فَتَرَامَيْنَا، وَثَابَ [ (1) ] إلَيْنَا أَصْحَابُنَا، وَثَابَ إلَيْهِمْ أَصْحَابُهُمْ، وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. ثُمّ اتّبَعُوا الْخَنْدَقَ عَلَى حَافّتَيْهِ وَتَبِعْنَاهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَحَارِسِهِمْ، فَكُلّمَا نَمُرّ بِمَحْرِسٍ نَهَضَ مَعَنَا طَائِفَةٌ وَثَبَتَ طَائِفَةٌ، حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى رَاتِجٍ فَوَقَفُوا وَقْفَةً طَوِيلَةً، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُرَيْظَةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ، فَمَا شَعَرْنَا إلّا بِخَيْلِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ يَحْرُسُ، فَيَأْتُونَ مِنْ خَلْفِ رَاتِجٍ، فَلَاقَوْا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاقْتَتَلُوا وَاخْتَلَطُوا، فَمَا كَانَ إلّا حَلْبُ شَاةٍ حَتّى نَظَرْت إلَى خَيْلِ خَالِدٍ مُوَلّيَةً، وَتَبِعَهُ سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ حَتّى رَدّهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. فَأَصْبَحَ خَالِدٌ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَزِرِي عَلَيْهِ وَتَقُولُ: مَا صَنَعْت شَيْئًا فِيمَنْ فِي الْخَنْدَقِ وَلَا فِيمَنْ أَصْحَرَ لَك [ (2) ] . فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا أَقْعُدُ اللّيْلَةَ، وَابْعَثُوا خَيْلًا حَتّى أَنْظُرُ أَيّ شَيْءٍ تَصْنَعُ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: وَاَللهِ، إنّي لَفِي جَوْفِ اللّيْلِ فِي قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ، إلَى أَنْ سَمِعْت الْهَيْعَةَ [ (3) ] ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: يَا خَيْلَ اللهِ! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ «يَا خَيْلَ اللهِ» فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتِهِ فَخَرَجَ مِنْ الْقُبّةِ، فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ الصّحَابَةِ عِنْدَ قُبّتِهِ يَحْرُسُونَهَا، مِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَ: مَا بَالُ النّاسِ؟ قَالَ عَبّادٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا صَوْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، اللّيْلَةَ نَوْبَتُهُ يُنَادِي: «يَا خَيْلَ اللهِ» وَالنّاسُ يَثُوبُونَ إلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ حُسَيْكَةَ مَا بَيْنَ ذُبَابٍ وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] ثاب: أى رجع. (النهاية، ج 1، ص 137) .
[ (2) ] أصحر: برز. (القاموس المحيط، ج 2، ص 67) .
[ (3) ] الهيعة: الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدو. (النهاية، ج 4، ص 261) .(2/466)
وسلم لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ: اذْهَبْ فَانْظُرْ، ثُمّ ارْجِعْ إلَيّ إنْ شَاءَ الله فَأَخْبِرْنِي! قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَقُمْت عَلَى بَابِ الْقُبّةِ أَسْمَعُ كُلّ مَا يَتَكَلّمَانِ بِهِ. قَالَتْ:
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا حَتّى جَاءَهُ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ فِي خيل المشركين، معه مسعود بن رخيلة ابن نُوَيْرَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ سُحْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ ابن رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، فِي خَيْلِ غَطَفَانَ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ.
قَالَتْ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ. وَخَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ، حَتّى أَتَى تِلْكَ الثّغْرَةَ، فَلَمْ يَلْبَث أَنْ رَجَعَ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: صَرَفَهُمْ اللهُ، وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَةُ. قَالَتْ: فَنَامَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ، وَسَمِعْت هَائِعَةً أُخْرَى، فَفَزِعَ فَوَثَبَ فَصَاحَ: يَا عَبّادُ ابن بِشْرٍ! قَالَ: لَبّيْكَ! قَالَ: اُنْظُرْ مَا هَذَا. فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ:
هَذَا ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي خَيْلِ غَطَفَانَ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمّ خَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ إلَى تِلْكَ الثّغْرَةِ، فَلَمْ يَأْتِنَا حَتّى كَانَ السّحَرُ، فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: رَجَعُوا مَفْلُولِينَ، قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَةُ.
ثُمّ صَلّى بِأَصْحَابِهِ الصّبْحَ وَجَلَسَ. فَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ تَقُولُ: قَدْ شَهِدْت مَعَهُ مَشَاهِدَ فِيهَا قِتَالٌ وَخَوْفٌ- الْمُرَيْسِيعَ، وَخَيْبَر، وَكُنّا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي الْفَتْحِ، وُحَنَيْنٍ- لَمْ يَكُنْ فى ذَلِكَ شَيْءٌ أَتْعَبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَخْوَفُ عِنْدَنَا مِنْ الْخَنْدَقِ. وَذَلِكَ أَنّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [ (1) ] ، وَأَنّ قُرَيْظَةَ لَا نَأْمَنُهَا عَلَى الذّرَارِيّ، وَالْمَدِينَةُ تُحْرَسُ حَتّى الصّبَاحِ، يُسْمَعُ تَكْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا حتى يصبحوا
__________
[ (1) ] الحرجة: الشجرة الكثيرة الأغصان. (شرح أبى ذر، ص 159) .(2/467)
خَوْفًا، حَتّى رَدّهُمْ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] [ (1) ] .
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: كُنّا حَوْلَ قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْرُسُهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ نَسْمَعُ غَطِيطَهُ، إذْ [ (2) ] وَافَتْ أَفْرَاسٌ عَلَى سَلْعٍ، فَبَصُرَ بِهِمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَأَخْبَرَنَا بِهِمْ، قَالَ: فَأَمْضَى إلَى الْخَيْلِ،
وَقَامَ عَبّادٌ عَلَى بَابِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ يَنْظُرُنِي، فَرَجَعْت فَقُلْت:
خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ أَشْرَفَتْ، عَلَيْهَا سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، فَرَجَعْت إلَى مَوْضِعِنَا. ثُمّ يَقُولُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: كَانَ لَيْلُنَا بِالْخَنْدَقِ نَهَارًا حَتّى فَرّجَهُ اللهُ.
حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ، عن جابر، وحدّثنى الضّحّاك ابن عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ خَوْفُنَا عَلَى الذّرَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَشَدّ مِنْ خَوْفِنَا مِنْ قُرَيْشٍ! حَتّى فَرّجَ اللهُ ذَلِكَ.
قَالُوا: فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَنَاوَبُونَ بَيْنَهُمْ، فَيَغْدُو أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَيَغْدُو هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَوْمًا، وَيَغْدُو عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمًا، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمًا، فَلَا يَزَالُونَ يُجِيلُونَ خَيْلَهُمْ مَا بَيْنَ الْمَذَادِ إلَى رَاتِجٍ، وَهُمْ فِي نَشَرٍ [ (3) ] مِنْ أَصْحَابِهِمْ، يَتَفَرّقُونَ مَرّةً وَيَجْتَمِعُونَ أُخْرَى، حَتّى عَظُمَ الْبَلَاءُ وَخَافَ النّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا. وَيُقَدّمُونَ رُمَاتَهُمْ- وَكَانَ مَعَهُمْ رُمَاةٌ، حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، وأبو أسامة الجشمىّ، وغيرهم من
__________
[ (1) ] زيادة فى ب.
[ (2) ] فى ب: «إذا أوفت» .
[ (3) ] أى كانوا منتشرين متفرقين. (النهاية، ج 4، ص 144) .(2/468)
أَفْنَاءِ [ (1) ] الْعَرَبِ- فَعَمَدُوا يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ فَتَنَاوَشُوا بِالنّبْلِ سَاعَةً، وَهُمْ جَمِيعًا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وِجَاهَ قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ، وَيُقَالُ عَلَى فَرَسِهِ.
فَيَرْمِي حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ [ (2) ] ، فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَرّقَ اللهُ وَجْهَك فِي النّارِ!
وَيُقَال أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ رَمَاهُ، وَكَانَ دَارِعًا. فَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: كُنّا فِي أُطُمِ بَنِي حَارِثَةَ قَبْلَ الْحِجَابِ وَمَعَنَا أُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَمَرّ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِ رَدْعٌ خَلُوقٌ [ (3) ] مَا رَأَيْت أَحَدًا فِي الْخَلُوقِ مِثْلَهُ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ، مُشْمِرَةٌ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، وَاَللهِ، إنّي لَأَخَافُ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مِنْ تَشْمِيرَةِ دِرْعِهِ مَا أَصَابَهُ، فَمَرّ يُرَفّلُ فِي يَدِهِ الْحَرْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ:
لَبِثَ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا [ (4) ] حَمَلْ [ (5) ] ... مَا أَحَسَنَ الْمَوْتَ إذَا حَانَ الْأَجَلْ
وَأُمّهُ تَقُولُ: الْحَقْ بِرَسُولِ اللهِ يَا بُنَيّ! وَقَدْ وَاَللهِ تَأَخّرْت، فَقُلْت:
وَاَللهِ يَا أُمّ سَعْدٍ، لَوَدِدْت أَنّ دِرْعَ سَعْدٍ أَسْبَغُ عَلَى بَنَانِهِ. قَالَتْ أُمّ سَعْدٍ:
يَقْضِي اللهُ مَا هُوَ قَاضٍ! فَقَضَى لَهُ أَنْ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ، وَلَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنّهُ قَدْ رُمِيَ، تَقُولُ أُمّهُ: وَا جبلاه!
__________
[ (1) ] يقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (الصحاح، ص 2457) .
[ (2) ] الأكحل: عرق فى اليد، أو عرق الحياة. (القاموس المحيط، ج 4، ص 44) .
[ (3) ] فى الأصل: «درع حلوق» ، وما أثبتناه هو قراءة ب. والردع: أثر الطيب فى الجسد.
(القاموس المحيط، ج 3، ص 29) . والخلوق: طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. (النهاية، ج 1، ص 317) .
[ (4) ] الهيجا: الحرب. (الصحاح، ص 352) .
[ (5) ] قال السهيلي: هو بيت تمثل به، عنى به حمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل بن كعب ابن عليم بن جناب الكلبي. (الروض الأنف، ج 2، ص 192) .(2/469)
ثُمّ إنّ رُؤَسَاءَهُمْ أَجَمَعُوا أَنْ يَغْدُوَا جَمِيعًا، فَغَدَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، فِي عِدّةٍ، فَجَعَلُوا يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ، وَمَعَهُ رُؤَسَاءُ غَطَفَانَ- عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَمَسْعُودُ [ (1) ] بْنُ رُخَيْلَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَمِنْ سُلَيْمٍ رُؤَسَاؤُهُمْ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ. وَتَرَكُوا الرّجَالَ مِنْهُمْ خُلُوفًا، يَطْلُبُونَ مُضِيقًا يُرِيدُونَ يَقْتَحِمُونَ خَيْلَهُمْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَانْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ [ (2) ] قَدْ أَغْفَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا يُكْرِهُونَ خَيْلَهُمْ وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الْمَكِيدَةُ، مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَصْنَعُهَا وَلَا تَكِيدُهَا. قَالُوا [ (3) ] : إنّ مَعَهُ رَجُلًا فَارِسِيّا، فَهُوَ الّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا. قَالُوا:
فَمَنْ هُنَاكَ إذًا؟ فَعَبَرَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار ابن الْخَطّابِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَقَامَ سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وَرَاءِ الْخَنْدَقِ لَا يَعْبُرُونَ، وَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَلَا تَعْبُرُ؟ قَالَ: قَدْ عَبَرْتُمْ، فَإِنْ احْتَجْتُمْ إلَيْنَا عَبَرْنَا. فَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ وَيَقُولُ:
وَلَقَدْ بُحِحْتُ مِنْ النّدَا ... ءِ لِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَعَمْرٌو يَوْمَئِذٍ ثَائِرٌ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا فَارْتُثّ جَرِيحًا فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، وَحَرّمَ الدّهْنَ حَتّى يَثْأَرَ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرٌ- يُقَالُ بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً.
فَلَمّا دَعَا إلَى الْبِرَازِ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَنَا أُبَارِزُهُ يَا رَسُولَ اللهِ! ثَلَاثَ مَرّاتٍ. وَإِنّ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَأَنّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطّير، لمكان
__________
[ (1) ] فى الأصل: «سعود بن رحيلة» ، والتصحيح من ب، ومن ابن عبد البر.
(الاستيعاب، ص 1392) .
[ (2) ] فى ب: «إلى مكان ضيق» .
[ (3) ] فى ب: «فيقولون» .(2/470)
عَمْرٍو وَشَجَاعَتِهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ، وَعَمّمَهُ وَقَالَ:
اللهُمّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ! قَالَ: وَأَقْبَلَ عَمْرٌو يَوْمَئِذٍ وَهُوَ فَارِسٌ وَعَلِيّ رَاجِلٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّك كُنْت تَقُولُ فِي الْجَاهِلِيّةِ: لَا يَدْعُونِي أَحَدٌ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ إلّا قَبِلْتهَا! قَالَ: أَجَلْ! قَالَ عَلِيّ: فَإِنّي أَدْعُوك أَنْ تشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُسْلِمَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخّرْ هَذَا عَنّي. قَالَ: فَأُخْرَى، تَرْجِعُ إلَى بِلَادِك، فَإِنْ يَكُنْ مُحَمّدٌ صَادِقًا كُنْت أَسْعَدَ [النّاسِ] بِهِ، وَإِنْ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ الّذِي تُرِيدُ. قَالَ:
هَذَا مَا لَا تَتَحَدّثُ بِهِ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَبَدًا، وَقَدْ نَذَرْت مَا نَذَرْت وَحَرّمْت الدّهْنَ. قَالَ: فَالثّالِثَةُ؟ قَالَ: الْبِرَازُ. قَالَ فَضَحِكَ عَمْرٌو ثُمّ قَالَ: إنّ هَذِهِ الْخَصْلَةُ مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُرَوّمُنِي عَلَيْهَا! إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَقْتُلَ مِثْلَك، وَكَانَ أَبُوك لِي نَدِيمًا، فَارْجِعْ، فَأَنْتَ غُلَامٌ حَدَثٌ، إنّمَا أَرَدْت شَيْخَيْ قُرَيْشٍ! أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَإِنّي أَدْعُوك إلَى الْمُبَارَزَةِ فَأَنَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك.
فَأَسِفَ عَمْرٌو وَنَزَلَ وَعَقَلَ فَرَسَهُ فَكَانَ جَابِرٌ يُحَدّثُ يَقُولُ: فَدَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ وَثَارَتْ بَيْنَهُمَا غَبَرَةٌ فَمَا نَرَاهُمَا، فَسَمِعْنَا التّكْبِيرَ تَحْتَهَا فَعَرَفْنَا أَنّ عَلِيّا قَتَلَهُ. فَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ الّذِينَ فِي الْخَنْدَقِ هَارِبِينَ، وطفرت بهم خيلهم، إلّا أن نوفل ابن عَبْدِ اللهِ وَقَعَ بِهِ فَرَسُهُ فِي الْخَنْدَقِ، فَرُمِيَ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قُتِلَ. وَرَجَعُوا هَارِبِينَ، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَنَاوَشُوهُمْ سَاعَةً. وَحَمَلَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِالرّمْحِ، حَتّى إذَا وَجَدَ عُمَرُ مَسّ الرّمْحِ رَفَعَهُ عَنْهُ وَقَالَ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ، فَاحْفَظْهَا يَا ابْنَ الْخَطّابِ! إنّي قَدْ كُنْت حَلَفْت لَا تُمَكّنَنِي يَدَايَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَدًا.
فَانْصَرَفَ ضِرَارٌ رَاجِعًا إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ قِيَامٌ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ.(2/471)
وَيُقَالُ: حَمَلَ الزّبَيْرُ عَلَى نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِالسّيْفِ حَتّى شَقّهُ بِاثْنَيْنِ وَقُطِعَ أَنَدُوجُ [ (1) ] سَرْجِهِ- وَالْأُنْدُوجُ: اللّبْدُ الّذِي يَكُونُ تَحْتَ السّرْجِ- وَيُقَالُ إلَى كَاهِلِ الْفَرَسِ. فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، مَا رَأَيْنَا سَيْفًا مِثْلَ سَيْفِك! فَيَقُولُ: وَاَللهِ، مَا هُوَ بِالسّيْفِ وَلَكِنّهَا السّاعِدُ وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ وَهُبَيْرَةُ فَلَحِقَا بِأَبِي سُفْيَانَ، وَحَمَلَ الزّبَيْرُ عَلَى هُبَيْرَةَ فَضَرَبَ ثُفْرَ [ (2) ] فَرَسِهِ فَقَطَعَ ثُفْرَ فَرَسِهِ وَسَقَطَتْ دِرْعٌ كَانَ مُحْقِبَهَا الْفَرَسَ، فَأَخَذَ الزّبَيْرُ الدّرْعَ، وَفَرّ عِكْرِمَةُ وَأَلْقَى رُمْحَهُ. فَلَمّا رَجَعُوا إلَى أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ يَكُنْ لَنَا فِيهِ شَيْءٌ، ارْجِعُوا! فَنَفَرَتْ [ (3) ] قُرَيْشٌ فَرَجَعَتْ إلَى الْعَقِيقِ، وَرَجَعَتْ غَطَفَانُ إلَى مَنَازِلِهَا، وَاتّعَدُوا يَغْدُونَ جَمِيعًا وَلَا يَتَخَلّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَبَاتَتْ قُرَيْشٌ يُعَبّئُونَ أَصْحَابَهُمْ، وَبَاتَتْ غَطَفَانُ يُعَبّئُونَ أَصْحَابَهُمْ، وَوَافَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ. وَعَبّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَوَعَدَهُمْ النّصْرَ إنْ صَبَرُوا، وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ جَعَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ الْحِصْنِ مِنْ كَتَائِبِهِمْ [ (4) ] فَأَخَذُوا بِكُلّ وَجْهٍ مِنْ الْخَنْدَقِ.
فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَاتَلُونَا يَوْمَهُمْ وَفَرّقُوا كَتَائِبَهُمْ، وَنَحْوًا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً غَلِيظَةً فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى هَوِيّ مِنْ اللّيْلِ، مَا يَقْدِرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَزُولُوا مِنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَمَا يَقْدِرُ [ (5) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلَاةِ الظّهْرِ
__________
[ (1) ] فى ب: «ابذوج» .
[ (2) ] الثفر، بالتحريك: السيرفي مؤخر السرج. (القاموس المحيط، ج 1، ص 383) .
[ (3) ] فى ب: «فتفرقت» .
[ (4) ] فى الأصل: «كثائبهم» ، والتصحيح من نسخة ب.
[ (5) ] فى ب: «وما قدر» .(2/472)
وَلَا الْعَصْرِ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا الْعِشَاءِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا صَلّيْنَا! فَيَقُولُ: وَلَا أَنَا وَاَللهِ مَا صَلّيْت!
حَتّى كَشَفَهُمْ اللهُ تَعَالَى فَرَجَعُوا مُتَفَرّقِينَ. فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَنْزِلِهَا، وَرَجَعَتْ غَطَفَانُ إلَى مَنْزِلِهَا، وَانْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ إلَى قُبّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَلَى الْخَنْدَقِ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ إذْ كَرّتْ خَيْلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يطلبون غرّة، عليهم خالد بن الوليد، فناوشوهم سَاعَةً وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ وَحْشِيّ، فَزَرَقَ الطّفَيْلَ بْنَ النّعْمَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بِمِزْرَاقِهِ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى حَمْزَةَ وَالطّفَيْلَ بِحَرْبَتِي وَلَمْ يُهِنّي بِأَيْدِيهِمَا. فَلَمّا صَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَوْضِعِ قُبّتِهِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذّنَ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذّنَ وَأَقَامَ لِلظّهْرِ، وَأَقَامَ بَعْدُ لِكُلّ صَلَاةٍ إقَامَةً إقَامَةً.
وَقَدْ حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ- وَهُوَ أَثْبَتُ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَنَا- قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيّ مِنْ اللّيْلِ حَتّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزّ وَجَلّ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (1) ] .
فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَمَرَهُ، فَأَقَامَ صَلَاةَ الظّهْرِ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا. ثُمّ أَقَامَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمّ أَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمّ أَقَامَ الْعِشَاءَ فَصَلّاهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَا. قَالَ:
وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [ (2) ] .
__________
[ (1) ] سورة 33 الأحزاب 25.
[ (2) ] سورة 2 البقرة 239.(2/473)
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى- يَعْنِي الْعَصْرَ- مَلَأَ الله أجوافهم وقبورهم نارا! وَأَرْسَلَتْ بَنُو مَخْزُومٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يطلبون جيفة نوفل ابن عَبْدِ اللهِ يَشْتَرُونَهَا بِالدّيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّمَا هِيَ جِيفَةُ حِمَارٍ! وَكَرِهَ ثَمَنَهُ. فَلَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِتَالٌ جَمِيعًا حَتّى انْصَرَفُوا، إلّا أَنّهُمْ لَا يَدْعُونَ يَبْعَثُونَ الطّلَائِعَ بِاللّيْلِ، يَطْمَعُونَ فِي الْغَارَةِ. وَخَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ طَلِيعَتَانِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا، فَالْتَقَيَا وَلَا يَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَا يَظُنّونَ إلّا أَنّهُمْ الْعَدُوّ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَةٌ وَقَتْلٌ، وَلَسْنَا نَعْرِفُ مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يُسَمّ لَنَا. ثُمّ نَادَوْا بِشَعَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَ شَعَارُهُمْ: حم لَا يُنْصَرُونَ! فَجَاءُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِرَاحُكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ. فَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا دَنَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ نَادَوْا بِشَعَارِهِمْ، لِأَنْ يَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَلَا يَرْمُونَ بِنَبْلٍ وَلَا بِحَجَرٍ. كَانُوا يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ بِاللّيْلِ حَتّى الصّبَاحِ يَتَنَاوَبُونَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا، يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ حَتّى يُصْبِحُوا. قَالَ: فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي يَطْلُعُونَ إلَى [ (1) ] أَهْلِيهِمْ، فَيَقُولُ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَإِذَا أَلَحّوا فِي كَثْرَةِ مَا يَسْتَأْذِنُونَهُ يَقُولُ: مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ سِلَاحَهُ فَإِنّي لَا آمَنُ بَنِي قُرَيْظَةَ، هُمْ عَلَى طَرِيقِكُمْ. وَكَانَ كُلّ مَنْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ إنّمَا يَسْلُكُونَ عَلَى سَلْعٍ حَتّى يدخلوا المدينة، ثم يذهبون إلى العالية.
__________
[ (1) ] فى ب: «يطلعون أهليهم» .(2/474)
فَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَيْفِيّ مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي السّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي بَيْتِهِ فَوَجَدَهُ يُصَلّي، قَالَ:
فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ. قَالَ: فَسَمِعْت تَحْرِيكًا تَحْتَ سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا حَيّةٌ، فَقُمْت لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إلَيّ أَنْ اجْلِسْ. فَلَمّا جَلَسْت سَلّمَ وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدّارِ، فَقَالَ لِي: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: إنّهُ كَانَ فِيهِ فَتًى حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ يَسْتَأْذِنُهُ بِأَنْصَافِ النّهَارِ لِيَطّلِعَ إلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ سِلَاحَك فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْك بَنِي قُرَيْظَة. قَالَ: فَأَخَذَ الرّجُلُ سِلَاحَهُ وَذَهَبَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَهَيّأَ لَهَا الرّمْحَ لِيَطْعَنَهَا، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ: اُكْفُفْ عَلَيْك رُمْحَك حَتّى تَرَى مَا فِي بَيْتِك! فَكَفّ وَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِحَيّةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ، فَرَكَزَ فِيهَا رُمْحَهُ فانتظمها فيه، ثم خرج به فَنَصَبَهُ فِي الدّارِ، فَاضْطَرَبَتْ الْحَيّةُ فِي رَأْسِ الرّمْحِ وَخَرّ الْفَتَى مَيّتًا، فيما نَدْرِي أَيّهمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا، الْفَتَى أَوْ الْحَيّةُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَجِئْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَنْ يُحْيِيَهُ. فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ.
ثُمّ قَالَ: إنّ بِالْمَدِينَةِ جِنّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ.
فَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: بَعَثْنَا ابْنَ أُخْتِنَا ابْنَ عُمَرَ يَأْتِينَا بِطَعَامٍ وَلُحُفٍ وَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَخَرَجَ ابْنُ عُمَرَ حَتّى إذَا هَبَطَ. مِنْ سَلْعٍ- وَذَلِكَ لَيْلًا- غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ حَتّى أَصْبَحَ. فَاهْتَمَمْنَا بِهِ فَخَرَجْت أَطْلُبُهُ فَأَجِدُهُ نَائِمًا، وَالشّمْسُ قَدْ ضَحّتْهُ، فَقُلْت: الصّلَاةُ، أَصَلّيْت الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا. قُلْت: فَصَلّ. فَقَامَ سريعا(2/475)
إلَى الْمَاءِ، وَذَهَبَتْ إلَى مَنْزِلِنَا بِالْمَدِينَةِ فَجِئْت بِتَمْرٍ وَلِحَافٍ وَاحِدٍ، فَكُنّا نَلْبَسُ ذَلِكَ اللّحَافَ جَمِيعًا- مَنْ قَامَ مِنّا فِي الْمَحْرَسِ ذَهَبَ مَقْرُورًا ثُمّ رَجَعَ حَتّى يَدْخُلَ فِي اللّحَافِ، حَتّى فَرّجَ اللهُ ذَلِكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُصِرْت بِالصّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدّبُورِ.
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: جَاءَتْ الْجَنُوبُ إلَى الشّمَالِ فَقَالَتْ: انْطَلِقِي بِنَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَتْ الشّمَالُ: إنّ الْحُرّةَ لَا تَسْرِي بِلَيْلٍ. فَبَعَثَ اللهُ عَزّ وَجَلّ الصّبَا، فَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ فَسَاطِيطَهُمْ.
حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رِيَاحٍ الْأَنْصَارِيّ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَبْعَثُونَ إلَيْهِمْ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ ابْنَتَهَا بِجَفْنَةِ تَمْرٍ عَجْوَةٍ فِي ثَوْبِهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيك بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، وَخَالِك عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا.
فَانْطَلَقَتْ الْجَارِيَةُ حَتّى تَأْتِيَ الْخَنْدَقَ، فَتَجِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ وَهِيَ تَلْتَمِسُهُمَا، فَقَالَ: تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ، مَا هَذَا مَعَك؟
قَالَتْ: بَعَثَتْنِي أُمّي إلَى أَبِي وَخَالِي بِغَدَائِهِمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاتِيهِ! قَالَتْ: فَأَعْطَيْته فَأَخَذَهُ فِي كَفّيْهِ، ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبٍ فَبُسِطَ لَهُ، وَجَاءَ بِالتّمْرِ فَنَثَرَهُ عَلَيْهِ فَوْقَ الثّوْبِ، فَقَالَ لِجُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ: نَادِ [ (1) ] بِأَهْلِ الْخَنْدَقِ أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ.
فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ يَأْكُلُونَ مِنْهُ، حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ وَإِنّهُ لَيَفِيضُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ.
وَحَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن معتّب، قال: أرسلت
__________
[ (1) ] فى ب، ت «اصرخ بأهل الخندق» .(2/476)
أُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّةُ بِقَعْبَةٍ فِيهَا حَيْسٌ [ (1) ] إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فِي قُبّتِهِ وَهُوَ عِنْدَ أُمّ سَلَمَةَ، فَأَكَلَتْ أُمّ سَلَمَةَ حَاجَتَهَا، ثُمّ خَرَجَ بِالْبَقِيّةِ فَنَادَى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى عَشَائِهِ، فَأَكَلَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ حَتّى نَهِلُوا وَهِيَ كَمَا هِيَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قَالَ: حُصِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وأصحابه بضع عشرة حتى حلص إلَى كُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ الْكَرْبُ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ إنّي أَنْشُدُك عَهْدَك وَوَعْدَك، اللهُمّ إنّك إنْ تَشَأْ لا تعبد!
فبيناهم عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْحَالِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ- وَلَمْ يَحْضُرْ الْخَنْدَقَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ وَلَا قَوْمُهُ، وَيُقَالُ حَضَرَهَا الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا.
وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَيْهِ وَإِلَى عُيَيْنَةَ: أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَكُمْ ثُلُثَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ تَرْجِعَانِ بِمَنْ مَعَكُمْ وَتُخَذّلَانِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ؟ قَالَا:
تُعْطِينَا نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ. فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَزِيدَهُمَا عَلَى الثّلُثِ، فَرَضِيَا بِذَلِكَ وَجَاءَا فِي عَشَرَةٍ مِنْ قَوْمِهِمَا حِينَ [ (2) ] تَقَارَبَ الْأَمْرُ، فَجَاءُوا وَقَدْ أَحَضَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأَحْضَرَ الصّحِيفَةَ وَالدّوَاةَ، وَأَحْضَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَعْطَاهُ الصّحِيفَةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكْتُبَ الصّلْحَ بَيْنَهُمْ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ قَائِمٌ عَلَى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ. فَأَقْبَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر منه نواه، وربما جعل فيه سويق.
(القاموس المحيط، ج 2، ص 209) .
[ (2) ] فى ب: «حتى» .(2/477)
وَلَا يَدْرِي بِمَا كَانَ مِنْ الْكَلَامِ، فَلَمّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ عُيَيْنَةُ مَادّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ مَا يُرِيدُونَ، فَقَالَ: يَا عَيْنَ الْهِجْرِسِ [ (1) ] ، اقْبِضْ رِجْلَيْك! أَتَمُدّ رِجْلَيْك بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ؟ وَمَعَهُ الرّمْحُ. وَاَللهِ، لَوْلَا رَسُولُ اللهِ لَأَنْفَذْتُ خُصْيَتَيْك بِالرّمْحِ! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانَ أَمْرًا مِنْ السّمَاءِ فَامْضِ له، وإن كان غير ذلك فو الله لَا نُعْطِيهِمْ إلّا السّيْفَ! مَتَى طَمِعُوا [ (2) ] بِهَذَا مِنّا؟ فَأُسْكِتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُتّكِئٌ عَلَيْهِمَا، وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ، فَتَكَلّمَ بِكَلَامٍ يُخْفِيهِ، وَأَخْبَرَهُمَا بِمَا قَدْ أَرَادَ مِنْ الصّلْحِ.
فَقَالَا: إنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ السّمَاءِ فَامْضِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ فِيهِ وَلَك فِيهِ هَوًى فَامْضِ لِمَا كَانَ لَك فِيهِ هَوًى، فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ إنّمَا هُوَ الرّأْيُ فَمَا لَهُمْ عِنْدَنَا إلّا السّيْفُ. وَأَخَذَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْكِتَابَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي رَأَيْت الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسِ وَاحِدَةٍ فَقُلْت أُرْضِيهِمْ وَلَا أُقَاتِلُهُمْ. فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانُوا لَيَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ [ (3) ] فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ الْجَهْدِ، مَا طَمِعُوا بِهَذَا مِنّا قَطّ، أَنْ يَأْخُذُوا تَمْرَةً إلّا بِشِرًى أو قِرًى! فَحِينَ أَتَانَا اللهُ تَعَالَى بِك، وَأَكْرَمَنَا بِك، وَهَدَانَا بِك نُعْطِي الدّنِيّةَ! لَا نُعْطِيهِمْ أَبَدًا إلّا السّيْفَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شُقّ الْكِتَابُ. فَتَفَلَ سَعْدٌ فِيهِ، ثُمّ شَقّهُ وَقَالَ: بَيْنَنَا السّيْفُ! فَقَامَ عُيَيْنَةُ وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا وَاَللهِ لَلّتِي تَرَكْتُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الْخُطّةِ الّتِي أخذتم،
__________
[ (1) ] الهجرس: ولد الثعلب، والهجرس أيضا القرد. (النهاية، ج 4، ص 240) .
[ (2) ] فى الأصل: «متى طمعتم بهذا منا» ، وما أثبتناه من نسخة ب.
[ (3) ] العلهز: هو شيء يتخذونه فى سنى المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه، وقيل كانوا يخلطون فيه القردان. (النهاية، ج 3، ص 124) .(2/478)
وَمَا لَكُمْ بِالْقَوْمِ طَاقَةٌ. فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ: يَا عُيَيْنَةُ، أَبِالسّيْفِ تُخَوّفُنَا؟
سَتَعْلَمُ أَيّنَا أجزع! وإلّا فو الله لَقَدْ كُنْت أَنْتَ وَقَوْمَك تَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ وَالرّمّةَ [ (1) ] مِنْ الْجَهْدِ فَتَأْتُونَ هَاهُنَا مَا تَطْمَعُونَ بِهَذَا مِنّا إلّا قِرًى أَوْ شِرًى، وَنَحْنُ لَا نَعْبُدُ شَيْئًا. فَلَمّا هَدَانَا اللهُ وَأَيّدَنَا بِمُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُمُونَا هَذِهِ الْخُطّةَ! أَمَا وَاَللهِ، لَوْلَا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ مَا وَصَلْتُمْ إلَى قَوْمِكُمْ.
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعُوا، بَيْنَنَا السّيْفُ!
رَافِعًا صَوْتَهُ.
فَرَجَعَ عُيَيْنَةُ وَالْحَارِثُ وَهُمَا يَقُولَانِ: وَاَللهِ، مَا نَرَى أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَقَدْ أُنْهِجَتْ لِلْقَوْمِ بَصَائِرُهُمْ! وَاَللهِ، مَا حَضَرْت إلّا كُرْهًا لِقَوْمٍ غَلَبُونِي، وَمَا مَقَامُنَا بِشَيْءٍ، مَعَ أَنّ قُرَيْشًا إنْ عَلِمَتْ بِمَا عَرَضْنَا عَلَى مُحَمّدٍ عَرَفْت أَنّا قَدْ خَذَلْنَاهَا وَلَمْ نَنْصُرْهَا. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ وَاَللهِ ذَلِكَ! قَالَ الْحَارِثُ: أَمَا إنّا لَمْ نُصِبْ بِتَعَرّضِنَا لِنَصْرِ قُرَيْشٍ عَلَى مُحَمّدٍ، وَاَللهِ لَئِنْ ظَهَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مُحَمّدٍ لَيَكُونَن الْأَمْرُ فِيهَا دُونَ سَائِرِ الْعَرَبِ، مَعَ أَنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا ظَاهِرًا. وَاَللهِ، لَقَدْ كَانَ أَحْبَارُ يَهُودِ خَيْبَرَ وَإِنّهُمْ يُحَدّثُونَ أَنّهُمْ يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنّهُ يُبْعَثُ نَبِيّ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صِفَتِهِ. قَالَ عُيَيْنَةُ:
إنّا وَاَللهِ مَا جِئْنَا نَنْصُرُ قُرَيْشًا. وَلَوْ اسْتَنْصَرْنَا قُرَيْشًا مَا نَصَرَتْنَا وَلَا خَرَجْت مَعَنَا مِنْ حرمها. ولكنى كنت أطمع أن تأخذ تَمْرَ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ لَنَا بِهِ ذِكْرٌ مَعَ مَا لَنَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْغَنِيمَةِ، مَعَ أَنّا نَنْصُرُ حُلَفَاءَنَا مِنْ الْيَهُودِ فَهُمْ جَلَبُونَا إلَى مَا هَاهُنَا. قَالَ الْحَارِثُ: قَدْ وَاَللهِ أَبَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إلّا السّيْفَ، وَاَللهِ لَتُقَاتِلُنّ [ (2) ] عَنْ هَذَا السّعَفِ. مَا بَقِيَ مِنْهَا رَجُلٌ مقيم [ (3) ] ، وقد أجدب
__________
[ (1) ] الرمة، بالكسر: العظام البالية. (القاموس المحيط. ج 4، ص 122) .
[ (2) ] فى الأصل: «لتقاتمن على» . وما أثبتناه من نسخة ب.
[ (3) ] فى ب: «مقيم مقامنا» .(2/479)
الْجَنَابُ وَهَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: لَا شَيْءَ. فَلَمّا أَتَيَا مَنْزِلَهُمَا جَاءَتْهُمَا غَطَفَانُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكُمْ؟ قَالُوا: لَمْ يَتِمّ الْأَمْرُ، رَأَيْنَا قَوْمًا عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَذْلِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ صَاحِبِهِمْ، وَقَدْ هَلَكْنَا وَهَلَكَتْ قُرَيْشٌ، وَقُرَيْشٌ تَنْصَرِفُ وَلَا تُكَلّمُ مُحَمّدًا! وَإِنّمَا يَقَعُ حَرّ مُحَمّدٍ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، إذَا وَلّيْنَا جَثَمَ عَلَيْهِمْ فَحَصَرَهُمْ جُمُعَةً حَتّى يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ. قَالَ الْحَارِثُ: بُعْدًا وَسُحْقًا! مُحَمّدٌ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ الْيَهُودِ.
ذِكْرُ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ
حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَهْلَ شَرَفٍ وَأَمْوَالٍ، وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَخْلَ لَنَا وَلَا كَرْمَ، وَإِنّمَا نَحْنُ أَهْلُ شَاةٍ وَبَعِيرٍ. فَكُنْت أَقْدَمُ عَلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَأُقِيمُ عِنْدَهُمْ الْأَيّامَ، أَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ، ثُمّ يُحَمّلُونَنِي تَمْرًا عَلَى رِكَابِي مَا كَانَتْ، فَأَرْجِعُ إلَى أَهْلِي. فَلَمّا سَارَتْ الْأَحْزَابُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرْت مَعَ قَوْمِي، وَأَنَا عَلَى دِينِي، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِفًا، فَأَقَامَتْ الْأَحْزَابُ مَا أَقَامَتْ حَتّى أَجْدَبَ الْجَنَابُ وَهَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ، وَقَذَفَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ. وَكَتَمْت قَوْمِي إسْلَامِي،
فَأَخْرُجُ حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَأَجِدُهُ يُصَلّي، فَلَمّا رَآنِي جَلَسَ ثُمّ قَالَ: مَا جَاءَ بِك يَا نُعَيْمُ؟ قُلْت: إنّي جِئْت أُصَدّقُك وَأَشْهَدُ أَنّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، فَمُرْنِي بِمَا شئت يا رسول الله، فو الله لَا تَأْمُرُنِي بِأَمْرٍ إلّا مَضَيْت لَهُ، قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِي وَلَا غَيْرُهُمْ.
قَالَ: مَا اسْتَطَعْت أَنْ تُخَذّلَ النّاسَ فَخَذّلْ! قَالَ، قُلْت: أفعل، ولكن(2/480)
يَا رَسُولَ اللهِ أَقُولُ فَأَذِنَ لِي. قَالَ: قُلْ مَا بَدَا لَك فَأَنْتَ فِي حِلّ.
قَالَ:
فَذَهَبْت حَتّى جِئْت بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمّا رَأَوْنِي رَحّبُوا وَأَكْرَمُوا وَحَيّوْا وَعَرَضُوا عَلَيّ الطّعَامَ وَالشّرَابَ، فَقُلْت: إنّي لَمْ آتِ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، إنّمَا جِئْتُكُمْ نَصَبًا بِأَمْرِكُمْ، وَتَخَوّفًا عَلَيْكُمْ، لِأُشِيرَ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ وَخَاصّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ وَأَنْتَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تُحِبّ مِنْ الصّدْقِ وَالْبِرّ. قَالَ: فَاكْتُمُوا عَنّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. قَالَ: إنّ أَمْرَ هَذَا الرّجُلُ بَلَاءٌ- يَعْنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَنَعَ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النّضِيرِ، وَأَجْلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ بَعْدَ قَبْضِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ سَارَ فِينَا فَاجْتَمَعْنَا مَعَهُ لِنَصْرِكُمْ، وَأَرَى الْأَمْرَ قَدْ تَطَاوَلَ كَمَا تَرَوْنَ، وَإِنّكُمْ وَاَللهِ، مَا أَنْتُمْ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ مِنْ مُحَمّدٍ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمّا قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ فَهُمْ قَوْمٌ جَاءُوا سَيّارَةً حَتّى نَزَلُوا حَيْثُ رَأَيْتُمْ، فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ، أَوْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ انْشَمَرُوا إلَى بِلَادِهِمْ.
وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، وَقَدْ غَلُظَ عَلَيْهِمْ جَانِبُ مُحَمّدٍ، أَجَلَبُوا عَلَيْهِ أَمْسِ إلَى اللّيْلِ، فَقَتَلَ رَأْسَهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَهَرَبُوا مِنْهُ [ (1) ] ، مُجَرّحِينَ وَهُمْ لَا غَنَاءَ [ (2) ] بِهِمْ عَنْكُمْ، لِمَا تَعْرِفُونَ عِنْدَكُمْ. فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ قُرَيْشٍ وَلَا غَطَفَانَ حَتّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ تَسْتَوْثِقُونَ بِهِ مِنْهُمْ أَلّا يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا. قَالُوا: أَشَرْت بِالرّأْيِ عَلَيْنَا وَالنّصْحِ. وَدَعَوْا لَهُ وَتَشَكّرُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ فَاعِلُونَ. قَالَ:
وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي. قَالُوا: نَعَمْ، نَفْعَلُ. ثُمّ خَرَجَ إلَى أَبِي سفيان بن حرب في رجال من قريش فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، قَدْ جِئْتُك بِنَصِيحَةٍ فَاكْتُمْ عَنّي. قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: تَعْلَمُ أَنّ قُرَيْظَةَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بينهم
__________
[ (1) ] فى ب: «هربوا منه هربا» .
[ (2) ] فى ب: «لا عناء بهم» .(2/481)
وَبَيْنَ مُحَمّدٍ، وَأَرَادُوا إصْلَاحَهُ وَمُرَاجَعَتَهُ. أَرْسَلُوا إلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُمْ: إنّا سَنَأْخُذُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا نُسَلّمُهُمْ إلَيْك تَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ وَتَرُدّ جَنَاحَنَا الّذِي كَسَرْت إلَى دِيَارِهِمْ- يَعْنُونَ بَنِي النّضِيرِ- وَنَكُونُ مَعَك عَلَى قُرَيْشٍ حَتّى نَرُدّهُمْ عَنْك. فَإِنْ بَعَثُوا إلَيْكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ رَهْنًا فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا وَاحْذَرُوهُمْ عَلَى أَشْرَافِكُمْ، وَلَكِنْ اُكْتُمُوا عَنّي وَلَا تَذْكُرُوا مِنْ هَذَا حَرْفًا. قَالُوا: لَا نَذْكُرُهُ. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إنّي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي، وَاعْلَمُوا أَنّ قُرَيْظَةَ بَعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ- وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ- فَاحْذَرُوا أَنْ تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ رِجَالِكُمْ. وَكَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَدّقُوهُ، وَأَرْسَلَتْ الْيَهُودُ غَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ إلَى أَبِي سفيان بن حرب وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ: إنّ ثَوَاءَكُمْ قَدْ طَالَ وَلَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا وَلَيْسَ الّذِي تَصْنَعُونَ بِرَأْيٍ، إنّكُمْ لَوْ وَعَدْتُمُونَا يَوْمًا تَزْحَفُونَ [ (1) ] فِيهِ إلَى مُحَمّدٍ، فَتَأْتُونَ مِنْ وَجْهٍ وَتَأْتِي غَطَفَانُ مِنْ وَجْهٍ وَنَخْرُجُ نَحْنُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، لَمْ يُفْلِتْ مِنْ بَعْضِنَا. وَلَكِنْ لَا نَخْرُجُ مَعَكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا إلَيْنَا بِرِهَانٍ مِنْ أَشْرَافِكُمْ يَكُونُونَ عِنْدَنَا، فَإِنّا نَخَافُ إنْ مَسّتْكُمْ الْحَرْبُ وَأَصَابَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ شَمّرْتُمْ وَتَرَكْتُمُونَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَقَدْ نَابَذْنَا مُحَمّدًا بِالْعَدَاوَةِ. فَانْصَرَفَ الرّسُولُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا مَا قَالَ نُعَيْمٌ. فَخَرَجَ نُعَيْمٌ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، أَنَا عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ حَتّى جَاءَ رَسُولُكُمْ إلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الرّهَانَ، فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَمّا وَلّى قَالَ: لَوْ طَلَبُوا مِنّي عَنَاقًا [ (2) ] مَا رَهَنْتهَا! أَنَا أَرْهَنُهُمْ سَرَاةَ أَصْحَابِي يَدْفَعُونَهُمْ إلَى مُحَمّدٍ يَقْتُلُهُمْ! فَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ حَتّى تَأْخُذُوا الرّهْنَ، فَإِنّكُمْ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مُحَمّدًا وَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ تَكُونُوا عَلَى مُوَاعَدَتِكُمْ [ (3) ] الأولى. قالوا:
__________
[ (1) ] فى ب: «ترجعون» .
[ (2) ] العناق: الأنثى من أولاد المعز. (القاموس المحيط، ج 3، ص 269) .
[ (3) ] فى ب: «موادعتكم» .(2/482)
تَرْجُو ذَلِكَ يَا نُعَيْمُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: فَإِنّا لَا نُقَاتِلُهُ.
وَاَللهِ، لَقَدْ كُنْت لِهَذَا كَارِهًا وَلَكِنْ حُيَيّ رَجُلٌ مَشْئُومٌ. قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا:
إنْ انْكَشَفَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ عَنْ مُحَمّدٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنّا إلّا السّيْفُ. قَالَ نُعَيْمٌ: لَا تَخْشَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ. قَالَ الزّبَيْرُ: بَلَى وَالتّوْرَاةُ، وَلَوْ أَصَابَتْ الْيَهُودُ رَأْيَهَا وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَتَخْرُجَن إلَى مُحَمّدٍ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ رَهْنًا، فَإِنّ قُرَيْشًا لَا تُعْطِينَا رَهْنًا أَبَدًا، وَعَلَى أَيّ وَجْهٍ تُعْطِينَا قُرَيْشٌ الرّهْنَ وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِنَا، وَمَعَهُمْ كُرَاعٌ وَلَا كُرَاعٌ مَعَنَا، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ وَهَذِهِ غَطَفَانُ تَطْلُبُ إلَى مُحَمّدٍ أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَتَنْصَرِفُ، فَأَبَى مُحَمّدٌ إلّا السّيْفَ، فَهُمْ يَنْصَرِفُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ. فَلَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ أَنْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ الْجَنَابَ قَدْ أَجْدَبَ، وَهَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ، وَغَدَرَتْ الْيَهُودُ وَكَذَبَتْ، وَلَيْسَ هَذَا بِحَيْنِ مُقَامٍ فَانْصَرِفُوا! قَالَتْ قُرَيْشٌ:
فَاعْلَمْ عِلْمَ الْيَهُودِ وَاسْتَيْقِنْ خَبَرَهُمْ. فَبَعَثُوا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَتّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ مَسَاءَ لَيْلَةِ السّبْتِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ إنّهُ قَدْ طَالَ الْمُكْثُ وَجَهَدَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَإِنّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامَةٍ، اُخْرُجُوا إلَى هَذَا الرّجُلِ حَتّى نُنَاجِزَهُ بِالْغَدَاةِ. قَالُوا: غَدًا السّبْتُ لَا نُقَاتِلُ وَلَا نَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا، وَإِنّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إذَا انْقَضَى سَبْتُنَا حَتّى تُعْطُونَا رِهَانًا مِنْ رِجَالِكُمْ يَكُونُونَ مَعَنَا لِئَلّا تَبْرَحُوا حَتّى نُنَاجِزَ مُحَمّدًا، فَإِنّا نَخْشَى إنْ أَصَابَتْكُمْ الْحَرْبُ أَنْ تُشَمّرُوا إلَى بِلَادِكُمْ وَتَدْعُونَا وَإِيّاهُ فِي بِلَادِنَا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، مَعَنَا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ وَالْأَمْوَالُ.
فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي جَاءَ بِهِ نُعَيْمٌ حَقّ، لَقَدْ غَدَرَ أَعْدَاءُ اللهِ. وَأَرْسَلَتْ غَطَفَانُ إلَيْهِمْ(2/483)
مَسْعُودَ بْنَ رُخَيْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَجَابُوهُمْ بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْهُمْ: نَحْلِفُ بِاَللهِ إنّ الْخَبَرَ الّذِي قَالَ نُعَيْمٌ لَحَقّ. وَعَرَفُوا أَنّ قُرَيْشًا لَا تُقِيمُ فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَكّرَ أَبُو سُفْيَانَ إلَيْهِمْ وَقَالَ: إنّا وَاَللهِ لَا نَفْعَلُ، إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا. فَقَالَتْ الْيَهُودُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوّلِ، وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَقُولُ: الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ. وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ، وَاخْتَلَفَ أَمْرُهُمْ، فَكَانَ نُعَيْمٌ يَقُولُ: أَنَا خَذّلْتُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ حَتّى تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا أَمِينُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِرّهِ. فَكَانَ صَحِيحَ الْإِسْلَامِ بَعْدُ فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قَالَتْ قُرَيْظَةُ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ مَا قَالَتْ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب لحيىّ ابن أَخْطَبَ: أَيْنَ مَا وَعَدْتنَا مِنْ نَصْرِ قَوْمِك؟ قَدْ خَلّوْنَا وَهُمْ يُرِيدُونَ الْغَدْرَ بِنَا! قَالَ حُيَيّ: كَلّا وَالتّوْرَاةِ، وَلَكِنّ السّبْتَ قَدْ حَضَرَ وَنَحْنُ لَا نَكْسِرُ السّبْتَ، فَكَيْفَ نُنْصَرُ عَلَى مُحَمّدٍ إذَا كَسَرْنَا السّبْتَ؟ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ اُغْدُوا [ (1) ] عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِمِثْلِ حَرْقِ النّارِ. وَخَرَجَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: فِدَاءَكُمْ أَبِي وَأُمّي، إنّ قُرَيْشًا قَدْ اتّهَمَتْكُمْ بِالْغَدْرِ وَاتّهَمُونِي مَعَكُمْ، وَمَا السّبْتُ لَوْ كَسَرْتُمُوهُ لِمَا قَدْ حَضَرَ مِنْ أَمْرِ عَدُوّكُمْ؟ قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، ثُمّ قَالَ: لَوْ قَتَلَهُمْ مُحَمّدٌ حَتّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ مَا كَسَرْنَا سَبْتَنَا. فَرَجَعَ حُيَيّ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْك يا يَهُودِيّ أَنّ قَوْمَك يُرِيدُونَ الْغَدْرَ؟ قَالَ حُيَيّ:
لَا وَاَللهِ، مَا يُرِيدُونَ الْغَدْرَ، وَلَكِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْأَحَدِ. فَقَالَ أبو سفيان:
__________
[ (1) ] فى ب: «عدوا على محمد» .(2/484)
وَمَا السّبْتُ؟ قَالَ: يَوْمٌ مِنْ أَيّامِهِمْ يُعَظّمُونَ الْقِتَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنّ سَبْطًا مِنّا أَكَلُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السّبْتِ فَمَسَخَهُمْ اللهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَرَانِي أَسْتَنْصِرُ بِإِخْوَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ! ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
قَدْ بَعَثْت عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: لَا نُقَاتِلُ حَتّى تَبْعَثُوا لَنَا [ (1) ] بِالرّهَانِ مِنْ أَشْرَافِكُمْ. وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا جَاءَنَا غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ بِرِسَالَتِهِمْ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحْلِفُ باللّات إنْ هُوَ إلّا غَدْرُكُمْ، وَإِنّي لَأَحْسَبُ أَنّك قَدْ دَخَلْت فِي غَدْرِ الْقَوْمِ! قَالَ حُيَيّ: وَالتّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ مَا غَدَرْت! وَلَقَدْ جِئْتُك مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ هُمْ أَعْدَى النّاسِ لِمُحَمّدٍ وَأَحْرَصُهُمْ عَلَى قِتَالِهِ، وَلَكِنْ مَا مُقَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتّى يَخْرُجُوا مَعَك! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا وَاَللهِ وَلَا سَاعَةً، لَا أُقِيمُ بِالنّاسِ انْتِظَارَ غَدْرِكُمْ. حتى خاف حيىّ ابن أَخْطَبَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ حَتّى بَلَغَ الرّوْحَاءَ، فَمَا رَجَعَ إلّا مُتَسَرّقًا لِمَا أَعْطَى كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ مِنْ نَفْسِهِ لَيَرْجِعَن إلَيْهِ، فَدَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِصْنَهُمْ لَيْلًا وَيَجِدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَحَفَ إلَيْهِمْ سَاعَةَ وَلّتْ الْأَحْزَابُ فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ حِينَ جَاءَهُ، وَجَعَلَ كَعْبٌ يَأْبَى فَقَالَ حُيَيّ: لَا تُقَاتِلْ حَتّى تَأْخُذَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِهَانًا عِنْدَكُمْ.
وَذَلِكَ مِنْ حُيَيّ خَدِيعَةً لِكَعْبٍ حَتّى يَنْقُضَ الْعَهْدَ، وَعَرَفَ أَنّهُ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ لَحَمَ الْأَمْرُ. وَلَمْ يُخْبِر حُيَيّ قُرَيْشًا بِاَلّذِي قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمّا جَاءَهُمْ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ السّبْتَ قالوا: لانكسر السّبْتَ، وَلَكِنْ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَلَا نَخْرُجُ حَتّى تعطونا الرّهان. فقال عكرمة: أىّ
__________
[ (1) ] فى ب: «تبعثوا إلينا(2/485)
رِهَانٍ؟ قَالَ كَعْبٌ: الّذِي شَرَطْتُمْ لَنَا. قَالَ: وَمَنْ شَرَطَهَا لَكُمْ؟ قَالُوا:
حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ. فَأَخْبَرَ أَبَا سُفْيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ لِحُيَيّ: يَا يَهُودِيّ، نَحْنُ قُلْنَا لَك كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَالتّوْرَاةِ، مَا قُلْت ذَلِكَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
بَلْ هُوَ الْغَدْرُ مِنْ حُيَيّ. فَجَعَلَ حُيَيّ يَحْلِفُ بِالتّوْرَاةِ مَا قَالَ ذَلِكَ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّهِ قَالَ، قَالَ كَعْبٌ: يَا حُيَيّ لَا نَخْرُجُ حَتّى نَأْخُذَ مِنْ كُلّ أَصْحَابِك مِنْ كُلّ بَطْنٍ سَبْعِينَ رَجُلًا رَهْنًا فِي أَيْدِينَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ حُيَيّ لِقُرَيْشٍ وَلِغَطَفَانَ [ (1) ] وَقَيْسٍ، فَفَعَلُوا وَعَقَدُوا بَيْنَهُمْ عَقْدًا بِذَلِكَ حَتّى شَقّ كَعْبٌ الْكِتَابَ. فَلَمّا أَرْسَلَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ تَسْتَنْصِرُهُ قَالَ: الرّهْنُ! فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا، لِمَا أَرَادَ اللهُ عَزّ وَجَلّ.
وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ، سَمِعْته يَقُولُ: أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ أَنْ ائْتُوا فَإِنّا سَنُغِيرُ عَلَى بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ مُوَادِعًا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عِنْدَ عُيَيْنَةَ حِينَ أَرْسَلَتْ بِذَلِكَ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ نُعَيْمٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا وَمَا أَرْسَلَتْ بِهِ قُرَيْظَةُ إلَى الْأَحْزَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَعَلّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ. فَقَامَ نُعَيْمٌ بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ. قَالَ:
وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، فَلَمّا وَلّى مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاهِبًا إلَى غَطَفَانَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الّذِي قُلْت؟ إنْ كَانَ أَمْرٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى فَامْضِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا رَأْيًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِك فَإِنّ شَأْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا يُؤْثَرُ عَنْك. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو رأى رأيته
__________
[ (1) ] فى ب: «وللغطفانيين» .(2/486)
الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. ثُمّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِ نُعَيْمٍ، فَدَعَاهُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْت الّذِي سَمِعْتنِي قُلْت آنِفًا؟
اُسْكُتْ عَنْهُ فَلَا تَذْكُرْهُ!
فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى جَاءَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ مُحَمّدًا قَالَ شَيْئًا قَطّ، إلّا كَانَ حَقّا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنّهُ قَالَ لِي فِيمَا أَرْسَلَتْ بِهِ إلَيْكُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ: «فَلَعَلّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ» ، ثُمّ نَهَانِي أَذْكُرَهُ لَكُمْ. فَانْطَلَقَ عُيَيْنَةُ حَتّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ نُعَيْمٍ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لَهُمْ: إنّمَا أَنْتُمْ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: نُرْسِلُ إلَيْهِمْ الْآنَ فَنَسْأَلُهُمْ الرّهْنَ، فَإِنْ دَفَعُوا الرّهْنَ إلَيْنَا فَقَدْ صَدَقُونَا، وَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ فَنَحْنُ مِنْهُمْ فِي مَكْرٍ. فَجَاءَهُمْ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ فَسَأَلَهُمْ الرّهْنَ لَيْلَةَ السّبْتِ فَقَالُوا: هَذِهِ لَيْلَةُ السّبْتِ وَلَسْنَا نَقْضِي فِيهَا وَلَا فِي يَوْمِهَا أَمْرًا، فَأَمْهِلْ حَتّى يَذْهَبَ السّبْتُ. فَخَرَجَ الرّسُولُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَرُءُوسُ الْأَحْزَابِ مَعَهُ: هَذَا مَكْرٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَارْتَحِلُوا فَقَدْ طَالَتْ إقَامَتُكُمْ. فَآذَنُوا بِالرّحِيلِ، وَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الرّيحَ، حَتّى مَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَهْتَدِي لِمَوْضِعِ رَحْلِهِ، فَارْتَحَلُوا فَوَلّوْا مُنْهَزِمِينَ.
وَيُقَالُ إنّ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَنَا آخُذُ لَك مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَبْعِينَ رَجُلًا رَهْنًا عِنْدَك حَتّى يَخْرُجُوا فَيُقَاتِلُوا، فَهُمْ أَعْرَفُ بِقِتَالِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. فَكَانَ هَذَا الّذِي قَالَ إنّ أَبَا سُفْيَانَ طَلَبَ الرّهْنَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَأَثْبَتُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَنَا قَوْلُ نُعَيْمٍ الْأَوّلِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى يُحَدّثُ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دعا عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: اللهُمّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمْ الْأَحْزَابَ! اللهُمّ اهْزِمْهُمْ!(2/487)
فَحَدّثَنِي كُثَيّرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْأَحْزَابِ فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. قَالَ: فَعَرَفْنَا السّرُورَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَا نَزَلَ بِي أَمْرٌ غَائِظٌ مُهِمّ إلّا تَحَيّنْت تِلْكَ السّاعَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَدْعُو اللهَ فَأَعْرِفُ الْإِجَابَةَ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ يُحَدّثُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْجَبَلِ الّذِي عَلَيْهِ الْمَسْجِدُ، فَدَعَا فِي إزَارٍ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا، ثُمّ جَاءَهُ مَرّةً أُخْرَى فَصَلّى وَدَعَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بن عمر يقول: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَرِيقِ الْقَابِلِ الصّابّ عَلَى أَرْضِ بَنِي النّضِيرِ، وَهُوَ الْيَوْمَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الّذِي بِأَسْفَلَ الْجَبَلِ. وَيُقَالُ إنّهُ صَلّى فِي تِلْكَ الْمَسَاجِدِ كُلّهَا الّتِي حَوْلَ الْمَسْجِدِ الّذِي فَوْقَ الْجَبَلِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَحَادِيثِ.
وَقَالُوا: لَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ بَعَثَ اللهُ الرّيحَ فَقَلَعَتْ [ (1) ] وَتَرَكَتْ:
وَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلَى أَنْ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ لَيْلَةَ قُتِلَ ابْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَزَبَهُ [ (2) ] الْأَمْرُ أَكْثَرَ الصّلَاةَ. قَالُوا: وَكَانَ حِصَارُ الْخَنْدَقِ فِي قُرّ شَدِيدٍ وَجُوعٍ،
فَكَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنَا فِي الْخَنْدَقِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْنَا الْبَرْدُ وَالْجُوعُ والخوف،
__________
[ (1) ] فى ب: «ففعلت» .
[ (2) ] فى ب: «أحزنه» . وحزبه: أى أصابه غم. (النهاية، ج 1، ص 222) .(2/488)
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنّةَ وَالرّجُوعَ، فَمَا قَامَ مِنّا رَجُلٌ! ثُمّ عَادَ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ، وَمَا قَامَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ شِدّةِ الْجُوعِ وَالْقُرّ وَالْخَوْفِ. فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ، دَعَانِي فَقَالَ: يَا حُذَيْفَةُ! قَالَ: فَلَمْ أَجِدْ بُدّا مِنْ الْقِيَامِ حِينَ فَوّهَ [ (1) ] بِاسْمِي، فَجِئْته وَلِقَلْبِي وَجَبَانٌ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: تَسْمَعُ كَلَامِي مُنْذُ اللّيْلَةَ وَلَا تَقُومُ؟ فَقُلْت: لَا، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، إنْ قَدَرْت عَلَى مَا بِي مِنْ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، وَلَا تَرْمِينَ بِسَهْمٍ وَلَا بِحَجَرٍ، وَلَا تَطْعَنُ بِرُمْحٍ، وَلَا تَضْرِبَن بِسَيْفٍ حَتّى تَرْجِعَ إلَيّ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بِي يَقْتُلُونِي وَلَكِنّي أَخَافُ أَنْ يُمَثّلُوا بِي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ! فَعَرَفْت أَنّهُ لَا بَأْسَ عَلَيّ مَعَ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَوّلِ. ثُمّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ. فَلَمّا وَلّى حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، احْفَظْهُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ!
فَدَخَلَ عَسْكَرَهُمْ فَإِذَا هُمْ يَصْطَلُونَ عَلَى نِيرَانِهِمْ، وَإِنّ الرّيحَ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرّ لَهُمْ قَرَارًا [ (2) ] وَلَا بِنَاءً. فَأَقْبَلْت فَجَلَسْت عَلَى نَارٍ مَعَ قَوْمٍ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: احْذَرُوا الْجَوَاسِيسَ وَالْعُيُونَ، وَلْيَنْظُرْ كُلّ رَجُلٍ جَلِيسَهُ. قَالَ، فَالْتَفَتّ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟
وَهُوَ عَنْ يَمِينِي. فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَالْتَفَتّ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. ثُمّ قَالَ أبو سفيان:
__________
[ (1) ] فى ب: «نوه»
[ (2) ] فى ب: «لا تقر لهم قدرا» .(2/489)
إنّكُمْ وَاَللهِ لَسْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْخُفّ وَالْكُرَاعُ، وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغْنَا عَنْهُمْ الّذِي نَكْرَهُ، وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الرّيحِ مَا تَرَوْنَ! وَاَللهِ، مَا يَثْبُتُ لَنَا بِنَاءٌ وَلَا تَطْمَئِنّ لَنَا قِدْرٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنّي مُرْتَحِلٌ.
وَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ، وَجَلَسَ عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ، ثُمّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إلّا بَعْدَ مَا قَامَ. وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيّ: «لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتّى تأتى» ثم شئت، لقتلته. فناداه عكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ: إنّك رَأْسُ الْقَوْمِ وَقَائِدُهُمْ، تَقْشَعُ وَتَتْرُكُ النّاسَ؟ فَاسْتَحْيَى أَبُو سُفْيَانَ فَأَنَاخَ جَمَلَهُ وَنَزَلَ عَنْهُ، وَأَخَذَ بِزِمَامِهِ وَهُوَ يَقُودُهُ، وَقَالَ: ارْحَلُوا! قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَرْتَحِلُونَ وَهُوَ قَائِمٌ حتى خفّ العسكر، ثم قال لعمرو ابن الْعَاصِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لَا بُدّ لِي وَلَك أَنْ نُقِيمَ فِي جَرِيدَةٍ [ (1) ] مِنْ خَيْلٍ بِإِزَاءِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنّا لَا نَأْمَنُ أَنْ نُطْلَبَ حَتّى يَنْفُذَ الْعَسْكَرُ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَا أُقِيمُ. وَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَرَى يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ فَقَالَ:
أَنَا أَيْضًا أُقِيمُ. فَأَقَامَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَسَارَ الْعَسْكَرُ إلّا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ.
قَالُوا: وَذَهَبَ حُذَيْفَةُ إلَى غَطَفَانَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ ارْتَحَلُوا، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ. وَأَقَامَتْ الْخَيْلُ حَتّى كَانَ السّحَرُ، ثُمّ مَضَوْا فَلَحِقُوا الْأَثْقَالَ وَالْعَسْكَرَ مَعَ ارْتِفَاعِ النّهَارِ بِمَلَلَ، فَغَدَوَا إلَى السّيّالَةِ.
وَكَانَتْ غَطَفَانُ لَمّا ارْتَحَلَتْ وَقَفَ مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ فِي خَيْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَقَفَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فِي خَيْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَقَفَ فُرْسَانٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فِي أَصْحَابِهِمْ، ثُمّ تَحَمّلُوا جَمِيعًا فِي طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَكَرِهُوا أَنْ يتفرّقوا حتى
__________
[ (1) ] هي التي جردت من معظم الخيل لوجه. (أساس البلاغة، ص 116) .(2/490)
أَتَوْا عَلَى الْمِرَاضِ [ (1) ] ، ثُمّ تَفَرّقَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ إلَى مَحَالّهَا.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ- يَعْنِي ابْنَ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ- قَالَ: لَمّا انْصَرَفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَالَ: قَدْ عَلِمَ كُلّ ذِي عَقْلٍ أَنّ مُحَمّدًا لَمْ يَكْذِبْ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ: أَنْتَ أَحَقّ النّاسِ أَلّا يَقُولَ هَذَا.
قَالَ عَمْرٌو: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنّهُ نَزَلَ عَلَى شَرَفِ أَبِيك وَقَتَلَ سَيّدَ قَوْمِك. وَيُقَالُ:
الّذِي تَكَلّمَ بِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَا نَدْرِي، لَعَلّهُمَا قَدْ تَكَلّمَا بِذَلِكَ جَمِيعًا.
قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَدْ عَلِمَ كُلّ حَلِيمٍ أَنّ مُحَمّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطّ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: إنّ أَحَقّ النّاسِ أَلّا يَقُولَ هَذَا أَنْتَ. قَالَ: وَلِمَ؟
قَالَ: نَزَلَ عَلَى شَرَفِ أَبِيك، وَقَتَلَ سَيّدَ قَوْمِك أَبَا جَهْلٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ:
كَانَ مُحَاصَرَةُ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عبيد الله بن مقسم، عن جابر ابن عَبْدِ اللهِ، قَالَ: عِشْرِينَ يَوْمًا. وَيُقَالُ خَمْسَةَ عَشَرِ يَوْمًا، وَهَذَا أَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا. فَلَمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْخَنْدَقِ أَصْبَحَ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعَسَاكِرِ، قَدْ هَرَبُوا وَذَهَبُوا. وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثّبَتُ أَنّهُمْ انْقَشَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمّا أَصْبَحُوا أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِانْصِرَافِ إلَى مَنَازِلِهِمْ، فَخَرَجُوا مُبَادِرِينَ مَسْرُورِينَ بِذَلِكَ. وَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْلَمَ بَنُو قُرَيْظَةَ رَجْعَتَهُمْ [ (2) ] إلَى مَنَازِلِهِمْ، فَأَمَرَ بِرَدّهِمْ، وبعث من ينادى فى أثرهم، فما
__________
[ (1) ] المراض: موضع بناحية الطرف على ستّة وثلاثين ميلا من المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 370) .
[ (2) ] فى ب: «حب رجعتهم» .(2/491)
رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. فَكَانَ مِمّنْ يَرُدّهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجَعَلْت أَصِيحُ فِي أَثَرِهِمْ فِي كُلّ نَاحِيَةٍ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا، فَمَا رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْقُرّ وَالْجُوعِ.
فَكَانَ يَقُولُ: كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى سُرْعَتَهُمْ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِقُرَيْشٍ عُيُونٌ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَمَرَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَرُدّهُمْ، فَجَعَلْت أَصِيحُ بِهِمْ فَمَا يَرْجِعُ أَحَدٌ، فَانْطَلَقْت فِي أَثَرِ بَنِي حَارِثَةَ، فَوَاَللهِ مَا أَدْرَكْتهمْ حَتّى دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ، وَلَقَدْ صِحْت فَمَا يَخْرُجُ إلَيّ أَحَدٌ مِنْ جَهْدِ الْجُوعِ وَالْقُرّ، فَرَجَعَتْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَاهُ فِي بَنِي حَرَامٍ مُنْصَرِفًا، فَأَخْبَرْته فَضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ، قَالَ: لَمّا مَلّتْ قُرَيْشٌ الْمُقَامَ، وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَضَاقُوا بِالْخَنْدَقِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ، كَتَبَ كِتَابًا [ (1) ] فِيهِ: باسمك اللهمّ، فإنى أحلف باللّات وَالْعُزّى، لَقَدْ سِرْت إلَيْك فِي جَمْعِنَا، وَإِنّا نُرِيدُ أَلّا نَعُودَ إلَيْك أَبَدًا حَتّى نَسْتَأْصِلَك، فَرَأَيْتُك [ (2) ] قَدْ كَرِهْت لِقَاءَنَا، وَجَعَلْت مَضَايِقَ وَخَنَادِقَ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ عَلّمَك هَذَا؟ فَإِنْ نَرْجِعْ عَنْكُمْ فَلَكُمْ مِنّا يَوْمٌ كَيَوْمِ أُحُدٍ، تُبْقَرُ فِيهِ النّسَاءُ. وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ أَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، فَلَمّا أَتَى بِالْكِتَابِ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ قُبّتَهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ أَبِي سُفْيَانَ.
وَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ... أَمَا بَعْدُ، فَقَدِيمًا غَرّك بِاَللهِ الْغَرُورُ، أَمّا مَا ذَكَرْت أَنّك سِرْت إلَيْنَا فِي جَمْعِكُمْ، وَأَنّك لَا تُرِيدُ
__________
[ (1) ] أى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ (2) ] فى ب: «فرأيتكم» .(2/492)
أَنْ تَعُودَ حَتّى تَسْتَأْصِلَنَا، فَذَلِكَ أَمْرٌ اللهُ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ، وَيَجْعَلُ لَنَا الْعَاقِبَةَ حَتّى لا تذكر اللّات وَالْعُزّى. وَأَمّا قَوْلُك: «مَنْ عَلّمَك الّذِي صَنَعْنَا مِنْ الْخَنْدَقِ» ، فَإِنّ اللهَ تَعَالَى أَلْهَمَنِي ذَلِكَ لِمَا أَرَادَ مِنْ غَيْظِك بِهِ وَغَيْظِ أَصْحَابِك، وَلَيَأْتِيَن عَلَيْك يَوْمٌ تُدَافِعُنِي بِالرّاحِ، وَلْيَأْتِيَن عَلَيْك يوم أكسر فيه اللّات، وَالْعُزّى، وَإِسَافَ، وَنَائِلَةَ، وَهُبَلَ، حَتّى أُذَكّرُك ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنّ فِي الْكِتَابِ «وَلَقَدْ عَلِمْت أَنّي لَقِيت أَصْحَابَك بِأَحْيَاءَ [ (1) ] وَأَنَا فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ، فَمَا حَصَرَ أَصْحَابُك مِنّا شَعْرَةً، وَرَضُوا بِمُدَافَعَتِنَا بِالرّاحِ. ثُمّ أَقْبَلْت فِي عِيرِ قُرَيْشٍ حَتّى لَقِيت قَوْمِي، فَلَمْ تَلْقَنَا، فَأَوْقَعْت بِقَوْمِي وَلَمْ أَشْهَدْهَا مِنْ وَقْعَةٍ.
ثُمّ غَزَوْتُكُمْ فِي عُقْرِ دَارِكُمْ فَقَتَلْت وَحَرَقْت- يَعْنِي غَزْوَةَ السّوِيقِ- ثُمّ غَزَوْتُك فِي جَمْعِنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَكَانَتْ وَقْعَتُنَا فِيكُمْ مِثْلَ وَقْعَتِكُمْ بِنَا بِبَدْرٍ، ثُمّ سِرْنَا إلَيْكُمْ فِي جَمْعِنَا وَمَنْ تَأَلّبَ إلَيْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَزِمْتُمْ الصّيَاصِيَ [ (2) ] وخندقتم الخنادق» .
__________
[ (1) ] أحياء: اسم ماء أسفل من ثنية المرة برابغ. (وفاء الوفا، ج 2، ص 344) .
[ (2) ] الصياصي: جمع صيصة، وهي الحصن وكل ما امتنع به. (القاموس المحيط، ج 2، ص 207) .(2/493)
بَابُ مَا أَنَزَلَ اللهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْخَنْدَقِ
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ:
وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي شَأْنِ الْخَنْدَقِ يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ وَكِفَايَتَهُ عَدُوّهُمْ بَعْدَ سُوءِ الظّنّ مِنْهُمْ وَمَقَالَةِ مَنْ تَكَلّمَ بِالنّفَاقِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [ (1) ] . قَالَ: وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي أَتَتْ الْمُؤْمِنِينَ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ وَأَسَدًا وَسُلَيْمًا، وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الرّيحَ. وَذَكَرَ: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [ (2) ] وَكَانَ الّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَاَلّذِينَ جَاءُوا مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَسُلَيْمٌ. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [ (3) ] . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [ (4) ] ، قَوْلُ مُعَتّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [ (5) ] ، يَقُولُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها [ (6) ] ، مِنْ نَوَاحِيهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ.
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [ (7) ] إلَى قَوْلِهِ تعالى
__________
[ (1) ] سورة 33 الأحزاب 9.
[ (2) ] سورة 33 الأحزاب 10.
[ (3) ] سورة 33 الأحزاب 11.
[ (4) ] سورة 33 الأحزاب 12.
[ (5) ] سورة 33 الأحزاب 13.
[ (6) ] سورة 33 الأحزاب 14.
[ (7) ] سورة 33 الأحزاب 15.(2/494)
وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، كَانَ ثَعْلَبَةُ عَاهَدَ اللهَ يَوْمَ أُحُدٍ لَا يُوَلّي دُبُرًا أَبَدًا بَعْدَ أُحُدٍ. ثُمّ ذَكَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ حِينَ أَتَاهُمْ الْأَحْزَابُ فَحَصَرُوهُمْ، وَظَاهَرَتْهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ فِي الْخَنْدَقِ فَاشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ، فَقَالُوا لَمّا رَأَوْا ذَلِكَ:
هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ (1) ] ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ (2) ] ، وَفِي قَوْلِهِ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ [ (3) ] ، يَقُولُ قُتِلَ أَوْ أُبْلِيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُبْلَى، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، مَا تَغَيّرَتْ نِيّاتُهُمْ.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [ (4) ]
حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُجَاهَدٍ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: هَذَا مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ
مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ فَمَاتَ، وَيُقَالُ رَمَاهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ الْأَشْهَلِيّ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بنى عويف فقتله.
__________
[ (1) ] سورة 33 الأحزاب 22.
[ (2) ] سورة 2 البقرة 214.
[ (3) ] سورة 33 الأحزاب 23.
[ (4) ] سورة 33 الأحزاب 24.(2/495)
وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: الطّفَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ. قَتَلَهُ وَحْشِيّ، وَكَانَ وَحْشِيّ يَقُولُ:
أَكْرَمَ اللهُ بِحَرْبَتِي حَمْزَةَ وَالطّفَيْلَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي، قَتَلَهُ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ. وَمِنْ بَنِي دِينَارٍ: كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، وَكَانَ قَدْ اُرْتُثّ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ فَصَحّ حَتّى قُتِلَ فِي الْخَنْدَقِ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ.
فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتّةُ نَفَرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَيُقَالُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ: عُثْمَانُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ، مَاتَ بِمَكّةَ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
ذِكْرُ مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي الْخَنْدَقِ.
قَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ: هَكَذَا كَانَ ...
بَابُ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ
سَارَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمّ انْصَرَفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجّةِ سَنَةَ خَمْسٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.
قَالُوا: لَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْخَنْدَقِ، وَخَافَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ خَوْفًا شَدِيدًا، وَقَالُوا: مُحَمّدٌ يَزْحَفُ إلَيْنَا! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ(2/496)
يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ حَتّى جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَكَانَتْ امْرَأَةُ نَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ قَدْ رَأَتْ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي حِصَارِ الْخَنْدَقِ، قَالَتْ: أَرَى الْخَنْدَقَ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ، وَأَرَى النّاسَ تَحَوّلُوا إلَيْنَا وَنَحْنُ فِي حُصُونِنَا قَدْ ذُبِحْنَا [ذَبْحَ] الْغَنَمِ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِزَوْجِهَا، فَخَرَجَ زَوْجُهَا فَذَكَرَهَا لِلزّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، فَقَالَ الزّبَيْرُ: مَا لَهَا لَا نَامَتْ عَيْنُهَا، تُوَلّي قُرَيْشٌ وَيَحْصُرُنَا مُحَمّدٌ! وَالتّوْرَاة، وَلَمَا بَعْدَ الْحِصَارِ أَشَدّ مِنْهُ!
قَالُوا: فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَغَسَلَ رَأْسَهُ وَاغْتَسَلَ، وَدَعَا بِالْمِجْمَرَةِ لِيُجْمِرَ، وَقَدْ صَلّى الظّهْرَ، وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ [ (1) ] وَعَلَيْهَا قَطِيفَةٌ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ، فَوَقَفَ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ فَنَادَى: عَذِيرَك مِنْ مُحَارِبٍ! قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا فَقَالَ [ (2) ] : أَلَا أَرَاك وَضَعْت اللّأْمَةَ وَلَمْ تَضَعْهَا الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ؟ لَقَدْ طَرَدْنَاهُمْ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، إنّ اللهَ يَأْمُرُك أَنْ تَسِيرَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنّي عَامِدٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ حُصُونَهُمْ.
وَيُقَالُ جَاءَهُ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فَدَفَعَ إلَيْهِ لِوَاءً، وَكَانَ اللّوَاءُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُحَلّ مِنْ مَرْجِعِهِ مِنْ الْخَنْدَقِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذّنَ فِي النّاسِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ أَلّا تُصَلّوا الْعَصْرَ إلّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ. ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم السّلَاحَ وَالْمِغْفَرَ وَالدّرْعَ وَالْبَيْضَةَ، وَأَخَذَ قَنَاةً بِيَدِهِ، وَتَقَلّدَ التّرْسَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَحَفّ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ وَرَكِبُوا الْخَيْلَ، وَكَانَتْ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
__________
[ (1) ] الرحالة: سرج من جلود لا خشب فيها. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 152) .
[ (2) ] أى جبريل.(2/497)
قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ وَرَكِبَ وَاحِدًا، يُقَالُ لَهُ اللّحَيْفُ، فَكَانَتْ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ مَعَهُ. وَعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَارِسٌ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ. وَفِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ:
عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَارِسٌ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَارِسٌ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمِنْ بَنِي فِهْرٍ:
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ. وَمِنْ الْأَوْسِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَسَعْدُ بن زيد. ومن بنى ظفر: قتادة ابن النّعْمَانِ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيّ، وَثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ. وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ. وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ. وَفِي بَنِي زُرَيْقٍ: رُقَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو عَيّاشٍ، وَمُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ. وَمِنْ بَنِي ساعدة: سعد ابن عُبَادَةَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَيّوبَ بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ وَالْخَيْلُ وَالرّجّالَةُ حَوْلَهُ، فَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفَرٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ بِالصّورَيْنِ [ (1) ] فِيهِمْ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، قَدْ صَفّوا عَلَيْهِمْ السّلَاحَ، فَقَالَ: هَلْ مَرّ بِكُمْ أَحَدٌ؟
قَالُوا: نَعَمْ، دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ مَرّ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ
__________
[ (1) ] الصورين: موضع بأقصى البقيع مما يلي طريق بنى قريظة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 337) .(2/498)
إسْتَبْرَقٍ، فَأَمَرَنَا بِلُبْسِ السّلَاحِ، فَأَخَذْنَا سِلَاحَنَا وَصَفَفْنَا، وَقَالَ لَنَا:
هَذَا رَسُولُ اللهِ يَطّلِعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ.
قَالَ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ: فَكُنّا صَفّيْنِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ!
فَكَانَ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ يَقُولُ: رَأَيْت جِبْرِيلَ مِنْ الدّهْرِ مَرّتَيْنِ- يَوْمَ الصّورَيْنِ وَيَوْمَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ حِينَ رَجَعْنَا مِنْ حُنَيْنٍ. وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَنَزَلَ عَلَى بِئْرٍ لَنَا [ (1) ] أَسْفَلَ حَرّةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ سَبَقَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: انْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ فَلَمّا رَأَوْنَا أَيْقَنُوا بِالشّرّ، وَغَرَزَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ الرّايَةَ عِنْدَ أَصْلِ الْحِصْنِ، فَاسْتَقْبَلُونَا فِي صَيَاصِيِهِمْ يَشْتُمُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجَهُ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَسَكَتْنَا وَقُلْنَا: السّيْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ! وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا رَآهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَلْزَمَ اللّوَاءَ فَلَزِمْته، وَكَرِهَ أَنْ يَسْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَاهُمْ وَشَتْمَهُمْ. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، وَتَقَدّمَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللهِ، لَا نَبْرَحُ حِصْنَكُمْ حَتّى تَمُوتُوا جُوعًا. إنّمَا أَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ. قَالُوا: يَا ابْنَ الْحُضَيْرِ، نَحْنُ مَوَالِيكُمْ دُونَ الْخَزْرَجِ! وَخَارُوا [ (2) ] ، وَقَالَ: لَا عَهْدَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلَا إلّ [ (3) ] .
وَدَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَتَرّسْنَا عنه، فقال:
__________
[ (1) ] هكذا فى النسخ، ولعل الصواب «بئر أنا» كما فى ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 245) . وأنا: بئر من آبار بنى قريظة. (معجم البلدان، ج 1، ص 340) .
[ (2) ] فى الأصل: «وجاروا» ، وما أثبتناه من ب. وخاروا: أى خافوا. (السيرة الحلبية، ج 2، ص 115)
[ (3) ] الإل، بالكسر: العهد والحلف. (القاموس المحيط، ج 3، ص 330) .(2/499)
يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَعَبَدَةَ الطّوَاغِيتِ، أَتَشْتُمُونَنِي؟
قَالَ: فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِالتّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى: مَا فَعَلْنَا! وَيَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كُنْت جَهُولًا! ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّمَاةَ مِنْ أَصْحَابِهِ.
فَحَدّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ زُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ، تَقَدّمَ فَارْمِهِمْ! فَتَقَدّمْت حَيْثُ تَبْلُغُهُمْ نَبْلِي، وَمَعِي نَيّفٌ عَلَى الْخَمْسِينَ، فَرَمَيْنَاهُمْ سَاعَةً وَكَأَنّ نَبْلَنَا مِثْلُ [ (1) ] جَرَادٍ، فَانْجَحَرُوا فَلَمْ يَطْلُعْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَأَشْفَقْنَا عَلَى نَبْلِنَا أَنْ يَذْهَبَ، فَجَعَلْنَا نَرْمِي بَعْضَهَا [ (2) ] وَنُمْسِكُ الْبَعْضَ. فَكَانَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْمَازِنِيّ- وَكَانَ رَامِيًا- يَقُولُ: رَمَيْت يَوْمَئِذٍ بِمَا فِي كِنَانَتِي، حَتّى أَمْسَكْنَا عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللّيْلِ. قَالَ: وَقَدْ رَمَوْنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ عَلَيْهِ السّلَاحُ، وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ حَوْلَهُ، ثُمّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفْنَا إلَى مَنْزِلِنَا وَعَسْكَرْنَا فَبِتْنَا، وَكَانَ طَعَامُنَا تَمْرًا بَعَثَ بِهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، أَحْمَالَ تَمْرٍ، فَبِتْنَا [ (3) ] نَأْكُلُ مِنْهَا، وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ التّمْرِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نِعْمَ الطّعَامُ التّمْرُ!
وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءً، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَلّ حَتّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ صَلّى، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا عَابَ عَلَى أَحَدٍ صَلّى، وَلَا عَلَى أَحَدٍ لَمْ يُصَلّ حتى بلغ بنى قريظة. ثم غدونا
__________
[ (1) ] فى ب: «رجل من جراد» .
[ (2) ] فى ب: «يرمى بعضنا ويمسك بعض» .
[ (3) ] فى الأصل: «فبينا» ، وما أثبتناه من ب.(2/500)
عَلَيْهِمْ بِسُحْرَةٍ، فَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّمَاةَ، وَعَبّأَ أَصْحَابَهُ فَأَحَاطُوا بِحُصُونِهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَعْتَقِبُونَ فَيُعْقِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَامِيهِمْ حَتّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ.
فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانُوا يُرَامُونَنَا مِنْ حُصُونِهِمْ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ أَشَدّ الرّمْيِ، وَكُنّا نَقُومُ حَيْثُ تَبْلُغُهُمْ نَبْلُنَا فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمود، قال: قال محمّد ابن مَسْلَمَةَ: حَصَرْنَاهُمْ أَشَدّ الْحِصَارِ، فَلَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ غَدَوْنَا عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَجَعَلْنَا نَدْنُو مِنْ الْحِصْنِ وَنَرْمِيهِمْ مِنْ كَثَبٍ، وَلَزِمْنَا حُصُونَهُمْ فَلَمْ نُفَارِقْهَا حَتّى أَمْسَيْنَا، وَحَضّنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِهَادِ وَالصّبْرِ.
ثُمّ بِتْنَا عَلَى حُصُونِهِمْ، مَا رَجَعْنَا إلَى مُعَسْكَرِنَا حَتّى تَرَكُوا قِتَالَنَا وَأَمْسَكُوا عَنْهُ وَقَالُوا: نُكَلّمُك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ.
فَأَنْزَلُوا نَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، نَنْزِلُ عَلَى مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو النّضِيرِ، لَك الْأَمْوَالُ وَالْحَلْقَةُ وَتَحْقِنُ دِمَاءَنَا، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلَادِكُمْ بِالنّسَاءِ وَالذّرَارِيّ، وَلَنَا مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةَ. فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا:
فَتَحْقِنُ دِمَاءَنَا وَتُسَلّمُ لَنَا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، إلّا أَنْ تَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِي.
فَرَجَعَ نَبّاشٌ إلَى أَصْحَابِهِ بِمَقَالَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب ابن أَسَدٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ مُحَمّدًا نَبِيّ اللهِ، وَمَا مَنَعَنَا مِنْ الدّخُولِ مَعَهُ إلّا الْحَسَدُ لِلْعَرَبِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّا مِنْ بَنِي.(2/501)
إسْرَائِيلَ فَهُوَ حَيْثُ جَعَلَهُ اللهُ. وَلَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ، وَلَكِنّ الْبَلَاءَ وَشُؤْمَ هَذَا الْجَالِسِ [ (1) ] عَلَيْنَا وَعَلَى قَوْمِهِ، وَقَوْمُهُ كَانُوا أَسْوَأَ [ (2) ] مِنّا.
لَا يَسْتَبْقِي مُحَمّدٌ رَجُلًا وَاحِدًا إلّا مَنْ تَبِعَهُ. أَتَذْكُرُونَ مَا قَالَ لَكُمْ ابْنُ خِرَاشٍ [ (3) ] حِين قَدِمَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ: تَرَكْت الْخَمْرَ وَالْخَمِيرَ وَالتّأْمِيرَ، وَجِئْت إلَى السّقَاءِ وَالتّمْرِ وَالشّعِيرِ؟ قَالُوا: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: يَخْرُج مِنْ [ (4) ] هَذِهِ الْقَرْيَةِ نَبِيّ، فَإِنْ خَرَجَ وَأَنَا حَيّ اتّبَعْته وَنَصَرْته، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدِي فَإِيّاكُمْ أَنْ تُخْدَعُوا عَنْهُ، فَاتّبِعُوهُ وَكُونُوا أَنْصَارَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَقَدْ آمَنْتُمْ بِالْكِتَابَيْنِ كِلَيْهِمَا الْأَوّلِ وَالْآخِرِ.
قَالَ كَعْبٌ: فَتَعَالَوْا فَلْنُتَابِعْهُ وَلْنُصَدّقْهُ وَلْنُؤْمِنْ بِهِ، فَنَأْمَنُ عَلَى دِمَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَنَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَعَهُ. قَالُوا: لَا نَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِنَا، نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالنّبُوّةِ، وَنَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِنَا؟ فَجَعَلَ كَعْبٌ يَرُدّ عَلَيْهِمْ الْكَلَامَ بِالنّصِيحَةِ لَهُمْ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَلَا نَدَعُ مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ مُوسَى.
قَالَ: فَهَلُمّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمّ نَخْرُجُ فِي أَيْدِينَا السّيُوفُ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنْ قَتَلَنَا قُتِلْنَا وَمَا وَرَاءَنَا أَمْرٌ نَهْتَمّ بِهِ، وَإِنْ ظَفِرْنَا فَلَعَمْرِي لَنَتَخِذَنّ النّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ. فَتَضَاحَكَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ثُمّ قَالَ: مَا ذَنْبُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ؟ وَقَالَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ، الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا وَذَوُوهُ: مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدَ هَؤُلَاءِ. قَالَ: فَوَاحِدَةٌ قَدْ بَقِيَتْ مِنْ الرّأْيِ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهَا، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا فَأَنْتُمْ بَنُو إِسْتِهَا. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: اللّيْلَةُ السّبْتُ، وَبِالْحَرِيّ [ (5) ] أَنْ يَكُونَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ آمِنِينَ لَنَا فِيهَا أَنْ نقاتله، فنخرج
__________
[ (1) ] يعنى حيي بن أخطب.
[ (2) ] فى ب: «أشوى منا» .
[ (3) ] فى الأصل: «حواش» . وفى ب: «جواش» ، وعلى هامش ب: «مطلب بن جواش» .
وما أثبتناه من ث، ومن السيرة الحلبية. (ج 2، ص 116) .
[ (4) ] فى ب: «إنه يخرج بهذه القرية» .
[ (5) ] فى الأصل: «بالجري» ، والتصحيح من ب.(2/502)
فَلَعَلّنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْهُ غِرّةً. قَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْت مَا أَصَابَنَا فِيهِ؟ قَالَ حُيَيّ: قَدْ دَعَوْتُك إلَى هَذَا وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ حُضُورٌ فَأَبَيْت أَنْ نَكْسِرَ السّبْتَ، فَإِنْ أَطَاعَتْنِي الْيَهُودُ فَعَلُوا. فَصَاحَتْ الْيَهُودُ: لَا نَكْسِرُ السّبْتَ. قَالَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ: وَكَيْفَ نُصِيبُ مِنْهُمْ غِرّةً وَأَنْتَ تَرَى أَنّ أَمْرَهُمْ كُلّ يَوْمٍ يَشْتَدّ. كَانُوا أَوّلَ مَا يُحَاصِرُونَنَا إنّمَا يُقَاتِلُونَ بِالنّهَارِ وَيَرْجِعُونَ اللّيْلَ، فَكَانَ هَذَا لَك قَوْلًا «لَوْ بَيّتْنَاهُمْ» . فَهُمْ الْآنَ يُبَيّتُونَ اللّيْلَ وَيَظَلّونَ النّهَارَ، فَأَيّ غِرّةً نُصِيبُ مِنْهُمْ؟ هِيَ مَلْحَمَةٌ وَبَلَاءٌ كُتِبَ عَلَيْنَا. فَاخْتَلَفُوا وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَرَقّوا عَلَى النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، وَذَلِكَ أَنّ النّسَاءَ [وَالصّبْيَانَ] لَمّا رَأَوْا ضَعْفَ أَنْفُسِهِمْ هَلَكُوا، فَبَكَى النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ، فَرَقّوا عَلَيْهِمْ.
فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ ثَعْلَبَةُ وأُسَيْدُ ابْنَا سَعِيّةَ [ (1) ] ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَمّهُمْ [ (2) ] :
يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا، حَدّثَنَا بِهَا عُلَمَاؤُنَا وَعُلَمَاءُ بَنِي النّضِيرِ. هَذَا أَوّلُهُمْ- يَعْنِي حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ- مَعَ جُبَيْرِ بْنِ الْهَيّبَانِ [ (3) ] أَصْدَقُ النّاسِ عِنْدَنَا، هُوَ خَبّرَنَا بِصِفَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ.
قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ! فَلَمّا رَأَى هَؤُلَاءِ النّفَرُ إبَاءَهُمْ، نَزَلُوا فِي اللّيْلَةِ الّتِي فِي صُبْحِهَا نَزَلَتْ قُرَيْظَةُ، فَأَسْلَمُوا فَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، إنّكُمْ قَدْ حَالَفْتُمْ مُحَمّدًا عَلَى مَا حَالَفْتُمُوهُ عَلَيْهِ، أَلّا تَنْصُرُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ عَدُوّهِ، وَأَنْ تنصروه
__________
[ (1) ] فى الأصل: «شعية» ، وما أثبتناه من ب، ومن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 96) .
[ (2) ] فى ب: «ابن عمهم» .
[ (3) ] على هامش نسخة ب: «مطلب بن الهيبان» .(2/503)
مِمّنْ دَهَمَهُ، فَنَقَضْتُمْ ذَلِكَ الْعَهْدَ الّذِي كَانَ بينكم وبينه، فلم أدخل فيه ولم أشرككم فِي غَدْرِكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا مَعَهُ فاثبتوا [على] اليهودية وأعطوا الجزية، فو الله مَا أَدْرِي يَقْبَلُهَا أَمْ لَا. قَالُوا: نَحْنُ لَا نُقِرّ لِلْعَرَبِ بِخَرْجٍ فِي رِقَابِنَا يَأْخُذُونَنَا بِهِ، الْقَتْلُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: فَإِنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ.
وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ مَعَ بَنِي سَعِيّةَ فَمَرّ بِحَرَسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ:
عَمْرُو بْنُ سُعْدَى. فَقَالَ مُحَمّدٌ: مُرّ! اللهُمّ، لَا تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ. فَخَلّى سَبِيلَهُ وَخَرَجَ حَتّى أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاتَ بِهِ حَتّى أَصْبَحَ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ حَتّى السّاعَةِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: ذَلِكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللهُ بِوَفَائِهِ.
وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَطْلُعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يُبَادِرْ [ (1) ] لِلْقِتَالِ، فِي رِوَايَتِنَا.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرّ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى عَلَى الْحَرَسِ، فَنَادَاهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ سُعْدَى.
قَالَ مُحَمّدٌ: قَدْ عَرَفْنَاك. ثُمّ قَالَ مُحَمّدٌ: اللهُمّ، لَا تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ.
حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الزّبير فبارزه. فقالت صفيّة: وا جدّي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَيّهُمَا عَلَا صَاحِبَهُ قَتَلَهُ.
فَعَلَاهُ الزّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، فنفله رسول الله صلّى الله عليه عليه وسلّم سلبه.
__________
[ (1) ] فى ب: «ولم يبارز» .(2/504)
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَلَمْ يُسْمَعْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي قِتَالِهِمْ وَأَرَاهُ وَهَلْ- هَذَا فِي خَيْبَرَ.
حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ أَوّلَ شَيْءٍ عَتَبَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَنّهُ خَاصَمَ يَتِيمًا لَهُ فِي عَذْقٍ. فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِذْقِ لِأَبِي لُبَابَةَ، فَصَيّحَ [ (1) ] الْيَتِيمُ وَاشْتَكَى إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ: هَبْ لِي الْعَذْقَ يَا أَبَا لُبَابَةَ- لِكَيْ يَرُدّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْيَتِيمِ. فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يَهَبَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَعْطِهِ الْيَتِيمَ وَلَك مِثْلُهُ فِي الْجَنّةِ.
فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ.
قَالَ الزّهْرِيّ: فَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: لَمّا أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ قَالَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ- وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللهِ إنْ ابْتَعْت هَذَا الْعَذْقَ فَأَعْطَيْته هَذَا الْيَتِيمَ، أَلِي مِثْلُهُ فِي الْجَنّةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ حَتّى لَقِيَ أَبَا لُبَابَةَ فَقَالَ:
أَبْتَاعُ مِنْك عَذْقَك بِحَدِيقَتِي- وَكَانَتْ لَهُ حَدِيقَةُ نَخْلٍ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ:
نَعَمْ. فَابْتَاعَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ الْعَذْقَ بِحَدِيقَةٍ مِنْ نَخْلٍ، فَأَعْطَاهُ الْيَتِيمَ.
فَلَمْ يَلْبَثْ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ أَنْ جَاءَ كُفّارُ قُرَيْشٍ إلَى أُحُدٍ، فَخَرَجَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ فَقُتِلَ شَهِيدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة.
قَالُوا: فَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ أَرْسَلُوا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر.
__________
[ (1) ] فى ب: «فضخ اليتيم» .(2/505)
فَحَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ السّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُرْسِلَنِي إلَيْهِمْ، دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى حُلَفَائِك، فَإِنّهُمْ أَرْسَلُوا إلَيْك مِنْ بَيْنِ الْأَوْسِ.
قَالَ: فَدَخَلْت عَلَيْهِمْ وَقَدْ اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ، فَبَهَشُوا [ (1) ] إلَيّ وَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ، نَحْنُ مَوَالِيك دُونَ النّاسِ كُلّهِمْ. فَقَامَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ فَقَالَ: أَبَا بَشِيرٍ، قَدْ عَلِمْت مَا صَنَعْنَا فِي أَمْرِك وَأَمْرِ قَوْمِك يَوْمَ الْحَدَائِقِ وَبُعَاثٍ، وَكُلّ حَرْبٍ كُنْتُمْ فِيهَا. وَقَدْ اشْتَدّ عَلَيْنَا الْحِصَارُ وَهَلَكْنَا، وَمُحَمّدٌ يَأْبَى يُفَارِقُ حِصْنَنَا حَتّى نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِهِ. فَلَوْ زَالَ عَنّا لَحِقْنَا بِأَرْضِ الشّامِ أَوْ خَيْبَرَ، وَلَمْ نَطَأْ لَهُ حُرّا [ (2) ] أَبَدًا، وَلَمْ نُكْثِرْ عَلَيْهِ جَمْعًا أَبَدًا. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: أَمّا مَا كَانَ هَذَا مَعَكُمْ، فَلَا يَدَعُ هَلَاكَكُمْ- وَأَشَرْت إلَى حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ. قَالَ كَعْبٌ: هُوَ وَاَللهِ أَوْرَدَنِي ثُمّ لَمْ يُصْدِرْنِي.
فَقَالَ حُيَيّ: فَمَا أَصْنَعُ؟ كُنْت أَطْمَعُ فِي أَمْرِهِ، فَلَمّا أَخْطَأَنِي آسَيْتُك بِنَفْسِي، يُصِيبُنِي مَا أَصَابَك. قَالَ كَعْبٌ: وَمَا حَاجَتِي إلَى أَنْ أُقْتَلَ أَنَا وَأَنْتَ وَتُسْبَى ذَرَارِيّنَا؟ قَالَ حُيَيّ: مَلْحَمَةٌ وَبَلَاءٌ كُتِبَ عَلَيْنَا. ثُمّ قَالَ كَعْبٌ: مَا تَرَى، فَإِنّا قَدْ اخْتَرْنَاك عَلَى غَيْرِك؟ إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلّا أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِهِ، أَفَنَنْزِلُ [ (3) ] ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْزِلُوا- وَأَوْمَأَ إلَى حَلْقِهِ، هُوَ الذّبْحُ. قَالَ: فَنَدِمْت فَاسْتَرْجَعْت، فَقَالَ لِي كَعْبٌ: مَا لَك يَا أَبَا لُبَابَةَ؟
فَقُلْت: خُنْت اللهَ وَرَسُولَهُ. فنزلت وإنّ لحيتي لمبتلّة من الدموع،
__________
[ (1) ] بهشوا إلى: أسرعوا إلى. (النهاية، ج 1، ص 101) .
[ (2) ] الحرا، بالفتح والقصر: جناب الرجل. (النهاية، ج 1، ص 222) .
[ (3) ] فى ب: «فننزل» .(2/506)
وَالنّاسُ يَنْتَظِرُونَ رُجُوعِي إلَيْهِمْ. حَتّى أَخَذْت مِنْ وَرَاءِ الْحِصْنِ طَرِيقًا آخَرَ حَتّى جِئْت إلَى الْمَسْجِدِ فَارْتَبَطْت، فَكَانَ ارْتِبَاطِي إلَى الْأُسْطُوَانَةِ الْمُخَلّقَةِ [ (1) ] الّتِي تُقَالُ أُسْطُوَانَةُ التّوْبَةِ- وَيُقَالُ لَيْسَ تِلْكَ، إنّمَا ارْتَبَطَ إلَى أُسْطُوَانَةٍ كَانَتْ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ عِنْدَ بَابِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ-
وَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَابِي وَمَا صَنَعْت فَقَالَ:
دَعُوهُ حَتّى يُحْدِثَ اللهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ. لَوْ كَانَ جَاءَنِي اسْتَغْفَرْت لَهُ، فَأَمّا إذْ لَمْ يَأْتِنِي وَذَهَبَ فَدَعُوهُ!
قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: فَكُنْت فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَأَذْكُرُ رُؤْيَا رَأَيْتهَا.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ. عَنْ أَيّوبَ بْنِ خَالِدٍ: قَالَ، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ:
رَأَيْت فِي النّوْمِ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو بَنِي قُرَيْظَةَ كَأَنّي فِي حَمْأَةٍ آسِنَةٍ، فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْهَا حَتّى كِدْت أَمُوتَ مِنْ رِيحِهَا. ثُمّ أَرَى نَهَرًا جَارِيًا، فَأَرَانِي اغْتَسَلْت مِنْهُ حَتّى اسْتَنْقَيْتُ، وَأَرَانِي أَجِدُ رِيحًا طَيّبَةً. فَاسْتَعْبَرَهَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ:
لَتَدْخُلَنّ فِي أَمْرٍ تَغْتَمّ لَهُ، ثُمّ يُفَرّجُ عَنْك. فَكُنْت أَذْكُرُ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَنَا مُرْتَبِطٌ، فَأَرْجُو أَنْ تَنْزِلَ تَوْبَتِي.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ أَبَا لُبَابَةَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَلَمّا أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ عَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ. وَارْتَبَطَ أَبُو لُبَابَةَ سَبْعًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الّتِي عِنْدَ بَابِ أُمّ سَلَمَةَ فِي حَرّ شَدِيدٍ، لَا يَأْكُلُ فِيهِنّ وَلَا يَشْرَبُ، وَقَالَ: لَا أَزَالُ هَكَذَا حَتّى أُفَارِقَ الدّنْيَا أَوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيّ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى مَا يَسْمَعُ الصّوْتَ مِنْ الْجَهْدِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ بكرة
__________
[ (1) ] أى التي طليت بالخلوق، وهو ما يخلق به من الطيب. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 158) .(2/507)
وَعَشِيّةً، ثُمّ تَابَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَنُودِيَ: إنّ اللهَ قَدْ تَابَ عَلَيْك! وَأَرْسَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ لِيُطْلِقَ عَنْهُ رِبَاطَهُ، فَأَبَى أَنْ يُطْلِقَهُ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ فَأَطْلَقَهُ.
قَالَ الزّهْرِيّ: فَحَدّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحِلّ عَنْهُ رِبَاطَهُ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ لَيَرْفَعُ صَوْتَهُ يُكَلّمُهُ وَيُخْبِرُهُ بِتَوْبَتِهِ، وَمَا يَدْرِي كَثِيرًا مِمّا يَقُولُ مِنْ الْجَهْدِ وَالضّعْفِ. وَيُقَالُ مَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْبُوطًا، وَكَانَتْ ابْنَتُهُ تَأْتِيهِ بِتَمَرَاتٍ لِفِطْرِهِ، فَيَلُوكُ مِنْهُنّ وَيَتْرُكُ وَيَقُولُ: وَاَللهِ، مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَسِيغَهَا فَرَقًا أَلّا تَنْزِلَ تَوْبَتِي. وَتُطْلِقُهُ عِنْدَ وَقْتِ كُلّ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ تَوَضّأَ، وَإِلّا أَعَادَتْ الرّبَاطَ. وَلَقَدْ كَانَ الرّبَاطُ حَزّ فِي ذِرَاعَيْهِ، وَكَانَ مِنْ شَعَرٍ، وَكَانَ يُدَاوِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ يَبِينُ فِي ذِرَاعَيْهِ بَعْدَ مَا بَرِئَ. وَقَدْ سَمِعْنَا فِي تَوْبَتِهِ وَجْهًا آخَرَ.
حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بن عبد الرحمن ابن ثَوْبَانَ [ (1) ] ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إنّ تَوْبَةَ أَبِي لُبَابَةَ نَزَلَتْ فِي بَيْتِي. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَسَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فِي السّحَرِ فَقُلْت: مِمّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَضْحَكَ اللهُ سِنّك؟ قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ. قَالَتْ، قُلْت: أُوذِنُهُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا شِئْت. قَالَتْ: فَقُمْت عَلَى بَابِ الْحُجْرَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فقد تاب الله عليك
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لوبان» ، والتصحيح من ب، ومن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 217) .(2/508)
فَثَارَ النّاسُ إلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لَا، حَتّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللهِ فَيَكُونَ هُوَ الّذِي يُطْلِقُ عَنّي. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصّبْحِ أَطْلَقَهُ. وَنَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. [ (1) ]
الْآيَةَ. وَيُقَال نَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [ (2) ] .
وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: نَزَلَتْ فِيهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ. [ (3) ]
الْآيَةَ. وَأَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً.
وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنَا أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الّتِي أَصَبْت فِيهَا هَذَا الذّنْبَ، فَأُخْرِجُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِئُ عَنْك الثّلُثُ.
فَأَخْرَجَ الثّلُثَ، وَهَجَرَ أَبُو لُبَابَةَ دَارَ قَوْمِهِ. ثُمّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبِنْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهُ إلّا خَيْرٌ حَتّى فَارَقَ الدّنْيَا.
قَالُوا: وَلَمّا جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ وَنَزَلُوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وَسَلّم أَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِأَسْرَاهُمْ فَكُتّفُوا رِبَاطًا، وَجُعِلَ عَلَى كِتَافِهِمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَنُحّوا نَاحِيَةً، وَأَخْرَجُوا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ مِنْ الْحُصُونِ فَكَانُوا نَاحِيَةً وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ الله صلّى الله
__________
[ (1) ] سورة 9 التوبة 102.
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 27.
[ (3) ] سورة 5 المائدة 41.(2/509)
عليه وسلم بِجَمْعِ أَمْتِعَتِهِمْ وَمَا وُجِدَ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْأَثَاثِ وَالثّيَابِ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: وُجِدَ فِيهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ سَيْفٍ، وَثَلَاثُمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَلْفَا رُمْحٍ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ تُرْسٍ وَحَجَفَةٍ [ (1) ] . وَأَخْرَجُوا أَثَاثًا كَثِيرًا، وَآنِيَةً كَثِيرَةً، وَوَجَدُوا خَمْرًا وَجِرَارَ سَكَرٍ، فَهُرِيقَ ذَلِكَ كُلّهُ وَلَمْ يُخَمّسْ. وَوَجَدُوا مِنْ الْجِمَالِ النّوَاضِحِ عِدّةً، وَمِنْ الْمَاشِيَةِ، فَجُمِعَ هَذَا كُلّهُ.
حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أَنَا كُنْت مِمّنْ كَسَرَ جِرَارَ السّكَرِ يَوْمَئِذٍ.
حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: وَتَنَحّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، وَدَنَتْ الْأَوْسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، حُلَفَاؤُنَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وقد رأيت ما صنعت ببني فينقاع بِالْأَمْسِ حُلَفَاءِ ابْنِ أُبَيّ، وَهَبْت لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ حَاسِرٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ دَارِعٍ. وَقَدْ نَدِمَ حُلَفَاؤُنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَقْضِهِمْ الْعَهْدَ، فَهَبْهُمْ لَنَا. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ، لَا يَتَكَلّمُ حَتّى أَكْثَرُوا عَلَيْهِ وَأَلَحّوا وَنَطَقَتْ الْأَوْسُ كُلّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِمْ إلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ؟
قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَسَعْدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ [ (2) ] بِنْتِ سَعْدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَلُمّ الشّعَثَ، وَتَقُومُ عَلَى الضّائِعِ وَاَلّذِي لَا أَحَدَ لَهُ. وَكَانَ لَهَا خَيْمَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سَعْدًا فيها. فلمّا جعل رسول الله
__________
[ (1) ] الحجفة: الترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. (الصحاح، ص 1341) .
[ (2) ] هكذا فى النسخ. ويقال أيضا «رفيدة» كما ذكر ابن إسحق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 250) .(2/510)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَرَجَتْ الْأَوْسُ حَتّى جَاءُوهُ، فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ بِشَنَذَةٍ [ (1) ] مِنْ لِيفٍ، وَعَلَى الْحِمَارِ قَطِيفَةٌ فَوْقَ الشّنَذَةِ وَخِطَامُهُ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ. فَخَرَجُوا حَوْلَهُ يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلّاك أَمْرَ مَوَالِيك لِتُحْسِنَ فِيهِمْ فَأَحْسِنْ، فَقَدْ رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ وَمَا صَنَعَ فِي حُلَفَائِهِ. وَالضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ يَقُولُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَوَالِيَك، مَوَالِيَك! قَدْ مَنَعُوك فِي الْمَوَاطِنِ كُلّهَا، وَاخْتَارُوك عَلَى مَنْ سِوَاك وَرَجَوْا عِيَاذَك [ (2) ] ، وَلَهُمْ جِمَالٌ وَعِدَدٌ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيك وَحُلَفَائِك، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْبَقِيّةَ! نَصَرُوك يَوْمَ الْبُعَاثِ وَالْحَدَائِقِ وَالْمَوَاطِنِ، وَلَا تَكُنْ شَرّا مِنْ ابْنِ أُبَيّ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَجَعَلَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، وَإِنّا وَاَللهِ قَاتَلْنَا بِهِمْ فَقَتَلْنَا، وَعَازَزْنَا بِهِمْ فَعَزَزْنَا! قَالُوا: وَسَعْدٌ لَا يَتَكَلّمُ، حَتّى إذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ سَعْدٌ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلّا تَأْخُذَهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
فقال الضّحّاك بن خليفة: وا قوماه! ثُمّ رَجَعَ الضّحّاكُ إلَى الْأَوْسِ فَنَعَى لَهُمْ بنى قريظة. وقال معتّب بن قشير: وا سوء صَبَاحَاهُ! وَقَالَ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ الظّفَرِيّ: ذَهَبَ قَوْمِي آخِرَ الدّهْرِ.
وَأَقْبَلَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنّاسُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ، فَلَمّا طَلَعَ سَعْدٌ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ. فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: فَقُمْنَا لَهُ عَلَى أَرْجُلِنَا صَفّيْنِ، يُحَيّيهِ كُلّ رَجُلٍ مِنّا، حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: إنّمَا عَنَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «قُومُوا إلَى سَيّدِكُم» يَعْنِي بِهِ الْأَنْصَارَ دُونَ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بسند» ، وما أثبتناه هو قراءة ب. والشنذة: شبه إكاف يجعل لمقدمته حنو.
(النهاية، ج 2، ص 238) .
[ (2) ] فى ب: «عائذيك» .(2/511)
قُرَيْشٍ. قَالَتْ الْأَوْسُ الّذِينَ بَقُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ:
يَا أَبَا عَمْرٍو، إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلّاك الْحُكْمَ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ وَاذْكُرْ بَلَاءَهُمْ عِنْدَك. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: أَتَرْضَوْنَ بِحُكْمِي لِبَنِي قُرَيْظَةَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ رَضِينَا بِحُكْمِك وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنّا، اخْتِيَارًا مِنّا لَك وَرَجَاءَ أَنْ تَمُنّ عَلَيْنَا كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُك فِي حُلَفَائِهِ مِنْ قَيْنُقَاعَ، وَأَثَرُنَا عِنْدَك أَثَرُنَا، وَأَحْوَجُ مَا كُنّا الْيَوْمَ إلَى مُجَازَاتِك. فَقَالَ سَعْدٌ: لَا آلُوكُمْ جَهْدًا. فَقَالُوا: مَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ هَذَا؟ ثُمّ قَالَ: عَلَيْكُمْ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ أَنّ الْحُكْمَ فِيكُمْ مَا حَكَمْت؟
قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ سَعْدٌ لِلنّاحِيَةِ الْأُخْرَى الّتِي فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهَا إجْلَالًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا مِثْلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ: نَعَمْ.
قَالَ سَعْدٌ: فَإِنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَتُسْبَى النّسَاءُ وَالذّرّيّةُ، وَتُقْسَمُ الْأَمْوَالُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللهِ عَزّ وَجَلّ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ [ (1) ] . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي اللّيْلَةِ الّتِي فِي صُبْحِهَا نَزَلَتْ قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا فَقَالَ: اللهُمّ، إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنّهُ لَا قَوْمَ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَ اللهِ، وَآذَوْهُ وَأَخْرَجُوهُ! وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ وَضَعَتْ أَوْزَارَهَا عَنّا وَعَنْهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً، وَلَا تُمِتْنِي حَتّى تُقِرّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ! فَأَقَرّ اللهُ عَيْنَهُ مِنْهُمْ. فَأَمَرَ بِالسّبْيِ فَسِيقُوا إلَى دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ إلى دار ابنة الحارث [ (2) ] . وأمر رسول
__________
[ (1) ] الأرقعة: السموات، الواحدة رقيع. (شرح أبى ذر، ص 306) .
[ (2) ] هي رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 164) . وقال السهيلي: اسمها كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس. (الروض الأنف، ج 2، ص 198) .(2/512)
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَالِ التّمْرِ فَنُثِرَتْ عَلَيْهِمْ، فَبَاتُوا يَكْدُمُونَهَا كَدْمَ الْحُمُرِ، وَجَعَلُوا لَيْلَتَهُمْ يَدْرُسُونَ التّوْرَاةَ، وَأَمَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالثّبَاتِ عَلَى دِينِهِ وَلُزُومِ التّوْرَاةِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّلَاحِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ وَالثّيَابِ، فَحُمِلَ إلَى دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأَمَرَ بِالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَتُرِكَتْ هُنَاكَ تَرْعَى فِي الشّجَرِ. قَالُوا: ثُمّ غَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم إلى السنوق، فَأَمَرَ بِخُدُودٍ [ (1) ] فَخُدّتْ فِي السّوقِ مَا بَيْنَ مَوْضِعِ دَارِ أَبِي جَهْمٍ الْعَدَوِيّ إلَى أَحْجَارِ الزّيْتِ بِالسّوقِ، فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَحْفِرُونَ هُنَاكَ، وَجَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ، وَدَعَا بِرِجَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ رَسْلًا رَسْلًا، تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ. فَقَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ: مَا تَرَى مُحَمّدًا مَا يَصْنَعُ بنا؟ قال: ما يسوؤكم وما ينوؤكم، وَيْلَكُمْ! عَلَى كُلّ حَالٍ لَا تَعْقِلُونَ! أَلَا تَرَوْنَ أَنّ الدّاعِيَ لَا يَنْزِعُ، وَأَنّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ؟
هُوَ وَاَللهِ السّيْفُ، قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى غَيْرِ هَذَا فَأَبَيْتُمْ! قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ، لَوْلَا أَنّا كَرِهْنَا أَنْ نُزْرِيَ بِرَأْيِك مَا دَخَلْنَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ الّذِي كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. قَالَ حُيَيّ: اُتْرُكُوا مَا تَرَوْنَ مِنْ التّلَاوُمِ فَإِنّهُ لَا يَرُدّ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَاصْبِرُوا لِلسّيْفِ. فَلَمْ يَزَالُوا يُقْتَلُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الّذِينَ يَلُونَ قَتْلَهُمْ عَلِيّ وَالزّبَيْرُ. ثُمّ أُتِيَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، عَلَيْهِ حُلّةٌ شَقْحِيّةٌ [ (2) ] قَدْ لَبِسَهَا لِلْقَتْلِ، ثُمّ عَمَدَ إلَيْهَا فَشَقّهَا أُنْمُلَةً لِئَلّا يَسْلُبَهُ إيّاهَا أَحَدٌ، وَقَدْ قَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ طَلَعَ: أَلَمْ يُمَكّنْ اللهُ مِنْك يَا عدوّ الله؟ قال:
__________
[ (1) ] الحدود: الحفر المستطيلة فى الأرض. (القاموس المحيط، ج 1، ص 290) .
[ (2) ] حلة شقحية: أى حمراء. (النهاية، ج 2، ص 229) . وعلى هامش ب: «تشبيه بالبلح إذا شقح وهو إذا بدأ يحمر» .(2/513)
بَلَى وَاَللهِ، مَا لُمْت نَفْسِي فِي عَدَاوَتِك، وَلَقَدْ الْتَمَسْت الْعِزّ فِي مَكَانِهِ [ (1) ] ، وَأَبَى اللهُ إلّا أَنْ يُمَكّنَك مِنّي، وَلَقَدْ قَلْقَلْت كُلّ مُقَلْقَلٍ [ (2) ] ، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللهُ يُخْذَلْ. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ، لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللهِ! قَدْرٌ وَكِتَابٌ، مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ! ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، ثُمّ أُتِيَ بِغَزّالِ بْنِ سَمَوْأَلٍ فَقَالَ: أَلَمْ يُمَكّنْ اللهُ مِنْك؟ قَالَ: بَلَى يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَمَرَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. ثُمّ أُتِيَ بِنَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ جَابَذَ [ (3) ] الّذِي جَاءَ بِهِ حَتّى قَاتَلَهُ فَدَقّ الّذِي جَاءَ بِهِ أَنْفَهُ فَأَرْعَفَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلّذِي جَاءَ بِهِ: لِمَ صَنَعْت بِهِ هَذَا؟ أَمَا كَانَ فِي السّيْفِ كِفَايَةٌ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَابَذَنِي لِأَنْ يَهْرُبَ. فَقَالَ: كَذَبَ وَالتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَوْ خَلّانِي مَا تَأَخّرْت عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ قَوْمِي حَتّى أَكُونَ كَأَحَدِهِمْ. قَالَ: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْسِنُوا إسَارَهُمْ، وَقَيّلُوهُمْ، وَأَسْقُوهُمْ حَتّى يُبْرِدُوا فَتَقْتُلُوا مَنْ بَقِيَ، لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرّ الشّمْسِ وَحَرّ السّلَاحِ- وَكَانَ يَوْمًا صَائِفًا.
فَقَيّلُوهُمْ وَأَسْقَوْهُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ، فَلَمّا أَبْرَدُوا رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ مَنْ بَقِيَ، وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ، وَكَانَتْ إحْدَى خَالَاتِهِ، وَكَانَتْ قَدْ صَلّتْ الْقِبْلَتَيْنِ وَبَايَعَتْهُ، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ لَهُ انْقِطَاعٌ إلَيْهَا وَإِلَى أَخِيهَا سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ وَأَهْلِ الدّارِ، وَكَانَ حِينَ حُبِسَ أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنْ كَلّمِي مُحَمّدًا فِي تَرْكِي، فَإِنّ لِي بِكُمْ حُرْمَةً، وَأَنْتِ إحْدَى أُمّهَاتِهِ، فَتَكُونَ لَكُمْ عِنْدِي يَدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ رسول الله صلّى الله
__________
[ (1) ] فى ب: «فى مظانه» .
[ (2) ] أى ذهبت فى كلى وجه فى البلاد. (أساس البلاغة، ص 788) .
[ (3) ] جابذ: مقلوب جاذب.(2/514)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَك يَا أُمّ الْمُنْذِرِ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ كَانَ يَغْشَانَا وَلَهُ بِنَا حُرْمَةٌ فَهَبْهُ لِي. وَقَدْ رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوذُ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، هُوَ لَك. ثُمّ قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ سَيُصَلّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ: إنْ يُصَلّ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ يَثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَهُوَ شَرّ لَهُ.
قَالَتْ: فَأَسْلَمَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مَوْلَى أُمّ الْمُنْذِرِ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ الدّارَ، حَتّى بَلَغَ أُمّ الْمُنْذِرِ ذَلِكَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ: إنّي وَاَللهِ مَا أَنَا لَك بِمَوْلَاةٍ، وَلَكِنّي كَلّمْت رَسُولَ اللهِ فَوَهَبَك لِي، فَحَقَنْت دَمَك وَأَنْتَ عَلَى نَسَبِك.
فَكَانَ بَعْدُ يَغْشَاهَا، وَعَادَ إلَى الدّارِ.
وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَا: يَا رَسُولِ اللهِ، إنّ الْأَوْسَ كَرِهَتْ قَتْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَكَانِ حِلْفِهِمْ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:
يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَرِهَهُ مِنْ الْأَوْسِ مَنْ فِيهِ [ (1) ] خَيْرٌ، فَمَنْ كَرِهَهُ مِنْ الْأَوْسِ لَا أَرْضَاهُ اللهُ! فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تُبْقِيَنّ دَارًا مِنْ دُورِ الْأَوْسِ إلّا فَرّقْتهمْ فِيهَا، فَمَنْ سَخِطَ ذَلِكَ فَلَا يُرْغِمُ اللهُ إلّا أَنْفَهُ، فَابْعَثْ إلَى دَارِي أَوّلَ دُورِهِمْ. فَبَعَثَ إلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِاثْنَيْنِ، فَضَرَبَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَضَرَبَ أَبُو نَائِلَةَ الْآخَرَ. وَبَعَثَ إلَى بَنِي حَارِثَةَ بِاثْنَيْنِ، فَضَرَبَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ النّيَارِ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَذَفّفَ [ (2) ] عَلَيْهِ مُحَيّصَةُ، وَضَرَبَ الْآخَرُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، ذَفّفَ عَلَيْهِ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ.
وَبَعَثَ إلَى بَنِي ظَفَرٍ بِأَسِيرَيْنِ.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر بن قتادة، قال:
__________
[ (1) ] فى ب: «أحد فيه خير» .
[ (2) ] ذفف عليه: أجهزه. (القاموس المحيط، ج 3، ص 142) .(2/515)
قَتَلَ أَحَدَهُمَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَقَتَلَ الْآخَرَ نصر بْنُ الْحَارِثِ. قَالَ عَاصِمٌ:
وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُعَاوِيّ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيْنَا- بَنِي مُعَاوِيَةَ- بِأَسِيرَيْنِ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ، وَقَتَلَ الْآخَرَ نُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بلىّ. قالوا: وَأَرْسَلَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِأَسِيرَيْنِ، عُقْبَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَخِيهِ وَهْبِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالْآخَرَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَأَرْسَلَ إلَى بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ.
وَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بكعب ابن أَسَدٍ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ.
قَالَ: وَمَا انْتَفَعْتُمْ بِنُصْحِ ابْنِ خِرَاشٍ [ (1) ] وَكَانَ مُصَدّقًا بِي، أَمَا أَمَرَكُمْ بِاتّبَاعِي وَإِنْ رَأَيْتُمُونِي تُقْرِئُونِي مِنْهُ السّلَامَ؟ قَالَ: بَلَى وَالتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَوْلَا أَنْ تُعَيّرَنِي الْيَهُودُ بِالْجَزَعِ مِنْ السّيْفِ لَاتّبَعْتُك، وَلَكِنّي عَلَى دِينِ الْيَهُودِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
فَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو ابن سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: لَمّا قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ، وَنَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، وَغَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ، وَكَعْبَ بْنَ أَسَدٍ وَقَامَ، قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: عَلَيْك بِمَنْ بَقِيَ.
فَكَانَ سَعْدٌ يُخْرِجُهُمْ رَسْلًا رَسْلًا يَقْتُلُهُمْ.
قَالُوا: وَكَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي النّضِيرِ يُقَالُ لَهَا نُبَاتَةُ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَكَانَ يُحِبّهَا وَتُحِبّهُ، فَلَمّا اشْتَدّ عَلَيْهِمْ الْحِصَارُ بَكَتْ إلَيْهِ وَقَالَتْ: إنّك لَمُفَارِقِي. فَقَالَ: هُوَ وَالتّوْرَاةِ مَا تَرَيْنَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ فَدَلّي عَلَيْهِمْ هَذِهِ الرّحَى، فَإِنّا لَمْ نَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا بَعْدُ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ، وإن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «جواس» ، وفى ب: «جواش» . وما أثبتناه من ث، ومن السيرة الحلبية.
(ج 2، ص 120) .(2/516)
يَظْهَرْ مُحَمّدٌ عَلَيْنَا لَا يَقْتُلْ النّسَاءَ. وَإِنّمَا كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُسْبَى، فَأَحَبّ أَنْ تُقْتَلَ بِجُرْمِهَا. وَكَانَتْ فِي حِصْنِ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا، فَدَلّتْ رَحًى فَوْق الْحِصْنِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ رُبّمَا جَلَسُوا تَحْتَ الْحِصْنِ يَسْتَظِلّونَ فِي فَيْنِهِ، فَأَطْلَعَتْ الرّحَى، فَلَمّا رَآهَا الْقَوْمُ انْفَضّوا، وَتُدْرِكُ خَلّادَ بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الْحِصْنِ. فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلُوا، دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَجَعَلَتْ تَضْحَكُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَهِيَ تَقُولُ: سَرَاةُ بَنِي قُرَيْظَةَ يُقْتَلُونَ! إذْ سَمِعَتْ صَوْتَ قَائِلٍ يَقُولُ:
يَا نُبَاتَةُ. قَالَتْ: أَنَا وَاَللهِ الّتِي أُدْعَى. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ:
قَتَلَنِي زَوْجِي- وَكَانَتْ جَارِيَةً حُلْوَةَ الْكَلَامِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَيْفَ قَتَلَك زَوْجُك؟ قَالَتْ: كُنْت فِي حِصْنِ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا، فَأَمَرَنِي فَدَلّيْت رَحًى عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فَشَدَخَتْ رَأْسَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَمَاتَ وَأَنَا أُقْتَلُ بِهِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَقُتِلَتْ بِخَلّادِ بْنِ سُوَيْدٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ:
لَا أَنْسَى طَيّبَ نَفْسِ نُبَاتَةَ وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا تُقْتَلُ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: قُتِلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ يَوْمَهُمْ حَتّى قُتِلُوا بِاللّيْلِ عَلَى شُعَلِ السّعَفِ.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ ثُمَامَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: قُتِلُوا إلَى أَنْ غَابَ الشّفَقُ، ثُمّ رُدّ عَلَيْهِمْ التّرَابُ فِي الْخَنْدَقِ. وَكَانَ مَنْ شُكّ فِيهِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بَلَغَ نُظِرَ إلَى مُؤْتَزَرِهِ، إنْ كَانَ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْبِتْ طُرِحَ فِي السّبْيِ.
فَحَدّثَنِي عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: كَانُوا سِتّمِائَةٍ إلّا عَمْرَو بْنَ السّعْدَى وُجِدَتْ رمّته [ (1) ] ونحا.
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: خُرُوجُهُ مِنْ الْحِصْنِ أَثْبَتُ.
__________
[ (1) ] انظر ابن إسحق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 249) .(2/517)
وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ [ (1) ] ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: كَانُوا مَا بَيْنَ سِتّمِائَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ.
قَالُوا: وَكَانَ نِسَاءُ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ تَحَوّلُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَفِي دَارِ أُسَامَةَ يَقُلْنَ: عَسَى مُحَمّدٌ أَنْ يَمُنّ عَلَى رِجَالِنَا أَوْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ فِدْيَةً.
فَلَمّا أَصْبَحْنَ وَعَلِمْنَ بِقَتْلِ رِجَالِهِنّ صِحْنَ وَشَقَقْنَ الْجُيُوبَ، وَنَشَرْنَ الشّعُورَ، وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ عَلَى رِجَالِهِنّ، فَمَلَأْنَ الْمَدِينَةَ. قَالَ، يَقُولُ الزّبِيرُ بْن بَاطَا:
اُسْكُتْنَ، فَأَنْتُنّ أَوّلُ مَنْ سُبِيَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُنْذُ كَانَتْ الدّنْيَا؟
وَلَا يُرْفَعُ السّبْيُ عَنْهُمْ حَتّى نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَأَنْتُنّ [ (2) ] ، وَإِنْ كَانَ فِي رِجَالِكُنّ [ (3) ] خَيْرٌ فَدُوكُنّ [ (4) ] ، فَالْزَمْنَ [ (5) ] دِينَ الْيَهُودِ فَعَلَيْهِ نَمُوتُ وَعَلَيْهِ نَحْيَى.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، قَالَا: كَانَ الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا مَنّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَأَتَى ثَابِتٌ الزّبِيرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟
قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَك؟ قَالَ ثَابِتٌ: إنّ لَك عِنْدِي يَدًا، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَجْزِيَك بِهَا.
قَالَ الزّبِيرُ: إنّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ، وَأَحْوَجُ مَا كُنْت إلَيْهِ الْيَوْمَ. فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رسول
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل، وفى ابن حجر. (تهذيب التهذيب، ج 1، ص 356) .
وفى ب: «موسى بن عبيد» .
[ (2) ] فى كل النسخ: «أنتم» .
[ (3) ] فى كل النسخ: «رجالكم» .
[ (4) ] فى الأصل: «فدوكم» ، وما أثبتناه من نسخة ب.
[ (5) ] فى ب: «فلزمتن» .(2/518)
اللهِ إنّهُ كَانَ لِلزّبِيرِ عِنْدِي يَدٌ، جَزّ نَاصِيَتِي يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ: اُذْكُرْ هَذِهِ النّعْمَةَ عِنْدَك. وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا فَهَبْهُ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُوَ لَك.
فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَهَبَك لِي. قَالَ الزّبِيرُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا أَهْلَ وَلَا وَلَدَ وَلَا مَالَ بِيَثْرِبَ، مَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ؟
فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي وَلَدَهُ.
فَأَعْطَاهُ وَلَدَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي مَالَهُ وَأَهْلَهُ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَهْلَهُ، فَرَجَعَ إلَى الزّبِيرِ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ أَعْطَانِي وَلَدَك وَأَهْلَك وَمَالَك. فَقَالَ الزّبِيرُ: يَا ثَابِتُ، أَمّا أَنْتَ فَقَدْ كَافَأْتنِي وَقَضَيْت بِاَلّذِي عَلَيْك. يَا ثَابِتُ، مَا فَعَلَ الّذِي كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ تَتَرَاءَى عَذَارَى الْحَيّ فِي وَجْهِهِ- كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ.
قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، سَيّدُ الْحَيّيْنِ كِلَيْهِمَا، يَحْمِلُهُمْ فِي الْحَرْبِ وَيُطْعِمُهُمْ فِي الْمَحَلّ- حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قتل. قال:
فما فعل أول غدية الْيَهُودِ إذَا حَمَلُوا، وَحَامِيَتُهُمْ إذَا وَلّوْا- غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ؟
قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْحُوّلُ الْقُلّبُ الّذِي لَا يَؤُمّ جَمَاعَةً إلّا فَضّهَا وَلَا عُقْدَةً إلّا حَلّهَا- نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. [قَالَ:] فَمَا فَعَلَ لِوَاءُ الْيَهُودِ فِي الزّحْفِ- وَهْبُ بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِي رِفَادَةِ الْيَهُودِ وَأَبُو الْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ مِنْ الْيَهُودِ- عُقْبَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ.
قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْعَمْرَانِ اللّذَانِ كَانَا يَلْتَقِيَانِ بِدِرَاسَةِ التّوْرَاةِ؟ قَالَ: قُتِلَا.
قَالَ: يَا ثَابِتُ، فَمَا خَيْرٌ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ! أَأَرْجِعُ إلَى دَارٍ كَانُوا فِيهَا حُلُولًا فَأَخْلُدَ فِيهَا بَعْدَهُمْ؟ لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، فَإِنّي أَسْأَلُك بِيَدِي عِنْدَك إلّا قَدّمْتنِي إلَى هَذَا الْقَتّالِ الّذِي يَقْتُلُ سَرَاةَ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمّ يُقَدّمُنِي إلَى مَصَارِعِ قَوْمِي، وَخُذْ سَيْفِي فَإِنّهُ صَارِمٌ فَاضْرِبْنِي بِهِ ضَرْبَةً وَأَجْهِزْ، وَارْفَعْ يَدَك(2/519)
عَنْ الطّعَامِ، وَأَلْصِقْ بِالرّأْسِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ، فَإِنّهُ أَحْسَنُ لِلْجَسَدِ أَنْ يَبْقَى فِيهِ الْعُنُقُ. يَا ثَابِتُ، لَا أَصْبِرُ إفْرَاغَ دَلْوٍ مِنْ نَضْحٍ حَتّى أَلْقَى الْأَحِبّةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ يَسْمَعُ قَوْلَهُ: وَيْحَك يَا ابْنَ بَاطَا، إنّهُ لَيْسَ إفْرَاغَ دَلْوٍ، وَلَكِنّهُ عَذَابٌ أَبَدِيّ. قَالَ: يَا ثَابِتُ، قَدّمْنِي فَاقْتُلْنِي! قَالَ ثَابِتٌ:
ما كنت لأقتلك. قَالَ الزّبِيرُ: مَا كُنْت أُبَالِي مَنْ قَتَلَنِي! وَلَكِنْ يَا ثَابِتُ، اُنْظُرْ إلَى امْرَأَتِي وَوَلَدِي فَإِنّهُمْ جَزِعُوا مِنْ الْمَوْتِ، فَاطْلُبْ إلَى صَاحِبِك أَنْ يُطْلِقَهُمْ وَأَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ. وَأَدْنَاهُ إلَى الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ، فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَطَلَبَ ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَرَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ مِنْ السّبَا، وَرَدّ عَلَيْهِمْ الْأَمْوَالَ مِنْ النّخْلِ وَالْإِبِلِ وَالرّثّةِ إلّا الْحَلْقَةَ، فَإِنّهُ لَمْ يَرُدّهَا عَلَيْهِمْ. فَكَانُوا مَعَ آلِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ.
قَالُوا: وَكَانَتْ رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدٍ مِنْ بَنِي النّضِيرِ مُتَزَوّجَةً فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ صَفِيّا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَعَرَضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَبَتْ إلّا الْيَهُودِيّةَ. فَعَزَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ سَعِيّةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيّةَ: فِدَاك أَبِي وَأُمّي، هِيَ تُسْلِمُ! فَخَرَجَ حَتّى جَاءَهَا، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: لَا تَتّبِعِي قَوْمَك،
فَقَدْ رَأَيْت مَا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، فَأَسْلِمِي يَصْطَفِيك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ إذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ فَقَالَ: إنّ هَاتَيْنِ لَنَعْلَا ابْنِ سَعِيّةَ يُبَشّرُنِي بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ. فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ! فَسُرّ بِذَلِكَ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي(2/520)
صَعْصَعَةَ، عَنْ أَيّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْمُعَاوِيّ، قَالَ: أَرْسَلَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ أُمّ الْمُنْذِرِ، وَكَانَتْ عِنْدَهَا حَتّى حَاضَتْ حَيْضَةً، ثُمّ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، فَجَاءَتْ أُمّ الْمُنْذِرِ فَأَخْبَرَتْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِ أُمّ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: إنْ أَحْبَبْت أُعْتِقُك وَأَتَزَوّجُك فَعَلْتُ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ تَكُونِي فِي مِلْكِي أَطَؤُك بِالْمِلْكِ فَعَلْتُ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ أَخَفّ عَلَيْك وَعَلَيّ أَنْ أَكُونَ فِي مِلْكِك. فَكَانَتْ فِي مِلْكِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطَؤُهَا حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: سَأَلْت الزّهْرِيّ عَنْ رَيْحَانَةَ فَقَالَ: كَانَتْ أَمَةً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا، وَكَانَتْ تَحْتَجِبُ فِي أَهْلِهَا وَتَقُولُ: لَا يَرَانِي أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا أَثْبَتُ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَنَا. وَكَانَ زَوْجُ رَيْحَانَةَ قَبْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَكَمَ.
ذِكْرُ قَسْمِ الْمَغْنَمِ وَبَيْعِهِ
قَالُوا: لَمّا اجْتَمَعَتْ الْمَغَانِمُ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَتَاعِ فَبِيعَ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَبِيعَ السّبْيُ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَقُسِمَتْ النّخْلُ. فَكَانَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَظَفَرٍ، وَحَارِثَةَ، وَبَنُو مُعَاوِيَةَ، وَهَؤُلَاءِ النّبِيتُ [ (1) ] ، لَهُمْ سَهْمٌ. وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْأَوْسِ سَهْمًا. وَكَانَتْ بَنُو النّجّارِ، وَمَازِنٍ، وَمَالِكٍ، وَذُبْيَانَ، وَعَدِيّ، سَهْمًا. وَكَانَتْ سَلِمَةُ، وَزُرَيْقٌ، وَبَلْحَارِثُ بْنُ الْخَزْرَجِ، سَهْمًا. وَكَانَتْ الْخَيْلُ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، فَكَانَتْ أَوّلَ مَا أُعْلِمَتْ سُهْمَانُ الْخَيْلِ يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ، ثم فى بنى
__________
[ (1) ] أى من ولد النبيت، وهو عمرو بن مالك بن الأوس. (جمهرة أنساب العرب، ص 332) .(2/521)
قُرَيْظَةَ أَيْضًا عُمِلَ فِيهَا مَا عُمِلَ فِي الْمُرَيْسِيعِ. أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ، وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ. وَأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَلّادِ بْنِ سُوَيْدٍ، قُتِلَ تَحْتَ الْحِصْنِ، وَأَسْهَمَ لِأَبِي سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ، مَاتَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرُهُمْ، وَكَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَالْخَيْلُ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، فَكَانَتْ السّهْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ.
وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ الْخَيْلُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ سِتّا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَقَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ، فَلَمْ يَضْرِبْ إلّا سَهْمًا وَاحِدًا، وَكَانَتْ السّهْمَانُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَهْمًا، وَأَسْهَمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَجُزّئَتْ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَكُتِبَ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «لِلّهِ» ، وَكَانَتْ السّهْمَانُ يَوْمَئِذٍ بَوَاءً [ (1) ] ، فَخَرَجَتْ السّهْمَانُ، وَكَذَلِك الرّثّةُ وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالسّبْيُ. ثُمّ فُضّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى النّاسِ، وَأَحْذَى [ (2) ] النّسَاءَ يَوْمَئِذٍ اللّاتِي حَضَرْنَ الْقِتَالَ، وَضَرَبَ لِرَجُلَيْنِ- وَاحِدٍ [ (3) ] قُتِلَ وَآخَرَ مَاتَ. وَأَحْذَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً شَهِدْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنّ- صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ عُمَارَةَ، وَأُمّ سَلِيطٍ، وَأُمّ الْعَلَاءِ، وَالسّمَيْرَاءُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَأُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ نَجْرَةَ السّاعِدِيّ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: حَضَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيعُ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ الْيَهُودِيّ امْرَأَتَيْنِ، مَعَ كُلّ
__________
[ (1) ] بواء: أى سواء. (القاموس المحيط، ج 1، ص 9) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل. وفى ب: «وأخذ» . وأحذى الغنيمة: أى أعطى منها. (الصحاح، ص 2311) .
[ (3) ] فى الأصل: «واحدا» .(2/522)
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَطْفَالٍ غِلْمَانٍ، وَجَوَارٍ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ دِينَارٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ عَلَى دِينِ الْيَهُودِ؟ فَتَقُولُ الْمَرْأَتَانِ: لَا نُفَارِقُ دِينَ قَوْمِنَا حَتّى نَمُوتَ عَلَيْهِ! وَهُنّ يَبْكِينَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا سُبِيَ بَنُو قُرَيْظَةَ- النّسَاءُ وَالذّرّيّةُ- بَاعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ طَائِفَةً، وَبَعَثَ طَائِفَةً إلَى نَجْدٍ، وَبَعَثَ طَائِفَةً إلَى الشّامِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، يَبِيعُهُمْ وَيَشْتَرِي بِهِمْ سِلَاحًا وَخَيْلًا، وَيُقَالُ بَاعَهُمْ بَيْعًا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاقْتَسَمَا فَسَهَمَهُ عُثْمَانُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَجَعَلَ عُثْمَانُ عَلَى كُلّ مَنْ جَاءَ مِنْ سَبْيِهِمْ شَيْئًا مُوفِيًا [ (1) ] ، فَكَانَ يُوجَدُ عِنْدَ الْعَجَائِزِ الْمَالُ وَلَا يُوجَدُ عِنْدَ الشّوَابّ، فَرَبِحَ عُثْمَانُ مَالًا كَثِيرًا- وَسَهَمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ- وَذَلِكَ أَنّ عُثْمَانَ صَارَ فِي سَهْمِهِ الْعَجَائِزُ. وَيُقَالُ: لَمّا قَسَمَ جَعَلَ الشّوَابّ عَلَى حِدَةٍ وَالْعَجَائِزَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمّ خَيّرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ عُثْمَانَ، فَأَخَذَ عُثْمَانُ الْعَجَائِزَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ السّبْيُ أَلْفًا مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، فَأَخْرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة قَبْلَ بَيْعِ الْمَغْنَمِ، جَزّأَ السّبْيَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَخَذَ خُمُسًا، فَكَانَ يُعْتِقُ مِنْهُ وَيَهَبُ مِنْهُ، وَيُخَدّمُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ بِمَا أَصَابَ مِنْ رِثّتِهِمْ، قُسِمَتْ قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ، وَكَذَلِكَ النّخْلُ، عَزَلَ خُمُسَهُ. وَكُلّ ذَلِكَ يُسْهِمُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَيَكْتُبُ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «لِلّهِ» ثُمّ يُخْرِجُ السّهْمَ، فَحَيْثُ صَارَ [ (2) ] سَهْمُهُ أَخَذَهُ وَلَمْ يَتَخَيّرْ. وصار الخمس إلى محمية
__________
[ (1) ] فى ب: «موقنا» . وموفيا: أى زيادة على الثمن الذي دفعه. (أساس البلاغة، ص 1024)
[ (2) ] فى ب: «فحيث طار» .(2/523)
ابْنِ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ، وَهُوَ الّذِي قَسَمَ الْمَغْنَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ وَلَا يَتَخَيّرُ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْقَسْمِ وَالْبَيْعِ وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: لَا يُفَرّقُ بَيْنَ الْأُمّ وَوَلَدِهَا حَتّى يَبْلُغُوا. فَقِيلَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا بُلُوغُهُمْ؟ قَالَ: تَحِيضُ الْجَارِيَةُ وَيَحْتَلِمُ الْغُلَامُ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ يُفَرّقُ بَيْن الْأُخْتَيْنِ إذَا بَلَغَتَا، وَبَيْنَ الْأُمّ وَابْنَتِهَا إذَا بَلَغَتْ، وَكَانَتْ الْأُمّ تُبَاعُ، وَوَلَدُهَا الصّغَارُ، مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ، وَمِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَتَيْمَاءَ وَخَيْبَرَ يَخْرُجُونَ بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيدُ صَغِيرًا لَيْسَ مَعَهُ أُمّ لَمْ يُبَعْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا مِنْ الْيَهُودِ، إلّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
فَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بن محمود، قال: قال محمّد ابن مَسْلَمَةَ: ابْتَعْت يَوْمَئِذٍ مِنْ السّبْيِ ثَلَاثَةً، امْرَأَةً مَعَهَا ابْنَاهَا، بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِينَارًا، وَكَانَ ذَلِكَ حَقّي وَحَقّ فَرَسِي مِنْ السّبْيِ وَالْأَرْضِ وَالرّثّةِ، وَغَيْرِي كَهَيْئَتِي. وَكَانَ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، لَهُ سَهْمٌ وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ.
وَحَدّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِيّ- وَكَانَ يُلَقّبُ قُصَيّا- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: شَهِدْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا، فَضُرِبَ لِي سَهْمٌ، وَلِفَرَسِي سَهْمٌ.(2/524)
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ الزّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ فَرَسَانِ، فَأَسْهَمَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ.
ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
قالوا: لَمّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ رَجَعَ إلَى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ بِنْتِ سَعْدٍ الْأَسْلَمِيّةِ، وَكَانَ رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ- وَيُقَالُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ- فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّارِ، وَانْتَفَخَتْ يَدُهُ فَتَرَكَهُ فَسَالَ الدّمُ، فَحَسَمَهُ أُخْرَى فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: اللهُمّ، رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السّبْعِ، فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ فِي النّاسِ قَوْمٌ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَك، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ! وَإِنّي أَظُنّ أَنْ قَدْ وُضِعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِي أُقَاتِلُهُمْ فِيك! وَإِنْ كُنْت قَدْ وَضَعْت الْحَرْبَ، فَافْجُرْ هَذَا الْكَلْمَ وَاجَعَل مَوْتِي فِيهِ، فَقَدْ أَقْرَرْت عَيْنَيّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، لِعَدَاوَتِهِمْ لَك وَلِنَبِيّك وَلِأَوْلِيَائِك! فَفَجَرَهُ اللهُ، وَإِنّهُ لَرَاقِدٌ بَيْن ظَهْرَيْ اللّيْلِ وَمَا يُدْرَى بِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يَسُوقُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَجَدُوهُ قَدْ سُجّيَ بِمُلَاءَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ سَعْدٌ رَجُلًا أَبْيَضَ طَوِيلًا،
فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَجَعَلَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّ سَعْدًا قَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِك، وَصَدّقَ رَسُولَك، وَقَضَى الّذِي عَلَيْهِ، فَاقْبِضْ رُوحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقْبِضُ فِيهِ أَرْوَاحَ الْخَلْقِ. فَفَتَحَ سَعْدٌ عَيْنَيْهِ حِينَ سَمِعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ، أَشْهَدُ أَنّك قَدْ بَلّغْت رِسَالَتَهُ. وَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/525)
رَأْسَ سَعْدٍ مِنْ حِجْرِهِ ثُمّ قَامَ وَانْصَرَفَ، وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ وَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَمَكَثَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وَمَاتَ خِلَافَهُ. وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ مَاتَ سَعْدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَنْ هَذَا الرّجُلُ الصّالِحُ الّذِي مَاتَ فِيكُمْ؟
فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السّمَاءِ، وَاهْتَزّ لَهُ عَرْشُ الرّحْمَنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ: عَهْدِي بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ يَمُوتُ!
ثُمّ خَرَجَ فَزِعًا إلَى خَيْمَةِ كُعَيْبَةَ يَجُرّ ثَوْبَهُ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ سَعْدًا قَدْ مَاتَ.
وَأَقْبَلَتْ رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَاحْتَمَلُوهُ إلَى مَنْزِلِهِ. قَالَ: فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فينقطع ثعل أَحَدِهِمْ فَلَمْ يُعَرّجْ عَلَيْهَا، وَيَسْقُطُ رِدَاؤُهُ فَلَمْ يَلْوِ عَلَيْهِ، وَمَا يُعَرّجُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَتّى دَخَلُوا عَلَى سَعْدٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ سَمِعْنَا أَنّ النّبِيّ حَضَرَهُ حِينَ تُوُفّيَ.
وَأَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَمّا انْفَجَرَتْ يَدُ سَعْدٍ بِالدّمِ قَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَهُ، وَالدّمُ يَنْفَحُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِحْيَتِهِ، لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَنْ يَقِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدّمَ إلّا ازْدَادَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبًا، حَتّى قَضَى.
وَحَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ خَرِيشٍ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ عَلَى الْبَابِ نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ عَلَى أَثَرِهِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إلّا سَعْدٌ مُسَجّى. قَالَ: فَرَأَيْته يتخطّى، فلمّا رأيته بتخطّى وَقَفْت، وَأَوْمَأَ إلَيّ: قِفْ! فَوَقَفْت، وَرَدَدْت مَنْ وَرَائِي، وَجَلَسَ سَاعَةً ثُمّ خَرَجَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْت أَحَدًا وَقَدْ رَأَيْتُك تتخطّى!(2/526)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا قَدَرْت عَلَى مَجْلِسٍ حَتّى قَبَضَ لِي مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَحَدَ جَنَاحَيْهِ، فَجَلَسْت. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَنِيئًا لَك أَبَا عَمْرٍو! هَنِيئًا لَك أَبَا عَمْرٍو!.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ.
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمّ سَعْدٍ تَبْكِي وَتَقُولُ:
وَيْلُ أُمّ سَعْدٍ سَعْدَا جَلَادَةً وَحَدّا [ (1) ] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَهْلًا يَا أُمّ سَعْدٍ، لَا تَذْكُرِي سَعْدًا. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا يَا عُمَرُ، فَكُلّ بَاكِيَةٍ مُكْثِرَةٌ إلّا أُمّ سَعْدٍ، مَا قَالَتْ مِنْ خَيْرٍ فَلَمْ تَكْذِبْ.
وَأُمّ سَعْدٍ، كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْجَرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَأُخْتُهَا، الْفَارِعَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ، وَهِيَ أُمّ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ.
قَالُوا: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يغسّل، فغسّله الحارث ابن أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ يَصُبّ الْمَاءَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضِرٌ. فَغُسّلَ بِالْمَاءِ الْأُولَى، وَالثّانِيَةَ بِالْمَاءِ وَالسّدْرِ، وَالثّالِثَةَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ، ثُمّ كُفّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ صُحَارِيّةٍ [ (2) ] وَأُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا، وَأُتِيَ بِسَرِيرٍ كَانَ عِنْدَ آلِ سَبْطٍ، يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَوْتَى، فَوُضِعَ عَلَى السّرِيرِ، فَرُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُهُ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِهِ حِينَ رُفِعَ مِنْ دَارِهِ إلَى أَنْ خَرَجَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبى بكر بن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «جلاد موحدا» ، وما أثبتناه من ب.
[ (2) ] نسبة إلى صحار، قرية باليمن. (النهاية، ج 2 ص 253) .(2/527)
حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي أَمَامَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَخَرَجَ بِالنّاسِ، فَلَمّا بَرَزَ إلَى الْبَقِيعِ قَالَ:
خُذُوا فِي جِهَازِ صَاحِبِكُمْ!
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكُنْت أَنَا مِمّنْ حَفَرَ لَهُ قَبْرَهُ، وَكَانَ يَفُوحُ عَلَيْنَا الْمِسْكُ كُلّمَا حَفَرْنَا قَبْرَهُ مِنْ تُرَابٍ، حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى اللّحْدِ.
قَالَ رُبَيْحٌ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بن المنكدر، عن محمّد بن شرحبيل ابن حَسَنَةَ، قَالَ: أَخَذَ إنْسَانٌ قَبْضَةً مِنْ قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَذَهَبَ بِهَا، ثُمّ نَظَرَ إلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا هِيَ مِسْكٌ.
قَالُوا: ثُمّ اُحْتُمِلَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كُنْت لَتَقْطَعُنَا فِي ذَهَابِك إلَى سَعْدٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَشِينَا أَنْ تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَتْنَا إلَى غُسْلِ حَنْظَلَةَ [ (1) ] . وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ سَعْدٌ رَجُلًا جَسِيمًا فَلَمْ نَرَ أَخَفّ مِنْهُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ إنّمَا خَفّ لِأَنّهُ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَ: كَذَبُوا، وَلَكِنّهُ خَفّ لِحَمْلِ الْمَلَائِكَةِ.
فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ حُفْرَتِهِ، وَوَضَعْنَا اللّبِنَ وَالْمَاءَ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَحَفَرْنَا لَهُ عِنْدَ دَارِ عُقَيْلٍ الْيَوْمَ، وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَوَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ النّاسِ مَا مَلَأَ البقيع.
__________
[ (1) ] أى حنظلة بن أبى عامر الغسيل. (الاستيعاب، ص 381) .(2/528)
قَالَ الْوَاقِدِيّ:
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْتَهَوْا إلَى قَبْرِهِ نَزَلَ فِي قَبْرِهِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: الْحَارِثُ بن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى قَدَمَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَمّا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ تَغَيّرَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسَبّحَ ثَلَاثًا، فَسَبّحَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثًا حَتّى ارْتَجّ الْبَقِيعُ. ثُمّ كَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ ثَلَاثًا حَتّى ارْتَجّ الْبَقِيعُ بِتَكْبِيرِهِ فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَا لِوَجْهِك تَغَيّرًا وَسَبّحْت ثَلَاثًا! قَالَ: تَضَايَقَ عَلَى صَاحِبِكُمْ قَبْرُهُ، وَضُمّ ضَمّةً لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدٌ، ثُمّ فَرّجَ اللهُ عَنْهُ.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: جَاءَتْ أُمّ سَعْدٍ- وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدٍ- تَنْظُرُ إلَى سَعْدٍ فِي اللّحد، فَرَدّهَا النّاسُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها!
فَأَقْبَلَتْ حَتّى نَظَرَتْ إلَيْهِ، وَهُوَ فِي اللّحْدِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ اللّبِنُ وَالتّرَابُ، فَقَالَتْ أَحْتَسِبُك عِنْدَ اللهِ! وَعَزّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرِهِ، وَجَلَسَ نَاحِيَةً، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَرُدّونَ تُرَابَ الْقَبْرِ وَيُسَوّونَهُ، وَتَنَحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس حَتّى سُوّيَ عَلَى قَبْرِهِ وَرُشّ عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءُ، ثُمّ أَقْبَلَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَدَعَا لَهُ، ثُمّ انْصَرَفَ.
ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ
خَلّادُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، دَلّتْ عَلَيْهِ نُبَاتَةُ رَحًى فَشَدَخَتْ رَأْسَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ!
وَقَتَلَهَا بِهِ. وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ، فَدَفَنَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ،(2/529)
فَهُوَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْيَوْمَ.
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لَمّا قُتِلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَدِمَ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ الْأَشْجَعِيّ خَيْبَرَ، قَدْ سَارَ يَوْمَيْنِ، وَيَهُودُ بَنِي النّضِيرِ- سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَيَهُودُ خيبر جلوس فِي نَادِيهِمْ يَتَحَسّبُونَ خَبَرَ قُرَيْظَةَ، قَدْ بَلَغَهُمْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ حَصَرَهُمْ وَهُمْ يَتَوَقّعُونَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: الشّرّ! قُتِلَتْ مُقَاتِلَةُ قُرَيْظَةَ صَبْرًا بِالسّيْفِ! قَالَ كِنَانَةُ:
مَا فَعَلَ حُيَيّ؟ قَالَ حُسَيْلٌ: حُيَيّ قَدْ طَاحَ، ضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا. وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ عَنْ سَرَاتِهِمْ- كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَغَزّالِ بْنِ سَمَوْأَلٍ، وَنَبّاشِ بْنِ قَيْسٍ- أَنّهُ حَضَرَهُمْ قُتِلُوا بَيْنَ يَدَيْ مُحَمّدٍ. قَالَ سَلّامُ بْن مِشْكَمٍ: هَذَا كُلّهُ عَمَلُ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، شَأَمَنَا أَوّلًا وَخَالَفَنَا فِي الرّأْيِ، فَأَخْرَجَنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَشَرَفِنَا وَقَتَلَ إخْوَانَنَا. وَأَشَدّ مِنْ الْقَتْلِ سِبَاءُ الذّرّيّةِ، لَا قَامَتْ يَهُودِيّةٌ بِالْحِجَازِ أَبَدًا، لَيْسَ لِلْيَهُودِ عَزْمٌ وَلَا رَأْيٌ. قَالُوا: وَبَلَغَ النّسَاءَ فَصَيّحْنَ، وَشَقَقْنَ الْجُيُوبَ، وَجَزَزْنَ الشّعُورَ، وَأَقَمْنَ الْمَآتِمَ، وَضَوَى إلَيْهِنّ نِسَاءُ الْعَرَبِ. وَفَزِعَتْ الْيَهُودُ إلَى سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ فَقَالُوا: فَمَا الرّأْيُ أَبَا عَمْرٍو؟
وَيُقَالُ أَبَا الْحَكَمِ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُونَ بِرَأْيٍ لَا تَأْخُذُونَ مِنْهُ حَرْفًا؟ قَالَ كِنَانَةُ: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ، قَدْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى مَا تَرَى. قَالَ: مُحَمّدٌ قَدْ فَرَغَ مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ، وَهُوَ سَائِرٌ إلَيْكُمْ، فَنَازِلٌ بِسَاحَتِكُمْ، وَصَانِعٌ بِكُمْ مَا صَنَعَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ. قَالُوا: فَمَا الرّأْيُ؟ قَالَ: نَسِيرُ إلَيْهِ بِمَنْ مَعَنَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ، فَلَهُمْ عَدَدٌ، وَنَسْتَجْلِبُ يَهُودَ تَيْمَاءَ، وَفَدَكٍ، وَوَادِي الْقُرَى، وَلَا نَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مَا صَنَعَتْ بِكُمْ الْعَرَبُ بَعْدَ أَنْ شَرَطْتُمْ لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ نَقَضُوا ذَلِكَ وَخَذَلُوكُمْ، وَطَلَبُوا مِنْ مُحَمّدٍ بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ، مَعَ أَنّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ(2/530)
هُوَ الّذِي كَادَهُمْ بِمُحَمّدٍ، وَمَعْرُوفُهُمْ إلَيْهِ مَعْرُوفُهُمْ! ثُمّ نَسِيرُ إلَيْهِ فِي عُقْرِ دَارِهِ فَنُقَاتِلُ عَلَى وِتْرٍ حَدِيثٍ وَقَدِيمٍ. فَقَالَتْ الْيَهُودُ: هَذَا الرّأْيُ. فَقَالَ كِنَانَةُ: إنّي قَدْ خَبَرْت الْعَرَبَ فَرَأَيْتهمْ [ (1) ] أَشِدّاءَ عَلَيْهِ، وَحُصُونُنَا هَذِهِ لَيْسَتْ مِثْلَ مَا هُنَاكَ، وَمُحَمّدٌ لَا يَسِيرُ إلَيْنَا أَبَدًا لِمَا يَعْرِفُ. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ:
هَذَا رَجُلٌ لَا يُقَاتِلُ حَتّى يُؤْخَذَ بِرَقَبَتِهِ. فَكَانَ ذلك [والله] [ (2) ] محمود! وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ [ (3) ]
بَابُ شَأْنِ سَرِيّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا، فَغِبْت اثْنَتَيْ عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لسبع بقين مِنْ الْمُحَرّمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ، ثُمّ اللّحْيَانِيّ، وَكَانَ نَزَلَ عُرَنَةَ [ (4) ] وَمَا حَوْلَهَا فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَجَمَعَ الْجُمُوعَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَوَى إلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَفْنَاءِ النّاسِ.
فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُنَيْسٍ، فَبَعَثَهُ سَرِيّةً وَحْدَهُ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] فى ب: «فرأيتهم ووجدتهم» .
[ (2) ] زيادة من نسخة ب.
[ (3) ] ذكر ابن إسحاق أبيات حسان بن ثابت. (السيرة النبوية، ج 3، ص 282) .
[ (4) ] فى الأصل: «عزبة» ، وما أثبتناه من ب. وعرفة: موضع بقرب عرفة، موضع الحجيج.
(شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 76) .(2/531)
وسلم: انْتَسِبْ إلَى خُزَاعَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْرِفُهُ، فَصِفْهُ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّك إذَا رَأَيْته هِبْته وَفَرِقْت مِنْهُ وَذَكَرْت الشّيْطَانَ. وَكُنْت لَا أَهَابُ الرّجَالَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا فَرِقْت مِنْ شَيْءٍ قَطّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى، آيَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ [ (1) ] أَنْ تَجِدَ لَهُ قُشَعْرِيرَةً إذَا رَأَيْته. وَاسْتَأْذَنْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ، فَقَالَ: قُلْ مَا بَدَا لَك.
قَالَ: فَأَخَذْت سَيْفِي لَمْ أَزِدْ عَلَيْهِ، وَخَرَجْت أَعْتَزِي إلَى خُزَاعَةَ، فَأَخَذْت عَلَى الطّرِيقِ حَتّى انْتَهَيْت إلَى قُدَيْدٍ، فَأَجِدُ بِهَا خُزَاعَةَ كَثِيرًا، فَعَرَضُوا عَلَيّ الْحُمْلَانَ وَالصّحَابَةَ، فَلَمْ أُرِدْ ذَلِكَ وَخَرَجْت [ (2) ] حَتّى أَتَيْت بَطْنَ سَرِفَ، ثُمّ عَدَلْت حَتّى خَرَجْت عَلَى عُرَنَةَ، وَجَعَلْت أُخْبِرُ مَنْ لَقِيت أَنّي أُرِيدُ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدٍ لِأَكُونَ مَعَهُ، حَتّى إذَا كُنْت بِبَطْنِ عُرَنَةَ لَقِيته يَمْشِي، وَوَرَاءَهُ الْأَحَابِيشُ وَمَنْ اسْتَجْلَبَ وَضَوَى إلَيْهِ. فَلَمّا رَأَيْته هِبْته، وعرفته بالنّعث الّذِي نَعَتَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَأَيْتنِي أَقْطُرُ [ (3) ] فَقُلْت صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ! وَقَدْ دَخَلْت فِي وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ رَأَيْته، فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِي أُومِئُ إيمَاءً بِرَأْسِي، فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقُلْت: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، سَمِعْت بِجَمْعِك لِمُحَمّدٍ فَجِئْتُك لِأَكُونَ مَعَك. قَالَ: أَجَلْ، إنّي لَفِي الْجَمْعِ لَهُ. فَمَشَيْت مَعَهُ، وَحَدّثْته فَاسْتَحْلَى حَدِيثِي، وَأَنْشَدْته شِعْرًا، وَقُلْت: عَجَبًا لِمَا أَحْدَثَ مُحَمّدٌ مِنْ هَذَا الدّينِ الْمُحْدَثِ، فَارَقَ الْآبَاءَ وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ! قَالَ:
لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ أَحَدًا يُشْبِهُنِي! قَالَ: وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض،
__________
[ (1) ] فى ب: «بينك وبين ذلك» .
[ (2) ] فى ب: «فخرجت أمشى» .
[ (3) ] فى الأصل: «أنظر» ، وما أثبتناه هو قراءة ب.(2/532)
حَتّى انْتَهَى إلَى خِبَائِهِ، وَتَفَرّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ إلَى مَنَازِلَ قَرِيبَةٍ مِنْهُ وَهُمْ مُطِيفُونَ بِهِ، فَقَالَ: هَلُمّ يَا أَخَا خُزَاعَةَ! فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ:
اُحْلُبِي! فَحَلَبَتْ ثُمّ نَاوَلَتْنِي، فَمَصَصْت ثُمّ دَفَعْته إلَيْهِ، فَعَبّ كَمَا يَعُبّ الْجَمْلُ حَتّى غَابَ أَنْفُهُ فِي الرّغْوَةِ [ (1) ] ، ثُمّ قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسْت مَعَهُ، حَتّى إذَا هَدَأَ النّاسُ وَنَامُوا وَهَدَأَ، اغْتَرَرْته [ (2) ] فَقَتَلْته وَأَخَذْت رَأْسَهُ، ثُمّ أَقْبَلْت وَتَرَكْت نِسَاءَهُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، وَكَانَ النّجَاءُ مِنّي حَتّى صَعِدْت فِي جَبَلٍ فَدَخَلْت غَارًا. وَأَقْبَلَ الطّلَبُ مِنْ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ تَوَزّعُ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا مُخْتَفٍ فِي غَارِ الْجَبَلِ، وَضَرَبَتْ الْعَنْكَبُوتُ عَلَى الْغَارِ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ وَمَعَهُ إدَاوَةٌ ضَخْمَةٌ وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ، وَكُنْت حَافِيًا، وَكَانَ أَهَمّ أَمْرِي عِنْدِي الْعَطَشَ، كُنْت أَذْكُرُ تِهَامَةَ وَحَرّهَا، فَوَضَعَ إدَاوَتَهُ وَنَعْلَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ عَلَى بَابِ الْغَارِ، ثُمّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَيْسَ فِي الْغَارِ أَحَدٌ. فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، وَخَرَجْت إلَى الْإِدَاوَةِ فَشَرِبْت مِنْهَا وَأَخَذْت النّعْلَيْنِ فَلَبِسْتهمَا،
فَكُنْت أَسِيرُ اللّيْلَ وَأَتَوَارَى النّهَارَ حَتّى جِئْت الْمَدِينَةَ فَوَجَدْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ! قُلْت: أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَضَعْت رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخْبَرْته خَبَرِي، فَدَفَعَ إلَيّ عَصًا فَقَالَ: تَخَصّرْ [ (3) ] بِهَذِهِ فِي الْجَنّةِ، فَإِنّ الْمُتَخَصّرِينَ فِي الْجَنّةِ قَلِيلٌ.
فَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ حَتّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى أَهْلَهُ أَنْ يُدْرِجُوهَا فِي كَفَنِهِ. وَكَانَ قَتْلُهُ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شهرا
__________
[ (1) ] الرغوة: زبد اللبن. (الصحاح، ص 2360) .
[ (2) ] فى الأصل: «اغتزيته» ، وما أثبتناه هو قراءة ب. واغتررته: أى أخذته فى غفلة.
(شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 76) .
[ (3) ] التخصر: الاتكاء على قضيب ونحوه. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 76) .(2/533)
غَزْوَةُ الْقُرْطَاءِ [ (1) ]
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ جعفر بن محمود، قال: قال محمد ابن مَسْلَمَةَ: خَرَجْت فِي عَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، فَغِبْت تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَدِمْت لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَنَسٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَدِيثِ، قَالَا: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مَسْلَمَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَالْحَارِثُ ابن خَزَمَةَ، إلَى بَنِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنَ النّهَارَ، وَأَنْ يَشُنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ. فَكَانَ مُحَمّدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، حَتّى إذَا كَانَ بِالشّرَبَةِ [ (2) ] لَقِيَ ظُعُنًا، فَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُ مَنْ هُمْ.
