صدقه، فإنّه يتحرّى في كثير من رواياته.
أشهر كتبه «طبقات الصّحابة» وقد طبع في ثمانية مجلّدات، ويعرف ب «طبقات ابن سعد» . وكانت وفاته في محلّ سكناه بغداد؛ سنة: - 230- ثلاثين ومائتين هجريّة رحمه الله تعالى.
(في «الطّبقات) الكبرى» ؛ جمع فيها الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم إلى وقته؛ فأجاد وأحسن، وله طبقات أخرى صغرى ثالثة وثانية، وله كتاب «التّاريخ» رحمه الله تعالى.
قال الحافظ العراقيّ: روى أبو الشّيخ بسنده؛ عن يزيد بن أبي زياد قال:
رأيت نعله صلّى الله عليه وسلم مخصّرة ملسّنة؛ ليس لها عقب خارج. وروى ابن سعد عن هشام بن عروة: رأيت نعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم مخصّرة معقّبة ملسّنة؛ لها قبالان.
(والمخصّرة) - بالتشديد- (هي الّتي لها خصر دقيق) أو: الّتي قطع خصراها حتّى صار مستدقّين (والمعقّبة) - بالتّشديد أيضا- (هي الّتي لها عقب) - بفتح فكسر- (أي: سير) - واحد السّيور- (من جلد في مؤخّر النّعل) يضمّ به الرّجل و (يمسك به عقب القدم) كما يفعل في كثير من النّعال.
(و) النّعل (الملسّنة) - بتشديد السّين على صيغة اسم المفعول؛ كمعظّمة-(1/574)
هي الّتي في مقدّمها طول على هيئة اللّسان.
قال الحافظ الكبير زين الدّين العراقيّ ...
(هي الّتي في مقدّمها طول) ولطافة (على هيئة اللّسان) العضو المعروف. وقيل:
التّي جعل لها لسان، ولسانها: الهيئة النّاتئة في مقدّمها؛ كما في «النهاية» .
وذلك لأنّ سبّابة رجله صلّى الله عليه وسلم كانت أطول أصابعه، فكان في مقدم نعله بعض طول يناسب طول تلك الأصبع.
وروى ابن سعد؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه أنّه قال: إنّ محمد بن علي أخرج لي نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأرانيها معقّبة مثل الحضرميّة، لها قبالان. وهو يوافق ما قاله هشام بن عروة.
قال العراقيّ: والجمع بين قول يزيد «ليس لها عقب» ؛ وقول هشام «معقّبة» !! ممكن بأنّ يزيد لم يطلق العقب، وإنّما قال «ليس لها عقب خارج» وهشام أثبت كونها معقّبة!! فيكون لها عقب غير خارج. والله أعلم.
(قال) العلّامة المناوي في «شرح الشّمائل» : لم أر أحدا من الشّرّاح تعرّض لصفة النّعل؛ ولا لمقدارها. انتهى.
وقال المصنّف رحمه الله تعالى في «جواهر البحار» : قال الشّيخ الإمام الحافظ العلقمي في حاشيته على «الجامع الصغير في أحاديث البشير النّذير» : ورد أنّ طول نعله صلّى الله عليه وسلم شبر وإصبعان، وعرضها ممّا يلي الكعبان سبع أصابع، وبطن القدم خمس وفوقها ستّ، ورأسها محدد، وعرض ما بين القبالين إصبعان. انتهى.
وهو عين ما قاله (الحافظ الكبير) الشّيخ (زين الدّين) أبو الفضل؛ عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحيم بن أبي بكر بن إبراهيم، الكردي الأصل، الشافعي، المعروف ب «الحافظ (العراقيّ» ) ولد سنة: - 725- خمس وعشرين وسبعمائة، وكان عالما بالنّحو واللّغة، والغريب والقراءات، والفقه وأصوله، غير(1/575)
رحمه الله تعالى في «ألفيّة السّيرة النّبويّة» على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام:
أنّه غلب عليه الحديث فاشتهر به وانفرد بمعرفته، وكان منوّر الشّيبة جميل الصورة، كثير الوقار نزر الكلام، طارحا للتكلف ضيّق العيش، شديد التوقي في الطهارة، لا يعتمد إلّا على نفسه؛ أو على رفيقه الهيثمي، وكان كثير الحياء متجمعا عن النّاس، حسن النادرة والفكاهة.
قال الحافظ ابن حجر: وقد لازمته مدّة فلم أره ترك قيام اللّيل؛ بل صار كالمألوف عنده، ويتطوّع بصيام ثلاثة أيّام من كل شهر.
وقد رزق السّعادة في ولده الولي العراقيّ، فإنّه كان إماما وفي رفيقه الهيثمي فإنّه كان حافظا كبيرا.
ورزق أيضا السّعادة في تلامذته؛ فإنّ منهم الحافظ ابن حجر وطبقته، وتصدّى للتّصنيف والتّدريس. ومات عقب خروجه من الحمّام ليلة الأربعاء؛ ثامن شهر شعبان سنة: - 806- ستّ وثمانمائة بالقاهرة ودفن بها (رحمه الله تعالى) .
آمين.
(في «ألفيّة السّيرة النّبويّة» ) الّتي بيّن فيها بعض الأحوال المحمّديّه (على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام) ، فأتى به الحافظ العلقمي بنصّه وسلّمه، وناهيك به!! وإن كان بعض الحفّاظ قال: إنّي لم أقف على هذا التّحديد إلّا للعراقيّ، وكفى به حجّة!! وقد اعترف بثقته الأنام ووصفوه بأنّه حافظ مصر والشّام وخادم سنّة النّبي عليه الصلاة والسّلام.
إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام
مع أنّ صاحب «سبل الهدى والرّشاد» ذكر ذلك التّحديد غير معترض عليه، بل أقرّه وناهيك باطّلاعه الوافر المديد، ونص ما في «ألفيّة السّيرة» قوله رحمه الله(1/576)
ونعله الكريمة المصونه ... طوبى لمن مسّ بها جبينه
لها قبالان بسير وهما ... سبتيّتان سبتوا شعرهما
وطولها شبر وإصبعان ... وعرضها ممّا يلي الكعبان
سبع أصابع وبطن القدم ... خمس، وفوق ذا فستّ فاعلم
تعالى: (ونعله الكريمة) ؛ أي: المكرّمة المحترمة، لتشرفها بأخمص خير الخلق صلّى الله عليه وسلم، ويطلق الكريم على النّفيس، ومنه: كرائم الأموال.
(المصونة) عن الأدناس، (طوبى) - فعلى- من الطّيب، و «طوبى» كلمة عربيّة، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، ولا تقول: طوباك، وهذا قول أكثر النّحويّين إلّا الأخفش، وقيل: إنّ «طوبى» تأنيث «الأطيب» ؛ أي: راحة وطيب عيش (لمن مسّ بها جبينه) . والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النّزعة إلى الصّدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جبن، مثل بريد وبرد.
(لها قبالان) - بكسر القاف- تثنية قبال؛ وهو زمام النّعل، أي: لكل واحدة قبالان بينهما نحو أصبعين، (بسير) ؛ أي: من سير، (وهما) ؛ أي: النّعلان (سبتيّتان) ، مثنّى سبتيّة- بكسر السّين المهملة وسكون الموحّدة وكسر المثنّاة الفوقيّة- نسبة للسّبت- بكسر السّين- وهو: جلود البقر المدبوغة، سمّيتا بذلك!! لأنّهما (سبتوا شعرهما) ، أي: أزالوه.
(وطولها شبر وإصبعان، وعرضها) - مبتدأ- (ممّا يلي الكعبان) ؛ أي: ممّا يليه الكعبان، فالكعبان فاعل لا مفعول.
(سبع أصابع) - خبر مبتدأ- (و) عرضها مما يلي (بطن القدم، خمس) من الأصابع، (وفوق ذا، فستّ) ؛ أي: وعرضها مما فوق بطن القدم مما يلي الأصابع فستّ من الأصابع.
(فاعلم) هذا ولا يلتبس عليك.(1/577)
ورأسها محدّد وعرض ما ... بين القبالين اصبعان اضبطهما
وهذه مثال تلك النّعل ... ودورها أكرم بها من نعل
فائدة: قال في «المواهب» : ذكر ابن عساكر ...
(ورأسها محدّد) على هيئة اللّسان.
(وعرض ما بين القبالين اصبعان؛ اضبطهما) ، فلا تنقص ولا تزد على هذا التّحديد.
(وهذه) الصّفة المذكورة (مثال تلك النّعل) الشّريفة، (و) هذا (دورها) ؛ أي: تحديدها. (أكرم بها من نعل) ، تشرّفت بموطئ سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم.
(فائدة:) - مشتقّة من الفيد، بمعنى: استحداث المال والخير، فهي يائيّة، وقيل: واوية؛ من الفود، كما نقله الدّماميني في «حواشي المغني» .
وقيل: من فأدته؛ إذا أصبت فؤاده، لكونها تؤثّر في الفؤاد؛ أي: القلب سرورا، أو لتعلّقه بها، معنويّة كانت أو حسّيّة، وإدراكه لها إن كانت؛ معنويّة.
وهي لغة: ما يستفاد من علم أو مال. وقيل: الزّيادة الّتي تحصل للإنسان، وقيل: ما حصل لك ممّا لم يكن عندك. وقيل: ما يكون الشّيء به أحسن حالا منه بغيره.
واصطلاحا: كلّ مصلحة تترتّب على فعل، فهي من حيث إنّها نتيجة له تسمّى «فائدة» ، ومن حيث إنّها طرف له تسمّى «غاية» ، ومن حيث إنّها مطلوبة للفاعل بإقدامه على الفعل تسمّى «غرضا» ، ومن حيث إنّها باعثة له بذلك تسمّى «علّة غائية» ؛ قاله شيخ الإسلام زكريا مع «حواشي الشرقاوي» .
(قال) أي: العلّامة القسطلاني (في) كتاب ( «المواهب) اللّدنّيّة» :
(ذكر) أبو اليمن- بضمّ الياء التّحتيّة وإسكان الميم- عبد الصّمد بن عبد الوهّاب بن الحسن بن محمّد بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين (بن عساكر) .
الإمام العلّامة، الحافظ الزاهد، أمين الدّين الدّمشقي؛ ثمّ المكّي.(1/578)
تمثال نعله صلّى الله عليه وسلّم في جزء مفرد، وأفرده بالتّأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السّلميّ الأندلسيّ، وكذا غيرهما.
مولده في سنة: - 614- أربع عشرة وستمائة، وكان قويّ المشاركة في العلوم، لطيف الشّمائل، بديع النظم، خيّرا صاحب صدق وتوجه.
اعتنى من صغره بالعلم؛ خصوصا الحديث، وأخذ عن جده، والحسين الزبيدي، والموفق ابن قدامة وغيرهم.
وأجاز له جمع؛ منهم: عبد الرّحيم بن السّمعاني، والمؤيّد الطّوسي، وأبو روح الهروي. وله التّآليف الحسنة؛ منها جزء في تمثال نعلي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وانقطع بمكّة المكرّمة نحوا من أربعين سنة، ومات بالمدينة المنوّرة على الحالّ بها أفضل الصّلاة والسّلام، في جمادى الأولى سنة: - 686- ست وثمانين وستمائة رحمه الله تعالى آمين.
(تمثال) ؛ أي: صفة تمثال؛ (نعله) المكرّم (صلّى الله عليه وسلم) ، أي: ما يؤخذ منه صفة تصويره، وإلّا فهو لم يذكر تمثاله (في جزء مفرد) ؛ نحو ثمان ورقات في النصف.
(و) كذا (أفرده بالتّأليف) الإمام الوليّ الصّالح؛ (أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السّلميّ) ، المشهور ب «ابن الحاجّ» (الأندلسيّ) ، من أهل المرية كغنية.
(وكذا غيرهما) ك «مسند أفريقية» ، بل «مسند المغرب» : المعمر الأديب؛ أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن هارون، الطّائي، القرطبي، التونسي، يكنّى أبا محمّد.
المولود سنة: - 603- ثلاث وستمائة، والمتوفّى سنة: - 702- اثنتين وسبعمائة، ب «الزّلاج» من تونس. وفي «تذكرة الحفاظ» للذّهبي: أنّه مات عن 99- تسع وتسعين سنة رحمه الله تعالى؛ فإنّه ألّف كتاب «الّلآلي المجموعة من(1/579)
.........
باهر النّظام وبارع الكلام في وصف مثال نعلي رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام» . وسبب جمعه- على ما قال-: أنّه سئل منه نظم أبيات تكتب على مثال النّعل المشرّفة؛ فكتب في ذلك قطعة وندب أدباء قطر الأندلس لذلك فأجابوا، وكتب عن ذلك ما وصل إليه، وجملة ما فيه من المقطوعات ما ينيف على مائة وثلاثين؛ بين صغيرة وكبيرة، ولم يطّلع على هذا التّأليف الحافظ المقرىء، مع سعة حفظه وكثرة اطّلاعه ومبلغه من التّنقير والتّفتيش عما قيل في النعل، ولم يطّلع لمن قبله إلّا على عدد أقلّ من هذا بكثير، وغالب ما أودعه في «فتح المتعال» كلامه وكلام أهل عصره، ولو اطّلع عليه لاغتبط به كثيرا. انتهى؛ من «فهرس الفهارس» للشّريف عبد الحي الكتّاني رحمه الله تعالى.
وكالشّهاب المقّري- بتشديد القاف- صاحب كتاب «نفح الطيب» المتوّفى سنة: - 1041- إحدى وأربعين وألف هجريّة، فإنّه ألّف كتابه «فتح المتعال في مدح النّعال الشّريفة النّبويّة» ، قال المصنّف:
وقد اختصرته بمختصر سمّيته «بلوغ الآمال من فتح المتعال» أثبتّ فيه ما لا بدّ منه ولا غنى عنه، فجاء مختصرا نافعا جامعا لكلّ المقصود من ذلك الكتاب وعلمه؛ مع كونه في نحو خمس حجمه، لأنّي حذفت منه كلّ الفوائد الاستطرادية الّتي ذكرها لمناسبة، أو غير مناسبة من معان شتّى لا دخل لها في المقصود بالكلّيّة، كما حذفت معظم الأشعار الّتي ذكرها في مدح المثال الشّريف، قال:
وقد كنت مند سنين أفردت مثالا هو الأصحّ والمعتمد من أمثلة النّعال الّتي ذكرها في الأصل في ورقة مخصوصة، وذكرت حوله فيها فوائد نافعة تتعلّق به، وطبعت منه أربعين ألف نسخة ونشرتها في البلاد الإسلاميّة، فمن شاء فليتطلّبه. انتهى.
وهذا المؤلّف الّذي في النّعال قد أدرجه المصنّف في كتابه «جواهر البحار في فضائل النبي المختار» المطبوع في أربعة أجزاء؛ فليطلبه من أراده. ومما ذكره المصنّف في مؤلّفه المذكور قوله:
قال الإمام المقّري في «الأصل» : اعلم- أرشدني الله وإيّاك إلى سواء(1/580)
قال: ولم أثبتها اتّكالا على شهرتها، ولصعوبة ضبط تسطيرها إلّا على حاذق.
السّبيل، وأوردنا مع الرّعيل الأوّل مناهل الرحيق والسّلسبيل- أنّ جماعة من الأئمّة المغاربة، المقتدى بهم تعرضوا للمثال الطّاهر، وحسنه الباهر، وأقرّوا بمشاهدته عين النّاظر؛ منهم الإمام أبو بكر بن العربي، والحافظ أبو الرّبيع بن سالم الكلاعي، والكاتب الحافظ أبو عبد الله بن الأبّار، والرّحّالة أبو عبد الله بن رشيد الفهري، والرّاوية أبو عبد الله محمّد بن جابر الوادياشي، وخطيب الخطباء أبو عبد الله بن مرزوق، والمفتي الإمام أبو عبد الله محمد الرّضاع التّونسي، والوليّ الصّالح الشّهير؛ أبو إسحاق إبراهيم بن الحاج السّلمي الأندلسي المرّيي، وعنه أخذ ابن عساكر المثال، وغير هؤلاء ممّن يطول تعدادهم: كأبي الحكم مالك بن المرحّل، وابن أبي الخصال؛ وهم القدوة ولنا بهم أسوة..
وتلاهم من أهل الشّرق جماعة؛ كالحافظ ابن عساكر وتلميذه البدر الفارقي، والحافظ العراقي، وابنه؛ أي: الوليّ العراقيّ، والشّيخ القسطلاني في «مواهبه اللّدنّيّة» وغيرهم.
قال الإمام المقّري: وقد بلغني عن بعض الأغمار ممّن هو كمثل الحمار أنّه أنكر تصويري الأمثلة الشّريفة ذات الظّلال الوريفة؛ قائلا: كيف تنهون عن الصور وأنتم تفعلونها؟!! فقلت لمن بلغني عنه ذلك: قل له: وأنتم لم تتكلّمون في الأمور التي تجهلونها، وليس هذا من تلك الصّور، لا في ورد ولا صدر. انتهى.
ثمّ ذكر في كتابه المذكور ستّة أمثلة للنّعل الشّريفة؛ منها مثالان عليهما المعوّل والاعتماد، وأربعة أمثلة دونهما في القوّة.
(قال) ؛ أي: القسطلّاني: (ولم أثبّتها) هنا (اتّكالا على شهرتها، ولصعوبة ضبط تسطيرها إلّا على حاذق) - بالحاء المهملة والذّال المعجمة آخره قاف- أي: ماهر، وقد ذكر الحافظ العراقيّ صفتها نظما في أبيات تقدّمت قريبا.(1/581)
ومن بعض ما ذكر من فضلها، وجرّب من نفعها وبركتها أنّ أبا جعفر أحمد بن عبد المجيد- وكان شيخا صالحا- أعطى مثالها لبعض الطّلبة، فجاءه وقال له: رأيت البارحة من بركة هذا النّعل عجبا؛ أصاب زوجتي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النّعل على موضع الوجع، وقلت: اللهمّ أرني بركة صاحب هذا النّعل.. فشفاها الله تعالى للحين.
وقال أبو إسحاق: قال أبو القاسم بن محمّد: وممّا جرّب من بركته: أنّ من أمسكه عنده متبرّكا به.. كان له أمانا من بغي البغاة، (ومن بعض ما ذكر) أبو اليمن، ابن عساكر في جزئه المذكور (من فضلها، وجرّب من نفعها، وبركتها؛ أنّ أبا جعفر؛ أحمد بن عبد المجيد؛ وكان شيخا صالحا) ورعا (أعطى مثالها لبعض الطّلبة، فجاءه) ؛ أي: ذلك البعض (وقال له: رأيت البارحة) - بالحاء المهملة-؛ أي: اللّيلة الماضية قبل يومك الّذي أنت فيه. وعادة العرب تقول؛ قبل الزّوال: فعلنا اللّيلة كذا لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزّوال: فعلت البارحة كذا. انتهى.
(من بركة هذا النّعل) الشّريف (عجبا) .
قال الشّيخ أبو جعفر: فقلت له: وما رأيت؟ قال: (أصاب زوجتي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النّعل على موضع الوجع، وقلت: اللهمّ؛ أرني بركة صاحب هذا النّعل. فشفاها الله تعالى للحين) ، أي: سريعا. (وقال أبو إسحاق) إبراهيم بن محمّد؛ الشّهير ب «ابن الحاجّ» ، السّابق قريبا: (قال أبو القاسم) القاسم (بن محمّد) ؛ شيخ أبي إسحاق المذكور:
(وممّا جرّب من بركته: أنّ من أمسكه عنده متبرّكا به كان له أمانا من بغي(1/582)
وغلبة العداة، وحرزا من كلّ شيطان مارد، وعين كلّ حاسد، وإن أمسكته الحامل بيمينها وقد اشتدّ عليها الطّلق.. تيسّر أمرها بحول الله تعالى وقوّته.
وما أحسن قول أبي بكر القرطبيّ رحمه الله تعالى:
البغاة، وغلبة العداة) - بضم العين المهملة فقط لثبوت الهاء- فهو كقضاة؛ قاله ابن القاصح وغيره.
(وحرزا من كلّ شيطان مارد) : عات خارج عن الطّاعة، (وعين كلّ حاسد، وإن أمسكته) المرأة (الحامل بيمينها وقد اشتدّ عليها الطّلق) - بفتح الطّاء المهملة وسكون اللّام-: وجع الولادة، يقال: طلّقت المرأة، مبنيّا للمفعول طلقا، فهي مطلوقة؛ إذا أخذها المخاض: وهو وجع الولادة. انتهى؛ قاله في «المصباح» .
(تيسّر أمرها) ؛ أي: سهل خلاصها وتيسّرت ولادتها، قال المقرّي: قلت:
وقد جربته فصّح (بحول الله تعالى وقوّته) ؛ لا رب غيره ولا معبود سواه لبريته.
ومن خواصّ مثال النّعل الشّريف أيضا، ومنافعه المنقولة عن الثّقات الّذين لا يمترى في صدق أخبارهم: أنّه أمان من النّظرة والسّحر، وإنّ من لازم حمله كان له القبول التّامّ من الخلق، ولا بدّ أن يزور النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ أو يراه في منامه، وإنّه لم يكن في جيش فهزم، ولا في قافلة فنهبت، ولا في سفينة فغرقت، ولا في بيت فأحرق، ولا في متاع فسرق، وذلك ببركة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وشرّف وكرّم. انتهى؛ من مختصر «فتح المتعال» للمصنف رحمه الله تعالى.
ومن أراد المزيد فليراجع «جواهر البحار» في رسالة «بلوغ الآمال» .
(وما أحسن قول) - «ما» تعجّبيّة، بمعنى: شيء عظيم، و «أحسن» فعل تعجّب وفاعله مستتر فيه وجوبا، و «قول» منصوب على المفعولية لفعل التّعجّب- والتقدير: شيء عظيم حسّن قول (أبي بكر) أحمد بن الإمام أبي محمد عبد الله بن الحسين الأنصاري، المدعو ب «حميد» (القرطبيّ) شهرة، وهو مالقي (رحمه الله(1/583)
ونعل خضعنا هيبة لبهائها ... وإنّا متى تخضع لها أبدا نعلو
فضعها على أعلى المفارق إنّها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل
بأخمص خير الخلق حازت مزيّة ... على التّاج حتّى باهت المفرق الرّجل
تعالى) كان مقرئا مجوّدا فقيها، محدّثا ضابطا، نحويّا ماهرا، أديبا كاتبا بارعا، متين الدّين صادق الورع، سريع العبرة، كثير البكاء، معرضا عن الدّنيا، لا يضحك إلا تبسّما نادرا، ثمّ يعقبه بالبكاء والاستغفار، مقتصدا في مطعمه وملبسه، معانا على ذلك، مؤيّدا من الله حتى بلغ من الورع رتبة لم يزاحم عليها، أقرأ ببلده «مالقة» القرآن، ودرس الفقه وأسمع الحديث وأدّب بالعربيّة، ثمّ رحل قاصدا الحجّ؛ فلمّا وصل مصر عظم صيته بها، فمرض وتعذّر عليه الحجّ، فطلب السّلطان زيارته فأبى؛ فألحّ عليه حتى أذن له، فعرض عليه جائزة سنيّة فلم يقبلها، وتوفّي فحضر جنازته السّلطان ومن لا يحصى سنة: - 652- اثنتين وخمسين وستمائة. ومولده سنة 607- سبع- بتقديم السّين على الموحّدة- وستمائة رحمه الله تعالى. آمين.
(ونعل) - بالرّفع أو الجر على ما قبله؛ إن كان قبله شيء، أو خبر مبتدأ محذوف- أي: وهذه نعل (خضعنا) : ذللنا، (هيبة) : إجلالا (لبهائها) :
حسنها حين أبصرناها.
(وإنّا) - بتشديد النّون- (متى نخضع لها أبدا) في كل زمان (نعلو) ، نرتفع.
(فضعها) ؛ أي: النّعل أيّها الظّافر بها (على أعلى المفارق) ، الرّأس (إنّها حقيقتها تاج) تزيّن الرّأس كالتّاج، وهو الإكليل (وصورتها نعل) ، أي:
كصورته.
(بأخمص خير الخلق حازت) : ضمّت واكتسبت؛ (مزيّة) : فضيلة (على التّاج) الّتي تتزيّن به الملوك، (حتّى باهت المفرق) ؛ بزنة «مسجد» حيث يفرق الشّعر (الرّجل) - بكسر الرّاء وإسكان الجيم-.(1/584)
شفاء لذي سقم، رجاء لبائس ... أمان لذي خوف، كذا يحسب الفضل
وعن بريدة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّجاشيّ ...
(شفاء لذي سقم) - بضمّ فسكون-: مرض (رجاء) - بالمدّ، أي: مرجوة (لبائس) ، من أصابه الضمر- اسم فاعل من بئس-.
(أمان لذي خوف، كذا يحسب) : يعد (الفضل) ، من قولهم: حسبت المال- بفتح السّين- أحصيته عددا. هذا ما جاء في نعليه صلّى الله عليه وسلم.
(و) أمّا ما جاء في خفّه!! فقد ذكر بعض أهل السّير أنّه كان له صلّى الله عليه وسلم عدّة خفاف؛ منها: أربعة أزواج أصابها في خيبر، وقد ثبت في «الصّحيح» من حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه، ورواه جمع من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم أنّه صلّى الله عليه وسلم مسح على خفّيه.
وروى جماعة من المحدّثين؛ منهم الإمام أحمد، وأبو داود، والتّرمذي وحسّنه؛ (عن بريدة) بن الحصيب الأسلميّ (رضي الله تعالى عنه:
أنّ النّجاشيّ) - بفتح النّون على المشهور، وتكسر، وتخفيف الجيم وكسر الشّين المعجمة وتخفيف الياء أفصح من تشديدها، فهي أصليّة؛ لا ياء النّسبة- وتشديد الجيم خطأ، وهو لقب ملوك الحبشة ك «تبّع» لليمن، و «كسرى» للفرس، و «قيصر» للروم والشّام، و «هرقل» للشّام فحسب، و «فرعون» لمصر، وهذه ألقاب جاهلية.
واسم هذا النّجاشي: «أصحمة» - بالصّاد والحاء المهملة- والسّين تصحيف، وقيل: اسمه مكحول بن صعصعة، والنّجاشة بالكسر: الإنفاذ فلعلّه سمّي به لإنفاذ أمره!!.
أرسل إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضّمري، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام فأسلم، ومات سنة تسع؛ فأخبرهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بموته يومه، وخرج بهم وصلّى وصلّوا معه، وكبّر أربعا. وقد تقدّم كلام يتعلّق بالنّجاشي. فراجعه.(1/585)
أهدى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خفّين أسودين ساذجين، فلبسهما، ثمّ توضّأ ومسح عليهما.
ومعنى (ساذجين) : لم يخالط سوادهما شيء آخر.
(أهدى) - من الإهداء، بمعنى: إرسال الهديّة، ويتعدّى باللّام وب «إلى» - (للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم خفّين) ؛ أي: وقميصا وسراويل وطيلسانا- كما في الباجوري- (أسودين) ؛ نعت للخفّين وكذا قوله: (ساذجين) - بفتح الذّال المعجمة وكسرها؛ أي: غير منقوشين، أو لا شعر عليهما، أو على لون واحد.
(فلبسهما) - بفاء التفريع؛ أو التعقيب- ففيه أن المهدى إليه ينبغي له التصرف في الهديّة عقب وصولها بما أهديت لأجله؛ إظهارا لقبولها ووقوعها الموقع، ووصولها وقت الحاجة إليها، وإشارة إلى تواصل المحبّة بينه وبين المهدي، حتّى أنّ هديته لها مزيّة على ما عنده؛ وإن كان أعلى وأغلى.
ولا ينحصر ذلك في التألّف ونحوه، بل مثله من يعتقد صلاحه أو علمه أو يقصد جبر خاطره، أو دفع شرّه، أو نفوذ شفاعته عنده في مهمّات النّاس، وأشباه ذلك.
ويؤخذ من الحديث أنّه ينبغي قبول الهديّة حتّى من أهل الكتاب، فإنّه كان وقت الإهداء كافرا؛ كما قاله ابن العربيّ، ونقله عنه الزّين العراقي. وفيه أيضا: عدم اشتراط صيغة، بل يكفي البعث والأخذ.
(ثمّ توضّأ؛ ومسح عليهما) ، فيه أنّ الأصل في الأشياء المجهولة الطّهارة، وفيه جواز المسح على الخفّين، وهو إجماع من يعتدّ به، وقد روى المسح على الخفّين سفرا وحضرا ثمانون صحابيا، وأحاديثه متواترة، ومن ثمّ قال بعض الحنفيّة: أخشى أن يكون إنكاره، أي: من أصله كفرا. انتهى «مناوي» .
(ومعنى ساذجين) - بفتح الذّال المعجمة وكسرها-: (لم يخالط سوادهما شيء) أي: لون (آخر) . قال المحقّق أبو زرعة؛ وليّ الدّين العراقي الحافظ ابن الحافظ: وهذه اللّفظة تستعمل في العرف لذلك المعنى، ولم أجدها في كتب اللّغة بهذا المعنى، ولا رأيت المصنّفين في غريب الحديث ذكروها؛ وقال القسطلاني:(1/586)
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: أهدى دحية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خفّين، فلبسهما.
السّاذج: معرّب شاذة «1» .
(وعن المغيرة بن شعبة) الثّقفي الصّحابي الجليل- وتقدّمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه، قال: أهدى دحية) - بكسر الدّال عند الجمهور، وقال ابن ماكولا بالفتح، ذكره في «جامع الأصول» -.
وهو دحية بن خليفة بن فضالة بن فروة الكلبي، أسلم قديما وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشاهده كلّها بعد بدر، وأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل.
وحديثه في «الصّحيحين» ، وكان جبريل يأتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في صورته، وكان من أجمل النّاس، وحكي أنّه كان إذا قدم من الشّام لم تبق معصر إلّا خرجت تنظر إليه.
والمعصر: الّتي بلغت سنّ المحيض.
روى عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث، روى عنه خالد بن زيد، وعبد الله بن شدّاد، والشّعبي، وغيرهم، وشهد اليرموك، وسكن المزّة القرية المعروفة بجنب دمشق، وبقي إلى خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهما.
(للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم خفّين فلبسهما) . وهذا الحديث رواه التّرمذي عن شيخه قتيبة بن سعيد؛ عن يحيى بن زكريّا؛ عن الحسن بن عيّاش؛ عن أبي إسحاق الشيباني؛ عن الشّعبي؛ عن المغيرة ... فذكره، وعقّبه بقوله: وقال إسرائيل: عن جابر؛ عن عامر: وجبّة فلبسهما حتّى تخرّقا لا يدري النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أذكيّ هما أم لا.
قال في «المواهب» وشرحها: رواه التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» والطّبراني. انتهى.
__________
(1) والعامّة تصحّفه إلى «سادة» .(1/587)
وروى الطّبرانيّ في «الأوسط» عن الحبر: ...
قال الباجوري، وملا علي قاري في «جمع الوسائل» : (وروى الطّبرانيّ) ، الحافظ: سليمان بن أحمد اللخمي، المحدّث الكبير، (في) «معجمه (الأوسط) » .
والمعجم في اصطلاحهم: ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصّحابة أو الشّيوخ أو البلدان أو غير ذلك، والغالب أن يكون مرتّبا على حروف الهجاء؛ والطّبرانيّ له ثلاثة معاجم: «كبير» ، و «صغير» ، و «أوسط» .
فالكبير: مؤلّف في أسماء الصّحابة على حروف المعجم عدا مسند أبي هريرة، فإنّه أفرده في مصنّف، يقال: إنّه أورد فيه ستّين ألف حديث في اثني عشر مجلّدا، وفيه قال ابن دحية: هو أكبر معاجم الدّنيا؛ وإذا أطلق في كلامهم «المعجم» فهو المراد، وإذا أريد غيره قيّد.
والأوسط: ألّفه في أسماء شيوخه، وهم قريب من ألفي رجل، حتّى أنّه روى عمّن عاش بعده لسعة روايته وكثرة شيوخه، وأكثره من غرائب حديثهم، قال الذّهبيّ: فهو نظير كتاب «الأفراد» للدّار قطني؛ بيّن فيه فضيلته وسعة روايته، ويقال: إنّ فيه ثلاثين ألف حديث، وهو في ستّ مجلّدات كبار، وكان يقول فيه:
هذا الكتاب روحي؛ لأنّه تعب فيه؛ قال الذهبي: وفيه كلّ نفيس وعزيز ومنكر.
والصغير: وهو في مجلّد، يشتمل على نحو من ألف وخمسمائة حديث بأسانيدها، لأنّه خرّج فيه عن ألف شيخ، كلّ شيخ حديثا أو حديثين. انتهى. من «الرسالة المستطرفة» .
ورواه البيهقي في «الدعوات الكبير» بإسناد صحيح كلاهما؛ (عن الحبر) بفتح الحاء وكسرها؛ لغتان، - أي: العالم؛ سمّي بذلك!! لأنّه يحبر في عبارته، أي: يحسّنها، والمراد به هنا الصّحابي الجليل عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حبر الأمّة وترجمان القرآن- وتقدمت ترجمته- رضي الله تعالى عنه.(1/588)
قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته، ثمّ توضّأ ولبس خفّه، فجاء طائر أخضر فأخذ الخفّ الآخر فارتفع به، ثمّ ألقاه، فخرج منه أسود سالخ- أي: حيّة- فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ من يمشي على بطنه، ومن شرّ من يمشي على رجليه، ومن شرّ من يمشي على أربع» .
(قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة) ، - أي: قضاء الحاجة، يعني البراز- (أبعد المشي) ؛ أي: ذهب بعيدا مستترا عن أعين النّاس كما هو معروف في آداب قضاء الحاجة (فانطلق ذات يوم) فقعد تحت شجرة (لحاجته) فنزع خفّيه (ثمّ توضّأ، ولبس خفّه) ، أي: أحدهما (فجاء طائر أخضر فأخذ الخفّ الآخر فارتفع به) في السّماء وحلّق به، (ثمّ ألقاه) إلى الأرض، (فخرج منه) ؛ أي:
الخفّ، أي: انسلّت منه (أسود سالخ) - الخاء المعجمة آخره- وهو من أسماء الحيّات، كما قال المصنّف؛ (أي: حيّة) . قال في «شرح القاموس» : والأنثى أسوده، ولا توصف ب «سالخة» ، ويقال: أسود سالخ، وأسودان سالخ، وأساود سالخة، وسوالخ، وسلّخ، وسلّخة، كما في «القاموس» .
(فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هذه كرامة أكرمني الله بها) ثمّ قال: (اللهمّ) - أي:
يا الله- (إنّي أعوذ) - أي: اعتصم- (بك من شرّ من يمشي على بطنه) - كالحيّات والثّعابين- (ومن شرّ من يمشي على رجليه) - كالآدمي- (ومن شرّ من يمشي على أربع» ) - كالأنعام-.
وأخرج الطّبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخفّيه فلبس أحدهما، ثمّ جاء غراب فاحتمل الآخر فرمى به، فخرجت منه حيّة؛ فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفّيه حتّى ينفضهما» . انتهى. وهذا من علامات نبوّته صلّى الله عليه وسلم وقد عدّ ذلك في معجزاته.(1/589)
[الفصل الخامس في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم]
الفصل الخامس في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم عن ابن سيرين ...
(الفصل الخامس) ، من الباب الثّالث (في) بيان ما ورد في (صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلم) :
والسّلاح آلة الحرب، فكلّ عدّة للحرب فهو سلاح، وفي «المصباح» ؛ السّلاح: ما يقاتل به في الحرب، ويدافع به. والتذكير أغلب من التّأنيث، فيجمع على التّذكير: أسلحة، وعلى التّأنيث: سلاحات. انتهى.
ويطلق السّلاح على السّيف وحده؛ كما في «القاموس» .
قال التّرمذيّ في «الشّمائل» : حدّثنا محمد بن شجاع البغدادي؛ قال: حدّثنا أبو عبيدة الحداد؛ عن عثمان بن سعد؛ (عن) محمد (بن سيرين) (الأنصاري، مولاهم، أبو بكر البصري التّابعي، الإمام في التفسير، والحديث، والفقه، وعبر الرؤيا، والمقدّم في الزّهد والورع؛ قال محمد بن سعد: كان ثقة، مأمونا، عاليا، رفيعا، فقيها، إماما كثير العلم، ورعا.
وأولاد سيرين ستّة: محمّد ومعبد وأنس ويحيى وحفصة وكريمة، وكلهم رواة ثقات، وكان أبوهم من سبي عين التّمر، وهو مولى أنس بن مالك؛ كاتبه على عشرين ألف درهم فأداها وعتق.
وكانت أمّ ابن سيرين اسمها صفيّة مولاة لأبي بكر الصّديق، رضي الله تعالى عنه، طيّبها ثلاث من أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ودعون لها وحضر إملاكها ثمانية عشر بدريّا منهم: أبيّ بن كعب يدعو وهم يؤمنون.
وكان سيرين يكنّى: «أبا عمرة» ، وولد لمحمّد بن سيرين ثلاثون ولدا من امرأة(1/590)
قال: صنعت سيفي على سيف سمرة بن جندب، وزعم سمرة أنّه صنع سيفه على سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان حنفيّا؛ نسبة لبني حنيفة؛ لأنّهم معروفون بحسن صنعة السّيوف.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فضّة.
واحدة، زوجة له عربيّة، ولم يبق منهم غير عبد الله بن محمّد.
واتفقوا على أنّ ابن سيرين توفّي بالبصرة سنة: - 110- عشر ومائة، بعد الحسن بمائة يوم. قال حمّاد بن زيد: مات الحسن أوّل رجب سنة: - 110- عشر ومائة، وصلّيت عليه، ومات ابن سيرين لتسع مضين من شوّال سنة: - 110- عشر ومائة رحمهما الله تعالى.
(قال: صنعت) - من الصّنع، أي: أمرت بأن يصنع؛ وفي بعض نسخ «الشمائل» : صغت- (سيفي على سيف سمرة بن جندب) رضي الله تعالى عنهما؛ أي: على تمثال سيفه في الشّكل والوضع وجميع الكيفيّات. (وزعم سمرة) يعني: قال: فإنّ الزّعم قد يأتي بمعنى القول المحقّق (أنّه صنع) - بناؤه للفاعل؛ أو للمفعول- (سيفه) - مرفوع أو منصوب- (على) هيئة (سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي: على تمثاله في الشّكل والوضع وجميع الكيفيّات.
قال: (وكان) ، أي: سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم (حنفيّا) . والحنفيّ: قال الباجوري: (نسبة لبني حنيفة) ؛ قبيلة مسيلمة الكذّاب، (لأنّهم معروفون بحسن صنعة السّيوف) ، فيحتمل أنّ صانعه كان منهم، ويحتمل أنّه أتى به من عندهم، وهذه الجملة: يعني قوله «وكان حنفيّا» من كلام سمرة فيما يظهر، ويحتمل أنّها من كلام ابن سيرين على الإرسال. انتهى.
(و) أخرج التّرمذيّ في «الجامع» و «الشّمائل» ، وأبو داود والنّسائي والدّارمي؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فضّة) .(1/591)
و (القبيعة) - بوزن الطّبيعة-: ما على طرف مقبض السّيف، يعتمد الكفّ عليها لئلّا يزلق.
وعن جعفر بن محمّد ...
والمراد بالسّيف هنا: ذو الفقار، وكان لا يكاد يفارقه، ودخل به مكّة يوم الفتح، واقتصر في هذا الخبر على القبيعة، وفي رواية ابن سعد؛ عن عامر قال: أخرج إلينا علي بن الحسين سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإذا قبيعته من فضّة، وإذا حلقته الّتي يكون فيها الحمائل من فضّة.
(والقبيعة) - بفتح القاف وكسر الموحّدة- (بوزن الطّبيعة) ؛ قال الباجوري وغيره: هي (ما على طرف مقبض السّيف) فوق الغمد يمسكه من فضّة أو حديد أو غيرهما، (يعتمد الكفّ عليها؛ لئلّا يزلق) .
وفي الحديث دليل على جواز تحلية السّيف وسائر آلات الحرب بالفضّة. قال العلّامة ابن حجر الهيتمي: الحاصل أنّ الذّهب لا يحل للرّجال مطلقا؛ لا استعمالا، ولا اتّخاذا، ولا تضبيبا، ولا تمويها، لا لآلة الحرب ولا لغيرها، وكذا الفضّة إلّا في التضبيب، والخاتم، وتحلية آلة الحرب، وما وقع في بعض الرّوايات من حلّ التمويه تارة وحرمته أخرى!! محمول على تفصيل علم من مجموع كلامهم؛ وهو أنّه إن حصل شيء ما بالعرض على النّار من ذلك الممّوه حرمت استدامته كابتدائه، وإن لم يحصل منه شيء حرم الابتداء فقط.
أمّا نفس التّمويه الذي هو الفعل والإعانة عليه والتسبّب فيه!! فحرام مطلقا، ويأتي هنا التّفصيل في تمويه الرّجال الخاتم وآلة الحرب الذّهب. انتهى.
(و) أخرج ابن سعد؛ من طريق سليمان بن بلال؛ (عن جعفر) الصادق أبي عبد الله الإمام (ابن) الإمام (محمّد) الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السّبط بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، الهاشميّ المدنيّ.
أمّه فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنهم.(1/592)
عن أبيه: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي:
أسفله- وحلقته وقبيعته.. من فضّة.
روى عن أبيه، والقاسم بن محمد، ونافع، وعطاء، ومحمّد بن المنكدر، والزّهري وغيرهم. روى عنه محمد بن إسحاق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسّفيانان، وابن جريج، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون.
واتفقوا على إمامته وجلالته وسيادته. قال عمرو بن المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النّبيّين.
ولد سنة: - 80- ثمانين هجرية، وتوفّي سنة: - 148- ثمان وأربعين ومائة هجريّة. رحمه الله تعالى.
(عن أبيه) محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، القرشي الهاشمي المدني، أبي جعفر، المعروف ب «الباقر» ، سمّي بذلك!! لأنّه بقر العلم، أي: شقّه فعرف أصله وعلم خفيّه.
وأمّه أمّ عبد الله بنت حسن بن علي بن أبي طالب.
وهو تابعيّ جليل، إمام بارع، مجمع على جلالته، معدود في فقهاء المدينة وأئمتهم، سمع جابرا وأنسا، وسمع جماعات من كبار التابعين، كابن المسيّب وابن الحنفيّة وغيرهما.
روى عنه أبو إسحاق السّبيعي، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والأعرج؛ وهو أسنّ منه، والزّهري، وربيعة، وخلائق آخرون من التّابعين وكبار الأئمّة.
وروى له البخاريّ ومسلم، وتوفّي سنة: - 114- أربع عشرة ومائة، وقيل:
ثمانية عشرة، وقيل: سبعة عشرة، وهو ابن ثلاث وستّين سنة، وقيل: ابن ثلاث وسبعين، وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة، والله أعلم رحمه الله تعالى.
قال (كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ أي: أسفله) ، يعني: أسفل غمده، وهذا تفسير للنّعل. وفي «المصباح» : نعل السّيف الحديدة الّتي في أسفل جفنه، مؤنّثة، (وحلقته) - بإسكان اللّام وفتحها لغة في السّكون- وهي ما في أعلاه، تجعل فيه العلاقة. (وقبيعته) الثلاثة (من فضّة) .(1/593)
وقد كان له صلّى الله عليه وسلّم سيوف متعدّدة؛ فقد كان له:
سيف يقال له: (المأثور) ؛ وهو أوّل سيف ملكه عن أبيه.
وله سيف يقال له: (القضيب) .
وله سيف يقال له: (القلعي) - نسبة إلى قلع- موضع ...
وأخرج ابن سعد أيضا؛ من طريق جرير بن حازم؛ عن قتادة؛ عن أنس قال:
كانت نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضّة، وقبيعته وما بين ذلك حلق فضة.
قال الباجوريّ في حاشية «الشّمائل» : (وقد كان له صلّى الله عليه وسلم سيوف متعدّدة) ، ذكر في «المواهب» أنّها تسعة؛ (فقد كان له سيف يقال له: «المأثور» ) - بهمزة ساكنة ومثلّثة- (وهو أوّل سيف ملكه عن أبيه) ؛ أي: ورثه منه؛ ذكره اليعمري.
وهي مسألة نزاع، حتّى قال بعضهم: ليس في كون الأنبياء يرثون نقل.
وبعضهم قال: لا يرثون كما لا يورثون، وإنّما ورث أبويه قبل الوحي، وصرّح شيخ الإسلام زكريّا في «شرح الفصول» بأنّهم يرثون، وبه جزم الفرضيّون.
وذكر الواقديّ أنّه صلّى الله عليه وسلم ورث من أبيه أمّ أيمن وخمسة أجمال وقطعة من غنم ومولاه شقران وابنه صالحا، وقد شهد بدرا، ومن أمّه دارها بالشّعب، ومن زوجته خديجة دارها بمكّة بين الصّفا والمروة، وأموالا.
(وله سيف يقال له: «القضيب» ) - بفتح القاف وكسر الضّاد المعجمة وسكون التّحتيّة وموحّدة آخره- يطلق بمعنى اللّطيف من السّيوف، وبمعنى السّيف القاطع؛ كما في «النور» ، وقيل: إنّ القضيب ليس بسيف، بل هو قضيبه الممشوق. قال العراقي في «ألفيّة السّيرة» :
وقيل: ذا قضيبه الممشوق ... كان بأيدي الخلفا يشوق
(وله سيف يقال له: القلعي) - بضم القاف وفتحها، وبفتح اللّام ثمّ عين مهملة- (نسّبة إلى قلع) - بفتحتين فعين مهملة آخره-: (موضع) هو قلعة(1/594)
بالبادية. وله سيف يقال له: (البتّار) . وسيف يدعى:
(الحتف) . وسيف يدعى: (المخذم) ، بكسر الميم.
وسيف يدعى: (الرّسوب) .
(بالبادية) ، يقال لها: مرج- بالجيم- قريب من حلوان على طريق همذان؛ كما في «العيون» .
(وله سيف يقال له: «البتّار» ) - بفتح الباء وتشديد التّاء، ثمّ راء آخره- أي:
القاطع.
(و) له (سيف يدعى: الحتف) - بفتح الحاء المهملة وسكون التّاء، ثمّ فاء- وهو الموت، ومن قال: الحيف؛ بالتّحتيّة!! فهو سبق قلم، إذ الحيف هو الجور، ولا معنى له هنا.
(و) له (سيف يدعى: «المخذم» - بكسر الميم) الأولى وسكون الخاء المعجمة وفتح الذّال المعجمة ثمّ ميم آخره- وهو القاطع.
(و) له (سيف يدعى: «الرّسوب» ) - بفتح الرّاء وضمّ السّين المهملة وسكون الواو فموحّدة آخره- أي: يمضي في الضريبة، ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب، بضمّ السّين؛ إذا ذهب إلى أسفل واستقرّ، لأنّ ضربته تغوص في المضروب به وتثبت فيه. قيل: إنّه من السّيوف السّبعة الّتي أهدت بلقيس لسليمان؛ كما في «النور» .
قال في «المواهب» مع الشرح: والمخذم والرّسوب أصابهما من الفلس بضمّ الفاء وإسكان اللّام-: صنم كان ل «طي» ، كان الحارث قلّده إيّاهما، فبعث المصطفى صلّى الله عليه وسلم عليّا سنة تسع فهدمه وغنم سبيا وشاء ونعما وفضة، فعزل علي له صلّى الله عليه وسلم صفيا السّيفين. وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم أنّه عليه الصّلاة والسّلام وهبهما لعليّ، وذكر أبو الحسن المدائني أنّ زيد الخيل أهداهما للمصطفى صلّى الله عليه وسلم لمّا وفد عليه. والله أعلم. انتهى.(1/595)
وسيف يقال له: (الصّمصامة) . وسيف يقال له: (اللّحيف) .
وسيف يقال له: (ذو الفقار) . و (الفقر) : الحفر.
(و) له (سيف يقال له: «الصّمصامه» ) - بالهاء- ذكره اليعمري، ويقال له:
الصّمصام، بدونها- بفتح الصّاد المهملة وإسكان الميم فيهما-: السّيف الصّارم الّذي لا ينثني، كان سيف عمرو بن معد يكرب، وكان مشهورا فوهبه صلّى الله عليه وسلم لخالد بن سعيد بن العاص.
(و) له (سيف يقال له: «اللّحيف» ) ، سيف مشهور؛ ذكره اليعمريّ.
(و) له (سيف يقال له: «ذو الفقار» ) - بفتح الفاء وكسرها- لأنّه كان في وسطه مثل فقرات الظّهر. وقيل: سمّي بذلك، لأنّه كان فيه حفر صغار حسان، والفقرة بالضمّ: الحفرة في الأرض الّتي فيها الوديّة.
(والفقر) - بضمّ الفاء وفتح القاف- كعمر؛ جمع فقرة بضمّ فسكون، وهي (الحفر) - بضمّ ففتح جمع حفرة- بضمّ الحاء- وهو أشهر أسيافه صلّى الله عليه وسلم وهو الّذي رأى فيه الرّؤيا يوم أحد، وهو سيف سليمان بن داود- عليهما السلام- أهدته بلقيس مع ستّة أسياف، ثمّ وصل إلى العاص بن منبّه بن الحجّاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، المقتول كافرا ببدر قتله عليّ بن أبي طالب وأخذ سيفه هذا، ثمّ صار إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم بدر من الغنيمة، وكان هذا السّيف لا يفارقه صلّى الله عليه وسلم بعد أن ملكه، يكون معه في كلّ حرب يشهدها، وكانت قائمته- أي: مقبضه- وقبيعته وحلقته وذؤابته- أي: علّاقته- وبكراته ونعله كلّها من فضّة، ويقال: إنّه صار لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه في الجنّة، ولعلّه كان يأخذه منه في الحروب، أو أنّه أعطاه له عند موته، وفيه قيل: لا فتى إلّا عليّ، ولا سيف إلّا ذو الفقار.
ومن الغريب ما رواه الطّبراني في «الكبير» ، وابن عدي في «الكامل» : أنّ الحجّاج بن علاط أهداه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمّ كان عند الخلفاء العبّاسيين. والله أعلم.
وسيأتي مزيد كلام يتعلّق بذي الفقار في الفصل السادس.(1/596)
وقد ذكروا في معجزاته: أنّه صلّى الله عليه وسلّم دفع لعكّاشة جذل حطب؛ ...
(وقد ذكروا) - أي: العلماء في كتبهم، أي: عدّوا- (في معجزاته) الدّالة على نبوّته وصدق رسالته، جمع معجزة؛ وهي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتّحدي، الدّال على صدق الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام.
وسمّيت معجزة!! لعجز البشر عن الإتيان بمثلها.
وللمعجزة أركان أربعة لا بدّ منها؛
أحدها: أن تكون خارقة للعادة.
ثانيها: أن تكون مقرونة بالتّحدي، وهو طلب المعارضة.
وقال المحقّقون: التّحدّي: هو دعوى الرّسالة، فما جاء بعدها من الخوارق فهو معجزة، وإن لم يطلب الإتيان بالمثل الّذي هو المعنى الحقيقي للتّحدّي.
وثالثها: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدّي.
ورابعها: أن تقع على وفق دعوى المتحدّى بها.
(أنّه صلّى الله عليه وسلم دفع لعكاشة) - بضمّ العين مع تخفيف الكاف وتشديدها، والتشديد رواية الأكثرين- وهو أبو محصن؛ عكّاشة بن محصن- بكسر الميم وفتح الصاد- ابن حرثان- بضم الحاء المهملة وسكون الرّاء وثاء مثلثة- ابن قيس بن مرة بن بكير- بالموحّدة- ابن غنم بن دودان- بدالين مهملتين، الأولى مضمومة- ابن أسد بن خزيمة بن مدركة الأسدي، حليف بني عبد شمس.
الصّحابي الجليل.
وهو من السّبعين ألف الذين يدخلون الجنّة بغير حساب؛ كما في «الصحيحين» رضي الله عنه. وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا.
قالوا: وانكسر سيفه فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (جذل) - بكسر الجيم وفتحها وسكون الذّال المعجمة- واحد الأجذال؛ أي: أصل (حطب) . قال الشّامي:
والمراد هنا: العرجون- بضمّ المهملة- أصل العذق- بكسر العين- الذي يفرج(1/597)
حين انكسر سيفه يوم بدر، وقال: «اضرب به» ، فعاد في يده سيفا صارما طويلا أبيض شديد المتن، فقاتل به، ثمّ لم يزل عنده يشهد به المشاهد إلى أن استشهد.
وينعطف؛ ويقطع منه الشّماريخ فيبقى على النخلة يابسا.
(حين انكسر سيفه يوم بدر) ، قال ابن هشام، في «شرح بانت سعاد» : اليوم يطلق على أربعة أمور:
أحدها: مقابل اللّيلة، ومنه (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [7/ الحاقة] .
الثّاني: مطلق الزّمان كقوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [16/ الأنفال] ،
(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [141/ الأنعام] ، (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (30) [القيامة] .
المراد: ساعة الاحتضار، وتقول: فلان اليوم يعمل كذا.
والثّالث: مدة القتال؛ نحو: يوم حنين؛ ويوم بعاث: وهو يوم للأوس والخزرج- وهو بضمّ الباء الموحّدة وبالعين المهملة وبالثّاء المثلّثة؛ أي: ومنه يوم بدر المذكور في المتن.
الرّابع: الدّولة، ومنه (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [140/ آل عمران] . انتهى كلام ابن هشام.
(وقال) له: ( «اضرب به» ) ؛ أي: قاتل به يا عكاشة، فأخذه منه فهزه؛ (فعاد في يده سيفا صارما) أي: ماضيا (طويلا) ؛ أي: طويل القامة، (أبيض) الحديدة (شديد المتن) ؛ أي: الظّهر، من إضافة الوصف إلى فاعله؛ أي:
شديدا متنه، أو المراد بالمتن هنا: الذّات، تسمية للكلّ باسم جزئه.
(فقاتل به) حتّى فتح الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم، وكان ذلك السّيف يسمّى: العون بفتح المهملة وإسكان الواو وبالنون- (ثمّ لم يزل) السّيف (عنده يشهد به المشاهد) ، وشهد أحدا والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وكان من أجمل الرّجال، واستمر ذلك السّيف معه (إلى أن استشهد) في قتال المرتدّين زمن(1/598)
ودفع صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن جحش يوم أحد- وقد ذهب سيفه- عسيب نخل، ...
أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه؛ قتله طلحة بن خويلد الأسدي- وله أربع وأربعون سنة- رضي الله تعالى عنه؛ روى عنه أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم.