فَذَهَبَ الرّسُولُ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: قَوْمٌ مِنْ مُحَارِبٍ. فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُ، وَحَلّوا وَرَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ. فَأَمْهَلَهُمْ حَتّى إذَا ظَعَنُوا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ وَهَرَبَ سَائِرُهُمْ، فَلَمْ يَطْلُبْ مَنْ هَرَبَ، وَاسْتَاقَ نَعَمًا وَشَاءً وَلَمْ يَعْرِضْ لِلظّعُنِ. ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ يطلعه على بنى بكر بعث عبّاد ابن بِشْرٍ إلَيْهِمْ، فَأَوْفَى عَلَى الْحَاضِرِ فَأَقَامَ، فَلَمّا رَوّحُوا مَاشِيَتَهُمْ وَحَلَبُوا وَعَطّنُوا [ (3) ] جَاءَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَخْبَرَهُ، فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَشَنّ عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَاسْتَاقُوا النّعم والشاء ثم انحدروا
__________
[ (1) ] القرطاء: بطن من بنى بكر. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 173) .
[ (2) ] فى الأصل: «بالسرية» ، والتصحيح من نسخة ب. والشربة: موضع بين السليلة والربذة، وقيل هي فيما بين نخل ومعدن بنى سليم. (وفاء الوفا، ج 2، ص 328) .
[ (3) ] عطنت الإبل: رويت ثم بركت. (القاموس المحيط، ج 4، ص 248) .(2/534)
إلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَصْبَحَ حِينَ أَصْبَحَ إلّا بِضَرِيّةَ [ (1) ] ، مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ.
ثُمّ حَدَرْنَا النّعَمَ، وَخِفْنَا الطّلَبَ، وَطَرَدْنَا الشّاءَ أَشَدّ الطّرْدِ، فَكَانَتْ تَجْرِي مَعَنَا كَأَنّهَا الْخَيْلُ، حَتّى بَلَغْنَا الْعَدَاسَةَ، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا الشّاءُ بِالرّبَذَةِ [ (2) ] ، فَخَلّفْنَاهُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي يَقْصِدُونَ بِهِ، وَطُرِدَ النّعَمُ فَقُدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ مُحَمّدٌ يَقُولُ: خَرَجْت مِنْ ضَرِيّةَ، فَمَا رَكِبْت خُطْوَةً حَتّى وَرَدْت بَطْنَ نَخْلٍ [ (3) ] ، فَقُدِمَ بِالنّعَمِ، خَمْسِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَالشّاءِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَاةٍ، فَلَمّا قَدِمْنَا خَمّسَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فَضّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا بَقِيَ، فَعَدَلُوا الْجَزُورَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ.
غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ
حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ أَبُو الْحَسَنِ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ فَبَلَغَ غُرَانَ وَعُسْفَانَ [ (4) ] ، وَغَابَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ حَدّثَنِي، وَقَدْ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالُوا: وجد رسول الله صلّى الله
__________
[ (1) ] قال ابن سعد: إن ضرية على سبع ليال من المدينة. (الطبقات، ج 2، ص 56) .
[ (2) ] الربذة: قرية بنجد من عمل المدينة على ثلاثة أيام منها، وقيل أربعة أيام. (وفاء الوفا، ج 2، ص 227) .
[ (3) ] نخل: مكان على يومين من المدينة. (وفاء الوفا، ج 2 ص 381) .
[ (4) ] فى الأصل: «غزان» ، وما أثبتناه من ب، ومن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 292) . وغران: اسم وادي الأزرق خلف أمج بميل. وعسفان: قرية جامعة بين مكة والمدينة على نحو يومين من مكة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 353، 345) .(2/535)
عليه وسلم عَلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَصْحَابِهِ [ (1) ] وَجْدًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ [فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا] [ (2) ] فِي أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ بِمَضْرِبِ الْقُبّةِ [ (3) ] مِنْ نَاحِيَةِ الْجُرْفِ، فَعَسْكَرَ فِي أَوّلِ نَهَارِهِ وَهُوَ يُظْهِرُ أَنّهُ يُرِيدُ الشّامَ، ثُمّ رَاحَ مُبْرِدًا فَمَرّ عَلَى غُرَابَات [ (4) ] ، ثُمّ عَلَى بِينَ [ (5) ] ، حَتّى خَرَجَ عَلَى صُخَيْرَاتِ الثّمَامِ [ (6) ] ، فَلَقِيَ الطّرِيقَ هُنَاكَ. ثُمّ أَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَطْنِ غُرَانَ حَيْثُ كَانَ مُصَابُهُمْ، فَتَرَحّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: هَنِيئًا لَكُمْ الشّهَادَةُ! فَسَمِعَتْ بِهِ لِحْيَانُ فهربوا فى رءوس الجبال، فلم يقدر مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَبَعَثَ السّرَايَا فِي كُلّ نَاحِيَةٍ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَحَدٍ، ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى عُسْفَانَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهُمْ مَسِيرِي وَأَنّي قَدْ وَرَدْت عُسْفَانَ، وَهُمْ يَهَابُونَ أَنْ آتِيَهُمْ، فَاخْرُجْ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِمْ حَتّى أَتَوْا الْغَمِيمَ،
ثُمّ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ هَذَا يَبْلُغُ قُرَيْشًا فَيَذْعَرُهُمْ، وَيَخَافُونَ أَنْ نَكُونَ نُرِيدُهُمْ- وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ يَوْمَئِذٍ فِي أَيْدِيهِمْ.
فَبَلَغَ قُرَيْشًا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَغَ الْغَمِيمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَتَى مُحَمّدٌ الْغَمِيمَ إلّا يُرِيدُ أَنْ يُخَلّصَ
__________
[ (1) ] قتلوا يوم بئر معونة.
[ (2) ] زيادة من نسخة ب.
[ (3) ] هكذا فى النسخ، ولعله يريد قباء، وهي قرية بعوالي المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 357) .
[ (4) ] ويقال غراب، بصيغة المفرد كما فى ابن إسحاق، وهو جبل بناحية المدينة. (السيرة النبوية، ج 3، ص 392) .
[ (5) ] بين: قرية من قرى المدينة تقرب من السيالة. (معجم ما استعجم، ص 189) .
[ (6) ] ويقال الثمامة، كما ذكر السمهودي. (وفاء الوفا، ج 2، ص 273) . ورواه ابن إسحاق بالياء التحتية بدل المثلثة. (السيرة النبوية، ج 3، ص 292) .(2/536)
خُبَيْبًا. وَكَانَ خُبَيْبٌ وَصَاحِبَاهُ فِي حَدِيدٍ مُوثَقِينَ، فَجَعَلُوا فِي رِقَابِهِمْ الْجَوَامِعَ، وَقَالُوا: قَدْ بَلَغَ مُحَمّدٌ ضَجْنَانَ وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْنَا! فَدَخَلَتْ مَاوِيّةُ عَلَى خُبَيْبٍ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ وَقَالَتْ: هَذَا صَاحِبُك قَدْ بَلَغَ ضَجْنَانَ يُرِيدُكُمْ. فَقَالَ خُبَيْبٌ: وَهَلْ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ خُبَيْبٌ: يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ! قَالَتْ:
وَاَللهِ، مَا يَنْتَظِرُونَ بِك إلّا أَنْ يَخْرُجَ الشّهْرُ الْحَرَامُ، وَيُخْرِجُوك فَيَقْتُلُوك وَيَقُولُونَ: أَتَرَى مُحَمّدًا غَزَانَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَنَحْنُ لَا نَسْتَحِلّ أَنْ نَقْتُلَ صَاحِبَهُ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ؟ وَكَانَ مَأْسُورًا عِنْدَهُمْ، وَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو يقول: آئبون، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ! اللهُمّ، أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَهْلِ! اللهُمّ، أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ المنظر في الأهل والمال! اللهم، بلغنا بلاغا صَالِحًا يَبْلُغُ إلَى خَيْرٍ، مَغْفِرَةً مِنْك وَرِضْوَانًا!
وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتّ فِي الْمُحَرّمِ، وَهَذَا أَوّلُ مَا قَالَ هَذَا الدّعَاءَ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا كُلّهُمْ.
غَزْوَةُ الْغَابَةِ
حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَغَارَ عُيَيْنَةُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتّ، وَغَزَوْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَغِبْنَا خَمْسَ لَيَالٍ وَرَجَعْنَا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللهِ(2/537)
صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أُمّ مَكْتُومٍ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَعَلِيّ بْنُ يَزِيدَ، وَغَيْرُهُمْ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ، قَالُوا: كَانَتْ لقاح [ (1) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ لِقْحَةً، وَكَانَتْ مِنْ شَتّى، مِنْهَا مَا أَصَابَ فِي ذَاتِ الرّقَاعِ، وَمِنْهَا مَا قَدِمَ بِهِ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ نَجْدٍ. وَكَانَتْ تَرْعَى الْبَيْضَاءَ [ (2) ] وَدُونَ الْبَيْضَاءِ، فَأَجْدَبَ مَا هُنَاكَ فَقَرّبُوهَا إلَى الْغَابَةِ، تُصِيبُ مِنْ أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا وَتَغْدُو فِي الشّجَرِ- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الْغَادِيَةُ: تَغْدُو فِي الْعِضَاهِ، أُمّ غَيْلَانَ وَغَيْرِهَا، والواضعة: الإبل ترعى الخمض، والأوارك: التي ترعى الأراك- فكان الراعي يؤوب بِلَبَنِهَا كُلّ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْمَغْرِبِ.
وَكَانَ أَبُو ذَرّ قَدْ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى لِقَاحِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنّي أَخَافُ عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الضّاحِيَةِ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْك، وَنَحْنُ لا نأمن من عيينة ابن حِصْنٍ وَذَوِيهِ، هِيَ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِمْ فَأَلَحّ عَلَيْهِ أَبُو ذَرّ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ: ائْذَنْ لِي. فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَكَأَنّي بِك، قَدْ قُتِلَ ابْنُك، وَأُخِذَتْ امْرَأَتُك، وَجِئْت تَتَوَكّأُ عَلَى عَصَاك.
فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: عَجَبًا لِي! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَكَأَنّي بِك» وَأَنَا أُلِحّ عَلَيْهِ، فَكَانَ وَاَللهِ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: لَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ السّرْحِ جَعَلَتْ فَرَسِي سَبْحَةً لَا تَقِرّ ضَرْبًا بِأَيْدِيهَا. وَصَهِيلًا. فَيَقُولُ أَبُو مَعْبَدٍ: وَاَللهِ، إنّ لَهَا شَأْنًا! فَنَنْظُرُ آرِيّهَا [ (3) ] فَإِذَا هُوَ مَمْلُوءٌ عَلَفًا، فَيَقُولُ: عَطْشَى!. فَيَعْرِضُ الْمَاءَ عَلَيْهَا فَلَا تُرِيدُهُ، فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ أَسْرَجَهَا وَلَبِسَ سِلَاحَهُ، وَخَرَجَ حَتّى صَلّى الصّبْحَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَدَخَلَ النبىّ
__________
[ (1) ] اللقاح: الإبل الحوامل ذوات الألبان. (شرح أبى ذر، ص 329) .
[ (2) ] البيضاء: موضع تلقاء حمى الربذة. (معجم ما استعجم، ص 184) .
[ (3) ] الآرى: حبل تشد به الدابة فى محبسها. (الصحاح، ص 2267) .(2/538)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، وَرَجَعَ الْمِقْدَادُ إلَى بَيْتِهِ، وَفَرَسُهُ لَا تَقِرّ، فَوَضَعَ سَرْجَهَا وَسِلَاحَهُ وَاضْطَجَعَ، وَجَعَلَ [ (1) ] إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ: إنّ الْخَيْلَ قَدْ صِيحَ بِهَا. فَكَانَ أَبُو ذَرّ يَقُولُ: وَاَللهِ، إنّا لَفِي مَنْزِلِنَا، وَلِقَاحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رُوّحَتْ، وَعُطّنَتْ، وَحُلِبَتْ عَتَمَتُهَا [ (2) ] وَنِمْنَا، فَلَمّا كَانَ فِي اللّيْلِ أَحْدَقَ بِنَا عُيَيْنَةُ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَصَاحُوا بِنَا وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى رُءُوسِنَا، فَأَشْرَفَ لَهُمْ ابْنِي فَقَتَلُوهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَنَجَوْا، وَتَنَحّيْت عَنْهُمْ وَشَغَلَهُمْ عَنّي إطْلَاقُ عُقُلِ اللّقَاحِ، ثُمّ صَاحُوا فِي أَدْبَارِهَا، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهَا. وَجِئْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته وَهُوَ يَتَبَسّمُ. فَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَقُولُ: غَدَوْت أُرِيدُ الْغَابَةَ لِلِقَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنْ أُبَلّغَهُ لَبَنَهَا، حَتّى أَلْقَى غُلَامًا لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ فِي إبِلٍ لعبد الرحمن بن عوف، فأخطأوا مَكَانَهَا وَاهْتَدَوْا إلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَنِي أَنّ لِقَاحَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا، فَأَخْبَرَنِي أَنّهُمْ قَدْ رَأَوْا مَدَدًا بَعْدَ ذَلِكَ أُمِدّ بِهِ عُيَيْنَةُ. قَالَ سَلَمَةُ: فَأَحْضَرْت فَرَسِي رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى وَافَيْت عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ [ (3) ] فَصَرَخْت بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا صَبَاحَاهُ! ثَلَاثًا، أسمع من بين لا لَابَتَيْهَا.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: نَادَى: الْفَزَعَ! الْفَزَعَ! ثَلَاثًا، ثُمّ وَقَفَ وَاقِفًا عَلَى فَرَسِهِ حَتّى طَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ مُقَنّعًا فَوَقَفَ واقفا، فكان أوّل من
__________
[ (1) ] فى ب: «ووضع» .
[ (2) ] فى الأصل: «غنمتها» ، وما أثبتناه من ب. والعتمة: ظلمة الليل، وكانت الأعراب يسمون الحلاب باسم الوقت. (النهاية، ج 3، ص 67) .
[ (3) ] ثنية الوداع: عن يمين المدينة ودونها. (معجم ما استعجم، ص 841) .
وقيل هي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة، وقيل من يريد الشام. (وفاء الوفا، ج 2، ص 277) .(2/539)
أَقْبَلَ إلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ شَاهِرًا سَيْفَهُ، فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً فِي رُمْحِهِ وَقَالَ: امْضِ حَتّى تَلْحَقَك الْخُيُولُ، إنّا عَلَى أَثَرِك. قَالَ الْمِقْدَادُ: فَخَرَجْت وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ الشّهَادَةَ، حَتّى أُدْرِكَ أُخْرَيَاتِ الْعَدُوّ، وَقَدْ أَذَمّ [ (1) ] بِهِمْ فَرَسٌ لَهُمْ فَاقْتَحَمَ فَارِسُهُ وَرَدَفَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ، فَآخُذُ الْفَرَسَ الْمُذِمّ فَإِذَا هُوَ ضَرَعٌ [ (2) ] ، أَشْقَرُ، عَتِيقٌ، لَمْ يَقْوَ عَلَى الْعَدْوِ، وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَقْصَى الْغَابَةِ فَحَسِرَ، فَأَرْبِطُ فِي عُنُقِهِ قِطْعَةَ وَتَرٍ وَأُخَلّيهِ، وَقُلْت: إنْ مَرّ بِهِ أَحَدٌ فَأَخَذَهُ جِئْته بِعَلَامَتِي فِيهِ. فَأُدْرِكُ مَسْعَدَةَ فَأَطْعَنُهُ بِرُمْحٍ فِيهِ اللّوَاءُ، فَزَلّ الرّمْحُ وَعَطَفَ عَلَيّ بِوَجْهِهِ فَطَعَنَنِي وَآخُذُ الرّمْحَ بِعَضُدِي فَكَسَرْته، وَأَعْجَزَنِي هَرَبًا، وَأَنْصِبُ لِوَائِي فَقُلْت: يَرَاهُ أَصْحَابِي.
وَيَلْحَقُنِي أَبُو قَتَادَةَ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَسَايَرْته سَاعَةً وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى دُبُرِ مَسْعَدَةَ، فَاسْتَحَثّ فَرَسَهُ فَتَقَدّمَ عَلَى فَرَسِي، فَبَانَ سَبْقُهُ فَكَانَ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِي حَتّى غَابَ عَنّي فَلَا أَرَاهُ. ثُمّ أَلْحَقُهُ فَإِذَا هُوَ يَنْزِعُ بُرْدَتَهُ، فَصِحْت: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: خَيْرًا أَصْنَعُ كَمَا صَنَعْت بِالْفَرَسِ.
فَإِذَا هُوَ قَدْ قَتَلَ مَسْعَدَةَ وَسَجّاهُ بِبُرْدَةٍ. وَرَجَعْنَا فَإِذَا فَرَسٌ فِي يَدِ عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ، فَقُلْت: فَرَسِي هَذَا وَعَلَامَتِي فِيهِ! فقال: تعالى إلَى النّبِيّ، فَجَعَلَهُ مَغْنَمًا.
وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ عَلَى رِجْلَيْهِ يَعْدُو لِيَسْبِقَ الْخَيْلَ مِثْلَ السّبُعِ.
قَالَ سَلَمَةُ: حَتّى لَحِقْت الْقَوْمَ فَجَعَلْت أَرْمِيهِمْ بِالنّبْلِ، وَأَقُولُ حِينَ أَرْمِي: خُذْهَا مِنّي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ! فَتَكِرّ عَلَيّ خَيْلٌ مِنْ خيلهم، فإذا
__________
[ (1) ] أذمت ركاب القوم أى أعيت وتأخرت عن جماعة الإبل. (الصحاح، ص 1926) .
[ (2) ] الضرع: الضعيف. (الصحاح، ص 1249) .(2/540)
وُجّهَتْ نَحْوِي انْطَلَقْت هَارِبًا فَأَسْبِقُهَا، وَأَعْمِدُ إلَى الْمَكَانِ الْمُعْوِرِ [ (1) ] فَأُشْرِفُ عَلَيْهِ وَأَرْمِي بِالنّبْلِ إذَا أَمْكَنَنِي الرّمْيُ وَأَقُولُ:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعْ [ (2) ]
فَمَا زِلْت أَكَافِحُهُمْ وَأَقُولُ: قِفُوا قَلِيلًا، يَلْحَقْكُمْ أَرْبَابُكُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَيَزْدَادُونَ عَلَيّ حَنَقًا فَيَكِرّونَ عَلَيّ، فَأُعْجِزُهُمْ هَرَبًا حَتّى انْتَهَيْت بِهِمْ إلَى ذِي قَرَدٍ [ (3) ] .
وَلَحِقَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُيُولُ عِشَاءً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ دُونَ أَحْسَاءِ كَذَا وكذا، فلو بعثتني فى مائة رجل استنقذت مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ السّرْحِ، وَأَخَذْت بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَلَكْت فَأَسْجِحْ [ (4) ] . ثُمّ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُمْ لَيُقْرَوْنَ فِي غَطَفَانَ.
فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ، قَالَ: تَوَافَتْ الْخَيْلُ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ- الْمِقْدَادُ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ مَاعِصٍ، وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ: الْمِقْدَادُ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ: سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ أَمِيرُهُمْ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ فَارِسُ جلوة [ (5) ] ،
__________
[ (1) ] مكان معور: أى ذو عورة. (أساس البلاغة، ص 661) .
[ (2) ] الرضع: جمع راضع وهو اللئيم، وأراد أن هذا اليوم هو يوم هلاك اللئام. (شرح أبى ذر، ص 329) .
[ (3) ] ذو قرد: على نحو يوم من المدينة مما يلي غطفان، ويقال هو بين المدينة وخيبر على يومين من المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 360) .
[ (4) ] أى قدرت فسهل وأحسن العفو، وهو مثل سائر. (النهاية، ج 2، ص 146) .
[ (5) ] قال ابن إسحاق: وفرس أبى عياش جلوة. (السيرة النبوية، ج 3، ص 296) .(2/541)
وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ.
قَالَ أَبُو عَيّاشٍ: أَطْلُعُ عَلَى فَرَسٍ لِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَتَبِعَ الْخُيُولَ! فَقُلْت: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَفْرَسُ النّاسِ. فَرَكَضْته، فَمَا جَرَى بِي خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى صَرَعَنِي الْفَرَسُ. فَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ يَقُولُ: فَعَجَبًا! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَعْطَيْت فَرَسَك هَذَا مَنْ هُوَ أَفْرَسُ مِنْك»
وَأَقُولُ: «أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ» .
قَالُوا: وَذَهَبَ الصّرِيخُ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَتْ الْأَمْدَادُ، فَلَمْ تَزَلْ الْخَيْلُ تَأْتِي، وَالرّجَالُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَالْإِبِلِ، وَالْقَوْمُ يَعْتَقِبُونَ الْبَعِيرَ وَالْحِمَارَ، حَتّى انْتَهَوْا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قَرَدٍ، فَاسْتَنْقَذُوا عَشْرَ لَقَائِحَ، وَأَفْلَتْ الْقَوْمُ بِمَا بَقِيَ وَهِيَ عَشْرٌ. وَكَانَ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ حَلِيفًا فِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَلَمّا نَادَى الصّرِيخُ: «الْفَزَعَ! الْفَزَعَ!» كَانَ فَرَسٌ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يُقَالُ لَهُ ذُو اللّمّةِ مَرْبُوطًا فِي الْحَائِطِ، فَلَمّا سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ صَهَلَ وَجَالَ فِي الْحَائِطِ فِي شَطَنِهِ، فَقَالَ لَهُ النّسَاءُ:
هَلْ لَك يَا مُحْرِزُ فِي هَذَا الْفَرَسِ فَإِنّهُ كَمَا تَرَى صَنِيعٌ [ (1) ] جَامّ تَرْكَبُهُ فَتَلْحَقُ اللّوَاءَ؟ وَهُوَ يَرَى رَايَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُرّ بِهَا الْعُقَابَ يَحْمِلُهَا سَعْدٌ. قَالُوا: فَخَرَجَ فَجَزِعَ وَقَطَعَ وَادِيَ قَنَاةَ فَسَبَقَ الْمِقْدَادَ، فَيُدْرِكُ الْقَوْمَ بِهَيْقَا [ (2) ] فَاسْتَوْقَفَهُمْ فَوَقَفُوا، فطاعنهم ساعة بالرمح، ويحمل عليه مسعدة
__________
[ (1) ] الفرس الصنيع: هو الذي يخدمه أهله ويقومون عليه. (شرح أبى ذر، ص 329) .
[ (2) ] هكذا فى النسخ، ولعله يريد هيفا، وهو موضع على ميل من بئر المطلب. (وفاء الوفا، ج 2، ص 387) .(2/542)
فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَدَقّهُ فِي صُلْبِهِ، وَتَنَاوَلَ رُمْحَ مُحْرِزٍ، وَعَارَ [ (1) ] فَرَسُهُ حَتّى رَجَعَ إلَى آرِيّهِ، فَلَمّا رَآهُ النّسَاءُ وَأَهْلُ الدّارِ قَالُوا: قَدْ قُتِلَ. وَيُقَالُ: كَانَ مُحْرِزٌ عَلَى فَرَسٍ كَانَ لِعُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُدْعَى الْجَنَاحَ، قَاتَلَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: الّذِي قَتَلَ مُحْرِزَ بْنَ نَضْلَةَ أَوْثَارٌ، وَأَقْبَلَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فَيُدْرِكُ أَوْثَارًا، فَتَوَاقَفَا فَتَطَاعَنَا حَتّى انْكَسَرَتْ رِمَاحُهُمَا، ثُمّ صَارَا إلَى السيفين فشدّ عليه عباد ابن بِشْرٍ فَعَانَقَهُ، ثُمّ طَعَنَهُ بِخَنْجَرٍ مَعَهُ فَمَاتَ.
وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ:
كَانَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُمَا يُقَالُ [لَهُ] الْفُرُطُ [ (2) ] رَدِيفَيْنِ عَلَيْهِ، قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.
فَحَدّثَنِي زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمّ عَامِرِ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ، قَالَتْ: كُنْت مِمّنْ حَضّ مُحْرِزًا عَلَى اللّحُوقِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاَللهِ إنّا لَفِي أُطُمِنَا نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْغُبَارِ إذْ أَقْبَلَ ذُو اللّمّةِ، فَرَسُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، حَتّى انْتَهَى إلَى آرِيّهِ، فَقُلْت: أُصِيبَ وَاَللهِ! فَحَمَلْنَا عَلَى الْفَرَسِ رَجُلًا مِنْ الْحَيّ فَقُلْنَا: أَطْلِعْ لَنَا رَسُولَ اللهِ هَلْ أَصَابَهُ إلّا خَيْرٌ، ثم ارجع إلَيْنَا سَرِيعًا. قَالَ: فَخَرَجَ مُحْضِرًا [ (3) ] حَتّى لَحِقَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَيْقَا فِي النّاسِ، ثُمّ رَجَعَ فَأَخْبَرَنَا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدْنَا اللهَ تَعَالَى عَلَى سَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ، قَالَ مُحْرِزُ بْنُ
__________
[ (1) ] عار فرسه: أى أفلت وذهب على وجهه. (النهاية، ج 3، ص 143) .
[ (2) ] فى ب: «القرط» .
[ (3) ] أحضر الفرس، وكذلك الرجل: إذا عدا. (لسان العرب، ج 5، ص 277) .(2/543)
نَضْلَةَ: قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْقَوْمَ بِيَوْمٍ رَأَيْت السّمَاءَ فُرّجَتْ لِي، فَدَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا حَتّى انْتَهَيْت إلَى السّابِعَةِ، وَانْتَهَيْت إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَقِيلَ لِي:
هَذَا مَنْزِلُك. فَعَرَضْتهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ مِنْ أَعْبَرِ النّاسِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ بِالشّهَادَةِ! فَقُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ.
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أُمّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: إنّي لَأَغْسِلُ رَأْسِي، قَدْ غَسَلْت أَحَدَ شِقّيْهِ، إذْ سَمِعْت فَرَسِي جَرْوَةَ تَصْهَلُ وَتَبْحَثُ بِحَافِرِهَا، فَقُلْت: هَذِهِ حَرْبٌ قَدْ حَضَرَتْ! فَقُمْت وَلَمْ أَغْسِلْ شِقّ رَأْسِي الْآخَرَ، فَرَكِبْت وَعَلَيّ بُرْدَةٌ لِي، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِيحُ: الْفَزَعَ! الْفَزَعَ!
قَالَ: وَأُدْرِكُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو فَسَايَرْته سَاعَةً، ثُمّ تَقَدّمَهُ فَرَسِي وَكَانَتْ أَجْوَدَ مِنْ فَرَسِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمِقْدَادُ- وَكَانَ سَبَقَنِي- بِقَتْلِ مَسْعَدَةَ مُحْرِزًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ لِلْمِقْدَادِ:
يَا أَبَا مَعْبَدٍ، أَنَا أَمَوْتُ أَوْ أَقْتُلُ قَاتِلَ مُحْرِزٍ. فَضَرَبَ فَرَسَهُ فَلَحِقَهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَوَقَفَ لَهُ مَسْعَدَةُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو قَتَادَةَ بِالْقَنَاةِ فَدَقّ صُلْبَهُ وَيَقُولُ:
خُذْهَا وَأَنَا الْخَزْرَجِيّ! وَوَقَعَ مَسْعَدَةُ مَيّتًا، وَنَزَلَ أَبُو قَتَادَةَ فَسَجّاهُ بِبُرْدَتِهِ، وَجَنّبَ فَرَسَهُ مَعَهُ، وَخَرَجَ يُحْضِرُ فِي أَثَرِ الْقَوْمِ حَتّى تَلَاحَقَ النّاسُ.
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا مَرّ النّاسُ وَنَظَرُوا إلَى بُرْدَةِ أَبِي قَتَادَةَ عَرَفُوهَا فَقَالُوا: هَذَا أَبُو قَتَادَةَ قَتِيلٌ! وَاسْتَرْجَعَ أَحَدُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا، وَلَكِنّهُ قَتِيلُ أَبِي قَتَادَةَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ لِتَعْرِفُوا أَنّهُ قَتِيلُهُ. فَخَلّوا بَيْنَ أَبِي قَتَادَةَ وَبَيْنَ قَتِيلِهِ وَسَلَبِهِ وَفَرَسِهِ، فَأَخَذَهُ كُلّهُ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ أَخَذَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَاَللهِ! أَبُو قَتَادَةَ قَتَلَهُ، ادْفَعْهُ إلَيْهِ.(2/544)
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا أَدْرَكَنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَنَظَرَ إلَيّ قَالَ: اللهُمّ بَارِكْ لَهُ فِي شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ! وَقَالَ: أَفْلَحَ وَجْهُك! قُلْت: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: قَتَلْت مَسْعَدَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا هَذَا الّذِي بِوَجْهِك؟ قُلْت: سَهْمٌ رُمِيت بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: فَادْنُ مِنّي! فَدَنَوْت مِنْهُ فَبَصَقَ عَلَيْهِ، فَمَا ضَرَبَ [ (1) ] عَلَيْهِ قَطّ. وَلَا قَاحَ. فَمَاتَ أَبُو قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَأَنّهُ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: وَأَعْطَانِي يَوْمَئِذٍ فَرَسَ مَسْعَدَةَ وَسِلَاحَهُ، وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَك فِيهِ!
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ: لَمّا كَانَ يَوْمُ السّرْحِ أَتَانَا الصّرِيخُ، فَأَنَا فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَأَلْبَسُ دِرْعِي وَأَخَذْت سِلَاحِي، وَأَسْتَوِي عَلَى فَرَسٍ لِي جَامّ حِصَانٍ، يُقَالُ لَهُ النّجْلُ [ (2) ] ، فَأَنْتَهِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ لَا أَرَى إلّا عَيْنَيْهِ، وَالْخَيْلُ تَعْدُو قِبَلَ قَنَاةَ، فَالْتَفَتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا سَعْدُ امْضِ، قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى الْخَيْلِ حَتّى أَلْحَقَك إنْ شَاءَ اللهُ.
فَقَرّبْت فَرَسِي سَاعَةً ثُمّ خَلّيْته فَمَرّ يُحْضِرُ، فَأَمُرّ بِفَرَسٍ حَسِيرٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا؟ وَأَمُرّ بِمَسْعَدَةَ قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَمُرّ بِمُحْرِزٍ قَتِيلًا فَسَاءَنِي، وَأَلْحَقُ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو، وَمُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ، فَأَحْضَرْنَا وَنَحْنُ نَنْظُرُ إلَى رَهَجِ الْقَوْمِ، وَأَبُو قَتَادَةَ فِي أَثَرِهِمْ، وَأَنْظُرُ إلَى ابْنِ الْأَكْوَعِ يَسْبِقُ الْخَيْلَ أَمَامَ الْقَوْمِ يَرْشُقُهُمْ بِالنّبْلِ، فَوَقَفُوا وَقْفَةً وَنَلْحَقُ بِهِمْ فَتَنَاوَشْنَا سَاعَةً، وَأَحْمِلُ عَلَى حبيب بن عيينة
__________
[ (1) ] ضرب الجرح: اشتد وجعه. (أساس البلاغة، ص 558) .
[ (2) ] فى ب: «النخل» .(2/545)
بِالسّيْفِ فَأَقْطَعُ مَنْكِبَهُ الْأَيْسَرَ، وَخَلّى الْعِنَانَ، وَتَتَايَعَ [ (1) ] فَرَسُهُ، فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ، وَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذْت فَرَسَهُ. وَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ! وَقَدْ سَمِعْنَا فِي قَتْلِ حُبَيْبِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجْهًا آخَرَ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا تَلَاحَقُوا هُمْ وَالْعَدُوّ وَقُتِلَ مِنْهُمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَخَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ فِي وَجْهِهِ، فَقَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ مَسْعَدَةَ، وَقُتِلَ أَوْثَارٌ وَعَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ، قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَإِنّ حُبَيْبَ بْنَ عُيَيْنَةَ كان على فرس له، هو وفرقة ابن مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، قَتَلَهُمْ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو. قَالُوا: وَتَلَاحَقَ النّاسُ بِذِي قَرَدٍ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ.
فَحَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله ابن أَبِي جَهْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى الْقِبْلَةِ، وَصَفّ طَائِفَةً خَلْفَهُ، وَطَائِفَةً مُوَاجِهَةً الْعَدُوّ، فَصَلّى بِالطّائِفَةِ الّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ انْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ، وَأَقْبَلَ الْآخَرُونَ فَصَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ، وَلِكُلّ رَجُلٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةٌ.
حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرّجَالِ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حَزْمٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قَرَدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَتَحَسّبُ [ (2) ] الْخَبَرَ، وَقَسَمَ فِي كُلّ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ جَزُورًا يَنْحَرُونَهَا، وَكَانُوا خَمْسَمِائَةٍ، وَيُقَالُ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ. قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله صلّى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «نتابع» ، وما أثبتناه من ب. والتتايع: التسارع. (الفائق، ص 74) .
[ (2) ] التحسب: الاستخبار. (القاموس المحيط، ج 1، ص 55) .(2/546)
الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مَكْتُومٍ. وَأَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ خَمْسَ لَيَالٍ حَتّى رَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَالِ تَمْرٍ وَبِعَشَرَةِ جَزَائِرَ بِذِي قَرَدٍ.
وَكَانَ فِي النّاسِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْوَرْدُ، وَكَانَ هُوَ الّذِي قَرّبَ الْجُزُرَ [ (1) ] وَالتّمْرَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: يَا قَيْسُ، بَعَثَك أَبُوك فَارِسًا، وَقَوّى الْمُجَاهِدِينَ، وَحَرَسَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْعَدُوّ، اللهُمّ ارْحَمْ سَعْدًا وَآلَ سَعْدٍ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نِعْمَ الْمَرْءُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ! فَتَكَلّمَتْ الْخَزْرَجُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ بَيْتُنَا [ (2) ] وَسَيّدُنَا وَابْنُ سَيّدِنَا! كَانُوا يُطْعِمُونَ فِي الْمَحْلِ، وَيَحْمِلُونَ الْكَلّ [ (3) ] وَيَقْرُونَ الضّيْفَ، وَيُعْطُونَ فِي النّائِبَةِ، وَيَحْمِلُونَ عَنْ الْعَشِيرَةِ! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خِيَارُ النّاسِ فِي الْإِسْلَامِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ إذَا فَقُهُوا فِي الدّينِ. وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بِئْرِ هَمّ قَالُوا: يا رسول الله، ألا تسمّ بِئْرَ هَمّ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَلَكِنْ يَشْتَرِيهَا بَعْضُكُمْ فَيَتَصَدّقُ بِهَا.
فَاشْتَرَاهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَتَصَدّقَ بِهَا.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَمِيرُ الْفُرْسَانِ الْمِقْدَادَ حَتّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبِيدِ اللهِ بن رافع بن خديج، عن المسور ابن رِفَاعَةَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: كان سعيد بن زيد أمير القوم،
__________
[ (1) ] فى ب: «الجزور» .
[ (2) ] فى الأصل: «هو بيننا» ، وما أثبتناه هو قراءة ب.
[ (3) ] فى الأصل: «ويحملون فى الكل» ، وما أثبتناه من نسخة ب. والكل: العيال.
(النهاية، ج 4، ص 32) .(2/547)
وَقَالَ لِحَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ: أَرَأَيْت حَيْثُ جَعَلْت الْمِقْدَادَ رَأْسَ السّرِيّةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللهِ اسْتَعْمَلَنِي عَلَى السّرِيّةِ، وَإِنّك لَتَعْلَمُ لَقَدْ نَادَى الصّرِيخُ:
الْفَزَعَ!
فَكَانَ الْمِقْدَادُ أَوّلَ مَنْ طَلَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
امْضِ حَتّى تَلْحَقَك الْخُيُولُ.
فَمَضَى أَوّلُ، ثُمّ تَوَافَيْنَا بَعْدُ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَضَى الْمِقْدَادُ أَوّلَنَا، فَاسْتَعْمَلَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم على السّرِيّةِ. فَقَالَ حَسّانٌ: يَا ابْنَ عَمّ، وَاَللهِ مَا أَرَدْت إلّا الْقَافِيَةَ حَيْثُ قُلْت: غَدَاةَ فَوَارِسِ الْمِقْدَادِ ... [ (1) ] فَحَلَفَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَلّا يُكَلّمَ حَسّانًا أَبَدًا. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّ أَمِيرَهُمْ سعد بن زيد الأشهلىّ.
قالوا: وَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقْبَلَتْ امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ عَلَى ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الْقَصْوَاءِ، وَكَانَتْ فِي السّرْحِ، فَكَانَ فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ، فَكَانَ مِمّا تَخَلّصَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَدَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ مِنْ أَخْبَارِ النّاسِ، ثُمّ قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي نَذَرْت إنْ نَجَانِي اللهُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا فَآكُلَ مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللهُ عَلَيْهَا وَنَجّاك ثُمّ تَنْحَرِينَهَا! إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ، إنّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إبِلِي فَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.
حَدّثَنِي فَائِدٌ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيّ، عَنْ جَدّتِهِ سَلْمَى، قَالَتْ: نَظَرْت إلَى لَقُوحٍ [ (2) ] عَلَى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهَا السّمْرَاءُ، فَعَرَفْتهَا فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت:
__________
[ (1) ] انظر ديوان حسان، ص 60. وذكر ابن إسحاق أبيات حسان أيضا. (السيرة النبوية، ج 3، ص 289) .
[ (2) ] ناقة لقوح: أى غزيرة اللبن. (النهاية، ج 4، ص 63) .(2/548)
هَذِهِ لِقْحَتُك السّمْرَاءُ عَلَى بَابِك. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْشِرًا، وَإِذَا رَأْسُهَا بِيَدِ ابْنِ أَخِي عُيَيْنَةَ، فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَهَا ثُمّ قَالَ: أَيْمَ بِك؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَهْدَيْت لَك هَذِهِ اللّقْحَةَ. فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَضَهَا مِنْهُ، ثُمّ أَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمّ أَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِ أَوَاقٍ مِنْ فِضّةٍ، فَجَعَلَ يَتَسَخّطُ. قَالَ، فَقُلْت:
يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُثِيبُهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيّ! ثُمّ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظّهْرَ، ثُمّ صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: إنّ الرّجُلَ لَيُهْدِي لِي النّاقَةَ مِنْ إبِلِي أَعْرِفُهَا كَمَا أَعْرِفُ بَعْضَ أَهْلِي، ثُمّ أُثِيبُهُ عَلَيْهَا فَيَظَلّ يَتَسَخّطُ عَلَيّ، وَلَقَدْ هَمَمْت أَلّا أَقْبَلَ هَدِيّةً [إلّا مِنْ قُرَشِيّ أَوْ أَنْصَارِيّ-
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَوْ ثَقَفِيّ أَوْ دَوْسِيّ] [ (1) ] .
ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ: مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، قَتَلَهُ مَسْعَدَةُ.
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: مَسْعَدَةُ بْنُ حَكَمَةَ، قَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَأَوْثَارٌ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ أَوْثَارٍ، قَتَلَهُمَا عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَحُبَيْبُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَتَلَهُ المقداد. وقال حسّان بن ثابت ...
__________
[ (1) ] زيادة من ب.(2/549)
سَرِيّةُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إلَى الْغَمْرِ [ (1) ] فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ يُحَدّثُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُكّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا- مِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ. فَخَرَجَ سَرِيعًا يُغِذّ السّيْرَ، وَنَذَرَ الْقَوْمَ فَهَرَبُوا مِنْ مَائِهِمْ فَنَزَلُوا عَلْيَاءَ بِلَادِهِمْ، فَانْتَهَى إلَى الْمَاءِ فَوَجَدَ الدّارَ خُلُوفًا، فَبَعَثَ الطّلَائِعَ يَطْلُبُونَ خَبَرًا أَوْ يَرَوْنَ أَثَرًا حَدِيثًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ رَأَى أَثَرَ نَعَمٍ قَرِيبًا، فَتَحَمّلُوا فَخَرَجُوا حَتّى يُصِيبُوا رَبِيئَةً لَهُمْ قَدْ نَظَرَ لَيْلَتَهُ يَسْمَعُ الصّوْتَ، فَلَمّا أَصْبَحَ نَامَ فَأَخَذُوهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالُوا: الْخَبَرَ عَنْ النّاسِ! قَالَ: وَأَيْنَ النّاسُ؟ قَدْ لَحِقُوا بِعَلْيَاءِ بِلَادِهِمْ! قَالُوا: فَالنّعَمُ؟ قَالَ: مَعَهُمْ. فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ. قَالَ: تُؤَمّنُنِي عَلَى دَمِي وَأُطْلِعُك عَلَى نَعَمٍ لِبَنِي عَمّ لَهُمْ، لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسِيرِكُمْ إلَيْهِمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَانْطَلَقُوا مَعَهُ، فَخَرَجَ حَتّى أَمْعَنَ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ فِي غَدْرٍ، فَقَرّبُوهُ فَقَالُوا: وَاَللهِ، لَتَصْدُقَنّا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك! قَالَ: تَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الظّرَيْبِ [ (2) ] . قَالَ: فَأَوْفَوْا عَلَى الظّرَيْبِ فَإِذَا نَعَمٌ رَوَاتِعُ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِ فَأَصَابُوهُ، وَهَرَبَتْ الْأَعْرَابُ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَنَهَى عُكّاشَةُ عَنْ الطّلَبِ، وَاسْتَاقُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ فَحَدَرُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ، وأرسلوا
__________
[ (1) ] الغمر: هو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد، كما قال ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 61) .
[ (2) ] الظريب: تصغير ظرب، وهو الجبل المنبسط الصغير. (القاموس المحيط، ج 1، ص 99) .(2/550)
الرّجُلَ، وَقَدِمُوا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُصَبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا.
سِريّة مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ إلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ وَعُوَالٍ فِي رَبِيعٍ الْآخِر
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي عَشَرَةٍ، فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ لَيْلًا، فَكَمَنَ الْقَوْمُ حَتّى نَامَ وَنَامَ أَصْحَابُهُ، فَأَحْدَقُوا بِهِ وَهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ، فَمَا شَعَرَ الْقَوْمُ إلّا بِالنّبْلِ قَدْ خَالَطَتْهُمْ. فَوَثَبَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَعَلَيْهِ الْقَوْسُ، فَصَاحَ بِأَصْحَابِهِ:
السلاح! فوثبوا فَتَرَامَوْا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ، ثُمّ حَمَلَتْ الْأَعْرَابُ بِالرّمَاحِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَةً، ثُمّ انْحَازَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ إلَيْهِ فَقَتَلُوا مِنْ الْقَوْمِ رَجُلًا، ثُمّ حَمَلَ الْقَوْمُ فَقَتَلُوا مَنْ بَقِيَ. وَوَقَعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَرِيحًا، فَضُرِبَ كَعْبُهُ فَلَا يَتَحَرّكُ، وَجَرّدُوهُمْ مِنْ الثّيَابِ وَانْطَلَقُوا، فَمَرّ رَجُلٌ عَلَى الْقَتْلَى فَاسْتَرْجَعَ، فَلَمّا سَمِعَهُ مُحَمّدٌ تَحَرّكَ لَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَعَرَضَ عَلَى مُحَمّدٍ طَعَامًا وَشَرَابًا وَحَمَلَهُ حَتّى وَرَدَ بِهِ الْمَدِينَةَ. فَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إلَى مَصَارِعِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَاسْتَاقَ نَعَمًا ثُمّ رَجَعَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت هَذِهِ السّرية لإبراهيم بن جعفر ابن مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أبى أنّ محمّد بن مسلم خَرَجَ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ: أَبُو نَائِلَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ، وَمُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُوَيّصَةُ، وَأَبُو بردة ابن نِيَارٍ، وَرَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فقتل المزنيّان(2/551)
وَالْغَطَفَانِيّ، وَارْتُثّ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ الْقَتْلَى. قَالَ مُحَمّدٌ: فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ نَظَرْت إلَى أَحَدِ النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا وَلُوا ضَرْبِي يَوْمَ ذِي الْقَصّةِ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: أَسْلَمْت وَجْهِي لِلّهِ! فَقُلْت: أَوْلَى!
سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ
فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتّ لَيْلَةَ السّبْتِ، وَغَابَ لَيْلَتَيْنِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الْأَشْجَعِيّ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَيْلَةَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَا: أَجْدَبَتْ بِلَادُ بَنِي ثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ، وَوَقَعَتْ سَحَابَةٌ بِالْمَرَاضِ إلَى تَغْلَمَيْنِ [ (1) ] ، فَصَارَتْ بَنُو مُحَارِبٍ وَثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ إلَى تِلْكَ السّحَابَةِ، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَسَرْحُهُمْ يَوْمَئِذٍ يَرْعَى بِبَطْنِ هَيْقَا، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بْنَ الْجَرّاحِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَلّوْا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَمْشُونَ حَتّى وَافَوْا ذِي الْقَصّةِ مَعَ عَمَايَةِ الصّبْحِ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ فَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ، وَأَخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ وَوَجَدَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ فَاسْتَاقَهُ، وَرِثّةً مِنْ مَتَاعٍ، فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ الرّجُلُ فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ خَمّسَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَسّمَ مَا بَقِيَ عليهم.
__________
[ (1) ] التغلمين: موضع من بلاد بنى فزارة قبل ريم. (معجم ما استعجم، ص 203) .(2/552)
سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الْعِيصِ [1] فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ الْغَابَةِ بَلَغَهُ أَنّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ أَقْبَلَتْ مِنْ الشّامِ، فَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي سَبْعِينَ وَمِائَةِ رَاكِبٍ، فَأَخَذُوهَا وَمَا فِيهَا. وَأَخَذُوا يَوْمَئِذٍ فِضّةً كَثِيرَةً لِصَفْوَانَ [ (2) ] ، وَأَسَرُوا نَاسًا مِمّنْ كَانَ فِي الْعِيرِ مَعَهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. فَأَمّا أَبُو الْعَاصِ فَلَمْ يَغْدُ أَنْ جَاءَ الْمَدِينَةَ، ثُمّ دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سَحَرًا، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَاسْتَجَارَهَا فَأَجَارَتْهُ. فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ قَامَتْ زَيْنَبُ عَلَى بَابِهَا فَنَادَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ:
إنّي قَدْ أَجَرْت أَبَا الْعَاصِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّهَا النّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْت؟ قَالُوا: نَعَمْ. قال: فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا عَلِمْت بِشَيْءٍ مِمّا كَانَ حتى سمعت الذي سمعتم، المومنون يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَارَتْ.
فَلَمّا انْصَرَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدّ إلَى أَبِي الْعَاصِ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الْمَالِ، فَفَعَلَ وَأَمَرَهَا أَلّا يَقْرَبَهَا، فَإِنّهَا لَا تَحِلّ لَهُ مَا دَامَ مُشْرِكًا. ثُمّ كَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَكَانَتْ مَعَهُ بَضَائِعُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَدّوْا إلَيْهِ كلّ شيء، حتى إنهم ليردّون
__________
[ (1) ] العيص: بينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذى المروة ليلة. (طبقات ابن سعد، ج 2، ص 63)
[ (2) ] أى صفوان بن أمية.(2/553)
الْإِدَاوَةَ [ (1) ] وَالْحَبْلَ، حَتّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ. وَرَجَعَ أَبُو الْعَاصِ إلَى مَكّةَ فَأَدّى إلَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟
قَالُوا: لَا وَاَللهِ. قَالَ: فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ أَسْلَمْت بِالْمَدِينَةِ، وَمَا مَنَعَنِي أَنْ أُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ إلّا أَنْ خَشِيت أَنْ تَظُنّوا أَنّي أَسْلَمْت لِأَنْ أَذْهَبَ بِاَلّذِي لَكُمْ. ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدّ عَلَيْهِ زَيْنَبَ بِذَلِكَ النّكَاحِ. وَيُقَالُ إنّ هَذِهِ الْعِيرَ كَانَتْ أَخَذَتْ طَرِيقَ الْعِرَاقِ، وَدَلِيلُهَا فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ.
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: وَأَمّا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَأَفْلَتْ، فَتَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَكّةَ فأخذ الطريق نفسها، فلقه سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ قَافِلًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَ الْمُغِيرَةَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَأَقْبَلَ بِهِ حَتّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُمْ مُبْرِدُونَ.
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَنِي ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: احْتَفِظِي بِهَذَا الْأَسِيرِ! وَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَهَوْت مَعَ امْرَأَةٍ أَتَحَدّثُ مَعَهَا، فَخَرَجَ وَمَا شَعَرْت بِهِ، فَدَخَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الْأَسِيرُ؟ فَقُلْت: وَاَللهِ مَا أَدْرِي، غَفَلْت عَنْهُ، وَكَانَ هَاهُنَا آنِفًا. فَقَالَ: قَطَعَ اللهُ يَدَك! قَالَتْ: ثُمّ خَرَجَ فَصَاحَ بِالنّاسِ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَخَذُوهُ بِالصّوْرَيْنِ، فَأُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلَ عَلَيّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُقَلّبُ بِيَدِي، فَقَالَ:
مَا لَكِ؟ فَقُلْت: أَنْظُرُ كَيْفَ تُقْطَعُ يَدِي، قَدْ دَعَوْت عَلَيّ بِدَعْوَتِكُمْ! قَالَتْ:
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّمَا أنا بشر، أغضب وآسف
__________
[ (1) ] الإداوة: المطهرة التي يتوضأ بها. (شرح أبى ذر، ص 167) .(2/554)
كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ. فَأَيّمَا مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ دَعَوْت عَلَيْهِ بِدَعْوَةٍ فَاجْعَلْهَا لَهُ رَحْمَةً.
سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ [ (1) ] فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي أَسَامّةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مَنّاحٍ، قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بْنَ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ إلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ، فَخَرَجَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، حَتّى إذَا كَانُوا بِالطّرَفِ أَصَابَ نَعَمًا وَشَاءً.
وَهَرَبَتْ الْأَعْرَابُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَارَ إلَيْهِمْ، فَانْحَدَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى صَبّحَ الْمَدِينَةَ بِالنّعَمِ، وَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ، فَقَدِمَ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا. وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ فِيهَا، وَإِنّمَا غَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي رُشْدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَنْ حَضَرَ السّرِيّةَ، قَالَ: أَصَابَهُمْ بَعِيرَانِ أَوْ حِسَابُهُمَا مِنْ الْغَنَمِ، فَكَانَ كُلّ بَعِيرٍ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ، وَكَانَ شِعَارُنَا: أمِت! أمِت!
سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى حِسْمَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ، قَدْ أَجَازَ دِحْيَةَ بِمَالٍ وَكَسَاهُ كُسًى. فَأَقْبَلَ حَتّى كَانَ بِحِسْمَى، فَلَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ جُذَامٍ فَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطّرِيقَ، وَأَصَابُوا كلّ شيء
__________
[ (1) ] زاد ابن سعد: هو ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة.
(الطبقات، ج 2، ص 63) .(2/555)
مَعَهُ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الْمَدِينَةِ إلّا بِسَمَلٍ [ (1) ] ، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَقّهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ. قَالَ: اُدْخُلْ. فَدَخَلَ فَاسْتَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمّا كَانَ مِنْ هِرَقْلَ حَتّى أَتَى عَلَى آخِرِ ذَلِكَ،
ثُمّ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْبَلْت مِنْ عِنْدِهِ حَتّى كُنْت بِحِسْمَى فَأَغَارَ عَلَيّ قَوْمٌ مِنْ جُذَامٍ، فَمَا تَرَكُوا مَعِي شَيْئًا حَتّى أَقْبَلْت بِسَمَلِي [ (2) ] ، هَذَا الثّوْبَ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ: سَمِعْت شَيْخًا مِنْ سَعْدِ هُذَيْمٍ كَانَ قَدِيمًا يُخْبِرُ عَنْ أَبِيهِ يَقُولُ: إنّ دِحْيَةَ لَمّا أُصِيبَ- أَصَابَهُ [ (3) ] الْهُنَيْدُ بْنُ عَارِضٍ وَابْنُهُ عَارِضُ بْنُ الْهُنَيْدِ، وكانا والله نكدين مشؤومين، فَلَمْ يُبْقُوا مَعَهُ شَيْئًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي الضّبَيْبِ فَنَفَرُوا إلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ.
فَكَانَ فِيمَنْ نَفَرَ مِنْهُمْ النّعْمَانُ بْنُ أَبِي جُعَالٍ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ نُعْمَانُ رَجُلَ الْوَادِي ذَا الْجَلَدِ وَالرّمَايَةِ [ (4) ] . فَارْتَمَى النّعْمَانُ وَقُرّةُ بْنُ أَبِي أَصْفَرَ الصّلعِيّ، فَرَمَاهُ قُرّةُ فَأَصَابَ كَعْبَهُ فَأَقْعَدَهُ إلَى الْأَرْضِ. ثُمّ انْتَهَضَ النّعْمَانُ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ عَرِيضِ السّرْوَةِ [ (5) ] ، فَقَالَ: خُذْهَا مِنْ الْفَتَى! فَخَلّ السّهْمُ فِي رُكْبَتِهِ فَشَنّجَهُ وَقَعَدَ، فَخَلّصُوا لِدِحْيَةَ مَتَاعَهُ فَرَجَعَ بِهِ سَالِمًا إلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ مُوسَى، فَسَمِعْت شَيْخًا آخَرَ يَقُولُ: إنّمَا خَلّصَ مَتَاعَ دِحْيَةَ رَجُلٌ كَانَ صَحِبَهُ مِنْ قُضَاعَةَ، هُوَ الّذِي كَانَ اسْتَنْقَذَ لَهُ كلّ شيء أخذ منه
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بشمل» ، وما أثبتناه من ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 63) .
والسمل: الخلق من الثياب. (النهاية، ج 2، ص 183) .
[ (2) ] فى الأصل، «بشملى» .
[ (3) ] فى الأصل: «أصابوا» ، وما أثبتناه هو ما يقتضيه السياق.
[ (4) ] فى الأصل: «وكان نعمان رجل الوادي الجلد والرماية» ، ولعل ما أثبتناه أحكم للسياق.
[ (5) ] السروة: السهم العريض النصل. (القاموس المحيط، ج 4، ص 342) .(2/556)
رَدّهُ عَلَى دِحْيَةَ. ثُمّ إنّ دِحْيَةَ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه سلّم فَاسْتَسْعَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ، فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَعَهُ.
وَقَدْ كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافِدًا، فَأَجَازَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ،
ثُمّ سَأَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ مَعَهُ كِتَابًا، فَكَتَبَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى قَوْمِهِ عَامّةً وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ، وَمَنْ ارْتَدّ فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ.
فَلَمّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ بِكِتَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ فَأَجَابُوهُ وَأَسْرَعُوا، وَنَفَذُوا إلَى مُصَابِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ [ (1) ] فَوَجَدُوا أَصْحَابَهُ قَدْ تَفَرّقُوا.
وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ خِلَافَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، وَرَدّ مَعَهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ. وَكَانَ زَيْدٌ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ. وَقَدْ اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ كُلّهَا وَوَائِلٌ وَمَنْ كَانَ مِنْ سَلَامَات وَبَهْرَاءَ حِينَ جَاءَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكِتَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتّى نَزَلُوا- الرّجَالُ وَرِفَاعَةُ- بِكُرَاعِ [ (2) ] رُؤَيّةَ لَمْ يُعْلَمْ. وَأَقْبَلَ الدّلِيلُ الْعُذْرِيّ بِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ حَتّى هَجَمَ بِهِمْ، فَأَغَارُوا مَعَ الصّبْحِ عَلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ وَمَنْ كَانَ فِي مَحَلّتِهِمْ، فَأَصَابُوا مَا وَجَدُوا، وَقَتَلُوا
__________
[ (1) ] فى الأصل: «مصاب زيد بن حارثة» ، وما أثبتناه هو ما يقتضيه السياق. (انظر شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 190) ، والسيرة الحلبية، ج 2، ص 302) .
[ (2) ] الكراع: الجانب المستطيل من الحرة. (النهاية، ج 4، ص 15) .
ورؤية: موضع فى ديار بنى مازن. (معجم ما استعجم، ص 342، 388) .(2/557)
فِيهِمْ فَأَوْجَعُوا [ (1) ] ، وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ، وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَأَخَذُوا مِنْ النّعَمِ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَمِنْ الشّاءِ خَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ، وَمِنْ السّبْيِ مِائَةً مِنْ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ. وَكَانَ الدّلِيلُ إنّمَا جَاءَ بِهِمْ مِنْ قِبَلِ الْأَوْلَاجِ [ (2) ] ، فَلَمّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ الضّبَيْبُ بِمَا صَنَعَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَكِبُوا، فَكَانَ فِيمَنْ رَكِبَ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ [ (3) ] ، وَابْنُهُ، فَدَنَوْا مِنْ الْجَيْشِ وَتَوَاصَوْا لَا يَتَكَلّمُ أَحَدٌ إلّا حِبّانُ بْنُ مِلّةَ [ (3) ] ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلَامَةٌ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ قَالَ «قَوَدِي!» فَلَمّا طَلَعُوا عَلَى الْعَسْكَرِ طَلَعُوا عَلَى الدّهْمِ مِنْ السّبْيِ وَالنّعَمِ، وَالنّسَاءِ وَالْأُسَارَى أَقْبَلُوا جَمِيعًا، وَاَلّذِي يَتَكَلّمُ حِبّانُ بْنُ مِلّةَ يَقُولُ:
إنّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ، عَارِضٌ رُمْحَهُ، فَأَقْبَلَ يَسُوقُهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: قَوَدِي! فَقَالَ حِبّانُ: مَهْلًا! فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ لَهُ حِبّانُ: إنّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ. قَالَ لَهُ زَيْدٌ: اقْرَأْ أُمّ الْكِتَابِ! وَكَانَ زَيْدٌ إنّمَا يَمْتَحِنُ أَحَدَهُمْ بِأُمّ الْكِتَابِ لَا يَزِيدُهُ. فَقَرَأَ حِبّانُ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: نَادُوا فِي الْجَيْشِ «إنّهُ قَدْ حَرُمَ عَلَيْنَا مَا أَخَذْنَاهُ مِنْهُمْ بِقِرَاءَةِ أُمّ الْكِتَابِ» . فَرَجَعَ الْقَوْمُ وَنَهَاهُمْ زَيْدٌ أَنْ يَهْبِطُوا وَادِيَهُمْ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ، فَأَمْسَوْا فِي أَهْلِيهِمْ، وَهُمْ فِي رَصَدٍ لِزَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَاسْتَمَعُوا حَتّى نَامَ أَصْحَابُ زَيْدِ بن حارثة، فلمّا هدأوا وَنَامُوا رَكِبُوا إلَى رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ- وَكَانَ فِي الرّكْبِ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو أَسَمَاءَ بْنُ عَمْرٍو، وَسُوَيْدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ، وَبَرْذَعُ بْنُ زَيْدٍ، وَثَعْلَبَةُ بن عدىّ- حتى
__________
[ (1) ] أى أكثروا فيهم. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 191) .
[ (2) ] الأولاج: جمع ولجة، وهي معطف الوادي. (القاموس المحيط، ج 1، ص 211) .
وهو اسم موضع هنا.
[ (3) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن إسحاق: «حسان بن ملة» ، وقال ابن هشام: «حيان بن ملة» (السيرة النبوية، ج 4، ص 261) .(2/558)
صَبّحُوا رِفَاعَةَ بِكُرَاعِ رُؤَيّةَ، بِحَرّةِ لَيْلَى [ (1) ] ، فَقَالَ حِبّانُ [ (2) ] : إنّك لَجَالِسٌ تَحْلُبُ الْمِعْزَى [وَنِسَاءُ جُذَامٍ أُسَارَى] [ (3) ] . فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَدَخَلَ مَعَهُمْ حَتّى قَدِمُوا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ- سَارُوا ثَلَاثًا- فَابْتَدَاهُمْ رِفَاعَةُ فَدَفَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُ الّذِي كَتَبَ مَعَهُ، فَلَمّا قَرَأَ كِتَابَهُ اسْتَخْبَرَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى؟
فَقَالَ رِفَاعَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَعْلَمُ، لَا تُحَرّمُ عَلَيْنَا حَلَالًا وَلَا تُحِلّ لَنَا حَرَامًا. قَالَ أَبُو زَيْدٍ [ (4) ] : أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ كَانَ حَيّا، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ أَبُو زَيْدٍ! قَالَ الْقَوْمُ: فَابْعَثْ مَعَنَا يَا رَسُولَ اللهِ رَجُلًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، يُخَلّي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حَرَمِنَا وَأَمْوَالِنَا. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ مَعَهُمْ يَا عَلِيّ! فَقَالَ عَلِيّ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا يُطِيعُنِي زَيْدٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا سَيْفِي فَخُذْهُ. فَأَخَذَهُ فَقَالَ: لَيْسَ مَعِي بَعِيرٌ أَرْكَبُهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا بَعِيرٌ! فَرَكِبَ بَعِيرَ أَحَدِهِمْ وَخَرَجَ مَعَهُمْ حَتّى لَقُوا رافع ابن مَكِيثٍ بَشِيرَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِ الْقَوْمِ، فَرَدّهَا عَلِيّ عَلَى الْقَوْمِ. وَرَجَعَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ رَدِيفًا حَتّى لَقُوا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بِالْفَحْلَتَيْنِ [ (5) ] ، فَلَقِيَهُ عَلِيّ وَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ يَأْمُرُك أَنْ تَرُدّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا كَانَ بِيَدِك مِنْ أَسِيرٍ أَوْ سَبْيٍ أَوْ مَالٍ. فَقَالَ زَيْدٌ: عَلَامَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ! فَقَالَ عَلِيّ: هَذَا سَيْفُهُ!
فَعَرَفَ زَيْدٌ السّيْفَ فنزل فصاح
__________
[ (1) ] حرة ليلى: لبنى مرة بن عوف بن سعد بن غطفان، يطؤها الحاج الشامي فى طريقه إلى المدينة.
(وفاء الوفا، ج 2، ص 288) .
[ (2) ] أى قال لرفاعة بن زيد.
[ (3) ] الزيادة من الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 192) .
[ (4) ] أى أبو زيد بن عمرو. أنظر الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 192) .
[ (5) ] الفحلتين: بين المدينة وذى المروة، كما قال ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 64) .(2/559)
بِالنّاسِ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ: مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ سَبْيٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَرُدّهُ، فَهَذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ. فَرَدّ إلَى النّاسِ كُلّ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، حَتّى إنْ كَانُوا لَيَأْخُذُونَ الْمَرْأَةَ مِنْ تَحْتِ فَخِذِ الرّجُلِ.
حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زيد بن أسلم، عن بسر بْنِ مِحْجَنٍ الدّيلِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت فِي تِلْكَ السّرِيّةِ، فَصَارَ لِكُلّ رَجُلٍ سَبْعَةُ أَبْعِرَةٍ وَسَبْعُونَ شَاةً، وَيَصِيرُ لَهُ مِنْ السّبْيِ الْمَرْأَةُ وَالْمَرْأَتَانِ، فَوَطِئُوا بِالْمِلْكِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، حَتّى رَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كُلّهُ إلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ قَدْ فَرّقَ وَبَاعَ مِنْهُ
. سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنُ قَمّادِينَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ:
وَتَجَهّزْ فَإِنّي بَاعِثُك فِي سَرِيّةٍ مِنْ يَوْمِك هَذَا، أَوْ مِنْ غَدٍ إنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَمِعْت ذَلِكَ فَقُلْت: لَأَدْخُلَنّ فلأصلّينّ مع النبىّ العداة، فَلَأَسْمَعَنّ وَصِيّتَهُ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: فَغَدَوْت فَصَلّيْت فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَنَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ مِنْ اللّيْلِ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرّحْمَنِ:
مَا خَلّفَك عَنْ أَصْحَابِك؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَدْ مَضَى أَصْحَابُهُ فِي السّحَرِ، فَهُمْ مُعَسْكِرُونَ بِالْجُرْفِ وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِي بِك، وَعَلَيّ ثِيَابُ سَفَرِي. قَالَ: وَعَلَى عَبْدِ الرحمن ابن عَوْفٍ عِمَامَةٌ قَدْ لَفّهَا عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَدَعَاهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَقَضَ عِمَامَتَهُ بِيَدِهِ، ثُمّ عَمّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ،(2/560)
فَأَرْخَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْهَا، ثُمّ قَالَ: هَكَذَا فَاعْتَمّ يَا ابْنَ عَوْفٍ! قَالَ:
وَعَلَى ابْنِ عَوْفٍ السّيْفُ مُتَوَشّحَهُ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اُغْزُ بِاسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، لَا تَغُلّ وَلَا تَغْدِرْ وَلَا تَقْتُلْ وَلِيدًا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمّ بَسَطَ يَدَهُ، فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ، اتّقُوا خَمْسًا قَبْلَ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ، مَا نُقِضَ مِكْيَالُ قَوْمٍ إلّا أَخَذَهُمْ اللهُ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَمَا نَكَثَ قَوْمٌ عَهْدَهُمْ إلّا سَلّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّهُمْ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ الزّكَاةَ إلّا أَمْسَكَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَطْرَ السّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُسْقَوْا، وَمَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إلّا سَلّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ الطّاعُونَ، وَمَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ آيِ الْقُرْآنِ إلّا أَلْبَسَهُمْ اللهُ شِيَعًا، وَأَذَاقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.
قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حَتّى لَحِقَ أَصْحَابَهُ فَسَارَ حَتّى قَدِمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، فَلَمّا حَلّ بِهَا دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَمَكَثَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَانُوا أَبَوْا أَوّلَ مَا قَدِمَ يُعْطُونَهُ إلّا السّيْفَ، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ أَسْلَمَ الْأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيّ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا وَكَانَ رَأْسَهُمْ.
فَكَتَبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَال [لَهُ] رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ، وَكَتَبَ يُخْبِرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوّجَ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوّجَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ تُمَاضِرَ. فَتَزَوّجَهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ وَبَنَى بِهَا، ثُمّ أَقْبَلَ بِهَا، وَهِيَ أُمّ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جعفر، عن ابن أبى عون، عَنْ صَالِحِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ إلَى كَلْبٍ، وَقَالَ:
إنْ اسْتَجَابُوا لَك فَتَزَوّجْ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ أَوْ ابْنَةَ سَيّدِهِمْ.
فَلَمّا قدم دعاهم(2/561)
إلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَجَابُوا وَأَقَامَ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَتَزَوّجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ بْنِ عَمْرٍو مَلِكِهِمْ، ثُمّ قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أُمّ أَبِي سَلَمَةَ.
سَرِيّةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى بَنِي سَعْدٍ، بِفَدَكٍ [ (1) ] فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عُتْبَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فِي مِائَةِ رَجُلٍ إلَى حَيّ سَعْدٍ، بِفَدَكٍ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَمُدّوا يَهُودَ خَيْبَرَ، فَسَارَ اللّيْلَ وَكَمَنَ النّهَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْهَمَجِ [ (2) ] ، فَأَصَابَ عَيْنًا فَقَالَ:
مَا أَنْتَ؟ هَلْ لَك عِلْمٌ بِمَا وَرَاءَك مِنْ جَمْعِ بَنِي سَعْدٍ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ.
فَشَدّوا عَلَيْهِ فَأَقَرّ أَنّهُ عَيْنٌ لَهُمْ بَعَثُوهُ إلَى خَيْبَرَ، يَعْرِضُ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَصْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ مِنْ تَمْرِهِمْ كَمَا جَعَلُوا لِغَيْرِهِمْ وَيَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ:
فَأَيْنَ الْقَوْمُ؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ وَقَدْ تَجَمّعَ مِنْهُمْ مِائَتَا رَجُلٍ، وَرَاسُهُمْ وبر ابن عُلَيْمٍ. قَالُوا: فَسِرْ بِنَا حَتّى تَدُلّنَا. قَالَ: عَلَى أَنْ تُؤَمّنُونِي! قَالُوا:
إنْ دَلَلْتنَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَرْحِهِمْ أَمّنّاك، وَإِلّا فَلَا أَمَانَ لَك. قَالَ: فَذَاكَ! فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلًا لَهُمْ حَتّى سَاءَ ظَنّهُمْ بِهِ، وَأَوْفَى بِهِمْ عَلَى فَدَافِدَ وَآكَامٍ، ثُمّ أَفْضَى بِهِمْ إلَى سُهُولَةٍ فَإِذَا نعم كثير وشاء، فقال: هذا نعمهم وشاءهم.
فَأَغَارُوا عَلَيْهِ فَضَمّوا النّعَمَ وَالشّاءَ. قَالَ: أَرْسِلُونِي! قَالُوا: لَا حَتّى نَأْمَنَ الطّلَبَ! وَنَذَرَ بِهِمْ الرّاعِيَ رِعَاءَ الْغَنَمِ وَالشّاءِ، فَهَرَبُوا إلَى جَمْعِهِمْ فحذّروهم،
__________
[ (1) ] فدك: قرية قريبة من خيبر بينها وبين المدينة ست ليال. (وفاء الوفا، ج 2، ص 255)
[ (2) ] الهمج: ماء بين خيبر وفدك. (طبقات ابن سعد، ج 2، ص 65) .(2/562)
فَتَفَرّقُوا وَهَرَبُوا، فَقَالَ الدّلِيلُ: عَلَامَ تَحْبِسُنِي؟ قَدْ تَفَرّقَتْ الْأَعْرَابُ وَأَنْذَرَهُمْ الرّعَاءُ. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَمْ نَبْلُغْ مُعَسْكَرَهُمْ. فَانْتَهَى بِهِمْ إلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَأَرْسَلُوهُ وَسَاقُوا النّعَمَ وَالشّاءَ، النّعَمُ خَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَلْفَا شَاةٍ.
حَدّثَنِي أُبَيْرُ بن العلاء، عن عيسى بن عميلة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: إنّي لَبِوَادِي الْهَمَجِ إلَى بَدِيعٍ [ (1) ] ، مَا شَعَرْت إلّا بِبَنِي سَعْدٍ يَحْمِلُونَ الظّعُنَ وَهُمْ هَارِبُونَ، فَقُلْت: مَا دَهَاهُمْ الْيَوْمَ؟ فَدَنَوْت إلَيْهِمْ فَلَقِيت رَأْسَهُمْ وَبَرَ بْنَ عُلَيْمٍ، فَقُلْت: مَا هَذَا الْمَسِيرُ؟ قَالَ: الشّرّ، سَارَتْ إلَيْنَا جُمُوعُ مُحَمّدٍ وَمَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، قَبْلَ أَنْ نَأْخُذَ لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا، وَقَدْ أَخَذُوا رَسُولًا لَنَا بَعَثْنَاهُ إلَى خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَنَا وَهُوَ صَنَعَ بِنَا مَا صَنَعَ. قُلْت: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِي، وَمَا كُنّا نَعُدّ فِي الْعَرَبِ فَتًى وَاحِدًا أجمع قلبا مِنْهُ.
فَقُلْت: إنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا قَدْ أَمِنَ وَغَلُظَ، أَوْقَعَ بِقُرَيْشٍ فَصَنَعَ بِهِمْ مَا صَنَعَ، ثُمّ أَوْقَعَ بِأَهْلِ الْحُصُونِ بِيَثْرِبَ، قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، وَهُوَ سَائِرٌ إلَى هَؤُلَاءِ بِخَيْبَرَ. فَقَالَ لِي وَبَرٌ: لَا تَخْشَ ذَلِكَ! إنّ بِهَا رِجَالًا، وَحُصُونًا مَنِيعَةً، وَمَاءً وَاتِنًا [ (2) ] ، لَا دَنَا مِنْهُمْ مُحَمّدٌ أَبَدًا، وَمَا أحراهم أن يغزوه فى عقر داره. فقلت: وَتَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ: هُوَ الرّأْيُ لَهُمْ. فَمَكَثَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ ثَلَاثًا ثُمّ قَسّمَ الْغَنَائِمَ وَعَزَلَ الْخُمُسَ وَصَفِيّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لقوحا تدعى الحفدة قدم بها.
__________
[ (1) ] بديع: أرض من فدك، وهي مال للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن المغيرة المخزومي.
(معجم ما استعجم، ص 144) .
[ (2) ] وتن الماء، أى دام ولم ينقطع. (الصحاح، ص 2212) .(2/563)
سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ
حَدّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن الحسن بن الحسن بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:
خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي تِجَارَةٍ إلَى الشّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ خُصْيَتَيْ تَيْسٍ فَدَبَغَهُمَا ثُمّ جَعَلَ بَضَائِعَهُمْ فِيهِمَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ دُونَ وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مِنْ بَنِي بَدْرٍ، فَضَرَبُوهُ وَضَرَبُوا أَصْحَابَهُ حَتّى ظَنّوا أَنْ قَدْ قُتِلُوا، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ، ثُمّ اسْتُبِلّ [ (1) ] زَيْدٌ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَهُ فِي سَرِيّةٍ فَقَالَ لَهُمْ: اُكْمُنُوا النّهَارَ وَسِيرُوا اللّيْلَ.
فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلٌ لَهُمْ، وَنَذَرَتْ بِهِمْ بَنُو بَدْرٍ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ نَاطُورًا [ (2) ] لَهُمْ حِينَ يُصْبِحُونَ فَيَنْظُرُ عَلَى جَبَلٍ لَهُمْ مُشْرِفٍ وَجْهَ الطّرِيقِ الّذِي يَرَوْنَ أَنّهُمْ يَأْتُونَ مِنْهُ، فَيَنْظُرُ قَدْرَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيَقُولُ: اسْرَحُوا فَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ لَيْلَتَكُمْ! فَلَمّا كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَأَ بِهِمْ دَلِيلُهُمْ الطّرِيقَ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقًا أُخْرَى حَتّى أَمْسَوْا وَهُمْ عَلَى خَطَأٍ، فَعَرَفُوا خَطَأَهُمْ، ثُمّ صَمَدُوا [ (3) ] لَهُمْ فِي اللّيْلِ حَتّى صَبّحُوهُمْ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ نَهَاهُمْ حَيْثُ انْتَهَوْا عَنْ الطّلَبِ. قَالَ: ثم وعز إليهم ألّا يفترقوا. وقال.
__________
[ (1) ] استبل: أى برأ. (الصحاح، ص 1640) .
[ (2) ] الناطور: حافظ الكرم، والمعنى هاهنا الطليعة. (القاموس المحيط، ج 2، ص 144) .
[ (3) ] صمدوا لهم: أى ثبتوا لهم وقصودهم وانتظروا غفلتهم. (النهاية، ج 2، ص 374) .(2/564)
إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا. وَأَحَاطُوا بِالْحَاضِرِ ثُمّ كَبّرَ وَكَبّرُوا، فَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ [ (1) ] الْأَكْوَعِ فَطَلَبَ رَجُلًا مِنْهُمْ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ أَمْعَنَ فِي طَلَبِهِ، وَأَخَذَ جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ وَجَدَهَا فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَأُمّهَا أُمّ قِرْفَةَ، وَأُمّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَغَنِمُوا، وَأَقْبَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ بِالْجَارِيَةِ،
فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ جَمَالَهَا، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ قَالَ: جَارِيَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ رَجَوْت أَنْ أَفْتَدِيَ بِهَا امْرَأَةً مِنّا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ. فَأَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا يَسْأَلُهُ: مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ حَتّى عَرَفَ سَلَمَةُ أَنّهُ يُرِيدُهَا فَوَهَبَهَا لَهُ، فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ امْرَأَةً لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ غَيْرُهَا.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَأَتَى زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرّ ثَوْبَهُ عُرْيَانًا، مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهَا، حَتّى اعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ، ثُمّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا ظَفّرَهُ اللهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَتَلَ أُمّ قِرْفَةَ
قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُحَسّرِ قَتْلًا عَنِيفًا، رَبَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا حَبْلًا ثُمّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ، وَهِيَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ. وَقَتَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ مَسْعَدَةَ بْنِ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بدر.
__________
[ (1) ] كذا فى الأصل وابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 639) . وفى ابن سعد: «مسلمة بن الأكوع» . (الطبقات، ج 3، ص 65) .(2/565)
سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ إلَى أسير بن زارم في شوال سنة ست
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ:
سَمِعْت عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ قَالَ: غَزَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ خَيْبَرَ مَرّتَيْنِ، بَعَثَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَةَ الْأُولَى إلَى خَيْبَرَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَنْظُرُ إلَى خَيْبَرَ، وَحَالِ أَهْلِهَا وَمَا يُرِيدُونَ وَمَا يَتَكَلّمُونَ بِهِ، فَأَقْبَلَ حَتّى أَتَى نَاحِيَةَ خَيْبَرَ فَجَعَلَ يَدْخُلُ الْحَوَائِطَ، وَفَرّقَ أَصْحَابَهُ فِي النّطَاةِ، وَالشّقّ، وَالْكَتِيبَةِ [ (1) ] ، وَوَعَوْا مَا سَمِعُوا مِنْ أُسَيْرٍ وَغَيْرِهِ. ثُمّ خَرَجُوا بَعْدَ إقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ، فَرَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَبّرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلّ مَا رَأَى وَسَمِعَ، ثُمّ خَرَجَ إلَى أُسَيْرٍ فِي شَوّالٍ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كَانَ أُسَيْرٌ رَجُلًا شُجَاعًا، فَلَمّا قُتِلَ أَبُو رَافِعٍ أَمّرَتْ الْيَهُودُ أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ، فَقَامَ فِي الْيَهُودِ فَقَالَ: إنّهُ وَاَللهِ مَا سَارَ مُحَمّدٌ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْيَهُودِ إلّا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَصَابَ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ، وَلَكِنّي أَصْنَعُ مَا لَا يَصْنَعُ أَصْحَابِي. فَقَالُوا: وَمَا عَسَيْت أَنْ تَصْنَعَ مَا لَمْ يَصْنَعْ أَصْحَابُك؟ قَالَ: أَسِيرُ فِي غَطَفَانَ فَأَجْمَعُهُمْ. فَسَارَ فِي غَطَفَانَ فَجَمَعَهَا، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، نَسِيرُ إلَى مُحَمّدٍ فِي عُقْرِ دَارِهِ، فَإِنّهُ لَمْ يُغْزَ أَحَدٌ فِي دَارِهِ إلّا أَدْرَكَ مِنْهُ عَدُوّهُ بَعْضَ مَا يُرِيدُ. قَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَيْت.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَقَدِمَ عَلَيْهِ خَارِجَةُ بْنُ حُسَيْلٍ الْأَشْجَعِيّ، فَاسْتَخْبَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءه فقال: تركت
__________
[ (1) ] النطاة والشق والكتيبة من آطام خيبر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 330، 364، 383) .(2/566)
أُسَيْرَ بْنَ زَارِمَ يَسِيرُ إلَيْك فِي كَتَائِبِ الْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، فَانْتُدِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَكُنْت فِيهِمْ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَأَرْسَلْنَا إلَى أُسَيْرٍ: إنّا آمِنُونَ حَتّى نَأْتِيَك فَنَعْرِضَ عَلَيْك مَا جِئْنَا لَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَلِي مِثْلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: إنّ رَسُولَ اللهِ بَعَثَنَا إلَيْك أَنْ تَخْرُجَ إلَيْهِ فَيَسْتَعْمِلَك عَلَى خَيْبَرَ وَيُحْسِنَ إلَيْك. فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ، وَشَاوَرَ الْيَهُودَ فَخَالَفُوهُ فِي الْخُرُوجِ وَقَالُوا: مَا كَانَ مُحَمّدٌ يَسْتَعْمِلُ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَقَالَ: بَلَى، قَدْ مَلِلْنَا الْحَرْبَ. قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ مَعَ كُلّ رَجُلٍ رَدِيفٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَسِرْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقَرْقَرَةِ ثِبَارٍ [ (1) ] نَدِمَ أُسَيْرٌ حَتّى عَرَفْنَا النّدَامَةَ فيه. قال عبد الله ابن أُنَيْسٍ: وَأَهْوَى بِيَدِهِ إلَى سَيْفِي فَفَطِنْت لَهُ. قَالَ: فَدَفَعْت بَعِيرِي فَقُلْت:
غَدْرًا أَيْ عَدُوّ اللهِ! ثُمّ تَنَاوَمْت فَدَنَوْت مِنْهُ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَتَنَاوَلَ سَيْفِي، فَغَمَزْت بَعِيرِي وَقُلْت: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَنْزِلُ فَيَسُوقُ بِنَا؟ فَلَمْ يَنْزِلْ أَحَدٌ، فَنَزَلْت عَنْ بَعِيرِي فَسُقْت بِالْقَوْمِ حَتّى انْفَرَدَ أُسَيْرٌ، فَضَرَبْته بِالسّيْفِ فَقَطَعْت مُؤَخّرَةَ الرّجْلِ وَأَنْدَرْت [ (2) ] عَامّةَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَسَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ وَفِي يَدِهِ مِخْرَشٌ مِنْ [ (3) ] شَوْحَطٍ، فَضَرَبَنِي فَشَجّنِي مأمومة [ (4) ] ، وملنا على
__________
[ (1) ] فى مغازي موسى بن عقبة: «قرقرة تيار» . (وفاء الوفا، ج 2، ص 361) .
وثبار: موضع على ستة أميال من خيبر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 273) .
[ (2) ] أندره: أسقطه، ويقال ضرب يده بالسيف فأندرها. (الصحاح، ص 835) .
[ (3) ] فى الأصل: «مخرش من سوط» ، وما أثبتناه من ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 67) والمخرش: عصا معوجة الرأس. (النهاية، ج 1، ص 388) . والشوحط: ضرب من شجر الجبال. (الصحاح، ص 1136) .
[ (4) ] يقال: شجة مأمومة، أى بلغت أم الرأس. (القاموس المحيط، ج 4، ص 76) .(2/567)
أَصْحَابِهِ فَقَتَلْنَاهُمْ كُلّهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَعْجَزَنَا شَدّا، وَلَمْ يُصَبْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، ثُمّ أَقْبَلْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدّثُ أَصْحَابَهُ إذْ قَالَ لَهُمْ: تَمَشّوْا بِنَا إلَى الثّنِيّةِ نَتَحَسّبُ مِنْ أَصْحَابِنَا خَبَرًا. فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَلَمّا أَشْرَفُوا عَلَى الثّنِيّةِ فَإِذَا هُمْ بِسَرَعَانِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَانْتَهَيْنَا إلَيْهِ فَحَدّثْنَاهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: نَجّاكُمْ اللهُ مِنْ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ!
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ: فَدَنَوْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِي شَجّتِي، فَلَمْ تَقِحْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمْ تُؤْذِنِي، وَقَدْ كَانَ الْعَظْمُ فُلّ، وَمَسَحَ عَلَى وَجْهِي وَدَعَا لِي، وَقَطَعَ قِطْعَةً مِنْ عَصَاهُ فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذَا مَعَك عَلَامَةً بَيْنِي وَبَيْنَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرِفُك بِهَا، فَإِنّك تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَصّرًا [ (1) ] . فَلَمّا دُفِنَ جُعِلَتْ مَعَهُ تَلِي جَسَدَهُ دُونَ ثِيَابِهِ.
فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت أُصْلِحُ قَوْسِي. قَالَ: فَجِئْت فَوَجَدْت أَصْحَابِي قَدْ وُجّهُوا إلَى أُسَيْرِ بْنِ زَارِمَ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَرَى أسير ابن زَارِمَ! أَيْ اُقْتُلْهُ.
سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ
لَمّا أُغِيرَ عَلَى لِقَاحِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْجَدْرِ فِي شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ، وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ المدينة [ (2) ]
__________
[ (1) ] أى يأخذ بيده مخصرة، وهي العصا. (النهاية، ج 1، ص 296) .
[ (2) ] قال ابن سعد: الجدر ناحية قباء قريبا من غير على ستة أميال من المدينة. (الطبقات، ج 2، ص 67) .(2/568)
حَدّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ ثَمَانِيَةٌ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا، فَاسْتَوْبَأُوا [ (1) ] الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى لِقَاحِهِ، وَكَانَ سَرْحُ الْمُسْلِمِينَ بِذِي الْجَدْرِ، فَكَانُوا بِهَا حَتّى صَحّوا وَسَمِنُوا. وَكَانُوا اسْتَأْذَنُوهُ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ فَغَدَوْا عَلَى اللّقَاحِ فَاسْتَاقُوهَا [ (2) ] ، فَيُدْرِكُهُمْ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَطَعُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَغَرَزُوا الشّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتّى مَاتَ. وَانْطَلَقُوا بِالسّرْحِ، فَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى حِمَارٍ لَهَا حَتّى تَمُرّ بِيَسَارٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَمّا رَأَتْهُ وَمَا بِهِ- وَقَدْ مَاتَ- رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا وَخَبّرَتْهُمْ الْخَبَرَ، فَخَرَجُوا نَحْوَ يَسَارٍ حَتّى جَاءُوا بِهِ إلَى قُبَاءَ مَيّتًا. فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِمْ حتى أدركهم الليل، فباتوا بالجرّة وَأَصْبَحُوا فَاغْتَدَوْا لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَسْلُكُونَ، فَإِذَا هُمْ بِامْرَأَةٍ تَحْمِلُ كَتِفَ بَعِيرٍ، فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَتْ: مَرَرْت بِقَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا بَعِيرًا فَأَعْطَوْنِي. قَالُوا: أَيْنَ هُمْ؟ قَالَتْ: هُمْ بِتِلْكَ الْقِفَارِ مِنْ الْحَرّةِ، إذَا وَافَيْتُمْ عَلَيْهَا رَأَيْتُمْ دُخَانَهُمْ.
فَسَارُوا حَتّى أَتَوْهُمْ حِينَ فَرَغُوا مِنْ طَعَامِهِمْ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَسْتَأْسِرُوا، فَاسْتَأْسَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ لَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إنْسَانٌ، فَرَبَطُوهُمْ، وَأَرْدَفُوهُمْ عَلَى الْخَيْلِ حَتّى قَدِمُوا بِهِمْ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَابَةِ، فَخَرَجُوا نَحْوَهُ.
قَالَ خَارِجَةُ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ قَالَ: حَدّثَنِي أَنَسُ بْنُ مالك
__________
[ (1) ] استوبأوا المدينة: أى وجدوها وبئة. (الصحاح، ص 79) .
[ (2) ] وقد كفروا بعد إسلامهم.(2/569)
قَالَ: فَخَرَجْت أَسْعَى فِي آثَارِهِمْ مَعَ الْغِلْمَانِ حَتّى لَقِيَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزّغَابَةِ بِمَجْمَعِ السّيُولِ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ وَصُلِبُوا هُنَاكَ. قَالَ أَنَسٌ: إنّي لَوَاقِفٌ أَنْظُرُ إلَيْهِمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوَمَه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمّا قَطَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْدِي أَصْحَابِ اللّقَاحِ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ... [ (1) ] الْآيَةَ. قَالَ: فَلَمْ تُسْمَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْنٌ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: مَا بَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْثًا إلّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُثْلَةِ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ بِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَمْ يَقْطَعْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَانًا قَطّ، وَلَمْ يَسْمُلْ عَيْنًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَالرّجْلِ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ:
أَمِيرُ السّرِيّةِ ابْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى، قَالَ: لَمّا ظَفِرُوا بِاللّقَاحِ خَلّفُوا عَلَيْهَا سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَمَعَهُ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، وَكَانَتْ اللّقَاحُ خَمْسَ عَشْرَةَ لِقْحَةً غِزَارًا. فَلَمّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الزّغَابَةِ وَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، إذَا اللّقَاحُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَيْهَا فتفقّد منها لقحة
__________
[ (1) ] سورة المائدة 33.(2/570)
لَهُ يُقَالُ لَهَا الْحِنّاءُ [ (1) ] فَقَالَ: أَيْ سَلَمَةُ، أَيْنَ الْحِنّاءُ؟ قَالَ: نَحَرَهَا الْقَوْمُ وَلَمْ يَنْحَرُوا غَيْرَهَا. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرْ مَكَانًا تَرْعَاهَا فِيهِ. قَالَ: مَا كَانَ أَمْثَلَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ بِذِي الْجَدْرِ. قَالَ: فَرَدّهَا إلَى ذِي الْجَدْرِ.
فَكَانَتْ هُنَاكَ، وَكَانَ لَبَنُهَا يُرَاحُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلّ لَيْلَةٍ وَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ بَعْضِ وَلَدِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَخْبَرَهُ بِعِدّةِ الْعِشْرِينَ فَارِسًا فَقَالَ: أَنَا، وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، وَأَبُو ذَرّ، وبريدة بن الحصيب، وَرَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ، وَجُنْدُبُ بْنُ مَكِيثٍ، وَبِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، وَجُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَصَفْوَانُ بْنُ مُعَطّلٍ، وَأَبُو رَوْعَةَ مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَدْرٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَأَبُو ضُبَيْسٍ الْجُهَنِيّ.
غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ
[ (2) ] قَالَ: حَدّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَرَمِ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «الحيا» ، وما أثبتناه من الزرقانى، يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 211) . ومن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 68) .
[ (2) ] على هامش الأصل: «هي قرية صغيرة سميت باسم بئر هناك عند مسجد الشجر وهي شجر سمر» . والحديبية على تسعة أميال من مكة. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 216) .(2/571)
أَبِي صَعْصَعَةَ، وَمُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَسَعِيدُ بْنُ أبى زيد الزّرقىّ، وعابد ابن يَحْيَى، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر، ومحمد بن يحيى ابن سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَحِزَامِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِي، أَهْلُ الثّقَةِ، وَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي، قَالُوا: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَأَى فِي النّوْمِ أَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَحَلّقَ رَأْسَهُ، وَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْبَيْتِ، وَعَرّفَ مَعَ الْمُعَرّفِينَ [ (1) ] ، فَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ إلَى الْعُمْرَةِ، فَأَسْرَعُوا وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيّ فِي لَيَالٍ بَقِيَتْ مِنْ شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ، فَقَدِمَ مُسْلِمًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرًا لَهُ، وَهُوَ عَلَى الرّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بُسْرُ، لَا تَبْرَحْ حَتّى تَخْرُجَ مَعَنَا فَإِنّا إنْ شَاءَ اللهُ مُعْتَمِرُونَ.
فَأَقَامَ بُسْرٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ [ (2) ] يَبْتَاعُ لَهُ بُدْنًا، فَكَانَ بُسْرٌ يَبْتَاعُ الْبُدْنَ وَيَبْعَثُ بِهَا إلَى ذِي الْجَدْرِ حَتّى حَضَرَ خُرُوجُهُ، فَأَمَرَ بِهَا فَجُلِبَتْ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمّ أَمَرَ بِهَا نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ [ (3) ] أَنْ يُقَدّمَهَا إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ.
وَخَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ، لِلرّؤْيَا الّتِي رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَرَجُوا بِغَيْرِ سِلَاحٍ إلّا السّيُوفَ فِي الْقُرُبِ، وَسَاقَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْهَدْيَ، أهل قوّة- أبو بكر
__________
[ (1) ] أى وقف على عرفة.
[ (2) ] هكذا فى الأصل.
[ (3) ] فى الأصل: «الأشهلى» . وما أثبتناه من ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 87) ، ومن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1522) .(2/572)
وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- سَاقُوا هَدْيًا حَتّى وَقَفَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بُدْنًا.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَتَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ عَلَيْنَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْب وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ نَأْخُذْ لِلْحَرْبِ عُدّتَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَدْرِي، وَلَسْت أُحِبّ أَحْمِلُ السّلَاحَ مُعْتَمِرًا.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ حَمَلْنَا السّلَاحَ مَعَنَا، فَإِنْ رَأَيْنَا مِنْ الْقَوْمِ رَيْبًا كُنّا مُعِدّينَ لَهُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْت أَحْمِلُ السّلَاحَ، إنّمَا خَرَجْت مُعْتَمِرًا. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ، فَاغْتَسَلَ فِي بَيْتِهِ وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ مِنْ نَسْجِ صُحَارٍ [ (1) ] ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَاءَ مِنْ عِنْدِ بَابِهِ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمّ دَعَا بِالْبُدْنِ فَجُلّلَتْ [ (2) ] ، ثُمّ أَشْعَرَ [ (3) ] بِنَفْسِهِ مِنْهَا عِدّةً، وَهُنّ مُوَجّهَاتٌ إلَى الْقِبْلَةِ، فِي الشّقّ الْأَيْمَنِ. وَيُقَالُ دَعَا بِبَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، ثُمّ أَمَرَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ بِإِشْعَارِ مَا بَقِيَ، وَقَلّدَهَا نَعْلًا نَعْلًا، وَهِيَ سَبْعُونَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِمَهُ بِبَدْرٍ، وَكَانَ يَكُونُ فِي لِقَاحِهِ بِذِي الْجَدْرِ.
وَأَشْعَرَ الْمُسْلِمُونَ بُدْنَهُمْ، وَقَلّدُوا النّعَالَ فِي رِقَابِ الْبُدْنِ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَرْسَلَهُ عَيْنًا لَهُ، وَقَالَ: إنّ قُرَيْشًا قَدْ بَلَغَهَا أَنّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَخَبّرْ لِي خَبَرَهُمْ، ثم القنى بما يكون منهم.
__________
[ (1) ] صحار: قرية باليمن ينسب الثوب إليها. (النهاية، ج 2، ص 253) .
[ (2) ] تجليل الفرس: أن تلبسه الجل، أى الغطاء. (الصحاح، ص 1661) .
[ (3) ] أشعر: ضرب صفحة السنام اليمنى بحديدة فلطخها بدمها إشعارا بأنه هدى. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 218) .(2/573)
فَتَقَدّمَ بُسْرٌ أَمَامَهُ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَقَدّمَهُ أَمَامَهُ طَلِيعَةً فِي خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عِشْرِينَ فَارِسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ- الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ فَارِسًا، وَكَانَ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ فَارِسًا، وَكَانَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَارِسًا، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَارِسًا، وكان سعيد ابن زَيْدٍ فَارِسًا، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسًا، وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَارِسًا، فِي عِدّةٍ مِنْهُمْ. وَيُقَالُ أَمِيرُهُمْ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ.
ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ خَرَجَ وَدَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَلَمّا انْبَعَثَتْ بِهِ مُسْتَقْبِلَةً الْقِبْلَةَ أَحْرَمَ وَلَبّى بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: لَبّيْكَ اللهُمّ لَبّيْكَ! لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك، لَبّيْكَ! إنّ الْحَمْدَ وَالنّعْمَةَ لَك، وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك!
وَأَحْرَمَ عَامّةُ الْمُسْلِمِينَ بِإِحْرَامِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ إلّا مِنْ الْجُحْفَةِ. وَسَلَكَ طَرِيقَ الْبَيْدَاءِ [ (1) ] ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ سِتّ عَشْرَةَ مِائَةً، وَيُقَالُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَيُقَالُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، خَرَجَ مَعَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ، وَيُقَال سَبْعُونَ رَجُلًا، وَخَرَجَ مَعَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ: أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمّ عُمَارَةَ، وَأُمّ مَنِيعٍ، وَأُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّةُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرّ بِالْأَعْرَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَيَسْتَنْفِرُهُمْ، فَيَتَشَاغَلُونَ [ (2) ] لَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ- وَهُمْ بَنُو بَكْرٍ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ- فَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ:
أَيُرِيدُ مُحَمّدٌ يَغْزُو بِنَا إلَى قَوْمٍ مُعِدّينَ مُؤَيّدِينَ فِي الْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ؟ وَإِنّمَا مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ! لَنْ يَرْجِعَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ من سفرهم هذا أبدا!
__________
[ (1) ] البيداء: هي التي إذا رحل الحجاج من ذى الحليفة استقبلوها مصعدين إلى المغرب.
(وفاء الوفا، ج 2، ص 267) .
[ (2) ] فى الأصل: «فيتشاغلوا» .(2/574)
قَوْمٌ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ وَلَا عُدَدٌ، وَإِنّمَا يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ حَدِيثٍ عَهْدُهُمْ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدّمُ الْخَيْلَ، ثُمّ يُقَدّمُ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ مَعَ الْهَدْيِ، وَكَانَ مَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ أَسْلَمَ، وَقَدّمَ الْمُسْلِمُونَ هَدْيَهُمْ مَعَ صَاحِبِ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةِ بْنِ جُنْدُبٍ مَعَ الْهَدْيِ
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ بِمَلَلٍ، فَرَاحَ مِنْ مَلَلٍ وَتَعَشّى بِالسّيّالَةِ، ثُمّ أَصْبَحَ بِالرّوْحَاءِ، فَلَقِيَ بِهَا أَصْرَامًا [ (1) ] مِنْ بَنِي نَهْدٍ، مَعَهُمْ نَعَمٌ وَشَاءٌ، فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَانْقَطَعُوا مِنْ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَبَنٍ مَعَ رَجُلٍ مِنْهُمْ.
فَأَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَقْبَلَ مِنْهُمْ وَقَالَ: لَا أَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْتَاعَ مِنْهُمْ فَابْتَاعُوهُ مِنْ الْأَعْرَابِ فَسُرّ الْقَوْمُ، وَجَاءُوا بِثَلَاثَةِ أَضُبّ أَحْيَاءٍ يَعْرِضُونَهَا، فَاشْتَرَاهَا قَوْمٌ أَحِلّةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ، فَأَكَلُوا وَعَرَضُوا عَلَى الْمُحْرِمِينَ فَأَبَوْا حَتّى سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كُلُوا فَكُلّ صَيْدٍ لَيْسَ لَكُمْ حَلَالًا فِي الْإِحْرَامِ تَأْكُلُونَهُ، إلّا مَا صِدْتُمْ أَوْ صِيدَ لَكُمْ. قالوا: يا رسول الله، فو الله مَا صِدْنَا وَلَا صَادَتْهُ إلّا هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ، أَهْدَوْا لَنَا وَمَا يَدْرُونَ أَنْ يَلْقَوْنَا، إنّمَا هُمْ قَوْمٌ سَيّارَةٌ يُصْبِحُونَ الْيَوْمَ بِأَرْضٍ وَهُمْ الْغَدَ بِأَرْضٍ أُخْرَى يَتْبَعُونَ الْغَيْثَ، وَهُمْ يُرِيدُونَ سَحَابَةً وَقَعَتْ مِنْ الْخَرِيفِ بِفَرْشِ [ (2) ] مَلَلٍ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَسَأَلَهُ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، ذُكِرَتْ لَنَا سَحَابَةٌ وَقَعَتْ بِفَرْشِ مَلَلٍ مُنْذُ شهر، فأرسلنا رجلا منّا يرتاد
__________
[ (1) ] أصرام: جمع صرمة، وهي الجماعة. (القاموس المحيط، ج 4، ص 139) .
[ (2) ] الفرش: الموضع يكثر فيه النبات. (القاموس المحيط، ج 2، ص 282) .(2/575)
الْبِلَادَ، فَرَجَعَ إلَيْنَا فَخَبّرَنَا أَنّ الشّاةَ قَدْ شَبِعَتْ وَأَنّ الْبَعِيرَ يَمْشِي ثَقِيلًا مِمّا جَمَعَ مِنْ الْحَوْضِ، وَأَنّ الْغُدُرَ كَثِيرَةٌ مَرْوِيّةٌ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَلْحَقَ بِهِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ المطّلب ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمِنّا الْمُحِلّ وَالْمُحْرِمُ، حَتّى إذَا كُنّا بِالْأَبْوَاءِ، وَأَنَا مُحِلّ، رَأَيْت حِمَارًا وَحْشِيّا، فَأَسْرَجْت فَرَسِي فَرَكِبْت فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ:
نَاوِلْنِي سَوْطِي! فَأَبَى أَنْ يُنَاوِلَنِي فَقُلْت: نَاوِلْنِي رُمْحِي! فَأَبَى، فَنَزَلْت فَأَخَذْت سَوْطِي وَرُمْحِي ثُمّ رَكِبْت فَرَسِي، فَحَمَلْت عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلْته، فَجِئْت بِهِ أَصْحَابِي الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلّينَ، فَشَكّ الْمُحْرِمُونَ فِي أَكْلِهِ، حَتّى أَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ تَقَدّمَنَا بِقَلِيلٍ، فَأَدْرَكْنَاهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَمَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟
قَالَ: فَأَعْطَيْته الذّرَاعَ فَأَكَلَهَا حَتّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقِيلَ لِأَبِي قَتَادَةَ: وَمَا خَلّفَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: طَبَخْنَا الْحِمَارَ فَلَمّا نَضِجَ لَحِقْنَاهُ وَأَدْرَكْنَاهُ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ الصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ، أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّهُ جَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء بِحِمَارٍ وَحْشِيّ، فَأَهْدَاهُ لَهُ فَرَدّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الصّعْبُ: فَلَمّا رَآنِي وَمَا بِوَجْهِي مِنْ كَرَاهِيَةِ رَدّ هَدِيّتِي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لَمْ نَرُدّهُ إلّا أَنّا حُرُمٌ. قَالَ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فَقُلْت:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا نُصَبّحُ الْعَدُوّ وَالْغَارَةَ فِي غَلَسِ الصّبْحِ فَنُصِيبُ الْوِلْدَانَ تَحْتَ بُطُونِ الْخَيْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمْ مَعَ الْآبَاءِ.(2/576)
وَقَالَ: سَمِعْته يَوْمَئِذٍ يَقُولُ: «لَا حِمَى إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ» .
وَيُقَالُ إنّ الْحِمَارَ يَوْمَئِذٍ كَانَ حَيّا.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، قَالَ: لَمّا نَزَلُوا الْأَبْوَاءَ أَهْدَى إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ جُزُرًا وَمِائَةَ شَاةٍ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ ابْنِهِ خُفَافِ بْنِ إيمَاءَ وَبَعِيرَيْنِ يَحْمِلَانِ لَبَنًا، فَانْتَهَى بِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنّ أَبِي أَرْسَلَنِي بِهَذِهِ الْجُزُرِ وَاللّبَنِ إلَيْك.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى حَلَلْتُمْ هَاهُنَا؟ قَالَ: قَرِيبًا، كَانَ مَاءٌ عِنْدَنَا قَدْ أَجْدَبَ فَسُقْنَا مَاشِيَتَنَا إلَى مَاءٍ هَاهُنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَيْفَ الْبِلَادُ هَاهُنَا؟ قَالَ: يُتَغَذّى بَعِيرُهَا، وَأَمّا الشّاةُ فَلَا تُذْكَرُ. فَقَبِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيّتَهُ، وَأَمَرَ بالغنم ففرّق فى أصحابه، وشربوا اللّبَنَ عُسّا عُسّا [ (1) ] حَتّى ذَهَبَ اللّبَنُ، وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ!
فَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْغِفَارِيّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: أُهْدِيَ يَوْمَئِذٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَدّانَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، مُعِيشًا [ (2) ] ، وَعِتْرًا [ (3) ] ، وَضَغَابِيسَ [ (4) ] ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْ الضّغَابِيسِ وَالْعِتْرِ وَأَعْجَبَهُ، وَأَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ هَذِهِ الْهَدِيّةُ وَيُرِي صَاحِبَهَا أَنّهَا طَرِيفَةٌ.
وَحَدّثَنِي سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بن أبى ليلى،
__________
[ (1) ] العس: القدح الكبير. (النهاية، ج 3، ص 95) .
[ (2) ] المعيش: الطعام وما يعاش به والخبز. (القاموس المحيط، ج 2، ص 280) .
[ (3) ] العتر: نبت ينبت متفرقا فإذا طال وقطع أصله خرج منه شبه اللبن. (النهاية، ج 3، ص 65) .
[ (4) ] الضغابيس: صغار القثاء، واحدها ضغبوس. (القاموس المحيط، ج 2، ص 225) .(2/577)
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِالْأَبْوَاءِ وَقَفَ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَقَالَ: هَلْ يُؤْذِيك هَوَامّك يَا كَعْبُ؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ:
فَاحْلِقْ رَأْسَك. قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ (1) ] . فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً، أَوْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، أَوْ أُطْعِمَ سِتّةَ مَسَاكِينَ، كُلّ مِسْكِينٍ مُدّيْنِ «أَيّ ذَلِكَ فَعَلْت أَجْزَأَك» . وَيُقَالُ إنّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَهْدَى بَقَرَةً قَلّدَهَا وَأَشْعَرَهَا. وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: عَطِبَ لِي بَعِيرٌ مِنْ الْهَدْيِ حِينَ نَظَرْت إلَى الْأَبْوَاءِ، فَجِئْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَبْوَاءِ فَأَخْبَرْته فَقَالَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك مِنْهَا شَيْئًا، وَخَلّ بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَهَا. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُحْفَةَ لَمْ يَجِدْ بِهَا مَاءً، فَبَعَثَ رَجُلًا فِي الرّوَايَا إلَى الْخَرّارِ، فَخَرَجَ الرّجُلُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَرَجَعَ بِالرّوَايَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِيَ قَدَمًا رُعْبًا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ! وَبَعَثَ رَجُلًا آخَرَ فَخَرَجَ بِالرّوَايَا، حَتّى إذَا كَانَ بِالْمَكَانِ الّذِي أَصَابَ الْأَوّلَ الرّعْبُ فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَك؟ فَقَالَ: لَا وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْضِيَ رُعْبًا! قَالَ: اجْلِسْ! ثُمّ بَعَثَ رَجُلًا آخَرَ، فَلَمّا جَاوَزَ الْمَكَانَ الّذِي رَجَعَ مِنْهُ الرّجُلَانِ قَلِيلًا وَجَدَ مِثْلَ ذَلِكَ الرّعْبِ فَرَجَعَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَرْسَلَهُ بِالرّوَايَا وَخَرَجَ السّقّاءُ مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَشُكّونَ فِي الرّجُوعِ لِمَا رَأَوْا مِنْ رُجُوعِ النّفَرِ، فَوَرَدُوا الْخَرّارَ فَاسْتَقَوْا ثُمّ أَقْبَلُوا بِالْمَاءِ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] سورة 2 البقرة 196.(2/578)
بِشَجَرَةٍ فَقُمّ [ (1) ] مَا تَحْتَهَا، فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي كَائِنٌ لَكُمْ فَرَطًا [ (2) ] ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَمْ تَضِلّوا، كِتَابُ اللهِ وَسُنّتُهُ بِأَيْدِيكُمْ! وَيُقَالُ: قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ.
وَلَمّا بَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكّةَ رَاعَهُمْ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا لَهُ وَشَاوَرُوا فِيهِ ذَوِي رَأْيِهِمْ فَقَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْنَا فِي جُنُودِهِ مُعْتَمِرًا، فَتَسْمَعَ بِهِ الْعَرَبُ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا عَنْوَةً وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْحَرْبِ مَا بَيْنَنَا! وَاَللهِ، لَا كان هذا أبدا ومنّا عين تطرف، فارتأوا رَأْيَكُمْ! فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَجَعَلُوهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ ذَوِي رَأْيِهِمْ- صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَسَهْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ- فَقَالَ صَفْوَانُ: مَا كُنّا لِنَقْطَعَ أَمْرًا حَتّى نُشَاوِرَكُمْ، نَرَى أَنْ نُقَدّمَ مِائَتَيْ فَارِسٍ إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَنَسْتَعْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلًا جَلْدًا. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نِعْمَ ما رأيت! فقدّموا على خيلهم عكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ- وَيُقَالُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَاسْتَنْفَرَتْ قريش من أطاعها من الأحابيش، وأجلبت ثقيف مَعَهُمْ، وَقَدّمُوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي الْخَيْلِ، وَوَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى الْجِبَالِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ وَزَرٌ [ (3) ] وَزَعٌ كَانَتْ عُيُونُهُمْ عَشَرَةَ رِجَالٍ قَامَ [عَلَيْهِمْ] الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الصّوْتَ الْخَفِيّ: فَعَلَ مُحَمّدٌ كَذَا وَكَذَا! حَتّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحٍ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَلْدَحٍ فَضَرَبُوا بِهَا الْقِبَابَ وَالْأَبْنِيَةَ، وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ فَعَسْكَرُوا هُنَاكَ، وَدَخَلَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ مَكّةَ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَرَأَى مِنْهُمْ مَا رَأَى، ثم رجع إلى رسول الله صلّى
__________
[ (1) ] قم: كنس. (النهاية، ج 3، ص 278) .
[ (2) ] فرطا: أى أجرا. (النهاية، ج 3، ص 194) .
[ (3) ] هكذا فى الأصل. والوزر: الجبل المنيع. (القاموس المحيط، ج 2، ص 154) .(2/579)
الله عليه وسلم فَلَقِيَهُ بِغَدِيرِ ذَاتِ الْأَشْطَاطِ مِنْ وَرَاءِ عُسْفَانَ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا بُسْرُ، مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرَكْت قومك، كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قَدْ سَمِعُوا بِمَسِيرِك فَفَزِعُوا وَهَابُوا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً، وَقَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ [ (1) ] ، قَدْ لَبِسُوا لَك جِلْدَ النّمُورِ لِيَصُدّوك عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ خَرَجُوا إلَى بَلْدَحٍ وَضَرَبُوا بِهَا الْأَبْنِيَةَ، وَتَرَكْت عُمّادَهُمْ يُطْعِمُونَ الْجُزُرَ أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ فِي دُورِهِمْ، وَقَدّمُوا الْخَيْلَ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَهَذِهِ خَيْلُهُمْ بِالْغَمِيمِ، وَقَدْ وَضَعُوا الْعُيُونَ عَلَى الْجِبَالِ وَوَضَعُوا الْأَرْصَادَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنّاسِ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ بِالْغَمِيمِ. ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، فكيف ترون يا معشر المسلمين فى هولاء الّذِينَ اسْتَنْفَرُوا إلَيّ مَنْ أَطَاعَهُمْ لِيَصُدّونَا عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمْضِيَ لِوَجْهِنَا إلَى الْبَيْتِ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نُخَلّفَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا لَنَا إلَى أَهْلِيهِمْ فَنُصِيبَهُمْ؟ فَإِنْ اتّبَعُونَا اتّبَعْنَا مِنْهُمْ عُنُقٌ يَقْطَعُهَا اللهُ، وَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَحْزُونِينَ مَوْتُورِينَ! فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! نَرَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نَمْضِيَ لِوَجْهِنَا فَمَنْ صَدّنَا عَنْ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ خَيْلَ قُرَيْشٍ فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمْ أَرَ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ أَصْحَابَهُ فِي الْحَرْبِ فَقَطْ. قَالَ: فَقَامَ الْمِقْدَادُ بن عمرو
__________
[ (1) ] العوذ من الإبل: جمع عائذ، وهي التي ولدت. والمطافيل: جمع مطفل، وهي التي لها طفل.
فاستعاره هاهنا للنساء والصبيان. (شرح أبى ذر، ص 339) .(2/580)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (1) ] ولكن: اذهب أنت وربُّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ سِرْت إلَى بَرْكِ الْغِمَادِ [ (2) ] لَسِرْنَا مَعَك مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ. وَتَكَلّمَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى أَنْ نَصْمُدَ لِمَا خَرَجْنَا لَهُ، فَمَنْ صَدّنَا قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّا لَمْ نَخْرُجْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا.
وَلَقِيَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، لَقَدْ اغْتَرَرْت بِقِتَالِ قَوْمِك جَلَابِيبِ [ (3) ] الْعَرَبِ، وَاَللهِ مَا أَرَى مَعَك أَحَدًا لَهُ وَجْهٌ، مَعَ أَنّي أَرَاكُمْ قَوْمًا لَا سِلَاحَ مَعَكُمْ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَضَضْتَ بَظْرَ اللّاتِ! قَالَ بُدَيْلٌ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا يد لك عندي لأجبتك، فو الله مَا أُتّهَمُ أَنَا وَلَا قَوْمِي أَلّا أَكُونَ أُحِبّ أَنْ يَظْهَرَ مُحَمّدٌ! إنّي رَأَيْت قُرَيْشًا مُقَاتِلَتَك عَنْ ذَرَارِيّهَا وَأَمْوَالِهَا، قَدْ خَرَجُوا إلَى بَلْدَحٍ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ، مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَرَادَفُوا [ (4) ] عَلَى الطّعَامِ، يُطْعِمُونَ الْجُزُرَ مَنْ جَاءَهُمْ، يَتَقَوّوْنَ بِهِمْ عَلَى حَرْبِكُمْ، فَرَ رَأْيَك! حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمّادِينَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ:
كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ تَوَافَدُوا وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ يُطْعِمُونَ بِهَا مَنْ ضَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الْأَحَابِيشِ، فَكَانَ يُطْعِمُ فِي أَرْبَعَةِ أَمْكِنَةٍ: فى دار النّدوة لجماعتهم،
__________
[ (1) ] سورة المائدة: 24.
[ (2) ] برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر. (معجم البلدان، ج 2، ص 149) .
[ (3) ] فى الأصل: «جلابت» . والجلابيب: جمع جلباب، وهو الإزار والرداء.
(النهاية، ج 1، ص 170) . والجلابيب: لقب كان المشركون فى مكة يلقبون به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (شرح أبى ذر، ص 333) .
[ (4) ] أى يتبع بعضهم بعضا. (القاموس المحيط، ج 3، ص 144) .(2/581)
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُطْعِمُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يُطْعِمُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يُطْعِمُ فِي دَارِهِ، وَكَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى يُطْعِمُ فِي دَارِهِ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: وَدَنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِ حَتّى نَظَرَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَفّ خَيْلَهُ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَهِيَ فِي مِائَتَيْ فرس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَتَقَدّمَ فِي خَيْلِهِ فَقَامَ بِإِزَائِهِ فَصَفّ أَصْحَابَهُ.
قَالَ دَاوُدُ: فَحَدّثَنِي عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قَالَ:
فَحَانَتْ صَلَاةُ الظّهْرِ فَأَذّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَصَفّ النّاسَ خَلْفَهُ يَرْكَعُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ، ثُمّ سَلّمَ فَقَامُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التّعْبِيَةِ. فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَدْ كَانُوا عَلَى غِرّةٍ، لَوْ كُنّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ لَأَصَبْنَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ تَأْتِي السّاعَةَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ! قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ.. [ (1) ]
الْآيَةَ. قَالَ: فَحَانَتْ الْعَصْرُ فَأَذّنَ بِلَالٌ، وَأَقَامَ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاجِهًا الْقِبْلَةَ، وَالْعَدُوّ أَمَامَهُ، وَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبّرَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ رَكَعَ وَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ سَجَدَ فَسَجَدَ الصّفّ الّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُ. فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّجُودَ بِالصّفّ الْأَوّلِ وَقَامُوا مَعَهُ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ الصّفّ الّذِي يَلُونَهُ، وَتَقَدّمَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ، فَكَانُوا يَلُونَ رسول
__________
[ (1) ] سورة 4 النساء 102.(2/582)
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامُوا جَمِيعًا، ثُمّ رَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكَعَ الصّفّانِ جَمِيعًا، ثُمّ سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ الصّفّ الّذِي يَلُونَهُ، وَقَامَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ يَحْرُسُونَهُ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوّ، فَلَمّا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ السّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصّفّ الْمُؤَخّرُ السّجْدَتَيْنِ اللّتَيْنِ بَقِيَتَا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فَتَشَهّدَ، ثُمّ سَلّمَ عَلَيْهِمْ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ:
هَذِهِ أَوّلُ صَلَاةٍ صَلّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوْفِ.
حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، أَنّهُ كَانَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، فَذَكَرَ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى هَكَذَا، وَذَكَرَ أَبُو عَيّاشٍ أَنّهُ أَوّلُ مَا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوّلَ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ، ثُمّ صَلّاهَا بَعْدُ بِعُسْفَانَ، بَيْنَهُمَا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
قَالُوا: فَلَمّا أَمْسَى قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَيَامَنُوا فِي هَذَا الْعَصَلِ [ (1) ] ، فَإِنّ عُيُونَ قُرَيْشٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ أَوْ بِضَجْنَانَ، فَأَيّكُمْ يَعْرِفُ ثَنِيّةَ ذَاتِ الْحَنْظَلِ [ (2) ] ؟ فَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَالِمٌ بِهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُسْلُكْ أَمَامَنَا- فَأَخَذَ بِهِ بُرَيْدَةُ فِي الْعَصَلِ قِبَلَ جِبَالِ سُرَاوِعَ قَبْلَ المغرب، فسار قليلا تنكّبه الحجارة
__________
[ (1) ] فى الأصل: «هذا العضل» ، والتصحيح من ابن سعد. (الطبقات، ج 2 ص 69) .
والعصل: الاعوجاج، والمعنى هنا الرمل المعوج الملتوى. (النهاية، ج 3، ص 102) .
[ (2) ] عند البكري: «ذات الحناظل» بصيغة الجمع، وهو موضع فى ديار بنى أسد. (معجم ما استعجم، ص 288) .(2/583)
وَتُعَلّقُهُ الشّجَرُ، وَحَارَ حَتّى كَأَنّهُ لَمْ يَعْرِفْهَا قطّ. قال: فو الله إنْ كُنْت لَأَسْلُكُهَا فِي الْجُمُعَةِ مِرَارًا. فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَجّهُ قَالَ: ارْكَبْ! فَرَكِبْت فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى طَرِيقِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ؟ فَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَدُلّك. فَسَارَ قَلِيلًا ثُمّ سَقَطَ فِي خَمَرِ [ (1) ] الشّجَرِ، فَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْكَبْ. ثُمّ قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى طَرِيقِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ؟ فَنَزَلَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ [ (2) ] الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَدُلّك. فَقَالَ: انْطَلِقْ أَمَامَنَا. فَانْطَلَقَ عَمْرٌو أَمَامَهُمْ حَتّى نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الثّنِيّةِ فَقَالَ: هَذِهِ ثَنِيّةُ ذَاتِ الْحَنْظَلِ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَلَمّا وَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا تَحَدّرَ بِهِ. قَالَ عَمْرٌو: وَاَللهِ إنْ كَانَ لَيَهُمّنِي نَفْسِي وَجَدّي، إنّمَا كَانَتْ مِثْلَ الشّرَاكِ [ (3) ] ، فَاتّسَعَتْ لِي حَتّى بَرَزَتْ وَكَانَتْ مَحَجّةً لَاحِبَةً [ (4) ] . وَلَقَدْ كَانَ النّفَرُ يَسِيرُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ جَمِيعًا مُعْطِفِينَ مِنْ سَعَتِهَا يَتَحَدّثُونَ، وَأَضَاءَتْ تِلْكَ اللّيْلَةُ حَتّى كَأَنّا فِي قَمَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِثْلُ هَذِهِ الثّنِيّةِ اللّيْلَةَ إلّا مِثْلُ الْبَابِ الّذِي قَالَ اللهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [ (5) ] .
حَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «جمر الشجر» ، وما أثبتناه أقرب الاحتمالات. والخمر: كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره. (النهاية، ج 1، ص 320) .
[ (2) ] فى الأصل: «عبديهم» . وما أثبتناه من ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1192) .
[ (3) ] الشراك: سير النعل. (القاموس المحيط، ج 3، ص 308) .
[ (4) ] اللاحب: الطريق الواسع. (النهاية، ج 4، ص 50) .
[ (5) ] سورة 2 البقرة 58.(2/584)
هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَلِمَةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ: «لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا» . قَالَ: بَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَدَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: «حَبّةٌ فِي شَعِيرَةٍ» .
وَحَدّثَنِي عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْكَلِمَةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَقُولُوا: «نَسْتَغْفِرُ اللهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ» . فَكِلَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ قَدْ رُوِيَ.
قَالُوا: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَجُوزُ هَذِهِ الثّنِيّةَ أَحَدٌ إلّا غَفَرَ اللهُ لَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: وَكَانَ أَخِي لِأُمّي قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ فِي آخِرِ النّاسِ، قَالَ: فَوَقَفْت عَلَى الثّنِيّةِ فَجَعَلْت أَقُولُ لِلنّاسِ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لَا يَجُوزُ هَذِهِ الثّنِيّةَ أَحَدٌ إلّا غُفِرَ لَهُ» . فَجَعَلَ النّاسُ يُسْرِعُونَ حَتّى جَازَ أَخِي فِي آخِرِ النّاسِ، وَفَرِقْت أَنْ يُصْبِحَ قَبْلَ أَنْ نَجُوزَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَقَلٌ فَلْيَصْطَنِعْ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَإِنّمَا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقَلٌ- الثّقَلُ: الدّقِيقُ- وَإِنّمَا كَانَ عَامّةُ زَادِنَا التّمْرَ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا نَخَافُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ تَرَانَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُمْ لَنْ يَرَوْكُمْ، إنّ اللهَ سَيُعِينُكُمْ عَلَيْهِمْ. فَأَوْقِدُوا النّيرَانَ، وَاصْطَنَعَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْطَنِعَ. فَلَقَدْ أَوْقَدُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةِ نَارٍ. فَلَمّا أَصْبَحْنَا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ، ثُمّ قَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ غَفَرَ اللهُ لِلرّكْبِ أَجْمَعِينَ إلّا رُوَيْكِبًا وَاحِدًا عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، الْتَقَتْ عَلَيْهِ رِجَالُ الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ.
فَطُلِبَ فِي الْعَسْكَرِ وَهُوَ يُظَنّ أَنّهُ مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا بِهِ نَاحِيَةً إلَى ذَرَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْ بَنِي ضمرة من(2/585)
أَهْلِ سَيْفِ الْبَحْرِ، فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ سَعِيدٌ: وَيْحَك! اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لَك! قَالَ: بَعِيرِي وَاَللهِ أَهَمّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي- وَإِذَا هُوَ قَدْ أَضَلّ بَعِيرًا لَهُ يَتْبَعُ الْعَسْكَرَ يَتَوَصّلُ بِهِمْ وَيَطْلُبُ بَعِيرَهُ- وَإِنّهُ لَفِي عَسْكَرِكُمْ، فَأَدّوا إلَيّ بَعِيرِي. فَقَالَ سَعِيدٌ: تَحَوّلْ عَنّي لَا حَيّاك اللهُ! أَلَا لَا أَرَى قُرْبِي إلّا دَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ بِهِ! فَانْطَلَقَ الْأَعْرَابِيّ يَطْلُبُ بَعِيرَهُ بَعْدَ أَنْ اسْتَبْرَأَ الْعَسْكَرَ، فَبَيْنَا هُوَ فِي جِبَالِ سُرَاوِعَ إذْ زَلِقَتْ نَعْلُهُ فَتَرَدّى فَمَاتَ، فَمَا عُلِمَ بِهِ حَتّى أَكَلَتْهُ السّبَاعُ.
وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّهُ سَيَأْتِي قَوْمٌ تَحْقِرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُرَيْشٌ؟
قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَإِنّهُمْ أَرَقّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ خَيْرٌ مِنّا؟ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا- وَيَصِفُ هِشَامٌ فِي الصّفَةِ كَأَنّهُ يَقُولُ سَوَاءً- أَلَا إنّ فَضْلَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [ (1) ] .
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ كَأَنّهُمْ قِطَعُ السّحَابِ، هُمْ خَيْرُ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَلَا نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، ثُمّ الرّابِعَةَ قَالَ قَوْلًا ضَعِيفًا: إلّا أَنْتُمْ.
حَدّثَنِي مَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عروة،
__________
[ (1) ] سورة 57 الحديد 10.(2/586)
عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا دَنَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَعَتْ يَدُ رَاحِلَتِهِ عَلَى ثَنِيّةٍ تُهْبِطُهُ عَلَى غَائِطِ الْقَوْمِ، فَبَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: حَلْ! حَلْ! فَأَبَتْ أَنْ تَنْبَعِثَ فَقَالُوا: خَلَأَتْ [ (1) ] الْقَصْوَاءُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهَا مَا خَلَأَتْ، وَلَا هُوَ لَهَا بِعَادَةٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ. أَمَا وَاَللهِ لَا يَسْأَلُونَنِي الْيَوْمَ خُطّةً فِي تَعْظِيمِ حُرْمَةِ اللهِ إلّا أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا.
ثُمّ زَجَرْنَاهَا فَقَامَتْ، فَوَلّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ حَتّى نَزَلَ بِالنّاسِ عَلَى ثَمَدٍ [ (2) ] مِنْ ثِمَادِ الْحُدَيْبِيَةِ ظَنُونٍ [ (3) ] قَلِيلِ الْمَاءِ، يُتَبَرّضُ مَاؤُهُ تَبَرّضًا [ (4) ] ، فَاشْتَكَى النّاسُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِلّةَ الْمَاءِ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَغُرِزَ فِي الثّمَدِ، فَجَاشَتْ لَهُمْ بِالرّوَاءِ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ [ (5) ] بِعَطَنٍ. قَالَ: وَإِنّهُمْ لَيَغْرِفُونَ بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ. وَاَلّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ نَاجِيَةُ بْنُ الْأَعْجَمِ مِنْ أَسْلَمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنّ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِنَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَهُوَ فِي الْقَلِيبِ:
يَا أَيّهَا الْمَاتِحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنّي رَأَيْت النّاسَ يَحْمَدُونَكَا
يُثْنُونَ خَيْرًا وَيُمَجّدُونَكَا
فَقَالَ نَاجِيَةُ وَهُوَ فى القليب:
__________
[ (1) ] خلأت: أى بركت، والخلاء فى الإبل بمنزلة الحران فى الدواب. (شرح أبى ذر، ص 340) .
[ (2) ] الثمد: الماء القليل الذي لا مادة له. (الصحاح، ص 448) .
[ (3) ] الظنون: البئر لا يدرى أفيها ماء أم لا، ويقال القليلة الماء.
(الصحاح، ص 2160) .
[ (4) ] برض الماء من العين إذا خرج وهو قليل. (الصحاح، ص 1066) .
[ (5) ] أى تركوا الماء. (لسان العرب، ج 6، ص 118) . والعطن: مبرك الإبل حول الماء.
(النهاية، ج 3، ص 107) .(2/587)
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ ... أَنّي أَنَا الْمَاتِحُ وَاسْمِي نَاجِيَهْ
وَطَعْنَةٍ مِنّي رَشَاشٍ وَاهِيَهْ ... طَعَنْتهَا تَحْتَ صُدُورِ الْعَالِيَهْ
أَنْشَدَنِيهَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ نَاجِيَةَ بْنِ الْأَعْجَمِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بن وهب الأسلمىّ. فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: الّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ.
وَحَدّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ نَاجِيَةَ بْنَ الْأَعْجَمِ- وَكَانَ نَاجِيَةُ بْنُ الْأَعْجَمِ يُحَدّثُ- يَقُولُ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم حين شكا إلَيْهِ قِلّةُ الْمَاءِ، فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَدَفَعَهُ إلَيّ وَدَعَانِي بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ، فَجِئْته بِهِ فَتَوَضّأَ، فَقَالَ: مَضْمَضَ فَاهُ، ثُمّ مَجّ فِي الدّلْوِ، وَالنّاسُ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَإِنّمَا هِيَ بِئْرٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْمُشْرِكُونَ إلَى بَلْدَحٍ فَغَلَبُوا عَلَى مِيَاهِهِ، فَقَالَ: انْزِلْ بِالْمَاءِ فَصُبّهُ فِي الْبِئْرِ وَأَثِرْ [ (1) ] مَاءَهَا بِالسّهْمِ. ففعلت، فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقّ مَا كُنْت أَخْرُجُ حَتّى كَادَ يَغْمُرُنِي، وَفَارَتْ كَمَا تَفُورُ الْقِدْرُ حَتّى طَمّتْ، واستوت بثفيرها يَغْتَرِفُونَ مَاءَ جَانِبِهَا حَتّى نَهِلُوا مِنْ آخِرِهِمْ. قَالَ: وَعَلَى الْمَاءِ يَوْمَئِذٍ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، وَأَوْسٌ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ، وَهُمْ جُلُوسٌ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَاءِ، وَالْبِئْرُ تَجِيشُ بِالرّوَاءِ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفِيرِهَا. فَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ: وَيْحَك يَا أَبَا الْحُبَابِ! أَمَا آنَ لَك أَنْ تُبْصِرَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ وَرَدْنَا بِئْرًا يُتَبَرّضُ مَاؤُهَا- يُتَبَرّضُ: يَخْرُجُ فِي الْقَعْبِ جَرْعَةُ مَاءٍ- فَتَوَضّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الدّلو ومضمض فاه فى الدلو
__________
[ (1) ] أثر فى الشيء: ترك فيه أثرا. (لسان العرب، ج 5، ص 60) .(2/588)
ثُمّ أَفْرَغَ الدّلْوَ فِيهَا وَنَزَلَ بِالسّهْمِ فَحَثْحَثَهَا [ (1) ] فَجَاشَتْ بِالرّوَاءِ. قَالَ:
يَقُولُ ابْنُ أُبَيّ: قَدْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ أَوْسٌ: قَبّحَك اللهُ وَقَبّحَ رَأْيَك! فَيُقْبِلُ ابْنُ أُبَيّ يُرِيدُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ أَبَا الْحُبَابِ، أَيْنَ رَأَيْت مِثْلَ مَا رَأَيْت الْيَوْمَ؟ فَقَالَ:
مَا رَأَيْت مِثْلَهُ قَطّ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِمَ قُلْت مَا قُلْت؟
قَالَ ابْنُ أُبَيّ: أَسَتَغْفِرُ اللهَ! قَالَ ابْنُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَغْفِرْ لَهُ! فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جَدّهِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ عَبّادٍ الْغِفَارِيّ يَقُولُ: أَنَا نَزَلْت بِالسّهْمِ يَوْمَئِذٍ فِي الْبِئْرِ.
حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْهَمْدَانِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: أَنَا نَزَلْت بِالسّهْمِ.
قَالُوا: وَمُطِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِرَارًا فَكَثُرَتْ الْمِيَاهُ.
حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ، عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مُطِرْنَا بِالْحُدَيْبِيَةِ مَطَرًا فَمَا ابْتَلّتْ مِنْهُ أَسْفَلُ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الصّلَاةَ فِي الرّحَالِ.
حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: صَلّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللّيْلِ، فَلَمّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعلم!
__________
[ (1) ] حثحثها: حركها. (أساس البلاغة، ص 153) .(2/589)
قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ [ (1) ] . فَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْت بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ، سَمِعْت ابْنَ أُبَيّ يَقُولُ- وَنَحْنُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَمُطِرْنَا بِهَا- فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ: هَذَا نَوْءُ الْخَرِيفِ، مُطِرْنَا بِالشّعْرَى!
وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْحِجَازِيّ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا نَزَلْنَا عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْمَاءُ قَلِيلٌ، سَمِعْت الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ:
مَا كَانَ خُرُوجُنَا إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ! نَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ عَنْ آخِرِنَا! فَقُلْت:
لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَلِمَ خَرَجْت؟ قَالَ: خَرَجْت مَعَ قَوْمِي. قُلْت:
فَلَمْ تَخْرُجْ مُعْتَمِرًا؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ، مَا أَحْرَمْت. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَلَا نَوَيْت الْعُمْرَةَ؟ قَالَ: لَا! فَلَمّا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّجُلَ فَنَزَلَ بِالسّهْمِ، وَتَوَضّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدّلْوِ وَمَجّ فَاهُ فِيهِ، ثُمّ رَدّهُ فِي الْبِئْرِ، فَجَاشَتْ الْبِئْرُ بِالرّوَاءِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ:
فَرَأَيْت الْجَدّ مَادّا رِجْلَيْهِ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فِي الْمَاءِ، فَقُلْت: أَبَا عَبْدِ اللهِ! أَيْنَ مَا قُلْت؟ قَالَ: إنّمَا كُنْت أَمْزَحُ مَعَك، لَا تَذْكُرْ لِمُحَمّدٍ مِمّا قُلْت شَيْئًا. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَقَدْ كُنْت ذَكَرْته قَبْلَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَغَضِبَ الْجَدّ وَقَالَ: بَقِينَا مَعَ صِبْيَانٍ مِنْ قَوْمِنَا لَا يَعْرِفُونَ لَنَا شَرَفًا وَلَا سِنّا، لَبَطْنُ الْأَرْضِ الْيَوْمَ خَيْرٌ من ظهرها! قال أبو قتادة:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أصبح من عبادي مؤمنا وكافرا بى» ، وما أثبتناه من مسلم. (الصحيح، ج 1، ص 85) .(2/590)
وَقَدْ كُنْت ذَكَرْت قَوْلَهُ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْنُهُ خَيْرٌ مِنْهُ!
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَقِيَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي فَجَعَلُوا يُؤَنّبُونَنِي وَيَلُومُونَنِي حِينَ رَفَعْت مَقَالَتَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْت لَهُمْ:
بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ! وَيْحَكُمْ! عَنْ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ تَذُبّونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، كَبِيرُنَا وَسَيّدُنَا. فَقُلْت: قَدْ وَاَللهِ طَرَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤْدَدَهُ عَنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَسَوّدَ عَلَيْنَا بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ [ (1) ] ، وَهَدَمْنَا الْمَنَامَاتِ الّتِي كَانَتْ عَلَى بَابِ الْجَدّ وَبَنَيْنَاهَا عَلَى بَابِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ، فَهُوَ سَيّدُنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَلَمّا دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْبَيْعَةِ فَرّ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ فَدَخَلَ تَحْتَ بَطْنِ الْبَعِيرِ، فَخَرَجْت أَعْدُو وَأَخَذْت بِيَدِ رَجُلٍ كَانَ يُكَلّمُنِي فَأَخْرَجْنَاهُ مِنْ تَحْتِ بَطْنِ الْبَعِيرِ، فَقُلْت: وَيْحَك! مَا أَدْخَلَك هَاهُنَا؟ أَفِرَارًا مِمّا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنّي رُعِبْت وَسَمِعْت الْهَيْعَةَ [ (2) ] . قَالَ الرّجُلُ: لَا نَضَحْت [ (3) ] عَنْك أَبَدًا، وَمَا فِيك خَيْرٌ. فَلَمّا مَرِضَ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ وَنَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَزِمَ أَبُو قَتَادَةَ بَيْتَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى مَاتَ وَدُفِنَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَاَللهِ، مَا كُنْت لِأُصَلّيَ عَلَيْهِ وَقَدْ سَمِعْته يَقُولُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَذَا وَكَذَا، وَاسْتَحْيَيْت مِنْ قَوْمِي يَرَوْنَنِي خَارِجًا وَلَا أَشْهَدُهُ. وَيُقَالُ: خَرَجَ أَبُو قَتَادَةَ إلَى مَالِهِ بِالْوَادِيَيْنِ فَكَانَ فِيهِ حَتّى دُفِنَ، وَمَاتَ الْجَدّ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَقَالُوا: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية أهدى له عمرو
__________
[ (1) ] فى الأصل: «مغرور» . والتصحيح عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 87) ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 167) .
[ (2) ] الهيعة: الصوت تفزع منه وتخافه من عدو. (النهاية، ج 4، ص 261) .
[ (3) ] نضح عنه: ذب ودفع. (القاموس المحيط، ج 1، ص 253) .(2/591)
ابن سَالِمٍ وَبُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيّانِ غَنَمًا وَجَزُورًا، وَأَهْدَى عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ جُزُرًا، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ،
فَجَاءَ سَعْدٌ بِالْغَنَمِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ أَنّ عَمْرًا أَهْدَاهَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَمْرٌو قَدْ أَهْدَى لَنَا مَا تَرَى، فَبَارَكَ اللهُ فِي عَمْرٍو! ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُزُرِ، تُنْحَرُ وَتُقْسَمُ فِي أَصْحَابِهِ، وَفَرّقَ الْغَنَمَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ آخِرِهَا. قَالَتْ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَعَهُ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ لَحْمِ الْجُزُرِ كَنَحْوٍ مِمّا دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ، وَشَرِكْنَا فِي شَاةٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا بَعْضُهَا. وَكَانَ الّذِي جَاءَنَا بِالْهَدِيّةِ غُلَامٌ مِنْهُمْ، فَأَجْلَسَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يَدَيْهِ، وَالْغُلَامُ فِي بُرْدَةٍ لَهُ بَلِيّةٍ [ (1) ] ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، أَيْنَ تَرَكْت أَهْلَك؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ قَرِيبًا بِضَجْنَانَ وَمَا وَالَاهُ. فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْت الْبِلَادَ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ:
تَرَكْتهَا وَقَدْ تَيَسّرَتْ، قَدْ أَمْشَرَ عِضَاهُهَا [ (2) ] ، وَأَعْذَقَ إذْخِرُهَا [ (3) ] ، وَأَسْلَبَ ثُمَامُهَا [ (4) ] ، وَأَبْقَلَ حَمْضُهَا [ (5) ] ، وَانْبَلّتْ الْأَرْضُ فَتَشَبّعَتْ شَاتُهَا إلَى اللّيْلِ، وَشَبِعَ بَعِيرُهَا إلَى اللّيْلِ مِمّا جَمَعَ مِنْ خَوْصٍ وَضَمْدِ الْأَرْضِ [ (6) ] وَبَقْلٍ، وَتَرَكْت مِيَاهَهُمْ كَثِيرَةً تَشْرَعُ فِيهَا الْمَاشِيَةُ، وَحَاجَةُ الْمَاشِيَةِ إلَى الْمَاءِ قَلِيلٌ لِرُطُوبَةِ الْأَرْضِ.
فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لِسَانُهُ، فَأَمَرَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوة فَكُسِيَ الْغُلَامُ، وَقَالَ الْغُلَامُ: إنّي أُرِيدُ أَنْ أمسّ
__________
[ (1) ] كلمة غامضة فى الأصل: ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات.
[ (2) ] فى الأصل: «قد أمسن عضاهها» . وأمشر: خرج ورقه. (النهاية، ج 4، ص 95) .
[ (3) ] الإذخر: الحشيش الأخضر، وحشيش طيب الريح. (القاموس المحيط، ج 2، ص 34) .
[ (4) ] أسلب ثمامها: أى أخرج خوصها. (النهاية، ج 2، ص 173) .
[ (5) ] أى نبت وظهر من الأرض. (النهاية، ج 1، ص 159) .
[ (6) ] ضمد الأرض: رطبها. (النهاية، ج 3، ص 25) .(2/592)
يَدَك أَطْلُبُ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُدْنُ! فَدَنَا فَأَخَذَ يَدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبّلَهَا، وَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ فِيك! فَكَانَ قَدْ بَلَغَ سِنّا، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَحَالٌ فِي قَوْمِهِ حَتّى تُوُفّيَ زَمَنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
قَالُوا: فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ جَاءَهُ بديل ابن وَرْقَاءَ وَرَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ [ (1) ] رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِهَامَةَ، مِنْهُمْ الْمُسْلِمُ وَمِنْهُمْ الْمُوَادِعُ، لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ بِتِهَامَةَ شَيْئًا، فَأَنَاخُوا رَوَاحِلَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ جَاءُوا فَسَلّمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ بُدَيْلٌ: جِئْنَاك مِنْ عِنْدِ قَوْمِك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد اسْتَنْفَرُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ- النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ- يُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَبِيدَ خَضْرَاؤُهُمْ [ (2) ] . فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، إنّمَا جِئْنَا لِنَطُوفَ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، وَقُرَيْشٌ قَوْمٌ قَدْ أَضَرّتْ بِهِمْ الْحَرْبُ وَنَهَكَتْهُمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ مُدّةً يَأْمَنُونَ فِيهَا، وَيُخَلّونَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النّاسِ، وَالنّاسُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَإِنْ ظَهَرَ أَمْرِي عَلَى النّاسِ كَانُوا بَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ، أَوْ يُقَاتِلُوا وَقَدْ جَمَعُوا! وَاَللهِ لَأَجْهَدَنّ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي [ (3) ] أَوْ يُنْفِذَ اللهُ أَمْرَهُ!
__________
[ (1) ] أى موضع الأمانة على سره. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 224) .
[ (2) ] فى الأصل: «حفراهم» ، والتصحيح عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 70) .
وخضراؤهم: أى جماعتهم. (الفائق، ص 175) .
[ (3) ] السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفرادهما عن الموت لأنها لا تنفرد عما يليها إلا بالموت، وقيل أراد حتى يفرق بين رأسى وجسدي. (النهاية، ج 2، ص 175) .(2/593)
فَوَعَى بُدَيْلٌ مَقَالَتَهُ وَرَكِبَ، ثُمّ رَكِبُوا إلَى قريش، وكان فى الرّكب عمرو ابن سَالِمٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَاَللهِ لَا تُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ يَعْرِضُ هَذَا أَبَدًا، حَتّى هَبَطُوا عَلَى كُفّارِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْهُمْ: هَذَا بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ، إنّمَا جَاءُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوكُمْ، فَلَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ! فَلَمّا رَأَى بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ أَنّهُمْ لَا يَسْتَخْبِرُونَهُمْ قَالَ بُدَيْلٌ: إنّا جِئْنَا مِنْ عِنْدِ مُحَمّدٍ، أَتُحِبّونَ أَنْ نُخْبِرَكُمْ؟ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَالْحَكَمُ بْنُ ابى الْعَاصِ: لَا وَاَللهِ، مَا لَنَا حَاجَةٌ بِأَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ! وَلَكِنْ أَخْبِرُوهُ عَنّا أَنّهُ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَامَهُ هَذَا أَبَدًا حَتّى لَا يَبْقَى مِنّا رَجُلٌ. فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللهِ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَأْيًا أَعْجَبَ! وَمَا تَكْرَهُونَ أَنْ تَسْمَعُوا مِنْ بُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ؟ فَإِنْ أَعْجَبَكُمْ أَمْرٌ قَبِلْتُمُوهُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ شَيْئًا تَرَكْتُمُوهُ، لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا أَبَدًا! وَقَالَ رجال من ذوى رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أُمَيّةَ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَخْبِرُونَا بِاَلّذِي رَأَيْتُمْ وَاَلّذِي سَمِعْتُمْ. فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَقَالَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّتِي قَالَ، وَمَا عَرَضَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ الْمُدّةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا مَعْشَرَ قريش تَتّهِمُونَنِي؟ أَلَسْتُمْ الْوَالِدَ وَأَنَا الْوَلَدُ؟ وَقَدْ اسْتَنْفَرْت أَهْلَ عُكَاظٍ لِنَصْرِكُمْ، فَلَمّا بَلّحُوا [ (1) ] عَلَيّ نَفَرْت إلَيْكُمْ بِنَفْسِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي! فَقَالُوا: قَدْ فَعَلْت! فَقَالَ: وَإِنّي نَاصِحٌ لَكُمْ شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ، لَا أَدّخِرُ عَنْكُمْ نُصْحًا، وَإِنّ بُدَيْلًا قَدْ جَاءَكُمْ بِخُطّةِ رُشْدٍ لَا يَرُدّهَا أَحَدٌ أَبَدًا إلّا أَخَذَ شَرّا مِنْهَا، فَاقْبَلُوهَا مِنْهُ وَابْعَثُونِي حَتّى آتِيَكُمْ بِمِصْدَاقِهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنْظُرَ إلَى مَنْ مَعَهُ وَأَكُونَ لَكُمْ عَيْنًا آتِيكُمْ بِخَبَرِهِ. فَبَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أناخ راحلته
__________
[ (1) ] فى الأصل: «تلحوا» ، وما أثبتناه من الزرقانى. وبلحوا: أى امتنعوا من الإجابة.
(شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 227) .(2/594)
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى جَاءَهُ، ثُمّ قَالَ:
يَا مُحَمّدُ، إنّي تَرَكْت قَوْمَك، كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ عَلَى أَعْدَادِ [ (1) ] مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَهُمْ يُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَجْتَاحَهُمْ.
وَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، أَنْ تَجْتَاحَ قَوْمَك، وَلَمْ نَسْمَعْ بِرَجُلٍ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك، أَوْ بَيْنَ أَنْ يَخْذُلَك مَنْ نَرَى مَعَك، فَإِنّي لَا أَرَى مَعَك إلّا أَوْبَاشًا [ (2) ] مِنْ النّاسِ، لَا أَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَلَا أَنْسَابَهُمْ.
فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَالَ: اُمْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ! أَنَحْنُ نَخْذُلُهُ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: أما والله لولا يدلك عِنْدِي لَمْ أَجْزِك بِهَا بَعْدُ لَأَجَبْتُك! وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اسْتَعَانَ فِي حَمْلِ دِيَةٍ، فَأَعَانَهُ الرّجُلُ بِالْفَرِيضَتَيْنِ وَالثّلَاثِ وَأَعَانَهُ أَبُو بَكْرٍ بِعَشْرِ فَرَائِضَ، فَكَانَتْ هَذِهِ يَدَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ.
فَطَفِقَ عُرْوَةُ وَهُوَ يُكَلّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسّ لِحْيَتَهُ- وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، عَلَى وَجْهِهِ الْمِغْفَرُ- فَطَفِقَ الْمُغِيرَةُ كُلّمَا مَسّ لِحْيَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَعَ يَدَهُ وَيَقُولُ: اُكْفُفْ يَدَك عَنْ مَسّ لِحْيَةِ رَسُولِ اللهِ قَبْلَ أَلّا تَصِلَ إلَيْك! فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ غَضِبَ عُرْوَةُ فَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَنْتَ يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا الّذِي أَرَى مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. قَالَ: وَأَنْتَ بِذَلِكَ يا غدر؟ والله ما غسلت عنك غدرتك إلّا بِعُلَابِطَ [ (1) ] أَمْسِ! لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَةَ مِنْ ثقيف
__________
[ (1) ] الأعداد: جمع العد بالكسر، وهو الماء الذي له مادة لا تنقطع، كماء العين والبئر.
(الصحاح، ص 503) .
[ (2) ] الأوباش من الناس: الأخلاط مثل الأوشاب، ويقال: هو جمع مقلوب من البوش.
(الصحاح، ص 1024) .(2/595)
إلَى آخِرِ الدّهْرِ! يَا مُحَمّدُ، أَتَدْرِي كَيْفَ صَنَعَ هَذَا؟ إنّهُ خَرَجَ فِي رَكْبٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمّا كَانُوا بَيْنَنَا وَنَامُوا فَطَرَقَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ حَرَائِبَهُمْ وَفَرّ مِنْهُمْ.
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ خَرَجَ مَعَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَسِيّ- وَالْمُغِيرَةُ أَحَدُ الْأَحْلَامِ [ (1) ]- وَمَعَ الْمُغِيرَةِ حَلِيفَانِ لَهُ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا دَمّونُ- رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ- وَالْآخَرُ الشّرِيدُ، وَإِنّمَا كَانَ اسْمَهُ عَمْرٌو، فَلَمّا صَنَعَ الْمُغِيرَةُ بِأَصْحَابِهِ مَا صنع شرّده فسمّى الشّريد. وَخَرَجُوا إلَى الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيّةِ، فَجَاءَ بَنِي مَالِكٍ وَآثَرَهُمْ عَلَى الْمُغِيرَةِ فَأَقْبَلُوا رَاجِعِينَ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَيْسَانَ [ (2) ] شَرِبُوا خَمْرًا، فَكَفّ الْمُغِيرَةُ عَنْ بَعْضِ الشّرَابِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ، وَشَرِبَتْ بَنُو مَالِكٍ حَتّى سَكِرُوا، فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ الْمُغِيرَةُ فَقَتَلَهُمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَلَمّا قَتَلَهُمْ وَنَظَرَ إلَيْهِمْ دَمّونُ تَغَيّبَ عَنْهُمْ، وَظَنّ أَنّ الْمُغِيرَةَ إنّمَا حَمَلَهُ عَلَى قَتْلِهِمْ السّكْرُ، فَجَعَلَ الْمُغِيرَةُ يَطْلُبُ دَمّونَ وَيَصِيحُ بِهِ فَلَمْ يَأْتِ، وَيُقَلّبُ الْقَتْلَى فَلَا يَرَاهُ فَبَكَى، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دَمّونُ خَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: مَا غَيّبَك؟ قَالَ: خَشِيت أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْت الْقَوْمَ.
قَالَ الْمُغِيرَةُ: إنّمَا قَتَلْت بَنِي مَالِكٍ بِمَا صَنَعَ بِهِمْ الْمُقَوْقَسُ. قَالَ: وَأَخَذَ الْمُغِيرَةُ أَمْتِعَتَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُخَمّسُهُ، هَذَا غَدْرٌ!
وَذَلِكَ حِينَ أُخْبِرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ. وَأَسْلَمَ الْمُغِيرَةُ، وَأَقْبَلَ الشّرِيدُ فَقَدِمَ مَكّةَ فَأَخْبَرَ أَبَا سُفْيَانَ ابن حَرْبٍ بِمَا صَنَعَ الْمُغِيرَةُ بِبَنِي مَالِكٍ، فَبَعَثَ أبو سفيان معاوية بن أبى
__________
[ () ] فى الأصل: «بعلاط» ، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات. والعلابط: القطيع من الغنم.
(القاموس المحيط، ج 2، ص 374) . وقد حمل عروة الدية عن الثقفيين الذين قتلهم المغيرة قبل إسلامه. [انظر السطر الأخير من الصفحة السابقة 595]
[ (1) ] الأحلام: ذوو الألباب والعقول. (النهاية ج 1، ص 255) .
[ (2) ] بيسان: موضع بين خيبر والمدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 268) .(2/596)
سُفْيَانَ إلَى عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ- وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ ابن مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ- فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: خَرَجْت حَتّى إذَا كُنْت بِنَعْمَانَ [ (1) ] قُلْت فِي نَفْسِي: أَيْنَ أَسْلُكُ؟ [إنْ سَلَكْت] ذَا غِفَارٍ فَهِيَ أَبْعَدُ وَأَسْهَلُ، وَإِنْ سَلَكْت ذَا الْعَلَقِ [ (2) ] فَهِيَ أَغْلَظُ وَأَقْرَبُ. فَسَلَكْت ذَا غِفَارٍ فَطَرَقْت عُرْوَةَ بْنَ مسعود بن عمرو المالكي، فو الله مَا كَلّمْته مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ وَاللّيْلَةَ أُكَلّمُهُ.
قَالَ: فَخَرَجْنَا إلَى مَسْعُودٍ فَنَادَاهُ عُرْوَةُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُرْوَةُ.
فَأَقْبَلَ مَسْعُودٌ إلَيْنَا وَهُوَ يَقُولُ: أَطَرَقْت [عَرَاهِيَةً] [ (3) ] أَمْ طَرَقْت بِدَاهِيَةٍ؟
بَلْ طَرَقْت بِدَاهِيَةٍ! أَقَتَلَ رَكْبُهُمْ رَكْبَنَا أَمْ قَتَلَ رَكْبُنَا رَكْبَهُمْ؟ لَوْ قَتَلَ رَكْبُنَا رَكْبَهُمْ مَا طَرَقَنِي عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ! فَقَالَ عُرْوَةُ: أَصَبْت، قَتَلَ [ (4) ] رَكْبِي رَكْبَك يَا مَسْعُودُ، اُنْظُرْ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ! فَقَالَ مَسْعُودٌ: إنّي عَالِمٌ بِحِدَةِ بَنِي مَالِكٍ وَسُرْعَتِهِمْ إلَى الْحَرْبِ فَهَبْنِي صَمْتًا. قَالَ: فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا مَسْعُودٌ فَقَالَ: بَنِي مَالِكٍ، إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنّهُ قَتَلَ إخْوَانَكُمْ بَنِي مَالِكٍ فَأَطِيعُونِي وَخُذُوا الدّيَةَ، اقْبَلُوهَا مِنْ بَنِي عَمّكُمْ وَقَوْمِكُمْ. قَالُوا: لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَاَللهِ لَا تُقِرّك الْأَحْلَافُ أَبَدًا حِينَ تَقْبَلُهَا. قَالَ: أَطِيعُونِي وَاقْبَلُوا مَا قُلْت لكم، فو الله لكأنى بكنانة بن عبد يا ليل قَدْ أَقْبَلَ تَضْرِبُ دِرْعُهُ رَوْحَتَيْ [ (5) ] رِجْلَيْهِ، لَا يعانق رجلا إلّا
__________
[ (1) ] نعمان: واد لهذيل على ليلتين من عرفات. وقال الأصمعى: واد يسكنه بنو عمرو بن الحارث ابن تميم بن سعد بن هذيل، بين أدناه ومكة نصف ليلة، به جبل يقال له المدراء. (معجم البلدان، ج 8، ص 300) .
[ (2) ] ذو علق: جبل معروف فى أعلاه هضبة سوداء. (معجم البلدان، ج 6، ص 210) .
[ (3) ] كلمة غامضة فى الأصل. وما أثبتناه من النهاية لابن الأثير (ج 3، ص 89) ، وعنه نقل صاحب اللسان (ج 19، ص 180) ، والزّبيدى فى تاج العروس (ج 9، ص 398) .
[ (4) ] فى الأصل: «قتل ركبى» .
[ (5) ] لأنه كان أروح. والأروح: هو الذي تتدانى عقباه ويتباعد صدرا قدميه. (النهاية ج 2، ص 110) .(2/597)
صَرَعَهُ، وَاَللهِ لَكَأَنّي بِجُنْدُبِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ أَقْبَلَ كَالسّيّدِ عَاضّا عَلَى سَهْمٍ مُفَوّقٍ بِآخَرَ، لَا يَسِيرُ إلَى أَحَدٍ بِسَهْمِهِ إلّا وَضَعَهُ حَيْثُ يُرِيدُ! فَلَمّا غَلَبُوهُ أَعَدّ لِلْقِتَالِ وَاصْطَفّوا، أقبل كنانة بن عبد يا ليل يَضْرِبُ دِرْعُهُ رَوْحَتَيْ رِجْلَيْهِ يَقُولُ: مَنْ مُصَارِعٌ؟ ثُمّ أَقْبَلَ جُنْدُبُ بْنُ عَمْرٍو عَاضّا سَهْمًا مُفَوّقًا بِآخَرَ. قَالَ مَسْعُودٌ: يَا بَنِي مَالِكٍ أَطِيعُونِي! قَالُوا: الْأَمْرُ إلَيْك! قَالَ:
فَبَرَزَ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا عُرْوَةُ بْنَ مَسْعُودٍ اُخْرُجْ إلَيّ! فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا الْتَقَيَا بَيْنَ الصّفّيْنِ قَالَ: عَلَيْك ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً، فَإِنّ الْمُغِيرَةَ قَدْ قَتَلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاحْمِلْ بِدِيَاتِهِمْ. قَالَ عُرْوَةُ: حَمَلْت بِهَا، هِيَ عَلَيّ! قَالَ: فَاصْطَلَحَ النّاسُ. قَالَ الْأَعْشَى أَخُو بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ:
تَحَمّلَ عُرْوَةُ الْأَحْلَافِ [ (1) ] لَمّا ... رَأَى أَمْرًا تَضِيقُ بِهِ الصّدُورُ
ثَلَاثَ مِئِينَ عَادِيَةً وَأَلْفًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلَدُ الصّبُورُ
قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَلَمّا فَرَغَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَدّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابِهِ وَكَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُدّةِ، رَكِبَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إنّي قَدْ وَفَدْت عَلَى الْمُلُوكِ، عَلَى كِسْرَى وَهِرَقْلَ وَالنّجَاشِيّ، وَإِنّي وَاَللهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا قَطّ أَطْوَعَ فِيمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ مِنْ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَاَللهِ مَا يُشِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ، وَمَا يَرْفَعُونَ عِنْدَهُ الصّوْتَ، وَمَا يَكْفِيهِ إلّا أَنْ يُشِيرَ إلَى أَمْرٍ فَيُفْعَلَ، وَمَا يَتَنَخّمُ وَمَا يَبْصُقُ إلّا وَقَعَتْ فِي يَدَيْ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَمْسَحُ بِهَا جِلْدَهُ، وَمَا يَتَوَضّأُ إلّا ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ أَيّهُمْ يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَدْ حَزَرْت الْقَوْمَ، وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ السّيْفَ بَذَلُوهُ لَكُمْ، وَقَدْ رَأَيْت قَوْمًا مَا يُبَالُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ إذَا مَنَعُوا صاحبهم، والله لقد رأيت
__________
[ (1) ] فى الأصل: «الأخلاف» .(2/598)
نُسَيّاتٍ مَعَهُ إنْ كُنّ لَيُسْلِمُنّهُ أَبَدًا عَلَى حَالٍ، فَرُوا رَأْيَكُمْ، وَإِيّاكُمْ وَإِضْجَاعَ الرّأْيِ [ (1) ] ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةً فَمَادّوهُ! يَا قَوْمِ، اقْبَلُوا مَا عَرَضَ فَإِنّي لَكُمْ نَاصِحٌ، مَعَ أَنّي أَخَافُ أَلّا تُنْصَرُوا عَلَيْهِ! رَجُلٌ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ مُعَظّمًا لَهُ، مَعَهُ الْهَدْيُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ! فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا تَكَلّمْ بِهَذَا يَا أَبَا يَعْفُورٍ [ (2) ] ! لَوْ غَيْرُك تَكَلّمَ بِهَذَا لَلُمْنَاهُ، وَلَكِنْ نَرُدّهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي عَامِنَا هَذَا وَيَرْجِعُ إلَى قَابِلٍ.
قَالُوا: ثُمّ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، فَلَمّا طَلَعَ وَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنّ هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ! فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلّمَهُ بِنَحْوٍ مِمّا كلّمه أصحابه، فلمّا انتهى إلى قريش أخبرهم بما رد عليه. فبعثوا الجليس بْنَ عَلْقَمَةَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ- فَلَمّا طَلَعَ الْحُلَيْسُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظّمُونَ الْهَدْيَ وَيَتَأَلّهُونَ [ (3) ] ، ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتّى يَرَاهُ. فَبَعَثُوا الْهَدْيَ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى الْهَدْيِ يَسِيلُ [ (4) ] فِي الْوَادِي عَلَيْهِ الْقَلَائِدُ، قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ [ (5) ] يُرَجّعُ الْحَنِينَ. وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ فِي وَجْهِهِ يُلَبّونَ، قَدْ أَقَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ قَدْ تَفِلُوا [ (6) ] وَشَعِثُوا، رَجَعَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعْظَامًا لِمَا رَأَى، حَتّى رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: إنّي قَدْ رَأَيْت مَا لَا يَحِلّ صَدّهُ، رَأَيْت الْهَدْيَ فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ، مَعْكُوفًا عَنْ مَحِلّهِ، وَالرّجَالَ قَدْ تَفِلُوا وَقَمِلُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَذَا الْبَيْتِ! أَمَا وَاَللهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلَا عاقدناكم
__________
[ (1) ] أى الوهن فى الرأى. (القاموس المحيط، ج 3، ص 55) .
[ (2) ] فى الأصل: «أبا يعقوب» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 7، ص 369) .
[ (3) ] التأله: التعبد والتنسك. (القاموس المحيط، ج 4، ص 280) .
[ (4) ] يسيل: أى يسرع. (شرح أبى ذر، ص 241) .
[ (5) ] أى من طول الحبس. انظر ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 70) .
[ (6) ] التفل: ترك استعمال الطيب. (النهاية، ج 1، ص 116) .(2/599)
عَلَى أَنْ تَصُدّوا عَنْ بَيْتِ اللهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ مُؤَدّيًا لِحَقّهِ، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ، أَوْ لَأَنْفِرَنّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ! قَالُوا: إنّمَا كُلّ مَا رَأَيْت مَكِيدَةٌ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَاكْفُفْ عَنّا حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا بَعْضَ مَا نَرْضَى بِهِ.
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ الْكَعْبِيّ عَلَى جَمَلٍ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يقال له الثّعْلَبُ، لِيُبَلّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ لَهُ، وَيَقُولَ: إنّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، مَعَنَا الْهَدْيُ مَعْكُوفًا، فَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنُحِلّ وَنَنْصَرِفُ. فَعَقَرُوا جَمَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاَلّذِي وَلِيَ عَقْرَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى خَلّوا سَبِيلَ خِرَاشٍ، فَرَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكَدْ [ (1) ] ، فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَقِيَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْعَثْ رَجُلًا أَمْنَعَ مِنّي! فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، قَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي لَهَا، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيّ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَإِنْ أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللهِ دَخَلْت عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ: وَلَكِنْ أَدُلّك يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِمَكّةَ مِنّي، وَأَكْثَرَ عَشِيرَةً وَأَمْنَعَ، عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى قُرَيْشٍ فَخَبّرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنّمَا جِئْنَا زَوّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظّمِينَ لِحُرْمَتِهِ، مَعَنَا الْهَدْيُ نَنْحَرُهُ وَنَنْصَرِفُ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى بَلْدَحَ، فَيَجِدُ قُرَيْشًا هُنَالِكَ فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ إليكم، يدعوكم إلى الله
__________
[ (1) ] أى ما كاد يرجع إلا يشق النفس.(2/600)
وَإِلَى الْإِسْلَامِ، تَدْخُلُونَ فِي الدّينِ كَافّةً، فَإِنّ اللهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ! وَأُخْرَى تَكُفّونَ، وَيَلِي هَذَا مِنْهُ غَيْرُكُمْ، فَإِنْ ظَفَرُوا بِمُحَمّدٍ فَذَلِكَ مَا أَرَدْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرَ مُحَمّدٌ كُنْتُمْ بِالْخِيَارِ، أَنْ تَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ أَوْ تُقَاتِلُوا وَأَنْتُمْ وَافِرُونَ جَامّونَ، إنّ الْحَرْبَ قَدْ نَهَكَتْكُمْ وَأَذْهَبَتْ بِالْأَمَاثِلِ مِنْكُمْ! وَأُخْرَى، إنّ رَسُولَ اللهِ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ أحد، إنما جاء مُعْتَمِرًا، مَعَهُ الْهَدْيُ عَلَيْهِ الْقَلَائِدُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ. فَجَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُكَلّمُهُمْ فَيَأْتِيهِمْ بِمَا لَا يُرِيدُونَ، وَيَقُولُونَ: قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ وَلَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً، فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِك فَأَخْبِرْهُ أَنّهُ لا يصل إلينا. فقام إليه أبان ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَرَحّبَ بَهْ وَأَجَازَهُ وَقَالَ: لَا تُقَصّرْ عَنْ حَاجَتِك! ثُمّ نَزَلَ عَنْ فَرَسٍ كَانَ عَلَيْهِ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى السّرْجِ وَرَدَفَهُ وَرَاءَهُ، فَدَخَلَ عُثْمَانُ مَكّةَ، فَأَتَى أَشْرَافَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا، أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ ابن أُمَيّةَ وَغَيْرَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ بِبَلْدَحٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ بِمَكّةَ، فَجَعَلُوا يَرُدّونَ عَلَيْهِ: إنّ مُحَمّدًا لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا أَبَدًا! قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ثُمّ كُنْت أَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُسْتَضْعَفِينَ فَأَقُولُ: إنّ رَسُولَ اللهِ يُبَشّرُكُمْ بِالْفَتْحِ وَيَقُولُ: «أُظِلّكُمْ حَتّى لَا يَسْتَخْفِي بِمَكّةَ الْإِيمَانُ» [ (1) ] . فَقَدْ كُنْت أَرَى الرّجُلَ مِنْهُمْ وَالْمَرْأَةَ تَنْتَحِبُ حَتّى أَظُنّ أَنّهُ يَمُوتُ فَرَحًا بِمَا خَبّرْته، فَيَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْفِي الْمَسْأَلَةَ، وَيَشْتَدّ ذَلِك [عَلَى] أَنْفُسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنّا السّلَامَ، إنّ الّذِي أَنَزَلَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَقَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَهُ بَطْنَ مَكّةَ! وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَصَلَ عُثْمَانُ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا أَظُنّ عُثْمَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بالإيمان» .(2/601)
وَمَا يَمْنَعُهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظَنّي بَهْ أَلّا يَطُوفَ حَتّى نَطُوفَ، فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اشْتَفَيْت مِنْ الْبَيْتِ يَا عَبْدَ اللهِ! قَالَ عُثْمَانُ: بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي! لَوْ كُنْت بِهَا سَنَةً وَالنّبِيّ مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْت، وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى أَنْ أَطُوفَ فَأَبَيْت ذَلِكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لِرَسُولِ اللهِ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللهِ تَعَالَى وَأَحْسَنِنَا ظَنّا.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ يَتَحَارَسُونَ اللّيْلَ، وَكَانَ الرّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَبِيتُ عَلَى الْحَرَسِ حَتّى يُصْبِحَ يُطِيفُ بِالْعَسْكَرِ، فَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ: أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى فَرَسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ تِلْكَ اللّيَالِي وَعُثْمَانُ بِمَكّةَ بَعْدُ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْ لَيْلًا خَمْسِينَ رَجُلًا، عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ غِرّةً، فَأَخَذَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عُثْمَانُ بِمَكّةَ قَدْ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا يَدْعُو قُرَيْشًا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَخَلُوا مَكّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَبَلَغَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إن عثمان وَأَصْحَابَهُ قَدْ قُتِلُوا، فَذَلِكَ حِينَ دَعَا إلَى الْبَيْعَةِ. وَبَلَغَ قُرَيْشًا حَبْسُ أَصْحَابِهِمْ، فَجَاءَ جَمْعٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ حَتّى تَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَأَسَرُوا أَيْضًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ أَسْرَى، ثُمّ إنّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ يوم مَنَازِلَ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ(2/602)
الْحُدَيْبِيَةِ جَمِيعًا. قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: وَالرّسْلُ تَخْتَلِفُ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَمَرّ بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِي مَنْزِلِنَا. قَالَتْ: فَظَنَنْت أَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ، فَجَلَسَ فِي رِحَالِنَا ثُمّ قَالَ: إنّ اللهَ أَمَرَنِي بِالْبَيْعَةِ. قَالَتْ: فَأَقْبَلَ النّاسُ يُبَايِعُونَهُ فِي رِحَالِنَا حَتّى تَدَارَكَ النّاسُ، فَمَا بَقِيَ لَنَا مَتَاعٌ إلّا وَطِئَ! وَزَوْجُهَا غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَتْ: فَبَايَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ يَوْمئِذٍ. قَالَتْ: فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَلَبّسُوا السّلَاحَ، وَهُوَ مَعَنَا قَلِيلٌ، إنّمَا خَرَجْنَا عُمّارًا، فَأَنَا أنظر إلى غزيّة ابن عَمْرٍو وَقَدْ تَوَشّحَ بِالسّيْفِ، فَقُمْت إلَى عَمُودٍ كُنّا نَسْتَظِلّ بَهْ فَأَخَذْته فِي يَدِي، وَمَعِي سِكّينٌ قَدْ شَدَدْته فِي وَسَطِي، فَقُلْت: إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ رَجَوْت أَنْ أَقْتُلَهُ. فَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يُبَايِعُ النّاسَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ آخِذٌ بِيَدِهِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى أَلّا يَفِرّوا. وَقَالَ قَائِلٌ: بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ. وَيُقَالُ: أَوّلُ الناس بايع سنان بن أبى سنان ابن مِحْصَنٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبَايِعُك عَلَى مَا فِي نَفْسِك. فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النّاسَ عَلَى بَيْعَةِ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ دَخَلُوا عَلَى أَهْلِيهِمْ عَشَرَةً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة، وحاطب بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الشّمْسِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَأَبُو الرّومِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ حَلِيفُ سُهَيْلٍ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى.
فَلَمّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَهْلٌ أَمَرَهُمْ!(2/603)
قَالَ: مَنْ قَاتَلَك لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيٍ ذَوِي رَأْيِنَا وَلَا ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنّا، بَلْ كُنّا لَهُ كَارِهِينَ حِينَ بَلَغَنَا وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ، وَكَانَ مِنْ سُفَهَائِنَا! فَابْعَثْ إلَيْنَا بِأَصْحَابِنَا الّذِينَ أَسَرْت أَوّلَ مَرّةٍ وَاَلّذِينَ أَسَرْت آخِرَ مَرّةٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي غَيْرُ مُرْسِلِهِمْ حَتّى تُرْسِلَ أَصْحَابِي.
قَالَ سُهَيْلٌ:
أَنْصَفْتنَا! فَبَعَثَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلَى قُرَيْشٍ الشّتِيمَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ التّيْمِيّ: إنّكُمْ حَبَسْتُمْ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ، لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَقَدْ كُنّا لِذَلِكَ كَارِهِينَ! وَقَدْ أَبَى مُحَمّدٌ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا أَصْحَابَهُ، وَقَدْ أَنْصَفَنَا، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا يَطْلِقُ لَكُمْ أَصْحَابَكُمْ. فَبَعَثُوا إلَيْهِ بِمَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُمْ الّذِينَ أُسِرُوا أَوّلَ مَرّةٍ وَآخِرَ مَرّةٍ، فَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ أَوّلَ مَرّةٍ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النّاسَ يَوْمئِذٍ تَحْتَ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَقَدْ كَانَ مِمّا صَنَعَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: إنّ رُوحَ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَ عَلَى الرّسُولِ وَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ، فَأَخْرِجُوا عَلَى اسْمِ اللهِ فَبَايِعُوا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَخَرَجْت مَعَ أَبِي وَهُوَ يُنَادِي لِلْبَيْعَةِ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ النّدَاءِ أَرْسَلَنِي أَبِي إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَهُ أَنّي قَدْ أَذّنْت النّاسَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَأَرْجِعُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النّاسَ، فَبَايَعْته الثّانِيَةَ. قَالَ عَبْدُ الله لِعُمَرَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لَهُ فَرَجَعَ، وَكَانَ يَمْسِكُ بِيَدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَايِعُ. فَلَمّا نَظَرَتْ قُرَيْشٌ- سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وحويطب ابن عَبْدِ الْعُزّى وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَعُيُونُ قُرَيْشٍ- إلَى مَا رَأَتْ مِنْ سُرْعَةِ النّاسِ إلَى الْبَيْعَةِ وَتَشْمِيرِهِمْ إلَى الْحَرْبِ، اشْتَدّ رُعْبُهُمْ وَخَوْفُهُمْ وَأَسْرَعُوا إلَى الْقَضِيّةِ.(2/604)
فَلَمّا رَجَعَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَتَى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى الشّجَرَةِ فَبَايَعَهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ بَايَعَ النّاسَ قَالَ: إنّ عُثْمَانَ ذَهَبَ فِي حَاجَةِ اللهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ! فَضَرَبَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ:
فَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَرْسَلَتْ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ: إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَدْخُلَ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَافْعَلْ. وَابْنُهُ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَت، أُذَكّرُك اللهَ أَنْ تَفْضَحَنَا فِي كُلّ مَوْطِنٍ، تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ رَسُولُ اللهِ؟ فَأَبَى ابْنُ أُبَيّ وَقَالَ: لَا أَطُوفُ حَتّى يَطُوفَ رَسُولُ اللهِ. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَلَامُهُ ذَلِكَ فَسُرّ بِهِ. وَرَجَعَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ إلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ سُرْعَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْبَيْعَةِ، وَمَا جَعَلُوا لَهُ، فَقَالَ أَهْلُ الرّأْيِ مِنْهُمْ:
لَيْسَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ نُصَالِحَ مُحَمّدًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنّا عَامَهُ هذا ويرجع قابل، فَيُقِيمُ ثَلَاثًا وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَنْصَرِفُ، وَيُقِيمُ بِبَلَدِنَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا. فَأَجْمَعُوا [عَلَى] ذَلِكَ، فَلَمّا أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَمَعَهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ، وَلْيَكُنْ فِي صُلْحِك لَا يَدْخُلُ فِي عَامِهِ هَذَا، فَوَاَللهِ لَا يَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّك دَخَلْت عَلَيْنَا عَنْوَةً.
فَأَتَى سُهَيْلٌ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَآهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَعَ قَالَ: أَرَادَ الْقَوْمَ الصّلْحَ.
فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعُوا، وَتَرَافَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَانْخَفَضَتْ.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بن عبد الله، عن الحارث ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْت أُمّ عُمَارَةَ تَقُولُ: إنّي لِأَنْظُرَ إلَى(2/605)
رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يَوْمئِذٍ مُتَرَبّعًا، وَإِنّ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ وَسَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ مُقَنّعَانِ بِالْحَدِيدِ، قَائِمَانِ [ (1) ] عَلَى رَأْسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذْ رَفَعَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو صَوْتَهُ قَالَا: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِك عِنْدَ رَسُولِ اللهِ! وَسُهَيْلٌ بَارِكٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، رَافِعٌ صَوْتَهُ كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى عَلَمٍ [ (2) ] فِي شَفَتِهِ وَإِلَى أَنْيَابِهِ، وَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَحَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ.
قَالُوا: فَلَمّا اصْطَلَحُوا فَلَمْ يَبْقَ إلّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى! قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَلَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي. فَذَهَبَ عُمَرُ إلى أبى بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْر، أَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: بَلَى! فَقَالَ عُمَرُ: فَلِمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْزَمْ غَرْزَهُ [ (3) ] ! فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنّ الْحَقّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَلَنْ نُخَالِفَ أَمْرَ اللهِ وَلَنْ يُضَيّعَهُ اللهُ! وَلَقِيَ عُمَرُ مِنْ الْقَضِيّةِ أَمْرًا كَبِيرًا، وَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ وَيَقُولُ:
عَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
أَنَا رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيّعَنِي!
قَالَ: فَجَعَلَ يَرُدّ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَامَ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ: أَلّا تَسْمَعَ يَا ابْنَ الْخَطّابِ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ مَا يَقُولُ؟ تَعَوّذْ بِاَللهِ مِنْ الشّيْطَانِ وَاتّهِمْ رَأْيَك! قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَجَعَلْت أَتَعَوّذُ بِاَللهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ حِيَاءً، فما أصابنى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قائمين» .
[ (2) ] العلم: الشق فى الشفة العليا. (الصحاح، ص 1990) .
[ (3) ] أى الزم أمره. والغرز للرحل بمنزلة الركاب للسرج. (شرح أبى ذر، ص 341) .(2/606)
قَطّ شَيْءٌ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، مَا زِلْت أَصُومُ وَأَتَصَدّقُ مِنْ الّذِي صَنَعْت مَخَافَةَ كَلَامِي الّذِي تَكَلّمْت يَوْمئِذٍ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ لِي عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَضِيّةَ: ارْتَبْت ارْتِيَابًا لَمْ أَرْتَبْهُ مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا يَوْمئِذٍ، وَلَوْ وَجَدْت ذَلِكَ الْيَوْمَ شِيعَةً تَخْرُجُ عَنْهُمْ رَغْبَةً عَنْ الْقَضِيّةِ لَخَرَجْت.
ثُمّ جَعَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقِبَتَهَا خَيْرًا وَرُشْدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: جَلَسْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا، فَذَكَرَ الْقَضِيّةَ فَقَالَ: لَقَدْ دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ، وَرَاجَعْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يومئذ مراجعة ما رجعته مِثْلَهَا قَطّ، وَلَقَدْ عَتَقْت فِيمَا دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ رِقَابًا، وَصُمْت دَهْرًا، وَإِنّي لَأَذْكُرُ مَا صَنَعْت خَالِيًا فَيَكُونُ أَكْبَرَ هَمّي، ثُمّ جَعَلَ اللهُ عَاقِبَةَ الْقَضِيّةِ خَيْرًا، فَيَنْبَغِي لِلْعِبَادِ أَنْ يَتّهِمُوا الرّأْيَ، وَاَللهِ لَقَدْ دَخَلَنِي يَوْمئِذٍ مِنْ الشّكّ حَتّى قُلْت فِي نَفْسِي: لَوْ كُنّا مِائَةَ رَجُلٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِي مَا دَخَلْنَا فِيهِ أَبَدًا! فَلَمّا وَقَعَتْ الْقَضِيّةُ أَسْلَمَ فِي الْهُدْنَةِ أَكْثَرَ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ يَوْمِ دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ الصّلْحَ، لِأَنّهُمْ خَرَجُوا لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه حَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَأَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَعَرَفَ مَعَ الْمُعْرِفِينَ! فَلَمّا رَأَوْا الصّلْحَ دَخَلَ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يَهْلِكُونَ. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ اصْطَلَحُوا وَالْكِتَابُ لَمْ يُكْتَبْ، أَقْبَلَ أَبُو جَنْدَلِ بن سهيل، قد أفلت برسف فى القيد متوشّح السيف خلاله أَسْفَلُ مَكّةَ، فَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا حَتّى أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُكَاتِبُ سُهَيْلًا، فَرَفَعَ سُهَيْلٌ رَأْسَهُ فَإِذَا(2/607)
بِابْنِهِ أَبِي جَنْدَلٍ، فَقَامَ إلَيْهِ سُهَيْلٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِغُصْنِ شَوْكٍ وَأَخَذَ بِلَبّتِهِ وَصَاحَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ فَزَادَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ شَرّا إلَى مَا بِهِمْ، وَجَعَلُوا يَبْكُونَ لِكَلَامِ أَبِي جَنْدَلٍ.
قَالَ: يَقُولُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى لِمُكَرّزِ بْنِ حَفْصٍ: ما رَأَيْت قَوْمًا قَطّ أَشَدّ حُبّا لِمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لِمُحَمّدٍ وَبَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ! أَمّا إنّي أَقُولُ لَك لَا تَأْخُذْ مِنْ مُحَمّدٍ نَصَفًا أَبَدًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، حَتّى يَدْخُلَهَا عَنْوَةً! فَقَالَ مِكْرَزُ: أَنَا أَرَى ذَلِكَ. وَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا أَوّلُ مَا قَاضَيْتُك عَلَيْهِ، رَدّوهُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاَللهِ لَا أُكَاتِبُك عَلَى شَيْءٍ حَتّى تَرُدّهُ إلَيّ.
فَرَدّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلًا أَنْ يَتْرُكَهُ فَأَبَى سُهَيْلٌ، فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَحُوَيْطِبٌ: يَا مُحَمّدُ، نَحْنُ نُجِيرُهُ لَك. فَأَدْخَلَاهُ فُسْطَاطًا فَأَجَارَاهُ، وَكَفّ أَبُوهُ عَنْهُ. ثُمّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنّ اللهَ جَاعِلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا! إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ وَأَعْطَوْنَا عَلَى ذَلِكَ عَهْدًا، وَإِنّا لَا نَغْدِرُ! وَعَادَ عُمَرُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْت بِرَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَيْسَ عَدُوّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ:
بَلَى. قَالَ: فَلِمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ: إنّي رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ أَعْصِيَهُ وَلَنْ يُضَيّعَنِي. فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتّى جَاءَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يَعْصِيَهُ وَلَنْ يُضَيّعَهُ، وَدَعْ عَنْك مَا تَرَى يَا عُمَرُ! قَالَ عُمَرُ: فَوَثَبْت إلَى أَبِي جَنْدَلٍ أَمْشِي إلَى جَنْبِهِ. وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَدْفَعُهُ، وَعُمَرُ يقول: اصبر(2/608)
يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، وَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ وَأَنْتَ رَجُلٌ وَمَعَك السّيْفُ! فَرَجَوْت أَنْ يَأْخُذَ السّيْفَ وَيَضْرِبُ أَبَاهُ، فَضَنّ الرّجُلُ بِأَبِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، إنّ الرّجُلَ يَقْتُلُ أَبَاهُ فِي اللهِ، وَاَللهِ لَوْ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا لَقَتَلْنَاهُمْ فِي اللهِ، فَرَجُلٌ بِرَجُلٍ! قَالَ: وَأَقْبَلَ أبو جندل على عمر فقال: مالك لَا تَقْتُلُهُ أَنْتَ؟ قَالَ عُمَرُ: نَهَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: مَا أَنْتَ بِأَحَقّ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ مِنّي! وَقَالَ عُمَرُ وَرِجَالٌ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَكُنْ حَدّثْتنَا أَنّك سَتَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَتَأْخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ؟ وَهَدْيُنَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ وَلَا نَحْنُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْت لَكُمْ فِي سَفَرِكُمْ هَذَا؟
قَالَ عُمَرُ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إنّكُمْ سَتَدْخُلُونَهُ، وَآخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَأَحْلِقُ رَأْسِي وَرُءُوسَكُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ، وَأُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟
أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذَكّرُهُمْ أُمُورًا- أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ يَا نَبِيّ اللهِ، مَا فَكّرْنَا فِيمَا فَكّرْت فِيهِ، لَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاَللهِ وَبِأَمْرِهِ مِنّا! فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْقَضِيّةِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ قَالَ: هَذَا الّذِي وَعَدْتُكُمْ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ فَقَالَ: اُدْعُوا لِي عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ! فَقَالَ:
هَذَا الّذِي قُلْت لَكُمْ. فَلَمّا كَانَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ: أَيْ عُمَرُ، هَذَا الّذِي قُلْت لَكُمْ! قَالَ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ فَتْحٌ فِي الإسلام أعظم(2/609)
مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ! وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا كَانَ فَتْحٌ فِي الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَكِنّ النّاسَ يَوْمئِذٍ قَصَرَ رَأْيُهُمْ عَمّا كَانَ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَرَبّهِ، وَالْعِبَادُ يَعْجَلُونَ، وَاَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَعْجَلُ كَعَجَلَةِ الْعِبَادِ حَتّى تَبْلُغَ الْأُمُورُ مَا أَرَادَ اللهُ. لَقَدْ نَظَرْت إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي حَجّهِ قَائِمًا عِنْدَ الْمَنْحَرِ يُقَرّبُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْحَرُهَا بِيَدِهِ، وَدَعَا الْحَلّاقَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَنْظُرُ إلَى سُهَيْلٍ يَلْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ، وَأَرَاهُ يَضَعُهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَأَذْكُرُ إبَاءَهُ أَنْ يُقِرّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، وَيَأْبَى أَنْ يَكْتُبَ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، فَحَمِدْت اللهَ الّذِي هَدَاهُ لِلْإِسْلَامِ، وَصَلَوَاتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى نَبِيّ الرّحْمَةِ الّذِي هَدَانَا بِهِ وَأَنْقَذَنَا بِهِ مِنْ الْهَلَكَةِ! فَلَمّا حُضِرَتْ الدّوَاةُ وَالصّحِيفَةُ بَعْدَ طُولِ الْكَلَامِ وَالْمُرَاجَعَةِ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَتَقَارَبَ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَكْتُبُ الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ، وَدَعَا أَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ يَكْتُبُ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا يَكْتُبُ إلّا أَحَدُ الرّجُلَيْنِ، ابْنُ عَمّك عَلِيّ أَوْ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ! فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا يَكْتُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا أَعْرِفُ الرّحْمَنَ، اُكْتُبْ كَمَا نَكْتُبُ بِاسْمِك اللهُمّ. فَضَاقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا:
هُوَ الرّحْمَنُ. وَقَالُوا: لَا تَكْتُبْ إلّا الرّحْمَنَ. قَالَ سُهَيْلٌ: إذًا لَا أُقَاضِيهِ عَلَى شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ! هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ أَعْلَمُ أَنّك رَسُولُ اللهِ مَا خَالَفْتُك، وَاتّبَعْتُك، أَفَتَرْغَبُ عَنْ اسْمِك وَاسْمِ أَبِيك مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟
فَضَجّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا ضَجّةً هِيَ أَشَدّ مِنْ الْأُولَى حَتّى ارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ،(2/610)
وَقَامَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: لَا نَكْتُب إلّا مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ! فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ نَظَرَ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَخَذَا بِيَدِ الْكَاتِبِ فَأَمْسَكَاهَا وَقَالَا [ (1) ] : لَا تَكْتُبْ إلّا مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ، وَإِلّا فَالسّيْفُ بَيْنَنَا! عَلَامَ نُعْطِي هَذِهِ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِضُهُمْ وَيُومِئُ بِيَدِهِ إلَيْهِمْ: اُسْكُتُوا! وَجَعَلَ حُوَيْطِبُ يَتَعَجّبُ مِمّا يَصْنَعُونَ، وَيُقْبِلُ عَلَى مِكْرَزِ بْنِ حَفْصٍ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت قَوْمًا أَحْوَطَ لِدِينِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُهَيْلٍ حِينَ أَبَى أَنْ يُقِرّ بِالرّحْمَنِ:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ (2) ] .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَاكْتُبْ! فَكَتَبَ:
بِاسْمِك اللهُمّ، هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النّاسُ وَيَكْفِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ [ (3) ] ، وَأَنّ بَيْننَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً [ (4) ] ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهَا فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ إلَيْهِ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لَمْ تَرُدّهُ، وَأَنّ محمّدا
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فأمسكها وقال» .
[ (2) ] سورة 17 الإسراء 110.
[ (3) ] الإسلال: السرقة الخفية. والإغلال: الخيانة. (شرح أبى ذر، ص 341) .
[ (4) ] عيبة مكفوفة: هي استعارة، وإنما يريد تكف عنا ونكف عنك. (شرح أبى ذر، ص 341) .(2/611)
يَرْجِعُ عَنّا عَامَهُ هَذَا بِأَصْحَابِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلٌ فِي أَصْحَابِهِ فَيُقِيمُ ثَلَاثًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِسِلَاحٍ إلّا سِلَاحَ الْمُسَافِرِ، السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ. شَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مَسْلَمَةَ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَلَمّا كَتَبَ الْكِتَابَ قَالَ سُهَيْلٌ:
يَكُونُ عِنْدِي! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ عِنْدِي! فَاخْتَلَفَا فَكَتَبَ لَهُ نُسْخَةً، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ الْأَوّلَ وَأَخَذَ سُهَيْلٌ نُسْخَتَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ. وَوَثَبَتْ مِنْ هُنَاكَ خُزَاعَةُ فَقَالُوا:
نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ، وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. وَوَثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فقالوا: نحن ندخل مع قُرَيْشٌ فِي عَهْدِهَا وَعَقْدِهَا، وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ حُوَيْطِبُ لِسُهَيْلٍ: بَادَأْنَا أَخْوَالَك بِالْعَدَاوَةِ وَقَدْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنّا، قَدْ دَخَلُوا فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ! قَالَ سُهَيْلٌ: ما هم إلّا كغيرهم، هولاء أَقَارِبُنَا وَلَحْمُنَا قَدْ دَخَلُوا مَعَ مُحَمّدٍ، قَوْمٌ اخْتَارُوا لَأَنْفُسِهِمْ أَمْرًا فَمَا نَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ حُوَيْطِبُ: نَصْنَعُ بِهِمْ أَنْ نَنْصُرَ عَلَيْهِمْ حَلْفَاءَنَا بَنِي بَكْرٍ. قَالَ سُهَيْلٌ: إيّاكَ أَنْ تَسْمَعَ هَذَا مِنْك بَنُو بَكْرٍ! فَإِنّهُمْ أَهْلُ شُؤْمٍ، فَيَقَعُوا بِخُزَاعَةَ فَيَغْضَبُ مُحَمّدٌ لِحُلَفَائِهِ، فَيَنْقُضُ الْعَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. قَالَ حُوَيْطِبٌ: حَظَوْت وَاَللهِ أَخْوَالَك بِكُلّ وَجْهٍ! فَقَالَ سُهَيْلٌ: تَرَى أَخْوَالِي أَعَزّ عَلَيّ مِنْ بَنِي بَكْرٍ؟ وَلَكِنْ وَاَللهِ لَا تَفْعَلُ قُرَيْشٌ شَيْئًا إلّا فَعَلْته، فَإِذَا أَعَانَتْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ فَإِنّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَبَنُو بَكْرٍ أَقْرَبُ إلَيّ فِي قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وَبَنُو بَكْرٍ مَنْ قَدْ عَرَفْت، لَنَا مِنْهُمْ مَوَاطِنُ كُلّهَا لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ، مِنْهَا يَوْمُ عُكَاظٍ.(2/612)
قَالُوا: فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَانْطَلَقَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ:
قُومُوا فَانْحَرُوا وَاحْلِقُوا! فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ كُلّ ذَلِكَ يَأْمُرُهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ مُغْضَبًا شَدِيدَ الْغَضَبِ، وَكَانَتْ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ ذلك، فاضطجع فقالت:
مالك يَا رَسُولَ اللهِ؟ مِرَارًا لَا تُجِيبُنِي [ (1) ] . ثُمّ قَالَ: عَجَبًا يَا أُمّ سَلَمَةَ! إنّي قُلْت لِلنّاسِ انْحَرُوا وَاحْلُقُوا وَحِلّوا مِرَارًا، فَلَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ مِنْ النّاسِ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ كلامي وينظرون فى وجهى! قالت، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، انْطَلِقْ أَنْتَ إلَى هَدْيِك فَانْحَرْهُ، فَإِنّهُمْ سَيَقْتَدُونَ بِك. قَالَتْ:
فَاضْطَبَعَ [ (2) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِهِ، ثُمّ خَرَجَ وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ يَنْهِمُ [ (3) ] هَدْيَهُ. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يَهْوِي بِالْحَرْبَةِ إلَى الْبَدَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ: بِسْمِ اللهِ وَاَللهُ أَكْبَرُ! قَالَتْ: فَمَا هَذَا إلّا أَنْ رَأَوْهُ نَحْرَ، فَتَوَاثَبُوا إلَى الْهَدْيِ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ حَتّى خَشِيت أَنْ يَغُمّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: فَكَأَنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ مُضْطَبِعًا بِثَوْبِهِ وَالْحَرْبَةُ فِي يَدَيْهِ يَنْحَرُ بِهَا.
حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَأَشْرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الهدى، فنحر البدنة عن
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل.
[ (2) ] أى أخذ ثوبه فجعل وسطه تحت إبطه الأيمن وألقى طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره.
(النهاية، ج 3، ص 12) .
[ (3) ] نهم الرجل ناقته إذا زجرها. (الصحاح، ص 2047) .(2/613)
سَبْعَةٍ، وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً. وَكَانَ جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ قَدْ غَنِمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ عَلَيْهِ الْمَغَازِيَ، وَكَانَ قَدْ ضُرِبَ فِي لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم الّتِي اسْتَاقَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَلِقَاحِهِ الّتِي كَانَتْ بِذِي الْجَدْرِ الّتِي كَانَ سَاقَهَا الْعُرَنِيّونَ، وَكَانَ جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ نَجِيبًا مَهْرِيّا [ (1) ] كَانَ يُرْعَى مَعَ الْهَدْيِ، فَشَرَدَ قَبْلَ الْقَضِيّةِ فَلَمْ يَقِفْ حَتّى انْتَهَى إلَى دَارِ أَبِي جَهْلٍ وَعَرَفُوهُ، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِ عَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ [ (2) ] السّلَمِيّ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ لَهُ سُفَهَاءُ مِنْ سُفَهَاءِ مَكّةَ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: ادْفَعُوهُ إلَيْهِ. فَأَعْطَوْا بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنّا سَمّيْنَاهُ فِي الْهَدْيِ فَعَلْنَا.
فَنَحَرَ الْجَمَلَ عَنْ سَبْعَةٍ، أَحَدُهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: كَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ، وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ، وَكَانَ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ.
وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّهُ سِتّ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: وَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يَنْحَرُ بَدَنَاتٍ لَهُ سَاقَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ أَيْضًا، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا [ (3) ] فِي الْحِلّ، وَكَانَ يُصَلّي فِي الْحَرَمِ. وَحَضَرَهُ يَوْمئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ مُعَتّرًا [ (4) ] غَيْرَ كَبِيرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ وَجُلُودِهَا. قَالَتْ أُمّ كُرْزٍ الْكَعْبِيّةُ: جِئْت أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لُحُومِ
__________
[ (1) ] مهرة بن حيدان حي من العرب تنسب إليهم الإبل المهرية. (القاموس المحيط، ج 2، ص 137) .
[ (2) ] فى الأصل: «عمرو بن غتمة» ، وما أثبتناه من ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 129) .
[ (3) ] أى كانت أبنيته مضروبة فى الحل. (شرح أبى ذر، ص 342) .
[ (4) ] هو الذي يتعرض للسؤال من غير طلب. (النهاية، ج 2، ص 342) .(2/614)
الْهَدْيِ حِينَ نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَسَمِعْته يَقُولُ: عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ [ (1) ] وَالْجَارِيَةُ شَاةٌ. وَأَكَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَدْيِهِمْ الّذِي نَحَرُوا يَوْمئِذٍ وَأَطْعَمُوا الْمَسَاكِينَ مِمّنْ حَضَرَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً لِتُنْحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَنَحَرَهَا عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَقَسَمَ لَحْمَهَا.
وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد اللهِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: فَأَنَا أَنْظُرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَ مِنْ نَحْرِ الْبُدْنِ فَدَخَلَ قُبّةً لَهُ مِنْ أَدَمٍ حَمْرَاءَ، فِيهَا الْحَلّاقُ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ قَدْ أَخَرَجَ رَأْسَهُ مِنْ قُبّتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلّقِينَ! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالْمُقَصّرِينَ! قَالَ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلّقِينَ- ثَلَاثًا. ثُمّ قَالَ: وَالْمُقَصّرِينَ.
فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ، وَرَمَى بِشَعَرِهِ عَلَى شَجَرَةٍ كَانَتْ إلَى جَنْبِهِ مِنْ سَمُرَةٍ خَضْرَاءَ. قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَأْخُذُونَ الشّعَرَ مِنْ فَوْقِ الشّجَرَةِ فَيَتَحَاصّونَ [ (2) ] فِيهِ، وَجَعَلْت أُزَاحِمُ حَتّى أَخَذْت طَاقَاتٍ مِنْ شَعَرٍ. فَكَانَتْ عِنْدَهَا حَتّى مَاتَتْ تَغْسِلُ لِلْمَرِيضِ. قَالَ: وَحَلَقَ يَوْمئِذٍ نَاسٌ، وَقَصّرَ آخَرُونَ.
قَالَتْ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: وَقَصّرْت يَوْمئِذٍ أَطْرَافَ شَعَرِي. وَكَانَتْ أُمّ عُمَارَةَ تَقُولُ: قَصّرْت يَوْمئِذٍ- بِمِقَصّ مَعِي- الشّعَرَ وما شدّ.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «مكفأتان» . وشاتان مكافئتان: متساويتان فى السن. (النهاية، ج 4، ص 23) .
[ (2) ] تحاصوا: أى اقتسموا. (القاموس المحيط، ج 2، ص 298) .(2/615)
حَدّثَنِي خِرَاشُ بْنُ هُنَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كان الذي حلقه خراش ابن أميّة.
قالوا: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بَضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيُقَالُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ نَزَلَ بِمَرّ الظّهْرَانِ ثُمّ نَزَلَ عُسْفَانَ، فَأَرْمَلُوا [ (1) ] مِنْ الزّادِ، فَشَكَا النّاسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنّهُمْ قَدْ بَلَغُوا مِنْ الْجُوعِ- وَفِي النّاسِ ظَهْرٌ-[وَقَالُوا] : فَنَنْحَرُ يَا رَسُولَ اللهِ وَنَدْهُنُ مِنْ شُحُومِهِ، وَنَتّخِذُ مِنْ جُلُودِهِ حِذَاءً! فَأَذِنَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَفْعَلْ فَإِنْ يَكُ فِي النّاسِ بَقِيّةُ ظَهْرٍ يَكُنْ أَمْثَلَ، وَلَكِنْ اُدْعُهُمْ بِأَزْوَادِهِمْ ثُمّ اُدْعُ اللهَ فِيهَا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ بَقِيّةٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَنْثُرْهُ عَلَى الْأَنْطَاعِ. قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيّ: فَلَقَدْ رَأَيْت مَنْ يَأْتِي بِالتّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ، وَيَأْتِي بِالْكَفّ مِنْ الدّقِيقِ، وَالْكَفّ مِنْ السّوِيقِ، وَذَلِكَ كُلّهُ قَلِيلٌ.
فَلَمّا اجْتَمَعَتْ أَزْوَادُهُمْ وَانْقَطَعَتْ مَوَادّهُمْ مَشَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمّ قَالَ: قُرّبُوا أَوْعِيَتَكُمْ!
فَجَاءُوا بِأَوْعِيَتِهِمْ. قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: فَأَنَا حَاضِرٌ، فَيَأْتِي الرّجُلُ فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ الزّادِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْخُذَ مَا لَا يَجِدُ لَهُ مَحْمَلًا، ثُمّ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرّحِيلِ، فَلَمّا ارْتَحَلُوا مُطِرُوا مَا شَاءُوا وَهُمْ صَائِفُونَ.
فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلُوا مَعَهُ، فَشَرِبُوا مِنْ الْمَاءِ، فَقَامَ رسول
__________
[ (1) ] أرمل القوم: إذا نفد زادهم. (الصحاح، ص 1813) .(2/616)
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ، فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَلَسَ اثْنَانِ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ مُعْرِضًا، فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمّا الْآخَرُ فَتَابَ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَمّا الثّالِثُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ.
فَحَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ، سَمِعْت شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْت أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْنِي، ثُمّ سَأَلْته فَلَمْ يُجِبْنِي، ثُمّ سَأَلْته فَلَمْ يُجِبْنِي. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْت: ثَكِلَتْك أُمّك يَا عُمَرُ! نَذَرْت رَسُولَ اللهِ ثَلَاثًا، كُلّ ذَلِكَ لَا يُجِيبنِي! قَالَ: فَحَرّكْت بَعِيرِي حَتّى تَقَدّمْت النّاسَ، وَخَشِيت أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيّ قُرْآنٌ، فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، وَلَمّا كُنْت رَاجَعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَرَاهَتِي الْقَضِيّةَ، فَإِنّي لَأَسِيرُ مَهْمُومًا مُتَقَدّمًا لِلنّاسِ، فَإِذَا مُنَادٍ [ (1) ] يُنَادِي: يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطّابِ! فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مَا اللهُ بِهِ أَعْلَمُ، ثُمّ أَقْبَلْت حَتّى انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلّمْت فَرَدّ عَلَيّ السّلَامَ وَهُوَ مَسْرُورٌ، ثُمّ قَالَ:
أُنْزِلَتْ عَلَيّ سُورَةٌ هِيَ أَحَبّ إلَيّ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (2) ] .
فَبَشّرَهُ بِمَغْفِرَتِهِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ وَنَصْرِهِ، وَطَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ اللهَ تَعَالَى، وَنِفَاقِ مَنْ نَافَقَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ عَشْرَ آيَاتٍ.
وَحَدّثَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَمّعِ بْنِ جَارِيَةَ، قال:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «منادى» .
[ (2) ] سورة 48 الفتح 1.(2/617)
لَمّا كُنّا بِضَجْنَانَ رَاجِعِينَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ رَأَيْت النّاسَ يُرْكَضُونَ فَإِذَا هُمْ يَقُولُونَ: أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قُرْآنٌ] ، فَرَكَضْت مَعَ النّاسِ، حَتّى تُوَافَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
[ (1) ] ، فَلَمّا نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ: يَهْنِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَلَمّا هَنّأَهُ جِبْرِيلُ هَنّأَهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَكَانَ مِمّا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا، فَالْفَتْحُ قُرَيْشٌ [ (2) ] وَمُوَادَعَتُهُمْ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [ (3) ] قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ النّبُوّةِ وَمَا تَأَخّرَ.
قَالَ: مَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ إلَى أَنْ تُوُفّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، بِصُلْحِ قُرَيْشٍ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، قَالَ:
الْحَقّ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [ (4) ] حَتّى تَظْهَرَ فَلَا يَكُونُ شِرْكٌ.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [ (5) ] ، قَالَ: الطّمَأْنِينَةُ، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ، قَالَ: يَقِينًا وَتَصْدِيقًا، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ عَزّ وَجَلّ: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [ (6) ] ، قَالَ: مَا اجْتَرَحُوا، وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً، يَقُولُ: فَوْزًا لَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ سَيّئَاتِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 1
[ (2) ] فى الأصل: «قريشا»
[ (3) ] سورة 48 الفتح 2
[ (4) ] سورة 48 الفتح 3
[ (5) ] سورة 48 الفتح 4
[ (6) ] سورة 48 الفتح 5(2/618)
ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [ (1) ] ، يَعْنِي الّذِينَ مَرّ عَلَيْهِمْ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ، مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَبَنِي بَكْرٍ، وَاسْتَنْفَرَهُمْ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَاعْتَلَوْا وَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. يَقُولُ: عَلَيْهِمْ مَا تَمَنّوْا وَظَنّوا، وَذَلِكَ أَنّهُمْ قَالُوا:
إنّمَا خَرَجَ مُحَمّدٌ فِي أَكَلَةِ رَأْسٍ [ (2) ] ، يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ، فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً [ (3) ] ، قَالَ: شَاهِدًا عَلَيْهِمْ وَمُبَشّرًا لَهُمْ بِالْجَنّةِ وَنَذِيرًا لَهُمْ مِنْ النّارِ. وَتُعَزِّرُوهُ [ (4) ] ، قَالَ: تَنْصُرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُعَظّمُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قَالَ: تُصَلّوا لِلّهِ بُكْرَةً وَعَشِيّا. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ (5) ] حِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى بَيْعَةِ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَبَايَعُوهُ يَوْمئِذٍ عَلَى أَلّا يَفِرّوا، وَيُقَالُ: عَلَى الْمَوْتِ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، يَقُولُ: مَنْ بَدّلَ أَوْ غَيّرَ مَا بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّمَا ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى فَإِنّ لَهُ الْجَنّةَ، سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [ (6) ] ، قَالَ: هُمْ الّذِينَ مَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنْفَرَهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِمْ فِي بِدَايَتِهِ فَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمّا سَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ جَاءُوهُ يَقُولُونَ اسْتَغْفِرْ لَنَا إبَاءَنَا أَنْ نَسِيرَ مَعَك. يَقُولُ اللهُ عَزّ وجلّ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 6
[ (2) ] أى هم قليل. (الصحاح، ص 1624)
[ (3) ] سورة 48 الفتح 8
[ (4) ] سورة 48 الفتح 9
[ (5) ] سورة 48 الفتح 10
[ (6) ] سورة 48 الفتح 11(2/619)
قُلُوبِهِمْ، يَقُولُ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [ (1) ] ، إلَى قَوْله عَزّ وَجَلّ: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، قَالَ: قَوْلُهُمْ حِينَ مَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم «وإنما محمّد [فِي] أَكَلَةِ رَأْسٍ، يَخْرُجُ إلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ مُعِدّينَ، وَمُحَمّدٌ لَا سِلَاحٌ مَعَهُ وَلَا عِدّةٌ» فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، قَالَ: كَانَ يَقِينًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، يَقُولُ: هَلْكَى. وَقَوْلُهُ: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ... [ (2) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: هُمْ الّذِينَ تَخَلّفُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ، هَؤُلَاءِ الْعَرَبُ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَبَكْرٍ، لَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّوَجّهَ إلَى خَيْبَرَ قَالُوا: نَحْنُ نَتْبَعُكُمْ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ. قَالَ: الّذِي قَضَى اللهُ، قَضَى أَلّا تَتْبَعُونَا، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ، يُقَال قَضَاءَهُ. يَقُولُ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الّذِينَ تَخَلّفُوا عَنْك فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [ (3) ] . قَالَ: هُمْ فَارِسُ وَالرّومُ، وَيُقَالُ: هَوَازِنُ، وَيُقَالُ: بَنِي حَنِيفَةَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، قَالَ: إنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا كَمَا أَبَيْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَزْوَةِ [الحديبية] .
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 12.
[ (2) ] سورة 48 الفتح 15
[ (3) ] سورة 48 الفتح 16.(2/620)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [ (1) ] قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ الْعَوْرَاتُ الثّلَاثُ. لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [ (2) ] أَخْرِجُوا الْعُمْيَانَ وَالْمَرْضَى وَالْعُرْجَانَ مِنْ بُيُوتِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَيُقَالُ: هَذَا فِي الْغَزْوِ.
وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إذَا نَفَرُوا لِلْغَزْوِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ الزّمْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ رُخْصَةً لَهُمْ بِالْإِذْنِ فِي كُلّ. لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ (3) ] ، قَالَ: وَهِيَ سَمُرَةٌ خَضْرَاءُ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ:
صِدْقَ نِيّاتِهِمْ. فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الطّمَأْنِينَةَ، وَهُوَ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ، فَتْحاً قَرِيباً، قَالَ: صُلْحُ قُرَيْشٍ، ومَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [ (4) ] إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [ (5) ] ، قَالَ: فَتْحَ خَيْبَرَ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، قَالَ: الّذِينَ كَانُوا طَافُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَجَاءَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرّةً، فَأَسَرَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرًا، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: عِبْرَةً [ (6) ] ، صُلْحُ قُرَيْشٍ وَحُكْمٌ [لَمْ] يَكُنْ فيه سيف، وكان
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 17
[ (2) ] سورة 24 النور 58
[ (3) ] سورة 48 الفتح 18
[ (4) ] سورة 48 الفتح 19
[ (5) ] سورة 48 الفتح 20
[ (6) ] فى الأصل: «قال غيره» .(2/621)
فَتْحًا عَظِيمًا. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها [ (1) ] ، قَالَ: فارس وَالرّومُ، وَيُقَالُ مَكّةُ. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [ (2) ] ، يَقُولُ: لَوْ قَاتَلَتْكُمْ قُرَيْشٌ انْهَزَمُوا ثُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ اللهِ وَلِيّ، يَعْنِي حافظ، وَلَا نَصِيرَ مِنْ الْعَرَبِ. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [ (3) ] ، قَالَ: قَضَاءُ اللهِ الّذِي قَضَى وَلَا تَبْدِيلَ أَنّ رُسُلَهُ يَظْهَرُونَ وَيَغْلِبُونَ. وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [ (4) ] ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَسْرَى، فَكَفّ اللهُ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِهِمْ، وأَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، مَنْ كَانُوا حُبِسُوا بِمَكّةَ، فَذَلِكَ الظّفَرُ. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [ (5) ] ، يَقُولُ: حَيْثُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ وَحُبِسَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً، يَقُولُ:
لَوْلَا رجال ونساء مستضعفون بمكّة، أَنْ تَطَؤُهُمْ، يَقُولُ: [أَنْ] تَقْتُلُوهُمْ وَلَا تَعْرِفُوهُمْ فَيُصِيبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ قَتَلْتُمْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، لَوْ تَزَيَّلُوا، يَقُولُ: لَوْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ، لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا، يَقُولُ: سَلَّطناكم عليهم بالسيف. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 21
[ (2) ] سورة 48 الفتح 22
[ (3) ] سورة 48 الفتح 23
[ (4) ] سورة 48 الفتح 24
[ (5) ] سورة 48 الفتح 25.(2/622)
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [ (1) ] حَيْثُ أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ «مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ» وَحَيْثُ أَبَى أَنْ يَكْتُبَ «بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ» .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: بَيْنَهُمْ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها، يَقُولُ: لَا إلَهِ إلّا اللهُ هُمْ أَحَقّ بِهَا وَأَوْلَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ. لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [ (2) ] إلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً، وَالْفَتْحُ الْقَرِيبُ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ فَحَلَقَ وَحَلَقَ مَعَهُ قَوْمٌ، وَقَصّرَ مَنْ قَصّرَ، وَدَخَلَ فِي حَجّتِهِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ آمَنِينَ لَا يَخَافُ إلّا اللهَ عَزّ وَجَلّ. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [ (3) ] قَالَ: يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ الْفَضْلَ مِنْ اللهِ وَالرّضْوَانَ. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، قَالَ: أَثَرُ الْخُشُوعِ وَالتّوَاضُعِ، مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ، فَهَذَا فِي الْإِنْجِيلِ، يَعْنِي أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَلِيلًا، ثُمّ ازْدَادُوا، ثُمّ كَثُرُوا، ثُمّ اسْتَغْلَظُوا، وَقَالَ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [ (4) ] ، قَالَ: هِيَ مَفْصُولَةٌ بِأَنّهُمْ آمَنُوا بِاَللهِ وَرُسُلِهِ يُصَدّقُونَهُمْ. قَالَ بَعْدُ: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ (4) ] وَفِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [ (5) ]
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 26
[ (2) ] سورة 48 الفتح 27
[ (3) ] سورة 48 الفتح 29
[ (4) ] سورة 57 الحديد 19
[ (5) ] سورة 13 الرعد 31(2/623)
يَعْنِي مَا كَانَ فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.
كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ حَجَزَتْ بَيْنَ النّاسِ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ، وَإِنّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَوْا، فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَآمَنَ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ تَكَلّمَ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إلّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، حَتّى دَخَلَ فِي تِلْكَ الْهُدْنَةِ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ الّذِينَ يَقُومُونَ بِالشّرْكِ وَبِالْحَرْبِ- عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَشْبَاهٌ لَهُمْ، وَإِنّمَا كَانَتْ الْهُدْنَةُ حَتّى نَقَضُوا الْعَهْدَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، دَخَلَ فِيهَا مِثْلُ مَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، وَفَشَا الْإِسْلَامُ فِي كُلّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْعَرَبِ.
وَلَمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَتَاهُ أَبُو بِصَيْرٍ- وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ [ (1) ] حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ- مُسْلِمًا، قَدْ انْفَلَتَ مِنْ قَوْمِهِ فَسَارَ عَلَى قَدَمَيْهِ سَعْيًا، فَكَتَبَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وأزهر ابن عَبْدِ عَوْفٍ الزّهْرِيّ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا، وَبَعَثَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، اسْتَأْجَرَاهُ بِبَكْرٍ، ابْنِ لَبُونٍ- وَهُوَ خُنَيْسُ بْنُ جَابِرٍ- وَخَرَجَ مَعَ الْعَامِرِيّ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ كَوْثَرُ، وَحَمَلَا خُنَيْسُ بْنُ جَابِرٍ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَتَبَا يَذْكُرَانِ الصّلْحَ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ أَبَا بِصَيْرٍ، فَلَمّا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَا بَعْدَ أَبِي بِصَيْرٍ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ فَقَالَ خُنَيْسٌ: يَا مُحَمّدُ، هَذَا كِتَابٌ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَإِذَا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وهو أسيد بن حارثة» ، وما أثبتناه من البلاذري يروى عن الواقدي. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 211) .(2/624)
وَأَشْهَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك، مِنْ رَدّ مَنْ قَدِمَ عَلَيْك مِنْ أَصْحَابِنَا، فَابْعَثْ إلَيْنَا بِصَاحِبِنَا،
فَأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بِصَيْرٍ أَنْ يَرْجِعَ مَعَهُمْ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بِصَيْرٍ، إنّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْت، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنّ اللهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، قَالَ أَبُو بِصَيْرٍ:
يَا رَسُولَ اللهِ، تَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
انْطَلِقْ يَا أَبَا بِصَيْرٍ، فَإِنّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَك مَخْرَجًا. فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعَامِرِيّ وَصَاحِبِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُسِرّونَ إلَى أَبِي بِصَيْرٍ: يَا أَبَا بِصَيْرٍ، أَبْشِرْ! فَإِنّ اللهَ جَاعِلٌ لَك مَخْرَجًا، وَالرّجُلُ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ، فَافْعَلْ وَافْعَلْ! يَأْمُرُونَهُ بِاَلّذِينَ مَعَهُ. فَخَرَجُوا حَتّى كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ- انْتَهَوْا إلَيْهَا عِنْدَ صَلَاةِ الظّهْرِ- فَدَخَلَ أَبُو بِصَيْرٍ مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ، وَمَعَهُ زَادٌ لَهُ يَحْمِلُهُ مِنْ تَمْرٍ، فَمَالَ إلَى أَصْلِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ زَادَهُ فَجَعَلَ يَتَغَدّى، وَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ:
اُدْنُوَا فَكُلَا! فَقَالَا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك. فَقَالَ: وَلَكِنْ لَوْ دَعَوْتُمُونِي إلَى طَعَامِكُمْ لَأَجَبْتُكُمْ وَأَكَلْت مَعَكُمْ. فَاسْتَحْيِيَا فَدَنَوْا وَوَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِي التّمْرِ مَعَهُ، وَقَدّمَا سُفْرَةً لَهُمَا فِيهَا كِسْرٌ، فَأَكَلُوا جَمِيعًا، وَآنَسَهُمْ، وَعَلّقَ الْعَامِرِيّ بِسَيْفِهِ عَلَى حَجَرٍ فِي الْجِدَارِ، فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ لِلْعَامِرِيّ: يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ، مَا اسْمُك؟ فَقَالَ: خُنَيْسٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ جَابِرٍ. فَقَالَ:
يَا أَبَا جَابِرٍ أَصَارِمٌ سَيْفَك هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: نَاوِلْنِيهِ أَنْظُرْ إلَيْهِ إنْ شِئْت، فَنَاوَلَهُ الْعَامِرِيّ وَكَانَ أَقْرَبَ إلَى السّيْفِ مِنْ أَبِي بِصَيْرٍ، فَأَخَذَ(2/625)
أَبُو بِصَيْرٍ بِقَائِمِ السّيْفِ، وَالْعَامِرِيّ مُمْسِكٌ بِالْجَفْنِ، فَعَلَاهُ بِهِ حَتّى بَرَدَ، وَخَرَجَ كَوْثَرُ هَارِبًا يَعْدُو نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ أَبُو بِصَيْرٍ فِي أَثْرِهِ، فَأَعْجَزَهُ حَتّى سَبَقَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ أَبُو بِصَيْرٍ: وَاَللهِ لَوْ أَدْرَكْته لَأَسْلَكْته طَرِيقَ صَاحِبِهِ! فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ إذْ طَلَعَ الْمَوْلَى يَعْدُو، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ رَأَى ذُعْرًا! فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ويحك، مالك؟ قَالَ:
قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي، وَأَفْلَتْ مِنْهُ وَلَمْ أَكَدْ! وَكَانَ الّذِي حَبَسَ أَبَا بِصَيْرٍ احْتِمَالُ سَلَبِهِمَا عَلَى بَعِيرِهِمَا، فَلَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ قَائِمًا حَتّى طَلَعَ أَبُو بِصَيْرٍ، فَأَنَاخَ الْبَعِيرَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ- سَيْفِ الْعَامِرِيّ- فَوَقَفَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ: وَفَتْ ذِمّتُك وَأَدّى اللهُ عَنْك، وَقَدْ أَسَلّمْتنِي بِيَدِ الْعَدُوّ، وَقَدْ امْتَنَعْت بِدِينِي مِنْ أَنْ أُفْتَنَ، وَتَبَغّيْتَ بِي أَنْ [ (1) ] أَكْذِبَ بِالْحَقّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلُ أُمّهِ، مِحَشّ حَرْبٍ [ (2) ] لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ! وَجَاءَ أَبُو بِصَيْرٍ بِسَلَبِ الْعَامِرِيّ خُنَيْسِ بْنِ جَابِرٍ وَرَحْلِهِ وَسَيْفِهِ، فَقَالَ:
خَمّسْهُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي إذَا خَمّسْته رَأَوْنِي لَمْ أُوَفّ لَهُمْ بِاَلّذِي عَاهَدْتهمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ شَأْنُك بِسَلَبِ صَاحِبِك! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْثَرَ: تَرْجِعُ بِهِ إلَى أَصْحَابِك. فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، قَدْ أَهَمّنِي نَفْسِي، مَا لِي بِهِ قُوّةٌ وَلَا يَدَانِ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أو» .
[ (2) ] فى الأصل: «محسن حرب» . يقال: حش الحرب إذا أسعرها وهيجها، تشبيها بإسعار النار.
(النهاية، ج 1، ص 240) .(2/626)
لِأَبِي بِصَيْرٍ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت! فَخَرَجَ أَبُو بِصَيْرٍ حَتّى أَتَى الْعِيصَ، فَنَزَلَ مِنْهُ نَاحِيَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ إلَى الشّامِ. قَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: فَخَرَجْت وَمَا مَعِي مِنْ الزّادِ إلّا كَفّ مِنْ تَمْرٍ فَأَكَلْتهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، وَكُنْت آتِي السّاحِلَ فَأُصِيبُ حِيتَانًا قَدْ أَلْقَاهَا الْبَحْرُ فَآكُلُهَا. وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ قَدْ حُبِسُوا بِمَكّةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَلْحَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بِصَيْرٍ «وَيْلُ أُمّهِ، مِحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ» ، فَجَعَلُوا يَتَسَلّلُونَ إلَى أَبِي بِصَيْرٍ.
وَكَانَ الّذِي كَتَبَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ بِالسّاحِلِ عَلَى طَرِيقِ عِيرِ قُرَيْشٍ، فَلَمّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ عُمَرَ جَعَلُوا يُتَسَلّلُونَ رَجُلًا رَجُلًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَبِي بِصَيْرٍ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ، قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، فَكَانُوا قَدْ ضَيّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ، لَا يَظْفَرُونَ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلّا قَتَلُوهُ، وَلَا تَمُرّ عِيرٌ إلّا اقْتَطَعُوهَا، حَتّى أَحْرَقُوا قُرَيْشًا، لَقَدْ مَرّ رَكْبٌ يُرِيدُونَ الشّامَ مَعَهُمْ ثَلَاثُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ هَذَا آخِرُ مَا اقْتَطَعُوا، لَقَدْ أَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْعَثُوا بِالْخُمُسِ إلَى رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ أَبُو بِصَيْرٍ: لَا يَقْبَلُهُ رَسُولُ اللهِ، قَدْ جِئْت بِسَلَبِ الْعَامِرِيّ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَقَالَ «إنّي إذَا فَعَلْت هَذَا لَمْ أَفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ» . وَكَانُوا قَدْ أَمّرُوا عَلَيْهِمْ أَبَا بِصَيْرٍ، فَكَانَ يُصَلّي بِهِمْ وَيُفَرّضُهُمْ [ (1) ] وَيُجَمّعُهُمْ، وَهُمْ سَامِعُونَ لَهُ مُطِيعُونَ. فَلَمّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قتل أبى بصير المعامرىّ اشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاَللهِ مَا صَالَحْنَا محمّدا على هذا.
__________
[ (1) ] أى يفصل الحلال والحرام والحدود. (لسان العرب، ج 9، ص 67) . ويجمعهم: أى يصلى بهم الجمعة، (لسان العرب ج 9، ص 410) .(2/627)
قَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ بَرِئَ مُحَمّدٌ مِنْهُ، قَدْ أَمْكَنَ صَاحِبُكُمْ فَقَتَلَهُ بِالطّرِيقِ، فَمَا عَلَى مُحَمّدٍ فِي هَذَا؟ فَقَالَ سُهَيْلٌ: قَدْ وَاَللهِ عَرَفْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ أَوْفَى، وَمَا أُوتِينَا إلّا مِنْ قِبَلِ الرّسُولَيْنِ. قَالَ: فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَالَ: وَاَللهِ، لَا أُؤَخّرُ ظَهْرِي حَتّى يُودَى هَذَا الرّجُلُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّ هَذَا لَهُوَ السّفَهُ! وَاَللهِ لَا يُودَى! ثَلَاثًا. وَأَنّى [ (1) ] قُرَيْشٌ تَدِيهِ، وَإِنّمَا بَعَثَتْهُ بَنُو زُهْرَةَ؟ فَقَالَ سُهَيْلٌ:
قَدْ وَاَللهِ صَدَقْت، مَا دِيَتُهُ إلّا عَلَى بَنِي زُهْرَةَ، وَهُمْ بَعَثُوهُ وَلَا يُخْرِجُ دِيَتَهُ غَيْرُهُمْ قَصْرَةً [ (2) ] ، لِأَنّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ، فَهُمْ أَوْلَى مِنْ عَقْلِهِ. فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَاَللهِ لَا نَدِيهِ، مَا قَتَلْنَا وَلَا أَمَرْنَا بِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا مُتّبِعٌ لِمُحَمّدٍ فَأَرْسَلُوا إلَى مُحَمّدٍ يَدِيهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا، مَا عَلَى مُحَمّدٍ دِيَةٌ وَلَا غُرْمٌ، قَدْ بَرِئَ مُحَمّدٌ، مَا كَانَ عَلَى مُحَمّدٍ أَكْثَرُ مِمّا صَنَعَ، لَقَدْ أَمْكَنَ الرّسُولَيْنِ مِنْهُ. فَقَالَ الْأَخْنَسُ: إنْ وَدَتْهُ قُرَيْشٌ كُلّهَا كَانَتْ زُهْرَةُ بَطْنًا [ (3) ] مِنْ قُرَيْشٍ تَدِيهِ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَدِهِ قُرَيْشٌ فَلَا نَدِيهِ أَبَدًا. فَلَمْ تَخْرُجْ لَهُ دِيَةٌ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام الْفَتْحِ. فَقَالَ مَوْهَبُ بْنُ رِيَاحٍ، فِيمَا قَالَ سُهَيْلٌ فِي بَنِي زُهْرَةَ، وَمَا أَرَادَ أَنْ يُغَرّمَهُمْ مِنْ الدّيَةِ:
أَتَانِي عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْوُ قَوْلٍ ... ليُوقظَني وَمَا بي منْ رُقَاد
فَإنْ كُنْتَ الْعتَابَ تُريدُ منّي ... فَمَا بَيْني وَبَيْنَكَ منَ بعَاد
مَتَى تَغْمزْ قَنَاتي لاَ تَجدْني ... ضَعيفَ الرّأْي في الْكُرَب الشّدَاد
يُسَامي الْأَكْرَمينَ بعزّ قَوْم ... هُمُ الرّأْسُ الْمُقَدّمُ في الْعبَاد
أَنْشَدَنِيهَا عَبْدُ اللهِ بن أبى عبيدة، وسمعتهم يثبتونها.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وأبى» .
[ (2) ] أى دون الناس. (لسان العرب، ج 6، ص 411) .
[ (3) ] فى الأصل: «بطن» .(2/628)
فَلَمّا بَلَغَ أَبُو بِصَيْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَا بَلَغَ مِنْ الْغَيْظِ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلًا، وَكَتَبَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كِتَابًا يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ: أَلّا تُدْخِلَ أَبَا بِصَيْرٍ وَأَصْحَابَهُ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهِمْ؟
وَكَتَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بِصَيْرٍ أَنْ يَقْدَمَ بِأَصْحَابِهِ مَعَهُ، فَجَاءَهُ الْكِتَابُ وَهُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَهُوَ يَمُوتُ، فَمَاتَ وَهُوَ فِي يَدَيْهِ، فَقَبَرَهُ أَصْحَابُهُ هُنَاكَ وَصَلّوْا عَلَيْهِ، وَبَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فِيهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَلَمّا دَخَلَ الْحَرّةَ عَثَرَ فَانْقَطَعَتْ إصْبَعُهُ فَرَبَطَهَا وَهُوَ يَقُولُ:
هَلْ أَنْتِ إلّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيت
فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا. فَقَالَتْ أمّ سلمة: يا رسول الله، ايذن لِي أَبْكِي عَلَى الْوَلِيدِ. قَالَ: ابْكِي عَلَيْهِ!
قَالَ: فَجَمَعَتْ النّسَاءَ وَصَنَعَتْ لَهُنّ [ (1) ] طَعَامًا، فَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ بُكَائِهَا:
يَا عَيْنُ فَابْكِي للول ... د بن الوليد بْنِ الْمُغِيرَهْ
مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِي ... دِ أَبِي الْوَلِيدِ كَفَى الْعَشِيرَهْ
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْدَادَ الْوَلِيدِ قَالَ: مَا اتّخَذُوا الْوَلِيدَ إلّا حَنَانًا.
وَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ قُرَشِيّةً خَرَجَتْ بَيْنَ أَبَوَيْهَا مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً إلَى اللهِ إلّا أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، كَانَتْ تُحَدّثُ تَقُولُ: كُنْت أَخْرُجُ إلَى بَادِيَةٍ لَنَا بِهَا أَهْلِي فَأُقِيمُ فِيهِمْ الثّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ التّنْعِيمِ- أَوْ قَالَتْ بِالْحِصْحَاصِ [ (2) ]- ثُمّ أَرْجِعُ إلَى أهلى فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لهم» .
[ (2) ] ويروى أيضا «الحصاص» ، وهو موضع بالحجاز. (معجم ما استعجم، ص 289) .(2/629)
السّيْرَ، فَخَرَجْت يَوْمًا مِنْ مَكّةَ كَأَنّي أُرِيدُ الْبَادِيَةَ الّتِي كُنْت فِيهَا، فَلَمّا رَجَعَ مَنْ تَبِعَنِي خَرَجْت حَتّى انْتَهَيْت إلَى الطّرِيقِ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَالَ:
أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَقُلْت: حَاجَتِي، فَمَا مَسْأَلَتُك وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ. فَلَمّا ذَكَرَ خُزَاعَةَ اطْمَأْنَنْت إلَيْهِ، لِدُخُولِ خُزَاعَةَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَقْدِهِ، فَقُلْت: إنّي امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أُرِيدُ اللّحُوقَ بِرَسُولِ اللهِ، وَلَا عِلْمَ لِي بِالطّرِيقِ. فَقَالَ: أَهْلُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ [ (1) ] ، أَنَا صَاحِبُك حَتّى أُورِدَك الْمَدِينَةَ. ثُمّ جَاءَنِي بِبَعِيرٍ فَرَكِبْته، فَكَانَ يَقُودُ بِي الْبَعِيرَ، لَا وَاَللهِ مَا يُكَلّمُنِي كَلِمَةً، حَتّى إذَا أَنَاخَ الْبَعِيرَ تَنَحّى عَنّي، فَإِذَا نَزَلْت جَاءَ إلَى الْبَعِيرِ فَقَيّدَهُ فِي الشّجِرَةِ وَتَنَحّى عَنّي [ (2) ] فِي الشّجَرَةِ، حَتّى [إذَا] كَانَ الرّوَاحُ جَذَعَ [ (3) ] الْبَعِيرُ فَقَرّبَهُ وَوَلّى عَنّي، فَإِذَا رَكِبْته أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَرَاءَهُ حَتّى نَنْزِلُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ! فَكَانَتْ تَقُولُ: نِعْمَ الْحَيّ خُزَاعَةُ! قَالَتْ: فَدَخَلْت عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُنْتَقِبَةٌ فَمَا عَرَفْتنِي حَتّى انْتَسَبْت، وَكَشَفْت النّقَابَ فَالْتَزَمَتْنِي وَقَالَتْ: هَاجَرْت إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَرُدّنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا رَدّ غَيْرِي مِنْ الرّجَالِ، أَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ، وَأَبَا بِصَيْرٍ، وَحَالُ الرّجَالِ يَا أُمّ سَلَمَةَ لَيْسَ كَحَالِ النّسَاءِ، وَالْقَوْمُ مُصَبّحِي، قَدْ طَالَتْ غيبتي عنهم اليوم
__________
[ (1) ] ربما أراد بذلك: نحن أهل الليل والنهار، العارفون بمسالك الطريق ليلا ونهارا.
[ (2) ] فى الأصل: «تنحى إلى» .
[ (3) ] فى الأصل: «خدع» . وجذع البعير: حبسه على غير علف. (القاموس المحيط، ج 3، ص 12) .(2/630)
ثَمَانِيّةَ أَيّامٍ مُنْذُ فَارَقْتهمْ، فَهُمْ يَبْحَثُونَ قَدْرَ مَا كُنْت أَغِيبُ ثُمّ يَطْلُبُونَنِي، فَإِنْ لَمْ يَجِدُونِي رَحَلُوا إلَيّ فَسَارُوا ثَلَاثًا.
فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ خَبَرَ أُمّ كُلْثُومٍ، فَرَحّبَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ أُمّ كُلْثُومٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي فَرَرْت بِدِينِي إلَيْك فَامْنَعْنِي وَلَا تَرُدّنِي إلَيْهِمْ يَفْتِنُونِي وَيُعَذّبُونِي، فَلَا صَبْرَ لِي عَلَى الْعَذَابِ، إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وَضَعْفُ النّسَاءِ إلَى مَا تَعْرِفُ، وَقَدْ رَأَيْتُك رَدَدْت رَجُلَيْنِ إلَى الْمُشْرِكِينَ حَتّى امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، وَأَنَا امْرَأَةٌ! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللهَ نَقَضَ الْعَهْدَ فِي النّسَاءِ. وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِنّ «الْمُمْتَحِنَةَ» ، وَحَكَمَ فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ رَضَوْهُ كُلّهُمْ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدّ مَنْ جَاءَ مِنْ الرّجَالِ، وَلَا يَرُدّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ النّسَاءِ. وَقَدِمَ أَخَوَاهَا مِنْ الْغَدِ، الْوَلِيدُ وَعُمَارَةُ ابْنَا عُقْبَةَ بْنِ أبى معيط، فقالا: يا محمّد، فلنا بشرطنا وَمَا عَاهَدْتنَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: قَدْ نَقَضَ اللهُ! فَانْصَرَفَا.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَكْتُبُ إلَى هُنَيْدٍ صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [ (1) ] ، فَكَتَبَ إلَيْهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ، فَكَانَ يَرُدّ الرّجَالَ، فَلَمّا هَاجَرَ النّسَاءُ أَبَى اللهُ ذَلِكَ أَنْ يَرُدّهُنّ إذَا اُمْتُحِنّ بِمِحْنَةِ الْإِسْلَامِ، فَزَعَمَتْ أَنّهَا جَاءَتْ رَاغِبَةً فِيهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يردّ صدقاتهنّ
__________
[ (1) ] سورة 60 الممتحنة 10.(2/631)
إلَيْهِمْ [ (1) ] إنْ احْتَبَسْنَ عَنْهُمْ [ (2) ] ، وَأَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَ الّذِي يَرُدّونَ عَلَيْهِمْ [ (3) ] إنْ فَعَلُوا، فَقَالَ: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [ (4) ] وَصَبّحَهَا أَخَوَاهَا مِنْ الْغَدِ [ (5) ] فَطَلَبَاهَا، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدّهَا إلَيْهِمْ، فَرَجَعَا إلَى مَكّةَ، فَأَخْبَرَا قُرَيْشًا، فَلَمْ يَبْعَثُوا فِي ذَلِكَ أَحَدًا، ورضوا بأن تحبس النساء وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا [ (6) ] ، قَالَ: فَإِنْ فَاتَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفّارِ، فَإِنْ أَتَتْكُمْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فَأَصَبْتُمْ فَعَوّضُوهُمْ مِمّا أَصَبْتُمْ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ الّتِي أَتَتْكُمْ، فَأَمّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرّوا بِحُكْمِ اللهِ، وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُقِرّوا بِذَلِكَ، وَأَنّ مَا ذَابَ [ (7) ] لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدَاقِ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَيْدِيكُمْ. وَلَسْنَا نَعْلَمُ امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاتَتْ زَوْجَهَا باللّحقوق بِالْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إيمَانِهَا، وَلَكِنّهُ حُكْمٌ حَكَمَ اللهُ بِهِ لِأَمْرٍ كَانَ، وَاَللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [ (8) ] ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَطَلّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ، فَتَزَوّجَهَا مُعَاوِيَةُ بن أبى سفيان، وطلّق عمر
__________
[ (1) ] أى إلى رجالهم.
[ (2) ] فى الأصل: «إن احتبسوا عنهم»
[ (3) ] فى الأصل: «وأن يرد عليهم مثل الذي يرد عليهم» ، وما أثبتناه من ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 341) .
[ (4) ] سورة 60 الممتحنة 10
[ (5) ] فى الأصل: «من الرد» .
[ (6) ] سورة 60 الممتحنة 11.
[ (7) ] ذاب: أى وجب. (النهاية، ج 2، ص 51) .
[ (8) ] سورة 60 الممتحنة 10(2/632)
أَيْضًا بِنْتَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيّةَ، فَتَزَوّجَهَا أَبُو جَهْمِ بن حذيفة، وطلّق عياض ابن غَنْمٍ الْفِهْرِيّ أُمّ الْحَكَمِ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمئِذٍ، فَتَزَوّجَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ الثّقَفِيّ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أُمّ الْحَكَمِ.
غَزْوَةُ خَيْبَرَ
[ (1) ] حَدّثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حَيّوَيْهِ لَفْظًا، سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو القاسم عبد الوهاب ابن عِيسَى بْنِ أَبِي حَيّةَ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ الْوَاقِدِيّ، قَالَ:
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَعَبْدُ الرحمن ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يحيى بن سهل، وعائذ ابن يَحْيَى، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيُونُسُ وَيَعْقُوبُ ابْنَا مُحَمّدٍ الظّفَرِيّانِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدِ بْنِ الْمُعَلّى الزّرَقِيّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ ابْنَا مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّينَ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ، فَكَتَبْت مَا حدّثونى.
__________
[ (1) ] خيبر: على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام. (معجم البلدان، ج 3، ص 495) .(2/633)
قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجّةِ تَمَامَ سَنَةَ سِتّ [ (1) ] ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمِ، وَخَرَجَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ- وَيُقَالُ خَرَجَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ- إلَى خَيْبَرَ.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِالتّهَيّؤِ لِلْغَزْوِ فَهُمْ مُجِدّونَ، وَتَجَلّبَ مَنْ حَوْلَهُ يَغْزُونَ مَعَهُ، وَجَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ رَجَاءَ الْغَنِيمَةِ، فَقَالُوا: نَخْرُجُ مَعَك! وَقَدْ كَانُوا تَخَلّفُوا عَنْهُ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَرْجَفُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَخْرُجُ مَعَك إلَى خَيْبَرَ، إنّهَا رِيفُ الْحِجَازِ طَعَامًا وَوَدَكًا [ (2) ] وَأَمْوَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَخْرُجُوا مَعِي إلّا رَاغِبِينَ فِي الْجِهَادِ، فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلَا. وَبَعَثَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا يَخْرُجَنّ مَعَنَا إلّا رَاغِبٌ فِي الْجِهَادِ، فَأَمّا الْغَنِيمَةُ فَلَا!
فَلَمّا تَجَهّزَ النّاسُ إلَى خَيْبَرَ شَقّ ذَلِكَ عَلَى يهود المدينة الذين هُمْ مُوَادِعُونَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفُوا أَنّهُمْ إذَا دَخَلُوا خَيْبَرَ أَهَلَكَ اللهُ خَيْبَرَ كَمَا أَهَلَكَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنّضِيرَ وَقُرَيْظَةَ. قَالَ: فَلَمّا تَجَهّزْنَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ من يهود المدينة له عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقّ إلّا لَزِمَهُ، وَكَانَ لِأَبِي الشّحْمِ الْيَهُودِيّ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ، فَلَزِمَهُ، فَقَالَ: أَجّلْنِي فَإِنّي أَرْجُو أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْك فَأَقْضِيَك حَقّك إنْ شَاءَ اللهُ، إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَ نَبِيّهُ خَيْبَرَ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا الشّحْمِ، إنّا نَخْرُجُ إلَى رِيفِ الْحِجَازِ فِي الطّعَامِ وَالْأَمْوَالِ. فَقَالَ أَبُو الشّحْمِ حَسَدًا وَبَغْيًا: تَحْسِبُ أَنّ قِتَالَ خَيْبَرَ مِثْلُ مَا تَلْقَوْنَهُ مِنْ الْأَعْرَابِ؟ فِيهَا والتوراة عشرة آلاف مقاتل!
__________
[ (1) ] فى الأصل: «تما سنة ست سنين» .
[ (2) ] الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. (النهاية، ج 4، ص 202) .(2/634)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: أَيْ عَدُوّ اللهِ! تُخَوّفْنَا بِعَدُوّنَا وَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا وَجِوَارِنَا؟
وَاَللهِ لَأَرْفَعَنّكَ إلَى رَسُولِ اللهِ! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَسْمَعُ إلَى مَا يَقُولُ هَذَا الْيَهُودِيّ؟ وَأَخْبَرْته بِمَا قَالَ أَبُو الشّحْمِ. فَأَسْكَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْئًا، إلّا أَنّي رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ لَمْ أَسْمَعْهُ،
فَقَالَ الْيَهُودِيّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، هَذَا قَدْ ظَلَمَنِي وَحَبَسَنِي بِحَقّي وَأَخَذَ طَعَامِي! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَعْطِهِ حَقّهُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَخَرَجْت فَبِعْت أَحَدَ ثَوْبَيْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَطَلَبْت بَقِيّةَ حَقّهِ فَقَضَيْته، وَلَبِسْت ثَوْبِي الْآخَرَ، وَكَانَتْ عَلَيّ عِمَامَةٌ فَاسْتَدْفَأْت [ (1) ] بِهَا. وَأَعْطَانِي سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ ثَوْبًا آخَرَ، فَخَرَجْت فِي ثَوْبَيْنِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَفّلَنِي اللهُ خَيْرًا، وَغَنِمْت امْرَأَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبِي الشّحْمِ قَرَابَةٌ فَبِعْتهَا مِنْهُ بِمَالٍ.
وَجَاءَ أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا نَفَقَةٌ وَلَا زَادَ وَلَا توب أَخْرُجُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقِيقَة سُنْبُلَانِيّة، [ (2) ] فَبَاعَهَا بِثَمَانِيّةِ دَرَاهِمَ، فَابْتَاعَ تَمْرًا بِدِرْهَمَيْنِ لَزَادَهُ وَتَرَكَ لِأَهْلِهِ نَفَقَةً دِرْهَمَيْنِ، وَابْتَاعَ بُرْدَةً بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ خَيْبَرَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ إذْ أَبْصَرَ بِرَجُلٍ يَسِيرُ أَمَامَهُ، عَلَيْهِ شَيْءٌ يَبْرُقُ فِي الْقَمَرِ كَأَنّهُ فِي الشّمْسِ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
من هذا؟ فَقِيلَ: أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «استدمرت» .
[ (2) ] فى الأصل: «شقيقة سيلانية» ، والشقيقة: تصغير شقة وهي جنس من الثياب. وسنبلانية:
أى سابغة الطول، سنبل ثوبه إذا أسبله وجره من خلفه أو أمامه، والنون زائدة، ويحتمل أن يكون منسوبا إلى موضع. (النهاية، ج 2، ص 184، 231) .(2/635)
أَدْرَكُوهُ! [قَالَ] : فَأَدْرَكُونِي فَحَبَسُونِي، وَأَخَذَنِي مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ، وَظَنَنْت أَنّهُ قَدْ نَزَلَ فِيّ أَمْرٌ مِنْ السّمَاءِ، فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ مَا فَعَلْت حَتّى لَحِقَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فقال: مالك تَقْدُمُ النّاسَ لَا تَسِيرُ مَعَهُمْ؟
قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ نَاقَتِي نَجِيبَةٌ. قَالَ: فَأَيْنَ الشّقِيقَةُ الّتِي كَسَوْتُك؟
فَقُلْت: بِعْتهَا بِثَمَانِيّةِ دَرَاهِمَ، فَتَزَوّدَتْ بِدِرْهَمَيْنِ تَمْرًا، وَتَرَكْت لِأَهْلِي نَفَقَةِ دِرْهَمَيْنِ، وَاشْتَرَيْت بُرْدَةً بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: أَنْتَ وَاَللهِ يَا أَبَا عَبْسٍ وَأَصْحَابُك مِنْ الْفُقَرَاءِ! وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ سَلّمْتُمْ وَعِشْتُمْ قَلِيلًا لَيَكْثُرَنّ زَادَكُمْ، وَلَيَكْثُرَنّ مَا تَتْرُكُونَ لِأَهْلِيكُمْ، وَلَتَكْثُرَنّ دَرَاهِمُكُمْ وَعَبِيدُكُمْ، وَمَا ذَاكَ بِخَيْرٍ لَكُمْ!
قَالَ أَبُو عَبْسٍ: فَكَانَ وَاَللهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ ثَمَانُونَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فَقَالَ قَائِلٌ: رَسُولُ اللهِ بِخَيْبَرَ وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ. فَقُلْت: لَا أَسْمَعُ بِهِ يَنْزِلُ مَكَانًا أَبَدًا إلّا جِئْته. فَتَحَمّلْنَا حَتّى جِئْنَاهُ بِخَيْبَرَ فَنَجِدُهُ قَدْ فَتَحَ النّطَاةَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ أَهْلَ الْكَتِيبَةِ، فَأَقَمْنَا حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا. وَكُنّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَصَلّيْنَا الصّبْحَ خَلْفَ سِبَاعِ بْنِ عُرْفُطَةَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَرَأَ فِي الرّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ مَرْيَمَ وَفِي الْآخِرَةِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [ (1) ] ، فَلَمّا قَرَأَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [ (2) ] قُلْت: تَرَكْت عَمّي بِالسّرَاةِ لَهُ مِكْيَالَانِ، مكيال
__________
[ (1) ] سورة 83 المطففين 1
[ (2) ] سورة 83 المطففين 2.(2/636)
يُطَفّفُ بِهِ وَمِكْيَالٌ يَتَبَخّسُ بِهِ [ (1) ] . وَيُقَالُ: اسْتَخْلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذَرّ، وَالثّبْتُ عِنْدَنَا سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ.
وَكَانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ لَا يَظُنّونَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ لِمَنَعَتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، كَانُوا يَخْرُجُونَ كُلّ يَوْمٍ عَشْرَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ صُفُوفًا ثُمّ يَقُولُونَ: مُحَمّدٌ يَغْزُونَا؟ هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! وَكَانَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ يَقُولُونَ حِينَ تَجَهّزَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ:
مَا أَمْنَعُ وَاَللهِ خَيْبَرَ مِنْكُمْ! لَوْ رَأَيْتُمْ خَيْبَرَ وَحُصُونَهَا وَرِجَالَهَا لَرَجَعْتُمْ قَبْلَ أَنْ تُصَلّوا إلَيْهِمْ، حُصُونٌ شَامِخَاتٌ فِي ذُرَى الْجِبَالِ، وَالْمَاءُ فِيهَا وَاتِنٌ [ (2) ] ، إنّ بِخَيْبَرَ لِأَلْفِ دَارِعٍ، مَا كَانَتْ أَسَدٌ وَغَطْفَان يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً إلّا بِهِمْ، فَأَنْتُمْ تُطِيقُونَ خَيْبَرَ؟ فَجَعَلُوا يُوحَوْنَ بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ وَعَدَهَا اللهُ نَبِيّهُ أَنْ يَغْنَمَهُ إيّاهَا.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَعَمّى اللهُ عَلَيْهِمْ مَخْرَجَهُ إلّا بِالظّنّ حَتّى نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَاتِهِمْ لَيْلًا. وَكَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ حَيْثُ أَحَسّوا بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ الْيَهُودِيّ بِأَنْ يُعَسْكِرُوا خَارِجًا مِنْ حُصُونِهِمْ وَيَبْرُزُوا لَهُ، فَإِنّي قَدْ رَأَيْت مَنْ سَارَ إلَيْهِ مِنْ الْحُصُونِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَقَاءٌ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَبْيٍ وَمِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ صَبْرًا.
فَقَالَتْ الْيَهُودُ: إنّ حُصُونَنَا هَذِهِ لَيْسَتْ مِثْلَ تِلْكَ، هَذِهِ حصون منيعة فى
__________
[ (1) ] تبخس: أى نقص. (القاموس المحيط، ج 2، ص 199) .
[ (2) ] فى الأصل: «وانق» ، والتصحيح هو ما يقتضيه السياق. ووتن الماء وغيره: أى دام ولم ينقطع (الصحاح، ص 2212) .(2/637)
ذُرَى الْجِبَالِ. فَخَالَفُوهُ وَثَبَتُوا فِي حُصُونِهِمْ، فَلَمّا صَبّحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَايَنُوهُ أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَلَكَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، ثُمّ أَخَذَ عَلَى الزّغَابَةَ، ثُمّ عَلَى نَقْمَى، ثُمّ سَلَكَ الْمُسْتَنَاخَ، ثُمّ كَبَسَ الْوَطِيحَ [ (1) ] ، وَمَعَهُمْ دَلِيلَانِ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا حَسِيلُ بْنُ خَارِجَةَ، وَالْآخَرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ نُعَيْمٍ، خَرَجَ عَلَى عَصْرٍ [ (2) ] وَبِهِ مَسْجِدٌ، ثُمّ عَلَى الصّهْبَاءِ [ (3) ] . فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ قَالَ لِعَامِرِ بْنِ سِنَانٍ: انْزِلْ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ فَخُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِك [ (4) ] . فَاقْتَحَمَ عَامِرٌ عَنْ رَاحِلَتِهِ، ثُمّ ارْتَجَزَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:
اللهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا [ (5) ] ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
فَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً [ (6) ] عَلَيْنَا ... وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا
إنّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا ... وَبِالصّيَاحِ عَوّلُوا عَلَيْنَا
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُك اللهُ! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وَجَبَتْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ:
لَوْلَا مُتْعَتُنَا [بِهِ] يَا رَسُولَ اللهِ! فَاسْتُشْهِدَ عَامِرٌ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَكَانَ سَلَمَةُ بن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ثم كبس الوطه» . وكبس دار فلان: أغار عليها. (الصحاح، ص 966) .
والوطيح: من أعظم حصون خيبر، سمى بوطيح بن مازن. (وفاء الوفا، ج 2، ص 392) .
[ (2) ] عصر: جبل بين المدينة ووادي الفرع. (وفاء الوفا، ج 2، ص 346) .
[ (3) ] الصهباء: موضع بينه وبين خيبر روحة. (معجم البلدان، ج 5، ص 401) .
[ (4) ] من هناتك: أى من كلماتك أو من أراجيزك، وهي جمع هنة. (النهاية، ج 4، ص 256) .
[ (5) ] هكذا فى الأصل. وانظر لتصويب الوزن صحيح مسلم (ص 1428) ، وشرح الزرقانى على المواهب اللدنية (ج 2، ص 262) .
[ (6) ] السكينة هنا الوقار والتثبث. (شرح أبى ذر، ص 344) .(2/638)
الْأَكْوَعِ يَقُولُ: لَمّا كُنّا دُونَ خَيْبَرَ نَظَرْت إلَى ظَبْيٍ حَاقِفٍ [ (1) ] فِي ظِلّ شَجَرَةٍ، فَأَتَفَرّدُ لَهُ بِسَهْمٍ فَأَرْمِيهِ فَلَمْ يَصْنَعْ سَهْمِي شَيْئًا، وَأُذْعِرَ الظّبْيُ فَيَلْحَقُنِي عَامِرٌ فَفَوّقَ لَهُ السّهْمَ فَوَضَعَ السّهْمَ فِي جَنْبِ الظّبْيِ، وَيَنْقَطِعُ وَتَرُ الْقَوْسِ فَيَعْلَقُ رِصَافُهُ بِجَنْبِهِ، فَلَمْ يُخَلّصْهُ إلّا بَعْدَ شَدّ. وَوَقَعَ فِي نَفْسِي يَوْمئِذٍ طِيَرَةٌ وَرَجَوْت لَهُ الشّهَادَةَ فَبَصُرْت رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ فَيُصِيبُ نَفْسَهُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ: أَلّا تُحَرّكَ بِنَا الرّكْبَ! فَنَزَلَ عَبْدُ اللهِ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ:
وَاَللهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ ارْحَمْهُ! فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ الواقدىّ: قتل يوم مؤتة شهيدا.
قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصّهْبَاءِ فَصَلّى بِهَا الْعَصْرَ ثُمّ دَعَا بِالْأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إلّا بِالسّوِيقِ وَالتّمْرِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلُوا مَعَهُ، ثُمّ قَامَ إلَى الْمَغْرِبِ فَصَلّى بِالنّاسِ وَلَمْ يَتَوَضّأْ، ثُمّ صَلّى الْعِشَاءَ بِالنّاسِ، ثُمّ دَعَا بِالْأَدِلّاءِ فَجَاءَ حُسَيْلُ بْنُ خَارِجَةَ الْأَشْجَعِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُعَيْمٍ الْأَشْجَعِيّ. قَالَ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِحُسَيْلٍ: امْضِ أَمَامَنَا حَتّى تَأْخُذَنَا صُدُورُ الْأَوْدِيَةِ، حَتّى نَأْتِيَ خَيْبَرَ مِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّامِ، فَأَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشّامِ وَبَيْنَ حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ.
فَقَالَ حُسَيْلٌ: أَنَا أَسْلُكُ بِك. فَانْتَهَى بِهِ إلَى مَوْضِعٍ لَهُ طُرُقٌ، فَقَالَ لَهُ:
__________
[ (1) ] ظبى حاقف: رابض فى حقف من الرمل، والحقف: المعوج من الرمل أو الرمل العظيم المستدير، أو المستطيل المشرف. (القاموس المحيط، ج 3، ص 129) .(2/639)
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ لَهَا طُرُقًا يُؤْتَى مِنْهَا كُلّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمّهَا لِي! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَالِاسْمَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الطّيَرَةَ وَالِاسْمَ الْقَبِيحَ. فَقَالَ الدّلِيلُ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا حَزَنٌ. قَالَ: لَا تَسْلُكْهَا! قَالَ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا شاش. قَالَ:
لَا تَسْلُكْهَا! قَالَ: لَهَا طَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا حَاطِبٌ. قَالَ: لَا تَسْلُكْهَا! قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ أَسَمَاءً أَقْبَحَ! سَمّ لِرَسُولِ اللهِ! قَالَ:
لَهَا طَرِيقٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَبْقَ غَيْرُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: سَمّهَا. قَالَ: اسْمُهَا مَرْحَبٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ اُسْلُكْهَا! قَالَ عُمَرُ: أَلّا سَمّيْت هَذَا الطّرِيقَ أَوّلَ مَرّةٍ! وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عبّاد بن بشر فِي فَوَارِسَ طَلِيعَةٍ، فَأَخَذَ عَيْنًا لِلْيَهُودِ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ: مَنْ [ (1) ] أَنْتَ؟ قَالَ: بَاغٍ أَبْتَغِي أَبْعِرَةً ضَلّتْ لِي، أَنَا عَلَى أَثَرِهَا. قَالَ لَهُ عَبّادٌ: أَلَك عِلْمٌ بِخَيْبَرَ؟ قَالَ:
عَهْدِي بِهَا حَدِيثٌ، فِيمَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ؟ قَالَ: عَنْ الْيَهُودِ. قَالَ: نَعَمْ، كَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ سَارُوا فِي حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، فَاسْتَنْفَرُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً، فَجَاءُوا مُعَدّينَ مُؤَيّدِينَ [ (2) ] بِالْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ يَقُودُهُمْ عُتْبَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، وَفِيهَا عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْحُصُونِ الّتِي لَا تُرَامُ، وَسِلَاحٌ وَطَعَامٌ كَثِيرٌ لَوْ حُصِرُوا لِسِنِينَ لَكَفَاهُمْ، وَمَاءٌ وَاتِنٌ يَشْرَبُونَ فِي حُصُونِهِمْ، مَا أَرَى لِأَحَدٍ بِهِمْ طَاقَةً. فَرَفَعَ عبّاد بن بشر السّوْطَ. فَضَرَبَهُ ضَرْبَاتٍ وَقَالَ: مَا أَنْتَ إلّا عَيْنٌ لَهُمْ، اُصْدُقْنِي وَإِلّا ضَرَبْت عُنُقَك! فَقَالَ الأعرابىّ: أفتؤمّني على أن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ما أنت» .