أجمعين.
(و) عدّوا في معجزاته صلّى الله عليه وسلم أنّه (دفع صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن جحش) - بتقديم الجيم على الحاء المهملة- وهو أبو محمّد؛ عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي.
أمّه آمنة بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسلم قديما قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر الهجرتين إلى أرض الحبشة؛ هو وأخوه أبو أحمد وعبيد الله وأختهم زينب بنت جحش أمّ المؤمنين، وأمّ حبيبة وحمنة بنات جحش، فأمّا عبيد الله فتنصّر؛ ومات بالحبشة نصرانيّا.
وهاجر عبد الله، وأخوه أبو أحمد، وأهله إلى المدينة، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سريّة، وهو أوّل أمير أمّره، وغنيمته أوّل غنيمة في الإسلام.
ثمّ شهد بدرا واستشهد يوم أحد، وكان من دعائه يوم أحد: أن يقاتل ويستشهد ويقطع أنفه وأذنه ويمثّل به في الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءه فاستشهد وعمل الكفّار به ذلك، وكان يقال له: المجدّع في الله تعالى، وكان عمره حين استشهد نيّفا وأربعين سنة، ودفن هو وخاله حمزة بن عبد المطلب في قبر واحد، رضي الله تعالى عنهما.
قال الزّبير بن بكّار: وأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (يوم أحد- وقد ذهب سيفه-) ؛ أي: انقطع في أثناء القتال وانكسر؛ أعطاه (عسيب نخل) ؛ أي: عرجون نخلة، وإن كان العسيب هو الجريدة من النّخل، مستقيمة دقيقة يكشط خوصها، لكنّ المراد هنا العرجون، كما ذكره الزّبير بن بكّار.(1/599)
فرجع في يده سيفا. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حربة يمشى بها بين يديه؛ فإذا صلّى.. ركزها بين يديه.
وكان صلّى الله عليه وسلّم رايته سوداء، ولواؤه أبيض.
(فرجع) ؛ أي: فعاد (في يده سيفا) فقاتل به حتى قتل- رضي الله تعالى عنه- قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثّقفي، ثمّ قتله عليّ بن أبي طالب بعده، وكان ذلك السّيف يسمّى العرجون، باسم أصله قبل الآية الباهرة، ولم يزل يتوارث حتى بيع من «بغا» التّركي من أمراء المعتصم بالله إبراهيم، الخليفة العبّاسيّ في بغداد، بمائتي دينار، وهذا نحو حديث عكّاشة؛ لأنّ سيف عكّاشة يسمّى العون، وهذا يسمّى العرجون.
(و) أخرج الطّبراني في «الكبير» ، عن عصمة بن مالك قال:
(كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حربة) - بفتح الحاء المهملة وسكون الرّاء، ثمّ باء موحّدة، آخره هاء-: رمح قصير يشبه العكّازة، وهي المسمّاة ب «العنزة» ، (يمشى بها) - بالبناء للمفعول- (بين يديه) ، أي: يحملها شخص على عاتقه، (فإذا صلّى ركزها بين يديه) فيتخذها سترة يصلي إليها إذا كان في غير بناء، فإذا رآها شخص مرّ من خلفها، وكان يمشي بها، أي: يتوكّأ عليها أحيانا، وكان له حراب غيرها أيضا.
(و) أخرج التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم؛ في «الجهاد» ؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- قال: (كان) رسول الله (صلّى الله عليه وسلم رايته) تسمّى: العقاب، كما ذكره ابن القيّم. وكانت (سوداء) ؛ أي: غالب لونها أسود، بحيث ترى من بعد سوداء، لا أنّ لونها أسود خالص، (ولواؤه أبيض) قال ابن القيّم: ربما جعل فيه السّواد. انتهى.
وهذا الحديث رواه الحاكم وسكت عنه ولم يصحّحه، لأنّ فيه يزيد بن حبّان، مضعّف؛ وقيل: بل هو مجهول الحال. وساقه ابن عدي من مناكير حبّان بن عبيد الله.(1/600)
وعن الزّبير بن العوّام ...
نعم؛ رواه التّرمذيّ في «العلل» ؛ عن البراء، من طريق آخر بلفظ: كانت سوداء مربّعة من نمرة، ثمّ قال: سألت عنه محمّدا- يعني: البخاري- فقال:
حديث حسن. انتهى.
ورواه الطّبرانيّ باللّفظ المذكور من هذا الوجه وزاد: مكتوب عليه: لا إله إلّا الله؛ محمّد رسول الله. انتهى.
والرّاية: العلم الكبير، واللّواء: العلم الصّغير، فالرّاية هي الّتي يتولّاها صاحب الحرب ويقاتل عليها، وإليها تميل المقاتلة.
واللّواء: علامة كبكبة الأمير تدور معه حيث دار؛ ذكره جمع.
وقال ابن العربي: اللّواء: ما يعقد في طرف الرّمح ويكون عليه. والرّاية:
ما يعقد فيه ويترك حتّى تصفّقه الرّياح. انتهى «مناوي» .
وفي «الحفني؛ على الجامع» : الراية: ما يربط في الرّمح، تضربه الرياح، وهي إلى النّصف أو أكثر، بخلاف اللّواء؛ فهو ما يربط صغيرا في أعلى الرّمح، ويكون مع السّلطان أو أمير الجيش ليجتمع له الجيش عند القتال. انتهى.
(و) أخرج التّرمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن) أبي عبد الله (الزّبير) - بضمّ الزّاي مصغّرا- (بن العوّام) - بتشديد الواو- بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي القرشيّ الأسديّ المدنيّ، يلتقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصّي.
أمّه صفيّة بنت عبد المطّلب؛ عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسلمت وهاجرت إلى المدينة؛ أسلم الزّبير قديما في أوائل الإسلام؛ وهو ابن خمس عشرة سنة في قول.
وكان إسلامه بعد إسلام أبي بكر الصّديق بقليل، فكان رابعا أو خامسا.
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد السّتّة أصحاب الشّورى، وهاجر إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة، وآخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود حين آخى بين المهاجرين بمكّة؛ فلما قدم المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش.(1/601)
رضي الله تعالى عنه قال: كان على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصّخرة؛ فلم يستطع، فأقعد طلحة ...
وكان الزّبير أوّل من سلّ سيفا في سبيل الله، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وحصار الطّائف والمشّاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك وفتح مصر، ومناقبه كثيرة جمّة.
وكان الزبير رضي الله عنه يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف، فلحقه جماعة من الغواة؛ فقتلوه بوادي السّباع بناحية البصرة- وقبره هناك- في جمادى الأولى سنة: - 36- ستّ وثلاثين، وكان عمره حينئذ سبعا وستّين سنة. وقيل: ستّا وستّين. وقيل: أربعا وستّين.
(رضي الله تعالى عنه) وأرضاه، وعن سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(قال: كان على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم أحد) - أي: في يوم وقعة أحد- (درعان) .
زاد في رواية: درعه ذات الفضول، ودرعه فضّة، وكان عليه يوم حنين درعان:
ذات الفضول والسّغدية، ولم يظاهر بين درعين إلّا في هذين اليومين.
(فنهض إلى الصّخرة) ، أي: أسرع متوجّها نحوها ليعلوها فيراه المسلمون؛ فيعلمون حياته؛ فيجتمعون عليه. يقال: نهض عن مكانه؛ إذا قام عنه، ونهض إلى العدو؛ أسرع إليه، ونهض إلى فلان؛ تحرّك إليه بالقيام.
(فلم يستطع) ؛ أي: فلم يقدر على الارتفاع على الصّخرة لضعف طرأ عليه بسبب ما حصل له من شجّ رأسه وجبينه الشّريف، واستفراغ الدّم الكثير منهما.
وقيل: لثقل درعه الدّالّ على نفاسته وقوّته ومزيد منعه لما يحصل لصاحبه. وقيل:
لعلوّ الصّخرة. والأظهر: الأوّل.
(فأقعد) ؛ أي: أجلس (طلحة) بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب؛ أبو محمد القرشي، التيمي، المكّي، المدنيّ.(1/602)
تحته، وصعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى استوى على الصّخرة، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أوجب طلحة» - أي: فعل فعلا أوجب لنفسه بسببه الجنّة.
أحد العشرة الّذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة، وأحد الثّمانية السّابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الّذين أسلموا على يد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأحد السّتّة أصحاب الشّورى.
وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طلحة الخير» ، و «طلحة الجود» ، وهو من المهاجرين الأوّلين، ولم يشهد بدرا، ولكن ضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهمه وأجره كمن حضر. وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد.
وروي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثا؛ اتفق البخاريّ ومسلم على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، وانفرد مسلم بثلاثة.
وقتل يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى سنة: - 36- ستّ وثلاثين.
وهذا لا خلاف فيه، وكان عمره أربعا وستّين سنة، على خلاف في ذلك، وقبره بالبصرة مشهور يزار ويتبرّك به، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
(تحته) فصار طلحة كالسّلّم؛ (وصعد) - بكسر العين- (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) ؛ أي:
فوضع رجله فوقه وارتفع (حتّى استوى على الصّخرة) ؛ أي: استقرّ عليها.
(قال) - أي: الزّبير-: (سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «أوجب طلحة» ) رضي الله تعالى عنه- (أي: فعل فعلا) هو إعانته له صلّى الله عليه وسلم على الارتفاع على الصّخرة الّذي ترتّب عليه جمع شمل المسلمين وإدخال السّرور يومئذ على كلّ حزين.
و (أوجب لنفسه بسببه الجنّة) ، ويحتمل أنّ ذلك الفعل هو جعله نفسه فداء له صلّى الله عليه وسلم ذلك اليوم حتّى أصيب ببضع وثمانين طعنة، وشلّت يده في دفع الأعداء عنه، ولا مانع من إرادة الجميع؛ وكان أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه إذا ذكر أحدا(1/603)
وكان له صلّى الله عليه وسلّم سبعة أدرع؛ فقد كان له:
درع تسمى: (ذات الفضول) ؛ سمّيت بذلك لطولها.
ودرع تسمى: (ذات الوشاح) . ودرع تسمى: (ذات الحواشي) . ودرع تسمى: (فضّة) . ودرع تسمى: (السّغديّة) ؛ قال: ذلك يوم كان كلّه لطلحة رضي الله تعالى عنه.
(وكان له صلّى الله عليه وسلم سبعة أدرع) ؛ جمع درع- بكسر الدّال المهملة وسكون الرّاء، وفي آخره عين مهملة-: جبّة من حديد تصنع حلقا حلقا، وتلبس للحرب، وهي الزّرديّة؛ كما قال ابن الأثير.
والدّرع مؤنّثة في الأكثر، وقد تذكّر، وتجمع على أدرع، ودروع، وأدراع، (فقد كان له درع تسمى: «ذات الفضول» ) - بالضّاد المعجمة قبلها فاء مضمومتين- (سمّيت بذلك لطولها) ؛ من الفضل: الزّيادة.
أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهي الّتي رهنها عند أبي الشّحم اليهودي، على ثمن شعير اشتراه لأهله، وكان ثلاثين صاعا، وكان الدّين إلى سنة.
(و) كان له (درع تسمى: «ذات الوشاح» ) - بكسر الواو وخفّة الشّين المعجمة، فألف فمهملة-
(و) كان له (درع تسمى: «ذات الحواشي» ) - جمع حاشية- وهي في الأصل جانب الثوب.
(و) كان له (درع تسمى: «فضّة» ) - بكسر الفاء- أصابها من بني قينقاع؛ بطن من يهود المدينة.
(و) كان له (درع تسمى: «السّغديّة» ) - بضمّ السّين والغين المعجمة السّاكنة ودال مهملة، ويقال: بفتح السّين وإسكان العين ودال مهملات، قال بعضهم:
بالعين المهملة، منسوبة للسّعد؛ وهي جبال معروفة.(1/604)
قيل: هي درع سيّدنا داوود الّتي لبسها لقتال جالوت.
ودرع تسمى: (البتراء) . ودرع تسمى: (الخرنق) .
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل مكّة وعليه مغفر.
وفي «معرّب» الجواليقي: إنّه بالسين والصّاد لأنّه قياس في كلّ سين معها حرف استعلاء- وقد أصابها النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من بني قينقاع- وهي درع عكبر القينقاعي.
و (قيل: هي درع سيّدنا داود الّتي لبسها لقتال جالوت) الكافر؛ كما حكاه اليعمري ومغلطاي.
(و) كان له (درع تسمى: «البتراء» ) - بفتح الموحّدة وسكون الفوقيّة والمدّ- سمّيت بذلك لقصرها.
(و) كان له (درع تسمى: «الخرنق» ) - بكسر الخاء المعجمة وإسكان الرّاء وكسر النّون وقاف- سميت باسم ولد الأرنب؛ كما في «العيون» وغيرها.
(و) أخرج البخاريّ ومسلم وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائي وابن ماجه والتّرمذيّ في «الشمائل» - واللفظ له- كلّهم؛ من طريق مالك؛ عن الزّهري.
(عن أنس بن مالك) - وتقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل مكّة) يوم الفتح (وعليه مغفر) ، ولا يعارضه ما مرّ من أنّه دخل مكّة وعليه عمامة سوداء!! لأنّه لا مانع من أنّه لبس العمامة السّوداء فوق المغفر، أو تحته؛ وقاية لرأسه من صدأ الحديد، ففي رواية «المغفر» الإشارة إلى كونه متأهّبا للقتال، وفي رواية «العمامة» الإشارة إلى كونه دخل غير محرم؛ كما صرّح به القسطلّاني.
فإن قلت: دخول مكّة وعليه المغفر يشكل عليه خبر «لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السّلاح» . رواه مسلم؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه!!(1/605)
و (المغفر) - بوزن منبر- زرد من حديد ينسج بقدر الرّأس يلبس تحت القلنسوة.
قلت: لا إشكال؛ لأنّه محمول على حمله في قتال لغير ضرورة، وهذا كان لضرورة، على أنّ مكّة أحلّت له ساعة من نهار، ولم تحلّ لأحد قبله ولا بعده. أمّا حمله فيها في غير قتال! فهو مكروه. والله أعلم.
(والمغفر) - بكسر الميم وفتح الفاء- (بوزن منبر) ؛ من الغفر، وهو السّتر، والمراد به هنا: (زرد من حديد ينسج بقدر الرّأس يلبس تحت القلنسوة) ، وفي «المغرب» : ما يلبس تحت البيضة، ويطلق على البيضة أيضا.
وفرّق بعضهم بين المغفر والبيضة؛ بأنّ المغفر يشبه القلنسوة، وربّما يكون في حديدة تنزل على الأنف، وفي البيضة طول.
زاد الدّارقطني في «الفوائد» والحاكم في «الإكليل» : من حديد، وفي طرفها الأعلى احديداب قريب بيضة النّعامة، ولها حلق تنزل إلى العنق والكفّين والصّدر.
وزعم بعض أهل السّير أنّ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم مغفرين يقال لأحدهما: الوشح، وللآخر: السّبوع. وقال بعضهم: كانت له بيضة، وكانت في رأسه يوم أحد.
وينبغي أن يعلم أن الدّروع والبيضة والمغفر من جملة السّلاح؛ لأنّ السّلاح يطلق على ما يقتل به، وعلى ما يدفع به، وهؤلاء مما يدفع بها؛ كما تقدم في أوّل الباب. والله أعلم.(1/606)
[الفصل السّادس كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه]
الفصل السّادس كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه كان اسم رايته: (العقاب) ، وكانت سوداء، ...
(الفصل السّادس) من الباب الثّالث:
(كان من خلقه صلّى الله عليه وسلم) الخلق- بضمّتين-: الصّورة الباطنة من النّفس وأوصافها ومعانيها المختصّة بها.
(أن يسمّي سلاحه) : (كل عدّة في الحرب. (ودوابّه) - جمع دابّة؛ وهي لغة: كل ما يدبّ على الأرض. وعرفا: اسم لذات الأربع؛ كما قال المحلي- (ومتاعه) المتاع- في اللّغة-: كل ما ينتفع به كالطّعام والبزّ وأثاث البيت؛ وأصل المتاع ما يتبلغ به من الزّاد؛ وهو اسم من متّعته بالتّثقيل إذا أعطيته ذلك، والجمع:
أمتعة؛ ذكره في «المصباح» . وهذه التّرجمة قطعة من حديث رواه الرّوياني، وابن عساكر؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان يلبس القلانس تحت العمائم ... الحديث. وفي آخره: وكان من خلقه أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه؛ أي: كما كان يسمّي قميصه ورداءه وعمامته؛ قال في «شرح الإحياء» .
قال الإمام الشّعراني في «كشف الغمّة» كالغزالي في «الإحياء» :
(كان اسم رايته صلّى الله عليه وسلم «العقاب» ) - بضمّ العين المهملة- رواه ابن عدي؛ من حديث أبي هريرة بسند ضعيف: كانت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم سوداء تسمّى العقاب.
ورواه أبو الشّيخ؛ من حديث الحسن مرسلا؛ قاله العراقيّ. قلت: وكذلك رواه ابن سعد في «الطبقات» . انتهى شرح «الإحياء» .
(وكانت سوداء) مربّعة؛ أي: غالب لونها أسود، بحيث ترى من بعيد(1/607)
ومرّة كان يجعلها صفراء، ومرّة بيضاء فيها خطوط سود.
وكان اسم خيمته: (الكنّ) . وقضيبه: (الممشوق) .
واسم قدحه: (الرّيّان) . وركوته: (الصّادر) . وسرجه:
(الرّاجّ) . ومقراضه: (الجامع) .
سوداء؛ لا أنّها لونها أسود خالص؛ كما قاله الطيبي.
(ومرّة كان يجعلها صفراء) . روى أبو داود؛ عن رجل: قال رأيت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفراء، (ومرّة بيضاء فيها خطوط سود) تسمّى الزّينة.
وقد تقدّم في الفصل الخامس من حديث ابن عبّاس أنّ رايته سوداء، ولواءه أبيض، وهناك مزيد كلام على الرّاية واللّواء، والفرق بينهما.
(وكان اسم خيمته: «الكنّ» ) - بكسر الكاف- لأنّه يستر من الحرّ والبرد، كما أشار له اليعمري.
(و) كان اسم (قضيبه) - وهو غصن مقطوع من شجرة شوحط- يسمّى:
( «الممشوق» ) ، قيل: وهو الّذي كان الخلفاء يتداولونه، وسيأتي ذكره في حديث ابن عبّاس الآتي.
(و) كان (اسم قدحه: «الرّيّان» ) - بفتح الرّاء وشد التّحتيّة- وله عدة أقداح.
(و) كان اسم (ركوته) - بفتح الرّاء وسكون الكاف، بعدها مثنّاة فوقيّة، وحي كسر الرّاء، وحكي ابن دحية تثليث الرّاء- ( «الصّادر» ) ؛ لأنه يصدر عنها الريّ، أي: ريّ الشّارب منها، وسيأتي ذكرها في حديث ابن عبّاس الآتي.
(و) كان اسم (سرجه) - بالجيم- وهو رحل الدّابة معروف، وهو عربي، وفي «شفاء العليل» : إنّه معرّب سرك، ( «الرّاجّ» ) - بالرّاء المهملة والجيم آخره- وسيأتي في حديث ابن عباس.
(و) كان اسم (مقراضه) - بكسر الميم وضاد معجمة- وهو المسمّى بالمقص ( «الجامع» ) ، وسيأتي في حديث ابن عبّاس.(1/608)
وسيفه الّذي كان يشهد به الحروب: (ذو الفقار) .
وكانت له أسياف أخر.
(و) كان اسم (سيفه الّذي كان يشهد به الحروب: «ذو الفقار) - بفتح الفاء وكسرها- قال ابن القيّم: تنقّله من بدر، وهو الّذي أري فيه الرّؤيا، ودخل به يوم فتح مكّة، وكانت أسيافه سبعة، وهذا ألزمه له.
وقال الزّمخشري: سمّي ذا الفقار؛ لأنّه كانت في إحدى شفرتيه حزوز شبّهت بفقار الظّهر، وكان هذا السّيف لمنبّه بن الحجّاج، أو منبّه بن وهب، أو العاص بن منبّه، أو الحجّاج بن علاط، أو غيرهم؛ ثمّ صار عند الخلفاء العبّاسيين.
قال العراقي: روى أبو الشّيخ؛ من حديث عليّ بن أبي طالب: كان اسم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذا الفقار. وللتّرمذيّ، وابن ماجه؛ من حديث ابن عبّاس أنّه صلّى الله عليه وسلم تنفّل سيفه ذا الفقار يوم بدر. وللحاكم؛ من حديث علي؛ في أثناء حديث: وسيفه ذو الفقار. وهو ضعيف. انتهى.
قال الأصمعيّ: دخلت على الرّشيد فقال: أريكم سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذا الفقار؟ قلنا: نعم، فجاء به، فما رأيت سيفا أحسن منه إذا نصب لم ير فيه شيء، وإذا بطح عدّ فيه سبع فقر، وإذا صفيحته يمانيّة يحار الطّرف فيه من حسنه.
وقال قاسم بن ثابت بن حزم الأندلسي الفقيه المالكي المتوفّى سنة: - 302- اثنين وثلاثمائة في «الدلائل» :
إنّ ذلك كان يرى في رونقه شبيها بفقار الحيّة، فإذا التمس لم يوجد، وله ذكر في حديث ابن عبّاس الطّويل، وسيأتي في المتن. وقد تقدّم في الفصل الخامس كلام في ذي الفقار بعضه غير مذكور هنا.
(وكانت له) صلّى الله عليه وسلم (أسياف) ستّة (أخر) - بضمّ الهمزة وفتح الخاء- ممنوع من الصّرف للصفة والعدل، كما قال ابن مالك:
ومنع عدل مع وصف معتبر ... في لفظ مثنى وثلاث وأخر(1/609)
وكانت له منطقة من أدم، فيها ثلاث حلق من فضّة.
وكان اسم جعبته: (الكافور) .
واسم ناقته: (القصواء) ؛ ...
وبذي الفقار تصير أسيافه صلّى الله عليه وسلم سبعة، وقد تقدّمت مفصلة في الفصل الخامس.
(وكانت له) صلّى الله عليه وسلم (منطقة) - بكسر الميم-: اسم لما يسمّيه النّاس الحياصة.
ويقال له: العرقة- بعين مهملة مفتوحة وراء مفتوحة وقاف مفتوحة آخره تاء مربوطة- (من أدم) - بفتحتين- جلد (فيها ثلاث حلق من فضّة) ، والإبزيم من فضّة، والطرف الّذي يدخل في الإبزيم من فضّة.
وقد ذكر ابن سعد وغيره: أنّه صلّى الله عليه وسلم يوم أحد حزم وسطه بمنطقة؛ وأقرّه اليعمري وغيره، فقول ابن تيمية «لم يبلغنا أنّه شدّ على وسطه منطقة» !! تقصير، فابن سعد ثقة حافظ، فهو حجّة على النّافي، ولا سيّما أنّما نفى أنّه بلغه، ولم يطلق النّفي؛ فدع عنك قيل وقال. انتهى «زرقاني» .
(و) في «الإحياء» و «المواهب» و «كشف الغمة» : (كان اسم جعبته) بفتح الجيم والموحّدة بينهما عين مهملة ساكنة- وهي الكنانة يجمع فيها نبله:
( «الكافور» ) .
قال العراقي: لم أجد له أصلا، وفي حديث ابن عبّاس عند الطّبراني أنّه كان له قوس يسمّى: «السّداد» ، وكانت له كنانة تسمّى: «الجمع» ؛ ذكره في «شرح الإحياء» . وسيأتي حديث ابن عبّاس الذي أشار إليه العراقي.
(و) كان (اسم ناقته) صلّى الله عليه وسلم: ( «القصواء» ) - بفتح القاف والمدّ على غير قياس، والقياس القصر؛ كما وقع في بعض نسخ أبي ذر في البخاري- قيل: وهي الّتي هاجر عليها.
والقصواء: النّاقة الّتي قطع طرف أذنها؛ وكل ما قطع من الأذن فهو: جدع،(1/610)
وهي الّتي يقال لها: (الغضباء) .
فإذا بلغ الرّبع فهو: قصوى، فإذا جاوز فهو: عضب، فإذا استؤصلت فهو: صلم.
قال ابن الأثير: ولم تكن ناقة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قصوا بهذا المعنى، وإنّما هو لقب لها، لقّبت به!! لأنّها كانت غاية في الجري، وآخر كلّ شيء أقصاه.
وجاء في خبر أنّ له ناقة تسمّى: العضباء، وهي: الّتي كانت لا تسبق، فجاء أعرابيّ على قعود له فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين، فقال عليه الصلاة والسّلام: «إنّ حقّا على الله أن لا يرفع شيئا من الدّنيا إلّا وضعه» .
وجاء في خبر أنّ له ناقة تسمّى: الجدعاء- بفتح الجيم وإسكان الدّال المهملة بعدها عين مهملة-: هي المقطوعة الأنف، أو الأذن، أو الشّفة.
فقول الشّامي: إنّ الجذعاء- بالذّال المعجمة- سبق قلم؛ والعضباء والجدعاء لقب لهما، ولم يكن بهما عضب ولا جدع.
وهذه الأوصاف الثّلاثة يحتمل أن تكون صفة لناقة واحدة فسمّى كلّ بما تخيّل إليه فيها، ويحتمل أنّ كلّ واحدة صفة ناقة مفردة.
(و) قال المصنّف تبعا لأصله «الإحياء» و «كشف الغمة» : إنّ القصواء (هي الّتي يقال لها: «العضباء» ) - بفتح المهملة وسكون المعجمة بعدها موحّدة ومدّ- هي المقطوعة الآذان أو المشقوقتها.
وقال ابن فارس: كان ذلك لقبا لها، وقال الزّمخشريّ: العضباء: منقول من قولهم «ناقة عضباء» ؛ أي: قصيرة القدّ.
قال في «الفتح» : اختلف؛ هل العضباء هي القصواء أو غيرها؟
فجزم الحربيّ بالأوّل، وقال تسمّى العضباء والقصواء والجدعاء. وروى ذلك ابن سعد؛ عن الواقديّ، وقال غير الحربي بالثّاني، وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحملها «1» عند نزول الوحي غيرها. انتهى.
__________
(1) هكذا الأصل!! ولعل الصواب: يحمله.(1/611)
وكان اسم بغلته: (دلدل) . واسم حماره: (يعفورا) .
وعلى القول الأوّل جرى العراقي في «ألفيّته» حيث قال:
عضباء جدعاء هما القصواء ...
لكن روى البزّار عن أنس: خطبنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم على العضباء؛ وليست بالجدعاء.
قال السّهيلي: فهذا من قول أنس أنّها غير الجدعاء، وهو الصّحيح. انتهى «زرقاني ومناوي» .
(وكان اسم بغلته: «دلدل» ) - بدالين مهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة- وكانت شهباء؛ أي: بياضها غالب على سوادها، أهداها له المقوقس، قيل: وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، وكان صلّى الله عليه وسلم يركبها في السّفر، وعاشت بعده حتّى كبرت وسقطت أسنانها؛ وكان يجيش لها الشّعير، وعميت وماتت ب «ينبع» ؛ ذكره الزّرقاني على «المواهب» . وسيأتي لها ذكر في حديث ابن عبّاس.