[ (2) ] فى الأصل: «مودين» .(2/640)
أَصْدُقَك؟ قَالَ عَبّادٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيّ: الْقَوْمُ مَرْعُوبُونَ مِنْكُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ لِمَا قَدْ صَنَعْتُمْ بِمَنْ كَانَ بِيَثْرِبَ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِنّ يَهُودَ يَثْرِبَ بَعَثُوا ابْنَ عَمّ لِي وَجَدُوهُ بِالْمَدِينَةِ، قَدْ قَدِمَ بِسِلْعَةٍ يَبِيعُهَا، فَبَعَثُوهُ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ يُخْبِرُونَهُ [ (1) ] بِقِلّتِكُمْ وَقِلّةِ خَيْلِكُمْ وَسِلَاحِكُمْ. [وَيَقُولُونَ لَهُ] :
فَاصْدُقُوهُمْ الضّرْبَ يَنْصَرِفُوا عَنْكُمْ، فَإِنّهُ لَمْ يَلْقَ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ! وَقُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ قَدْ سَرَوْا بِمَسِيرِهِ إلَيْكُمْ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ مَوَادّكُمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ وَسِلَاحِكُمْ وَجَوْدَةِ حُصُونِكُمْ! وَقَدْ تَتَابَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ يَهْوَى هَوَى مُحَمّدٍ، تَقُولُ قُرَيْشٌ: إنّ خَيْبَرَ تَظْهَرُ! وَيَقُولُ آخَرُونَ: يَظْهَرُ مُحَمّدٌ، فَإِنْ ظَفَرَ مُحَمّدٌ فَهُوَ ذُلّ الدّهْرِ! قَالَ الْأَعْرَابِيّ: وَأَنَا أَسْمَعُ كُلّ هَذَا، فَقَالَ لِي كِنَانَةُ: اذْهَبْ مُعْتَرِضًا للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك، واحزرهم لَنَا، وَادْنُ مِنْهُمْ كَالسّائِلِ لَهُمْ مَا تَقْوَى بِهِ، ثُمّ أَلْقِ إلَيْهِمْ كَثْرَةَ عَدَدِنَا وَمَادّتِنَا فَإِنّهُمْ لَنْ يَدَعُوا سُؤَالَك، وَعَجّلْ الرّجْعَةَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ. فَأَتَى بِهِ عَبّادٌ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: اضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ عَبّادٌ: جَعَلْت لَهُ الْأَمَانَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْهُ مَعَك يَا عَبّادُ! فَأَوْثِقْ رِبَاطًا.
فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي دَاعِيك ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ لَمْ يَخْرُجْ الْحَبْلُ عَنْ عُنُقِك إلّا صَعَدًا! فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيّ، وَخَرَجَ الدّلِيلُ يَسِيرُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى انْتَهَى بِهِ، فَيَسْلُكُ بَيْنَ حِيَاضَ وَالسّرِيرِ [ (2) ] ، فَاتّبَعَ صُدُورَ الْأَوْدِيَةِ حَتّى هَبَطَ بِهِ الْخَرَصَةَ [ (3) ] ، ثُمّ نَهَضَ بِهِ حَتّى سَلَكَ بَيْنَ الشّقّ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يخبروه» .
[ (2) ] السرير: الوادي الأدنى بخيبر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 322) .
[ (3) ] الحرصة: حصن من حصون خيبر. (السيرة الحلبية، ج 2، ص 158) .(2/641)
وَالنّطَاةِ. وَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:
قِفُوا! ثُمّ قَالَ: قُولُوا: اللهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ، وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقَلّتْ، وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا ذَرّتْ، فَإِنّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِك مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا فِيهَا. ثُمّ قَالَ:
اُدْخُلُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ! فَسَارَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَنْزِلَةِ، وَعَرّسَ بِهَا سَاعَةً مِنْ اللّيْلِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُومُونَ كُلّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ فَيَتَلَبّسُونَ السّلَاحَ وَيَصُفّونَ الْكَتَائِبَ، وَهُمْ عَشْرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. وَكَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ خَرَجَ فِي رَكْبٍ إلَى غَطَفَانَ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرٌ إلَيْهِمْ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ قَدِمَ بِسِلْعَةٍ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعَهَا، ثُمّ رَجَعَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: تَرَكْت مُحَمّدًا يُعَبّئُ أَصْحَابَهُ إلَيْكُمْ. فَبَعَثُوا [إلَى] حُلَفَائِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ، فَخَرَجَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ يَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، وَلَهُمْ نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ سَنَةً. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ لَمْ يَتَحَرّكُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ، وَلَمْ يَصِحْ لَهُمْ دِيكٌ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ، فَأَصْبَحُوا وَأَفْئِدَتُهُمْ تَخْفِقُ، وَفَتَحُوا حُصُونَهُمْ مَعَهُمْ الْمَسَاحِي وَالْكَرَازِينُ وَالْمَكَاتِلُ [ (1) ] ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ قَالُوا: مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ [ (2) ] ! فَوَلّوْا هَارِبِينَ حتى رجعوا
__________
[ (1) ] المساحي: جمع مسحاة، وهي المجرفة من الحديد. والكرازين: جمع كرزن وهو الفأس والمكاتل: جمع مكتل وهو الزبيل الكبير، قيل إنه يسع خمسة عشر صاعا. (النهاية، ج 2، ص 150، ج 4، ص 8، 14) .
[ (2) ] الخميس: الجيش. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 266) .(2/642)
إلَى حُصُونِهِمْ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ! خَرِبَتْ خَيْبَرُ! إنّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَنْزِلَةِ جَعَلَ مَسْجِدًا فَصَلّى إلَيْهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ نَافِلَةً. فَثَارَتْ رَاحِلَتُهُ تَجُرّ زِمَامَهَا، فَأُدْرِكَتْ تَوَجّهُ إلَى الصّخْرَةِ لَا تُرِيدُ تَرْكَبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ! حَتّى بَرَكَتْ عِنْد الصّخْرَةِ، فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصّخْرَةِ، وَأَمَرَ بِرَحْلِهِ فَحَطّ، وَأَمَرَ النّاسَ بِالتّحَوّلِ إلَيْهَا، ثُمّ ابْتَنَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مَسْجِدًا، فَهُوَ مَسْجِدُهُمْ الْيَوْمَ. فَلَمّا أَصْبَحَ جَاءَهُ الْحُبَابُ ابن الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْك، إنّك نَزَلْت مَنْزِلَك هَذَا، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ أَمَرْت بِهِ فَلَا نَتَكَلّمُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الرّأْيُ تَكَلّمْنَا. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هُوَ الرّأْيُ. فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، دَنَوْت مِنْ الْحِصْنِ وَنَزَلْت بَيْنَ ظُهْرَيْ النّخْلِ وَالنّزّ [ (1) ] ، مَعَ أَنّ أَهْلَ النّطَاةِ لِي بِهِمْ مَعْرِفَةٌ، لَيْسَ قَوْمٌ أَبْعَدَ مَدَى مِنْهُمْ، وَلَا أَعْدَلَ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُرْتَفِعُونَ عَلَيْنَا، وَهُوَ أَسْرَعُ لِانْحِطَاطِ نَبْلُهُمْ، مَعَ أَنّي لَا آمَنُ مِنْ بَيَاتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي خَمْرِ [ (2) ] النّخْلِ، تَحَوّلْ يَا رَسُولَ الله إلى موضع بريء مِنْ النّزّ وَمِنْ الْوَبَاءِ، نَجْعَلْ الْحَرّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتّى لَا يَنَالَنَا نَبْلُهُمْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُقَاتِلهُمْ هَذَا الْيَوْمَ. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه
__________
[ (1) ] النز: ما يتحلب من الأرض من الماء. (الصحاح، ص 896) .
[ (2) ] فى الأصل: «جمر» ، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات. والخمر بالتحريك: كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره. (النهاية، ج 1، ص 320) .(2/643)
وَسَلّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اُنْظُرْ لَنَا مَنْزِلًا بَعِيدًا مِنْ حُصُونِهِمْ بَرِيئًا [ (1) ] مِنْ الْوَبَاءِ، نَأْمَنُ فِيهِ بَيَاتَهُمْ. فَطَافَ مُحَمّدٌ حَتّى انْتَهَى إلَى الرّجِيعِ [ (2) ] ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَقَالَ: وَجَدْت لَك مَنْزِلًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. وَقَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى اللّيْلِ يُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ، يُقَاتِلُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. وَحُشِدَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ: لَوْ تَحَوّلْت يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا أَمْسَيْنَا إنْ شَاءَ اللهُ تَحَوّلْنَا.
وَجَعَلْت نَبْلَ الْيَهُودِ تُخَالِطُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَاوَزَهُ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْقُطُونَ نَبْلَهُمْ ثُمّ يَرُدّونَهَا عَلَيْهِمْ.
فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَوّلَ، وَأَمَرَ النّاسُ فَتَحُولُوا إلَى الرّجِيعِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْدُو بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ! فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ الْيَهُودَ تَرَى النّخْلَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ، فَاقْطَعْ نَخْلَهُمْ.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ النّخْلِ، وَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي قَطْعِهَا حَتّى أَسْرَعُوا [ (3) ] فِي الْقَطْعِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَكُمْ خَيْبَرَ، وَهُوَ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَك، فَلَا تَقْطَعْ النّخْلَ. فَأَمَرَ فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْ قَطْعِ النّخْلِ.
وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: رَأَيْت نَخْلًا بِخَيْبَرَ فِي النّطَاةِ مُقَطّعَةً، فَكَانَ ذَلِكَ مِمّا قَطَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «برئ» .
[ (2) ] الرجيع: واد قرب خيبر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 315) .
[ (3) ] فى الأصل: «أشرعوا» .(2/644)
وَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَطَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي النّطَاةِ أَرْبَعَمِائَةِ عِذْقٍ، وَلَمْ تَقْطَعْ فِي غَيْرِ النّطَاةِ.
فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَنْظُرُ إلَى صَوْرٍ [ (1) ] مِنْ كَبِيسٍ، قَالَ: أَنَا قَطَعْت هَذَا الصّوْرَ بِيَدِي حَتّى سَمِعْت بِلَالًا يُنَادِي عَزْمَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَقْطَعُ النّخْلَ! فَأَمْسَكْنَا. قَالَ: وَكَانَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ، وَكَانَ يَوْمًا صَائِفًا شَدِيدَ الْحَرّ، وَهُوَ أَوّلُ يَوْمٍ قَاتَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ النّطَاةِ وَبِهَا بَدَأَ، فَلَمّا اشْتَدّ الْحَرّ عَلَى مَحْمُودٍ وَعَلَيْهِ أَدَاتُهُ كَامِلَةً جَلَسَ تَحْت حِصْنِ نَاعِم يَبْتَغِي فَيْئَهُ، وَهُوَ أَوّلُ حِصْنٍ بَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَظُنّ مَحْمُودٌ أَنّ فِيهِ أَحَدًا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. إنّمَا ظَنّ أَنّ فِيهِ أَثَاثًا وَمَتَاعًا- وَنَاعِمٌ يَهُودِيّ، وَلَهُ حُصُونٌ ذَوَاتُ عَدَدٍ فَكَانَ هَذَا مِنْهَا- فَدَلّى عَلَيْهِ مَرْحَبٌ رَحًى فَأَصَابَ رَأْسَهُ.
فَهَشّمَتْ الْبَيْضَةُ رَأْسَهُ حَتّى سَقَطَتْ جِلْدَةِ جَبِينِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَدّ الْجِلْدَةَ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَعَصَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبٍ. فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَوّلَ إلَى الرّجِيعِ وَخَافَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْبَيَاتَ، فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ وَبَاتَ فِيهِ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِالرّجِيعِ سَبْعَةَ أَيّامٍ، يَغْدُو كُلّ يَوْمٍ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَايَاتِهِمْ مُتَسَلّحِينَ وَيَتْرُكُ الْعَسْكَرَ بِالرّجِيعِ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَيُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ يَوْمَهُ إلَى اللّيْلِ، ثُمّ إذَا أَمْسَى رَجَعَ إلَى الرّجِيعِ. وَكَانَ قَاتَلَ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ أَسْفَلِ النّطَاةِ، ثُمّ عَادَ بَعْدُ فَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَعْلَاهَا حَتّى
__________
[ (1) ] الصور: النخل الصغار أو المجتمع. والكبيس: ضرب من التمر. (القاموس المحيط، ج 2، ص 73، 245) .(2/645)
فتح الله عليه. وكان مَنْ جُرِحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُمِلَ إلَى الْمُعَسْكَرِ فَدُووِيَ، وَإِنْ كَانَ بِهِ انْطِلَاقٌ انْطَلَقَ إلَى مُعَسْكَرِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليه وسلم. وَكَانَ أَوّلَ يَوْمٍ قَاتَلُوا فِيهِ جُرِحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ نَبْلِهِمْ، فَكَانُوا يُدَاوُونَ مِنْ الْجِرَاحِ.
وَيُقَالُ: إنّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَاءَ الْمَنْزِلِ فَأَمَرَهُمْ بِالتّحَوّلِ إلَى الرّجِيعِ، وَقَدِمُوا خَيْبَرَ عَلَى ثَمَرَةٍ خَضْرَاءَ وَهِيَ وَبِئَةٌ وَخَيْمَةٌ، فَأَكَلُوا مِنْ تلك الثّمرة، وأهمدتهم الْحُمّى، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَرّسُوا [ (1) ] الْمَاءَ فِي الشّنَانِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ فَاحْدَرُوا الْمَاءَ عَلَيْكُمْ حَدْرًا [ (2) ] وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ.
فَفَعَلُوا فَكَأَنّمَا أُنْشِطُوا مِنْ عِقَالٍ [ (3) ] .
وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ: إنّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ مِنْ أَهْلِ النّطَاةِ نَادَانَا بَعْدَ لَيْلٍ وَنَحْنُ بِالرّجِيعِ: أَنَا آمَنُ وَأُبَلّغُكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ:
فَابْتَدَرْنَاهُ فَكُنْت أَوّلَ مَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَقُلْت: مَنْ [ (4) ] أَنْتَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ. فَأَدْخَلْنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ:
تَؤُمّنّي وَأَهْلِي عَلَى أَنْ أَدُلّك عَلَى عَوْرَةٍ مِنْ عَوْرَاتِ الْيَهُودِ؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فَدَلّهُ عَلَى عَوْرَةِ الْيَهُودِ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تِلْكَ السّاعَةَ فَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَخَبّرَهُمْ أَنّ الْيَهُودَ قَدْ أَسْلَمَهَا حَلْفَاؤُهَا وَهَرَبُوا، وَأَنّهَا قَدْ تَجَادَلَتْ واختلفوا بينهم. قال
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قرصوا» . وقرس: صب. (النهاية، ج 3، ص 242) .
[ (2) ] الحدر: الحط من علو إلى أسفل. (القاموس المحيط، ج 2، ص 5) .
[ (3) ] فى الأصل: «نشطوا من العقل» . وما أثبتناه أفصح كما ذكر ابن الأثير. (النهاية، ج 4، ص 145) .
[ (4) ] فى الأصل: «ما» .(2/646)
كَعْبٌ: فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ فَظَفّرَنَا اللهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي النّطَاةِ شَيْءٌ غَيْرَ الذّرّيّةِ فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى الشّقّ وَجَدْنَا فِيهِ ذُرّيّةً، فَدَفَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْيَهُودِيّ زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ فِي الشّقّ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَرَأَيْته أَخَذَ بِيَدِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ.
قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِبُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي حِرَاسَةِ اللّيْلِ فِي مَقَامِهِ بِالرّجِيعِ سَبْعَةَ أَيّامٍ. فَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ السّادِسَةُ مِنْ السّبْعِ اسْتَعْمَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَطَافَ عُمَرُ بِأَصْحَابِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ وَفَرّقَهُمْ أَوْ فَرّقَ مِنْهُمْ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ فِي جَوْفِ اللّيْلِ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: اذْهَبْ بِي إلَى نَبِيّكُمْ حَتّى أُكَلّمَهُ، فَأَمْسَكَهُ عُمَرُ وَانْتَهَى بِهِ إلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ يُصَلّي، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَ عُمَرَ فَسَلّمَ وَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ عُمَرُ بِالْيَهُودِيّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِيّ: مَا وَرَاءَك وَمَنْ أَنْتَ [ (1) ] ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: تَؤُمّنّي يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَأَصْدُقُك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: خَرَجْت مِنْ حِصْنِ النّطَاةِ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ نِظَامٌ، تَرَكْتهمْ يُتَسَلّلُونَ مِنْ الْحِصْنِ فِي هَذِهِ الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ يَذْهَبُونَ؟ قَالَ: إلَى أَذَلّ مِمّا كَانُوا فِيهِ، إلَى الشّقّ، وَقَدْ رُعِبُوا مِنْك حَتّى إنّ أَفْئِدَتَهُمْ لَتَخْفِقُ، وَهَذَا حِصْنُ الْيَهُودِ فِيهِ السّلَاحُ وَالطّعَامُ وَالْوَدَكُ، وَفِيهِ آلَةُ حُصُونِهِمْ التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضا، وقد غَيّبُوا ذَلِكَ فِي بَيْتٍ مِنْ حُصُونِهِمْ تَحْتَ الْأَرْضِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وما أنت» .(2/647)
وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَنْجَنِيقٌ مُفَكّكَةٌ وَدَبّابَتَانِ وَسِلَاحٌ مِنْ دُرُوعٍ وَبَيْضٍ وَسُيُوفٍ، فَإِذَا دَخَلْت الْحِصْنَ غَدًا وَأَنْتَ تَدْخُلُهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الْيَهُودِيّ: إنْ شَاءَ اللهُ أُوقِفُك عَلَيْهِ، فَإِنّهُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ غَيْرِي. وَأُخْرَى! قِيلَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تَسْتَخْرِجُهُ، ثُمّ أَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِ الشّقّ، وَتُدْخِلُ الرّجَالَ تَحْتَ الدّبّابَتَيْنِ فَيَحْفِرُونَ الْحِصْنَ فَتَفْتَحُهُ مِنْ يَوْمِك، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِحِصْنِ الْكَتِيبَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَحْسَبُهُ قَدْ صَدَقَ. قَالَ الْيَهُودِيّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، احْقِنْ دَمِي. قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ قَالَ: وَلِي زَوْجَةٌ فِي حِصْنِ النّزَارِ فَهَبْهَا لِي. قَالَ: هِيَ لَك. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِلْيَهُودِ حَوّلُوا ذَرَارِيّهُمْ مِنْ النّطَاةِ؟ قَالَ: جَرّدُوهَا لِلْمُقَاتِلَةِ، وَحَوّلُوا الذّرَارِيّ إلَى الشّقّ وَالْكَتِيبَةِ.
قَالُوا: ثُمّ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ:
أَنْظِرْنِي أَيّامًا، فَلَمّا أَصْبَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا بِالْمُسْلِمِينَ إلَى النّطَاةِ، فَفَتَحَ اللهُ الْحِصْنَ، وَاسْتَخْرَجَ مَا كَانَ قَالَ الْيَهُودِيّ فِيهِ، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ أَنْ تُصْلَحَ وَتُنْصَبَ عَلَى الشّقّ عَلَى حِصْنِ النّزَارِ، فَهَيّئُوا، فَمَا رَمَوْا عَلَيْهَا بِحَجَرٍ حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ النّزَارِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إلَيْهِ حَصَبِ الْحِصْنِ فَسَاخَ فِي الْأَرْضِ حَتّى أَخَذَ أَهْلَهُ أَخْذًا، وَأُخْرِجَتْ زَوْجَتُهُ، يُقَالُ لَهَا نُفَيْلَةُ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ. فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَطِيحَ وَسُلَالِم أَسْلَمَ الْيَهُودِيّ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سِمَاكَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إلَى حِصْنِ نَاعِم فِي النّطَاةِ وَصَفّ أَصْحَابَهُ نَهَى عَنْ(2/648)
الْقِتَالِ حَتّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَعَمِدَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَحَمَلَ عَلَى يَهُودِيّ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مَرْحَبٌ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُسْتُشْهِدَ فُلَانٌ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْعِدْ مَا نَهَيْت عَنْ الْقِتَالِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَنَادَى: لَا تَحِلّ الْجَنّةُ لِعَاصٍ. ثُمّ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ وَحَثّ عَلَيْهِ، وَوَطّنَ الْمُسْلِمُونَ أنفسهم على القتال. وكان يسار الحبشىّ- عبد أَسْوَدَ [ (1) ] لِعَامِرٍ الْيَهُودِيّ- فِي غَنَمِ مَوْلَاهُ، فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ يَتَحَصّنُونَ وَيُقَاتِلُونَ سَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ. قَالَ: فَوَقَعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي نَفْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ يَسُوقُهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَا تَقُولُ؟
مَا تدعو إليه؟ قال: أدعوا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّي رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَمَا لِي؟ قَالَ: الْجَنّةُ إنْ ثَبَتّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ. وَقَالَ:
إنّ غَنَمِي هَذِهِ وَدِيعَةٌ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْرِجْهَا مِنْ الْعَسْكَرِ ثُمّ صِحْ بِهَا وَارْمِهَا بِحَصَيَاتٍ، فَإِنّ الله عَزّ وَجَلّ سَيُؤَدّي عَنْك أَمَانَتَك. فَفَعَلَ الْعَبْدُ فَخَرَجْت الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا، وَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ عَبْدَهُ قَدْ أَسْلَمَ. وَوَعَظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ وَفَرّقَ بَيْنَهُمْ الرّايَاتِ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ رَايَاتٍ، وَلَمْ تَكُنْ رَايَةٌ قَبْلَ يَوْمِ خَيْبَرَ، إنّمَا كَانَتْ الْأَلْوِيَةُ، وَكَانَتْ رَايَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّوْدَاءَ مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةَ، تُدْعَى الْعِقَابَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ، وَدَفَعَ رَايَةً إلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَايَةً إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَخَرَجَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالرّايَةِ وَتَبِعَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، فَاحْتُمِلَ فَأُدْخِلَ خِبَاءً مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاطّلَعَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عبدا أسودا» .(2/649)
وَسَلّمَ فِي الْخِبَاءِ فَقَالَ: لَقَدْ كَرّمَ اللهُ هَذَا الْعَبْدَ الْأَسْوَدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْبَرَ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْ نَفْسِهِ حَقّا، قَدْ رَأَيْت عِنْدَ رَأْسِهِ زَوْجَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ.
قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُرّةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُيَيْمٌ يَقُولُ: أَنَا فِي الْجَيْشِ الّذِينَ كَانُوا مَعَ عُيَيْنَةَ مِنْ غَطَفَانَ، أَقْبَلَ مَدَدُ الْيَهُودِ، فَنَزَلْنَا بِخَيْبَرَ وَلَمْ نَدْخُلْ حِصْنًا. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَهُوَ رَأْسُ غَطَفَانَ وَقَائِدُهُمْ أَنْ ارْجِعْ بِمَنْ مَعَك وَلَك نِصْفُ تَمْرِ خَيْبَرَ هَذِهِ السّنَةَ، إنّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي خَيْبَرَ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَسْت بِمُسْلِمٍ حَلْفَائِي وَجِيرَانِي. فَأَقَمْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ عُيَيْنَةَ إذْ سَمِعْنَا صَائِحًا، لَا نَدْرِي مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الْأَرْضِ: أَهْلَكُمْ، أَهْلَكُمْ بِحَيْفَاءَ [ (1) ]- صِيحَ ثَلَاثَةً- فَإِنّكُمْ قَدْ خُولِفْتُمْ إلَيْهِمْ! وَيُقَالُ: إنّهُ لَمّا سَارَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فِيهِمْ حَلَفُوا مَعَهُ، وَارْتَأَسَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَدَخَلُوا مَعَ الْيَهُودِ فِي حُصُونِ النّطَاةِ قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُمْ فِي الْحِصْنِ، فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى الْحِصْنِ نَادَاهُمْ: إنّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ. فَأَرَادَ عُيَيْنَةُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْحِصْنَ فَقَالَ مَرْحَبٌ: لَا تَدْخُلْهُ فَيَرَى خَلَلَ حِصْنِنَا وَيَعْرِفُ نَوَاحِيَهُ الّتِي يُؤْتَى مِنْهَا، وَلَكِنْ تَخْرُجُ إلَيْهِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ يَدْخُلَ فَيَرَى حَصَانَتَهُ وَيَرَى عَدَدًا كَثِيرًا. فَأَبَى مَرْحَبٌ أَنْ يُدْخِلَهُ، فَخَرَجَ عُيَيْنَةُ إلَى بَابِ الْحِصْنِ،
فَقَالَ سَعْدٌ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْك يَقُولُ: إنّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي خَيْبَرَ فَارْجِعُوا وَكُفّوا، فَإِنّ ظَهَرْنَا عَلَيْهَا فَلَكُمْ تَمْرُ خَيْبَرَ سَنَةً.
فَقَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا وَاَللهِ مَا كُنّا لِنُسَلّمَ حَلْفَاءَنَا لِشَيْءٍ، وَإِنّا لنعلم ما لك
__________
[ (1) ] ويقال: حفياء، كما ذكر السمهودي، وهو موضع قرب المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 292) .(2/650)
ولمن معك بما هاهنا طَاقَةٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَهْلُ حُصُونٍ مَنِيعَةٍ، وَرِجَالٍ عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ، وَسِلَاحٌ. إنْ أَقَمْت هَلَكْت وَمَنْ مَعَك، وَإِنْ أَرَدْت الْقِتَالَ عَجّلُوا عَلَيْك بِالرّجَالِ وَالسّلَاحِ. وَلَا وَاَللهِ، مَا هَؤُلَاءِ كَقُرَيْشٍ، قَوْمٌ سَارُوا إلَيْك، إنْ أَصَابُوا غِرّةً مِنْك فَذَاكَ الّذِي أَرَادُوا وَإِلّا انْصَرَفُوا، وَهَؤُلَاءِ يُمَاكِرُونَكَ الْحَرْبَ ويطاولونك حتى تملّهم. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَشْهَدُ لَيَحْضُرَنّكَ فِي حِصْنِك هَذَا حَتّى تَطْلُبَ الّذِي كُنّا عَرَضْنَا عَلَيْك، فَلَا نُعْطِيك إلّا السّيْفَ، وَقَدْ رَأَيْت يَا عُيَيْنَةُ مِنْ قَدْ حَلَلْنَا بِسَاحَتِهِ مِنْ يَهُودِ يَثْرِبَ، كَيْفَ مَزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ! فَرَجَعَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، وَقَالَ سَعْدٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللهَ مُنْجِزٌ لَك مَا وَعَدَك وَمُظْهِرٌ دِينَهُ، فَلَا تُعْطِ هَذَا الْأَعْرَابِيّ تَمْرَةً وَاحِدَةً، يَا رَسُولَ اللهِ، لَئِنْ أَخَذَهُ السّيْفُ لَيُسَلّمُنّهُمْ وَلَيُهَرّبْنَ إلَى بِلَادِهِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ فِي الْخَنْدَقِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى حِصْنِهِمْ الّذِي فِيهِ غَطَفَانُ، وَذَلِكَ عَشِيّةً وَهُمْ فِي حِصْنِ نَاعِم، فَنَادَى مُنَادِي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَصْبِحُوا عَلَى رَايَاتِكُمْ عِنْدَ حِصْنِ نَاعِم الّذِي فِيهِ غَطَفَانُ. قَالَ: فَرُعِبُوا مِنْ ذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ هَذِهِ مِنْ تِلْكَ اللّيْلَةِ سَمِعُوا صَائِحًا يَصِيحُ، لَا يَدْرُونَ مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الْأَرْضِ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ! الْغَوْثَ، الْغَوْثَ بِحَيْفَاءَ- صِيحَ ثَلَاثَةً- لَا تُرْبَةَ وَلَا مَالَ! قَالَ: فَخَرَجْت غَطَفَانُ على الصّعب والذّلول، وكان أَمْرًا صَنَعَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِنَبِيّهِ. فَلَمّا أَصْبَحُوا أَخْبَرَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ فِي الْكَتِيبَةِ بِانْصِرَافِهِمْ، فَسَقَطَ فِي يَدَيْهِ [ (1) ] ، وَذَلّ وَأَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ وَقَالَ: كُنّا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ فِي بَاطِلٍ، إنّا سِرْنَا فِيهِمْ فَوَعَدُونَا النّصْرَ وَغَرّونَا، وَلَعَمْرِي لَوْلَا مَا وَعَدُونَا مِنْ نَصْرِهِمْ ما نابذنا محمّدا بالحرب،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فى أيديه» .(2/651)
وَلَمْ نَحْفَظْ. كَلَامَ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ إذْ قَالَ: لَا تَسْتَنْصِرُوا بِهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ أَبَدًا فَإِنّا قَدْ بَلَوْنَاهُمْ. وَجَلَبَهُمْ لِنَصْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمّ غَرّوهُمْ. فَلَمْ نَرَ عِنْدَهُمْ وَفَاءً لَنَا، وَقَدْ سَارَ فِيهِمْ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ الصّلْحَ مِنْ مُحَمّدٍ، ثُمّ زَحَفَ مُحَمّدٌ إلى بنى قريظة وَانْكَشَفَتْ غَطَفَانُ رَاجِعَةً إلَى أَهْلِهَا.
قَالُوا: فَلَمّا انْتَهَى الْغَطَفَانِيّونَ إلَى أَهْلِهِمْ بِحَيْفَاءَ وَجَدُوا أَهْلَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ فَقَالُوا: هَلْ رَاعَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ. فَقَالُوا: لَقَدْ ظَنَنّا أَنّكُمْ قَدْ غَنِمْتُمْ، فَمَا نَرَى مَعَكُمْ غَنِيمَةً وَلَا خَيْرًا! فقال عيينة لأصحابه: هذا والله من مكايد مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، خَدَعَنَا وَاَللهِ! فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: بِأَيّ شَيْءٍ؟ قَالَ عُيَيْنَةُ: إنّا فِي حِصْنِ النّطَاةِ بَعْدَ هَدْأَةٍ [ (1) ] إذْ سَمِعْنَا صَائِحًا يَصِيحُ، لَا نَدْرِي مِنْ السّمَاءِ أَوْ مِنْ الْأَرْضِ: أَهْلَكُمْ أَهْلَكُمْ بِحَيْفَاءَ- صِيحَ ثَلَاثَةً- فَلَا تُرْبَةَ وَلَا مَالٍ! قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ: يَا عُيَيْنَةُ، وَاَللهِ لَقَدْ غَبَرْت [ (2) ] إنْ انْتَفَعْت. وَاَللهِ إنّ الّذِي سَمِعْت لَمِنْ السّمَاءِ! وَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، حَتّى لَوْ نَاوَأَتْهُ الْجِبَالُ لَأَدْرَكَ مِنْهَا مَا أَرَادَ. فَأَقَامَ عُيَيْنَةُ أَيّامًا فِي أَهْلِهِ ثُمّ دَعَا أَصْحَابَهُ لِلْخُرُوجِ إلَى نَصْرِ الْيَهُودِ، فَجَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ أَطِعْنِي وَأَقِمْ فِي مَنْزِلِك وَدَعْ نَصْرَ الْيَهُودِ، مَعَ أَنّي لَا أَرَاك تَرْجِعُ إلَى خَيْبَرَ إلّا وَقَدْ فَتَحَهَا مُحَمّدٌ وَلَا آمِنْ عَلَيْك. فَأَبَى عُيَيْنَةُ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَقَالَ: لَا أَسْلَمَ حُلَفَائِي لِشَيْءٍ. وَلَمّا وَلّى عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ هَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْحُصُونِ حِصْنًا حِصْنًا، فَلَقَدْ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حِصْنِ نَاعِم وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَحُصُونُ نَاعِم عِدّةٌ، فَرَمَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ بِالنّبْلِ، وَتَرّسَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلّى الله عليه [وسلّم عن رسول
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بعد هده» ، والتصحيح هو ما يقتضيه السياق، والهدأة: أول الليل إلى ثلثه.
(القاموس المحيط، ج 1، ص 33) .
[ (2) ] أى بقيت. (الصحاح، ص 765) .(2/652)
اللهِ] ، وَعَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ وَبَيْضَةٌ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ الظّرِبُ [ (1) ] ، فِي يَدِهِ قَنَاةٌ وَتُرْسٌ، وَأَصْحَابُهُ مُحَدّقُونَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ دَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَرَجَعَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، ثُمّ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ فَرَجَعَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءَ الْأَنْصَارِ إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، فَحَثّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَالَتْ كَتَائِبُ الْيَهُودِ، أَمَامَهُمْ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ يَقْدَمُ الْيَهُودَ يَهُدّ الْأَرْضَ هَدّا، فَأَقْبَلَ صَاحِبُ رَايَةِ الْأَنْصَارِ فَلَمْ يَزَلْ يَسُوقُهُمْ حَتّى انْتَهَوْا إلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ، وَخَرَجَ أَسِيرُ الْيَهُودِيّ يَقْدَمُ أَصْحَابَهُ مَعَهُ عَادِيَتُهُ [ (2) ] وَكَشَفَ رَايَةَ أَصْحَابِ الْأَنْصَارِ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِفِهِ، وَوَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نَفْسِهِ حِدَةً شَدِيدَةً، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ الّذِي وَعَدَهُمْ اللهُ، فَأَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْمُومًا،
وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَجَعَ مَجْرُوحًا وَجَعَلَ يَسْتَبْطِئُ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ صَاحِبُ رَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ يَسْتَبْطِئُ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ: أَنْتُمْ، وَأَنْتُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الْيَهُودَ جَاءَهُمْ الشّيْطَانُ فَقَالَ لَهُمْ: إنّ مُحَمّدًا يُقَاتِلُكُمْ عَلَى أَمْوَالِكُمْ! نَادَوْهُمْ: قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ، ثُمّ قَدْ أَحْرَزْتُمْ بِذَلِكَ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ، وَحِسَابَكُمْ عَلَى اللهِ. فَنَادَوْهُمْ بِذَلِكَ فَنَادَتْ الْيَهُودُ: إنّا لَا نَفْعَلُ وَلَا نَتْرُكُ عَهْدَ مُوسَى وَالتّوْرَاةُ بَيْنَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأُعْطِيَنّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرّارٍ، أَبَشَرٌ يَا مُحَمّدُ بْنَ مَسْلَمَةَ غَدًا، إنْ شَاءَ اللهُ يُقْتَلُ قاتل أخيك وتولّى عادية اليهود.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «الطرف» .
[ (2) ] عاديته: أى الذين يعدون على أرجلهم. (النهاية، ج 3، ص 74) .(2/653)
فَلَمّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَقَالَ:
مَا أَبْصَرَ سَهْلًا وَلَا جَبَلًا. قَالَ: فَذَهَبَ إلَيْهِ فَقَالَ: افْتَحْ عَيْنَيْك. فَفَتْحهمَا فَتَفِلَ فِيهِمَا. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَمَا رَمِدَتْ حَتّى السّاعَةِ.
ثُمّ دَفَعَ إلَيْهِ اللّوَاءَ، وَدَعَا لَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّصْرِ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِمْ الْحَارِثُ أَخُو مَرْحَبٍ فِي عَادِيَتِهِ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ وَثَبَتَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَاضْطَرَبَا ضَرْبَاتٍ فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ إلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَوْضِعِهِمْ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْرَبُ
فَحَمَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَطَرَهُ [ (1) ] عَلَى الْبَابِ وَفَتَحَ الْبَابِ: وَكَانَ لِلْحِصْنِ بَابَانِ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ قَالُوا: قَتَلَ أَبُو دُجَانَةَ الْحَارِثَ أَبَا زَيْنَبَ، وَكَانَ يَوْمئِذٍ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ، وَالْحَارِثُ مُعَلّمٌ فَوْقَ مِغْفَرِهِ، وَيَاسِرٌ وَأُسَيْرٌ وَعَامِرٌ مُعَلّمِينَ.
حَدّثَنِي ابْن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، قَالَ: نَزَلْت بِأَرِيحَا زَمَنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا حَيّ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِذَا رَجُلٌ يَهْدِجُ مِنْ الْكِبَرِ.
فَقَالَ: مِمّنْ أَنْتُمْ؟ فَقُلْنَا: مِنْ الْحِجَازِ. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: وَاشَوْقَاه إلَى الْحِجَازِ! أَنَا ابْنُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيّ فَارِسُ خَيَابِرَ، قَتَلَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ يَوْمَ نَزَلَ مُحَمّدٌ خَيْبَرَ، وَكُنّا مِمّنْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى الشّامِ. فَقُلْت: أَلَا تسلم؟ قال: أما إنّه خير لى
__________
[ (1) ] قطره: أى ألقاه على أحد قطريه، وهما جانباه. (الصحاح، ص 796) .(2/654)
لَوْ فَعَلْت، وَلَكِنْ أُعَيّرُ، تُعَيّرُنِي الْيَهُودُ، تَقُولُ: أَبُوك ابْنُ سَيّدِ الْيَهُودِ لَمْ يَتْرُكْ الْيَهُودِيّةَ، قُتِلَ عَلَيْهَا أَبُوك وَتُخَالِفُهُ؟
وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: كُنّا مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ بَعَثَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرّايَةِ، فَلَقِيَ علىّ عليه السلام رجلا على بَابِ الْحِصْنِ، فَضَرَبَ عَلِيّا وَاتّقَاهُ بِالتّرْسِ عَلِيّ، فَتَنَاوَلَ عَلِيّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ. وَبَعَثَ رَجُلًا يُبَشّرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ الْحِصْنِ، حِصْنِ مَرْحَبٍ وَدُخُولِهِمْ الْحِصْنَ. وَيُقَالُ: إنّ مرحب برز وهو كالفحل الصّؤول يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
أَضْرِبُ أَحْيَانًا وَحِينًا أُضْرَبُ
يَدْعُو لِلْبِرَازِ. فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا وَاَللهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ، قُتِلَ أَخِي بِالْأَمْسِ فَائْذَنْ لِي فِي قِتَالِ مَرْحَبٍ وَهُوَ قَاتِلُ أَخِي. فَأَذِنَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبَارَزَتِهِ، وَدَعَا لَهُ بِدَعَوَاتٍ، وَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ، فَخَرَجَ مُحَمّدٌ فَصَاحَ: يَا مَرْحَبُ، هَلْ لَك فِي الْبِرَازِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
فَبَرَزَ إلَيْهِ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ
وَخَرَجَ محمّد بن مسلمة وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَاضٍ ... حُلْوٌ إذَا شِئْت وَسَمّ قَاضٍ
وَيُقَالُ: إنّهُ جَعَلَ يَوْمئِذٍ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
يَا نَفْسُ إلّا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... لَا صَبْرَ لِي بَعْدَ أَبِي النّبَيْتِ
وَكَانَ أَخُوهُ مَحْمُودٌ يُكَنّى بِأَبِي النّبَيْتِ. قَالَ: وَبَرَزَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ. قَالَ: فَحَالَ بَيْنَهُمَا عَشْرَاتٌ [ (1) ] أَصْلُهَا كَمِثْلِ أَصْلِ الفحل من
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عسرات» . والعشرات: جمع عشر، وهو شجر له صمغ. (الصحاح، ص 747) .(2/655)
النّخْلِ وَأَفْنَانٌ مُنْكَرَةٌ، فَكُلّمَا ضَرَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ اسْتَتَرَ بِالْعُشْرِ حَتّى قَطَعَا كُلّ سَاقٍ لَهَا، وَبَقِيَ أَصْلَهَا قَائِمًا [ (1) ] كَأَنّهُ الرّجُلُ الْقَائِمُ. وَأَفْضَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، وَبَدَرَ مَرْحَبٌ مُحَمّدًا، فَيَرْفَعُ السّيْفَ لِيَضْرِبَهُ، فَاتّقَاهُ مُحَمّدٌ بِالدّرَقَةِ فَلَحِجَ [ (2) ] سَيْفَهُ، وَعَلَى مَرْحَبٍ دِرْعٌ مُشَمّرَةٌ، فَيَضْرِبُ مُحَمّدٌ سَاقَيْ مَرْحَبٍ فَقَطَعَهُمَا. وَيُقَالُ: لَمّا اتّقَى مُحَمّدٌ بِالدّرَقَةِ وَشَمّرَتْ الدّرْعُ عَنْ سَاقَيْ مَرْحَبٍ حِينَ رَفَعَ يَدَيْهِ بِالسّيْفِ، فَطَأْطَأَ مُحَمّدٌ بِالسّيْفِ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ وَوَقَعَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ مَرْحَبٌ: أَجْهِزْ يَا مُحَمّدُ! قَالَ مُحَمّدٌ: ذُقْ الْمَوْتَ كَمَا ذَاقَهُ أَخِي مَحْمُودٌ! وَجَاوَزَهُ وَمَرّ بِهِ عَلِيّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَخَذَ سَلَبَهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَلَبِهِ،
فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، وَاَللهِ مَا قَطَعْت رِجْلَيْهِ ثُمّ تَرَكْته إلّا لِيَذُوقَ مُرّ السّلَاحِ وَشِدّةِ الْمَوْتِ كَمَا ذَاقَ أَخِي، مَكَثَ ثَلَاثًا يَمُوتُ، وَمَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِجْهَازِ عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَدْ كُنْت قَادِرًا بَعْدَ أَنْ قَطَعْت رِجْلَيْهِ أَنْ أَجْهَزَ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ:
صَدَقَ، ضَرَبْت عُنُقَهُ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ.
فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ سَيْفَهُ وَدِرْعَهُ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ، فَكَانَ عِنْدَ آلِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ سَيْفُهُ فِيهِ كِتَابٌ لَا يُدْرَى مَا هُوَ حَتّى قَرَأَهُ يَهُودِيّ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ فَإِذَا فِيهِ:
هَذَا سَيْفُ مَرْحَبْ ... مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبْ
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَحَدّثَنِي زَكَرِيّا بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أبيه، عن سلمة بن سلامة، ومجمّع
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قائم» .
[ (2) ] لحج السيف: أى نشب فى الغمد فلا يخرج. (الصحاح، ص 338) .(2/656)
ابن يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَمّعِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالُوا جَمِيعًا: مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَتَلَ مَرْحَبًا.
قَالُوا: وَبَرَزَ أُسَيْرٌ، وَكَانَ رَجُلًا أَيّدًا، وَكَانَ إلَى الْقِصَرِ، فَجَعَلَ يَصِيحُ، مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ، ثُمّ قتله محمّد ابن مَسْلَمَةَ. ثُمّ بَرَزَ يَاسِرٌ وَكَانَ مِنْ أَشِدّائِهِمْ، وَكَانَتْ مَعَهُ حَرْبَةٌ يَحُوشُ [ (1) ] بِهَا الْمُسْلِمِينَ حَوْشًا، فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ الزّبَيْرُ: أَقَسَمْت عَلَيْك أَلّا خَلّيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ. فَفَعَلَ عَلِيّ وَأَقْبَلَ يَاسِرٌ بِحَرْبَتِهِ يَسُوقُ بِهَا النّاسَ، فَبَرَزَ لَهُ الزّبَيْرُ، فَقَالَتْ صَفِيّةُ: يَا رَسُولَ الله وا حزنى! ابْنِي يُقْتَلُ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: بَلْ ابْنُك يَقْتُلُهُ. قَالَ: فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِدَاك عَمّ وَخَالٌ! وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ وَابْنُ عَمّتِي. فَلَمّا قُتِلَ مَرْحَبٌ وَيَاسِرٌ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا، قَدْ تَرَحّبَتْ خَيْبَرُ وَتَيَسّرَتْ! وَبَرَزَ عَامِرٌ وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلًا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَعَ عَامِرٌ:
أَتَرَوْنَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ؟ وَهُوَ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ، يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ، مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ يَصِيحُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَأَحْجَمَ النّاسُ عَنْهُ، فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ، كُلّ ذَلِكَ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا، حَتّى ضَرَبَ سَاقَيْهِ فَبَرَكَ، ثُمّ ذُفّفَ [ (2) ] عَلَيْهِ فَأَخَذَ سِلَاحَهُ.
فَلَمّا قُتِلَ الْحَارِثُ، وَمَرْحَبٌ، وَأُسَيْرٌ، وَيَاسِرٌ، وَعَامِرٌ، مَعَ نَاسٍ من اليهود كثير
__________
[ (1) ] أى يسوقهم. (الصحاح، ص 1003) .
[ (2) ] تذفيف الجريح: الإجهاز عليه. (النهاية، ج 2، ص 46) .(2/657)
- وَلَكِنْ إنّمَا سُمّيَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ لِأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ شَجَاعَةٍ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي حِصْنِ نَاعِم جَمِيعًا. وَلَمّا رُمِيَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ حِصْنِ نَاعِم حَمَلَ إلَى الرّجِيعِ فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ يَمُوتُ، وَكَانَ الّذِي دَلّى عَلَيْهِ الرّحَا مَرْحَبٌ، فَجَعَلَ مَحْمُودٌ يَقُولُ لِأَخِيهِ: يَا أَخِي، بَنَاتُ أَخِيك لَا يَتْبَعْنَ الْأَفْيَاءَ [ (1) ] ، يَسْأَلْنَ النّاسَ. فَيَقُولُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: لَوْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا لَكَانَ لِي مَالٌ.
وَمَحْمُودٌ كَانَ أَكْثَرُهُمَا مَالًا- وَلَمْ يَنْزِلْ يَوْمئِذٍ فَرَائِضُ الْبَنَاتِ- فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي مَاتَ فِيهِ مَحْمُودٌ وَهُوَ الْيَوْمُ الثّالِثُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي قُتِلَ فِيهِ مَرْحَبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يُبَشّرُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنّ اللهَ قَدْ أَنْزَلَ فَرَائِضَ الْبَنَاتِ، وَأَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَدْ قَتَلَ قَاتِلَهُ؟ فَخَرَجَ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَسُرّ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَامَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَقْرَأْته مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مَحْمُودٌ. لَا أَرَاهُ يَذْكُرُنِي، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ فِي مَوْضِعِهِ بِالرّجِيعِ فَمَاتَ خِلَافَهُ، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلَةٍ، وَقَدْ جُرِحَ عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ نَفْسَهُ، حُمِلَ إلَى الرّجِيعِ فَمَاتَ، فَقُبِرَ عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ مَعَهُ فِي غَارٍ. فَقَالَ مُحَمّدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ اقْطَعْ لِي عِنْدَ قَبْرِ أَخِي. قَالَ: لَك حَضَرُ [ (2) ] الْفَرَسِ فَإِنْ عَمِلْت فَلَك حَضَرُ فَرَسَيْنِ.
وَكَانَ حِصْنُ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ فِي النّطَاةِ، وَكَانَ حِصْنُ الْيَهُودِ فِيهِ الطّعَامُ وَالْوَدَكُ وَالْمَاشِيَةُ وَالْمَتَاعُ، وَكَانَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ النّاسُ قَدْ أَقَامُوا أَيّامًا يُقَاتِلُونَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ إلّا العلف [ (3) ] . قال معتّب الأسلمىّ:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «إلا فيا» ، ولعل ما أثبتناه أقرب إلى السياق. والأفياء: جمع فيء.
[ (2) ] حضر الفرس: عدوه. (النهاية، ج 1، ص 234) . أى لك بأرض خيبر هذا القدر.
[ (3) ] فى الأصل: «الغلق» .(2/658)
أَصَابَنَا مَعْشَرَ أَسْلَمَ خَصَاصَةً حِينَ قَدِمْنَا خَيْبَرَ، وَأَقَمْنَا عَشَرَةَ أَيّامٍ عَلَى حِصْنِ النّطَاةِ لَا نَفْتَحُ شَيْئًا فِيهِ طَعَامٌ، فَأَجْمَعَتْ أَسْلَمُ أَنْ يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ايت مُحَمّدًا رَسُولَ اللهِ فَقُلْ: إنّ أَسْلَمَ يُقْرِئُونَك السّلَامَ وَيَقُولُونَ إنّا قَدْ جَهْدَنَا مِنْ الْجَوْعِ وَالضّعْفِ. فَقَالَ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ: وَاَللهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ أَمْرًا [ (1) ] بَيْنَ الْعَرَبِ يَصْنَعُونَ [فِيهِ] هَذَا! فَقَالَ هِنْدُ بْنُ حَارِثَةَ: وَاَللهِ إنّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْبِعْثَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ. فَجَاءَهُ أَسَمَاءُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَسْلَمَ تَقُولُ:
إنّا قَدْ جَهِدْنَا مِنْ الْجُوعِ وَالضّعْفِ فَادْعُ اللهَ لَنَا. فَدَعَا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاَللهِ مَا بِيَدِي مَا أَقْرِيهِمْ [ (2) ] . ثُمّ صَاحَ بِالنّاسِ فَقَالَ: اللهُمّ افْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حِصْنٍ فِيهِ، أَكْثَرُهُ طَعَامًا وَأَكْثَرُهُ وَدَكًا. وَدَفَعُوا اللّوَاءَ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَنَدَبَ النّاسَ، فَمَا رَجَعْنَا حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا الْحِصْنَ- حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَتْ أُمّ مُطَاعٍ الْأَسْلَمِيّة، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ خَيْبَرَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي نِسَاءٍ، قَالَتْ:
لَقَدْ رَأَيْت أَسْلَمَ حِينَ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَكَوْا مِنْ شِدّةِ الْحَالِ، فَنَدَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فَنَهَضُوا، فَرَأَيْت أَسْلَمَ أَوّلَ مَنْ انْتَهَى إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَإِنّ عَلَيْهِ لَخَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَمَا غَابَتْ الشّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتّى فَتَحَهُ اللهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ قِتَالٌ شَدِيدٌ. بَرَزَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ يُوشَعُ يَدْعُو إلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ إلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٌ فَقَتَلَهُ الْحُبَابُ. وَبَرَزَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ الزّيّالُ، فَبَرَزَ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ الْغِفَارِيّ فَبَدَرَهُ الْغِفَارِيّ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً عَلَى هَامَتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْغِفَارِيّ! فَقَالَ النّاسُ: بَطَلُ جِهَادِهِ. فَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أمر» .
[ (2) ] فى الأصل: «أقويهم» .(2/659)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَأْسُ بِهِ، يُؤْجَرُ [ (1) ] وَيُحْمَدُ.
وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ يُحَدّثُ أَنّهُمْ حَاصَرُوا حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَأَقْبَلَتْ غَنَمٌ لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ تَرْتَعُ وَرَاءَ حِصْنِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يُطْعِمُنَا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ؟
فَقُلْت: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَخَرَجْت أَسْعَى مِثْلَ الظّبْيِ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلّيًا قَالَ: اللهُمّ مَتّعْنَا بِهِ! فَأَدْرَكْت الْغَنَمَ وَقَدْ دَخَلَ أَوّلُهَا الْحِصْنَ، فَأَخَذْت شَاتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا فَاحْتَضَنْتهمَا تَحْتَ يَدَيّ، ثُمّ أَقْبَلْت أَعْدُو كَأَنْ لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ حَتّى أَتَيْت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذُبِحَتَا ثُمّ قَسَمَهُمَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ الّذِينَ هُمْ مَعَهُ مُحَاصِرِينَ الْحِصْنَ إلّا أَكَلَ مِنْهَا. فَقِيلَ لِأَبِي الْيَسَرِ: وَكَمْ كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فَيُقَالُ:
أَيْنَ بَقِيّةُ النّاسِ؟ فَيَقُولُ: فِي الرّجِيعِ بِالْمُعَسْكَرِ. فَسَمِعَ أَبُو الْيَسَرِ- وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ- وَهُوَ يَبْكِي فِي شَيْءٍ غَاظَهُ مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ، فَقَالَ: لَعَمْرِي بَقِيت بَعْدَ أَصْحَابِي وَمُتّعُوا بِي وَمَا أُمَتّعُ بِهِمْ! لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللهُمّ مَتّعْنَا بِهِ!
فَبَقِيَ فَكَانَ مِنْ آخِرِهِمْ.
وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ يُحَدّثُ قَالَ: أَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، وَنَزَلْنَا خَيْبَرَ زَمَانَ الْبَلَحِ، وَهِيَ أَرْضٌ وَخِيمَةٌ حَارّةٌ شَدِيدٌ حُرّهَا. فَبَيْنَا نَحْنُ مُحَاصِرُونَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ فَخَرَجَ عِشْرُونَ حِمَارًا مِنْهُ أَوْ ثَلَاثُونَ، فَلَمْ يَقْدِرْ الْيَهُودُ عَلَى إدْخَالِهَا، وَكَانَ حِصْنُهُمْ له منعة، فأخذها المسلمون فانتحروها،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يزجر» . وما أثبتناه عن السيرة الحلبية. (ج 2، ص 164) .(2/660)
وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ وَطَبَخُوا لُحُومَهَا فِي الْقُدُورِ وَالْمُسْلِمُونَ جِيَاعٌ، وَمَرّ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ فَأَمَرَ مُنَادِيًا: إنّ رَسُولَ اللهِ يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ- قَالَ: فَكَفَوْا الْقُدُورَ- وَعَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ، وَعَنْ كُلّ ذِي نَابٍ وَمِخْلَبٍ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ مُبَشّرٍ، قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، فَذَبَحَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْلًا مِنْ خَيْلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: أَرَأَيْت الْبِغَالَ، أَكُنْتُمْ تَأْكُلُونَهَا؟ قَالَ: لَا.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: ذَبَحْنَا بِخَيْبَرَ لِبَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ فَرَسَيْنِ، فَكُنّا نَأْكُلُ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَحَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: حَضَرَتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ يَقُولُ: حَرَامٌ أَكْلُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ.
قَالُوا: وَكُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطّيْرِ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: الثّبْت عِنْدَنَا أَنّ خَالِدًا لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَكَانَ ابْنُ الْأَكْوَعِ يَقُولُ: كُنّا عَلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، أَسْلَمَ بِأَجْمَعِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ حَصَرُوا أَهْلَ الْحِصْنِ، فَلَقَدْ رَأَيْتنَا وَصَاحِبَ رَايَتِنَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ الرّايَةَ فَغَدَوْنَا مَعَهُ. وغدا عامر ابن سِنَانٍ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ، وَبَدَرَهُ الْيَهُودِيّ فَيَضْرِبُ عَامِرًا، قَالَ عَامِرٌ:(2/661)
فَاتّقَيْته بِدَرَقَتِي فَنَبَا سَيْفُ الْيَهُودِيّ عَنْهُ.
قَالَ عَامِرٌ: فَأَضْرِبُ رِجْلَ الْيَهُودِيّ فَأَقْطَعُهَا، وَرَجَعَ السّيْفُ عَلَى عَامِرٍ فَأَصَابَهُ ذُبَابُهُ فَنَزَفَ فَمَاتَ. فَقَالَ أسيد ابن حُضَيْرٍ: حَبَطَ عَمَلُهُ. فَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ! إنّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ، إنّهُ جَاهَدَ مُجَاهِدٌ، وَإِنّهُ لَيَعُومُ فِي الْجَنّةِ عَوْمَ الدّعْمُوصِ [ (1) ] .
حَدّثَنِي خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود بن محمّد، عن محمّد ابن مَسْلَمَةَ قَالَ: كُنْت فِيمَنْ تَرّسَ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْت أَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ: تَرَامَوْا بِالْحَجَفِ! فَفَعَلُوا فَرَمَوْنَا حَتّى ظَنَنْت أَلّا يُقْلِعُوا، فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَهْمٍ، فَمَا أَخْطَأَ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَتَبَسّمَ إلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْفَرَجُوا وَدَخَلُوا الْحِصْنَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَالْمُسْلِمُونَ جِيَاعٌ وَالْأَطْعِمَةُ فِيهِ كُلّهَا، وَغَزَا بِنَا الْحُبَابُ ابن الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ وَمَعَهُ رَايَتُنَا وَتَبِعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ أَقَمْنَا عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ نُقَاتِلُهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ بَكّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ كَأَنّهُ الدّقَلُ [ (2) ] فِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ، وَخَرَجَ وَعَادِيَتُهُ مَعَهُ فَرَمَوْا بِالنّبْلِ سَاعَةً سُرَاعًا، وَتَرّسْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الدعموص: الدخال فى الأمور، أى إنه سياح فى الجنة دخال فى منازلها لا يمنع من موضع. (النهاية، ج 2، ص 25) .
[ (2) ] الدقل: خشبة يمد عليها شراع السفينة. (النهاية، ج 2، ص 28) .(2/662)
وَأَمْطَرُوا عَلَيْنَا بِالنّبْلِ، فَكَانَ نَبْلُهُمْ مِثْلَ الْجَرَادِ حَتّى ظَنَنْت أَلّا يُقْلِعُوا، ثُمّ حَمَلُوا عَلَيْنَا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى انْتَهَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ، قَدْ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَمِدْعَمٌ [ (1) ] يُمْسِكُ فَرَسَهُ. وَثَبَتَ الْحُبَابُ بِرَايَتِنَا، وَاَللهِ مَا يَزُولُ، يُرَامِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ، وَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ اللهَ قَدْ وَعَدَهُ خَيْبَرَ يُغَنّمُهُ إيّاهَا. قَالَ: فَأَقْبَلَ النّاسُ جَمِيعًا حَتّى عَادُوا إلَى صَاحِبِ رَايَتِهِمْ، ثُمّ زَحَفَ بِهِمْ الْحُبَابُ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو قَلِيلًا قَلِيلًا، وَتَرْجِعُ الْيَهُودُ عَلَى أَدْبَارِهَا حَتّى لَحَمَهَا الشّرّ فَانْكَشَفُوا سِرَاعًا، وَدَخَلُوا الْحِصْنَ وَغَلّقُوا عَلَيْهِمْ، وَوَافَوْا عَلَى جُدُرِهِ- وَلَهُ جُدُرٌ دُونَ جُدُرٍ- فَجَعَلُوا يَرْمُونَنَا بِالْجَنْدَلِ [ (2) ] رَمْيًا كَثِيرًا، وَنَحّونَا عَنْ حِصْنِهِمْ بِوَقْعِ الْحِجَارَةِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى مَوْضِعِ الْحُبَابِ الْأَوّلِ. ثُمّ إنّ الْيَهُودَ تَلَاوَمَتْ بَيْنَهَا وَقَالَتْ: مَا نَسْتَبْقِي لِأَنْفُسِنَا؟ قَدْ قُتِلَ أَهْلُ الْجَدّ وَالْجِلْدِ فِي حِصْنِ نَاعِم. فَخَرَجُوا مُسْتَمِيتِينَ، وَرَجَعْنَا إلَيْهِمْ فَاقْتَتَلْنَا عَلَى بَابِ الْحِصْنِ أَشَدّ الْقِتَالِ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ عَلَى الْبَابِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو ضيّاح، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسّيْفِ فَأَطَنّ قِحْفَ رَأْسِهِ، وَعَدِيّ بْنُ مَرّةَ بْنِ سراقة، طعنه حدهم بِالْحَرْبَةِ بَيْنَ ثَدْيِهِ فَمَاتَ، وَالثّالِثُ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ فَدَمَغَهُ. وَقَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ عَلَى الْحِصْنِ عِدّةً، كُلّمَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا حَمَلُوهُ حَتّى يُدْخِلُوهُ الْحِصْنَ. ثُمّ حَمَلَ صَاحِبُ رَايَتِنَا وَحَمَلْنَا مَعَهُ، وَأَدْخَلْنَا الْيَهُودَ الْحِصْنَ وَتَبِعْنَاهُمْ فِي جَوْفِهِ، فَلَمّا دَخَلْنَا عَلَيْهِمْ الْحِصْنَ فَكَأَنّهُمْ غَنَمٌ، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم،
__________
[ (1) ] هو العبد الأسود مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (الاستيعاب، ص 1468) .
[ (2) ] الجندل: الحجارة. (لسان العرب، ج 13، ص 136) .(2/663)
وَهَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ يَرْكَبُونَ الْحَرّةَ يُرِيدُونَ حِصْنَ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ، وَجَعَلْنَا نَدَعُهُمْ يَهْرُبُونَ، وَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جُدُرِهِ فَكَبّرُوا عَلَيْهِ تَكْبِيرًا كَثِيرًا، فَفَتَتْنَا أَعْضَادَ الْيَهُودِ بِالتّكْبِيرِ، لَقَدْ رَأَيْت فَتَيَانِ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ فَوْقَ الْحِصْنِ يُكَبّرُونَ، فَوَجَدْنَا وَاَللهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ مَا لَمْ نَظُنّ أَنّهُ هُنَاكَ، مِنْ الشّعِيرِ، وَالتّمْرِ، وَالسّمْنِ، وَالْعَسَلِ، وَالزّيْتِ، وَالْوَدَكِ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْتَمِلُوا. يَقُولُ: لَا تَخْرُجُوا بِهِ إلَى بِلَادِكُمْ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحِصْنِ مَقَامَهُمْ طَعَامَهُمْ وَعَلَفَ دَوَابّهِمْ، لَا يُمْنَعُ أَحَدُ أَنْ يَأْخُذَ حَاجَتَهُ وَلَا يُخَمّسُ الطّعَامَ. وَوَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْبَزّ وَالْآنِيّةِ، وَوَجَدُوا خَوَابِيَ، السّكَرِ، فَأُمِرُوا فَكَسَرُوهَا، فَكَانُوا يَكْسِرُونَهَا حَتّى سَالَ السّكَرُ فِي الْحِصْنِ، وَالْخَوَابِي كِبَارٌ لَا يُطَاقُ حَمْلُهَا.
وَكَانَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيّ يَقُولُ: وَجَدْنَا فِيهِ آنِيّةً مِنْ نُحَاسٍ وَفَخّارٍ كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْكُلُ فِيهَا وَتَشْرَبُ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اغْسِلُوهَا وَاطْبُخُوا وَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا. وَقَالَ:
أَسْخِنُوا فِيهَا الْمَاءَ ثُمّ اُطْبُخُوا بَعْدُ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا.
وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ غَنَمًا كَثِيرًا وَبَقَرًا وَحُمُرًا، وَأَخْرَجْنَا مِنْهُ آلَةً كَثِيرَةً لِلْحَرْبِ، وَمَنْجَنِيقًا [ (1) ] وَدَبّابَاتٍ وَعُدّةً، فَنَعْلَمُ أَنّهُمْ قَدْ كَانُوا يَظُنّونَ أَنّ الْحِصَارَ يَكُونُ دَهْرًا، فَعَجّلَ اللهُ خِزْيَهُمْ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقَدْ خَرَجَ مِنْ أُطُمٍ مِنْ حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ الْبَزّ عِشْرُونَ عِكْمًا [ (2) ] مَحْزُومَةً مِنْ غَلِيظِ مَتَاعِ الْيَمَنِ، وَأَلْفُ وَخَمْسُمِائَةِ قَطِيفَةٍ، يُقَالُ: قَدِمَ كُلّ رَجُلٍ بِقَطِيفَةٍ عَلَى أَهْلِهِ، وَوَجَدُوا عَشَرَةَ أَحْمَالِ خَشَبٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَأَخْرَجَ مِنْ الْحِصْنِ ثم أحرق،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «منجنيق» .
[ (2) ] العكم: ثوب يبسط ويجعل فيه المتاع ويشد. (تاج العروس، ج 8، ص 404) .(2/664)
فَمَكَثَ أَيّامًا يَحْتَرِقُ، وَخَوَابِي سَكَرٍ كُسِرَتْ، وَزُقَاقُ خَمْرٍ فَأُهْرِيقَتْ.
وَعَمِدَ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَشَرِبَ مِنْ الْخَمْرِ، فَرَفَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ حِينَ رَفَعَ إلَيْهِ فَخَفَقَهُ بِنَعْلَيْهِ، وَمَنْ حَضَرَهُ، فَخَفَقُوهُ بِنِعَالِهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ الْخَمّارِ،
وَكَانَ رَجُلًا لَا يَصْبِرُ عَنْ الشّرَابِ قَدْ ضَرَبَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اللهُمّ الْعَنْهُ! مَا أَكْثَرَ مَا يُضْرَبُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلْ يَا عُمَرُ، فَإِنّهُ يُحِبّ اللهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ: ثُمّ رَاحَ عَبْدُ اللهِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ كَأَنّهُ أَحَدُهُمْ حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ: لَقَدْ وَجَدْنَا فِي حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ الطّعَامِ مَا كُنْت أَظُنّ أَنّهُ لَا يَكُونُ بِخَيْبَرَ، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَأْكُلُونَ مَقَامَهُمْ شَهْرًا وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَيَعْلِفُونَ دَوَابّهُمْ، مَا يَمْنَعُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خُمُسٌ، وَأُخْرِجُ مِنْ الّبُزُوزِ شَيْءٌ كَثِيرٌ يُبَاعُ فِي الْمَقْسَمِ، وَوُجِدَ فِيهِ خَرْزٌ مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ. فَقِيلَ لَهَا:
فَمَنْ الّذِي يَشْتَرِي ذَلِكَ فِي الْمَقْسَمِ؟ قَالَتْ: الْمُسْلِمُونَ، وَالْيَهُودُ الّذِينَ كَانُوا فِي الْكَتِيبَةِ فَآمَنُوا، وَمَنْ حَضَرَ من الأعراب، فكل هولاء يَشْتَرِي، فَأَمّا مَنْ يَشْتَرِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّمَا يُحَاسَبُ بِهِ مِمّا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَغْنَمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمّا نَظَرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ مِنْهُ الطّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْبَزّ قَالَ: مَا أَحَدٌ يَعْلِفُ لَنَا دَوَابّنَا وَيُطْعِمُنَا مِنْ هَذَا الطّعَامِ الضّائِعِ، فَقَدْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كِرَامًا! فَشَتَمَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا:(2/665)
لَك الّذِي جَعَلَ لَك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذُو الرّقَيْبَةِ [ (1) ] ، فَاسْكُتْ! وَبَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ فِي حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَلَهُ مَدَاخِلُ، فَأَخْرَجُوا رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَتَعَجّبُوا لِسَوَادِ دَمِهِ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ:
مَا رَأَيْنَا مِثْلَ سَوَادِ هَذَا الدّمِ قَطّ- قَالَ: يَقُولُ مُتَكَلّمٌ: فِي رَفّ مِنْ تِلْكَ الرّفَافِ الثّومُ وَالثّرِيدُ- وَأُنْزِلَ فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ.
قَالَ: وَتَحَوّلَتْ الْيَهُودُ مِنْ حِصْنِ نَاعِم كُلّهَا، وَمِنْ حصن الصّعب ابن مُعَاذٍ، وَمِنْ كُلّ حُصُونِ النّطَاةِ، إلَى حِصْنٍ يُقَالُ لَهُ قُلْعَةُ الزّبَيْرِ، فَزَحَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ، فَحَاصَرَهُمْ وَغَلّقُوا عَلَيْهِمْ حِصْنَهُمْ وَهُوَ حَصِينٌ مَنِيعٌ، وَإِنّمَا هُوَ فِي رَأْسِ قَلْعَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ وَلَا الرّجَالُ لِصُعُوبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ، وَبَقِيت بَقَايَا لَا ذِكْرَ لَهُمْ فِي بَعْضِ حُصُونِ النّطَاةِ، الرّجُلُ وَالرّجُلَانِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِزَائِهِمْ رِجَالًا [ (2) ] يَحْرُسُونَهُمْ، لَا يَطْلُعُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ إلّا قَتَلُوهُ. وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الّذِينَ فِي قَلْعَةِ الزّبَيْرِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ غَزَالٌ فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ، تُؤَمّنّي عَلَى أَنْ أَدُلّك عَلَى مَا تَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ أَهْلِ النّطَاةِ وَتَخْرَجُ إلَى أَهْلِ الشّقّ، فَإِنّ أَهْلَ الشّقّ قَدْ هَلَكُوا رُعْبًا مِنْك؟ قَالَ: فَأَمّنّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ. فَقَالَ الْيَهُودِيّ: إنّك لَوْ أَقَمْت شَهْرًا مَا بَالُوا، لَهُمْ دُبُولٌ [ (3) ] تَحْتَ الْأَرْضِ، يَخْرُجُونَ بِاللّيْلِ فَيَشْرَبُونَ بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون
__________
[ (1) ] ذو الرقيبة: جبل مطل على خيبر. (معجم البلدان، ج 4، ص 274) .
[ (2) ] فى الأصل: «رجال» .
[ (3) ] فى الأصل: «ذيول» ، وما أثبتناه عن ابن كثير. (البداية والنهاية، ج 4، ص 198) .
والدبول: جمع دبل وهو الجدول. (القاموس المحيط، ج 3، ص 373) .(2/666)
مِنْك، وَإِنْ قَطَعْت مَشْرَبَهُمْ عَلَيْهِمْ ضَجّوا. فَسَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دُبُولِهِمْ فَقَطَعَهَا، فَلَمّا قَطَعَ عَلَيْهِمْ مَشَارِبَهُمْ لَمْ يُطِيقُوا الْمَقَامَ عَلَى الْعَطَشِ، فَخَرَجُوا فَقَاتَلُوا أَشَدّ الْقِتَالِ، وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ نَفَرٌ، وَأُصِيبَ مِنْ الْيَهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَشَرَةٌ، وَافْتَتَحَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ آخِرَ حُصُونِ النّطَاةِ. فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النّطَاةِ أَمَرَ بِالِانْتِقَالِ، وَالْعَسْكَرِ أَنْ يُحَوّلَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِالرّجِيعِ إلَى مَكَانِهِ الْأَوّلِ بِالْمَنْزِلَةِ، وَأَمّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيَاتِ وَمِنْ حَرْبِ الْيَهُودِ وَمَا يَخَافُ مِنْهُمْ، لِأَنّ أَهْلَ النّطَاةِ كَانُوا أَحَدّ الْيَهُودِ وَأَهْلَ النّجْدَةِ مِنْهُمْ. ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الشّقّ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِيّ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: لَمّا تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الشّقّ، وَبِهِ حُصُونٌ ذَاتُ عَدَدٍ، كَانَ أَوّلَ حِصْنِ بَدَأَ مِنْهَا حِصْنُ أُبَيّ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلْعَةٍ يُقَالُ لَهَا سُمْرَانُ [ (1) ] ، فَقَاتَلَ عَلَيْهَا أَهْلَ الْحِصْنِ قِتَالًا شَدِيدًا. وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ غَزَالٌ [ (2) ] فَدَعَا إلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ الْحُبَابُ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ نِصْفِ الذّرَاعِ، فَوَقَعَ السّيْفُ مِنْ يَدِ غَزّالٍ فَكَانَ أَعَزْلَ، وَرَجَعَ مُبَادِرًا مُنْهَزِمًا إلَى الْحِصْنِ، وَتَبِعَهُ الْحُبَابُ فَقَطَعَ عُرْقُوبَهُ، فَوَقَعَ فَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ آخَرُ فَصَاحَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آلِ جَحْشٍ فَقَتَلَ الْجَحْشِيّ. وَقَامَ مكانه يدعو إلى
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن كثير يروى عن الواقدي: «سموان» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 198) .
[ (2) ] فى ابن كثير يروى عن الواقدي: «غزول» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 198) .(2/667)
الْبِرَازِ وَيَبْرُزُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْمِغْفَرِ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، فَبَدَرَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمّ ذَفّفَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ، دِرْعَهُ وَسَيْفَهُ، فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَأَحْجَمُوا عَنْ الْبِرَازِ، فَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ ثُمّ تَحَامَلُوا عَلَى الْحِصْنِ فَدَخَلُوهُ، يَقْدُمُهُمْ أَبُو دُجَانَةَ، فَوَجَدُوا فِيهِ أَثَاثًا وَمَتَاعًا وَغَنَمًا وَطَعَامًا، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَقَحّمُوا الْجُدُرَ كَأَنّهُمْ الظّبَاءُ [ (1) ] حَتّى صَارُوا إلَى حِصْنِ النّزَارِ [ (2) ] بِالشّقّ، وَجَعَلَ يَأْتِي مَنْ بَقِيَ مِنْ قُلَلِ [ (3) ] النّطَاةِ إلَى حِصْنِ النّزَارِ فَعَلّقُوهُ وَامْتَنَعُوا فِيهِ أَشَدّ الِامْتِنَاعِ. وَزَحَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فِي أَصْحَابِهِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَكَانُوا أَشَدّ أَهْلِ الشّقّ قِتَالًا، رَمَوْا الْمُسْلِمِينَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، حَتّى أَصَابَتْ النّبْلُ ثِيَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِقَتْ بِهِ، فَأَخَذَ النّبْلَ فَجَمَعَهَا ثُمّ أَخَذَ لَهُمْ كَفّا من حصا فَحَصَبَ بِهِ حِصْنَهُمْ، فَرَجَفَ بِهِمْ ثُمّ سَاخَ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ: اسْتَوَى بِالْأَرْضِ حَتّى جَاءَ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوا أَهْلَهُ أَخْذًا [ (4) ] . وَكَانَتْ فِيهِ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ وَابْنَةُ عَمّهَا. فَكَانَ عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي اللّحْمِ يَقُولُ: شَهِدْت صفيّة أخرجت وابنة عمّها وصبيّات من
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن كثير يروى عن الواقدي: «الضباب» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 198) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن كثير يروى عن الواقدي: «البزاة» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 198) .
[ (3) ] قلل: جمع قلة، وقلة كل شيء أعلاه. (الصحاح، ص 1804) .
[ (4) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن كثير يروى عن الواقدي: «وأخذهم المسلمون أخذا باليد» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 198) .(2/668)
حِصْنِ النّزَارِ، فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِصْنَ النّزَارِ بَقِيَتْ حُصُونٌ فِي الشّقّ، فَهَرَبَ أَهْلُهَا مِنْهَا حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَهْلِ الْكَتِيبَةِ وَالْوَطِيحِ وَسُلَالِم.
وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ يَقُولُ: وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حِصْنِ النّزَارِ فَقَالَ: هَذَا آخِرُ حُصُونِ خَيْبَرَ كَانَ فِيهِ قِتَالٌ،
لَمّا فَتَحْنَا هَذَا الْحِصْنَ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ، قُلْت لِجَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ: كَيْفَ صَارَتْ صَفِيّةُ فِي حِصْنِ النّزَارِ فِي الشّقّ وَحِصْنِ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ بِسُلَالِمَ، وَلَمْ يَسُبّ فِي حُصُونِ النّطَاةِ مِنْ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ أَحَدٌ وَلَا بِالشّقّ، إلّا فِي حِصْنِ النّزَارِ، فَإِنّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ ذُرّيّةٌ وَنِسَاءٌ؟ فَقَالَ:
إنّ يَهُودَ خَيْبَرَ أَخَرَجُوا النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ إلَى الْكَتِيبَةِ وَفَرّغُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَمْ يُسْبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلّا مَنْ كَانَ فِي حِصْنِ النّزَارِ، صَفِيّةُ وَابْنَةُ عَمّهَا وَنُسَيّاتٌ مَعَهَا. وَكَانَ كِنَانَةُ قَدْ رَأَى أَنّ حِصْنَ النّزَارِ أَحْصَنُ مَا هُنَالِكَ، فَأَخْرَجَهَا فِي اللّيْلَةِ الّتِي تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَبِيحَتِهَا إلَى الشّقّ حَتّى أُسِرَتْ وَبِنْتُ عَمّهَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ ذَرَارِيّ الْيَهُودِ، وَبِالْكَتِيبَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَلَمّا صَالَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْكَتِيبَةِ أَمِنَ الرّجَالَ وَالذّرّيّةَ، وَدَفَعُوا إلَيْهِ الْأَمْوَالَ، وَالْبَيْضَاءَ وَالصّفْرَاءَ، وَالْحَلْقَةَ، وَالثّيَابَ، إلّا ثَوْبًا [ (1) ] عَلَى إنْسَانٍ. فَلَقَدْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ حِينَ أَمّنَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُونَ وَيُدْبِرُونَ، وَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ، لَقَدْ أَنْفَقُوا عَامّةَ الْمَغْنَمِ مِمّا يشترون من الثياب من
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ثوب» .(2/669)
الثّيَابِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانُوا قَدْ غَيّبُوا نَقُودَهُمْ وَعَيْنَ مَالِهِمْ.
قَالُوا: ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَتِيبَةِ وَالْوَطِيحِ وَسُلَالِم، حصن ابن أَبِي الْحُقَيْقِ الّذِي كَانُوا فِيهِ، فَتَحَصّنُوا أَشَدّ التّحَصّنِ، وَجَاءَهُمْ كُلّ فَلّ [ (1) ] كَانَ قَدْ انْهَزَمَ مِنْ النّطَاةِ وَالشّقّ، فَتَحَصّنُوا مَعَهُمْ فِي الْقَمُوص وَهُوَ فِي الْكَتِيبَةِ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَفِي الوطيح وسلالم. وجعلوا لا يطلعون مِنْ حُصُونِهِمْ مُغَلّقِينَ عَلَيْهِمْ، حَتّى هَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَيْهِمْ لَمّا رَأَى مِنْ تَغْلِيقِهِمْ، وَأَنّهُ لَا يَبْرُزُ مِنْهُمْ بَارِزٌ.
فَلَمّا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ وَقَدْ حَصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّلْحَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ: وُجِدَ فِي الْكَتِيبَةِ خَمْسُمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٌ. وَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَمّنْ رَأَى كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ يَرْمِي بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ- يَعْنِي ذِرَاعً- فَيُدْخِلُهَا فِي هَدَفٍ شِبْرًا فِي شِبْرٍ، فَمَا هُوَ إلّا أَنْ قِيلَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ الشّقّ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ تَهَيّأَ أَهْلُ الْقَمُوص وَقَامُوا عَلَى بَابِ الْحِصْنِ بِالنّبْلِ، فَنَهَضَ كِنَانَةُ إلَى قَوْسِهِ فَمَا قَدَرَ أَنْ يُوتِرَهَا مِنْ الرّعْدَةِ، وَأَوْمَأَ إلَى أَهْلِ الْحُصُونِ: لَا تَرْمُوا! وَانْقَمَعَ فِي حِصْنِهِ، فَمَا رُئِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، حَتّى أَجْهَدَهُمْ الْحِصَارُ وَقَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ. فَأَرْسَلَ كِنَانَةَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ شَمّاخٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنْزِلْ إلَيْك أُكَلّمْك! فَلَمّا نَزَلَ شَمّاخٌ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأُتِيَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِرِسَالَةِ كِنَانَةَ. فَأَنْعَمَ لَهُ، فَنَزَلَ كِنَانَةُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَا صَالَحَهُ، فَأَحْلَفَهُ عَلَى مَا أَحْلَفَهُ عَلَيْهِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: تِلْكَ الْقِسِيّ وَالسّلَاحُ إنّمَا كَانَ لِآلِ أَبِي الْحُقَيْقِ جَمَاعَةٌ يُعِيرُونَهُ العرب، والحلي يعيرونه
__________
[ (1) ] فل القوم: أى منهزموهم، يستوى فيه الواحد والجمع، يقال رجل فل وقوم فل. (الصحاح، ص 1793) .(2/670)
الْعَرَبَ. ثُمّ يَقُولُ: كَانُوا شَرّ يَهُودِ يَثْرِبَ.
قَالُوا: وَأَرْسَلَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْزِلْ فَأُكَلّمَك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَ: فَنَزَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَرَكَ الذّرّيّةَ لَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا بِذَرَارِيّهِمْ، وَيُخَلّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ أَوْ أَرْضٍ، وَعَلَى الصّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلْقَةِ، وَعَلَى الْبَزّ، إلّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا. فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْأَمْوَالِ فَقَبَضَهَا، الْأَوّلُ فَالْأَوّلُ، وَبَعَثَ إلَى الْمَتَاعِ وَالْحَلْقَةِ فَقَبَضَهَا، فَوَجَدَ مِنْ الدّرُوعِ مِائَةَ دِرْعٍ، وَمِنْ السّيُوفِ أَرْبَعَمِائَةِ سَيْفٍ، وَأَلْفَ رُمْحٍ، وَخَمْسَمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٍ بِجِعَابِهَا. فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ عَنْ كَنْزِ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَحُلِيّ مِنْ حُلِيّهِمْ، كَانَ يَكُونُ فِي مَسْكِ [ (1) ] الْجَمَلِ، كَانَ أَسْرَاهُمْ [ (2) ] يُعْرَفُ بِهِ، وَكَانَ الْعُرْسُ يَكُونُ بِمَكّةَ فَيَقْدَمُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ الْحُلِيّ الشّهْرَ فَيَكُونُ فِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحُلِيّ يَكُونُ عِنْدَ الْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ مِنْ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَنْفَقْنَاهُ فِي حَرْبِنَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكُنّا نَرْفَعُهُ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَلَمْ تُبْقِ الْحَرْبُ وَاسْتِنْصَارُ الرّجَالِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَحَلَفَا عَلَى ذَلِكَ فَوَكّدَا الْأَيْمَانَ وَاجْتَهَدَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لهما [ (3) ] :
__________
[ (1) ] المسك: الجلد. (الصحاح، ص 1608) .
[ (2) ] فى الأصل: «لسرهم» ، وأمراهم: أشرفهم. (لسان العرب، ج 19، ص 98) .
[ (3) ] هكذا فى الأصل بصيغة المثنى.(2/671)
بَرِئَتْ مِنْكُمَا ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كان عند كما! قَالَا: نَعَمْ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُلّ مَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِكُمَا وَأَصَبْت مِنْ دِمَائِكُمَا فَهُوَ حِلّ لِي وَلَا ذِمّةَ لَكُمَا!
قَالَا: نَعَمْ. وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيّا، وَالزّبِيرَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعَشَرَةً مِنْ الْيَهُودِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عِنْدَك مَا يَطْلُبُ مِنْك مُحَمّدٌ أَوْ تَعْلَمُ عِلْمَهُ فَأَعْلِمْهُ فَإِنّك تَأْمَنُ عَلَى دَمِك، وَإِلّا فَوَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ عَلَيْهِ، قَدْ اطّلَعَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ نَعْلَمْهُ. فَزَبَرَهُ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَتَنَحّى الْيَهُودِيّ فَقَعَدَ. ثُمّ سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلّامِ بْن أَبِي الْحُقَيْقِ- وَكَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا- عَنْ كَنْزِهِمَا، فَقَالَ: لَيْسَ لِي عِلْمٌ غَيْرَ أَنّي قَدْ كُنْت أَرَى كِنَانَةَ كُلّ غَدَاةٍ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ- قَالَ: وَأَشَارَ إلَى خَرِبَةٍ- فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ [ (1) ] دَفَنَهُ فَهُوَ فِيهَا. وَكَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ لَمّا ظَهَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النّطَاةِ أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ- وَكَانَ أَهْلُ النّطَاةِ أَخَذَهُمْ [الرّعْبُ]- فَذَهَبَ بِمَسْكِ الْجَمْلِ، فِيهِ حَلِيّهُمْ، فَحَفَرَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَيْلًا وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ، ثُمّ سَوّى عَلَيْهِ التّرَابَ بِالْكَتِيبَةِ، وَهِيَ الْخَرِبَةُ الّتِي رَآهُ ثَعْلَبَةُ يَدُورُ بِهَا كُلّ غَدَاةٍ. فَأَرْسَلَ مَعَ ثَعْلَبَةَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامّ وَنَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى تِلْكَ الْخَرِبَةِ، فَحَفَرَ حَيْثُ أَرَاهُ ثَعْلَبَةُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَنْزَ. وَيُقَالُ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ دَلّ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَنْزِ. فَلَمّا أُخْرِجَ الْكَنْزُ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزّبَيْرَ أَنْ يُعَذّبَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ حَتّى يَسْتَخْرِجَ كُلّ مَا عِنْدَهُ. فَعَذّبَهُ الزّبَيْرُ حَتّى جَاءَهُ بِزَنْدٍ [ (2) ] يَقْدَحُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى محمّد بن مسلمة
__________
[ (1) ] فى الأصل: «شيئا» .
[ (2) ] فى الأصل: «يريد» . وما أثبتناه من السيرة الحلبية. (ج 2، ص 167) .(2/672)
يَقْتُلُهُ بِأَخِيهِ، فَقَتَلَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. وَأَمَرَ بِابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ الْآخَرِ، فَعُذّبَ ثُمّ دُفِعَ إلَى وُلَاةِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَقُتِلَ بِهِ، وَيُقَالُ: ضُرِبَ عُنُقُهُ.
وَاسْتَحَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَمْوَالَهُمَا وَسَبَى ذَرَارِيّهُمَا.
فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ الرّبِيعَةِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَمّنْ نَظَرَ إلَى مَا فِي مَسْكِ الْجَمْلِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِهِ، فَإِذَا جُلّهُ أَسْوِرَةٌ الذّهَبِ، وَدَمَالِجُ الذّهَبِ، وَخَلَاخِلُ الذّهَبِ، وَقِرَطَةُ الذّهَبِ، وَنَظْمٌ مِنْ جَوْهَرٍ وَزُمُرّدٍ، وَخَوَاتِمُ ذَهَبٍ، وَفَتَخٌ [ (1) ] بِجَزْعِ ظَفَارِ مُجَزّعٌ بِالذّهَبِ. وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِظَامًا مِنْ جَوْهَرٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ أَهْلِهِ، إمّا عَائِشَةُ أَوْ إحْدَى بَنَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ فَلَمْ تَمْكُثْ إلّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ حَتّى فَرّقَتْهُ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْأَرَامِلِ، فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ ذُرَةً مِنْهَا.
فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ إلَى فِرَاشِهِ لَمْ ينم، فغدا فى فِي السّحَرِ حَتّى أَتَى عَائِشَةَ، وَلَمْ تَكُنْ لَيْلَتَهَا، أَوْ بِنْتَه، فَقَالَ: رُدّي عَلَيّ النّظَامَ فَإِنّهُ لَيْسَ لِي، وَلَا لَك فِيهِ حَقّ. فَخَبّرَتْهُ كَيْفَ صَنَعْت بِهِ، فَحَمْدُ اللهِ وَانْصَرَفَ.
وَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ تَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ النّظَامُ لِبِنْتِ كِنَانَةَ.
وَكَانَتْ صَفِيّةُ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْكَتِيبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرْسَلَ بِهَا مَعَ بَلَالٍ إلَى رَحْلِهِ. فَمَرّ بِهَا وَبِابْنَةِ عَمّهَا عَلَى الْقَتْلَى، فَصَاحَتْ ابْنَةُ عَمّهَا صِيَاحًا شَدِيدًا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ بَلَالٌ فَقَالَ: أَذَهَبَتْ مِنْك الرّحْمَةُ؟ تمرّ بجارية حديثة السنّ على
__________
[ (1) ] فتخ: جمع فتخة، وهي خاتم كبير يلبس فى الأيدى، وربما وضع فى أصابع الأرجل. (النهاية، ج 3، ص 182) .(2/673)
الْقَتْلَى!، فَقَالَ بَلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَحْبَبْت أَنْ تَرَى مَصَارِعَ قَوْمِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابْنَةِ عَمّ صَفِيّةَ:
مَا هَذَا إلّا شَيْطَانٌ.
وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ قَدْ نَظَرَ إلَى صَفِيّةَ فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُقَالُ إنّهُ وَعَدَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ، فَأَعْطَاهُ ابْنَةَ عَمّهَا.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ أُخْتِهِ أُمّ عَبْدِ اللهِ، عَنْ ابْنَةِ أَبِي الْقَيْنِ الْمُزَنِيّ، قَالَتْ: كُنْت آلَفُ صَفِيّةَ مِنْ بَيْنَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُحَدّثُنِي عَنْ قَوْمِهَا وَمَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْهُمْ قَالَتْ: خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَيْثُ أَجْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَمْنَا بِخَيْبَرَ، فَتَزَوّجَنِي كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَأَعْرَسَ بِي قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِأَيّامٍ، وَذَبَحَ جُزُرًا وَدَعَا بِالْيَهُودِ، وَحَوّلَنِي فِي حِصْنِهِ بِسُلَالِمَ، فَرَأَيْت فِي النّوْمِ كَأَنّ قمرا أقبل من يثرب يسير حتى وقع فِي حِجْرِي. فَذَكَرْت ذَلِكَ لَكِنَانَةَ زَوْجِي فَلَطَمَ عَيْنِي فَاخْضَرّتْ، فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلْت عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْته. قَالَتْ: وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ ذَرَارِيّهَا فِي الْكَتِيبَةِ، وَجَرّدُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَافْتَتَحَ حُصُونَ النّطَاةِ، وَدَخَلَ عَلَيّ كِنَانَةُ فَقَالَ: قَدْ فرغ محمّد من النّطاة، وليس هاهنا أَحَدٌ يُقَاتِلُ، قَدْ قُتِلَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النّطَاةِ وَكَذَبَتْنَا الْعَرَبُ. فَحَوّلَنِي إلَى حِصْنِ النّزَارِ بِالشّقّ، - قَالَ:
وَهُوَ أَحْصَنُ مِمّا عِنْدَنَا- فَخَرَجَ حَتّى أَدْخَلَنِي وَابْنَةَ عَمّي وَنُسَيّاتٍ مَعَنَا.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَيْنَا قَبْلَ الْكَتِيبَةِ فَسُبِيت فِي النّزَارِ قَبْلَ أن(2/674)
يَنْتَهِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْكَتِيبَةِ، فَأَرْسَلَ بِي إلَى رَحْلِهِ، ثُمّ جَاءَنَا حِينَ أَمْسَى فَدَعَانِي، فَجِئْت وَأَنَا مُقَنّعَةٌ حَيِيّةٌ، فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ:
إنْ أَقَمْت عَلَى دِينِك لَمْ أُكْرِهْك، وَإِنْ اخْتَرْت اللهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَك.
قَالَتْ: أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ. فَأَعْتَقَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوّجَنِي وَجَعَلَ عِتْقِي مَهْرِي، فَلَمّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ أَصْحَابُهُ:
الْيَوْمَ نَعْلَمُ أَزَوْجَةً أَمْ سُرّيّةً، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فَسَيُحَجّبُهَا وَإِلّا فَهِيَ سُرّيّةٌ. فَلَمّا خَرَجَ أَمَرَ بِسِتْرٍ فَسَتَرَتْ بِهِ فَعَرَفَ أَنّي زَوْجَةٌ، ثُمّ قَدِمَ إلَى الْبَعِيرِ وَقَدّمَ فَخِذَهُ لِأَضَعَ رِجْلِي عَلَيْهَا، فَأَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَوَضَعْت فَخِذِي عَلَى فَخِذِهِ، ثُمّ رَكِبْت. وَكُنْت أَلْقَى مِنْ أَزْوَاجِهِ، يَفْخَرْنَ عَلَيّ يَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِيّ.
وَكُنْت أَرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَطّفُ بِي وَيُكْرِمُنِي، فَدَخَلَ عَلَيّ يَوْمًا وَأَنَا أَبْكِي فقال: مالك؟ فَقُلْت: أَزْوَاجُك يَفْخَرْنَ عَلَيّ وَيَقُلْنَ: يَا بِنْتَ الْيَهُودِيّ. قَالَتْ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَضِبَ ثُمّ قَالَ:
إذَا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبى هرون وعمّى موسى
قالوا: وكان أبو شييم المري- قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ- يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا نَفّرْنَا أَهْلَهَا بِحَيْفَاءَ مَعَ عُيَيْنَةَ- قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَارّونَ هَادِئُونَ لَمْ يَهْجُهُمْ هَائِجٌ- رَجَعَ بِنَا عُيَيْنَةُ، فَلَمّا كَانَ دُونَ خَيْبَرَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْحُطَامُ عَرّسْنَا مِنْ اللّيْلِ فَفَزِعْنَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَبْشِرُوا إنّي أَرَى اللّيْلَةَ فِي النّوْمِ أَنّي أُعْطِيت ذَا الرّقَيْبَةِ- جَبَلًا بِخَيْبَرَ- قَدْ وَاَللهِ قَدْ أَخَذْت بِرِقْبَةِ مُحَمّدٍ. قَالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ فَوَجَدَ رَسُولَ الله صلى الله عليه(2/675)
وَسَلّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنّمَهُ اللهُ مَا فِيهَا،
فَقَالَ عُيَيْنَةُ: أُعْطِنِي يَا مُحَمّدُ مِمّا غَنِمْت مِنْ حُلَفَائِي فَإِنّي انْصَرَفْت عَنْك وَعَنْ قِتَالِك وَخَذَلْت حُلَفَائِي وَلَمْ أُكْثِرْ عَلَيْك، وَرَجَعْت عَنْك بِأَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْت، وَلَكِنْ الصّيَاحُ الّذِي سَمِعْت أَنَفَرَك إلَى أُهْلِكْ.
قَالَ: أَجْزِنِي يَا مُحَمّدُ. قَالَ: لَك ذُو الرّقَيْبَةِ. قَالَ عُيَيْنَةُ: وَمَا ذُو الرّقَيْبَةِ؟ قَالَ: الْجَبَلُ الّذِي رَأَيْت فِي النّوْمِ أَنّك أَخَذْته.
فَانْصَرَفَ عُيَيْنَةُ فَجَعَلَ يَتَدَسّسُ إلَى الْيَهُودِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا، وَاَللهِ مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يُصِيبُ مُحَمّدًا غَيْرَكُمْ. قُلْت: أَهْلُ الْحُصُونِ وَالْعُدّةِ وَالثّرْوَةِ، أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، وَهَذَا الطّعَامِ الْكَثِيرِ مَا يُوجَدُ لَهُ آكِلٌ، وَالْمَاءُ الْوَاتِنُ. قَالُوا: قَدْ أَرَدْنَا الِامْتِنَاعَ فِي قَلْعَةِ الزّبَيْرِ وَلَكِنّ الدّبُولَ [ (1) ] قُطِعَتْ عَنّا، وَكَانَ الْحُرّ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا بَقَاءٌ عَلَى الْعَطَشِ. قَالَ: قَدْ وُلِيتُمْ مِنْ حُصُونِ نَاعِمٍ مُنْهَزِمِينَ حَتّى صِرْتُمْ إلَى حِصْنِ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ. وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَمّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فَيُخْبِرُ، قَالَ: قُتِلَ وَاَللهِ أَهْلُ الْجَدّ وَالْجَلَدِ، لَا نِظَامَ ليهود بالحجاز أبدا. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلّام بن أبى الحقيق، وكانوا يَقُولُونَ إنّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ مُخْتَلِطٌ، فَقَالَ: يَا عُيَيْنَةُ، أَنْتَ غَرَرْتهمْ وَخَذَلْتهمْ وَتَرَكْتهمْ وَقِتَالَ مُحَمّدٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا صَنَعْت بِبَنِي قُرَيْظَةَ! فَقَالَ عُيَيْنَةُ:
إنّ مُحَمّدًا كَادَنَا فِي أَهْلِنَا، فَنَفَرْنَا إلَيْهِمْ حَيْثُ سَمِعْنَا الصّرِيخَ وَنَحْنُ نَظُنّ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ خَالَفَ إلَيْهِمْ، فَلَمْ نَرَ شَيْئًا فَكَرَرْنَا إلَيْكُمْ لِنَنْصُرَكُمْ. قَالَ ثَعْلَبَةُ: وَمَنْ بَقِيَ تَنْصُرُهُ؟ قَدْ قُتِلَ مِنْ قُتِلَ وَبَقِيَ مَنْ بقي فصار عبدا لمحمّد، وسبانا،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «الذيول» .(2/676)
وَقَبَضَ الْأَمْوَالَ! قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ لِعُيَيْنَةَ: لَا أَنْتَ نَصَرْت حُلَفَاءَك فَلَمْ يُعِدّوا عَلَيْك حِلْفَنَا! وَلَا أَنْتَ حَيْثُ وُلّيت- كُنْت أَخَذْت تَمْرَ خَيْبَرَ مِنْ مُحَمّدٍ سَنَةً! وَاَللهِ إنّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا ظَاهِرًا، لَيَظْهَرَنّ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ.
فَانْصَرَفَ عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ يَفْتِلُ يَدَيْهِ، فَلَمّا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَك إنّك تُوضَعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ؟ وَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، الْيَهُودُ كَانُوا يُخْبِرُونَنَا هَذَا. أَشْهَدُ لَسَمِعْت أَبَا رَافِعٍ سَلّامَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ يَقُولُ: إنّا نَحْسُدُ مُحَمّدًا عَلَى النّبُوّةِ حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ بَنِي هرون، وَهُوَ نَبِيّ مُرْسَلٌ وَالْيَهُودُ لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى هَذَا، وَلَنَا مِنْهُ ذَبَحَانِ، وَاحِدٌ بِيَثْرِبَ وَآخَرُ بِخَيْبَرَ. قَالَ الْحَارِثُ، قُلْت لِسَلّامٍ:
يَمْلِكُ الْأَرْضَ جَمِيعًا؟ قَالَ: نَعَمْ وَالتّوْرَاةُ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ الْيَهُودُ بِقَوْلِي فِيهِ! قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَاطْمَأَنّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَسْأَلُ: أَيّ الشّاةِ أَحَبّ إلَى مُحَمّدٍ؟ فَيَقُولُونَ: الذّرَاعُ وَالْكَتِفُ. فَعَمَدَتْ إلَى عَنْزٍ لَهَا فَذَبَحَتْهَا، ثُمّ عَمَدَتْ إلَى سُمّ لَابَطِيّ [ (1) ] ، قَدْ شَاوَرَتْ الْيَهُودَ فِي سُمُومٍ فَأَجْمَعُوا لَهَا عَلَى هَذَا السّمّ بِعَيْنِهِ، فَسَمّتْ الشّاةَ وَأَكْثَرَتْ فِي الذّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ. فَلَمّا غَابَتْ الشّمْسُ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ وَانْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَيَجِدُ زَيْنَبَ جَالِسَةً عِنْدَ رَحْلِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَتْ:
أَبَا الْقَاسِمِ، هَدِيّةٌ أَهْدَيْتهَا لَك.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْهَدِيّةِ فَقَبَضْت مِنْهَا وَوَضَعْت بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] لبط بفلان: إذا صرع من عين أو حمى. (لسان العرب، ج 9، ص 263) .(2/677)
لِأَصْحَابِهِ وَهُمْ حُضُورٌ، أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ: اُدْنُوا فَتَعَشّوْا! فَدَنَوَا فَمَدّوا أَيْدِيَهُمْ، وَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذّرَاعَ، وَتَنَاوَلَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ عَظْمًا، وَأَنْهَشَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا نَهْشًا وَانْتَهَشَ بِشْرٌ، فَلَمّا ازْدَرَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَهُ ازْدَرَدَ بِشْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُفّوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنّ هَذِهِ الذّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنّهَا مَسْمُومَةٌ. فَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ: قَدْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَجَدْت ذَلِكَ مِنْ أَكْلَتِي الّتِي أَكَلْتهَا، فَمَا مَنَعَنِي أَنّ أَلْفِظَهَا إلّا كَرَاهِيَةَ أُنَغّصَ إلَيْك طَعَامَك، فَلَمّا تَسَوّغْتَ مَا فِي يَدِك لَمْ أَرْغَبْ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِك، وَرَجَوْت أَلّا تَكُونَ ازْدَرَدْتهَا وَفِيهَا نَعْيٌ [ (1) ] .
فَلَمْ يَرْمِ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى عَادَ لَوْنُهُ كَالطّيْلَسَانِ، وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ سَنَةً لَا يَتَحَوّلُ إلّا مَا حُوّلَ، ثُمّ مَاتَ مِنْهُ. وَيُقَالُ لَمْ يَقُمْ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى مَاتَ، وَعَاشَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ فَقَالَ: سَمَمْت الذّرَاعَ؟ فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَك؟
قَالَ: الذّرَاعُ. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: قَتَلْت أَبِي وَعَمّي وَزَوْجِي، وَنِلْت مِنْ قَوْمِي مَا نِلْت، فَقُلْت: إنْ كَانَ نَبِيّا فَسَتُخْبِرُهُ الشّاةُ مَا صَنَعْت، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ.
فَاخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِيهَا، فَقَالَ قَائِلٌ رِوَايَةً: أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ ثُمّ صُلِبَتْ. وَقَالَ قَائِلٌ رِوَايَةً: عَفَا عَنْهَا. وَكَانَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطّعَامِ وَلَمْ يَسِيغُوا مِنْهُ شَيْئًا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ مِنْ الشّاةِ، وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ كَتِفِهِ الْيُسْرَى. وَيُقَالُ: احْتَجَمَ عَلَى كَاهِلِهِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشّفْرَةِ.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بغى» .(2/678)
وَقَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ تَقُولُ: دَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ مَحْمُومٌ فَمَسِسْته فَقُلْت: مَا وَجَدْت مِثْلَ [مَا] وُعِكَ [ (1) ] عَلَيْك عَلَى أَحَدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ كَذَلِكَ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ، زَعَمَ النّاسُ أَنّ بِرَسُولِ اللهِ ذَاتُ الْجَنْبِ! مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلّطَهَا عَلَيّ، إنّمَا هِيَ هَمْزَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ، وَلَكِنّهُ مِنْ الْأَكْلَةِ الّتِي أَكَلْت أَنَا وَابْنُك يَوْمَ خَيْبَرَ. مَا زَالَ يُصِيبُنِي مِنْهَا عِدَادٌ [ (2) ] حَتّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعٍ [ (3) ] أَبْهَرِيّ [ (4) ] .
فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا. وَيُقَالُ: إنّ الّذِي مَاتَ فِي الشّاةِ مُبَشّرُ بْنُ الْبَرَاءِ. وَبِشْرٌ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ قَوْلِ زَيْنَبَ ابْنَةِ الْحَارِثِ «قَتَلْت أَبِي» قَالَ: قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ أَبُوهَا الْحَارِثُ وَعَمّهَا يَسَارٌ، وَكَانَ أَخْبَرَ النّاسِ، هُوَ الّذِي أُنْزِلَ مِنْ الشّقّ، وَكَانَ الْحَارِثُ أَشْجَعَ الْيَهُودِ، وَأَخُوهُ زُبَيْرُ قُتِلَ يَوْمئِذٍ، فَكَانَ زَوْجُهَا سَيّدَهُمْ وَأَشْجَعَهُمْ سَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ، كَانَ مَرِيضًا وَكَانَ فِي حُصُونِ النّطَاةِ فَقِيلَ لَهُ: إنّهُ لَا قِتَالَ فِيكُمْ فَكُنْ فِي الْكَتِيبَةِ. قَالَ:
لَا أَفْعَلُ أَبَدًا. فَقُتِلَ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَهُوَ أَبُو الْحَكَمِ الّذِي يَقُولُ فِيهِ الرّبِيعُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ:
وَلَمّا تَدَاعَوْا بِأَسْيَافِهِمْ ... فَكَانَ الطّعَانُ دعونا سلاما
__________
[ (1) ] الوعك: الحمى. (النهاية، ج 4، ص 221) .
[ (2) ] العداد: اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمت له سنة من يوم لدغ هاج به الألم. (النهاية، ج 3، ص 71) .
[ (3) ] فى الأصل: «انقطع» ، وما أثبتناه من السيرة الحلبية. (ج 2، ص 181) .
[ (4) ] الأبهر: العرق المتعلق بالقلب. (السيرة الحلبية، ج 2، ص 181) .(2/679)
وَكُنّا إذَا مَا دَعَوْنَا بِهِ ... سَقَيْنَا سَرَاةَ الْعَدُوِ السمَامَا
وَهُوَ كَانَ صَاحِبُ حَرْبِهِمْ وَلَكِن اللهَ شَغَلَهُ بِالْمَرَضِ.
قَالُوا: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرْوَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبِيَاضِيّ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِي حُصُونِ النّطَاةِ وَحُصُونِ الشّقّ وَحُصُونِ الْكَتِيبَةِ، لَمْ يَتْرُكْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَتِيبَةِ إلّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، وَجَمَعُوا أَثَاثًا كثيرا وَبَزّا وَقَطَائِفَ وَسِلَاحًا كَثِيرًا، وَغَنَمًا وَبَقَرًا، وَطَعَامًا وَأَدَمًا كَثِيرًا. فَأَمّا الطّعَامُ وَالْأَدَمُ وَالْعَلَفُ فَلَمْ يُخَمّسْ، يَأْخُذُ مِنْهُ النّاسُ حَاجَتَهُمْ، وَكَانَ مَنْ احْتَاجَ إلَى سِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِ الْمَغْنَمِ، حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَرُدّ ذَلِكَ فِي الْمَغْنَمِ. فَلَمّا اجْتَمَعَ ذَلِكَ كُلّهُ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُزِئَ خَمْسَةَ أَجَزَاء، وَكَتَبَ فِي سَهْمٍ مِنْهَا «اللهُ» وَسَائِرُ السّهْمَانِ أَغْفَالٌ.
فَكَانَ أَوّلَ مَا خَرَجَ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُتَخَيّرْ فِي الْأَخْمَاسِ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ [ (1) ] فِيمَنْ يُرِيدُ، فَجَعَلَ فَرْوَةُ يَبِيعُهَا فِيمَنْ يُرِيدُ، فَدَعَا فِيهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ وَقَالَ: اللهُمّ أَلْقِ عَلَيْهَا النّفَاقَ! قَالَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو: فَلَقَدْ رَأَيْت النّاسَ يَتَدَارَكُونَ عَلَيّ وَيَتَوَاثَبُونَ حَتّى نَفَقَ فِي يَوْمَيْنِ، وَلَقَدْ كُنْت أَرَى أَنّا لَا نَتَخَلّصُ مِنْهُ حِينًا لِكَثْرَتِهِ. وَكَانَ الْخُمُسُ الّذِي صَارَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَغْنَمِ يُعْطَى مِنْهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللهُ مِنْ السّلَاحِ وَالْكِسْوَةِ، فَأَعْطَى مِنْهُ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ الثّيَابِ وَالْخَرْزِ وَالْأَثَاثِ، وَأَعْطَى رِجَالًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَنِسَاءً، وَأَعْطَى الْيَتِيمَ وَالسّائِلَ. وَجَمَعْت يَوْمئِذٍ مَصَاحِفَ فِيهَا التّوْرَاةُ مِنْ الْمَغْنَمِ، فَجَاءَتْ الْيَهُودُ تَطْلُبُهَا وَتَكَلّمَ فِيهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أخماس» .(2/680)
أَنْ تُرَدّ عَلَيْهِمْ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنّ الْغُلُولَ عَارٍ وَشَنَارٌ وَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَاعَ يَوْمئِذٍ فَرْوَةُ الْمَتَاعَ، فَأَخَذَ عِصَابَةً فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ لِيَسْتَظِلّ بِهَا مِنْ الشّمْسِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ فَخَرَجَ فَطَرَحَهَا. وَأَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عِصَابَةٌ مِنْ نَارٍ عَصَبْت بِهَا رَأْسَك. وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ مِنْ الْفَيْءِ شَيْئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلّ لِي مِنْ الْفَيْءِ خَيْطٌ وَلَا مِخْيَطٌ، لَا آخُذُ وَلَا أُعْطِي.
فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عِقَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتّى نَقْسِمَ الْغَنَائِمَ ثُمّ أُعْطِيك عِقَالًا، وَإِنْ شِئْت مِرَارًا [ (1) ] . وَكَانَ رَجُلٌ أَسْوَدَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُ دَابّتَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ يُقَالُ لَهُ كَرْكَرَةُ، فَقُتِلَ يَوْمئِذٍ، فَقِيلَ:
يَا رَسُولَ اللهِ اُسْتُشْهِدَ كَرْكَرَةٌ؟ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه الْآن لِيُحَرّقَ فِي النّارِ عَلَى شَمْلَةٍ غَلّهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذْت شِرَاكَيْنِ يَوْمئِذٍ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ. وَتُوُفّيَ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَإِنّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَلّوْا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيّرَتْ وُجُوهُ النّاسِ لِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ صَاحِبَكُمْ غَلّ فِي سَبِيلِ اللهِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ: فَفَتّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ لَا يُسْوَى دِرْهَمَيْنِ.
وَكَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا خَرْزًا مِنْ خَرْزِ الْيَهُودِ وَكَانُوا رُفَقَاءَ، فَقَالَ الْمُحَدّثُ لِهَذَا الْحَدِيثِ: لَوْ كَانَ الْخَرْزُ عِنْدَكُمْ الْيَوْمَ لَمْ يُسْوَ دِرْهَمَيْنِ.
فَأُتِيَ بِذَلِكَ الْخَرْزِ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من المقسم،
__________
[ (1) ] المرار: الحبل. (النهاية، ج 4، ص 88) .(2/681)
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَسِينَا! هَذَا الْخَرْزَ عِنْدَنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلّكُمْ يَحْلِفُ بِاَللهِ أَنّهُ نَسِيَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَحَلَفُوا بِاَللهِ جَمِيعًا أَنّهُمْ نَسُوهُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِيرِ الْمَوْتَى فَسُجِنَ عَلَيْهِمْ بِالرّبَاطِ، ثُمّ صَلّى عَلَيْهِمْ صَلَاةَ الْمَوْتَى. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُ الْغُلُولَ فِي رَحْلِ الرّجُلِ فَلَا يُعَاقِبُهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنّهُ أَحْرَقَ رَحْلَ أَحَدٍ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَلَكِنّهُ يُعَنّفُ وَيُؤَنّبُ وَيُؤْذِي وَيُعَرّفُ النّاسَ بِهِ.
قَالُوا: وَاشْتَرَى يَوْمَ خيبر تبرا [ (1) ] بذهب جزافا، فلهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَصَبْت يَوْمئِذٍ قِلَادَةً فَبِعْتهَا بِثَمَانِيّةِ دَنَانِيرَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
بِعْ الذّهَبَ وَزْنًا بِوَزْنٍ. وَكَانَ فِي الْقِلَادَةِ ذَهَبٌ وَغَيْرُهُ فَرَجَعْت فِيهَا. وَاشْتَرَى السّعْدَانُ تِبْرًا بِذَهَبٍ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَزْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَيْتُمَا فَرُدّا! وَوَجَدَ رَجُلٌ يَوْمئِذٍ فِي خَرِبَةٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ مِنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ.
وَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ يَقُولُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِ [ (2) ] مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلَا يَبِعْ [ (3) ] شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى يَعْلَمَ، وَلَا يَرْكَبْ دَابّةً مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى إذَا بَرَاهَا [ (4) ] رَدّهَا، وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ الْمَغْنَمِ حَتّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدّهُ، وَلَا يَأْتِ مِنْ السّبْيِ حَتّى تَسْتَبْرِئَ وَتَحِيضَ حَيْضَةً، وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى حَتّى تَضَعَ حَمْلَهَا. وَمَرّ رسول الله صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] التبر: الذهب والفضة أو فتاتهما قبل أن يصاغا، فإذا صيغا فهما ذهب وفضة. (القاموس المحيط، ج 1، ص 379) .
[ (2) ] فى الأصل: «فلا يسقى» .
[ (3) ] فى الأصل: «ولا يبيع» .
[ (4) ] فى الأصل: «إذ يراها» . وبراها: عزلها (القاموس المحيط، ح 4، ص 302) .(2/682)
وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحّ [ (1) ] فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِفُلَانٍ. قَالَ:
فَلَعَلّهُ يَطَؤُهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ بِوَلَدِهَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ بِابْنِهِ، أَوْ يَسْتَرْقِهِ وَهُوَ يَعْدُو فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؟ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَتْبَعُهُ فِي قَبْرِهِ.
قَالُوا: وَقَدِمَ أَهْلُ السّفِينَتَيْنِ [ (2) ] مِنْ عِنْدِ النّجَاشِيّ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ، فَلَمّا نَظَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَعْفَرٍ قَالَ: مَا أَدْرِي بِأَيّهِمَا أَنَا أُسَرّ، بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ فَتْحِ خَيْبَرَ! ثُمّ ضَمّهُ رَسُولُ اللهِ وَقَبّلَ بَيْن عَيْنَيْهِ.
وَقَدِمَ الدّوْسِيّونَ فِيهِمْ أَبُو هَرِيرَةَ وَالطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُمْ وَنَفَرٌ مِنْ الْأَشْجَعِيّينَ، فَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِيهِمْ أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. وَنَظَرَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ [ (3) ] بْنِ الْعَاصِ إلَى أَبِي هَرِيرَةَ فَقَالَ: أَمّا أَنْتَ فَلَا. فَقَالَ أَبُو هَرِيرَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. قَالَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ: يَا عَجَبَاه لِوَبَرٍ [ (4) ] تَدَلّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضَأْنٍ [ (5) ] ! يَنْعَى عَلَى قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللهُ عَلَى يدي ولم يهنّى على يده.
قالوا: وَكَانَ الْخُمُسُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلّ مَغْنَمٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَابَ عَنْهُ. وَكَانَ لَا يَقْسِمُ لِغَائِبٍ فِي مَغْنَمٍ لَمْ يَشْهَدْهُ، إلّا أَنّهُ فِي بدر ضرب لثمانية لم يشهدوا، كلّهم
__________
[ (1) ] المجح: الحامل المقرب التي دنا ولادها. (النهاية، ج 1، ص 144) .
[ (2) ] فى الأصل: «السقيفتين» ، والتصحيح عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 3) .
[ (3) ] فى الأصل: «أبان بن سعد» ، والتصحيح عن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 62) .
[ (4) ] الوبر: دويبة على قدر السنور، غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء حجازية، وإنما شبهه بالوبر تحقيرا له. (النهاية، ج 4، ص 190) .
[ (5) ] فى الأصل: «من قدم صاد» . والتصويب عن ابن الأثير حيث قال: هي ثنية أو جبل السراة من أرض دوس. وقيل: القدوم ما تقدم فى الشاة وهو رأسها، وإنما أراد احتقاره وصغر قدره (النهاية، ج 3، ص 235) .(2/683)
مُسْتَحَقّ فِيهَا. وَكَانَتْ خَيْبَرُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، مَنْ شَهِدَهَا مِنْهُمْ أَوْ غَابَ عَنْهَا قَالَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [ (1) ] يَعْنِي خَيْبَرَ. وَقَدْ تَخَلّفَ عَنْهَا رِجَالٌ: مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ، خَلّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَغَيْرُهُمْ. وَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ تَخَلّفَ مِنْهُمْ وَمَنْ مَاتَ، وَأَسْهَمَ لِمَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ النّاسِ مِمّنْ لم يشهد الحديبية. وَأَسْهَمَ لِرُسُلٍ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ إلَى أَهْلِ فَدَكَ، مُحَيّصَة بْنُ مَسْعُودٍ الْحَارِثِيّ وَغَيْرُهُ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَحْضُرُوا.
وَأَسْهَمَ لِثَلَاثَةِ مَرْضَى لَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ: سُوِيدُ بْنُ النّعْمَانِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي خُطَامَة، وَأَسْهَمَ لِلْقَتْلَى الّذِينَ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بن عبد الرحمن ابن أَبِي صَعْصَعَةَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إنّمَا كَانَتْ خَيْبَرُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمْ يَشْهَدْهَا غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُسْهَمْ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا أَنّ قَوْمًا شَهِدُوا خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا الْحُدَيْبِيَةَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ قُطَيْرٍ الْحَارِثِيّ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ إلَى خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَيُقَالُ: أَحَذَاهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ مَمْلُوكُونَ، مِنْهُمْ عُمَيْرٌ مَوْلَى آبّي اللّحْمِ. قَالَ عُمَيْرٌ:
وَلَمْ يُسْهَمْ لِي وَأَعْطَانِي خُرْثِيّ [ (2) ] مَتَاعٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
__________
[ (1) ] سورة 48 الفتح 20
[ (2) ] الخرثي: أثاث البيت. (النهاية، ج 1، ص 286) .(2/684)
محذيهم [ (1) ] . وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ عِشْرُونَ امْرَأَةً: أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ، وَصَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأُمّ أَيْمَنَ، وَسَلْمَى امْرَأَةُ أَبِي رَافِعٍ مُوَلّاةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَامْرَأَةُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ وَلَدَتْ سَهْلَةَ بِنْتَ عَاصِمٍ بِخَيْبَرَ، وَأُمّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، وَأُمّ مَنِيعٍ وَهِيَ أُمّ شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلميّة، وأمّ مطاع الْأَسْلَمِيّة، وَأُمّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، وَأُمّ الضّحّاكِ بنت مسعود الحارثيّة، وهند بنت عمرو ابن حِزَامٍ، وَأُمّ الْعِلَاءِ الْأَنْصَارِيّةُ، وَأُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّة، وَأُمّ عَطِيّةَ الْأَنْصَارِيّةُ، وَأُمّ سَلِيطٍ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمّ عَلِيّ بِنْتِ الْحَكَمِ، عَنْ أُمَيّةَ بِنْتِ قَيْسِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ الْغِفَارِيّةِ، قَالَتْ: جِئْت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ فَقُلْنَا: إنّا نُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نَخْرُجَ مَعَك فِي وَجْهِك هَذَا فَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنُعِينُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى بَرَكَةِ اللهِ! قَالَتْ:
فَخَرَجْنَا مَعَهُ وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السّنّ، فَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ، فَنَزَلَ الصّبْحَ فَأَنَاخَ وَإِذَا أَنَا بِالْحَقِيبَةِ عَلَيْهَا دَمٌ مِنّي، وَكَانَتْ أَوّلَ حَيْضَةٍ حِضْتُهَا، فَتَقَبّضَتْ إلَى النّاقَةِ وَاسْتَحْيَيْت.
فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِي وَرَأَى الدّمَ قَالَ: لَعَلّك نُفِسْت! قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِك، ثُمّ خُذِي إنَاءً مِنْ مَاءٍ، ثُمّ اطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا وَاغْسِلِي مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنْ الدّمِ ثُمّ عُودِي.
فَفَعَلَتْ،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «مجزيهم» .(2/685)
فَلَمّا فَتَحَ اللهُ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ وَلَمْ يُسْهِمْ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْقِلَادَةَ الّتِي تَرَيْنَ فِي عُنُقِي فَأَعْطَانِيهَا وَعَلّقَهَا بِيَدِهِ فِي عنقي، فو الله لَا تُفَارِقُنِي أَبَدًا.
وَكَانَتْ فِي عُنُقِهَا حَتّى مَاتَتْ وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَهَا، وَكَانَتْ لَا تَطْهُرُ إلّا وَجَعَلَتْ فِي طَهُورِهَا مِلْحًا، وَأَوْصَتْ أَنْ يُجْعَلَ فِي غَسْلِهَا مِلْحٌ [ (1) ] حِينَ غَسَلَتْ.
حَدّثَنِي عَبْدُ السّلَامِ بْنُ مُوسَى بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْس، قَالَ: خَرَجْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ وَمَعِي زَوْجَتِي حُبْلَى، فَنُفِسَتْ بِالطّرِيقِ فَأَخْبَرَتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْقَعْ لَهَا تَمْرًا فَإِذَا أَنْعَمَ بَلّهُ فَامْرُثْهُ [ (2) ] ثُمّ تَشْرَبُهُ. فَفَعَلَتْ فَمَا رَأَتْ شَيْئًا تَكْرَهُهُ. فَلَمّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ أَحْذَى النّسَاءَ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنّ، فَأَحْذَى زَوْجَتِي وَوَلَدِي الّذِي وُلِدَ. قَالَ عَبْدُ السّلَامِ: لَسْت أَدْرِي غُلَامٌ أَمْ جَارِيَةٌ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أُمّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ: فَأَصَابَنِي ثَلَاثُ خَرَزَاتٍ، وَكَذَلِك أَصَابَ صَوَاحِبِي، وَأُتِيَ يَوْمئِذٍ بِرِعَاثٍ [ (3) ] مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: هَذَا لِبَنَاتِ أَخِي سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَيْهِنّ فَرَأَيْت ذَلِكَ الرّعَاثَ عَلَيْهِنّ، وَذَلِكَ مِنْ خُمُسِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ ثُبَيْتَةَ بِنْتِ حَنْظَلَةَ الْأَسْلَمِيّة، عَنْ أُمّهَا أُمّ سِنَانٍ قَالَتْ: لَمّا أَرَادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ملحا» .
[ (2) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «فإذا انغمر فأمر به لتشربه» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 205) .
[ (3) ] الرعاث: القرطة، وهي من حل الأذن. (النهاية، ج 2، ص 87) .(2/686)
جِئْته فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْرُجُ مَعَك فِي وَجْهِك هَذَا، أَخْرِزُ [ (1) ] السّقَاءَ، وَأُدَاوِي الْمَرْضَى وَالْجَرِيحَ إنْ كَانَتْ جِرَاحٌ- وَلَا يَكُونُ- وَأَنْظُرُ الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: اُخْرُجِي عَلَى بَرَكَةِ اللهِ فَإِنّ لَك صَوَاحِبُ قَدْ كَلّمْنَنِي وَأَذِنَتْ لَهُنّ مِنْ قَوْمِك وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ شِئْت فَمَعَ قَوْمِك وَإِنْ شِئْت فَمَعَنَا. قُلْت: مَعَك! قَالَ: فَكُونِي مَعَ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِي.
قَالَتْ: فَكُنْت مَعَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْدُو مِنْ الرّجِيعِ كُلّ يَوْمٍ عَلَيْهِ الدّرْعُ، فَإِذَا أَمْسَى رَجَعَ إلَيْنَا، فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعَةِ أَيّامٍ حَتّى فَتَحَ اللهُ النّطَاةَ، فَلَمّا فَتَحَهَا تَحَوّلَ إلَى الشّقّ وَحَوْلَنَا إلَى الْمَنْزِلَةِ، فَلَمّا فَتَحَ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ، فَأَعْطَانِي خَرْزًا وَأَوْضَاحًا [ (2) ] مِنْ فِضّةٍ أُصِيبَتْ فِي الْمَغْنَمِ، وَأَعْطَانِي قَطِيفَةً فَدَكِيّةً، وَبُرْدًا يَمَانِيًا، وَخَمَائِلَ [ (3) ] ، وَقِدْرًا مِنْ صُفْرٍ [ (4) ] . وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ جَرَحُوا فَكُنْت أُدَاوِيهِمْ بِدَوَاءٍ كَانَ عِنْدَ أَهْلِي فيبرأون، فَرَجَعْت مَعَ أُمّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لِي حِينَ أَرَدْنَا نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَكُنْت عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَحَهُ لِي، فَقَالَتْ: بَعِيرُك الّذِي تَحْتَك لَك رَقَبَتُهُ أَعْطَاكِيهِ رَسُولُ اللهِ. قَالَتْ: فَحَمِدْت اللهَ وَقَدِمْت بِالْبَعِيرِ فَبِعْته بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ. قَالَتْ: فَجَعَلَ اللهُ فِي وَجْهِي ذَلِكَ خَيْرًا.
قَالُوا: فَأَسْهَمَ لِلنّسَاءِ، وَأَسْهَمَ لِسَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ، وَلَدَتْ بِخَيْبَرَ، وَوُلِدَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْس بِخَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ. وَيُقَالُ: رَضَخَ لِلنّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كأهل الجهاد.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «نخرز»
[ (2) ] الأوضاح: جمع وضح، وهو الحلي من فضة. (القاموس المحيط، ج 1، ص 255) .
[ (3) ] الخمائل: جمع الخملة، وهي الثوب المخمل كالكساء. (القاموس المحيط، ج 3، ص 71) .
[ (4) ] الصفر: من النحاس. (القاموس المحيط، ج 2، ص 71) .(2/687)
وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: رَأَيْت فِي رَقَبَةِ أُمّ عُمَارَةَ خَرْزًا حُمْرًا فَسَأَلْتهَا عَنْ الْخَرْزِ فَقَالَتْ: أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ خَرْزًا فِي حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ، فَأُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ النّسَاءِ فَأُحْصِينَ، فَكُنّا عِشْرِينَ امْرَأَةً، فَقَسَمَ ذَلِكَ الْخَرْزَ بَيْنَنَا هَذَا وَأَرْضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ، قَطِيفَةً وَبُرْدًا يَمَانِيًا وَدِينَارَيْنِ، وَكَذَلِك أَعْطَى صَوَاحِبِي. قُلْت: فَكَمْ كَانَتْ سُهْمَانُ الرّجَالِ؟ قَالَتْ:
ابْتَاعَ زَوْجِي غَزِيّةُ بْنُ عَمْرٍو مَتَاعًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفٍ، فَلَمْ يُطَالِبْ بِشَيْءٍ، فَظَنَنّا أَنّ هَذِهِ سُهْمَانُ الْفُرْسَانِ- وَكَانَ فَارِسًا- وَبَاعَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فِي الشّق زَمَنَ عُثْمَانَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَادَ فِي خَيْبَرَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ، لِزَازٍ وَالظّربِ وَالسّكبِ [ (1) ] ، وَكَانَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ قَدْ قَادَ أَفْرَاسًا، وَكَانَ خرَاشُ بْنُ الصّمّةِ قد قاد فرسين، وكان البراء ابن أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ عَوْفٍ- أبو إبراهيم [ (2) ] ابن النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّذِي أَرْضَعَهُ- قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ، وَكَانَ أَبُو عَمْرو الْأَنْصَارِيّ قَدْ قَادَ فَرَسَيْنِ. قَالَ: فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلّ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَسَانِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، أَرْبَعَةً لِفَرَسَيْهِ وَسَهْمًا لَهُ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. وَيُقَالُ إِنّهُ لَمْ يُسْهِمْ إِلّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَنّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ: إِنّهُ عَرّبَ الْعَرَبِيّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَهَجّنَ الْهَجِينَ، فَأَسْهَمَ لِلْعَرَبِيّ وَأَلْقَى الْهَجِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ الْهَجِينُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنّمَا كَانَتْ العراب حتى كان زمن عمر بن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «السكت» ، وما أثبتناه من كتب السيرة الأخرى.
[ (2) ] إنما قيل له أبو إبراهيم لأن زوجته أم بردة أرضعته بلبنه. (الاستيعاب، ص 153) .(2/688)
الخطّاب وفتح العراق وَالشّامَ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْخَيْلِ لِنَفْسِهِ إِلّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، هُوَ مَعْرُوفٌ، سَهْمُ الْفَرَسِ. وَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّطَاةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِفَرَسِهِ سَهْمَانِ وَلَهُ سَهْمٌ، كَانَ مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة، قَالَ: خَرَجَ سُوِيدُ بْنُ النّعْمَانِ عَلَى فَرَسٍ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى بُيُوتِ خَيْبَرَ فِي اللّيْلِ وَقَعَ بِهِ الْفَرَسُ، فَعَطَبَ الْفَرَسُ وَكُسِرَتْ يَدُ سُوَيْد، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتّى فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْمَ فَارِسَ.
قَالُوا: وَكَانَتْ الْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ. وَيُقَالُ: ثَلَاثُمِائَةِ، وَمِائَتَانِ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَكَانَ الّذِي وَلِيَ إحْصَاءَ الْمُسْلِمِينَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ الّذِي غَنِمُوا مِنْ الْمَتَاعِ الّذِي بِيعَ، ثُمّ أَحَصَاهُمْ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ. فَكَانَتْ السّهْمَانُ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُمْ الّذِينَ ضَرَبَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالسّهْمَانِ، وَلِخَيْلِهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ لَهَا أَرْبَعُمِائَةِ سَهْمٍ. فَكَانَتْ سُهْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الّتِي أَسْهَمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّطَاةِ أَوْ فِي الشّقّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ فَوْضَى لَمْ تُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تُحَدّ وَلَمْ تُقْسَمْ، إنّمَا لَهَا رُؤَسَاءُ مُسَمّوْنَ، لِكُلّ مِائَةِ رَأْسٍ يُعْرَفُ يُقْسَمُ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا خَرَجَ مِنْ غَلّتِهَا، فَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي الشّقّ وَالنّطَاةِ: عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. وَسَهْمُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَسَهْمُ بَنِي النّجّارِ لَهُمْ رأس، وسهم(2/689)
حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَسَهْمُ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، وَسَهْمُ بَنِي سَلَمَةَ- وَكَانُوا أَكْثَرَ وَرَأَسَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ- وَسَهْمُ عُبَيْدَةَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَسَهْمُ أَوْسٍ، وَسَهْمُ بَنِي الزّبَيْرِ، وَسَهْمُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَسَهْمُ بِلْحَارِث بْنِ الْخَزْرَجِ، رَأْسُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَسَهْمُ بَيَاضَةَ، رَأْسُهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَهْمُ نَاعِمٍ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا فِي الشّقّ وَالنّطَاةِ فَوْضَى يَقْبِضُ رُؤَسَاؤُهُمْ الْغَلّةُ مِنْهُ، ثُمّ يُفِضْ عَلَيْهِمْ، وَيَبِيعُ الرّجُلُ سَهْمَهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ.
وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ سَهْمَهُ بِخَيْبَرَ بِبَعِيرَيْنِ ثُمّ قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلَمُ أَنّ الّذِي آخُذُ مِنْك خَيْرٌ مِنْ الّذِي أُعْطِيك، وَاَلّذِي أُعْطِيك دُونَ الّذِي آخُذُ مِنْك، وَإِنْ شِئْت فَخُذْ وَإِنْ شِئْت فَأَمْسِكْ!
فَأَخَذَ الْغِفَارِيّ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَشْتَرِي مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَهْمٍ، وَأَخَذَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مِائَةٌ، وَهُوَ سهم أوس كان يسمّى سهم اللّفيف حتى صَارَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَابْتَاعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ سَهْمِ أَسْلَمَ سُهْمَانًا، وَيُقَالُ: إنّ أَسْلَمَ كَانُوا بَضْعَةً وَسَبْعِينَ، وَغِفَارٌ بَضْعَةٌ وَعِشْرِينَ فَكَانُوا مِائَةً، وَيُقَالُ: كَانَتْ أَسْلَمُ مِائَةً وَسَبْعِينَ، وَغِفَارٌ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ، وَهَذَا مِائَتَا سَهْمٍ، وَالْقَوْلُ [الْأَوّلُ] أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فَتَحَ خَيْبَرَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ فَقَالُوا:
يَا مُحَمّدُ، نَحْنُ أَرْبَابُ النّخْلِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَة بِهَا. فَسَاقَاهُمْ [ (1) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر عَلَى شَطْرٍ مِنْ التّمْرِ وَالزّرْعِ، وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُقِرّكُمْ عَلَى مَا أَقَرّكُمْ اللهُ.
__________
[ (1) ] ساقى فلان فلانا نخله أو كرمه إذا دفعه إليه واستعمله فيه على أن يعمره ويسقيه ويقوم بمصلحته من الإبار وغيره، فما أخرج الله منه فللعامل سهم من كذا وكذا سهما مما تغله والباقي لمالك النخل. (لسان العرب، ج 19، ص 118) .(2/690)
فَكَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى تُوُفّيَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النّخْلَ، فَكَانَ يَخْرُصُهَا فَإِذَا خَرَصَ قَالَ: إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَتَضْمَنُونَ نِصْفَ مَا خَرَصْت، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا وَنَضْمَنُ لَكُمْ مَا خَرَصْت. وَإِنّهُ خَرَصَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، فَجَمَعُوا لَهُ حُلِيّا مِنْ حُلِيّ نِسَائِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا لَك، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ.
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إلَيّ، وَمَا ذَاكَ يَحْمِلُنِي أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ! فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيهَانِ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ: جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِمْ مِثْلَ مَا كَانَ يَصْنَعُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَيُقَالُ: الّذِي خَرَصَ بَعْدَ ابْنِ رَوَاحَةَ عَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو.
قَالُوا: وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقَعُونَ فِي حَرْثِهِمْ وَبَقْلِهِمْ بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ لِيَهُودَ نِصْفُهُ، فَشَكَتْ الْيَهُودُ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وَيُقَالُ: عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَنَادَى: إنّ الصّلَاةَ جَامِعَةٌ، وَلَا يَدْخُلْ الْجَنّةَ إلّا مُسْلِمٌ. فَاجْتَمَعَ النّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ: إنّ الْيَهُودَ شَكَوْا إلَيّ أَنّكُمْ وَقَعْتُمْ فِي حَظَائِرِهِمْ، وَقَدْ أَمّنّاهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاَلّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ، وَعَامَلْنَاهُمْ، وَإِنّهُ لَا تَحِلّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ إلّا بِحَقّهَا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ بِقَوْلِهِمْ شَيْئًا إلّا بِثَمَنٍ، فَرُبّمَا قَالَ الْيَهُودِيّ لِلْمُسْلِمِ: أَنَا أُعْطِيكَهُ بَاطِلًا [ (1) ] ! فَيَأْبَى الْمُسْلِمُ إلّا بِثَمَنٍ.
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِي الْكَتِيبَةِ، فقال قائل: كانت
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أنا أعطكيه باطل» .(2/691)
لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً وَلَمْ يُوجِفْ [ (1) ] عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، إنّمَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ ابْنِ غُفَيْر، وَمُوسَى بْنُ عمرو بن عبد الله ابن رَافِعٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ. وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَائِلٌ: هِيَ خُمُسُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، مِنْ الشّقّ وَالنّطَاةِ. وَحَدّثَنِي قُدَامَة بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: كَتَبَ إلَيّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِلَافَتِهِ أَنْ افْحَصْ لِي عَنْ الْكَتِيبَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَسَأَلْت عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَتْ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا صَالَحَ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ جَزّأَ النّطَاةَ وَالشّقّ وَالْكَتِيبَةَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ جُزْءًا مِنْهَا، ثُمّ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ بَعَرَاتٍ، وَأَعْلَمَ فِي بَعْرَةٍ مِنْهَا، فَجَعَلَهَا لِلّهِ، ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهُمّ اجْعَلْ سَهْمَك فِي الْكَتِيبَةِ.
فَكَانَ أَوّلَ مَا خَرَجَ مِنْهَا الّذِي فِيهِ مَكْتُوبٌ عَلَى الْكَتِيبَةِ، فَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ خُمُسَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ السّهْمَانُ أَغْفَالًا لَيْسَ عَلَيْهَا عَلَامَاتٌ، وَكَانَتْ فَوْضَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشَرَ سَهْمًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَتَبْت إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ.
وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيّصَة، قَالَ: لَمّا خَرَجَ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الشّقّ وَالنّطَاةُ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ فَوْضَى.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي مالك الحميرىّ، عن سعيد بن
__________
[ (1) ] أوجف دابته: حثها. (النهاية، ج 4، ص 196) .(2/692)
الْمُسَيّبِ، وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ [ (1) ] ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: الْكَتِيبَةُ خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ مَنْ أَطْعَمَ فِي الْكَتِيبَةِ وَيُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّهَا خُمُسُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، لِأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُطْعِمْ مِنْ الشّقّ وَالنّطَاةِ أَحَدًا وَجَعَلَهَا سَهْمَانَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ [ (2) ] الْكَتِيبَةُ الّتِي أَطْعَمَ فِيهَا. كَانَتْ الْكَتِيبَةُ تُخْرَصُ ثَمَانِيّةُ آلَافِ وَسْقٍ تَمْرٍ، فَكَانَ [ (3) ] لِلْيَهُودِ نِصْفُهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَكَانَ يُزْرَعُ فِي الْكَتِيبَةِ شَعِيرٌ، فَكَانَ يَحْصُدُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ صَاعٍ، فَكَانَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفُهُ، أَلْفُ وَخَمْسُمِائَةِ صَاعٍ شَعِيرٌ، وَكَانَ يَكُونُ فِيهَا نَوًى فَرُبّمَا اجْتَمَعَ أَلْفُ صَاعٍ فَيَكُونُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفُهُ، فَكُلّ هَذَا قَدْ أَعْطَى مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ وَالنّوَى.
تَسْمِيَةُ سُهْمَانِ الْكَتِيبَةِ
خُمُسُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَسُلَالِم، وَالْجَاسِمَيْنِ، وَسَهْمَا النّسَاءِ، وَسَهْمَا مَقْسَمٍ- وَكَانَ يَهُودِيّا- وَسَهْمَا عَوَانٍ، وَسَهْمُ غِرّيث، وَسَهْمُ نُعَيْمٍ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا.
ذِكْرُ طُعْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَتِيبَةِ أَزْوَاجَهُ وَغَيْرَهُمْ
أَطْعَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا تَمْرًا وَعِشْرِينَ وَسْقًا شَعِيرًا. وللعباس بن عبد المطلّب مائتي وسق، ولفاطمة وعلىّ
__________
[ (1) ] أى محمد بن عبد الله.
[ (2) ] فى الأصل: «وكان» .
[ (3) ] فى الأصل: «فكانت» .(2/693)
عَلَيْهِمَا السّلَامُ مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ ثَلَاثُمِائَةِ وَسْقٍ، والشعير من ذلك خمسة وثمانين وَسْقًا، لِفَاطِمَةَ مِنْ ذَلِكَ مِائَتَا وَسْقٍ. وَلِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ شَعِيرًا وَخَمْسُونَ وَسْقًا نَوًى، وَلِأُمّ رِمْثَةَ بِنْتِ عُمَرَ بن هاشم بن المطلّب خمسة أوساق شعير، وَلِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرِو خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا شَعِيرًا.
وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا، قَالَتْ: بِعْنَا طُعْمَةَ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خَيْبَرَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا شَعِيرًا مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ: هَذَا مَا أَعْطَى مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مِائَةَ وَسْقٍ. وَلِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، وَلِبَنِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِلصّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِأَبِي نَبْقَةَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِرُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِلْقَاسِمِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادٍ وَأُخْتِهِ هِنْدٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِصَفِيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِبُحَيْنَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ [ (1) ] بْنِ الْمُطّلِبِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِلْحُصَيْنِ، وَخَدِيجَةَ، وَهِنْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ، وَلِأُمّ الْحَكَمِ بِنْتِ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِأُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، ولِجُمَانَةَ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِأُمّ طَالِبٍ بِنْتِ أَبِي طالب ثلاثين وسقا، ولقيس بن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لحينة بنت الأرث» . والتصحيح عن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1793) .(2/694)
مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِأَبِي أَرْقَمَ خمسين وسقا، ولعبد الرحمن ابن أبى بكر أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِأَبِي بَصْرَةَ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِابْنِ أَبِي حُبَيْشٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِعَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ وَابْنَيْهِ خَمْسِينَ وَسْقًا، لَابْنَيْهِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَلِنُمَيْلَةَ الْكَلْبِيّ مِنْ بَنِي لَيْثٍ خَمْسِينَ وَسْقًا، وَلِأُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِمَلْكَانَ بْنِ عِبْدَةَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَلِمُحَيّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرّهَاوِيّينَ [ (1) ] بِطُعْمَةٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بِجَادّ [ (2) ] مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلدّارِيَيْنِ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَهُمْ عَشَرَةٌ مِنْ الدّارِيّينَ قَدِمُوا مِنْ الشّامِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَوْصَى لَهُمْ بِطُعْمَةِ مِائَةِ وَسْقٍ: هَانِئُ بْنُ حَبِيبٍ، وَالْفَاكِهُ بْنُ النّعْمَانِ، وَجَبَلَة بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو هِنْدِ بْنِ بَرّ وَأَخُوهُ الطّيّبُ بْنُ بَرّ، سَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ، وَتَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ أَوْسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَزِيزُ بْنُ مَالِكٍ، سَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرّحْمَنِ، وَأَخُوهُ مُرّةُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَوْصَى لِلْأَشْعَرِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أَبِي حَيّةَ قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمْ يُوصِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، لَلدّارِيَيْنِ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلْأَشْعَرِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلرّهَاوِيّين بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَأَنْ يَنْفُذَ جَيْشُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ لَهُ
__________
[ (1) ] الرهاويين: نسبة إلى رهاوة وهي قبيلة من اليمن، ويقال فيها: رهاء بالهمز أيضا وهو الأصح.
قال بعض أهل النسب: رهاوة بفتح الراء قبيلة ينسب إليها رهاوى، والرهاء نفر بالجزيرة ينسب إليها رهاوى بضم الراء (شرح أبى ذر، ص 350) .
[ (2) ] فى الأصل: «نحاد» . والتصحيح عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 367) .
وبجاد مائة وسق: أى ما يجد منه مائة وسق، أى يقطع. (شرح أبى ذر، ص 351) .(2/695)
إلَى مَقْتَلِ أَبِيهِ، وَأَلّا يَتْرُكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ.
قَالُوا: ثُمّ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي قَسْمِ خُمُسِ خَيْبَرَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَهُ فِي بَنِي هاشم وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ يَغُوثَ.
وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: قال جبير ابن مُطْعِمٍ: لَمّا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم سهم ذَوِي الْقُرْبَى بِخَيْبَرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطّلب مَشَيْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ حَتّى دَخَلْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَؤُلَاءِ إخْوَانُنَا مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِك الّذِي وَضَعَك اللهُ بِهِ مِنْهُمْ، أَفَرَأَيْت إخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ، إنّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكَتْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: إنّ بنى المطّلب لَمْ يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ، دَخَلُوا مَعَنَا فِي الشّعْبِ، إنّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ! وَشَبّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ يُحَدّثُ قَالَ: اجْتَمَعَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَا: لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ- لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ- إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلّمَاهُ فَأَمّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصّدَقَاتِ، فَأَدّيَا مَا يُؤَدّي النّاسُ، وَأَصَابَا مَا يُصِيبُونَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ.
فَبُعِثَ بِي وَالْفَضْلِ فَخَرَجْنَا حَتّى جِئْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْنَاهُ، وَانْصَرَفَ إلَيْنَا مِنْ الظّهْرِ وَقَدْ وَقَفْنَا لَهُ عِنْدَ حُجْرَةِ زَيْنَبَ، فَأَخَذَ بِمَنَاكِبِهِمَا فَقَالَ: أَخْرِجَا مَا تُسِرّانِ [ (1) ] ! فَلَمّا دَخَلَ دَخَلَا عَلَيْهِ فَكَلّمَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ جِئْنَاك لِتُؤَمّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصّدَقَاتِ فَنُؤَدّي مَا يُؤَدّي الناس، ونصيب ما يصيبون من
__________
[ (1) ] فى الأصل: «تمرران» . ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات.(2/696)
الْمَنْفَعَةِ. فَسَكَتَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ.
إنّ الصّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمّدٍ، إنّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النّاسِ.
اُدْعُ لِي مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ.
فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: زَوّجْ هَذَا ابْنَتَك- لِلْفَضْلِ. وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: زَوّجْ هَذَا ابْنَتَك- لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِمّا عِنْدَك مِنْ الْخُمُسِ!
وَكَانَ يَكُونُ عَلَى الْخُمُسِ. فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ:
قَدْ دَعَانَا عُمَرُ إلَى أَنْ يَنْكِحَ فِيهِ أَيَامَانَا وَيَخْدِمُ مِنْهُ عَائِلَنَا، وَيُقْضَى مِنْهُ غَارِمُنَا، فَأَبَيْنَا عَلَيْهِ إلّا أَنْ يُسَلّمَهُ كُلّهُ، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا.
حَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيّا [ (1) ] عَلَيْهِمْ السّلَامُ جَعَلُوا هَذَيْنِ السّهْمَيْنِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي السّلَاحِ وَالْعُدّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَكَانَتْ تِلْكَ الطّعْمَةُ تُؤْخَذُ بِصَاعِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، حَتّى كَانَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ فزاد فى الصاع سدس المدّ، فأعطى الناس بالصاع الذي زاد، ثم كان أبان ابن عُثْمَانَ فَزَادَ فِيهِ فَأَعْطَاهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُطْعِمِينَ أَوْ قُتِلَ فِي حَيَاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْرٍ فَإِنّهُ يَرِثُهُ تِلْكَ الطّعْمَةَ مِنْ وِرْثِ مَالِهِ. فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قَبَضَ طُعْمَةَ كُلّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَرّثْهُ، فَقَبَضَ طُعْمَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَقَبَضَ طُعْمَةَ جَعْفَرِ بن أبى طالب، وكلّمه فيه
__________
[ (1) ] فى الأصل: «على» .(2/697)
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَبَى، وَقَبَضَ طُعْمَةَ صَفِيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَكَلّمَهُ الزّبَيْرُ فِي ذَلِكَ حَتّى غَالَظَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ بُرْدَهُ، فَلَمّا أَلَحّ عَلَيْهِ قَالَ: أُعْطِيك بَعْضَهُ.
قَالَ الزّبَيْرُ: لَا وَاَللهِ، لَا تُخَلّفْ تَمْرَةً وَاحِدَةً تَحْبِسُهَا عَنّي! فَأَبَى عُمَرُ تَسْلِيمَهُ كُلّهُ إلَيْهِ. قَالَ الزّبَيْرُ: لَا آخُذُهُ إلّا جَمِيعًا! فَأَبَى عُمَرُ وَأَبَى أَنْ يَرُدّ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. وَقَبَضَ طُعْمَةَ فَاطِمَةَ، فَكَلَمْ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ. وَكَانَ يُجِيزُ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعْنَ، فَمَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِي خِلَافَتِهِ فَخَلّى بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الطّعْمَةِ، وَأَجَازَ مَا صَنَعْنَ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَوَرِثَ ذَلِكَ كُلّ مَنْ وَرّثَهُنّ وَلَمْ يَفْعَلْ بِغَيْرِهِنّ. وَأَبَى أَنْ يُجِيزَ بَيْعَ مَنْ بَاعَ تِلْكَ الطّعْمَةِ، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ، إذَا مَاتَ الْمُطْعِمُ بَطَلَ حَقّهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ إلّا أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنّهُ أَجَازَ مَا صَنَعْنَ، فَلَمّا وَلِيَ عُثْمَانُ كَلّمَ فِي تِلْكَ الطّعْمَةِ [ (1) ] فَرَدّ عَلَى أُسَامَةَ وَلَمْ يَرُدّ عَلَى غَيْره. فَكَلّمَهُ الزّبَيْرُ فِي طُعْمَةِ صَفِيّةَ أُمّهِ فَأَبَى يَرُدّهُ وَقَالَ: أَنَا حَاضِرُك حِينَ تَكَلّمَ عُمَرُ، وَعُمَرُ يَأْبَى عَلَيْك يَقُولُ «خُذْ بَعْضَهُ» ، فَأَنَا أُعْطِيك بَعْضَهُ الّذِي عَرَضَ عَلَيْك عُمَرُ، أَنَا أُعْطِيك الثّلُثَيْنِ وَأَحْتَبِسُ الثّلُثَ. فَقَالَ الزّبَيْرُ:
لَا وَاَللهِ، لَا تَمْرَةً وَاحِدَةً حَتّى تُسَلّمَهُ كُلّهُ أَوْ تَحْتَبِسَهُ.
حَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا تُوُفّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ وَلَدُهُ وَرَثَتُهُ يَأْخُذُونَ طُعْمَتَهُ مِنْ خَيْبَرَ، مِائَةَ وَسْقٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَوَرِثَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْكِنَانِيّةُ [ (2) ] ، وَحَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فى تلك المطعم» .
[ (2) ] فى الأصل: «الكتابية» . والتصحيح من ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1935) .(2/698)
فَلَمْ يَزَلْ جَارِيًا عَلَيْهِنّ حَتّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَوْ بَعْدَهُ فَقُطِعَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ عَمّنْ أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا أَبَدًا أَعْلَمَ مِنّي، كَانَ مَنْ أُعْطِيَ مِنْهُ طُعْمَةٌ جَرَتْ عَلَيْهِ حَتّى يَمُوتَ، ثُمّ يَرِثُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ، يَبِيعُونَ وَيُطْعِمُونَ وَيَهَبُونَ، كَانَ هَذَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. قُلْت: مِمّنْ سَمِعْت ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْمِي. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ:
أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُمَرَ كَانَ يَقْبِضُ تِلْكَ الطّعْمَةَ إذَا مَاتَ الْمَيّتُ فِي حَيَاةِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِنّ. ثُمّ يَقُولُ: تُوُفّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَبَضَ طُعْمَتِهَا، فَكَلّمَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا الْوَرَثَةَ. قَالَ: إنّمَا كَانَتْ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُعْمَةً مَا كَانَ الْمَرْءُ حَيّا، فَإِذَا مَاتَ فَلَا حَقّ لِوَرَثَتِهِ. قَالَ: فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ حَتّى تُوُفّيَ، ثُمّ وَلِيَ عُثْمَانُ. وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ طُعْمَةً مِنْ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَا كِتَابٌ، فَلَمّا تُوُفّيَ زَيْدٌ جَعَلَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. قُلْت: فَإِنّ بَعْضَ مَنْ يَرْوِي يَقُولُ: كَلّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فِي طُعْمَةِ أَبِيهِ فَأَبَى، قَالَ:
مَا كَانَ إلّا كَمَا أَخْبَرْتُك. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا الْأَمْرُ.
تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ بَنِي أُمَيّةَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ: رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، قُتِلَ بِالنّطَاةِ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِيّ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُمَيْطٍ، قَتَلَهُ أُسَيْرٌ الْيَهُودِيّ، وَرِفَاعَةُ بْنُ(2/699)
مَسْرُوحٍ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِيّ. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ حَلِيفٌ لَهُمْ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِمْ، قُتِلَ بِالنّطَاةِ. وَمِنْ الْأَنْصَارِ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ دَلّى عَلَيْهِ مَرْحَبٌ رَحًى مِنْ حِصْنِ نَاعِمٍ بِالنّطَاةِ. وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: أَبُو الضّيّاحِ [ (1) ] بْنِ النّعْمَانِ، شَهِدَ بَدْرًا، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَعَدِيّ بْنُ مُرّةَ بْنِ سُرَاقَةَ، وَأَوْسُ بْنُ حَبِيبٍ، قُتِلَ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ، وَأُنَيْفُ بْنُ وَائِلَةَ [ (2) ] ، قُتِلَ على حصن ناعم. ومن بنى زريق:
مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ، قَتَلَهُ مَرْحَبٌ. وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، مَاتَ مِنْ الشّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَفُضَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ، وَهُوَ مِنْ الْعَرَبِ، مِنْ أَسْلَمَ، وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ، أَصَابَ نَفْسَهُ عَلَى حِصْنِ نَاعِمٍ فَدُفِنَ هُوَ وَمَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي غَارٍ وَاحِدٍ بِالرّجِيعِ. وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ: عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ مُلَيْلٍ، وَيَسَارٌ، الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ، وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ قَائِلٌ: صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَائِلٌ: لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ. وَقُتِلَ مِنْ الْيَهُودِ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلًا. وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبَلَة بْنَ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ كُلّ دَاجِنٍ بِخَيْبَرَ، وَيُقَالُ: أَعْطَاهُ كُلّ دَاجِنٍ فِي النّطَاةِ، وَلَمْ يُعْطِهِ من الكتيبة ولا من الشّقّ شيئا.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أبو صباح بن النعمان» . والتصحيح عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 77) .
[ (2) ] فى الأصل: «أنيف بن وائل» . والتصحيح من ابن عبد البر يروى عن الواقدي. (الاستيعاب، ص 115) .(2/700)
ذِكْرُ مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي خَيْبَرَ قَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ:
يَا عِبَادَ اللهِ فِيمَا نَرْغَبْ ... مَا هُوَ إلّا مَأْكَلٌ وَمَشْرَبْ
وَجَنّةٌ فِيهَا نَعِيمٌ مُعْجِبْ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَنَا لِمَنْ أَبْصَرَنِي ابْنُ جُنْدُبْ ... يَا رَبّ قِرْنٍ [ (1) ] قَدْ تَرَكْت أَنْكَبْ [ (2) ]
طَاحَ عَلَيْهِ [ (3) ] أَنْسُرٌ وَثَعْلَبْ
أَنْشَدَنِي هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ مِنْ وَلَدِ نَاجِيَةَ قَالَ: مَا زِلْت أَرْوِيهَا لِأَبِي وَأَنَا غُلَامٌ.
حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنّهُ سُئِلَ عَنْ الرّهَانِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ حَيْنَ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ: كَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى يَقُولُ:
انْصَرَفْت مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا مُسْتَيْقِنٌ أَنّ مُحَمّدًا سَيَظْهَرُ عَلَى الْخَلْقِ، وَتَأْبَى حَمِيّةُ الشّيْطَانِ إلّا لُزُومَ دِينِي، فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فَخَبّرَنَا أَنّ مُحَمّدًا سَارَ إلَى خَيَابِرَ، وَأَنّ خَيَابِرَ قَدْ جَمَعَتْ الْجَمُوعَ فَمُحَمّدٌ لَا يُفْلِتُ، إلَى أَنْ قَالَ عَبّاسٌ: مَنْ شَاءَ بَايَعْته لَا يُفْلِتُ مُحَمّدٌ. فَقُلْت:
أَنَا أُخَاطِرُك. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: أَنَا مَعَك يا عبّاس. وقال نوفل بن
__________
[ (1) ] القرن: الذي يقاوم فى قتال أو شدة. (شرح أبى ذر، ص 349) .
[ (2) ] الأنكب: المائل إلى جهة. (شرح أبى ذر، ص 350) .
[ (3) ] طاح: هلك. (الصحاح، ص 389) .(2/701)
مُعَاوِيَةَ: أَنَا مَعَك يَا عَبّاسُ. وَضَوَى [ (1) ] إلَيّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَخَاطَرْنَا مِائَةَ بَعِيرٍ خُمَاسًا إلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، أَقُولُ أَنَا وَحَيّزِي [ (2) ] «يَظْهَرُ مُحَمّدٌ» . وَيَقُولُ عَبّاسٌ وَحَيّزُهُ: «تَظْهَرُ غَطَفَان» . فَاضْطَرَبَ الصّوْتُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ:
خَشِيت واللّات حَيّزَ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ. فَغَضِبَ صَفْوَانُ وَقَالَ: أَدْرَكَتْك الْمُنَافِيَةُ! فَأَسْكَتَ أَبُو سُفْيَانَ، وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِظُهُورِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ حُوَيْطِبُ وَحَيّزُهُ الرّهْنَ.
قَالُوا: وَكَانَتْ الْأَيْمَنُ تَحْلِفُ [ (3) ] عَنْ خَيْبَرَ، وَكَانَ أَهْلُ مَكّةَ حَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ قَدْ تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:
يَظْهَرُ الْحَلِيفَانِ أَسَدٌ وَغِفَارٌ وَالْيَهُودُ بِخَيْبَرَ، وذلك أنّ اليهود أوعبت فى حلفاءها، فَاسْتَنْصَرُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بُيُوعٌ عِظَامٌ.
وَكَانَ الْحَجّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السّلَمِيّ ثُمّ الْبَهْزِيّ قَدْ خَرَجَ يُغِيرُ فِي بَعْضِ غَارَاتِهِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فَأَسْلَمَ وَحَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ أُمّ شَيْبَةَ بِنْتُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ أُخْتُ مَصْعَبٍ الْعَبْدِيّ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ الْحَجّاجُ مُكْثِرًا، لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، مَعَادِنُ الذّهَبِ الّتِي بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي حَتّى أَذْهَبَ فَآخُذَ مَا لِي عِنْدَ امْرَأَتِي، فَإِنْ عَلِمَتْ بِإِسْلَامِي لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا بُدّ لِي يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ [أَنْ] أَقُولَ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ. قَالَ الحجّاج:
__________
[ (1) ] ضوى: مال. (النهاية، ج 3، ص 28) .
[ (2) ] فى الأصل: «حيزتى» . والحيز: الناحية. (لسان العرب، ج 7، ص 208) .
[ (3) ] فى الأصل: «وكان أيمن يحلف» .(2/702)
فَخَرَجْت فَلَمّا انْتَهَيْت إلَى الْحَرَمِ هَبَطْت فَوَجَدْتهمْ بِالثّنِيّةِ الْبَيْضَاءِ، وَإِذَا بِهِمْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمّعُونَ الْأَخْبَارَ، قَدْ بَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ، وَعَرَفُوا أَنّهَا قَرْيَةُ الْحِجَازِ رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالًا وَسِلَاحًا، فَهُمْ يَتَحَسّبُونَ الْأَخْبَارَ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الرّهَانِ، فَلَمّا رَأَوْنِي قَالُوا: الحجّاج ابن عِلَاطٍ عِنْدَهُ وَاَللهِ الْخَبَرُ! يَا حَجّاجُ، إنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ الْقَاطِعَ [ (1) ] قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ بَلَدِ الْيَهُودِ وَرِيفِ الْحِجَازِ. فَقُلْت: بَلَغَنِي أَنّهُ قَدْ سَارَ إلَيْهَا وَعِنْدِي مِنْ الْخَبَرِ مَا يَسُرّكُمْ. فَالْتَبَطُوا [ (2) ] بِجَانِبَيْ رَاحِلَتِي يَقُولُونَ: يَا حَجّاجُ أَخْبِرْنَا.
فَقُلْت: لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ غَيْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ.
كَانُوا قَدْ سَارُوا فِي الْعَرَبِ يَجْمَعُونَ لَهُ الْجَمُوعَ وَجَمَعُوا لَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَهُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ يَسْمَعْ قَطّ بِمِثْلِهَا، وَأَسَرَ مُحَمّدٌ أَسْرًا، فَقَالُوا: لَنْ نَقْتُلْهُ حَتّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ مَكّةَ فَنَقْتُلُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ قَتَلَ مِنّا وَمِنْهُمْ! وَلِهَذَا فَإِنّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَيْكُمْ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ فِي عَشَائِرِهِمْ وَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَقَدْ صَنَعُوا بِكُمْ مَا صَنَعُوا. قَالَ: فَصَاحُوا بِمَكّةَ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ، هَذَا مُحَمّدٌ إنّمَا يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ. وَقُلْت: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي عَلَى غُرَمَائِي فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقَدِمَ فَأُصِيبُ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَنِي التّجّارُ إلَى مَا هُنَاكَ. فَقَامُوا فَجَمَعُوا إلَيّ مَالِي كَأَحَثّ جَمْعٍ سَمِعْت بِهِ، وَجِئْت صَاحِبَتِي وَكَانَ لِي عِنْدَهَا مَالٌ فَقُلْت لَهَا: مَالِي، لَعَلّي أَلْحَقُ بِخَيْبَرَ فَأُصِيبَ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التّجّارُ إلَى مَنْ انْكَسَرَ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ [ (3) ] . وَسَمِعَ ذَلِكَ الْعَبّاسُ فَقَامَ، فَانْخَذَلَ ظَهْرُهُ فلم يستطع
__________
[ (1) ] يعنون قاطع الأرحام، أى رسول الله.
[ (2) ] التبط القوم به: أى أطافوا به ولزموه. (القاموس المحيط، ج 2، ص 382) .
[ (3) ] فى الأصل: «قبل أن يسبقني التجار وانكسر من هناك من المسلمين» .(2/703)
الْقِيَامُ، فَأَشْفَقَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَهُ فَيُؤْذَى، وَعَلِمَ أَنْ سَيُؤْذَى عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِبَابِ دَارِهِ يُفْتَحُ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ، فَدَعَا بِابْنِهِ قُثَمَ وَكَانَ يُشْبِهُ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ أَلّا يَشْمَتَ بِهِ الْأَعْدَاءُ. وَحَضَرَ بَابَ الْعَبّاسِ بَيْنَ مُغِيظٍ مَحْزُونٍ، وَبَيْنَ شَامِتٍ، وَبَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، مَقْهُورِينَ بِظُهُورِ الْكُفْرِ وَالْبَغْيِ، فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْعَبّاسَ طَيّبَةً نَفْسُهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ وَاشْتَدّتْ مُنّتُهُمْ [ (1) ] ، وَدَعَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُبَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى الْحَجّاجِ فَقُلْ، يَقُولُ الْعَبّاسُ: «اللهُ أَعَلَى وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الّذِي تُخْبِرُ حَقّا» .
فَجَاءَهُ فَقَالَ الْحَجّاجُ: قُلْ لِأَبِي الْفَضْلِ: أَحِلْنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِك حَتّى آتِيَك ظُهْرًا بِبَعْضِ مَا تُحِبّ، فَاكْتُمْ عَنّي. فَأَقْبَلَ أَبُو زُبَيْنَةَ يُبَشّرُ الْعَبّاسَ «أَبْشِرْ بِاَلّذِي يَسُرّك» فَكَأَنّهُ لَمْ يَمَسّهُ شَيْءٌ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو زُبَيْنَةَ فَاعْتَنَقَهُ الْعَبّاسُ وَأَعْتَقَهُ وَأَخْبَرَهُ بِاَلّذِي قَالَ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: لِلّهِ عَلَيّ عِتْقُ عَشْرِ رِقَابٍ! فَلَمّا كَانَ ظُهْرًا جَاءَهُ الْحَجّاجُ فَنَاشَدَهُ اللهَ: لَتَكْتُمَنّ عَلَيّ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ. فَوَاثَقَهُ الْعَبّاسُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنّي قَدْ أَسْلَمْت وَلِي مَالٌ عِنْدَ امْرَأَتِي وَدَيْنٌ عَلَى النّاسِ، وَلَوْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي لَمْ يَدْفَعُوا إلَيّ، تَرَكْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيهَا وَانْتُثِلَ [ (2) ] مَا فِيهَا، وَتَرَكْته عَرُوسًا بِابْنَةِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقُتِلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. قَالَ: فَلَمّا أَمْسَى الْحَجّاجُ مِنْ يَوْمِهِ خَرَجَ، وَطَالَ عَلَى الْعَبّاسِ تِلْكَ اللّيَالِي، وَيُقَالُ: إنّمَا اسْتَنْظَرَ الْعَبّاسُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَجَعَلَ الْعَبّاسُ يَقُولُ: يَا حَجّاجُ، اُنْظُرْ مَا تَقُولُ فَإِنّي عَارِفٌ بِخَيْبَرَ، هِيَ رِيفُ الْحِجَازِ أَجَمَعَ، وَأَهْلُ الْمَنَعَةِ وَالْعِدّةِ فِي الرّجَالِ. أَحَقّا مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ، فَاكْتُمْ عَنّي يَوْمًا وليلة. حتى إذا مضى الأجل والناس
__________
[ (1) ] المنة بالضم: القوة. (الصحاح، ص 2207) .
[ (2) ] أى استخرج وأخذ. (النهاية، ج 4، ص 125) .(2/704)
يَمُوجُونَ فِي شَأْنِ مَا تَبَايَعُوا عَلَيْهِ، عَمِدَ [ (1) ] الْعَبّاسُ إلَى حِلّةٍ فَلَبِسَهَا، وَتَخَلّقَ الْخَلُوقَ وَأَخَذَ فِي يَدِهِ قَضِيبًا، ثُمّ أَقْبَلَ يَخْطِرُ حَتّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، فَقَرَعَهُ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: لَا تَدْخُلْ، أَبَا الْفَضْلِ! قَالَ: فَأَيْنَ الْحَجّاجُ؟
قَالَتْ: انْطَلَقَ إلَى غَنَائِمِ مُحَمّدٍ لِيَشْتَرِيَ مِنْهَا الّتِي أَصَابَتْ الْيَهُودُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَهُ التّجّارُ إلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا الْعَبّاسُ: فَإِنّ الرّجُلَ لَيْسَ لَك بِزَوْجٍ إلّا أَنْ تَتّبِعِي دِينَهُ، إنّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَحَضَرَ الْفَتْحَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنّمَا ذَهَبَ بِمَالِهِ هَارِبًا مِنْك وَمِنْ أَهْلِك أَنْ يَأْخُذُوهُ. قَالَتْ: أَحَقّا يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ! قَالَتْ: وَالثّواقِب إنّك لَصَادِقٌ. ثُمّ قَامَتْ تُخْبِرُ أَهْلَهَا، وَانْصَرَفَ الْعَبّاسُ إلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ يَتَحَدّثُونَ بِمَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجّاجِ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ وَإِلَى حَالِهِ تَغَامَزُوا وَعَجِبُوا مِنْ تَجَلّدِهِ، ثُمّ دَخَلَ فِي الطّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا وَاَللهِ التّجَلّدُ لِحُرّ الْمُصِيبَةِ! أَيْنَ كُنْت مُنْذُ ثَلَاثٍ لَا تَطْلُعُ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: كَلّا وَاَلّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ وَتَرَكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ الْبِيضِ الْجِعَادِ الّذِينَ رَأَيْتُمُوهُمْ سَادَةَ النّضِيرِ مِنْ يَثْرِبَ، وَهَرَبَ الْحَجّاجُ بِمَالِهِ الّذِي عِنْدَ امْرَأَتِهِ. قَالُوا: مَنْ خَبّرَك بِهَذَا؟ قَالَ الْعَبّاسُ: الصّادِقُ فِي نَفْسِي، الثّقَةُ فِي صَدْرِي، فَابْعَثُوا إلَى أَهْلِهِ! فَبَعَثُوا فَوَجَدُوا الْحَجّاجَ قَدْ انْطَلَقَ بِمَالِهِ وَاسْتَكْتَمَ أَهْلَهُ حَتّى يُصْبِحَ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ كُلّهِ فَوَجَدُوهُ حَقّا، فَكَبّتْ الْمُشْرِكُونَ وَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ تَلْبَثْ قُرَيْشٌ خمسة أيّام حتى جاءهم الخبر بذلك.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وعمد» .(2/705)
بَابُ شَأْنِ فَدَكَ
[ (1) ] قَالُوا: لَمّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ فَدَنَا مِنْهَا، بَعَثَ مُحَيّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ إلَى فَدَكَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُخَوّفُهُمْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ كَمَا غَزَا أَهْلَ خَيْبَرَ وَيَحِلّ بِسَاحَتِهِمْ. قَالَ مُحَيّصَةُ: جِئْتهمْ فَأَقَمْت عِنْدَهُمْ يَوْمَيْنِ، وَجَعَلُوا يَتَرَبّصُونَ وَيَقُولُونَ: بِالنّطَاةِ عَامِرٌ، وَيَاسِرٌ، وَأُسَيْرٌ، وَالْحَارِثُ وَسَيّدُ الْيَهُودِ مَرْحَبٌ، مَا نَرَى مُحَمّدًا يَقْرَبُ حَرَاهُمْ [ (2) ] ، إنّ بِهَا عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. قَالَ مُحَيّصَةُ: فَلَمّا رَأَيْت خُبْثَهُمْ أَرَدْت أَرْحَلُ رَاجِعًا، فَقَالُوا: نَحْنُ نُرْسِلُ مَعَك رِجَالًا يَأْخُذُونَ لَنَا الصّلْحَ- وَيَظُنّونَ أَنّ الْيَهُودَ تَمْتَنِعُ. فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتّى جَاءَهُمْ قَتْلُ أَهْلِ حِصْنِ نَاعِمٍ وَأَهْلِ النّجْدَةِ مِنْهُمْ، فَفَتّ ذَلِكَ أَعْضَادَهُمْ وَقَالُوا لِمُحَيّصَةَ: اُكْتُمْ عَنّا مَا قُلْنَا لَك وَلَك هَذَا الْحُلِيّ! لِحُلِيّ نِسَائِهِمْ، جَمَعُوهُ كَثِيرًا. فَقَالَ مُحَيّصَةُ: بَلْ أُخْبِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلّذِي سَمِعْت مِنْكُمْ. فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالُوا. [قَالَ مُحَيّصَةُ] :
وَقَدِمَ مَعِي رَجُلٌ. مِنْ رُؤَسَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ نُونُ بْنُ يُوشَعَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، صَالَحُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُجَلّيَهُمْ وَيُخَلّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْوَالِ. فَفَعَلَ، وَيُقَالُ: عَرَضُوا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بِلَادِهِمْ وَلَا يَكُونُ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ جُذَاذُهَا جَاءُوا فَجَذّوهَا، فَأَبَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
__________
[ (1) ] بينها وبين المدينة يومان. (معجم البلدان، ج 6، ص 342) .