(و) كان (اسم حماره: «يعفورا» ) - بسكون العين المهملة وضمّ الفاء مصروف- قال الحافظ ابن حجر وغيره: هو اسم ولد الظّبي، كأنّه سمّي بذلك لسرعته، وقيل: تشبيها في عدوه باليعفور؛ وهو الخشف، أي: ولد الظّبي وولد البقرة الوحشيّة.
ومات يعفور منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حجّة الوداع، وبه جزم النّوويّ؛ عن ابن الصّلاح. وقيل: طرح نفسه في بئر لأبي الهيثم بن التّيّهان يوم مات صلّى الله عليه وسلم، فكانت قبره، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في «الضعفاء» وقال:
لا أصل له، وليس سنده بشيء. وفيه: أنّه غنمه من خيبر، وكان اسمه يزيد بن شهاب، وقد ساقه القسطلّاني في المعجزات:
وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حمار يقال له: عفير، ثمّ المشهور؛ كما في «الألفيّة» وهو قول الجمهور- أنّهما اثنان، وقيل: هما واحد. قال في «الفتح» : زعمه ابن عبدوس، وقوّاه صاحب «الهدي» ، وردّه الدمياطي؛ فقال: عفير أهداه(1/612)
واسم شاته الّتي كان يشرب لبنها: (غيثة) .
وفي حديث آخر: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيف محلّى، قائمته من فضّة، ونعله ...
المقوقس، ويعفور أهداه فروة بن عمرو الجذامي، وقيل: بالعكس. والله أعلم.
(و) قال المناوي في شرح «الجامع الصّغير» ؛ عن العراقي: وفي حديث للطّبراني: كان (اسم شاته الّتي كان يشرب لبنها: «غيثة» ) - بغين معجمة ومثلّثة، وقيل: غوثة؛ بواو بدل الياء-.
وأخرج ابن سعد في «طبقاته» : كانت منايح رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الغنم سبع:
عجوة، وسقيا، وبركة، وزمزم، وورسة، وأطلال، وأطراف. وفي سنده الواقديّ. وله؛ عن مكحول مرسلا: كانت له شاة تسمّى: قمر.
وذكر في «العيون» : أنّ له شاة تسمّى: اليمن؛ بل روى أبو داود: أنّ له مائة شاة لا يريد أن تزيد على ذلك كلّما ولدت بهيمة دمج الرّاعي مكانها شاة.
(وفي حديث آخر) رواه الطّبراني في «الكبير» ؛ من طريق عثمان بن عبد الرحمن؛ عن علي بن عذرة الدّمشقيّ؛ عن عبد الملك بن أبي سليمان؛ عن عطاء وعمرو بن دينار؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما-.
وعليّ بن عذرة الدّمشقي! قال: الهيثميّ: متروك. وقال العراقيّ: إنّه نسب إلى وضع الحديث. وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وقال: عبد الملك وعليّ وعثمان متروكون، ونوزع في عبد الملك بأنّ الجماعة سوى البخاريّ رووا له-.
وهذا هو حديث ابن عبّاس الموعود به، وهو جامع لكثير مما تقدّم؛ قال:
(كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم سيف محلّى) بفضّة؛ أي: مزيّن بها لأن التّحلية لم تكن عامة لجميعه؛ كما بيّنه بقوله:
(قائمته) ؛ أي: مقبضه (من فضّة، ونعله) ؛ أي: الحديدة الّتي في أسفل(1/613)
من فضّة، وفيه حلق من فضّة، وكان يسمى: (ذا الفقار) .
وكان له قوس تسمى: (ذا السّداد) .
وكانت له كنانة تسمى: (ذا الجمع) .
وكان له درع موشّحة بنحاس تسمى: (ذات الفضول) .
قرابه (من فضّة، وفيه حلق) في وسطه (من فضّة) . قال مرزوق الصّقال: أنا صقلته؛ فكانت قبيعته من فضّة وحلق في قيده، وبكر في وسطه من فضه.
وجاء بسند حسن أنّ قبيعة سيفه ونعله وحلقا بينهما كانت من فضّة. انتهى «زرقاني» .
والقبيعة- بالقاف-: ما على طرف مقبضه. والبكر: الحلق الّتي في حليته، وهي ما يكون في وسطه.
(وكان يسمى: «ذا الفقار» ) - بفتح الفاء وفتح القاف- سمّي به!! لأنّه كان فيه حفر متساوية.
(وكان له قوس تسمى) - بمثناة فوقية مضمومة وسكون السّين المهملة؛ وكذا ما يأتي، قاله المناوي-: ( «ذا السّداد» ) - بفتح السّين المهملة- علم منقول؛ لأنّه الصّواب من قول أو عمل.
قال ابن القيّم: وكان له ستّة قسيّ؛ هذا أحدها، والزّوراء، والكتوم كسرت يوم أحد، وثلاث من سلاح بني قينقاع؛ قوس تدعى: الرّوحاء، وقوس شرحط تدعى: البيضاء، وقوس تدعى: الصّفراء.
(وكانت له كنانة) - بكسر الكاف-: جعبة السّهام، وبها سمّيت القبيلة- (تسمى:
«ذا الجمع» ) - بضم الجيم وسكون الميم-. (وكان له درع) - بكسر الدّال وسكون الرّاء المهملتين-: هو القميص المتّخذ من الزّرد- (موشّحة) - بتشديد الشّين المعجمة بعدها حاء مهملة- (بنحاس) - بضمّ النّون-؛ أي: موضوع فيها نحاس (تسمى:
«ذات الفضول» ) ، وهي التي رهنها عند أبي الشّحم، وكان له سبعة دروع هذه(1/614)
وكان له حربة تسمى: (النّبعاء) .
وكان له مجنّ يسمى: (الذّفن) .
وكان له فرس أشقر يسمى: (المرتجز) .
وكان له فرس أدهم يسمى: (السّكب) .
أحدها. وقد تقدّم الكلام على أدراعه في آخر الفصل الخامس.
(وكان له حربة تسمى: «النّبعاء» ) - بنون مفتوح فموحّدة ساكنة فعين مهملة، وقيل: بباء موحّدة، ثم نون ساكنة، فعين مهملة، وبالمدّ-: شجر يتّخذ القسيّ منه. قال ابن القيّم: وكان له حربة أخرى كبيرة تدعى: البيضاء.
(وكان له مجنّ) - بكسر الميم وفتح الجيم- أي: ترس، سمّي به! لأنّ صاحبه يستتر به، وجمعه مجان ككتاب (يسمى: «الذّفن» ) - بفتح الذال وسكون الفاء وفي بعض النسخ بالقاف بدل الفاء-.
(وكان له فرس أشقر) ؛ أي: أحمر، في حمرته صفاء، (يسمى:
«المرتجز» ) - بضم الميم وسكون الرّاء وفتح المثنّاة الفوقيّة وكسر الجيم بعدها زاي- سمّي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرّجز الّذي هو ضرب من الشّعر.
قال في «العيون» : كأنّه ينشد رجزا؛ وكان أبيض.
قال النّوويّ في «التّهذيب» : وهو الّذي اشتراه من الأعرابي الّذي شهد عليه خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي؛ فجعل شهادته شهادة رجلين.
(وكان له فرس أدهم) ؛ أي: أسود (يسمى: «السّكب» ) - بفتح السّين المهملة وإسكان الكاف، وبالموحّدة- سمّي به لأنّه كثير الجري. وأصل السّكب:
الصبّ، فاستعير لشدّة الجري. قيل: وهذا أوّل فرس ملكه؛ كما في «تهذيب النووي» . قال: وكان أغرّ محجّلا طلق اليمين. وهو أوّل فرس غزا عليه. وله عدة أفراس.(1/615)
وكان له سرج يسمى: (الرّاجّ) .
وكان له بغلة شهباء تسمى: (الدّلدل) .
(وكان له سرج يسمى: «الرّاجّ» ) - بالرّاء المهملة والجيم آخره- ذكره في «شرح الراموز» .
(وكان له بغلة شهباء) - بالمدّ- أي: يغلب بياضها سوادها، ومن ثمّ أطلق عليها عمرو بن الحارث الصّحابيّ أنّها بيضاء؛ كما في «الصّحيح» ، وغيره.
وقال بعضهم: كانت بيضاء، وقيل: شهباء.
(تسمى: «الدّلدل» ) - بدالين مهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة؛ كقنفذ- أهداها له المقوقس، وعاشت بعده صلّى الله عليه وسلم حتى كبرت وسقطت أسنانها.
وفي «تاريخ ابن عساكر» من طرق أنّها بقيت حتى قاتل عليها عليّ الخوارج في خلافته.
وفي البخاري وغيره عن عمرو بن الحارث: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا تركها صدقة. قال شرّاحه: هي دلدل، لأنّ أهل السّير لم يذكروا بغلة بقيت بعده سواها، وهل هذه البغلة المسمّاة دلدل أنثى؟ كما أجاب به ابن الصّلاح، أو ذكر؛ كما نقل عن إجماع أهل الحديث.
ويدلّ له قوله صلّى الله عليه وسلم: «ابرك دلدل» . ولم يقل: ابركي؛ قاله الزرقاني.
وكان له بغلة تسمّى فضّة؛ أهداها له فروة بن عمرو الجذامي، فوهبها لأبي بكر؛ رواه ابن سعد؛ وكانت بيضاء.
وهي الّتي كان عليها يوم حنين؛ كما في «مسلم» ؛ عن العبّاس: أنّه صلّى الله عليه وسلم كان على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي.
وعند «مسلم» ؛ عن سلمة: وكان على بغلته الشّهباء. ولا منافاة؛ وقيل:
كان على دلدل؛ ذكره ابن سعد وغيره؛ وجمع القطب الحلبي باحتمال أنّه ركب كلّا(1/616)
وكان له ناقة تسمى: (القصواء) .
منهما يومئذ إن ثبت أنّها كانت صحبته، وإلّا فما في «الصّحيح» أصحّ.
وأغرب النّوويّ؛ فقال: البيضاء والشّهباء واحدة، ولا يعرف له بغلة غيرها.
وتعقبوه بدلدل، فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل: إنّ الاسمين لواحدة، وهذا القيل زعمه ابن الصّلاح، وهو مردود؛ بأنّ البيضاء الّتي هي الشّهباء أهداها له فروة بن نفاثة، ودلدل أهداها له المقوقس. انتهى «زرقاني» .
وله صلّى الله عليه وسلم بغال غيرها ذكرها في «المواهب» ، و «فيض القدير» للمناوي و «شرح الإحياء» .
(وكان له ناقة تسمى: «القصواء» ) - بفتح القاف والمدّ على غير قياس، والقياس القصر؛ كما وقع في بعض نسخ البخاريّ رواية أبي ذر- والقصو: قطع طرف الأذن. وقد قيل: كان طرف أذنها مقطوعا. وزعم الدّاوودي شارح البخاريّ: أنّها كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء لأنّها بلغت من السّبق أقصاه.
قال القاضي عياض: ووقع في رواية العذري في «مسلم» بالضّمّ والقصر [قصوا] «1» !! وهو خطأ. وقال الخطّابي: أكثر أصحاب الحديث يقولون بالضمّ والقصر، وهو خطأ فاحش. إنّما القصوى تأنيث الأقصى؛ كالسّفلى تأنيث الأسفل، وهي الّتي هاجر عليها؛ كما قاله الواقدي وتبعه غير واحد من الحفّاظ.
اشتراها من أبي بكر بثمانمائة درهم، وكانت من نعم بني قشير، وعاشت بعده صلّى الله عليه وسلم وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع؛ ذكره الواقديّ.
وعند ابن إسحاق أنّ الّتي هاجر عليها الجدعاء، وكانت من إبل بني الحريش؛ وكذا في رواية «البخاري» في غزوة الرّجيع. وابن حبّان؛ عن عائشة؛ وهو أقوى إن لم نقل إنّهما واحدة، وكان على القصواء يوم الحديبية ويوم الفتح، ودخل عليها مردفا أسامة.
__________
(1) إضافة للإيضاح ليست في الأصل.(1/617)
وكان له حمار يسمى: (يعفورا) .
وكان له بساط يسمى: (الكزّ) .
وكان له عنزة تسمى: (النّمر) .
وكان له ركوة تسمى: (الصّادر) .
(وكان له حمار يسمى: «يعفورا» ) - بمثنّاة تحتيّة وعين مهملة ساكنة، وفاء مضمومة- اسم ولد الظّبية، كأنّه سمّي به لسرعته. قال الواقدي: نفق يعفور منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حجّة الوداع. وقيل: طرح نفسه في بئر يوم مات المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
قال الزّمخشريّ: وإنّما سمّي به لعفرة لونه. والعفرة: بياض غير ناصع كلون عفر الأرض؛ أي: وجهها. قال: ويجوز كونه سمّي به تشبيها في عدوه باليعفور؛ وهو الظّبي. انتهى.
ويعفور غير عفير- بعين مهملة مصغرا- ووهّموا القاضي عياضا في ضبطه بغين معجمة!! وزعم ابن عبدوس أنّهما واحد. لكن ردّه الدّمياطي؛ فقال: عفير أهداه له المقوقس، ويعفور أهداه فروة بن عمرو، وقيل: بالعكس. انتهى «مناوي» .
(وكان له بساط) - بكسر الباء الموحّدة- (يسمى: «الكزّ» ) - بكاف مفتوحة وزاي معجمة مشددة-. (وكان له عنزة) - بفتح العين المهملة وبفتح النّون والزّاي آخرها تاء مربوطة-: عصا ذات زجّ- بزاي مضمومة ثمّ جيم مشددة- أي: سنان؛ وهي الحربة الصغيرة دون الرّمح بنصفه، عريضة النّصل، لكن سنانها في أسفلها بخلاف الرّمح فإنّه في أعلاه؛ قاله القسطلّاني، (تسمى: «النّمر» ) بفتح النّون وكسر الميم.
(وكان له ركوة) يشرب منها- بتثليث الرّاء، والفتح أفصح، وسكون الكاف- وهي الّتي للماء شبه تور من أدم، وفي «المصباح» : دلو صغير. وفي «النّهاية» :
إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء؛ (تسمى: «الصّادر» ) ؛ لصدور الرّي عنها.(1/618)
وكان له مرآة تسمى: (المدلّة) .
وكان له مقراض يسمى: (الجامع) .
وكان له قضيب شوحط يسمى: (الممشوق) .
وكان له صلّى الله عليه وسلّم ربعة ...
(وكان له مرآة) يرى فيها وجهه الشّريف- وهي بالمدّ على وزان مفتاح- (تسمى: «المدلّة» ) - بضمّ الميم وكسر الدّال المهملة وشد اللّام-. (وكان له مقراض) - بكسر الميم وقاف وضاد معجمة آخره، والجمع: المقاريض والمقراض هو المقص؛ (يسمى: «الجامع» ) - بالجيم وآخره عين مهملة-.
(وكان له قضيب) - فعيل بمعنى مفعول- أي: غصن مقطوع من شجرة (شوحط) - بفتح الشّين المعجمة وإسكان الواو فحاء مفتوحة فطاء مهملتين؛ هكذا ضبطه الزرقاني. قال في «شرح القاموس» : وهو ضرب من شجر الجبال تتّخذ منه القسيّ، والمراد بالجبال: جبال السّراة، فإنّها هي الّتي تنبته، قال الأعشى:
وجيادا كأنّها قضب الشّو ... حط يحملن شكّة الأبطال
وقال أبو حنيفة: أخبرني العالم بالشّوحط أن نباته نبات الأرز قضبان تسمو كثيرة من أصل واحد، قال: وورقة فيما ذكر رقاق طوال، وله ثمرة مثل العنبة الطّويلة إلّا أنّ طرفها أدقّ، وهي ليّنة تؤكل. انتهى. «ذكره في مادة شحط» .
وبه تعلم أنّ ما قاله العزيزي على «الجامع الصغير» : إنّ الشّوحظ- بضم الشّين المعجمة وفتح الحاء المهملة فظاء معجمة آخره- خلاف المعروف، والله أعلم، (يسمى: «الممشوق» ) لطوله ودقّته- وهو بميمين فشين معجمة آخره قاف، على زنة اسم المفعول-.
(و) في «المواهب» و «كشف الغمّة» : (كان له صلّى الله عليه وسلم ربعة) - بفتح الرّاء وإسكان الموحّدة وعين مهملة، كجؤنة العطار بإسكان الواو وربّما همزت- وهي(1/619)
يجعل فيها المرآة والمشط والمقراضين والسّواك.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم فرس يقال له: (اللّحيف) .
جلد يجعل فيه العطار الطّيب، وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الإسكندريّة مع مارية في جملة ما أهداه، وفي «الألفيّة» للعراقي رحمه الله تعالى:
كانت له ربعة، أي: مربّعه ... كجؤنة يجعل فيها أمتعه
(يجعل فيها المرآة) الّتي كان ينظر فيها، فلم تبد أوسم من وجهه صلّى الله عليه وسلم، (و) يجعل فيها (المشط) - بضمّ الميم مع إسكان الشّين وضمّها وكسر الميم مع إسكان الشّين-، ويقال ممشط- بميمين الأولى مكسورة-؛ وكان من عاج، وهو ظهر السّلحفاة البّحريّة؛ كما في «المصباح» قائلا: وعليه يحمل أنّه كان لفاطمة سوار من عاج، ولا يجوز حمله على أنياب الفيلة؛ لأن أنيابها ميّتة بخلاف السّلحفاة. انتهى. وعليه يحمل المشط النّبويّ بالأولى.
(و) يجعل فيها المكحلة الّتي كان يكتحل منها عند النوم ثلاثا في كل عين، ويجعل فيها (المقراضين) - بكسر الميم- وهو المسمّى الآن ب «المقص» ، (و) يجعل فيها (السّواك) - بكسر السّين- على الأفصح؛ كما قاله الحافظ ابن حجر والكرماني، يطلق على الفعل والآلة، وهو المراد هنا.
(و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن سهل بن سعد السّاعدي رضي الله عنه قال: (كان له صلّى الله عليه وسلم فرس) - يذكّر ويؤنّث- (يقال له: «اللّحيف» ) - بحاء مهملة، كرغيف، وقيل: بالتّصغير. سمّي به لطول ذنبه، فعيل بمعنى فاعل، كأنّه يلحف الأرض بذنبه، وقيل: هو بخاء معجمة، وقيل: بجيم، وعند ابن الجوزيّ: بالنّون بدل اللّام من النّحافة- أهداها له ربيعة بن أبي البراء؛ واسمه عامر بن مالك العامري، يعرف عامر ب «ملاعب الأسنّة» ؛ ذكره ابن سعد عن الواقدي. انتهى.(1/620)
وفرس يقال له: (الظّرب) .
وفرس يقال له: (اللّزاز) .
(و) أخرج البيهقيّ في «سننه» بإسناد صحيح؛ عن سهل بن سعد:
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم (فرس يقال له: «الظّرب» ) - بفتح الظّاء المعجمة وكسر الرّاء وبالموحّدة، ويقال: بكسر أوّله وسكون الرّاء، واحد الظّراب- وهي:
الجبال الصّغار، سمّي الفرس به لكبره وسمنه. وقيل: لقوّته وصلابة حافره.
أهداها له فروة بن عمرو- على الأشهر- ويقال: ابن عامر، ويقال: ابن نفاثة الجذامي «عامل قيصر على من يليه من العرب» ، وكان منزله «معان» وما حولها من الشّام، أسلم لما بعث صلّى الله عليه وسلم إليه يدعوه، وكتب إليه بإسلامه، ولم ينقل أنّه اجتمع به، فلمّا بلغ الرّوم إسلامه قتلوه، ذكره ابن إسحاق؛ وجزم به في «الإصابة» .
(و) كان له (فرس يقال له: «اللّزاز» ) - بكسر اللّامين وزايين معجمتين خفيفتين- سمّي به لشدّة تلزّزه أو اجتماع خلقه، والملزّز المجتمع، ولزّ به الشّيء؛ أي: لزق به كأنّه يلتزق بالمطلوب لسرعته.
قال السّهيلي: معناه: لا يسابق شيئا إلّا لزّة؛ أي: أثبته- وهذه أهداها له المقوقس، جريح بن ميناء القبطي في جملة ما أهدى قبل. وكان صلّى الله عليه وسلم معجبا به.
وروى ابن منده؛ من رواية عبد المهيمن بن عبّاس بن سهل؛ عن أبيه؛ عن جده سهل قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عند سعد «والد سهل» ثلاثة أفراس، فسمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يسمّيهنّ: لزاز والظّرب واللّخيف؛ أي: بالخاء المعجمة. قال المناوي: وجملة أفراسه صلّى الله عليه وسلم سبعة متفق عليها، جمعها ابن جماعة في بيت فقال:
والخيل سكب لحيف سبحة ظرب ... لزاز مرتجز ورد لها اسرار
وقيل: كانت له أفراس أخر خمسة عشر. انتهى.(1/621)
وكان له قصعة يقال لها: (الغرّاء) ؛ يحملها أربعة رجال.
وكان له جارية تسمى: (خضرة) .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود؛ عن عبد الله بن بسر- رضي الله تعالى عنه- قال: (كان له) صلّى الله عليه وسلم (قصعة) - بفتح القاف ولا تكسرها-. ومن اللّطائف:
لا تكسر القصعة ولا تفتح الخزانة. وبعضهم يقول: ولا تفتح الجراب، بدل الخزانة، والكلّ صحيح.
(يقال لها: «الغرّاء» ) ؛ أي: تسمّى الغرّاء؛ قال ابن رسلان في «شرح سنن أبي داود» : الغرّاء تأنيث الأغرّ؛ مشتقّ من الغرّة، وهي بياض الوجه وإضاءته، ويجوز أن يراد أنّها من الغرة؛ وهي: الشّيء النّفيس والمرغوب فيه، فتكون سمّيت بذلك لرغبة النّاس فيها، لنفاسة ما فيها أو لكثرة ما تشبعه. وقال المنذري: سمّيت غرّاء!! لبياضها بالألية والشّحم. انتهى؛ ذكره الزّرقاني على «المواهب» .
قال: وكانت كبيرة بأربع حلق، (يحملها أربعة رجال) بينهم؛ لعظمها.
وتمام الحديث؛ كما في أبي داود: فلمّا أضحوا وسجدوا الضّحى؛ أي: صلّوها، أتي بتلك القصعة وقد ثرد فيها؛ فالتفّوا عليها، فلما كثروا جثا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أعرابيّ: ما هذه الجلسة؟ قال: «الله تعالى جعلني عبدا كريما؛ ولم يجعلني جبّارا عنيدا» . ثمّ قال: «كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك فيها» . انتهى.
وفيه دلالة على سعة كرم المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
(و) أخرج البيهقي في «سننه» ؛ عن جعفر الصّادق؛ عن أبيه محمد الباقر مرسلا قال: (كان له) صلّى الله عليه وسلم (جارية تسمى: «خضرة» ) - بفتح الخاء وسكون الضاد المعجمتين- كما ضبطه العزيزي على «الجامع الصغير» . وقال المناوي؛ وتبعه الحفني: إنّه بكسر الضّاد. ولفظ الحديث؛ كما في «الجامع الصغير» :
كانت ناقته تسمى العضباء، وبغلته الشّهباء، وحماره يعفور، وجاريته خضراء.
وانتهى. والله أعلم.(1/622)
.........
انتهى الجزء الأوّل من كتاب «منتهى السّول» شرح كتاب «وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول» تأليف الشّيخ يوسف النّبهاني رحمه الله تعالى جمع الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن سعيد محمّد عبادي اللّحجي اليماني المراوعي، ثمّ المكّي الشّافعي- وفقه الله تعالى-.
وكان الفراغ من تبيضه ضحوة نهار يوم الخميس الموافق 11 شهر محرّم الحرام سنة- 1395- خمس وتسعين وثلثمائة وألف هجريّة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التّحيّة، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم، وصلّى الله وسلم على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا آمين، وفّقنا الله لمرضاته.. آمين.
كتبه مؤلفه الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن سعيد محمّد عبادي اللّحجي اليماني
ويليه الجزء الثاني وأوّله:
الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(1/623)
فهرسة الجزء الأول من كتاب منتهى السول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم
كلمة الناشر 5
ترجمة الشيخ عبد الله اللّحجي 9
تعريف بكتاب منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلم 23
الباب الأول: في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسمائه الشريفة وفيه: 125
الفصل الأول: في نسبه الشريف صلّى الله عليه وسلم 127
الفصل الثاني: في أسمائه الشريفة صلّى الله عليه وسلم 141
الباب الثاني: في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيه عشرة فصول 185
الفصل الأول: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلم وما شاكلها 186
الفصل الثاني: في صفة بصره صلّى الله عليه وسلم واكتحاله 289
الفصل الثالث: صفة شعره صلّى الله عليه وسلم وشيبه وخضابه 302
الفصل الرابع: في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلم ورائحته الطبيعية 343
الفصل الخامس: في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلم وتطيبه 355
الفصل السادس: في صفة صوته صلّى الله عليه وسلم 372
الفصل السابع: في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلم وسروره 377
الفصل الثامن: في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلم وبكائه وعطاسه 381
الفصل التاسع: في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلم وسكوته 413
الفصل العاشر: في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلم 421
الباب الثالث: في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفراشه وسلاحه وفيه ستة فصول 431
الفصل الأول: في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة 432
الفصل الثاني: في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلم وما يناسبه 522
الفصل الثالث: في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلم 538
الفصل الرابع: في صفة نعله صلّى الله عليه وسلم وخفّه 564
الفصل الخامس: في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلم 590
الفصل السادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلم أن يسمي سلاحه ودوابه ومتاعه 607(1/624)
الجزء الثاني
[الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه،]
الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين على أمور الدّنيا والدّين.
(الباب الرّابع) من الكتاب المشتمل على ثمانية أبواب ومقدّمة وخاتمة.
(في) بيان ما ورد في (صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وإدامه.
والأكل- بفتح الهمزة-: إدخال الطّعام الجامد من الفم إلى البطن، سواء كان بقصد التغذّي، أو غيره، كالتفكّه، فمن قال الأكل إدخال شيء من الفم إلى البطن بقصد «الاغتذاء» ) ! لم يصب، لأنه يخرج من كلامه أكل الفاكهة، وخرج بالجامد المائع، فإدخاله ليس بأكل بل شرب، وأما الأكل بضمّ الهمزة فاسم لما يؤكل.
(و) في بيان ما ورد في صفة (شربه)
بالضمّ، مصدر والفاعل شارب والجمع شاربون، وشرب كصاحب وصحب، وشربة ككافر وكفرة، قال في «المصباح» : والشّرب مخصوص بالمص حقيقة، ويطلق على غيره مجازا، والقصد هنا بيان كيفية شربه صلّى الله عليه وسلم، وفيه ذكر شرابه وهو ما يشرب من المائعات.(2/5)
ونومه وفيه ستّة فصول
(و) في بيان ما ورد في صفة (نومه) صلى الله عليه وسلم؛
والنّوم: حالة طبيعية تتعطل معها القوى تسير في البخار إلى الدماغ، وقيل:
غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، فهو آفة، ومن ثمّ قيل (إنّ النّوم أخو الموت) ، وأما السّنة ففي الرأس، والنّعاس في العين، وقيل السّنة هي النّعاس، وقيل السّنة ريح النّوم يبدو في الوجه ثم ينبعث إلى القلب فيحصل النعاس ثم النوم
(وفيه ستّة فصول) يأتي بيانها.(2/6)
[الفصل الأوّل في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه]
الفصل الأوّل في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه عن سماك بن حرب [رحمه الله تعالى] قال: سمعت النّعمان بن بشير
(الفصل الأوّل) من (الباب الرابع) (في) بيان ما ورد في (صفة عيشه صلّى الله عليه وسلم) أي: كيفية معيشته حال حياته، إلى وقت مماته، لأن العيش يطلق على الحياة وعلى ما يكون به الحياة.
والمراد بالعيش هنا الحياة، والمبوّب له هنا بيان صفة حياته صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه وما اشتملت عليه حياتهم من الضيق والفقر.
(و) في بيان ما ورد في صفة (خبزه) الخبز- بضم الخاء المعجمة وإسكان الباء-: الشيء المخبوز أي: اسم ما يؤكل من نحو برّ، وبفتح الخاء المعجمة مع إسكان الباء مصدر، بمعنى اصطناع الخبز بالضمّ.
(عن) أبي المغيرة (سماك) بكسر السين المهملة (ابن حرب) بن أوس بن خالد البكري الذهلي الكوفي، أحد الأعلام التابعين.
أدرك ثمانين صحابيا، وروى عن جابر بن سمرة والنعمان بن بشير وغيرهما، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه والبخاري في «التاريخ» ، وفي المحدثين من يضعّفه، وكان ذهب بصره ثم شفي وعاد إليه، ومات سنة:
ثلاث وعشرين ومائة هجرية رحمه الله تعالى (قال:
سمعت) أبا عبد الله (النّعمان) - بضم النون- (بن بشير) - بالباء الموحدة(2/7)
رضي الله تعالى عنهما يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم وما يجد من الدّقل ما يملأ بطنه.
والشين المعجمة- بزنة «نذير» ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، هو وأبوه وأمّه صحابيون، اسم أمّه: عمرة بنت رواحة.
وولد النّعمان على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة على الأصح، وهو أوّل مولود من الأنصار بعد الهجرة، استعمله معاوية على حمص ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده يزيد بن معاوية، وكان كريما جوادا شاعرا.
وروي له عن النّبي صلّى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة عشر حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، وانفرد مسلم بأربعة.
وروى عنه ابناه محمد وبشير، وعروة بن الزّبير والشعبي وآخرون.
قتل بالشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين، وقيل سنة ستين (رضي الله تعالى عنهما؛ يقول:
(ألستم في طعام وشراب ما شئتم) أي: ألستم متنعمين؟! في طعام وشراب الذي شئتموه من التوسعة والإفراط! ف «ما» موصولة، وهي بدل مما قبله، والقصد التقريع والتوبيخ، ولذلك أتبعه بقوله:
(لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلم) أضاف النبيّ إلى المخاطبين؛ للإشارة إلى أنّه يلزمهم الاقتداء به والمشي على طريقته، وعدم التطلع إلى الدنيا- أي: إلى نعيم الدّنيا وزخارفها- والرغبة في القناعة، والمعنى: والله لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلم (و) الحال أنه (ما يجد من الدّقل) - بفتحتين- وهو رديء التمر (ما يملأ بطنه) لإعراضه عن الدّنيا وما فيها، وإقباله على الآخرة، وهو مع ذلك نضير الجسم، محفوظ القوة، حتى إن رأيته لا تقول «به جوع» !.
وفي «مسند» الحارث بن أبي أسامة عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت بكسرة خبز إلى المصطفى صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذه؟»(2/8)
و (الدّقل) : رديء التّمر.
وكان أكثر طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: التّمر والماء.
قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه. فقال: «أما إنّه أوّل طعم دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام» .
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لم يشبع صلّى الله عليه وسلم قط، وما كان يسأل أهله طعاما ولا يشتهي؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. وذلك كله رفعة في مقامه الشريف، وزيادة في علو قدره المنيف.
واعلم أن فقره صلّى الله عليه وسلم كان اختياريا؛ لا كرها واضطراريا!! وقد استمر عليه حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، فلا يحتاج إلى ما قاله بعضهم من «أن هذا كان في ابتداء الحال» . والله أعلم.
وقد انقسم النّاس بعده عليه الصّلاة والسّلام أربعة أقسام:
قسم لم يرد الدّنيا ولم ترده؛ كالصّدّيق الأكبر رضي الله تعالى عنه.
وقسم لم يرد الدّنيا وأرادته؛ كالفاروق.
وقسم أرادها وأرادته؛ كخلفاء بني أمية، وبني العباس؛ إلّا عمر بن عبد العزيز.
وقسم أرادها ولم ترده؛ كمن أفقره الله تعالى، وامتحنه بجمعها وحبّها.
(والدّقل) - بفتح الدال والقاف؛ بوزن «دخل» و «فرس» ، - هو: (رديء التّمر) ويابسه، وما ليس له اسم خاص.
(و) قال حجة الإسلام الغزالي، والشعراني في «كشف الغمة» :
(كان أكثر طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلم التّمر والماء) .
قال العراقي: روى البخاري من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد شبعنا من الأسودين؛ التّمر والماء» .(2/9)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا آل محمّد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلّا التّمر والماء.
وفي رواية البخاريّ ...
(و) روى الترمذي وغيره في «الشمائل» وغيرها؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كنّا) ، وفي نسخة من «الشمائل» : إن كنا؛ بزيادة «إن» المخفّفة من الثقيلة، والمعنى: إنّا كنّا (آل محمّد) ؛ بالرفع بدل من الضمير في «كنا» ، وبالنصب على تقدير «أعني» أو «أخص» ، وجعله خبر «كنا» بعيد لأنّ القصد ليس كونهم آله، بل المقصود بالإفادة ما بعده، وهو قولها:
(نمكث شهرا) لا يشكل عليه رواية «الصحيحين» الآتية عنها؛ شهرين!! لأن الأكثر لا ينفي الأقل، ولا يشكل عليه اتفاق النحاة على لزوم اللّام في الفعل الواقع في خبر «إن» المخففة؛ لأنّه محمول على الغالب، فعائشة من فصحاء العرب وقد نطقت به بلا لام!!
(ما نستوقد) - حال، وجعله خبرا بعد خبر!! بعيد- (بنار) أي: لا نهيّء شيئا نطبخه بها (إن هو) أي: الذي نتناوله (إلّا التّمر والماء) أي: ما طعامنا إلا التّمر والماء، وفي رواية: «إلّا التّمر والملح» ، وفي أخرى: «إلا الأسودان» ، والجملة مستأنفة جوابا لنحو: ما كنتم تتقوتون.
(وفي رواية) الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي مولاهم (البخاريّ) أمير المؤمنين في الحديث مؤلف «الصحيح» و «التاريخ» وغير ذلك، ولد في ثالث شوال سنة: - 194- أربع وتسعين ومائة.
وألهم حفظ الحديث في الكتّاب وهو ابن عشر سنين، وحفظ «كتب» ابن المبارك ووكيع وهو ابن ست عشرة سنة، وخرج مع أمّه وأخيه أحمد إلى مكّة وتخلّف بها يطلب، وكتب بخراسان والجبال والعراق والشام ومصر.
وروى عن مكّي بن إبراهيم، وأبي نعيم الفضل بن دكين وخلائق من هذه الطّبقة(2/10)
ومسلم: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي؛ ...
ومن بعدهم، حتى كتب عن أقرانه وعن أصغر منه حتى زاد عدد شيوخه على ألف!!.
روى عنه مسلم خارج «الصحيح» والترمذي وأبو زرعة وابن خزيمة وابن حبان ومحمد بن يوسف الفربري وهو آخر من روى «الصّحيح» ، وآخر من زعم أنّه سمع منه عبد الله بن فارس البلخي.
وروى الفربري عنه «ما وضعت في «الصحيح» حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» . وقال جماعة من المشايخ: حول البخاري تراجم «جامعه» بين قبر النبي صلّى الله عليه وسلم ومنبره، «وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين» . قال البخاري: صنفت «كتاب الصحيح» لستّ عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله تعالى!.
وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر سنة- 256- ست وخمسين ومائتين، ودفن ب «خرتنك» قرية على فرسخين من سمرقند رحمه الله تعالى رحمة الأبرار آمين.
(و) رواية أبي الحسين (مسلم) بن الحجاج بن مسلم القشيري النّيسابوري الإمام المشهور صاحب «الصحيح» رحمه الله تعالى.
(كانت عائشة) أم المؤمنين الصّدّيقة بنت الصّدّيق (رضي الله تعالى عنها) وعن أبيها (تقول لعروة) بن الزبير ترغيبا للمسلمين، وتذكيرا للنّعم الطارئة عليهم بعده ببركته عليه الصّلاة والسّلام، وحملا على التأسي به في التقلل من الدنيا.
(والله يا ابن أختي) أسماء ذات النطاقين وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري أنها قالت لعروة: ابن أختي، قال القسطلّاني: بوصل الهمزة وتكسر في الابتداء وفتح النون على النداء وأداته محذوفة.(2/11)
إن كنّا لننظر إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار.
قال: قلت يا خالة؛ فما كان يعيّشكم؟ قالت: الأسودان؛ التّمر والماء، إلّا أنّه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار، (إن كنّا) إن مخفّفة من الثّقيلة دخلت على الفعل الماضي الناسخ، واللّام في (لننظر) فارقة بينها وبين «إن» النافية عند البصريين قاله القسطلّانيّ.
(إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة) بجرّ ثلاثة ونصبه بتقدير لننظر (في شهرين) باعتبار رؤية الهلال أول الشهر الأول والثاني وآخره ليلة الثالث، فالمدة ستون يوما والمرئي ثلاثة أهلة، (وما أوقد) بضم الهمزة وكسر القاف (في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار) بالرفع نائب عن الفاعل، لا لطبخ ولا لغيره، فعند ابن جرير عنها: أهدى لنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رجل شاة فإني لأقطّعها في ظلمة البيت، فقيل لها: أما كان لكم سراج؟! فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه.
(قال) أي: عروة (قلت: يا خالة) بضم التاء منادى مفرد، وفي رواية خالتي (فما كان يعيّشكم) بضم أوله من أعاشه الله يعيشه، وضبطه النّووي بتشديد الياء الثّانية، أي: مع فتح العين؛ قاله الحافظ ابن حجر وغيره، أي: يدفع عنكم ألم الجوع ويكون سببا في الحياة.
(قالت: الأسودان؛ التّمر والماء) هو على التغليب، فالماء لا لون له، وكذا قالوا: الأبيضان اللبن والماء، وإنما أطلق على التمر أسود لأن غالب تمر المدينة أسود.
(إلّا أنّه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم جيران) بكسر الجيم جمع جار؛ وهو المجاور في السكن (من الأنصار) سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حرام وأبو أيوب خالد بن زيد وسعد بن زرارة وغيرهم؛ قاله الحافظ ابن حجر وتبعه القسطلاني في باب الهبة.(2/12)
وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ألبانها، فيسقيناه.
وعن أبي طلحة ...
(وكانت لهم منائح) بنون ومهملة جمع منيحة وهي العطيّة لفظا ومعنى، أي غنم فيها لبن، وأصلها عطيّة الناقة أو الشّاة. وقيل: لا يقال منيحة إلّا للنّاقة وتستعار للشاة.
قال الحربي: يقولون منحتك الناقة، وأعرتك النخلة، وأعمرتك الدار، وأخدمتك العبد، وكل ذلك هبة منافع؛ لا رقبة! انتهى «زرقاني» .
والمعتمد عند الشافعية: أن أعمرتك الدار كوهبتك الدار في كون كل منهما هبة للرقبة حيث وجد باقي شروط الهبة. والله أعلم.
(فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) أي: منه لا يخصهم بجميعه، بحيث لا يتناول منه شيئا، ففي رواية الإسماعيلي: فيسقينا منه.
(و) أخرج الترمذي من طريق أنس بن مالك، (عن أبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حزام، - بالزاي- ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري المدني.
شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وهو أحد النقباء رضي الله عنهم، روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا؛ اتّفق البخاري ومسلم منها على حديثين وانفرد البخاري بحديث وانفرد مسلم باخر.
روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وأنس وآخرون وجماعات من التابعين. توفي بالمدينة المنورة سنة: - 32- اثنتين وثلاثين. وقيل أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة كذا قال الأكثرون بأنّه توفي بالمدينة.(2/13)
رضي الله تعالى عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه عن حجرين.
وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله (ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر) : وكان أحدهم يشدّ في بطنه الحجر من الجهد والضّعف الّذي به من الجوع.
وصلّى عليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما وعن سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم آمين (رضي الله تعالى عنه) وأرضاه.
(قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا) أي: كشفنا (عن بطوننا عن حجر حجر) بدل اشتمال بإعادة الجار، أي: رفع كل واحد عن حجر مشدود عن بطنه، كعادة العرب أو أهل المدينة إذا خلت أجوافهم لئلا تسترخي، فالتكرير باعتبار تعدد المخبر.
(فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين) ليعلم أصحابه أن ليس عنده ما يستأثر به عليهم، وتسلية لهم؛ لا شكاية أن ما بهم من الجوع أصابه فوقه حتى احتاج إلى حجرين!! (وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله: ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر!! وكان أحدهم يشدّ في بطنه) أي عليه (الحجر من الجهد) أي: من أجله، ف «من» تعليلية، والجهد- بضمّ الجيم وفتحها-: المشقة (والضّعف) - بفتح الضاد، ويجوز ضمها- وهو كالتفسير لما قبله.
وقوله: (الّذي به) صفة للجهد والضعف، وإنما أفرد الموصول!! لما علمت من أن الضعف كالتفسير للجهد.
وقوله (من الجوع) أي: الناشىء من الجوع، وفي تعبيره ب «معنى» تجوّز إذ معنى اللفظ ما دلّ عليه، وإنما هذا بيان لحكمة وضع الحجر!!(2/14)
وفي كتاب «المواهب» : عن ابن بجير [رضي الله تعالى عنه] قال: أصاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جوع يوما، فعمد إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا ربّ نفس طاعمة ناعمة في الدّنيا.. جائعة عارية يوم القيامة، ...
(وفي كتاب «المواهب) اللدنية» للعلامة القسطلّانيّ (عن ابن بجير) :
بموحّدة وجيم، صحابي يعدّ في الشاميين، روى عنه جبير بن نفير هكذا أورده الذهبي في «التجريد فيمن عرف بأبيه ولم يسمّ» تبعا لأبي نعيم، وكذا تبعه الحافظ في «أطراف الفردوس» والمنذري في «الترغيب» .
وأورده الذهبي أيضا في باب الكنى فقال: أبو البجير صحابي روى عنه جبير بن نفير ثم ترجم له أبو بجير، روى عنه ابنه بجير حديثا. وفي «الإصابة» أبو بجير غير منسوب. ذكره ابن منده.
وأخرج من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بجير عن أبيه عن جده عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القرآن كلام ربي» .. الحديث وسنده ضعيف. وترجم عقبه أبو البجير، استدركه ابن الأمين وعزاه لابن العرضي في «المؤتلف» ، ولعله ابن البجير الآتي في المبهمات. انتهى.
فيجوز أن ابن بجير يكنى بأبي البجير فلا خلف، ثم هما شخصان كلّ يكنى بأبي البجير، وراوي هذا الحديث ليس هو الذي روى عنه ابنه، بل الثاني الذي روى عنه جبير بن نفير كما بيّنه في «الجامع الكبير» . وأما الذي روى عنه ابنه فإنما له حديث: «القرآن كلام ربي» انتهى «زرقاني» .
(قال: أصاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم جوع يوما، فعمد) - بفتح الميم- (إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا) - حرف تنبيه تؤكّد بها الجملة المصدرة بها- (ربّ نفس) وفي رواية: «ألا يا ربّ نفس» بأداة النداء وحذف المنادى؛ أي:
ألا يا قوم ربّ. وهي للتقليل، والمقام مقام تخويف وتهويل (طاعمة ناعمة في الدّنيا) ؛ أي: مشغولة بلذات المطاعم والملابس، غافلة عن أعمال الآخرة (جائعة عارية) - بالرفع خبر مبتدأ- أي: هي لأنّه إخبار عن حالها (يوم القيامة)(2/15)
ألا ربّ مكرم لنفسه.. وهو لها مهين، ألا ربّ مهين لنفسه.. وهو لها مكرم» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ...
لا في الدّنيا لوصفها فيها بضد ذلك، أي: تحشر وهي كذلك، يوم الموقف الأعظم، زاد في رواية ابن سعد والبيهقي: «ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدّنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة» .
(ألا ربّ مكرم لنفسه) بمتابعة هواها وتبليغها مناها بتبسطه بألوان طعام الدنيا وشهواتها، وتزينه بملابسها ومراكبها، وتقلبه في مبانيها، وزخارفها، (وهو لها مهين) أن ذلك يبعده عن الله، ويوجب حرمانه من مثال حظ المتقين في الآخرة.
(ألا ربّ مهين لنفسه) بمخالفتها وإذلالها، وإلزامها بعدم التطاول، والاقتصار على الأخذ من الدّنيا بقدر الحاجة، (وهو لها مكرم» ) يوم العرض الأكبر لسعيه لها، فيما يوصلها إلى السعادة الأبدية والراحة السرمدية.
رواه ابن أبي الدنيا وضعّفه المنذري، وأخرجه ابن سعد والبيهقي بزيادة:
«ألا يا ربّ متخوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله!؟ ما له عند الله من خلاق.
ألا وإنّ عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإنّ عمل النار سهل بشهوة!! ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا» .
وروى ابن أبي الدّنيا وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا، فقلت: ما أصابك: قال:
«الجوع» . فبكيت، فقال: «لا تبك فإنّ شدّة الجوع لا تصيب الجائع- أي: في يوم القيامة- إذا احتسبت في دار الدّنيا» .
(و) روى مسلم وأصحاب «السنن الأربعة» والترمذي أيضا في «الشمائل» :
كلهم (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) .(2/16)
قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟» ، قال: خرجت ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنظر في وجهه، والتّسليم عليه، ...
ورواه مالك عنه في «الموطأ» بلاغا والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم؛ عن عمر بن الخطاب، وابن حبان عن ابن عباس، وابن مردويه عن ابن عمر، والطبراني عن عبد الله بن مسعود، وفي سياقهم اختلاف بالزيادة والنقص.
(قال) - أي- أبو هريرة رضي الله تعالى عنه؛ كما «في الشمائل» :
(خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أي: من بيته إلى المسجد، أو إلى غيره (في ساعة لا يخرج فيها) ؛ أي: لم تكن عادته الخروج فيها، (ولا يلقاه فيها أحد) أي:
باعتبارها عادته.
وهذه الساعة يحتمل أن تكون من الليل وأن تكون من النهار!!
ويعيّن الأول ما في مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر؛ فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة؟» . قالا: الجوع يا رسول الله.
قال: «وأنا والّذي نفسي بيده أخرجني الّذي أخرجكما!! قوما» . فقاما معه، فأتوا رجلا من الأنصار، وهو أبو الهيثم بن التّيّهان. انتهى.
وفي شرح ملّا علي قاري على «الشمائل» ما يعيّن الثاني، وهو ما روي عن جابر: أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم جائعا فلم يجد عند أهله شيئا يأكله، وأصبح أبو بكر جائعا ... الحديث.
ولعل ذلك تعدّد فمرة كان ليلا ومرة كان نهارا!.
(فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟!» ) أي: ما حملك على المجيء؟
(قال: خرجت ألقى رسول الله) أي: حال كوني أريد أن ألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه) أي: وأريد أن أنظر في وجهه الشريف، (والتّسليم عليه)(2/17)
فلم يلبث أن جاء عمر فقال: «ما جاء بك يا عمر؟» ، قال: الجوع يا رسول الله، قال صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك» .
فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم ...
- بالنصب- على أن التقدير: وأريد التسليم عليه (فلم يلبث أن جاء عمر) أي:
فلم يلبث مجيء عمر، ف «أن» وما بعدها في تأويل مصدر فاعل، والمعنى لم يتأخّر مجيء عمر، بل حصل سريعا بعد مجيء أبي بكر.
(فقال) أي: النبي صلّى الله عليه وسلم (: «ما جاء بك يا عمر؟!» أي: ما حملك على المجيء؟.
(قال: الجوع يا رسول الله!) كأنه جاء ليتسلّى عنه بالنظر إلى وجهه المكرم، وكان ذلك بعد كثرة الفتوحات، وكثرتها لا تنافي ضيق الحال في بعض الأوقات! لا سيما بعد ما تصدّق أبو بكر بماله.
(قال) رسول الله (صلى الله عليه وسلم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك» ) الجوع الذي أدركك! قاله تسليا وإيناسا لهما لما علم من شدّة جوعهما، ( [فانطلقوا] ) أي:
ذهبوا وتوجهوا (إلى منزل أبي الهيثم) - بمثلاثة- هكذا صرّح به في «الموطأ» ؛ والترمذي، وكذا البزار، وأبو يعلى، والطبراني؛ عن ابن عباس، والطبراني أيضا عن ابن عمر.
وفي رواية عند الطبراني وابن حبان «في صحيحه» عن ابن عباس أنّه أبو أيوب، والظاهر أن القضية اتفقت مرة مع أبي الهيثم، كما صرّح به في أكثر الروايات، ومرة مع أبي أيوب.
وفي رواية مسلم: رجلا من الأنصار. وهي محتملة لهما، وعلى كل ففيه منقبة عظيمة لكلّ منهما إذ أهّله صلّى الله عليه وسلم لذلك، وجعله ممن قال الله فيهم:
أَوْ صَدِيقِكُمْ [61/ النور] . انتهى «زرقاني» .(2/18)
ابن التّيّهان الأنصاريّ- وكان رجلا كثير النّخل والشّاء، ولم يكن له خدم- فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: «أين صاحبك؟» ، فقالت:
انطلق يستعذب لنا الماء.
واسم أبي الهيثم: مالك (بن التّيّهان) - بفتح التاء المثناة فوق، وتشديد الياء المثناة، تحت مكسورة- وهو لقب، واسمه عامر بن الحارث، وقيل: عتيك بن عمرو (الأنصاريّ) أي: المنسوب للأنصار لأنه حليفهم، وإلّا! فهو قضاعي ترهّب قبل الهجرة، وأسلم وحسن إسلامه.
وانطلاقهم إلى منزله لا ينافي كمال شرفهم، فقد استطعم موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام قبلهم، وكان للمصطفى مندوحة عن ذلك؛ ولو شاء لكانت جبال تهامة تمشي معه ذهبا؛ لكن الله سبحانه وتعالى، أراد أن يهتدي الخلائق بهم، وأن يستنّ بهم السنن، ففعلوا ذلك تشريعا للأمة.
وهل خرج صلّى الله عليه وسلم قاصدا من أوّل خروجه إنسانا معينا، أو جاء التعيين بالاتفاق؟! احتمالان، قال بعضهم: الأصحّ أن أوّل خاطر حركه للخروج لم يكن إلى جهة معينة، لأن الكمّل لا يعتمدون إلّا على الله تعالى.
(وكان) أي: أبو الهيثم (رجلا) من أشراف الصحابة وأكابرهم، (كثير النّخل) ؛ واحده نخلة، (والشّاء) بالهمز؛ جمع شاة بالتاء، وتجمع أيضا على شياه.
(ولم يكن له خدم) - بفتحتين- جمع خادم، يقع على الذكر والأنثى.
وليس المراد نفي الجمع، بل نفي جميع الأفراد، إذ لم يكن له خادم لا ذكر ولا أنثى، والمقصود من ذكر ذلك بيان سبب خروجه بنفسه لحاجته، فهو توطئة لقوله:
(فلم يجدوه) أي: في البيت لاحتياجه إلى خروجه، بسبب خدمة عياله (فقالوا لامرأته: «أين صاحبك؟» ) ؛ وهو أحسن عبارة من «زوجك» .
(فقالت: انطلق) أي: ذهب (يستعذب لنا الماء) ؛ أي: يأتي لنا بماء عذب، من بئر، وكان أكثر مياه المدينة مالحة.(2/19)
فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها- أي: يملؤها- فوضعها، ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويفدّيه بأبيه وأمّه.
ثم إن هذه المرأة تلقّتهم أحسن التلقّي، وأنزلتهم أكرم الإنزال، وفعلت ما يليق بذلك الجناب الأفخم، والملاذ الأعظم.
ويؤخذ من ذلك حلّ تكليم الأجنبيّة، وسماع كلامها مع أمن الفتنة؛ وإن وقعت فيه مراجعة.
ويؤخذ منه جواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها؛ إذا علمت رضاه، وجواز دخول الضيف منزل الشخص، بإذن زوجته؛ مع علم رضاه، حيث لا خلوة محرّمة.
ويؤخذ منه حلّ استعذاب الماء، وجواز الميل إلى المستطاب طبعا من ماء وغيره وأن ذلك لا ينافي الزهد.
(فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم) أي: فلم يمكثوا زمنا طويلا، إلى أن جاء أبو الهيثم، بل مكثوا يسيرا لقرب مجيئه لهم، والمعنى أنه لم يكن لهم انتظار كثير إلى مجيئه (بقربة) أي: متلبسا بقربة، وحاملا لها (يزعبها) - بتحتية مفتوحة، فزاي ساكنة، فمهملة، فموحّدة-؛ من زعب القربة كنفخ إذا ملأها فلذلك قال المصنف:
(أي: يملؤها) وقيل: حملها ممتلئة.
ويؤخذ منه أن خدمة الإنسان بنفسه لأهله، لا تنافي المروءة، بل هي من التواضع، وكمال الخلق،
(فوضعها) أي: القربة
(ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) : يعانقه، ويلصق صدره به؛ تبركا به.
(ويفدّيه) - بضم ففتح فتشديد- (بأبيه وأمّه) أي: يقول: فداك أبي وأمي.(2/20)
ثمّ انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطا، ثمّ انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أفلا تنقّيت لنا من رطبه؟!» ، فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا (ثمّ انطلق بهم إلى حديقته) أي: ثمّ انطلق مصاحبا لهم إلى بستانه، فالباء للمصاحبة، والحديقة: البستان، سمي بذلك! لأنهم في الغالب يجعلون عليه حائطا؛ يحدق به، أي: يحيط به، يقال: أحدق القوم بالبلد، إذا أحاطوا به.
(فبسط لهم بساطا) - بكسر أوّله-؛ أي: مدّ لهم فراشا، ونشره للجلوس عليه، وهو فعال بمعنى مفعول، كفراش بمعنى مفروش.
(ثمّ انطلق إلى نخلة) من نخيله (فجاء بقنو) - بكسر القاف وسكون النون-؛ بوزن حمل، - أي: عذق، كما في مسلم وهو: الغصن من النخلة المسمّى بالعرجون؛ فيه بسر وتمر ورطب؛ بمنزلة العنقود من الكرم.
(فوضعه) أي: بين أيديهم، ليتفكّهوا منه قبل الطعام، لأن الابتداء بما يتفكّه من الحلاوة أولى، فإنّه مقوّ للمعدة لأنه أسرع هضما.
وقال القرطبي: إنما قدّم لهم هذا العرجون!! لأنّه الذي تيسر فورا، من غير كلفة، ولأن فيه أنواعا من التمر والبسر والرطب.
(فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أفلا تنقّيت) من التنقّي، بمعنى التخيّر، أي: أفلا تخيرات؟ (لنا من رطبه» ) وتركت باقيه! حتى يترطّب فينتفعون به.
فالتنقّي: التخيّر، والتنقية: التنظيف، والرّطب- بضم الراء وفتح الطّاء-:
تمر النّخل؛ إذا أدرك ونضج، الواحدة رطبة.
وهو نوعان: نوع لا يتتمّر، بل إذا تأخر أكله أسرع إليه الفساد، ونوع يتتمر؛ أي: يصير تمرا.
ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي للمضيف أن يقدّم إلى الضيف أحسن ما عنده.
(فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا) أي: تتخيروا أنتم بأنفسكم،(2/21)
من رطبه وبسره. فأكلوا وشربوا من ذلك الماء.
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذا- والّذي نفسي بيده- من النّعيم الّذي تسألون عنه يوم القيامة؛ ...
فتأخذوا الخيّر (من رطبه وبسره) أي: تارة من رطبه، وأخرى من بسره، بحسب اشتهاء الطبع، أو بحسب اختلاف الأمزجة في الميل إلى أحدهما، أو إليهما جميعا.
(فأكلوا) أي من ذلك القنو، (وشربوا من ذلك الماء) . زاد في رواية مسلم: «حتى شبعوا» ، وهو دليل على جواز الشبع، ومحلّ كراهته في الشبع المثقّل للمعدة، المبطّئ بصاحبه عن العبادة.
(فقال) أي: (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «هذا) أي المقدّم لنا (و) الله (الّذي نفسي بيده) أي: بقدرته فيتصرّف فيها كيف يشاء، ووسّط القسم بين المبتدأ والخبر!! لتأكيد الحكم (من النّعيم) ؛ أي: التنعم (الّذي تسألون عنه) - بالبناء للمجهول-، وهذا ناظر لقوله عليه الصلاة والسلام في موضع آخر: «حلالها حساب، وحرامها عقاب» (يوم القيامة) ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) [التكاثر] أي: عن القيام بحقّ شكره، أو تعداد النّعم والامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال تقريع وتوبيخ ومحاسبة.
والمراد أن كلّ أحد ليسأل عن نعيمه الذي كان فيه: هل ناله من حلّه ووجهه أم لا؟! فإذا خلص من هذا سئل: هل قام بواجب الشّكر، فاستعان به على الطّاعة أم لا؟. فالأول سؤال عن سبب استخراجه، والثاني عن محل صرفه؛ ذكره ابن القيم.
وإنما ذكر صلّى الله عليه وسلم ذلك في ذلك المقام!! إرشادا للآكلين والشاربين، إلى حفظ أنفسهم في الشبع من الغافلة؛ باشتغال أحدهم بحديقته، ونعيمه عن تدبّر الآخرة، والنعيم: كلّ ما يتنعّم به؛ أي: يستطاب ويتلذذ به.(2/22)
ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» .
فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تذبحنّ لنا ذات درّ» ، فذبح لهم عناقا؛ أو جديا،..
ثم عدد صلّى الله عليه وسلم أوجه النّعيم الذي هم فيه بقوله: (ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» ) . وهو خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان لكون ذلك من النّعيم.
(فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما) ؛ أي: مطبوخا، على ما هو معروف في العرف العام؛ وإن كان قد يطلق الطّعام على الفاكهة لغة.
وبهذا الحديث استدلّ الشافعي على أن نحو الرطب فاكهة؛ لا طعام.
وقال أبو حنيفة: إنّ الرّطب والرّمّان ليسا بفاكهة، بل الرطب غذاء، والرمان دواء، وأما الفاكهة، فهو ما يتفكه به تلذّذا.
(فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا تذبحنّ لنا) شاة (ذات درّ» ) - بفتح الدال وتشديد الراء المهملتين- أي: لبن، وفي المستقبل بأن تكون حاملا.
ولعله صلّى الله عليه وسلم فهم من قرائن الأحوال أنّه أراد أن يذبح لهم شاة؛ فقال له ذلك، وهذا نهي إرشاد، وملاطفة، لا كراهة في مخالفته، فالمقصود الشفقة عليه؛ وعلى أهله، لأنهم ينتفعون باللبن مع حصول المقصود بغيرها.
وفي رواية مسلم: أنّه أخذ المدية، فقال له صلّى الله عليه وسلم: «إيّاك والحلوب» .
(فذبح لهم عناقا) - بفتح العين كسحاب-: أنثى المعز لها أربعة أشهر.
(أو) شك (جديا) - بفتح فسكون- كفلس: ذكر المعز ما لم يبلغ سنة، وهذا ليس من التكلف للضيف؛ المكروه عند السّلف، لأنّ محلّ الكراهة إذا شقّ ذلك على المضيف، وأما إذا لم يشقّ عليه! فهو مطلوب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» لا سيما هؤلاء الأضياف، الذين فيهم سيد ولد عدنان!! صلى الله عليه وسلم.(2/23)
فأتاهم بها فأكلوا.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك خادم؟»
قال: لا. قال: «فإذا أتانا سبي.. فأتنا» .
فأتي صلّى الله عليه وسلّم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اختر منهما» .
قال: يا رسول الله؛ اختر لي.
(فأتاهم بها) أي: بالعناق، وهذا ظاهر على الشق الأول من الشك.
(فأكلوا) أي: منها، وفي رواية: فشوى نصفه، وطبخ نصفه، وأتاهم به، فلما وضع بين يديه صلّى الله عليه وسلم أخذ من الجدي؛ فجعله في رغيف، وقال للأنصاري:
«أبلغ بهذا فاطمة، لم تصب مثله منذ أيّام» فذهب به إليها.
(فقال) : أي النّبي (صلى الله عليه وسلم) لما رآه يتولى خدمة بيته بنفسه، (: «هل لك خادم؟» ) يقع على الذكر والأنثى، لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال؛ كحائض.
(قال: لا) أي: ليس لي خادم، (قال: «فإذا أتانا سبي) - بفتح السين المهملة فسكون الموحدة-؛ أي: سبي من الأسارى عبد أو جارية (فأتنا» ) لنعطيك خادما، مكافأة على إحسانك إلينا.
وفي هذا إشارة إلى كمال جوده وكرمه صلّى الله عليه وسلم (فأتي) - بصيغة المجهول- أي:
فجيء النبي (صلى الله عليه وسلم برأسين) أي: بأسيرين اثنين، (ليس معهما ثالث) تأكيدا لما قبله، (فأتاه أبو الهيثم) امتثالا لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فأتنا» .
(فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم «اختر» ) واحدا (منهما» .
قال) ؛ أي أبو الهيثم: (يا رسول الله؛ اختر لي) أي: أنت، فإن اختيارك لي خير من اختياري لنفسي، وهذا من كمال عقله، وحسن أدبه وفضله.(2/24)
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ المستشار مؤتمن، خذ هذا فإنّي رأيته يصلّي، ...
(فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إنّ المستشار مؤتمن» ) - بصيغة المفعول-.
وهو حديث صحيح كاد أن يكون متواترا. ففي «الجامع الصغير» «المستشار مؤتمن» رواه الأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والترمذي عن أم سلمة، وابن ماجه عن ابن مسعود، والطبرانيّ في «الكبير» عن سمرة، وزاد: «إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر» .
وفي «الأوسط» عن عليّ كرّم الله وجهه؛ وزاد: «فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه» .
ثمّ الاستشارة: استخراج الرأي، من قولهم شرت العسل إذا أخرجتها من خلاياها، والاسم المشورة. وفيها لغتان: [مشورة] سكون الشّين وفتح الواو، والثانية [مشورة] ضم الشين وسكون الواو، وزان معونة.
ومعنى الحديث: أن من استشار ذا رأي في أمر اشتبه عليه وجه صلاحه فقد ائتمنه واستشفى برأيه، فعليه أن يشير عليه بما يرى النّصح فيه، ولو أشار عليه بغيره! فقد خانه ويبتلى بخلل في عقله.
والحاصل: أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته، وامتناع نصيحته. وسيأتي الكلام على ذلك مطولا في «الفصل الثالث» ؛ من «الباب السابع في جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم» .
وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك! إعلاما أو تعليما لأبي الهيثم ( «خذ هذا) إشارة إلى أحد الرأسين، (فإنّي) تعليل لاختياره (رأيته يصلّي) .
ويؤخذ منه أنّه يستدل على خيريّة الإنسان بصلاته، قال تعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [45/ العنكبوت] .
ويؤخذ منه أيضا أنه ينبغي للمستشار أن يبيّن سبب إشارته بأحد الأمرين؛ ليكون أعون للمستشير على الامتثال.(2/25)
واستوص به معروفا» . فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت امرأته: ما أنت ببالغ حقّ ما قال فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. إلّا أن تعتقه. قال: فهو عتيق.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة..
إلّا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ...
(واستوص به معروفا» ) ؛ أي: اقبل وصيتي به، وكافئه بالمعروف، ف «معروفا» ليس منصوبا ب «استوص» ، بل مفعولا لمحذوف، أو افعل في حقه معروفا؛ وصية مني، فهو منصوب ب «استوص» بتضمين «افعل» .
(فانطلق أبو الهيثم) أي: فذهب به (إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت) أي: لو صنعت ما صنعت من المعروف به ما أنت (ببالغ) أي: بواصل (حقّ ما قال فيه) ؛ أي: في حقه (النّبيّ صلّى الله عليه وسلم) أي من المعروف (إلّا أن تعتقه) أي: ما أنت ببالغ حق المعروف الذي وصّاك به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلّا بعتقه، فلو فعلت به ما فعلت ما عدا العتق لم تبلغ ذلك المعروف؟.
(قال) أي: أبو الهيثم: (فهو) أي: فبسبب ما قلت الذي هو الحق؛ هو (عتيق) أي: معتوق؛ فعيل بمعنى مفعول، فتسبّبت في عتقه ليحصل لها ثوابه، فقد صحّ في الحديث: «إنّ الدّالّ على الخير كفاعله» .
(فقال) أي: فأخبره أبو الهيثم بمقالة امرأته التي تسبّب عنها العتق؛ فقال (صلى الله عليه وسلم:
«إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة) ؛ فضلا عن غيرهما؛ (إلّا وله بطانتان) - بكسر أوله، تثنية بطانة- وهو المحب الخالص للرجل؛ مستعار من بطانة الثوب وهي خلاف الظّهارة، ومنه قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [118/ آل عمران] . وبطانة الرجل: صاحب سره، الذي يستشيره في أموره، ويطلعه على خفايا أحواله؛ ثقة به.
(بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر) ، يعلم منه أن بطانة الخير لا تكتفي(2/26)
وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السّوء فقد وقي، والمعصوم من عصمه الله تعالى» .
بالسكوت، بل لا بد من الأمر بالمعروف والحثّ عليه، والنّهي عن المنكر والزجر عنه، وقد علم أن زوجة أبي الهيثم من هذا القسم الّذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهي بطانة خير.
(وبطانة لا تألوه) أي: لا تمنعه (خبالا) - بخاء معجمة، فموحدة مفتوحتين-: أي: فسادا، أي: لا تقصر في فساد حاله ولا تمنعه منه.
فالألو: التقصير، وقد تضمن معنى المنع فلذلك تعدّى إلى مفعولين.
وعبّر هنا بهذا!! تنبيها على أن بطانة السوء يكفي فيها السكوت على الشر، وعدم النّهي عن الفساد. وهذا ظاهر في الخليفة، ولا يجيء في الأنبياء.
فالمراد ببطانة الخير في حق النبي الملك، وببطانة السّوء الشيطان، بل هذا عامّ في كلّ أحد كما يصرح به قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد، إلّا وقد وكّل به قرينه من الجنّ، وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك؛ يا رسول الله؟ قال: «وإيّاي إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلّا بخير» .
(ومن يوق) - بصيغة المجهول-؛ من وقى يقي- أي يحفظ (بطانة السّوء) - بفتح السين، ويجوز ضمّه، ففيه لغتان؛ قرئ بهما في السبع «1» ، كما في الكره والضّعف، إلا أن المفتوحة غلبت في أن يضاف إليها ما يراد ذمّه من كلّ شيء.
(فقد وقي) ماض مجهول، أي: من يحفظ من بطانة السوء وأتباعها فقد حفظ من الفساد، أي من جميع الأسواء والمكاره؛ في الدنيا والآخرة.
وجاء في رواية: (والمعصوم من عصمه الله تعالى» ) وفيه الإحسان للضيف بالفعل إن وجد، وإلّا فالوعد، وأنه لا بأس أن يطالبه بما وعد به؛ وتخيير الموعود
__________
(1) قرأ ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري: بضمّ السين. وقرأ الباقون: بفتحها.(2/27)
وعن عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه ...
له حين الوفاء بين أشياء متعدّدة؛ زيادة في إكرامه وتأكّد النّصح لا سيما للمستشير، والوصيّة بالضّعفاء، وجواز مشي الصّاحب إلى صاحبه الموسر من غير طلب وغير ذلك.
(و) أخرج مسلم والتّرمذي وغيرهما (عن عتبة) - بضمّ العين المهملة، وإسكان المثناة الفوقية، وموحدة- (بن غزوان) - بفتح المعجمة وسكون الزاي- ابن جابر بن وهب المازني «حليف بني عبد شمس؛ أو بني نوفل» .
من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع مهاجرا إلى المدينة.
وشهد بدرا وما بعدها، وروى له مسلم وأصحاب السنن، وولاه عمر في الفتوح؛ فاختط البصرة وفتح فتوحا، وكان طوالا جميلا.
قال ابن سعد وغيره: قدم على عمر يستعفيه من الإمارة فأبى، فرجع في الطريق ب «معدن بني سليم» فدعا الله فمات سنة: - 17- سبع عشرة، وقيل: ستّ وعشرين، وقيل قبل ذلك. وعاش سبعا وخمسين- 57- سنة (رضي الله تعالى عنه) .
لمّا بعثه عمر بن الخطاب وقال: انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم- أي: للمرابطة هنالك لحفظ بلاد العرب من العجم-.
فأقبلوا، حتى إذا كان بالمربد، وجدوا هذا الكذّان؛ فقالوا: ما هذه؟ قال بعضهم: هذه البصرة، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فقالوا: ها هنا أمرتم.
فنزلوا، ولما حلّوا هناك استمد عتبة من بعض الدهاقين من أهل خوزستان، فجاؤوا فوافوا ضعفه وقلة رجاله؛ وكان معه ثلثمائة رجل فنقضوا العهد وقاتلوه، فنصره الله عليهم.
ثم شرع عتبة في بناء البصرة لمشقّة الإقامة من غير بناء.(2/28)
قال: لقد رأيتني وإنّي لسابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر، حتّى تقرّحت أشداقنا، فالتقطت بردة فقسمتها بيني وبين سعد بن مالك؛ فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، ...
(قال) أي عتبة (: لقد رأيتني) أي: والله لقد أبصرت نفسي (وإنّي) - بكسر الهمزة- أي: والحال أنّي (لسابع سبعة) أي: في الإسلام (مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، لأنه أسلم مع ستة فصار متمّما لهم سبعة، فهو من السّابقين الأولين.
واعلم أن سابع ونحوه له استعمالان:
أحدهما: أن يضاف إلى العدد الذي أخذ منه؛ فيقال «سابع سبعة» كما هنا، وهو حينئذ بمعنى الواحد من السبعة، ومثله في التنزيل ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: 40] .
وثانيهما: أن يضاف إلى العدد الذي أخذ منه؛ فيقال «سابع ستة» وهو حينئذ بمعنى مصيّر الستة سبعة.
(ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر) بالرفع على البدل، جعله طعاما لقيامه مقام الطّعام في حقّهم (حتّى تقرّحت) - بالقاف وتشديد الرّاء بعدها حاء مهملة- (أشداقنا) جمع شدق- بالكسر- وهو جانب الفم، أي: ظهر في جوانب أفواهنا قروح من خشونة ذلك الورق وحرارته.
(فالتقطت بردة) أي: عثرت عليها بغير قصد وطلب، والبردة: شملة مخطّطة، أو كساء أسود مربّع فيه خطوط يلبسه الأعراب، واللّقط أخذ الشيء من الأرض، وقيل: أخذ الشيء بغير طلب.
(فقسمتها) - بتخفيف السين؛ ويجوز تشديدها- (بيني وبين سعد بن مالك) هو سعد بن أبي وقّاص القرشي الزّهري المكّي المدني، أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنّة، وتوفي وهو عنهم راض، - وقد مرت ترجمته، وترجمة ولده عامر-.
(فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها) دليل لضيق عيشهم؛ وعيش(2/29)
فما منّا من أولئك السّبعة أحد.. إلّا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجرّبون الأمراء بعدنا.
المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنّ أهل المدينة كانوا في شظف من العيش، عندما قدم عليهم المصطفى صلّى الله عليه وسلم مع المهاجرين، وكان المهاجرون فرّوا بدينهم، وتركوا أموالهم وديارهم، فقدموا فقراء على أهل شدّة وحاجة، مع أن الأنصار واسوهم، وأشركوهم فيما بيدهم، غير أن ذلك ما سدّ خلّتهم ولا دفع فاقتهم، مع إيثارهم الضراء على السراء؛ والفقر على الغنى، ولم يزل ذلك دأبهم حتى فتح عليهم الفتوح كخيبر وغيرها، ومع ذلك لم يزل عيشهم شديدا، وجهدهم جهيدا، حتى لقوا الله صابرين على شدّة العيش؛ معرضين عن الدنيا وزهرتها ولذّتها، مقبلين على الآخرة ونعيمها، فحماهم الله ما رغبوا عنه، وأوصلهم إلى ما رغبوا فيه، حشرنا الله في زمرتهم. آمين.
(فما منّا من أولئك السّبعة أحد؛ إلّا وهو أمير مصر) بالتنوين (من الأمصار) ، وهذا جزاء الأبرار في هذه الدار، وهو خير وأبقى في دار القرار.
(وستجرّبون الأمراء بعدنا!) إخبار بأن من بعدهم من الأمراء، ليسوا مثل الصّحابة في العدالة والديانة والإعراض عن الدنيا الدنية والأغراض النفسية، وكان الأمر كذلك. فهو من الكرامات بالخبر عن الأمور الغيبية، وذلك لأنهم رأوا منه صلّى الله عليه وسلم ما كان سببا لرياضتهم ومجاهدتهم وتقلّلهم في أمر معيشتهم، فمضوا بعده على ذلك واستمروا على ما هنالك، وأما غيرهم ممن بعدهم! فليسوا كذلك، فلا يكونون إلا على قضية طباعهم المجبولة على الأخلاق القبيحة، فلا يستقيمون مع الحق على الصدق، ولا مع الخلق على حسن الخلق.
وهذا الّذي ذكره المصنف بعض من خطبة عتبة بن غزوان العظيمة التي رواها مسلم في أواخر «صحيحه» .
ورواها الترمذي في «جامعه» و «شمائله» ؛ مقتصرا منها على ما ذكره المصنف هنا.(2/30)
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ...
ورواها النسائي في «الرقاق» ، وابن ماجه في «الزهد» مختصرة.
وذكرها الإمام النووي في «رياض الصالحين» منقولة عن «صحيح مسلم» ولفظها- كما في مسلم-: عن خالد بن عمير العدوي قال:
خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد؛ فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شقّة جهنّم، فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا، وو الله لتملأنّ. أفعجبتم؟! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام!.
ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ما لنا طعام إلّا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتّزرت بنصفها واتّزر سعد بنصفها؛ فما أصبح اليوم منا أحد إلّا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما؛ وعند الله صغيرا، وإنّها لم تكن نبوّة إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا، فستخبرون وتجرّبون الأمراء بعدنا. انتهى.
(و) روى الإمام أحمد، والترمذي في «الزهد» من «جامعه» وفي «شمائله» - وقال: حسن صحيح- وصححه ابن حبان، ورواه ابن ماجه أيضا:
كلهم (عن أنس) بن مالك (رضي الله تعالى عنه؛ قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لقد أخفت) - ماض مجهول؛ من الإخافة- (في) إظهار دين (الله) أي: أخافني المشركون بالتهديد والإيذاء الشديد، في أمر الله؛ أو لله، كما في حديث «دخلت امرأة النّار في هرّة» ؛ أي: بهرة
(وما يخاف) - بضمّ أوّله- أي: والحال أنّه لا يخاف (أحد) غيري مثل(2/31)
ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين ليلة ويوم ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال» .
ما أخفت، لأنهم في حال الأمن، وكنت وحيدا في إظهار ديني، ولم يكن أحد يوافقني في تحمل أذيّة الكفار، أو هو دعاء، أي: حفظ الله المسلمين عن الإخافة، أو مبالغة في الإخافة، وذلك معروف لغة، يقال: لي بليّة لا يبلى بها أحد.
(ولقد أوذيت) - ماض مجهول؛ من الإيذاء- (في الله) بقولهم ساحر، شاعر، مجنون، وغير ذلك، (وما يؤذى أحد) غيري بشيء من ذلك، بل كنت المخصوص بالإيذاء، لنهيي إيّاهم عن عبادة الأوثان، وأمري لهم بعبادة الرحمن.
وقال ابن القيّم: قوله في كثير من الأحاديث «في الله» يحتمل معنيين:
أحدهما أن ذلك في مرضاة الله وطاعته، وهذا فيما يصيبه باختياره.
والثاني: أنّه بسببه ومن جهته حصل ذلك، وهذا فيما يصيبه بغير اختياره، وغالب ما يجيء من الثاني، وليست «في» للظرفية، ولا لمجرّد السببية؛ وإن كانت السببية أصلها.
ألا ترى إلى خبر: «دخلت النّار امرأة في هرّة» ، فإن فيه معنى زائدا على السببية، فقولك «فعلت كذا في مرضاتك» فيه معنى زائد على فعلته لرضاك. وإن قلت: أوذيت في الله لا تقوم مقامه بسببه. انتهى.
(ولقد أتت) أي: مرّت، ومضت (عليّ) - بتشديد الياء- (ثلاثون من بين ليلة ويوم) أي: ثلاثون متواليات غير متفرقات لا ينقص منها شيء.
قال الطيبي: وهو للتأكيد الشمولي. ووجه إفادة الشّمول أنّه يفيد أنه لم يتكلم بالتسامح والتساهل، بل ضبط أول الثلاثين وآخرها، وأحصى أيامها ولياليها.
(ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد) ؛ أي: حيوان عاقل أو دابة (إلّا شيء) أي: قليل، ولقلّته جدّا كان (يواريه) ؛ أي: يستره (إبط بلال» ) - بالكسر-:
ما تحت الجناح يذكّر ويؤنّث، يعني كان ذلك الوقت بلال رفيقي، ولم يكن لنا من(2/32)
قال المصنّف في «جامعه» : معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه.
وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلّا على ضفف.
و (الضّفف) : كثرة أيدي الأضياف.
الطّعام إلّا شيء قليل بقدر ما يأخذه بلال تحت إبطه، ولم يكن لنا ظرف نضع الطعام فيه؛ كناية عن كمال القلّة.
(قال المصنّف) يعني الترمذي (في «جامعه» ) :
الذي قيل فيه: من كان عنده «جامع» الترمذي؛ فكأنما في بيته نبي يتكلّم
(معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه) واعترضه العصام؛ بأن بلالا لم يكن معه حين الهجرة.
وردّ بأن الترمذي لم يرد خروجه مهاجرا، بل خروجه قبل الهجرة إلى الطائف وغيره.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء) - بفتح المعجمة فمهملة- وهو الذي يؤكل أوّل النّهار، ويسمّى السّحور غداء، لأنه بمنزلة غداء المفطر. (ولا عشاء) - بفتح العين المهملة- هو: ما يؤكل آخر النهار (من خبز ولحم) ؛ أي: من هذين الجنسين (إلّا على ضفف) - بفتح الضاد المعجمة والفاء الأولى- أي: حال نادر وهو تناوله مع الضيف.
(و) قال المصنف كما في «الشمائل» نقلا عن بعضهم:
(الضّفف) - ك: فرس- (: كثرة أيدي الأضياف) . وهذا المعنى هو المراد(2/33)
فكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما لأجلهم.
وعن نوفل بن إياس الهذليّ قال: كان عبد الرّحمن ابن عوف هنا، وإن كان الضّفف له معان أخر أكثرها لا يناسب هنا.
وفي «النهاية» : الضفف الضيق والشدّة، ومنه ما يشبع منها إلّا عن ضيق وقلة.
وقيل: هو اجتماع النّاس، أي: لم يأكلهما وحده؛ ولكن مع النّاس.
وقيل: الضّفف أن تكون الأكلة أكثر من مقدار الطّعام، والحفف أن يكونوا بمقداره. انتهى.
قال الباجوري في «حاشية الشمائل» : (فكان صلّى الله عليه وسلم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما) ولو يتكلف (لأجلهم) .
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن نوفل) - بفتح الفاء- (بن إياس) - بكسر الهمزة- (الهذليّ) - بضمّ الهاء وفتح الذال المعجمة- المدني، يروي عن عبد الرحمن بن عوف، وعنه مسلم بن جندب؛ وثّقه ابن حبّان. (قال:
كان) أبو محمد (عبد الرّحمن بن عوف) القرشي الزهري المدني، أحد الثّمانية السّابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستة الّذين هم أهل الشّورى.
وكان من المهاجرين الأولين، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع.
وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد.
ومن مناقبه التي لا توجد لغيره من الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلّى وراءه في غزوة تبوك!! حين أدركه وقد صلى بالنّاس ركعة، وحديثه هذا في «صحيح مسلم» وغيره.(2/34)
رضي الله تعالى عنه لنا جليسا، وكان نعم الجليس، وإنّه انقلب بنا ذات يوم حتّى إذا دخلنا بيته.. دخل فاغتسل، ثمّ خرج وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلمّا وضعت.. بكى عبد الرّحمن.
فقلت: يا أبا محمّد؛ ما يبكيك؟.
قال بعضهم:
ولم يصلّ المصطفى خلف أحد ... إلّا ابن عوف فله الفضل أبد
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثا؛ اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. وتوفي سنة: - 32- اثنتين وثلاثين. وقيل: إحدى وثلاثين. وعمره اثنان وسبعون سنة، ودفن بالبقيع (رضي الله تعالى عنه
لنا جليسا) أي: مجالسا؛ (وكان) مقولا في حقه: (نعم الجليس) هو، (وإنّه) بكسر الهمزة (انقلب) أي: رجع (بنا) ؛ أي: انقلب معنا من السوق، أو غيرها فالباء بمعنى «مع» ، ويحتمل أنها للتعدية؛ أي: قلبنا وردّنا من الجهة الّتي كنّا ذاهبين إليها إلى بيته (ذات يوم) ؛ أي: ساعة ذات يوم؛ أي: في ساعة من يوم، ويحتمل أن «ذات» مقحمة، والمعنى: في يوم.
(حتّى إذا دخلنا بيته دخل) يغتسل (فاغتسل) لكونه محتاجا للغسل، ولم يكن ليأكل طعاما بدون الغسل؛ لأنه خلاف الكمال، وهذا من مؤكّدات أنّه «نعم الجليس» .
(ثمّ خرج) أي: من مغتسله إلينا، (وأتينا) - بالبناء للمجهول- أي: أتانا غلامه أو خادمه (بصحفة) هي إناء كالقصعة، وقيل: إناء مبسوط كالصّحيفة؛ (فيها) أي: في تلك الصّحفة (خبز ولحم، فلمّا وضعت) ؛ أي: الصّحفة الّتي فيها خبز ولحم (بكى عبد الرّحمن) بن عوف؛ خوفا مما يترتب على السّعة في الدّنيا.
(فقلت) له (: يا أبا محمّد) هذه كنية عبد الرحمن (ما يبكيك؟) أي أيّ شيء يجعلك باكيا؟.(2/35)
فقال: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشّعير، فلا أرانا أخّرنا لما هو خير لنا.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّه أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتمر؛ فرأيته يأكل وهو مقع من الجوع.
ومعنى (الإقعاء) : التّساند إلى وراء.
(فقال: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يشبع) أي يومين متواليين!! في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها (هو وأهل بيته من خبز الشّعير) .
وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الدّنيا؛ ولم يشبع من خبز الشّعير» رواه البخاري. ولعل ما في الصّحفة كان مشبعا لهم؛ فلذلك بكى.
(فلا أرانا) - بضمّ الهمزة- أي: لا أظنّنا (أخّرنا) - بصيغة المجهول- أي:
أبقينا بعده موسّعا علينا وقد ضيّق عليه (لما هو خير لنا!) ، لأنّه إذا كان خير النّاس حاله كذلك؛ فما صرنا إليه من السّعة يخاف عاقبته، ومن ثمّ كان الصدر الأول يخافون على من هو كذلك أنّه إنّما عجّلت له طيباته في حياته الدنيا.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أنّه أتي) أي: جيء. ولفظ «الشمائل» : حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا مصعب بن سليم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: أتي (رسول الله صلّى الله عليه وسلم [بتمر فرأيته يأكل] ) حال من مفعول «رأيت» ؛ (وهو مقع) ؛ أي: متساند إلى ما وراءه (من) الضّعف الحاصل له بسبب (الجوع) ، فلذلك قال المصنف:
(ومعنى الإقعاء) هنا (: التّساند إلى وراء) وجملة «وهو مقع» حال من فاعل «يأكل» .
وفي «القاموس» : أقعى في جلوسه تساند إلى ما وراءه، وليس في هذا(2/36)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأخذ ممّا آتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عزّ وجلّ.
وروى البخاريّ ومسلم: ...
ما يفيد أن الاستناد من آداب الأكل، لأنّه إنّما فعله لضرورة الضعف، وليس المراد بالإقعاء هنا النّوع المسنون في الجلوس بين السجدتين؛ وهو أن يبسط ساقيه ويجلس على عقبيه، ولا النّوع المكروه في الصّلاة؛ وهو أن يجلس على ألييه ناصبا ساقيه. قاله الباجوري كالمناوي.
(و) في «الإحياء» : (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يأخذ ممّا آتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط؛ من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عزّ وجلّ)
قال العراقي: متفق عليه، بنحوه من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدّم في «الزّكاة» ، وقال في «الزّكاة» : أخرجاه من حديث عمر: كان يعزل نفقة أهله سنة.
وللطبراني في «الأوسط» من حديث أنس: كان إذا ادّخر لأهله قوت سنة تصدّق بما بقي. قال الذّهبي: حديث منكر. انتهى.
قلت: وفي حديث عمر بن الخطاب ومخاصمة علي بن أبي طالب والعباس في أموال بني النضير ما نصه: قال: فإنّي سأخبركم عن هذا الفيء. ثم ساق، وفيه:
ولقد قسّمها بينكم وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال، فكان ينفق منه على أهله رزق سنة، ثمّ يجمع ما بقي منه مجمع مال الله عزّ وجلّ.. الحديث.
وفي رواية: وكان ينفق منها على أهله ... فهذا يؤيّد ما أخرجه الطبراني.
فتأمل. انتهى. «شرح الإحياء» .
(وروى) الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاريّ) - وقد تقدمت ترجمته- (و) الإمام أبو الحسين (مسلم) بن الحجّاج القشيري النيسابوري في(2/37)
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعزل نفقة أهله سنة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء.
وروى التّرمذيّ عن أنس: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يدّخر شيئا لغد.
«صحيحيهما» ؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما تقدم آنفا (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعزل نفقة أهله سنة) .
ولا تعارض بينه وبين ما روي عنه أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يدّخر قوت غد، كما سيأتي فإنّ معناه لا يدخر لنفسه، وأمّا لعياله فقد كان يدخر لهم قوت سنة، على أنّه مع ذلك كان تنوبه أشياء يخرج فيها ما ادّخره لهم، فلا تنافي بين ادخاره ومضي الزمن الطويل عليه؛ وليس عنده شيء له ولا لهم. انتهى (شرح «الإحياء» ) .
(وعن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء) لمزيد ثقته بربّه.
(وروى) الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) في «جامعه» في «كتاب الزهد» ؛ من حديث قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئا لغد) أي: لا يدّخره ملكا؛ بل تمليكا، فلا ينافي أنه ادّخر قوت سنة لعياله، فإنّه كان خازنا، فلما وقع المال بيده قسم لعياله؛ كما قسم لغيرهم، فإن لهم حقّا في الفيء.
قال بعض الصوفية: ولا بأس بادخار القوت لأمثالنا، لأن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت.
وحقق بعضهم فقال: من كانت نفسه مطمئنة بربّها كانت عيناه وسكونه إليه،(2/38)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تغدّى.. لم يتعشّ، وإذا تعشّى.. لم يتغدّ.
قال القسطلّانيّ في «المواهب اللّدنّيّة» : (قد استشكل كونه عليه الصّلاة والسّلام وأصحابه كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت: فلا يلتفت لذلك. انتهى «عزيزي» . قال الشيخ: حديث صحيح. انتهى «منه» .
(و) أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناد ضعيف؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
(كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تغدّى) - بالدال المهملة- بدليل مقابلته بالعشاء، إذ هو بالذال المعجمة شامل للغداء والعشاء، والغداء- بالمهملة-: من طلوع الشمس إلى الزوال، وبعد الزوال يسمّى عشاء؛ قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
(لم يتعشّ، وإذا تعشّى لم يتغدّ) أي: لا يأكل في يوم مرتين؛ تنزّها عن الدنيا، وتقوّيا على العبادة، وتقديما للمحتاج على نفسه.
وفي قلة الأكل فوائد. منها: رقة القلب، وقوة الفهم والإدراك، وصحّة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل.
ومنها: خفّة المؤونة، فإن من تعوّد قلّة الأكل كفاه من المال قدر يسير.
ومنها: التمكّن من التصدق بما فضل من الأطعمة على الفقراء والمساكين. وليس للعبد من ماله إلّا ما تصدق فأبقى أو أكل فأفنى أو لبس فأبلى. انتهى «عزيزي» .
(قال) العلامة الحافظ شهاب الدين: أبو العباس أحمد بن محمد (القسطلّانيّ) رحمه الله تعالى (في) كتاب ( «المواهب اللّدنّيّة» ) ؛ في النّوع الأول من «الفصل الثالث» ، الكائن في المقصد الثالث:
(قد استشكل كونه عليه الصّلاة والسّلام و) كون (أصحابه) - فهو بالجر؛ عطفا على الضمير، ويجوز نصبه مفعولا معه- (كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت:(2/39)
أنّه كان يرفع لأهله قوت سنة. وأنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه. وأنّه ساق في عمرته مئة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين. وأنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم..
وغير ذلك. مع من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه.
وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه.
وحثّ على تجهيز جيش العسرة؛ فجهّزهم عثمان بألف بعير ...
إلى غير ذلك؟. وأجاب عنه الطّبريّ ...
1- أنّه كان يرفع) أي يدّخر (لأهله قوت سنة) وسماه «رفعا» تجوّزا.
(و 2- أنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه.
و3- أنّه ساق في عمرته مائة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين.
و4- أنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم ... وغير ذلك) ؛ كإعطائه جماعة كثيرة من أموال خيبر، وفدك، وقريظة، والنضير، وكانت خالصة له!!
(مع) وجود (من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة) بن عبيد الله (وغيرهم) ؛ كالزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة (مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه!
وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله) ؛ وقال: أبقيت الله ورسوله لعيالي.
(و) جاء (عمر بنصفه، وحثّ على تجهيز جيش العسرة) [في] غزوة تبوك، حين أراد السير إليها (فجهّزهم عثمان بألف بعير) ، وجاء بعشرة آلاف درهم، إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم فوضعها بين يديه (إلى غير ذلك!؟
وأجاب عنه) أي: عن هذا الإشكال؟! الإمام البارع في أنواع العلوم:
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب (الطّبريّ) .(2/40)
- كما حكاه في «فتح الباري» -: بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز ...
كان أحد أئمة الدنيا يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله.
وكان قد جمع من العلوم؛ ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره.
وكان حافظا لكتاب الله تعالى؛ عارفا بالقراآت؛ بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها؛ صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم في الأحكام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما أعلم تحت أديم السّماء أعلم من محمد بن جرير. وتفرّد بمسائل حفظت عنه.
قال الرافعي: تفرّد ابن جرير لا يعدّ وجها في مذهبنا؛ وإن كان معدودا من طبقات أصحاب الشافعي!! وأخذ فقه الشافعي عن الربيع المرادي، والحسن الزعفرانيّ.
وهو في طبقة الترمذي والنّسائي، سمع أحمد بن منيع، وأبا كريب:
محمد بن العلاء، ومحمد بن المثنى وغيرهم من شيوخ البخاري ومسلم.
وحدّث عنه خلائق؛ منهم أحمد بن كامل ومخلد بن جعفر،
وتوفي ابن جرير وقت المغرب؛ ليلة الاثنين ليومين بقيا من شهر شوال، سنة: - 310- عشر وثلثمائة هجرية. ودفن ضحوة يوم الاثنين في داره، وكان مولده في آخر سنة- 224- أربع- أو أول سنة: - 225- خمس- وعشرين ومائتين. فعمره يقارب: خمسا وثمانين- 85- سنة رحمه الله تعالى. آمين.
(كما حكاه) أي الحافظ الحجة شهاب الملة والدين: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى (في «فتح الباري» ) شرح «صحيح البخاري» (بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز) - بفتح العين المهملة، وفتح الواو(2/41)
وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهة الشّبع وكثرة الأكل.
قال الحافظ ابن حجر: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل ...
وإسكانها-؛ يقال عوز؛ من باب تعب: عزّ فلم يوجد؛ وعزت الشّيء أعوزه؛ من باب قال: احتجت إليه فلم أجده، كما في «المصباح» . فإن أخذ من الأول فتحت الواو، أي لا لعدم وجدان، أو من الثاني سكّنت؛ أي لا للاحتياج (وضيق) تفسير.
ولا يرد على ذا الجواب أنه لم يعرج على قول الإشكال «كان يرفع لأهله قوت سنة» ! لأنه أشار للجواب عنه بقوله: (بل تارة للإيثار) ؛ فقد كان يدّخر قوت عام، ثمّ يجد المحاويج فيدفعه إليهم؛ ويترك أهله، (وتارة لكراهة الشّبع) لأنهم لم يكونوا يشبعون، إذ الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول.
قال بعضهم: الشّبع نهر في النفس يرده الشيطان، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة.
(و) لكراهة (كثرة الأكل) . انتهى جواب الطبري..
وتعقّب بأنّ ما نفاه مطلقا في قوله «لا لعوز وضيق» فيه نظر؛ لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه للعوز.
وأخرج ابن حبان في «صحيحه» عن عائشة رضي الله تعالى عنها:
من حدّثكم أنّا كنّا نشبع من التّمر؛ فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التّمر والودك. إلى غير ذلك.
(قال الحافظ ابن حجر) العسقلاني رحمه الله تعالى
(: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة؛ حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك؛ فواساهم الأنصار بالمنازل(2/42)
والمنائح، فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها.. ردّوا عليهم منائحهم.
نعم.. كان صلّى الله عليه وسلّم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له؛ كما أخرج التّرمذيّ من حديث أبي أمامة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهبا، ...
والمنائح) تمليكا للمنافع، لا للرقاب.
وذكر البيضاوي: أنّ من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة؛ وزوّجها من أحدهم، (فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها؛ ردّوا عليهم منائحهم) ومنازلهم.
(نعم؛ كان صلّى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له، كما أخرج) الإمام أحمد و (التّرمذيّ) وحسّنه ونوزع؛ (من حديث أبي أمامة) الباهلي: صديّ- بضمّ الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء- ابن عجلان بن والبة- بالموحدة- ابن رياح- بكسر الراء- ابن الحارث بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان- بالمهملة- ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وقيل غير ذلك في نسبه، وهو من مشهوري الصّحابة رضوان الله عليهم.
روي له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائتا حديث وخمسون حديثا؛ انفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثلاثة.
سكن مصر، ثم حمص؛ وبها توفي، سنة: - 81- إحدى وثمانين هجرية، وقيل: سنة ست وثمانين. قيل: هو آخر الصحابة موتا بالشام، رضي الله تعالى عنه وعامّة حديثه عند الشاميين (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال:
«عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة) ؛ أي: حصباءها.
قال الطيبي: تنازع فيه «عرض» و «ليجعل» ؛ أي: عرض علي بطحاء مكّة ليجعلها لي (ذهبا) ، فلا حاجة لتقدير مفعول «عرض» محذوفا، أي: أسباب الغنى؛ كما قاله بعضهم.(2/43)
فقلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت..
تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت.. شكرتك وحمدتك» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم وجبريل على الصّفا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ ما أمسى لآل محمّد سفّة من دقيق، ولا كفّ من سويق» .
فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة ...
فقلت: لا) أريدها (يا ربّ؛ ولكن أشبع يوما وأجوع يوما) .
هذا ورد على منهج التقسيم، وهو ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكلّ على التعيين، فذكر أولا الشّبع والجوع في أيامهما، ثم أضاف لكلّ ما يناسبه بقوله:
(فإذا جعت تضرّعت إليك) بذلّة وخضوع، (وذكرتك) في نفسي، وبلساني، (وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ) عطفه على سابقه!! لما بينهما من عموم الحمد موردا، وخصوصه متعلّقا، وخصوص الشّكر موردا وعمومه متعلقا.
وحكمة هذا التفصيل: الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فالله تعالى أعلم بالأشياء جملة وتفصيلا.
(وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصّفا) بمكّة؛ (فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ) رسولا إلى أنبيائه، (ما أمسى لآل محمّد سفّة) - بضم السين المهملة-: قبضة (من دقيق، ولا كفّ من سويق» ) كأمير هو دقيق الشعير المقلو، ويكون من القمح، والأكثر جعله من الشعير. قال أعرابي يصفه: هو عدة المسافر، وطعام العجلان، وبلغة المريض.
(فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة) - بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة-(2/44)
من السّماء أفزعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمر الله القيامة أن تقوم؟» .
قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك.
فأتاه إسرافيل، فقال: إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك: إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا ...
أي: صوتا قويا (من السّماء أفزعته) : خوّفته.
(فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم) لجبريل مستفهما. - بحذف همزته- (: «أمر الله القيامة أن تقوم» ؟! قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك) لي!
ولعل حكمة نزوله بتلك الهدة، الإشارة إلى قدرته على فعل ما يعرضه عليه!!
(فأتاه إسرافيل، فقال) : (إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت) لجبريل، (فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض) المعادن، أو البلاد التي فيها، أو الممالك التي فتحت لأمته بعده، وظاهر الحديث أنّها مفاتيح وخزائن حقيقية، وهو الأصل.
وذكر الزمخشري فيه وما أشبهه أنه من قبيل التمثيل والاستعارة حيث قال في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [21/ الحجر] . ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى:
وما من شيء ينتفع به العباد إلّا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به؛ فضرب الخزائن مثلا.
(وأمرني أن أعرض عليك؛ إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا) - بزاي أوله وذال معجمة آخره وراء قبل آخره مشدّدة؛ مضمومات الأوائل.
هو أربعة أضرب: الأول: الذّبابيّ.
الثّاني: الرّيحاني؛ وهو أخضر مفتوح اللون شبيه بلون ورق الرّيحان.(2/45)
.........
الثالث: السّلقي؛ وخضرته أشبه شيء بلون السّلق.
الرابع: الصّابوني؛ ولونه كلون الصابون الأخضر.
وأفضل أنواعه وأشرفها الذّبابيّ، وهو شديد الخضرة لا يشوب خضرته شيء آخر من الألوان؛ من صفرة ولا سواد ولا غيرهما، حسن الصبغ، جيد المائية، شديد الشعاع؛ ويسمى ذبابيا!! لمشابهة لونه في الخضرة لون كبار الذباب الأخضر الربيعي، وهو من أحسن الألوان خضرة وبصيصا، ويزداد حسنه بكبر الجرم، واستواء القصبة، وعدم الاعوجاج فيها.
ومن عيوب الذبابي اختلاف الصبغ، بحيث يكون موضع منه مخالفا للموضع الآخر، وعدم الاستواء في الشكل، والتشعير وهو شبه شقوق خفية؛ إلّا أنه لا يكاد يخلو منه.
ومن عيوبه: الرخاوة، وخفة الوزن، وشدة الملاسة، والصقال، والنعومة، وزيادة الخضرة، والمائية، إذا ركّب على البطانة.
ومن خاصّيّة الذبابي التي امتاز بها عن سائر الأحجار: أنّ الأفاعي إذا نظرت إليه، ووقع بصرها عليه؛ انفقأت عيونها. وبهذه الخاصّية يمتحن الزمرّذ الخالص من غيره، كما يمتحن الياقوت بالصبر على النار.
ومن منافع الزمرّذ الذبابي: أنّ من أدمن نظره أذهب عن بصره الكلال، ومن تختّم به دفع عنه داء الصرع؛ إذا كان قد لبسه قبل ذلك.
وإذا كان في موضع لم تقربه ذوات السموم، وإذا سحل منه وزن ثمان شعيرات وسقيته شارب السّمّ قبل أن يعمل السّم فيه خلّصته منه.
وإذا تختّم به من به نفث الدّم؛ أو إسهاله! منع من ذلك، وإذا علق على المعدة من خارج نفع من وجعها، وشرب حكاكته ينفع من الجذام.
وهذه الخواصّ توجد في الصغير منه والكبير والمعوجّ والمستقيم.(2/46)
وياقوتا، ...
أما بقية أصناف الزمرذ! فإنّه لا قيمة لها يعتدّ بها، لعدم المنافع الموجودة في الذبابي، انتهى ملخصا من «صبح الأعشى» .
(وياقوتا) هو ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: الأحمر ومنه البهرمان، ولونه كلون العصفر الشّديد الحمرة؛ النّاصع في القوّة الذي لا يشوب حمرته شائبة، ويسمّى «الرّمّاني» لمشابهته حب الرمان الرائق الحب، وهو أعلى أصناف الياقوت، وأفضلها، وأغلاها ثمنا.
وأردأ ألوانه الوردي الذي يضرب إلى البياض.
الضرب الثاني: الأصفر، وأعلاه الجلّناري، وهو أشدّه صفرة، وأكثره شعاعا، ومائية. ودونه الخلوقي؛ وهو أقلّ صفرة منه؛ ودونه الرّقيق؛ وهو قليل الصفرة كثير الماء ساطع الشعاع. وأردأ الأصفر ما نقص لونه؛ ومال إلى البياض.
الضرب الثالث: الأبيض، ومنه المهاني وهو أشدّها وأكثرها ماء، وأقواها شعاعا، وأصلب حجرا، وهو أدون أصناف الياقوت وأقلها ثمنا.
وأجود الياقوت الأحمر: البهرماني والرّمّاني والوردي النيّر المشرق اللّون الشفّاف الذي لا ينفذه البصر بسرعة.
وعيوب الياقوت: الشعرة؛ وهي شبه تشقيق يرى فيه. والسوس؛ وهو خروق توجد في باطنه، ويعلوها شيء من ترابية المعدن.
ومن خواصّ الياقوت بأنواعه: أنه يقطع كل الحجارة كما يقطعها الماس.
وليس يقطعه هو- على أي لون كان- غير الماس.
ومن خواصّه: أنه ليس لشيء من الأحجار المشعة شعاع مثله، وأنه أثقل من سائر الأحجار المساوية له في المقدار، وأنه يصبر على النار؛ فلا يتكلّس بها كما يتكلس غيره من الحجارة النفيسة، وإذا أخرج من النار برد بسرعة؛ حتى أن الإنسان يضعه في فيه عقب إخراجه من النار فلا يتأثّر به، إلّا أن لون غير الأحمر منه؛(2/47)
وذهبا وفضة.. فعلت، فإن شئت: نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا؟
فأومأ إليه جبريل أن تواضع.
فقال: «بل نبيّا عبدا» (ثلاثا) . رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن.
كالصفرة وغيرها يتحول إلى البياض، أما الحمرة فإنها تقوى بالنار، فما ذهبت حمرته بالنار، فليس بياقوت أحمر بل ياقوت أبيض مصبوغ، أو حجر يشبه الياقوت.
ومن منافعه: أنّ التختّم به يمنع صاحبه أن يصيبه الطّاعون؛ إذا ظهر في بلد هو فيه، وأنّه يعظّم لابسه في عيون الناس، ويسهل عليه قضاء الحوائج، وتتيسر له أسباب المعاش، ويقوّي قلبه ويشجعه، وأن الصاعقة لا تقع على من تختم به.
وإذا وضع تحت اللسان قطع العطش؛ قاله أرسطاطاليس.
قال: وامتحانه أن يحك به ما يشبهه من الأحجار فإنه يجرحها بأسرها ولا تؤثر هي فيه. انتهى ملخصا من «صبح الأعشى» .
(وذهبا وفضّة) لفظ «المواهب» : وأمرني أن أعرض عليك؛ أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا وياقوتا وذهبا وفضة (فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا!! فأومأ إليه جبريل) لما استشاره (أن تواضع.
فقال: «بل نبيّا عبدا» . قالها (ثلاثا. رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن)
كما قال المنذري وغيره، ولا يعارضه قوله صلّى الله عليه وسلم أتيت بمقاليد الدّنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل» رواه الإمام أحمد برجال الصحيح، وصححه ابن حبّان عن جابر رضي الله تعالى عنه! لأنّ هذا بعد ذاك للإشارة إلى ما ستملكه أمته من بعده.
فانظر إلى همته العلية صلّى الله عليه وسلم كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها؟!
ومعلوم أنّه لو أخذها لأنفقها في طاعة ربه، فأبى ذلك مع أن النّبوة معطاة له على كلا التقديرين. فيا لها من همّة شريفة رفيعة ما أسناها! ونفس زكيّة ما أبهاها! وقد عوّضه الله تعالى بالتصرف في خزائن السماء: ردّ الشمس بعد غروبها، وشقّ(2/48)
ولله درّ الأبوصيريّ حيث قال:
وراودته الجبال الشّمّ من ذهب ... عن نفسه فأراها أيّما شمم)
القمر، ورجم النجوم، واختراق السموات، وحبس المطر وإرساله، وإرسال الريح وإمساكها وغير ذلك
(ولله درّ الأبو صيريّ حيث قال) في «بردة المديح» :
(وراودته) أي: طلبت منه (الجبال الشّمّ) - بضم الشين-: المرتفعة (من ذهب
عن نفسه) ونسبة المراودة إليها مجاز، (فأراها) - بفتحتين- (أيّما شمم)
بفتح المعجمة والميم، وبعد هذا البيت قوله:
فأكّدت زهده فيها ضرورته ... إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم
وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم
ولعل المصنف حذف هذين البيتين من كلام القسطلّاني، لمّا أورده في «المواهب» ؛ من أنّ في البيتين شيئا! قال: لأنه في مقام المدح فلا يليق منه الوصف بالزهد ولا بالضرورة. قال الزرقاني: لأن الزهد يقتضي رغبته فيما زهد فيه والضرورة تقتضي الحاجة. انتهى.
قال الحليمي في «شعب الإيمان» : من تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلم ألايوصف بما هو عند النّاس من أوصاف الضّعة، فلا يقال كان فقيرا. وأنكر بعضهم إطلاق الزهد في حقّه صلّى الله عليه وسلم. إذ لا قدر للدّنيا عنده. وقد حكى صاحب كتاب «نثر الدر» ؛ وهو أبو سعيد منصور بن الحسين الآبي- بالمد- عن محمد بن واسع، أنّه قيل له: فلان زاهد. فقال: وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها!!. فإذا قيل هذا في حقّ غير المصطفى صلّى الله عليه وسلم فما بالك به؟!.
وقد ذكر القاضي عياض في «الشفاء» ؛ ونقله عنه الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه «السيف المسلول» : أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل حاتم المتفقه الطليطليّ(2/49)
وأمّا خبز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيت اللّيالي المتتابعة طاويا هو وأهله؛ لا يجدون ...
وصلبه لاستخفافه بحق النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته ب «اليتيم» ، وزعمه أنّ زهده لم يكن قصدا!! ولو قدر على الطيبات أكلها!. انتهى.
وكلّ واحدة من هذه الثلاث كافية في القتل؛ بلا استتابة عند مالك رحمه الله تعالى.
وذكر الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض الفقهاء المتأخرين؛ أنّه كان يقول:
لم يكن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقيرا من المال، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى النّاس، فقد كفي أمر دنياه في نفسه وعياله.
وكان يقول في قوله صلّى الله عليه وسلم «اللهم أحيني مسكينا» أنّ المراد به استكانة القلب، لا المسكنة الّتي هي ألايجد ما يقع موقعا من كفايته. وكان يشدّد النكير على من يعتقد خلاف ذلك. انتهى. وهو حسن نفيس. انتهى كلام «المواهب» ؛ مع شيء من «شرح الزرقاني» رحمهما الله تعالى.
(وأمّا خبز رسول الله صلّى الله عليه وسلم!) والخبز- بالضمّ-: الشّيء المخبوز من نحو برّ.
وهو المراد هنا، فقد جاء بيانه في أحاديث كثيرة.
أخرج الإمام أحمد والتّرمذيّ في «جامعه» و «شمائله» وصححه، وابن سعد في «طبقاته» - واللفظ ل «الشمائل» - (فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت اللّيالي المتتابعة) أي المتوالية، يعني كان في تلك الليالي على الاتصال (طاويا) أي: خالي البطن جائعا (هو) تأكيد فاعل «طاويا» ، لتصحيح عطف (وأهله) عليه، (لا يجدون) أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهله فأفرد «طاويا» نظرا لمطابقة الفاعل، وجمع «لا يجدون» ! نظرا لمشاركتهم له في(2/50)
عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم من خبز الشّعير يومين متتابعين ...
عدم وجدانهم، (عشاء) - بفتح العين المهملة والشين المعجمة والمدّ- هو:
ما يؤكل آخر النّهار الصادق؛ بما بعد الزوال.
والمراد بأهله عياله الذين في نفقته.
وفي «المغرب» : أهل الرّجل؛ امرأته وولده، والذين في عياله، ونفقته، وكذا كل أخ وأخت، وعمّ وابن عمّ وصبيّ يقوته في منزله. انتهى.
وكان صلّى الله عليه وسلم لشرف نفسه، وفخامة منصبه؛ يبالغ في ستر ذلك عن أصحابه؛ وإلّا فكيف يظنّ عاقل أنه يبلغهم أنه يبيت طاويا، هو وأهل بيته اللّيالي المتتابعة، مع ما عليه طائفة منهم من الغنى؛ بل لو علم فقراؤهم- فضلا عن أغنيائهم- ذلك لبذلوا الجهد في تقديمه، هو وأهل بيته، على أنفسهم واستبقوا على إيثاره!!؟
وهذا يدلّ على فضل الفقر والتجنّب عن السؤال مع الجوع.
(وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير) أي: وقد يكون خبزهم خبز البرّ مثلا.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلم) - هم هنا: عياله الّذين في مؤونته، لا من تحرم عليهم الصّدقة. وما يأكله عياله يسمّى خبزه، ومنسوب له؛ فالخبر مطابق للترجمة.
ويحتمل أن لفظ «آل» مقحم، والمراد هو!! ويؤيده الرواية الآتية: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخ (من خبز الشّعير يومين متتابعين) . خرج بقوله «خبز الشعير» خبز البر. ففي رواية البخاري عن عائشة: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام برّ ثلاث ليال تباعا حتّى قبض!!(2/51)
حتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعن سليم بن عامر [رحمه الله تعالى] قال: سمعت أبا أمامة [الباهليّ] رضي الله تعالى عنه يقول: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبز الشّعير.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رفع عن مائدته صلّى الله عليه وسلّم كسرة خبز حتّى قبض.
وقد ورد عنها أيضا أنّها ...
وأخذ منه أن المراد هنا اليومان بلياليهما، كما أنّ المراد اللّيالي بأيامهما.
وقولها (حتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم) إشارة إلى استمرار تلك الحالة مدة إقامته بالمدينة، وهي عشر سنين؛ بما فيها من أيام حجّه وغزوه.
(و) أخرج التّرمذي في «الشمائل» (عن سليم) - بالتصغير- (بن عامر) الرّحبي المشرفي الحمصي- ورحبة: بطن من حمير-.
له نحو مائتي حديث، وكان ثبتا ناصبيا. مات سنة ثلاث وستين ومائة. وغلا من قال (له رؤية) . خرّج له مسلم والأربعة
(قال: سمعت أبا أمامة) - بضم الهمزة- ( [الباهليّ] ) اسمه: صدي بن عجلان- تقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنه؛ يقول:
(ما كان يفضل) - بضم الضاد المعجمة؛ أي: يزيد- (عن أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبز الشّعير) . أي: ما كان يزيد عن كفايتهم، بل كان ما يجدونه لا يشبعهم في الأكثر، كما تدلّ عليه الرواية السابقة.
(و) في الباجوري على «الشمائل» : روي (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أنها قالت: (ما رفع عن مائدته صلّى الله عليه وسلم كسرة خبز حتّى قبض.
وقد ورد عنها) أي: عائشة (أيضا) ؛ فيما رواه البخاري ومسلم؛ (أنّها(2/52)
قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رفّ لي- أي: نصف وسق- فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني.
قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وليس عندي شيء يأكله ذو كبد) شامل لكل حيوان، (إلّا شطر شعير) قال التّرمذي: أي: شيء من شعير.
وقال ابن الأثير: قيل: نصف مكوك، وقيل: نصف وسق. ويقال: شطر وشطير؛ مثل نصف ونصيف؛ انتهى ذكره الشّمنّي في «حواشي الشفاء»
( [في رفّ لي] ) - بفتح الراء وشد الفاء مكسورة-: خشب يرفع عن الأرض في البيت، يوضع فيه ما يراد حفظه؛ قاله القاضي عياض.
وفي «الصّحاح» : الرفّ شبه الطاق في الحائط. قيل: وهو أقرب هاهنا، لأن الخشب لا يحتمل وضع هذا المقدار عليه، وفيه نظر لقلّته؛ ذكره الزرقاني.
وقال المصنف تبعا للباجوري؛ في تفسير قوله شطر شعير: (أي: نصف وسق) .
قالت عائشة: (فأكلت منه حتّى طال عليّ) - بتشديد الياء- (فكلته) - بكسر الكاف- (ففني) . زادت في رواية: «فياليتني لم أكله» .
فإن قيل: مقتضى هذا أنّ الكيل سبب لعدم البركة، فيعارض قوله صلّى الله عليه وسلم:
«كيلوا طعامكم؛ يبارك لكم فيه» رواه البخاري وأحمد عن المقدام بن معدي كرب؟ وفي الباب غيره!؟
أجيب: بأن البركة عند البيع، ودخوله البيت، وعدمها عند النفقة، وبأن المراد أن يكيله بشرط بقاء الباقي مجهولا، أو لأن الكيل عند الشراء مطلوب لتعلّق حق المتبايعين؛ فلذا ندب، وحصلت البركة فيه!! لامتثال أمر الشارع، بخلاف كيله عند الإنفاق للاختبار، فقد يبعث عليه الشح؛ فلذا كره وذهبت بركته.
والحاصل: أنّ مجرد الكيل إنما يحصّل البركة بقصد الامتثال فيما شرع كيله،(2/53)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل خبز الشّعير غير منخول، وربّما وقف في حلقه فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء.
وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما أنّه قيل له: أكل ...
ومجرد عدمه إنما ينزعها إذا انضم إليه الاختبار والمعارضة، ولذا قال القرطبي:
سبب رفع النّما الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته وكثرة بركاته، والغافلة عن الشّكر عليها، والثّقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة. انتهى «زرقاني على «المواهب» » .
(و) في «الإحياء» مع الشرح: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكل خبز الشّعير غير منخول) من نخالته.
وفي هذا تركه صلّى الله عليه وسلم التكلّف والاعتناء بشأن الطّعام، فإنّه لا يعتني به إلّا أهل البطالة والغافلة.
قال العراقي: رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. انتهى.
قلت: ورواه مسلم والترمذي نحوه. انتهى كلام «شرح الإحياء» .
(وربّما وقف في حلقه؛ فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء) .
هذه الزيادة غير موجودة في «الإحياء» !.
(و) أخرج البخاري والترمذي في «الشمائل» - واللفظ لهما-.
(عن سهل) - بفتح السين المهملة وسكون الهاء- (بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي: أبي العباس.
له ولأبيه صحبة وهو آخر من مات من الصحب بالمدينة المنورة، مات سنة:
- 88- ثمان وثمانين أو إحدى وتسعين وعمره جاوز المائة (رضي الله تعالى عنهما أنّه) أي: الشأن (قيل له) أي لسهل (: أكل) هو استفهام بحذف الهمزة،(2/54)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّقيّ يعني: الحوّارى؟
فقال سهل: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّقيّ حتّى لقي الله عزّ وجلّ.
فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما كانت لنا مناخل.
أي: قال بعضهم له على وجه الإستفهام: أأكل (رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّقيّ؟) - بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء- أي: الخبز المنقّى من النّخالة، أي: المنخول دقيقه.
وأما النّفي بالفاء: فهو ما ترامت به الرحى؛ كما قاله الزمخشري.
(يعني) أي: يريد سهل بالنقي (الحوّارى) تفسير من الراوي أدرجه في الخبر. وهو- بضمّ الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، وفي آخره ألف تأنيث مقصور-: ما حوّر من الدّقيق بنخله مرارا، فهو خلاصة الدقيق وأبيضه، وكل ما بيض من الطعام كالأرز. وقصره على الأول تقصير.
(فقال سهل: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّقيّ) ، أجابه بنفي الرؤية مع أن السؤال عن الأكل! لأنّه يلزم من نفي رؤيته نفي أكله. وإنما عدل عن نفي الأكل!! لأن نفي الرؤية أبلغ. أي: ما رآه فضلا عن أكله (حتّى لقي الله عزّ وجلّ) أي: حتى فارق الدّنيا، لأن الميت بمجرّد خروج روحه تأهّل للقاء ربه، إذ الحائل بين الله وبين العبد هو التعلقات الجسمانية، فبعد قطعها يلاقيه؛ إمّا بصفاته الجلالية، أو الجمالية.
(فقيل له) أي لسهل (: هل كانت لكم) معشر الصحابة من المهاجرين والأنصار (مناخل) جمع منخل- بضم الميم والخاء المعجمة- وهو: اسم آلة على غير قياس، إذ القياس كسر الميم وفتح الخاء (على عهد) أي: في زمن (رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟)
(قال) أي سهل (: ما كانت لنا مناخل) أي: في عهده صلّى الله عليه وسلم وزمانه ليطابق(2/55)
قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟
قال: كنّا ننفخه فيطير منه ما طار، ثمّ نعجنه.
وفي رواية له: هل كانت لكم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى.
الجواب السؤال، وليوافق ما في الواقع. إذ بعده صلّى الله عليه وسلم كانت لهم ولغيرهم مناخل ممن لم يثبت على حاله. ولذا قيل: المنخل أوّل بدعة في الإسلام.
وفي «صحيح مسلم» عن الحسن أنّ عائذ بن عمرو- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- دخل على عبيد الله بن زياد الأمير الظالم. فقال: - أي: عائذ بن عمرو-:
أي بني؛ إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ شرّ الرّعاء الحطمة فإيّاك أن تكون منهم» .
فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم.
فقال: هل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم!!.
(قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟) أي: بدقيقه مع ما فيه من النخالة، ولا بد من نخلها ليسهل بلعه!!. (قال: كنّا ننفخه) بضمّ الفاء أي: نطيّره، والاستعمال الأشيع: ننفخ فيه (فيطير منه ما طار) من القشر، (ثمّ نعجنه) - بفتح النون وكسر الجيم؛ من باب ضرب-.
(وفي رواية له) أي: لسهل في البخاري؛ بعد «باب الأطعمة» : (هل كانت لكم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى) .
وبقية الحديث: قلت: كيف كنتم تأكلون الشّعير غير منخول؟ قال: كنّا نطحنه وننفخه فيطير ما طار، وما بقي ثرّيناه فأكلناه.(2/56)
وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّقا حتّى لحق بالله، ...
وقوله ثرّيناه- بمثلاثة وراء ثقيلة مفتوحتين- أي: ندّيناه وليّنّاه بالماء.
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : قوله «من حين ابتعثه الله» أظنّه احتراز عما قبل البعثة، لأنه صلّى الله عليه وسلم توجّه في أيام الفترة مرتين، إلى جانب الشام تاجرا، ووصل إلى بصرى، وحضر في ضيافة بحيرا الراهب، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقي عندهم كثير، والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ذلك عندهم.
وأما بعد ظهور النّبوة! فلا شك أنّه في مكة والطائف والمدينة المنورة.
وقد اشتهر أنّ سبيل العيش صار مضيّقا عليه وعلى أكثر أصحابه؛ اضطرارا أو اختيارا. انتهى؛ ذكره في «جمع الوسائل» .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والله الذي بعث محمدا بالحق؛ ما رأى منخلا ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض.
قلت: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول: أف.
قال الغزالي: وهذا لا يقتضي أنّ اتّخاذ المناخل لنخل الطعام منهيّ عنه، وإن كان أبدع بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم!! لأنّ المنهي عنه بدعة تضادّ سنة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علّته، وليس نخل الطعام كذلك!! لأن القصد منه تطييب الطّعام، وذلك مباح ما لم ينته إلى التّنعّم المفرط. انتهى.
(وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرقّقا) - براء مهملة فقافين- وهو: المليّن المحسّن كخبز الحوّارى وشبهه. والترقيق:
التليين.
وفي رواية في «الأطعمة» ؛ عن أنس: ما أكل خبزا مرقّقا (حتّى لحق بالله) عزّ وجلّ.(2/57)
ولا رأى شاة سميطا بعينه حتّى لحق بالله. رواه البخاريّ.
و (الشّاة السّميط) : هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن، وشويت والمعنى لم يأكل خبزا مليّنا؛ أي: متّخذا من دقيق ناعم، بحيث إذا عجن يلين عجينه، بل كان أكله من نحو الشّعير، الذي يغلب على عجينه اليبس، ولم يكن عندهم مناخل، وذلك سبب لعدم لين خبزهم.
(ولا رأى شاة سميطا) - بمهملتين- من سمط الشاة إذا نتف صوفه؛ بعد إدخاله في الماء الحار.
فإن قلت: القياس سميطة.
قلت: لا؛ إذ الفرق في الشاة ونحوها بين المذكر والمؤنث بالصّفة نحو شاة وحشي ووحشية. أو أن الفعيل بمعنى المفعول؛ يستوي فيه المذكر والمؤنث.
وغرضه أنّه صلّى الله عليه وسلم ما كان متنعّما في المأكولات؛ قاله الكرماني.
(بعينه) - بالإفراد قاله القسطلّانيّ- (حتّى لحق بالله) تعالى.
وفي رواية: حتّى لقي الله تعالى.
قال القسطلّانيّ: وهذا يعارضه ما ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلم أكل الكراع؛ وهو لا يؤكل إلّا مسموطا. انتهى.
ولا معارضة، إذ نفي رؤية الشاة بتمامها سميطا؛ لا ينفي رؤية الأكارع؛ كما هو بيّن!!
(رواه البخاريّ) في «الرقاق» بلفظه، و «الأطعمة» بنحوه؛
عن قتادة قال: «كنّا عند أنس وعنده خبّاز له، فقال: كلوا، ما أعلم ... »
الحديث. ولم يعرف الحافظ ابن حجر اسم الخباز.
وفي الطّبراني: «كان لأنس غلام يخبز له الحوّارى ويعجنه بالسمن، فقال:
كلوا ... » الحديث.
(والشّاة السّميط: هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن؛ وشويت(2/58)
بجلدها، وهو من فعل المترفّهين.
وعن قتادة، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على خوان، ولا في سكرّجة، ...
بجلدها) وإنما يصنع ذلك في الصغير السّن، (وهو من فعل المترفّهين) ، أي الأغنياء المتنعّمين. وإنما كان هذا من فعلهم! لأنهم لا يفوت غرضهم لزيادة ثمن مثل هذا، ولأن المسلوخ ينتفع بجلده في اللّبس وغيره، والسّمط يفسده. والمترفّه لا يبالي بفوات ذلك.
(و) أخرج البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي في «الشمائل» - واللفظ له- (عن قتادة) بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى
(عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما أكل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم على خوان) لما فيه من الترفّه والتكبّر، والخوان- بكسر أوله المعجم ويضم-: وهو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه كالكراسي المعتادة عند أهل الأمصار، وهو فارسيّ معرّب. يعتاد المتكبرون من العجم الأكل عليه كيلا تنخفض رؤوسهم. فالأكل عليه بدعة، لكنه جائز؛ إن خلا عن قصد التكبر.
(ولا في سكرّجة) - بضمّ السين المهملة والكاف والراء مع التشديد-، وهي كما قال ابن العربي: إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل المشهّي للطّعام الهاضم له؛ كالسّلطة والمخلّل.
وإنما لم يأكل النبي صلّى الله عليه وسلم في السّكرّجة!! لأنّه لم يأكل حتّى يشبع فيحتاج لاستعمال الهاضم والمشهّي، بل كان لا يأكل إلّا لشدّة الجوع، ولأنها أوعية الألوان؛ ولم تكن الألوان من شأن العرب، إنما كان طعامهم الثّريد عليه مقطّعات اللّحم. قاله الباجوري.
قال في «جمع الوسائل» : والأكل في السّكرّجة من دأب المترفين، وعادة الحريصين على الأكل المفرطين. انتهى.(2/59)
ولا خبز له مرقّق. قال قتادة: كانوا يأكلون على هذه السّفر.
و (الخوان) : هو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه.
(ولا خبز) - ماض مجهول- (له) أي: لأجله صلّى الله عليه وسلم (مرقّق) - بصيغة اسم المفعول؛ مرفوع على أنه نائب الفاعل، وهو بتشديد القاف الأولى-:
ما رقّقه الصانع أي جعله رقيقا، وهو الرّقاق- بالضم- يعني لم يكن يخبز له خبز مليّن محسّن مبيّض كالحوّارى، لأنّ عامة خبزهم إنّما كان من الشّعير، والرّقاق إنما يتّخذ من دقيق البرّ، وليس ذا من شأن العرب.
وهذا الحديث إنما يفيد نفي خبزه له، وحديث البخاري يفيد نفي رؤيته له؛ سواء خبز له أو لغيره.
(قال قتادة:) لسائله؛ وهو يونس بن أبي الفرات عبيد البصري- ولفظ الترمذي في «الشمائل» فقلت لقتادة-: فعلام (كانوا يأكلون؟) .
قال: (على هذه السّفر) أي: كانوا يأكلون على هذه السّفر- بضمّ السين المهملة المشددة وفتح الفاء؛ جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطعام كما سيأتي.
والسفرة أخصّ من المائدة؛ وهي ما يمد ويبسط ليؤكل عليه؛ سواء كان من الجلد، أو من الثياب. وممّا يحقّق أنّ المائدة ما يمدّ ويبسط ما جاء في تفسير المائدة حيث قالوا: نزلت سفرة حمراء مدورة.
وقال ابن العربي: رفع الطّعام على الخوان من الترفّه، ووضعه على الأرض إفساد له، فتوسّط الشارع حيث طلب أن يكون على السفرة والمائدة.
وقال الحسن البصري: الأكل على الخوان فعل الملوك، وعلى المنديل فعل العجم، وعلى السفرة فعل العرب، وهو سنة. انتهى (باجوري؛ على «الشمائل» ) .
(والخوان) - المشهور فيه كسر الخاء المعجمة، ويجوز ضمها- و (هو مرتفع) عن الأرض (يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه) ، واستعماله لم يزل دأب المترفين،(2/60)
و (السّكرّجة) : إناء صغير يوضع فيه الشّيء القليل المشهّي للطّعام؛ كالسّلطة.
و (السّفر) - جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام.
وعن مسروق ...
وفيه لغة ثالثة، وهي: إخوان؛ بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة، ولعله سمي بذلك! لاجتماع الإخوان والأصحاب عنده وحوله. والصحيح أنّه اسم أعجميّ معرب.
(والسّكرّجة) - بضم أحرفه الثلاثة مع تشديد الراء وقد تفتح الراء-
(: إناء صغير يوضع فيه الشّيء القليل المشهّي للطّعام) الهاضم له؛ حول الطعام على المائدة (كالسّلطة) - بفتحات، ويقال لها الزلطة؛ بالزّاي- وكالمخلل وما أشبههما من الجوارش.
(والسّفر) - بضمّ السين المهملة وفتح الفاء- (جمع سفرة؛ وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام) .
وأصل السّفرة: طعام يتّخذ للمسافر، والغالب حمله في جلد مستدير. فنقل اسمه لذلك الجلد؛ فسمّي به لذلك، كما سميت المزادة راوية. فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة.
ولأن للجلد المذكور معاليق تنضمّ وتنفرج، فللانفراج سمّي سفرة، لأنها إذا حلّت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها. وسمي السّفر سفرا!! لإسفاره عن أخلاق الرّجال.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» (عن) أبي عائشة (مسروق) بن الأجدع- بالجيم والدّال المهملة- ابن مالك بن أميّة بن عبد الله الهمذاني الكوفي التابعي المخضرم، يقال أنه سرق صغيرا ثم وجد؛ فسمي مسروقا.(2/61)
قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها، فدعت لي بطعام، وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت.
قال: قلت: لم؟
قالت: أذكر الحال الّتي فارق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدّنيا، ...
أسلم قبل وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأدرك الصدر الأول من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود. وروى عنهم؛ وعن خبّاب بن الأرتّ، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، والمغيرة، وعائشة، رضي الله تعالى عنهم.
روى عنه أبو وائل؛ وهو أكبر منه، وسليم بن أسود والشّعبي والنّخعي والسّبيعي وعبد الله بن مرّة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة «أحد الفقهاء السبعة» وآخرون.
اتفقوا على جلالته، وتوثيقه، وفضيلته، وإمامته. وكان يصلّي حتى تورّمت قدماه. وتوفي سنة: - 62- اثنتين وستين. وقيل سنة: - 63- ثلاث وستين هجرية كما في «تهذيب الأسماء واللغات» للنّووي.
(قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فدعت لي بطعام) أي:
طلبت من خادمها طعاما لأجلي، (وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت) أي: ما أشبع من مطلق الطعام، فأريد البكاء؛ إلّا بكيت تأسّفا وحزنا على فوات تلك الحالة العليّة، والمرتبة المرضيّة، وهي ما كان عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكأنها ذكرت هذا اعتذارا، عن عدم اهتمامها بالأكل، كما هو سنة المضياف! ليأكل الضيف بلا خجل.
ومرادها أنه ما يحصل من شبع، إلّا تسبب عنه مشيئتي للبكاء؛ فيوجد مني فورا.
(قال) أي مسروق (: قلت: لم؟) أي: لم تسبّب عن الشبع تلك المشيئة المسبب عنها وجود البكاء فورا.
(قالت: أذكر الحال الّتي فارق) مستقرا (عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدّنيا) .(2/62)
والله ما شبع من خبز ولا لحم مرّتين في يوم.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم من طعام ثلاثة أيّام تباعا حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم. وروى مسلم: ما شبع آل محمّد يومين من خبز البرّ إلّا وأحدهما تمر.
وحاصله أنّها قالت: كلما شبعت بكيت لتذكّر الحال الّتي فارقت عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبيّنت تلك الحالة بقولها:
(والله ما شبع من خبز؛ ولا لحم؛ مرّتين في يوم) واحد من أيام عمره، فلم يوجد [يوم] قط شبع فيه مرتين منهما؛ ولا من أحدهما.
قال ابن العربي: الاتساع في الشهوات من المكروهات، وقد نهى الله تعالى قوما عن ذلك في كتابه العزيز فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا [20/ الأحقاف] ، وكذا التبسّط في المأكول والموائد والتّجمّع بالألوان، والفواكه، والتقلّل هو المحبوب، والتّواضع هو المحمود المطلوب.
(وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ قال: ما شبع آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم) والمراد ب «آله» : هو وآله. ففي رواية لمسلم «ما شبع محمد وأهله» (من طعام ثلاثة أيّام) .
ولمسلم «ثلاث ليال» ، فالمراد هنا الأيام بلياليها، كما أنّ المراد اللّيالي بأيّامها؛ كما في «الفتح» (تباعا) - بكسر الفوقية وخفّة الموحدة- أي: متتابعة متتالية، (حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم) في «الأطعمة» وغيرها.
(وروى مسلم) في «صحيحه» من حديث مسعر بن كدام الهلالي، عن هلال بن حميد، عن عروة، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها قالت:
(ما شبع آل محمّد يومين من خبز البرّ) القمح (إلّا وأحدهما) أي اليومين (تمر) لقلة خبز البرّ. وأخرجه البخاري من هذا الطريق عنها بلفظ «ما أكل آل(2/63)
وروى مسلم أيضا: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين. وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض.
وفي رواية عنها أيضا: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء.. لأعطاه الله عزّ وجلّ ما لا يخطر ببال.
محمّد أكلتين في يوم إلّا وإحداهما تمر» . ولأبي ذر «تمرا» بالنصب. إما على تقدير إلّا كانت إحداهما تمرا؛ وإما جعل إحداهما تمرا!!
(وروى مسلم أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين) . خصّت الزيت! لأنهم كانوا يأتدمونه كثيرا، ومع ذلك لم يأكله في اليوم إلّا مرة زهدا في الدنيا.
(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عنها) أي: عائشة (رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض) ، لاجتنابه الشّبع وإيثاره الجوع.
ولا يناقضه خبر أبي الهيثم «فلمّا أن شبعوا» ! لأن ذلك الشّبع كان من الشاة.
ولا قوله في خبر آخر حين عرضت عليه الدّنيا واختار الفاقة؛ وقال: «أريد أن أجوع يوما فأصبر، وأشبع يوما فأشكر» ! لأنها بيّنت جنس ما لم يشبع منه؛ وهو خبز الشعير.
(وفي رواية عنها أيضا) رواها البخاري (: ما شبع) - بكسر الموحدة- أي ما أكل حتى شبع (رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء) الدنيا وترفها ونعيمها (لأعطاه الله عزّ وجلّ ما لا يخطر) - بضم الطاء المهملة وكسرها- يقال خطر يخطر خطورا: إذا ذكر وتصوّر- (ببال) البال: القلب والعقل والفكر،(2/64)
قال القسطلّاني في «المواهب» : (وقد تتبّعت هل كانت أقراص خبزه صلّى الله عليه وسلّم صغارا أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش. نعم.. روي أمره بتصغيرها في حديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها، رفعته بلفظ: «صغّروا الخبز، وأكثروا عدده.. يبارك لكم فيه» .
وكان شيخي العارف الرّبّانيّ ...
أي: يعطيه منها كل أمر نفيس لم يتصوّره أحد من الناس، لجلالته وعظمته، وكونه لم يعهد مثله حتى يعرف قدره.
(قال) العلامة أبو العباس أحمد بن محمد شهاب الدين (القسطلّاني) رحمه الله تعالى (في) كتابه ( «المواهب) اللّدنيّة» في النوع الأول؛ من الفصل الثالث في المقصد الثالث:
(وقد تتبّعت! هل كانت أقراص خبزه صلّى الله عليه وسلم صغارا؛ أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش.
نعم؛ روي أمره بتصغيرها في حديث) عند الديلمي، من طريق عبد الله بن إبراهيم قال: حدثنا جابر بن سليم الأنصاري عن يحيى بن سعيد عن عمرة (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ رفعته بلفظ: «صغّروا الخبز، وأكثروا عدده؛ يبارك لكم فيه» ) وهو واه جدا بحيث ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» . وقال: إنّ المتّهم بوضعه جابر بن سليم الأنصاري.
(وكان شيخي) وقدوتي (العارف الرّبّاني) هو العالم المعلّم، الذي يغذو النّاس بصغار العلوم قبل كبارها. وقال محمد بن الحنفية- لما مات عبد الله بن عبّاس- اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة.
وروي عن علي أنّه قال: الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل نجاة،(2/65)
إبراهيم المتبوليّ ...
وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق. والربّاني، العالم الرّاسخ في العلم والدّين، أو العالم العامل المعلّم، أو العالي الدّرجة في العلم.
وقيل: الرّباني المتألّه العارف بالله تعالى برهان العارفين: أبو إسحاق (إبراهيم) بن علي بن عمر (المتبوليّ) الأنصاري الأحمدي.
والمتبولي نسبة إلى محلة «متبول» : قرية بالجيزة؛ من مصر. وكان إمام الأولياء في عصره، وهو أحد شيوخ سيدي علي الخوّاص.
وله كرامات كثيرة؛ منها أنّه كان يرى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في المنام، فيخبر بذلك أمه؛ فتقول له: يا ولدي؛ إنّما الرجل من يجتمع به في اليقظة. فلمّا صار يجتمع به في اليقظة، ويشاوره في أموره؛ قالت له: الآن قد شرعت في مقام الرّجولية.
وكان إذا جاءه رجل يطلب تسكين شهوته؛ يقول: تطلب مرة أو دائما؟ فإن قال مرة، شدّ وسطه بخيط فما دام كذلك لا تتحرك شهوته، وإن قال أبدا، مسح ظهره فلا يشتهي النّساء حتى يموت. وكراماته كثيرة؛ ذكرها المصنف في «جامع كرامات الأولياء» .
وكان متعبّده في بركة الحاج مشهور، وخرج إلى القدس؛ فمات في الطريق، فدفن بقرية سدود من أرض فلسطين؛ عند سلمان الفارسي سنة: نيف وثمانين وثمانمائة هجرية.
وذكر الشعراني في «الأخلاق المتبولية» أنه عاش مائة وتسع سنين- بتقديم المثنّاة على المهملة-. قال المناوي: وذكر «شارح القاموس» : أنّ من ولده الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد المتبولي «1» . أخذ عن السيوطي وابن حجر المكي وشرح «الجامع الصغير» . انتهى كلام شارح القاموس.
__________
(1) توفي سنة: ألف وثلاث، رحمه الله تعالى «هامش الأصل» .(2/66)