[ (2) ] الحرا: جناب الرجل، يقال: اذهب فلا أراك بحراى. (النهاية، ج 1، ص 222) .(2/706)
أن يقبل ذلك وقال لهم محيّصة: مالكم مَنَعَةٌ وَلَا رِجَالٌ وَلَا حُصُونٌ، لَوْ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ لَسَاقُوكُمْ إلَيْهِ. فَوَقَعَ الصّلْحُ بَيْنَهُمْ أَنّ لَهُمْ نِصْفَ الْأَرْضِ بِتُرْبَتِهَا لَهُمْ، وَلِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفُهَا، فَقَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ.
فَأَقَرّهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ، فلمّا كان عمر ابن الْخَطّابِ وَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ، بَعَثَ عُمَرُ إلَيْهِمْ مَنْ يُقَوّمُ أَرْضَهُمْ، فَبَعَثَ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيهَانِ وَفَرْوَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ بْنِ صَخْرٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَوّمُوهَا لَهُمْ، النّخْلَ وَالْأَرْضَ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ نِصْفَ قِيمَةِ النّخْلِ بِتُرْبَتِهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ يَزِيدُ- كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ جَاءَهُ مِنْ الْعِرَاقِ- وَأَجَلَاهُمْ عُمَرُ إلَى الشّامِ. وَيُقَالُ: بَعَثَ أَبَا خيثمة الْحَارِثِيّ فَقَوّمَهَا.
انْصِرَافُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَيْبَرَ إلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ أَنَسٌ: انْصَرَفْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَيْبَرَ وَهُوَ يُرِيدُ وَادِيَ الْقُرَى، وَمَعَهُ أُمّ سليم بِنْتُ مِلْحَانَ، وَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيّةَ حَتّى مَرّ بِهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ، ثُمّ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَقَالَ: إنْ تَكُونِي عَلَى دِينِك لَمْ نُكْرِهْك، فَإِنْ اخْتَرْت اللهَ وَرَسُولَهُ اتّخَذْتُك لِنَفْسِي. قَالَتْ: بَلْ أَخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ:
فَأَعْتَقَهَا فَتَزَوّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا مَهْرَهَا. فَلَمّا كَانَ بِالصّهْبَاءِ قَالَ لِأُمّ سُلَيْمٍ:
اُنْظُرِي صَاحِبَتَك هَذِهِ فَامْشُطِيهَا! وَأَرَادَ أَنْ يُعَرّسَ بِهَا هُنَاكَ، فَقَامَتْ أُمّ سُلَيْمٍ- قَالَ أَنَسٌ: وَلَيْسَ معنا فساطيط ولا سرادقات- فأخذت كساءين(2/707)
وَعَبَاءَتَيْنِ فَسَتَرَتْ بِهِمَا عَلَيْهَا [ (1) ] إلَى شَجَرَةٍ فَمَشَطَتْهَا وَعَطّرَتْهَا، وَأَعْرَسَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ، وَقَرّبَ بَعِيرَهَا وَقَدْ سَتَرَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِهِ، أَدْنَى فَخِذَهُ لِتَضَعَ رِجْلَهَا عَلَيْهِ، فَأَبَتْ وَوَضَعَتْ رُكْبَتَهَا عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمّا بَلَغَ ثِبَارًا أَرَادَ أَنْ يُعَرّسَ بِهَا هُنَاكَ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ حَتّى وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، حَتّى بَلَغَ الصّهْبَاءَ فَمَالَ إلَى دَوْمَةٍ هُنَاكَ فَطَاوَعَتْهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت حَيْنَ أَرَدْت أَنْ أَنْزِلَ بِثِبَارٍ- وَثِبَارٌ عَلَى سِتّةِ أَمْيَالٍ وَالصّهْبَاءُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ خِفْت عَلَيْك قُرْبَ الْيَهُودِ، فَلَمّا بَعُدْت أَمِنْت. فَزَادَهَا عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَعَلِمَ أَنّهَا قَدْ صَدّقَتْهُ، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأو لم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عَلَيْهَا بِالْحَيْسِ [ (2) ] وَالسّوِيقِ وَالتّمْرِ، وَكَانَ قِصَاعُهُمْ الْأَنْطَاعَ [ (3) ] قَدْ بَسَطَتْ، فَرُئِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مَعَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَنْطَاعِ. قَالُوا: وَبَاتَ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ قَرِيبًا مِنْ قُبّتِهِ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ حَتّى أَصْبَحَ، فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فكبّر أبو أيّوب فقال: مالك يَا أَبَا أَيّوبَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَخَلْت بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ وَكُنْت قَدْ قَتَلْت أَبَاهَا وَإِخْوَتَهَا وَعُمُومَتَهَا وَزَوْجَهَا وَعَامّةَ عَشِيرَتِهَا، فَخِفْت أَنْ تَغْتَالَك. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ مَعْرُوفًا.
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَنَزَلَ صَفِيّةَ فِي مَنْزِلِ الْحَارِثَةِ بْنِ النّعْمَانِ، وَانْتَقَلَ حَارِثَةُ عَنْهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ يَدًا وَاحِدَةً
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عليهما» .
[ (2) ] الحيس: الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن. (النهاية، ج 1، ص 274) .
[ (3) ] الأنطاع: جمع نطع [بكسر النون] وهو بساط من الأديم. (القاموس المحيط، ج 3، ص 89) .(2/708)
فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ إلَى أُمّ سَلَمَةَ تُسَلّمُ عَلَيْهَا- وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ- وَتَسْأَلُهَا عَنْ صَفِيّةَ أَظَرِيفَةٌ هِيَ؟ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَنْ أَرْسَلَك، عَائِشَةُ؟
فَسَكَتَتْ فَعَرَفَتْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا أَرْسَلَتْهَا، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: لَعَمْرِي إنّهَا لَظَرِيفَةٌ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا لَمُحِبّ. فَجَاءَتْ بَرِيرَةُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ خَبَرَهَا، فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ مُتَنَكّرَةً حَتّى دَخَلَتْ عَلَى صَفِيّةَ وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَنَظَرَتْ إلَيْهَا وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ، فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا خَرَجَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ كَيْفَ رَأَيْت صَفِيّةَ؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْت طَائِلًا، رَأَيْت يَهُودِيّةً بَيْنَ يَهُودِيّاتٍ- تَعْنِي عَمّاتِهَا وَخَالَاتِهَا- وَلَكِنّي قَدْ أُخْبِرْت أَنّك تُحِبّهَا، فَهَذَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ لَوْ كَانَتْ ظَرِيفَةً. قَالَ: يَا عَائِشَةُ، لَا تَقُولِي هَذَا فَإِنّي عَرَضْت عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْرَعَتْ وَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إسْلَامُهَا.
قَالَ:
فَرَجَعَتْ عَائِشَةُ فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةَ بِظُرْفِهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا حَفْصَةُ فَنَظَرَتْ إلَيْهَا ثُمّ رَجَعَتْ إلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إنّهَا لَظَرِيفَةٌ وَمَا هِيَ كَمَا قُلْت.
فَلَمّا آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّهْبَاءَ سَلَكَ عَلَى بُرْمَةَ [ (1) ] حَتّى انْتَهَى إلَى وَادِي الْقُرَى يُرِيدُ مَنْ بِهَا مِنْ الْيَهُودِ.
وَكَانَ أَبُو هَرِيرَةَ يُحَدّثُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَيْبَرَ إلَى وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجَذَامِيّ قَدْ وَهَبَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ [ (2) ] ، وَكَانَ يُرَحّلُ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] برمة: من أعراض المدينة قرب «بلاكث» بين خيبر ووادي القرى، به عيون ونخل. (وفاء الوفا، ج 2، ص 260) .
[ (2) ] فى الأصل: «مدغم» . والتصحيح عن ابن كثير يروى عن الواقدي، وهكذا ذكره ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 1382) .(2/709)
وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلُوا بِوَادِي الْقُرَى انْتَهَيْنَا إلَى الْيَهُودِ وَقَدْ ضَوَى إلَيْهَا أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ، فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطّ رَحْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ اسْتَقْبَلَتْنَا الْيَهُودُ بِالرّمْيِ حَيْثُ نَزَلْنَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى تَعْبِيَةٍ وَهُمْ يَصِيحُونَ [ (1) ] فِي آطَامِهِمْ، فَيَقْبَلُ سَهْمٌ عَائِرٌ [ (2) ] فَأَصَابَ مِدْعَمًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النّاسُ: هَنِيئًا لَك الْجَنّةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلّا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّ الشّمْلَةَ الّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمُقْسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا. فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ النّاسُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ [ (3) ] أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ! أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.
وَعَبّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفّهُمْ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَرَايَةً إلَى الْحُباَبِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَرَايَةً إلَى عَبّادِ بْنِ بِشْرٍ. ثُمّ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرَهُمْ إنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ وَحِسَابَهُمْ عَلَى اللهِ. فَبَرَزَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، حَتّى قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلّمَا قَتَلَ رَجُلٌ دَعَا مَنْ بَقِيَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَلَقَدْ كَانَتْ الصّلَاةُ تَحْضُرُ يَوْمئِذٍ فَيُصَلّي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ ورسوله،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يضيجون» . وما أثبتناه عن ابن كثير يروى عن الواقدي. (البداية والنهاية، ج 4، ص 318) .
[ (2) ] العائر من السهام: ما لا يدرى راميه. (القاموس المحيط، ج 2، ص 97) .
[ (3) ] الشراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها. (النهاية، ج 2، ص 216) .(2/710)
فَقَاتَلَهُمْ حَتّى أَمْسَوْا [ (1) ] وَغَدَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَرْتَفِعْ الشّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ حَتّى أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَغَنّمَهُ [ (2) ] اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا.
وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى أَرْبَعَةَ أَيّامٍ، وَقَسَمَ مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِوَادِي الْقُرَى، وَتَرَكَ النّخْلَ وَالْأَرْضَ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَعَامَلَهُمْ عَلَيْهَا. فَلَمّا بَلَغَ يَهُودُ تَيْمَاءَ [ (3) ] مَا وَطِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَوَادِي الْقُرَى، صَالَحُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَأَقَامُوا بِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالِهِمْ. فَلَمّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَرَجَ يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي الْقُرَى، لِأَنّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشّامِ، وَيَرَى أَنّ مَا دُونَ وَادِي الْقُرَى إلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ، وَأَنّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الشّامِ.
وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَادِي الْقُرَى رَاجِعًا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ خَيْبَرَ وَمِنْ وَادِي الْقُرَى وَغَنّمَهُ اللهُ، فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ سَرّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَهُ، حَتّى إذَا كَانَ قُبَيْلَ الصّبْحِ بِقَلِيلٍ نَزَلَ وَعَرّسَ. وَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ صَالِحٌ حَافِظٌ لَعَيْنِهِ يَحْفَظُ لَنَا صَلَاةَ الصّبْحِ؟ فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ وَوَضَعَ النّاسُ رُءُوسَهُمْ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ لِبَلَالٍ: يَا بِلَالُ احْفَظْ عَيْنَك! قَالَ: فَاحْتَبَيْت [ (4) ] بِعَبَاءَتِي وَاسْتَقْبَلْت الْفَجْرَ، فَمَا أَدْرِي مَتَى وَضَعْت جَنْبِي إلّا أَنّي لَمْ أَسْتَيْقِظْ إلّا بِاسْتِرْجَاعِ النّاسِ وَحَرّ الشّمْسِ، وَأَخَذَتْنِي الْأَلْسِنَةُ بِاللّوْمِ، وكان أشدّهم علىّ أبو بكر. وفرغ
__________
[ (1) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «أمسى» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 218) .
[ (2) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «فغنمهم» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 218) .
[ (3) ] تيماء: على ثماني مراحل من المدينة بينها وبين الشام. (وفاء الوفا، ج 2، ص 272) .
[ (4) ] الاحتباء: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها. (النهاية، ج 1، ص 199) .(2/711)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أَهْوَنَ لَائِمَةً مِنْ النّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلِيَقْضِهَا. فَتَفَرّقَ النّاسُ فِي أُصُولِ الشّجَرِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَذّنْ يَا بِلَالُ بِالْأَذَانِ الْأَوّل.
قَالَ بِلَالٌ: وَكَذَلِكَ كُنْت أَفْعَلُ فِي أَسْفَارِهِ، فَأَذِنْت فَلَمّا اجْتَمَعَ النّاسُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارْكَعُوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. فَرَكَعُوا ثُمّ قَالَ: أَقِمْ يَا بِلَالُ! فَأَقَمْت فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلّى بِالنّاسِ. قَالَ بِلَالٌ: فَمَا زَالَ يُصَلّي بِنَا حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَسْلُتُ [ (1) ] الْعَرَقُ مِنْ جَبِينِهِ مِنْ حَرّ الشّمْسِ، ثُمّ سَلّمَ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: كَانَتْ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، وَلَوْ شَاءَ قَبَضَهَا وَكَانَ أَوْلَى بِهَا، فَلَمّا رَدّهَا إلَيْنَا صَلّيْنَا. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى بِلَالٍ فَقَالَ: مَهْ يَا بِلَالٌ! فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمّي، قَبَضَ نَفْسِي الّذِي قَبَضَ نَفْسَك.
فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسّمُ.
وَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ، اللهُمّ إنّي أُحَرّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ!
قَالَ: وَانْتَهَى إلَى الْجَرْفِ لَيْلًا، فَنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَطْرُقَ الرّجُلُ أَهْلَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عُمَارَةَ، قَالَتْ:
سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ بِالْجَرْفِ: لَا تَطْرُقُوا النّسَاءَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.
قَالَتْ: فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ الْحَيّ فَطَرَقَ أَهْلَهُ فَوَجَدَ مَا يَكْرَهُ فخلّى
__________
[ (1) ] سلت: مسح. (النهاية، ج 2، ص 172) .(2/712)
سَبِيلَهُ وَلَمْ يَهْجُهُ [ (1) ] ، وَضَنّ بِزَوْجَتِهِ أَنْ يُفَارِقَهَا وَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ وَكَانَ يُحِبّهَا، فَعَصَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى مَا يَكْرَه.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ الْحَارِثِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ حِزَامِ بْنِ مُحَيّصَةَ، عن أبيه، قال: كنّا بالمدينة وَالْمَجَاعَةُ تُصِيبُنَا، فَنَخْرُجُ إلَى خَيْبَرَ فَنُقِيمُ بِهَا مَا أَقَمْنَا ثُمّ نَرْجِعُ، وَرُبّمَا خَرَجْنَا إلَى فَدَكَ وَتَيْمَاءَ. وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَوْمًا [ (2) ] لَهُمْ ثِمَارٌ لَا يُصِيبُهَا قَطْعُهُ [ (3) ] ، أَمّا تَيْمَاءُ فَعَيْنٌ جَارِيَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ جَبَلٍ لَمْ يُصِبْهَا قَطْعُهُ مُنْذُ كَانَتْ، وَأَمّا خَيْبَرُ فَمَاءٌ وَاتِنٌ، فَهِيَ مَغْفِرَةٌ [ (4) ] فِي الْمَاءِ، وَأَمّا فَدَكُ فَمِثْلُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَفَتَحَ خَيْبَرَ قُلْت لِأَصْحَابِي:
هَلْ لَكُمْ فِي خَيْبَرَ فَإِنّا قَدْ جَهَدْنَا وَقَدْ أَصَابَنَا مَجَاعَةٌ؟ فَقَالَ أَصْحَابِي: إنّ الْبِلَادَ لَيْسَ كَمَا كَانَتْ، نَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ وَإِنّمَا نَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ عَدَاوَةٍ وَغِشّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكُنّا قَبْلَ ذَلِكَ لَا نَعْبُدُ شَيْئًا. قَالُوا: قَدْ جَهَدْنَا، فَخَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَقَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ الْأَرْضُ وَالنّخْلُ لَيْسَ كَمَا كَانَتْ، قَدْ دَفَعَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ عَلَى النّصْفِ، فَأَمّا سَرَاةُ الْيَهُودِ وَأَهْلُ السّعَةِ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلُوا- بَنُو أَبِي الْحُقَيْقِ وَسَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ، وَابْنَ الْأَشْرَفِ- وَإِنّمَا بَقِيَ قَوْمٌ لَا أَمْوَالَ لَهُمْ وَإِنّمَا هُمْ عُمّالُ أَيْدِيهِمْ.
وَكُنّا نَكُونُ فِي الشّقّ يَوْمًا وَفِي النّطَاةِ يَوْمًا وَفِي الْكَتِيبَةِ يَوْمًا، فَرَأَيْنَا الْكَتِيبَةَ خَيْرًا لَنَا فَأَقَمْنَا بِهَا أَيّامًا، ثُمّ إنّ صَاحِبِي ذَهَبَ إلى الشّقّ فبات عنى وقد
__________
[ (1) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «فخلى سبيلها ولم يهجر وضن» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 219) .
ولم يهجه: أى لم يزعجه ولم ينفره. (النهاية، ج 4، ص 260) .
[ (2) ] فى الأصل: «قوم» .
[ (3) ] أى قطع الماء.
[ (4) ] فى الأصل: «معفدة» . ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات. وغفره: أى غطاه. (القاموس المحيط، ج 2، ص 103) .(2/713)
كُنْت أُحَذّرُهُ الْيَهُودَ، فَغَدَوْت فِي أَثَرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتّى انْتَهَيْت إلَى الشّقّ فَقَالَ لِي أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ: مَرّ بِنَا حَيْنَ غَابَتْ الشّمْسُ يُرِيدُ النّطَاةَ. قَالَ:
فَعَمَدْت إلَى النّطَاةِ، إلَى أَنْ قَالَ لِي غُلَامٌ مِنْهُمْ: تَعَالَ أَدُلّك عَلَى صَاحِبِك! فَانْتَهَى بِي إلَى مُنْهَر فأقامني عليه، فإذا الذباب يطلع من الْمَنْهَرِ. قَالَ:
فَتَدَلّيْت فِي الْمَنْهَرِ فَإِذَا صَاحِبِي قَتِيلٌ، فَقُلْت لِأَهْلِ الشّقّ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ! قَالُوا: لَا وَاَللهِ، مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ! قَالَ: فَاسْتَعَنْت عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ حَتّى أَخْرَجْته وَكَفّنْته وَدَفَنْته، ثُمّ خَرَجْت سَرِيعًا حَتّى قَدِمْت عَلَى قَوْمِي بِالْمَدِينَةِ فَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ. وَنَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، فَخَرَجَ مَعِي مِنْ قَوْمِي ثَلَاثُونَ رَجُلًا، أَكْبَرُنَا أخى حويّصة، فخرج معنا عبد الرحمن ابن سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ- وَالْمَقْتُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سهل- وكان عبد الرحمن ابن سَهْلٍ أَحْدَثَ مِنّي، فَهُوَ مُسْتَعْبَرٌ عَلَى أَخِيهِ رَقِيقٌ عَلَيْهِ، فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَقَدْ بَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ،
فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ أَخِي قُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَبّرْ، كَبّرْ! فَتَكَلّمْت فَقَالَ: كَبّرْ، كَبّرْ! فَسَكَتّ. وَتَكَلّمَ أَخِي حُوَيّصَةُ فَتَكَلّمَ بِكَلِمَاتٍ وَذَكَرَ أَنّ الْيَهُودَ تُهْمَتُنَا وَظِنّتُنَا ثُمّ سَكَتَ، فَتَكَلّمْت وَأَخْبَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إمّا أَنّ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَتَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إلَيْهِ: «مَا قَتَلْنَاهُ» . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيّصَةَ وَمُحَيّصَةَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ وَلِمَنْ مَعَهُمْ: تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ نَحْضُرْ وَلَمْ نَشْهَدْ. قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ.
فوداه(2/714)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ، خَمْسَةً وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ حِقّةً، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ. قَالَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: رَأَيْتهَا أَدْخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلَامٌ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ: كَانَتْ الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ أَقَرّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَضَى بِهَا فِي الْأَنْصَارِيّ الّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرَ قَتِيلًا [ (1) ] فِي جُبّ مِنْ جِبَابِ الْيَهُودِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ: تَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ، خَمْسِينَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللهِ مَا قَتَلْنَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كَفّارٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللهِ أَنّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَكُمْ وَتَسْتَحِقّوا الدّمَ؟
قَالُوا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ دِيَتَهُ عَلَى الْيَهُودِ لِأَنّهُ قُتِلَ بِحَضْرَتِهِمْ.
حَدّثَنِي مَخْرَمَة بْنُ بُكَيْر، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ عَلَى الْيَهُودِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطُوا فَلِيَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَأَعَانَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا- فَهِيَ أَوّلُ مَا كَانَتْ الْقَسَامَة.
وَكَانَ النّاسُ يَطْلُعُونَ إلَى أَمْوَالِهِمْ بِخَيْبَرَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عن أبيه،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قتيل» .(2/715)
قَالَ: خَرَجْت أَنَا وَالزّبَيْرُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ نُفَيْلٍ إلَى أَمْوَالِنَا بِخَيْبَرَ فَطَلَعْنَا نَتَعَاهَدُهَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَبْعَثُ مَنْ يَطْلُعُهَا وَيَنْظُرُ إلَيْهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ تَفَرّقْنَا فِي أَمْوَالِنَا.
فَعُدِيَ عَلَيْنَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي فَصُرِعَتْ يَدَايَ فَسَأَلُونِي:
مِنْ صَنِعِ هَذَا بِك؟ فَقُلْت: لَا أَدْرِي، فَأَصْلَحُوا أَمْرَ يَدَيْ! وَقَالَ غَيْرُ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَحَرُوهُ بِاللّيْلِ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَكُوّعَ حَتّى أَصْبَحَ كَأَنّهُ كَانَ فِي وِثَاقٍ، وَجَاءَ أَصْحَابُهُ فَأَصْلَحُوا مِنْ يَدَيْهِ، فَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَ أَبَاهُ بِمَا صُنِعَ بِهِ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قَالَ:
أَقْبَلَ مُظَهّرُ بْنُ رَافِعٍ الْحَارِثِيّ بِأَعْلَاجٍ مِنْ الشّامِ يَعْمَلُونَ لَهُ بِأَرْضِهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ، فَأَقْبَلَ حَتّى نَزَلَ بِهِمْ خَيْبَرَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، فَيَدْخُلُ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: أَنْتُمْ نَصَارَى وَنَحْنُ يَهُودُ وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَرَبٌ قَدْ قَهَرُونَا بِالسّيْفِ، وَأَنْتُمْ عَشَرَةُ رِجَالٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَسُوقُكُمْ مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَيْرِ إلَى الْجَهْدِ وَالْبُؤْسِ، وَتَكُونُونَ فِي رِقّ شَدِيدٍ، فَإِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ قَرْيَتِنَا فَاقْتُلُوهُ.
قَالُوا: لَيْسَ مَعَنَا سِلَاحٌ. فَدَسّوا إلَيْهِمْ سِكّينَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. قَالَ: فَخَرَجُوا فَلَمّا كَانُوا بِثِبَارَ قَالَ لِأَحَدِهِمْ، وَكَانَ الّذِي يَخْدُمُهُ مِنْهُمْ: نَاوِلْنِي كَذَا وَكَذَا.
فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ جَمِيعًا قَدْ شَهَرُوا سَكَاكِينَهُمْ، فَخَرَجَ مُظَهّرٌ يَعْدُو إلَى سَيْفِهِ وَكَانَ فِي قِرَابِ رَاحِلَتِهِ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى الْقِرَابِ لَمْ يَفْتَحْهُ حَتّى بَعَجُوا بَطْنَهُ، ثُمّ انْصَرَفُوا سِرَاعًا حَتّى قَدِمُوا خَيْبَرَ عَلَى الْيَهُودِ فَآوَوْهُمْ وَزَوّدُوهُمْ وَأَعْطَوْهُمْ قُوّةً فَلَحِقُوا بِالشّامِ.
وَجَاءَ عُمَرُ الْخَبَرَ بِمَقْتَلِ مُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ وَمَا صَنَعَتْ الْيَهُودُ، فَقَامَ عُمَرُ خَطِيبًا بِالنّاسِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ(2/716)
الْيَهُودَ فَعَلُوا بِعَبْدِ اللهِ مَا فَعَلُوا، وَفَعَلُوا بِمُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ مَعَ عَدْوَتِهِمْ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَشُكّ أَنّهُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ لَنَا عَدُوّ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ فَلْيَخْرُجْ فَأَنَا خَارِجٌ، فَقَاسَمَ مَا كَانَ بِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ، وَحَادّ حُدُودَهَا، وَمُوَرّفٌ أُرَفَهَا [ (1) ] وَمُجْلِي الْيَهُودِ مِنْهَا، فَإِنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهُمْ: «أُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللهُ» وَقَدْ أَذِنَ اللهُ فِي جَلَائِهِمْ إلّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِعَهْدٍ أَوْ بَيّنَةٍ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ أَقَرّهُ فَأَقَرّهُ. فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ:
قَدْ وَاَللهِ أَصَبْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَوُفّقْت! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللهُ» ،
وَقَدْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ فِي زَمَنِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا حَرّضُوا عَلَى مُظَهّرِ بْنِ رَافِعٍ حَتّى قَتَلَهُ أَعْبُدُهُ، وَمَا فَعَلُوا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَهُمْ أَهْلُ تُهْمَتِنَا وَظِنّتِنَا [ (2) ] . فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ مَعَك عَلَى مِثْلِ رَأْيِك؟ قَالَ: الْمُهَاجِرُونَ جَمِيعًا وَالْأَنْصَارُ. فَسُرّ بِذَلِكَ عُمَرُ.
حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ: «لَا يَجْتَمِعُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَان» .
فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حَتّى وَجَدَ عَلَيْهِ الثّبْتَ مَنْ لَا يَتّهِمُ، فَأَرْسَلَ إلَى يهود الحجاز فقال:
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنّي مُجَلّيهِ، فَإِنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ أَذِنَ فِي جَلَائِهِمْ. فأجلى عمر يهود الحجاز.
__________
[ (1) ] أرف: جمع أرفة، وهي الحدود والمعالم. (النهاية، ج 1، ص 26) .
[ (2) ] فى الأصل: «سركتنا وظننا» ، وما أثبتناه من السيرة الحلبية. (ج 2، ص 182) .
وانظر ما سبق، ص 714.(2/717)
قَالُوا: فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَرْبَعَةِ قُسّامٍ: فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبِيَاضِيّ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَحُبَابُ بْنُ صَخْرٍ السّلَمِيّ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيهَانِ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَسَمُوا خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا، عَلَى الرّءُوسِ الّتِي سَمّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّهُ سَمّى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا وَسَمّى رُؤَسَاءَهَا. وَيُقَالُ: إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَمّى الرّؤَسَاءَ ثُمّ جزأوا الشّقّ والنّطاة، فجزأوها عَلَى ثَمَانِيّةَ عَشْرَ سَهْمًا، جَعَلُوا ثَمَانِيّةَ عَشْرَ بَعْرَةً فَأَلْقَيْنَ فِي الْعَيْنِ [ (1) ] جَمِيعًا، وَلِكُلّ رَأْسٍ عَلَامَةٌ فِي بَعْرَتِهِ، فَإِذَا خَرَجَتْ أَوّلُ بَعْرَةٍ قِيلَ سَهْمُ فُلَانٍ وَسَهْمُ فُلَانٍ. وَكَانَ فِي الشّقّ ثَلَاثَةَ عَشْرَ سَهْمًا، وَفِي النّطَاةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ مِنْ آلِ مَخْرَمَة، عَنْ أَبِيهِ. فَكَانَ أَوّلَ سَهْمٍ خَرَجَ فِي النّطَاةِ سَهْمُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ، ثُمّ سَهْمُ بَيَاضَةَ، يُقَالُ: إنّ رَأْسَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثُمّ سَهْمُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، ثُمّ سَهْمُ بِلْحَارِث بْنِ الْخَزْرَجِ، يُقَالُ: رَأْسُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمّ سَهْمُ نَاعِمٍ، يَهُودِيّ. ثُمّ ضَرَبُوا فِي الشّقّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَا عَاصِمُ بْنَ عَدِيّ، إنّك رَجُلٌ مَحْدُودٌ، فَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ سَهْمِك. فَخَرَجَ سَهْمُ عَاصِمٍ أَوّلَ سَهْمٍ فِي الشّقّ، وَيُقَالُ: إنّهُ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَنِي بَيَاضَةَ، وَالثّبْتُ أَنّهُ كَانَ مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ.
ثُمّ خَرَجَ سَهْمُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى أَثَرِ سَهْمِ عَاصِمٍ، ثُمّ سَهْمُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ سَهْمُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، ثُمّ سهم بنى ساعدة، يقال: رأسهم سعد ابن عُبَادَةَ، ثُمّ سَهْمُ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ سَهْمُ بنى حارثة بن الحارث، ثم سهم
__________
[ (1) ] العين: المال الحاضر. (النهاية، ج 3، ص 145) .(2/718)
أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، يُقَالُ: رَأْسُهُمْ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ، ثُمّ سَهْمَا سَلِمَةَ جَمِيعًا، ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدِ السّهَامِ، ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدٍ، ثُمّ سَهْمُ أَوْسٍ، صَارَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَسَأَلْت ابْنَ أَبِي حَبِيبَةَ: لِمَ سُمّيَ عُبَيْدُ السّهَامِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي دَاوُد بن الحصين قال: كان اسمه عبيد، وَلَكِنّهُ جَعَلَ يَشْتَرِي مِنْ السّهَامِ بِخَيْبَرَ فَسُمّيَ عُبَيْدَ السّهَامِ.
حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ابن نافع مولى بنى هاشم، عن يحيى ابن شِبْلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: أَوّلُ مَا ضرب فى الشّقّ خرج سهم عاصم ابن عَدِيّ فِيهِ سَهْمُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ:
كُنْت أُحِبّ أَنْ يَخْرُجَ سَهْمِي مَعَ سَهْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا أَخْطَأَنِي قُلْت: اللهُمّ اجْعَلْ سَهْمِي فِي مَكَانٍ مُعْتَزِلٍ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيّ طَرِيقٌ.
فَكَانَ سَهْمُهُ مُعْتَزِلًا وَكَانَ شُرَكَاؤُهُ أَعْرَابًا، فَكَانَ يَسْتَخْلِصُ [ (1) ] مِنْهُمْ سِهَامَهُمْ، يَأْخُذُ حَقّ أَحَدِهِمْ بِالْفَرَسِ وَالشّيْءِ الْيَسِيرِ حَتّى خَلَصَ لَهُ سَهْمُ أَوْسٍ كُلّهُ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمّا قَسَمَ [ (2) ] عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَيْبَرَ خَيّرُوا أَزْوَاجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طُعُمِهِنّ الّذِي أَطْعَمَهُنّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَتِيبَةِ، إنْ أَحْبَبْنَ أَنْ يُقْطَعَ لَهُنّ مِنْ الْأَرْضِ [وَ] الْمَاءُ مَكَانُ طُعُمِهِنّ، أَوْ يُمْضَى لَهُنّ الْوُسُوقُ وَتَكُونُ مَضْمُونَةً لَهُنّ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَحَفْصَةُ رضى الله عنها ممن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يتخلص» .
[ (2) ] فى الأصل: «أقسم» .(2/719)
اخْتَارَ الْأَرْضَ وَالْمَاءَ، وَكَانَ سَائِرُهُنّ أَخَذْنَ [ (1) ] الْوُسُوقَ مَضْمُونَةً.
حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ يَقُولُ، سَمِعْت عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها تقول يوما: رحم الله ابن الْخَطّابِ! قَدْ خَيّرَنِي فِيمَا صَنَعَ، خَيّرَنِي فِي الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَفِي الطّعْمَةِ، فَاخْتَرْت الْأَرْضَ وَالْمَاءَ، فَهُنّ فِي يَدَيّ، وَأَهْلُ الطّعْمِ مَرّةً يَنْقُصُهُمْ مَرْوَانُ، وَمَرّةً لَا يُعْطِيهِمْ شَيْئًا، وَمَرّةً يُعْطِيهِمْ. وَيُقَالُ: إنّمَا خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النّاسَ كُلّهُمْ، فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الطّعْمَةَ كَيْلًا، وَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَاءَ وَالتّرَابَ، وَأَذِنَ لِمَنْ شَاءَ بَاعَ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُمْسِكَ أَمْسَكَ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ، فَكَانَ مَنْ بَاعَ الْأَشْعَرِيّينَ، مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ مِائَةَ وَسْقٍ بِخَمْسَةِ آلَافِ [ (2) ] دِينَارٍ، وَبَاعَ الرّهَاوِيّونَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا وَاَلّذِي رَأَيْت عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ طُعْمَةٌ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَاءِ والأرض أو الطّعمة مضمونة، فكان أسامة ابن زَيْدٍ اخْتَارَ الطّعْمَةُ مَضْمُونَةٌ. وَلَمّا فَرَغَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ الْقِسْمَةِ أَخَرَجَ يَهُودَ خيابر، وَمَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ خَيْبَرَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إلَى وَادِي الْقُرَى. وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ بِالْقُسّامِ الّذِينَ قَسَمُوا: جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيهَانِ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وزيد بن ثابت، فقسموها على
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أخذوا» .
[ (2) ] فى الأصل: «بخمسة ألف» .(2/720)
أَعْدَادِ السّهَامِ، وَأَعْلَمُوا أُرَفَهَا، وَحَدّوا حُدُودَهَا، وَجَعَلُوهَا السّهَامَ تَجْرِي.
فَكَانَ مَا قَسَمَ عُمَرُ مِنْ وادي القرى لعثمان بن عفّان خطر، ولعبد الرحمن ابن عَوْفٍ خَطَرٌ، وَلِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ خَطَرٌ- الْخَطَرُ هُوَ السّهْمُ- وَلِعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ خَطَرٌ، وَلِمُعَيْقِبٍ خَطَرٌ، وَلِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَرْقَمِ خَطَرٌ، وَلِبَنِي جَعْفَرٍ خَطَرٌ، وَلِعَمْرِو بْنِ سُرَاقَةَ خَطَرٌ، وَلِعَبْدِ اللَّه وَعُبَيْدِ اللَّه خَطَرَانِ، وَلِشُيَيْمٍ خَطَرٌ، وَلِابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ خَطَرٌ، وَلِابْنِ أبى بكر خطر، ولعمر خطر، ولزيد ابن ثَابِتٍ خَطَرٌ، وَلِأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ خَطَرٌ، وَلِمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَطَرٌ، وَلِأَبِي طَلْحَةَ وَجُبَيْرٍ خَطَرٌ، وَلِجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ خَطَرٌ، وَلِجَبّارِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَابٍ خَطَرٌ، وَلِمَالِكٍ بْنِ صَعْصَعَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ خَطَرٌ، وَلِسَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ خَطَرٌ، وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ أَبِي شُرَيْقٍ خَطَرٌ، وَلِأَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ خَطَرٌ، وَلِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ خَطَرٌ، وَلِعَبّادِ بْنِ طَارِقٍ خَطَرٌ، وَلِجَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ نِصْفُ خَطَرٍ، وَلِابْنِ الْحَارِثِ بْنِ قِيسٍ نِصْفُ خَطَرٍ، وَلِابْنِ جَرْمَةَ وَالضّحّاكِ خَطَرٌ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِكْنَفٍ الْحَارِثِيّ، قَالَ: إنّمَا خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ الْقُسّامِ بِرَجُلَيْنِ، جَبّارِ بْنِ صَخْرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، هُمَا قَاسِمَا الْمَدِينَةِ وَحَاسَبَاهَا، فَقَسَمَا خَيْبَرَ وَأَقَامَا نَخْلَ فَدَكَ وَأَرْضَهَا، وَدَفَعَ عُمَرُ إلَى يَهُودِ فَدَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَقَسَمَا السّهْمَانِ بِوَادِي الْقُرَى، ثُمّ أَجْلَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَهُودَ الْحِجَازِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ تَصَدّقَ بِاَلّذِي صَارَ لَهُ مِنْ وَادِي الْقُرَى مع غيره
.(2/721)
سَرِيّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى تُرَبَةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْع
حَدّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إلَى عَجُزِ [ (1) ] هَوَازِنَ بِتُرَبَةَ [ (2) ] ، فَخَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النّهَارَ، وَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ فَهَرَبُوا، وَجَاءَ عُمَرُ مُحَالّهُمْ فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى سَلَكَ النّجْدِيّةَ، فَلَمّا كَانَ بِالْجَدْرِ قَالَ الْهِلَالِيّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَلْ لَك فِي جَمْعٍ آخَرَ تَرَكْته مِنْ خَثْعَمَ، جَاءُوا سَائِرِينَ قَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، إنّمَا أَمَرَنِي أَصْمَدُ [ (3) ] لِقِتَالِ هَوَازِنَ بِتُرَبَةَ. فَانْصَرَفَ عُمَرُ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ.
سَرِيّةُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى نَجْدٍ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
حَدّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَمّرَهُ عَلَيْنَا، فَبَيّتْنَا نَاسًا مِنْ هَوَازِنَ، فَقَتَلْت بِيَدَيْ سَبْعَةً أَهْلَ أبيات [ (4) ] ، وكان شعارنا: أمت! أمت!
__________
[ (1) ] عجز هوازن: بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم بن بكر. (القاموس المحيط، ج 2، ص 181) .
[ (2) ] تربة: موضع بناحية العبلاء على أربع ليال من مكة طريق صنعاء ونجران. (طبقات ابن سعد، ج 2، ص 85) .
[ (3) ] فى الأصل: «أضمد» .
[ (4) ] فى الأصل: «سبعة أبيات» ، والتصحيح عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 85) .(2/722)
سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى فَدَكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا إلَى بَنِي مُرّةَ بِفَدَكَ. فَخَرَجَ فَلَقِيَ رِعَاءَ الشّاءِ فَسَأَلَ: أَيْنَ النّاسُ؟ فَقَالُوا: هُمْ فِي بِوَادِيهِمْ [ (1) ] .
وَالنّاسُ يَوْمئِذٍ شَاتُونَ لَا يَحْضُرُونَ الْمَاءَ، فَاسْتَاقَ النّعَمَ وَالشّاءَ وَعَادَ مُنْحَدِرًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ الصّرِيخُ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَدْرَكَهُ الدّهْمُ مِنْهُمْ عِنْدَ اللّيْلِ، فَبَاتُوا [ (2) ] يُرَامُونَهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، وَأَصْبَحُوا وَحَمَلَ الْمُرّيُونَ عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا أَصْحَابَ بَشِيرٍ وَوَلّى مِنْهُمْ مَنْ وَلّى. وَقَاتَلَ بَشِيرٌ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى ضُرِبَ كَعْبُهُ، وَقِيلَ: قَدْ مَاتَ، وَرَجَعُوا بِنَعَمِهِمْ وَشَاءَهُمْ.
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ السّرِيّةِ وَمُصَابِهَا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ. وَأُمْهِلَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ فِي الْقَتْلَى، فَلَمّا أَمْسَى تَحَامَلَ حَتّى انْتَهَى [إلَى] فَدَكَ، فَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودِيّ بِفَدَكَ أَيّامًا حَتّى ارْتَفَعَ مِنْ الْجِرَاحِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ.
وَهَيّأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بْنَ الْعَوَامّ فَقَالَ: سِرْ حَتّى تَنْتَهِيَ إلَى مُصَابِ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، فَإِنْ ظَفّرَك اللهُ بِهِمْ فَلَا تَبْقَ فِيهِمْ.
وَهَيّأَ مَعَهُ مِائَتَيْ رَجُلٍ وَعَقَدَ لَهُ اللّوَاءَ، فَقَدِمَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مِنْ سَرِيّةٍ قَدْ ظَفِرَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ:
اجْلِسْ!
وَبَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَخَرَجَ أُسَامَةُ بن زيد فى
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل وابن سعد. وفى الزرقانى يروى عن الواقدي: «نواديهم» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 299) .
[ (2) ] فى ابن سعد: «فأتوا» . (الطبقات، ج 2، ص 86) .(2/723)
السّرِيّةِ حَتّى انْتَهَى إلَى مُصَابِ بَشِيرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ.
حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ غَالِبٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَسْعُودٍ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمّا دَنَا غَالِبٌ مِنْهُمْ بَعَثَ الطّلَائِعَ، فَبَعَثَ عُلْبَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ يَنْظُرُ إلَى جَمَاعَةِ مُحَالّهِمْ، حَتّى أَوْفَى عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ثُمّ رَجَعَ إلَى غَالِبٍ فَأَخْبَرَهُ. فَأَقْبَلَ غَالِبٌ يَسِيرُ حَتّى إذَا كَانَ مِنْهُمْ بِمَنْظَرٍ العين ليلا، وقد اجتلبوا وعطّنوا [ (1) ] وهدأوا، قَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تُطِيعُونِي وَلَا تَعْصُونِي وَلَا تُخَالِفُوا لِي أَمْرًا، فَإِنّهُ لَا رَأْي لِمَنْ لَا يُطَاعُ. ثُمّ أَلّفَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَنْتَ وَفُلَانٌ، يَا فُلَانُ أَنْتَ وَفُلَانٌ- لَا يُفَارِقُ كُلّ رَجُلٍ زَمِيلَهُ- وَإِيّاكُمْ أَنْ يَرْجِعَ إلَيّ أَحَدُكُمْ فَأَقُولُ: أَيْنَ فُلَانٌ صَاحِبُك؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، وَإِذَا كَبّرَتْ فَكَبّرُوا. قَالَ: فَكَبّرَ وَكَبّرُوا، وَأَخْرَجُوا السّيُوفَ. قَالَ: فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ [وَفِي الْحَاضِرِ] [ (2) ] نَعَمٌ وَقَدْ عَطَنُوا مَوَاشِيَهُمْ، فَخَرَجَ إلَيْنَا الرّجَالُ فَقَاتَلُوا سَاعَةً، فَوَضَعْنَا السّيُوفَ حَيْثُ شِئْنَا مِنْهُمْ وَنَحْنُ نَصِيحُ بِشِعَارِنَا: أَمِتْ! أَمِتْ! وَخَرَجَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِي إثْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ مِرْدَاسٍ فَأَبْعَدَ، وَحَوَيْنَا عَلَى الْحَاضِرِ وَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا، وَمَعَنَا النّسَاءُ وَالْمَاشِيَةُ، فَقَالَ أَمِيرُنَا: أَيْنَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ فَجَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ اللّيْلِ، فَلَامَهُ أَمِيرُنَا لَائِمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إلَى مَا عَهِدْت إلَيْك؟
__________
[ (1) ] أى سقوا الإبل ثم أناخوها وحبسوها عند الماء. (لسان العرب، ج 17، ص 158) .
[ (2) ] فى الأصل: «وحاضر نعم» .(2/724)
فَقَالَ: إنّي خَرَجْت فِي إثْرِ رَجُلٍ جَعَلَ يَتَهَكّمُ بِي، حَتّى إذَا دَنَوْت وَلَحَمْته بِالسّيْفِ قَالَ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ! فَقَالَ أَمِيرُنَا: أَغْمَدْت سَيْفَك؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ مَا فَعَلْت حَتّى أَوْرَدْته شَعُوبَ. قَالَ: قُلْنَا: وَاَللهِ بِئْسَ ما فعلت وما جئت به، تقتل امرءا يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ! فَنَدِمَ وَسَقَطَ فِي يَدَيْهِ. قَالَ: وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ وَالذّرّيّةَ، وَكَانَتْ سِهَامُهُمْ عَشَرَةُ أَبْعِرَةً كُلّ رَجُلٍ، أَوْ عِدْلهَا مِنْ الْغَنَمِ.
وَكَانَ يُحْسَبُ الْجَزُورُ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ.
وَحَدّثَنِي شِبْلُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ حُوَيّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ أَمِيرُنَا آخَى بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ.
قَالَ أُسَامَةُ: فَلَمّا أَصَبْته وَجَدْت فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ مَوْجِدَةً شَدِيدَةً حَتّى رَأَيْتنِي وَمَا أَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ الطّعَامِ حَتّى قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبّلَنِي وَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْته، ثُمّ قَالَ لِي: يَا أُسَامَةُ، خَبّرْنِي عَنْ غَزَاتِك. قَالَ: فَجَعَلَ أُسَامَةُ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ حَتّى انْتَهَى إلَى صَاحِبِهِ الّذِي قَتَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلْته يَا أُسَامَةُ، وَقَدْ قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللهُ؟ قَالَ: فَجَعَلْت أَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا قَالَهَا تَعَوّذًا مِنْ الْقَتْلِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا شَقَقْت قَلْبَهُ فَتَعْلَمَ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ [ (1) ] ؟
قَالَ أُسَامَةُ: لَا أَقْتُلُ أَحَدًا يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ. قَالَ أُسَامَةُ:
وَتَمَنّيْت أَنّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلّا يَوْمئِذ.
حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ، عن عبيد الله بن عدىّ بن الخيار، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْكُفّارِ يُقَاتِلُنِي، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فتعلم صادقا هو أو كاذب» .(2/725)
ثُمّ لَاذَ مِنّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ «أَسْلَمْت لِلّهِ» ، أَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْتُلْهُ! قَالَ: فَإِنّي قَتَلْته فَمَاذَا؟ قَالَ: فَإِنّهُ بِمَنْزِلَتِك الّتِي كُنْت بِهَا قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الّتِي قَالَ.
سَرِيّةُ بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَلَيْهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ إلَى الْمَيْفَعَةِ [ (1) ] فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ الْكُدْرِ أَقَامَ أَيّامًا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ لَهُ يَسَارٌ مَوْلَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي قَدْ عَلِمْت غِرّةً مِنْ [ (2) ] بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَأَرْسَلَ مَعِي إلَيْهِمْ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، خَرَجَ بِهِمْ يَسَارٌ، فَظَعَنَ بِهِمْ فِي غَيْرِ الطّرِيقِ حَتّى فَنِيَتْ أَزْوَادُهُمْ وَجَهَدُوا، وَاقْتَسَمُوا التّمْرَ عَدَدًا، فَبَيْنَا الْقَوْمُ ذات ليلة بعد ما سَاءَ ظَنّهُمْ بِيَسَارٍ، وَظَنّ الْقَوْمُ أَنّ إسْلَامَهُ لَمْ يَصِحّ، وَقَدْ انْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ قَدْ فَحَصَهُ [ (3) ] السّيْلُ، فَلَمّا رَآهُ يَسَارٌ كَبّرَ قَالَ:
وَاَللهِ قَدْ ظُفِرْتُمْ بِحَاجَتِكُمْ، اُسْلُكُوا فِي هَذَا الْفَحْصِ حَتّى يَنْقَطِعَ بِكُمْ. فَسَارَ الْقَوْمُ فِيهِ سَاعَةٍ بِحِسّ خَفِيّ لَا يَتَكَلّمُونَ إلّا هَمْسًا [ (4) ] حتى انتهوا إلى ضرس [ (5) ]
__________
[ (1) ] الميفعة: وراء بطن نخل إلى النقرة بناحية نجد، بينها وبين المدينة ثمانية برد. (الطبقات، ج 2، ص 86) .
[ (2) ] فى الأصل: «إنى قد علمت غزوة بنى عبد بن ثعلبة» ، والتصحيح من الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 300) .
[ (3) ] فحص: أى حفر. (النهاية، ج 3، ص 185) .
[ (4) ] فى الأصل: «رمسا» .
[ (5) ] الضرس: الأكمة. (الصحاح، ص 939) .(2/726)
مِنْ الْحَرّةِ، فَقَالَ يَسَارٌ لِأَصْحَابِهِ: لَوْ صَاحَ رَجُلٌ شَدِيدُ الصّوْتِ لَأَسْمَعَ الْقَوْمَ، فَارْتَأَوْا رَأْيَكُمْ! قَالَ غَالِبٌ: انْطَلِقْ بِنَا يَا يَسَارٍ أَنَا وَأَنْتَ، وَنَدَعُ الْقَوْمَ كَمِينًا، فَفَعَلَا، فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا [ (1) ] مِنْ الْقَوْمِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ سَمِعْنَا حِسّ النّاسِ وَالرّعَاءِ وَالْحُلُبِ، فَرَجَعَا سَرِيعَيْنِ فَانْتَهَيَا إلَى أَصْحَابِهِمَا، فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا حَتّى إذَا كَانُوا مِنْ الْحَيّ قَرِيبًا، وَقَدْ وَعَظَهُمْ أَمِيرُهُمْ غَالِبٌ وَرَغّبَهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْإِمْعَانِ فِي الطّلَبِ، وَأَلّفَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ:
إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا. فَكَبّرَ وَكَبّرُوا جَمِيعًا مَعَهُ، وَوَقَعُوا وَسَطَ مَحَالّهِمْ فَاسْتَاقُوا نَعَمًا وَشَاءَ، وَقَتَلُوا مِنْ أَشَرَف لَهُمْ، وَصَادَفُوهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْمَيْفَعَةُ. قَالَ: وَاسْتَاقُوا النّعَمَ فَحَدَرُوهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنّهُمْ جَاءُوا بِأَسْرَى.
سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى الْجِنَابِ [ (2) ] سَنَةَ سَبْعٍ
حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَقَدْ كَانَ دَلِيلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أَيْنَ يَا حُسَيْلُ؟ قَالَ: قَدِمْت مِنْ الْجِنَابِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا وَرَاءَك؟
قَالَ: تَرَكْت جَمْعًا مِنْ غَطَفَان بِالْجِنَابِ، قَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لَهُمْ: إمّا تَسِيرُوا إلَيْنَا وَإِمّا نَسِيرُ إلَيْكُمْ. فَأَرْسَلُوا إليه أن سر
__________
[ (1) ] فى الأصل: «إذا كان» .
[ (2) ] فى الأصل: «الجنان» ، والجناب من أرض غطفان، وذكره أيضا الحازمي وقال: من بلاد فزارة.
(عيون الأثر، ج 2، ص 148) .(2/727)
إلَيْنَا حَتّى نَزْحَفَ إلَى مُحَمّدٍ جَمِيعًا، وَهُمْ يُرِيدُونَك أَوْ بَعْضَ أَطْرَافِك. قَالَ:
فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وَعُمَرَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ، فَقَالَا جَمِيعًا: ابْعَثْ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ! فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللّيْلَ وَيَكْمُنُوا النّهَارَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ دَلِيلًا، فَسَارُوا اللّيْلَ وَكَمَنُوا النّهَارَ حَتّى أَتَوْا أَسْفَلَ خَيْبَرَ فَنَزَلُوا بِسِلَاحٍ [ (1) ] ، ثُمّ خَرَجُوا مِنْ سِلَاحٍ حَتّى دَنَوْا مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُمْ الدّلِيلُ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ ثُلُثَا نَهَارٍ أَوْ نِصْفُهُ، فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ كَمَنْتُمْ وَخَرَجْت طَلِيعَةً لَكُمْ حَتّى آتِيَكُمْ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ سِرْنَا جَمِيعًا. قَالُوا: بَلْ نُقَدّمُك. فَقَدّمُوهُ، فَغَابَ عَنْهُمْ سَاعَةً ثُمّ كَرّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: هَذَا أَوَائِلُ سَرْحِهِمْ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ؟ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَغَرْنَا الْآنَ حَذِرَنَا الرّجَالُ وَالْعَطَنُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَغْنَمُ مَا ظَهَرَ لَنَا ثُمّ نَطْلُبُ الْقَوْمَ. فَشَجُعُوا عَلَى النّعَمِ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا مَلَأُوا مِنْهُ أَيْدِيَهُمْ، وَتَفَرّقَ الرّعَاءُ وَخَرَجُوا سِرَاعًا، ثُمّ حَذِرُوا الْجَمْعَ فَتَفَرّقَ الْجَمْعُ وَحُذِرُوا، وَلَحِقُوا بِعَلْيَاءَ بِلَادِهِمْ، فَخَرَجَ بَشِيرٌ بِأَصْحَابِهِ حَتّى أَتَى مَحَالّهُمْ فَيَجِدُهَا وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ. فَرَجَعَ بِالنّعَمِ حَتّى إذَا كَانُوا بِسِلَاحٍ رَاجِعِينَ لَقُوا عَيْنًا لِعُيَيْنَةَ فَقَتَلُوهُ، ثُمّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ، وَعُيَيْنَةُ لَا يَشْعُرُ بِهِمْ فَنَاوَشُوهُمْ، ثُمّ انْكَشَفَ جَمْعُ عُيَيْنَةَ وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ فَأَسَرُوهُمَا أَسْرًا، فَقَدِمُوا بِهِمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا فأرسلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] سلاح: موضع أسفل من خيبر. (معجم البلدان، ج 5، ص 101) . ويقال له أيضا: سلاج بالجيم. (وفاء الوفا، ج 2، ص 323) .(2/728)
قَالُوا: وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمُرّيّ [حَلِيفًا] [ (1) ] لِعُيَيْنَةَ وَلَقِيَهُ مُنْهَزِمًا عَلَى فَرَسٍ لَهُ عَتِيقٍ يَعْدُو بِهِ عَدْوًا سَرِيعًا، فَاسْتَوْقَفَهُ الْحَارِثُ فَقَالَ: لَا، مَا أَقْدِرُ! الطّلَبُ خَلْفِي! أَصْحَابَ مُحَمّدٍ! وَهُوَ يَرْكُضُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ:
أَمَا لَك بَعْدَ أَنْ تُبْصِرَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَطِئَ الْبِلَادَ وَأَنْتَ مَوْضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ. قَالَ الْحَارِثُ: فَتَنَحّيْت عَنْ سُنَنِ خَيْلِ مُحَمّدٍ حَتّى أَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنِي، فَأَقَمْت مِنْ [حِينِ] زَالَتْ الشّمْسُ إلَى اللّيْلِ، مَا أَرَى أَحَدًا- وَمَا طَلَبُوهُ إلّا الرّعْبَ الّذِي دَخَلَهُ. قَالَ: فَلَقِيته بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَارِثُ:
فَلَقَدْ أَقَمْت فِي مَوْضِعٍ حَتّى اللّيْلِ، مَا رَأَيْت مِنْ طَلَبٍ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ ذَاكَ، إنّي خِفْت الْإِسَارَ وَكَانَ أَثْرِي عِنْدَ مُحَمّدٍ مَا تَعْلَمُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ.
قَالَ الْحَارِثُ: أَيّهَا الرّجُلُ، قَدْ رَأَيْت وَرَأَيْنَا مَعَك أمرا بيّنا فى بنى النّضير، ويوم الخندق وقريظة، وَقَبْلَ ذَلِكَ قَيْنُقَاعُ، وَفِي خَيْبَرَ، إنّهُمْ كَانُوا أعزّ يهود الحجاز كلّه، يُقِرّونَ لَهُمْ بِالشّجَاعَةِ وَالسّخَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ حُصُونٍ مَنِيعَةٍ وَأَهْلُ نَخْلٍ، وَاَللهِ إنْ كَانَتْ الْعَرَبُ لَتَلْجَأُ إلَيْهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ بِهِمْ. لَقَدْ سَارَتْ حَارِثَةُ بْنُ الْأَوْسِ حَيْثُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ مَا كَانَ فَامْتَنَعُوا بِهِمْ مِنْ النّاسِ، ثُمّ قَدْ رَأَيْت حَيْثُ نَزَلَ بِهِمْ كَيْفَ ذَهَبَتْ تِلْكَ النّجْدَةُ وَكَيْفَ أُدِيلُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ وَاَللهِ ذَاكَ، وَلَكِنْ نَفْسِي لَا تُقِرّنِي. قَالَ الْحَارِثُ:
فَادْخُلْ مَعَ مُحَمّدٍ. قَالَ: أَصِيرُ تَابِعًا! قَدْ سَبَقَ قَوْمٌ إلَيْهِ فَهُمْ يَزِرُونَ بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَقُولُونَ: شَهِدْنَا بَدْرًا وَغَيْرَهَا. قَالَ الْحَارِثُ: وَإِنّمَا هُوَ عَلَى مَا تَرَى، فَلَوْ تَقَدّمْنَا إلَيْهِ لَكُنّا مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ، قَدْ بَقِيَ قَوْمُهُ بَعْدَهُمْ مِنْهُ فِي مُوَادَعَةٍ وَهُوَ مَوْقِعٌ بِهِمْ وَقْعَةً، مَا وَطِئَ [ (2) ] لَهُ الأمر. قال عيينة: أرى والله! فاتّعدا
__________
[ (1) ] بياض فى الأصل. لعل مكانه ما أثبتناه.
[ (2) ] فى الأصل: «بطئ» .(2/729)
يُرِيدَانِ الْهِجْرَةَ وَالْقُدُومَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ مَرّ بِهِمَا فَرْوَةُ ابن هُبَيْرَةَ الْقُشَيْرِيّ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَهُمَا يَتَقَاوَلَانِ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَا كَانَا فِيهِ وَمَا يُرِيدَانِ. قَالَ فَرْوَةُ: لَوْ اسْتَأْنَيْتُمْ حَتّى تَنْظُرُوا [ (1) ] مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُ فِي هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِي هُمْ فِيهَا وَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِمْ! فَأَخّرُوا الْقُدُومَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَضَى فَرْوَةُ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ فَتَحَسّبَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، فَإِذَا الْقَوْمُ عَلَى عَدَاوَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْخُلُوا طَائِعِينَ أَبَدًا، فَخَبّرَهُمْ بِمَا أوقع محمّد بأهل خيابر. قَالَ فَرْوَةُ: وَقَدْ تَرَكْت رُؤَسَاءَ الضّاحِيَةِ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ لِمُحَمّدٍ. قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَمَا الرّأْيُ، فَأَنْتَ سَيّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ؟ قَالَ: نَقْضِي هَذِهِ الْمُدّةَ الّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَنَسْتَجْلِبُ الْعَرَبَ [ (2) ] ، ثُمّ نَغْزُوهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ. وَأَقَامَ أَيّامًا يُجَوّلُ فِي مَجَالِسِ قُرَيْشٍ، وَيَسْمَعُ بِهِ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، فَنَزَلَ مِنْ بَادِيَتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، فَقَالَ نَوْفَلٌ: إذًا لَأَجِدُ عِنْدَكُمْ شَيْئًا! قَدِمْت الْآنَ لِمُقَدّمِك حَيْثُ بَلَغَنِي، وَلَنَا عَدُوّ قَرِيبٌ دَارُهُ، وَهُمْ عَيْبَةُ نُصْحِ مُحَمّدٍ لَا يُغَيّبُونَ عَلَيْهِ حَرْفًا مِنْ أُمُورِنَا.
قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: خُزَاعَةُ. قَالَ: قَبُحَتْ خُزَاعَةُ، قَعَدَتْ بِهَا يَمِينَهَا! قَالَ فَرْوَةُ: فَمَاذَا؟ قَالَ: اسْتَنْصَرَ قُرَيْشًا أَنْ يُعِينُونَا عَلَيْهِمْ. قَالَ فَرْوَةُ:
فَأَنَا أَكْفِيكُمْ. فَلَقِيَ رُؤَسَاءَهُمْ، صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَلَا تَرَوْنَ مَاذَا نَزَلَ بِكُمْ! إنّكُمْ رَضِيتُمْ أَنْ تُدَافِعُوا مُحَمّدًا بِالرّاحِ. قَالُوا: فَمَا نَصْنَعُ؟ قَالَ: تُعِينُونَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَدُوّهِ وَعَدُوّكُمْ. قَالُوا: إذًا يَغْزُونَا مُحَمّدٌ فِي مَا لَا قبل لنا به فيوطئنا غلبة، وننزل
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حتى تنظرون» .
[ (2) ] فى الأصل: «واستجلاب العرب» .(2/730)
عَلَى حُكْمِهِ، وَنَحْنُ الْآنَ فِي مُدّةٍ وَعَلَى دِينِنَا. فَلَقِيَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ:
لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ شَيْءٌ. وَرَجَعَ فَلَقِيَ عُيَيْنَةَ وَالْحَارِثَ فَأَخْبَرَهُمْ وَقَالَ: رَأَيْت قَوْمَهُ قَدْ أَيْقَنُوا عَلَيْهِ فَقَارَبُوا الرّجُلَ وَتَدَبّرُوا الْأَمْرَ. فَقَدِمُوا رِجْلًا وَأَخّرُوا أُخْرَى.
غَزْوَةُ الْقَضِيّةِ
[ (1) ] حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، وَابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، وَمُعَاذِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ محمّد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وَأَبُو مَعْشَرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ لَمْ أُسَمّ، فَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي قَالُوا: [لَمّا] [ (2) ] دَخَلَ هِلَالُ ذِي الْقَعَدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا- قَضَاءَ عُمْرَتِهِمْ [ (3) ]- وَأَلّا يَتَخَلّفَ أَحَدٌ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ شَهِدَهَا إلّا رِجَالٌ اُسْتُشْهِدُوا بِخَيْبَرَ وَرِجَالٌ مَاتُوا. وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مِمّنْ لَمْ يَشْهَدْ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ عُمّارًا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ أَلْفَيْنِ.
فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعَدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، بَعْدَ مَقْدَمِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الشّهْرُ الذي صدّته المشركون، لقول الله
__________
[ (1) ] وتسمى أيضا عمرة القضية، وعمرة القضاء، وعمرة القصاص، وهذا الاسم أولى بها لقوله تعالى (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) . (الروض الأنف، ج 2، ص 254) .
[ (2) ] الزيادة عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 87) .
[ (3) ] فى الأصل: «عمرته» ، والتصحيح عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 87(2/731)
عَزّ وَجَلّ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [ (1) ] يَقُولُ: كَمَا صَدّوكُمْ عَنْ الْبَيْتِ فَاعْتَمَرُوا فِي قَابِلٍ. فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ حَاضِرِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْعَرَبِ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِنْ زَادٍ وَمَا لَنَا مَنْ يُطْعِمُنَا [ (2) ] . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْ يَتَصَدّقُوا، وَأَلّا يَكْفُوا أَيْدِيَهُمْ فَيَهْلِكُوا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، بِمَ نَتَصَدّقُ وَأَحَدُنَا لَا يَجِدُ شَيْئًا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَا كَانَ، وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِمِشْقَصٍ [ (3) ] يَحْمِلُ بِهِ أَحَدُكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ (4) ] . قَالَ: نَزَلَتْ فِي تَرْكِ النّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: مَتّعْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ بِمِشْقَصٍ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِك إلَى التّهْلُكَةِ.
حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَرْكِ النّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ مُوهِبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَاقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْقَضِيّةِ سِتّينَ بَدَنَةً.
حَدّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَنَارٍ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ عَلَى هَدْيِهِ، يَسِيرُ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ يَطْلُبُ الرّعْيَ فِي الشّجَرِ، مَعَهُ أربعة فتيان من أسلم.
__________
[ (1) ] سورة 2 البقرة 194.
[ (2) ] فى الأصل: «من أحد يطعمك» ، والتصحيح من الزرقانى، يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 304) .
[ (3) ] المشقص: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. (النهاية، ج 2، ص 230) .
[ (4) ] سورة 2 البقرة 195.(2/732)
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي رُهْمٍ، قَالَ: أَنَا كُنْت مِمّنْ يَسُوقُ الْهَدْيَ وَأَرْكَبُ عَلَى الْبُدْنِ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ:
كُنْت مِمّنْ صَاحَبَ الْبُدْنَ أَسُوقُهَا.
حَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَلّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ هُوَ بِنَفْسِهِ.
حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَاحَ وَالْبِيضَ وَالدّرُوعَ وَالرّمَاحَ، وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ قَدّمَ الْخَيْلَ أَمَامَهُ، وَهِيَ مِائَةُ فرس عليها محمّد ابن مَسْلَمَةَ. وَقَدّمَ السّلَاحَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، فَقِيلَ:
يَا رَسُولَ اللهِ! حَمَلْت السّلَاحَ وَقَدْ شَرَطُوا عَلَيْنَا أَلّا نَدْخُلَ عَلَيْهِمْ إلّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ، السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ الْحَرَمَ، وَلَكِنْ تَكُونُ قَرِيبًا مِنّا، فَإِنْ هَاجَنَا هَيْجٌ مِنْ الْقَوْمِ كَانَ السّلَاحُ قَرِيبًا مِنّا.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدّمَ الْبُدْنَ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَحْرَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ لِأَنّهُ سَلَكَ إلَى طَرِيقِ الْفُرْعِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَهَلّ مِنْ الْبَيْدَاءِ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَلَكْنَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ عَلَى الْفُرْعِ، وَقَدْ أَحْرَمَ أَصْحَابِي غَيْرِي، فَرَأَيْت حِمَارًا وَحْشِيّا فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَعَقَرْته، فَأَتَيْت أَصْحَابِي، فَمِنْهُمْ الْآكِلُ وَالتّارِكُ. فَسَأَلْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كل!(2/733)
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: ثُمّ حَجّ حَجّةَ الْوَدَاعِ. فَأَحْرَمَ مِنْ الْبَيْدَاءِ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ مِنْ الْمَسْجِدِ، لِأَنّ طَرِيقَهُ لَيْسَ عَلَى الْبَيْدَاءِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبّي، وَالْمُسْلِمُونَ يُلَبّونَ، وَمَضَى مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالْخَيْلِ إلَى مَرّ الظّهْرَانِ، فَيَجِدُ بِهَا نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ فَسَأَلُوا مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ:
هَذَا رَسُولُ اللهِ، يُصْبِحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ. فَرَأَوْا سِلَاحًا كَثِيرًا مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتّى أَتَوْا قُرَيْشًا فَأَخْبَرُوهُمْ بِاَلّذِي رَأَوْا مِنْ الْخَيْلِ وَالسّلَاحِ، فَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: وَاَللهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا، وَنَحْنُ عَلَى كِتَابِنَا وَمُدّتِنَا، فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ؟ وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ الظّهْرَانِ، وَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَاحَ إلَى بَطْنِ يَأْجَجَ حَيْثُ يَنْظُرُ إلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى لَقَوْهُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَالْهَدْيُ وَالسّلَاحُ، قَدْ تَلَاحَقُوا،
فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ! وَاَللهِ مَا عَرَفْت صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا بِالْغَدْرِ! تَدْخُلُ بِالسّلَاحِ الْحَرَمَ عَلَى قَوْمِك، وَقَدْ شَرَطْت أَلّا تَدْخُلَ إلّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ، السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَدْخُلُهَا إلّا كَذَلِك.
ثُمّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ فَقَالَ:
إنّ مُحَمّدًا لَا يَدْخُلُ بِسِلَاحٍ، وَهُوَ عَلَى الشّرْطِ الّذِي شَرَطَ لَكُمْ. فَلَمّا جَاءَ مِكْرَزٌ بِخَبَرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرِجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكّةَ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَخَلّوْا مَكّةَ، وَقَالُوا: وَلَا نَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَا إلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ حَتّى حُبِسَ بِذِي طُوًى. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمْ اللهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم(2/734)
عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَأَصْحَابُهُ مُحْدِقُونَ [ (1) ] بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَوَشّحُو السّيُوفِ يُلَبّونَ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، ثُمّ دَخَلَ مِنْ الثّنِيّةِ الّتِي تَطْلُعُهُ عَلَى الْحَجُونَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ.
فَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْطَعْ التّلْبِيَةَ حَتّى جَاءَ عُرُوشَ [ (2) ] مَكّةَ.
حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبّى حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ.
حَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: وَخَلّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَتَيْ رَجُلٍ عَلَى السّلَاحِ، عَلَيْهِمْ أَوْسُ بْنُ خَوْليّ.
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: شَهِدْت عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْت قَدْ شَهِدْت الْحُدَيْبِيَةَ، فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ- وَقَدْ صُفّ لَهُ الْمُسْلِمُونَ- حِين دَنَا مِنْ الرّكْنِ حَتّى انْتَهَى إلَيْهِ، فَاسْتَلَمَ الرّكن بمحجنه مضطبعا [ (3) ] بثوبه، على راحلته،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «محدقين» .
[ (2) ] أى بيوتها، وسميت عروشا لأنها كانت عيدانا تنصب ويظلل عليها، واحدها عرش. (النهاية، ج 3، ص 81) .
[ (3) ] الاضطباع: هو أن يأخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقى طرفيه على كتفه الأيسر. (النهاية، ج 3، ص 12) .(2/735)
وَالْمُسْلِمُونَ يَطُوفُونَ مَعَهُ قَدْ اضْطَبَعُوا بِثِيَابِهِمْ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ:
خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهْ ... إنّي شَهِدْت أَنّهُ رَسُولُهْ
حَقّا وَكُلّ الْخَيْرِ فِي سَبِيلِهْ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهْ
كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهْ ... ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهْ [ (1) ]
وَيُذْهِلُ [ (2) ] الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهْ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا عُمَرُ، إنّي أَسْمَعُ! فَأَسْكَتَ عُمَرُ.
فَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبّاسٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْعَجْلَانِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْجَبَلِ وَهُمْ يَرَوْنَكُمْ، امْشُوا مَا بَيْنَ الْيَمَانِيّ وَالْأَسْوَدِ. فَفَعَلُوا.
وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمّا كَانَ الطّوَافُ السّابِعُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَقَدْ وَقَفَ الْهَدْيُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلّ فِجَاجِ مَكّةَ مَنْحَرٌ!
فَنَحَرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَقَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَكَانَ قَدْ اعْتَمَرَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ فَلَمْ يَنْحَرُوا، فَأَمّا مَنْ كَانَ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَرَجَ فِي الْقَضِيّةِ فَإِنّهُمْ شُرِكُوا فِي الْهَدْيِ.
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى
__________
[ (1) ] الهام: جمع هامة وهو الرأس هنا. ومقيله: مستعار من موضع القائلة، ويريد الأعناق.
(شرح أبى ذر، ص 353) .
[ (2) ] يذهل: أى يشغل. (شرح أبى ذر، ص 353) .(2/736)
صَعْصَعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أُمّ عُمَارَةَ، قَالَتْ: لَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ إلّا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ، إلّا مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، فَخَرَجْت وَنِسْوَةٌ مَعِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمْ نُصَلّ إلَى الْبَيْتِ، فَقَصّرْنَ مِنْ أَشْعَارِهِنّ بِالْحُدَيْبِيَةِ ثُمّ اعْتَمَرْنَ [ (1) ] مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَضَاءً لِعُمْرَتِهِنّ، وَنَحَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ مِمّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَقُتِلَ بِخَيْبَرَ وَلَمْ يَشْهَدْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ: رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ مَسْرُوحٍ [ (2) ] ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ وَهْبٍ الأسدي، وأبو ضيّاح، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، وَعَدِيّ بْنُ مُرّةَ بْنِ سراقة، وأوس بن حبيب، وأنيف ابن وائلة، وَمَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ الزّرَفِيّ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَع.
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ فِي الْقَضِيّةِ أَنْ يَهْدُوا، فَمَنْ وَجَدَ بَدَنَةً مِنْ الْإِبِلِ نَحَرَهَا، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً رَخّصَ لَهُمْ فِي الْبَقَرَةِ، فَقَدِمَ فُلَانٌ بِبَقَرٍ اشْتَرَاهُ النّاسُ مِنْهُ.
حَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ حَلَقَ رَأْسَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، أَنّ الّذِي حَلَقَهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيّ.
حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عقيل، عن سعيد ابن الْمُسَيّبِ، قَالَ: لَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُسُكَهُ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتّى أَذّنَ بِلَالٌ بِالظّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أبى جهل: لقد أكرم الله
__________
[ (1) ] فى الأصل: «اعتمرت» .
[ (2) ] فى الأصل: «مشروح» ، وما أثبتناه عن كل مراجع السيرة الأخرى.(2/737)
أَبَا الْحَكَمِ حَيْثُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْعَبْدَ يَقُولُ مَا يَقُولُ! وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ:
لحمد لِلّهِ الّذِي أَذْهَبَ أَبِي قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا! وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ:
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمَاتَ أَبِي وَلَمْ يَشْهَدْ هَذَا الْيَوْمَ، حِينَ يَقُومُ بِلَالُ بْنُ أُمّ بِلَالٍ يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ! وَأَمّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَرِجَالٌ مَعَهُ، فَحِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ غَطّوا وُجُوهَهُمْ.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: لَمْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فِي الْقَضِيّةِ، قَدْ أَرْسَلَ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ فِي شَرْطِك. وَأَمَرَ بَلَالًا فَأَذّنَ فَوْقَ الْكَعْبَةِ يَوْمئِذٍ مَرّةً وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ، وَهُوَ الثّبْتُ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَزَوّجَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِم.
حَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ.
قَالَ: لَمّا حَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوّجَهَا.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: إنّ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَأُمّهَا سَلْمَى بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتْ بِمَكّةَ، فَلَمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كَلّمَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلَامَ نَتْرُكُ بِنْتَ عَمّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهْرَيْ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمْ يَنْهَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إخْرَاجِهَا، فَخَرَجَ بِهَا، فَتَكَلّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ وَصِيّ حَمْزَةَ، وَكَانَ النّبِيّ صلّى الله عليه(2/738)
وسلم آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَنَا أَحَقّ بِهَا، ابْنَةُ أَخِي! فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ جَعْفَرٌ قَالَ: الْخَالَةُ وَالِدَةٌ، وَأَنَا أَحَقّ بِهَا لِمَكَانِ خَالَتِهَا عِنْدِي، أَسَمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَلَا أَرَاكُمْ فِي ابْنَةِ عَمّي [ (1) ] ، وَأَنَا أَخَرَجْتهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَيْهَا نَسَبٌ دُونِي، وَأَنَا أَحَقّ بِهَا مِنْكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ! أَمّا أَنْتَ يَا زَيْدُ فَمَوْلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمّا أَنْتَ يَا عَلِيّ فَأَخِي وَصَاحِبِي، وَأَمّا أَنْتَ يَا جَعْفَرُ فَتُشْبِهُ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَحَقّ بِهَا! تَحْتَك خَالَتُهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى عَمّتِهَا. فَقَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ:
فَلَمّا قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ قَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ حَوْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هَذَا يَا جَعْفَرُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ النّجَاشِيّ إذَا أَرْضَى أَحَدًا قَامَ فَحَجَلَ حَوْلَهُ. فَقِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوّجْهَا! فَقَالَ: ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرّضَاعَةِ! فَزَوّجَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ. فَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
هَلْ جَزَيْت [ (2) ] سَلَمَةَ؟
حَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ: فَلَمّا كَانَ عِنْدَ الظّهْرِ يَوْمَ الرّابِعِ، أَتَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وُحَوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ يَتَحَدّثُ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- فَقَالَ:
قَدْ انْقَضَى أَجَلُك، فَاخْرَجْ عَنّا! فَقَالَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ [ (3) ] ، فَصَنَعْت لَكُمْ طعاما؟ فقالا: لا حاجة
__________
[ (1) ] يريد ألا أراكم تختلفون فى أمر ابنة عمى.
[ (2) ] وذلك أنه هو الذي كان قد زوج أمه، أم سلمة، النبي صلى الله عليه وسلم.
[ (3) ] يريد إعراسه بزواج ميمونة.(2/739)
لَنَا فِي طَعَامِك، اخْرَجْ عَنّا! نَنْشُدُك اللهَ يَا مُحَمّدُ وَالْعَهْدُ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَك إلّا خَرَجْت مِنْ أَرْضِنَا، فَهَذِهِ الثّلَاثُ قَدْ مَضَتْ! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْزِلْ بَيْتًا، وَضُرِبَتْ لَهُ قُبّةٌ مِنْ الْأَدَمِ بِالْأَبْطَحِ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا، لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ سَقْفِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا. فغضب سعد ابن عُبَادَةَ لَمَا رَأَى مِنْ غِلْظَةِ كَلَامِهِمْ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِسُهَيْلٍ: كَذَبْت لَا أُمّ لَك، لَيْسَتْ بِأَرْضِك وَلَا أَرْضِ أَبِيك! وَاَللهِ لَا يَبْرَحُ مِنْهَا إلّا طَائِعًا رَاضِيًا. فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: يَا سَعْدُ، لَا تُؤْذِ قَوْمًا زَارُونَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: وَأَسْكَتّ الرّجُلَانِ عَنْ سَعْدٍ. قَالَ: ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ بِالرّحِيلِ، وَقَالَ: لَا يُمْسِيَنّ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى نَزَلَ سَرِفَ، وَتَتَامّ النّاسُ، وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ [ (1) ] حِينَ يُمْسِي، وَأَقَامَ أَبُو رَافِعٍ حَتّى أَمْسَى، فَخَرَجَ بِمَيْمُونَةَ وَمَنْ مَعَهَا، فَلَقَوْا عَنَاءً [ (2) ] مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ، آذَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ [ (3) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ لَهَا أَبُو رَافِعٍ- وَانْتَظَرَ أَنْ يَبْطِشَ [ (4) ] أَحَدٌ [ (5) ] مِنْهُمْ فَيَسْتَخْلِي بِهِ [ (6) ] ، فَلَمْ يَفْعَلُوا- أَلَا إنّي قَدْ قُلْت لَهُمْ:
«مَا شِئْتُمْ! هَذِهِ وَاَللهِ الْخَيْلُ وَالسّلَاحُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ!» وَإِذَا الْخَيْلُ قَدْ قَرُبَتْ فَوَقَفَتْ لَنَا هُنَالِكَ وَالسّلَاحُ، وَقَدْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ أَنْ يذهبوا إلَى أَصْحَابِهِمْ بِبَطْنِ يَأْجَجَ فَيُقِيمُوا عَلَى السّلَاحِ، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا، فلما
__________
[ (1) ] أى ميمونة.
[ (2) ] فى الأصل: «عينا» ، والتصحيح من الزرقانى يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 314) .
[ (3) ] فى الأصل: «أدنى ألسنتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم» . وما أثبتناه يقتضيه السياق.
[ (4) ] البطش: الأخذ القوى الشديد. (النهاية، ج 1، ص 83) .
[ (5) ] فى الأصل: «أحدا» .
[ (6) ] فى الأصل: «منه» .(2/740)
انْتَهَيْنَا إلَى بَطْنِ يَأْجَجَ سَارُوا مَعَنَا، فَلَمْ نَأْتِ سَرِفَ حَتّى ذَهَبَ عَامّةُ اللّيْلِ، ثُمّ أَتَيْنَا سَرِفَ، فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ أَدْلَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
سَرِيّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السّلَمِيّ فِي ذِي الْحَجّةِ سَنَةَ سَبْعٍ
حَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ- رَجَعَ فِي ذِي الْحَجّةِ سَنَةَ سَبْعٍ- بَعَثَ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ السّلَمِيّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، فَخَرَجَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ. وَكَانَ عَيْنٌ لِبَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُ، فَلَمّا فَصَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ خَرَجَ الْعَيْنُ إلَى قَوْمِهِ فَحَذّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ، فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا. وَجَاءَهُمْ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَالْقَوْمُ مُعَدّونَ لَهُ، فَلَمّا رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ، وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إلَى مَا دَعَوْتُمْ إلَيْهِ. فَرَامُوهُمْ سَاعَةً، وَجَعَلَتْ الْأَمْدَادُ تَأْتِي حَتّى أُحْدِقُوا بِهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى قُتِلَ عَامّتُهُمْ، وَأُصِيبَ صَاحِبُهُمْ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا مَعَ الْقَتْلَى، ثُمّ تَحَامَلَ حَتّى بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
حَدّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
كُنْت لِلْإِسْلَامِ مُجَانِبًا معاندا، فحضرت بدرا مع الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْت، ثُمّ حَضَرْت أُحُدًا فَنَجَوْت، ثُمّ حضرت الخندق [ (1) ] فقلت فى نفسي: كم
__________
[ (1) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «ثم حضرت الخندق ونجوت» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 236) .(2/741)
أُوضِعُ [ (1) ] ؟ وَاَللهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ! فَخَلّفْت [ (2) ] مَالِي بِالرّهْطِ وَأَفْلَتْ- يَعْنِي مِنْ النّاسِ- فَلَمْ أحضر الحديبية وَلَا صُلْحَهَا، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّلْحِ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَكّةَ، فَجَعَلْت أَقُولُ: يَدْخُلُ مُحَمّدٌ قَابِلًا مَكّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكّةُ بِمَنْزِلٍ وَلَا الطّائِفُ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ. وَأَنَا بَعْدُ نَاتٍ [ (3) ] عَنْ الْإِسْلَامِ، أَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلّهَا لَمْ أُسْلِمْ. فَقَدِمْت مَكّةَ فَجَمَعْت رِجَالًا مِنْ قَوْمِي كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي وَيَسْمَعُونَ مِنّي وَيُقَدّمُونَنِي فِيمَا نَابَهُمْ، فَقُلْت لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا [ (4) ] ، مَعَ يُمْنِ نَفْسٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ [ (5) ] . قَالَ، [قُلْت] : تَعْلَمُونَ وَاَللهِ أَنّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوّا مُنْكَرًا، وَإِنّي قَدْ رَأَيْت رَأْيًا.
قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: نَلْحَقُ بِالنّجَاشِيّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ مُحَمّدٌ كُنّا عِنْدَ النّجَاشِيّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ النّجَاشِيّ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ مُحَمّدٍ، وَإِنْ تَظْهَرُ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا. قَالُوا: هَذَا الرّأْيُ! قَالَ: فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَهُ لَهُ. وَكَانَ أَحَبّ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ.
قَالَ: فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمّ خَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا على النّجاشىّ، فو الله إنّا لَعِنْدَهُ إذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ إلَيْهِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيْهِ يُزَوّجُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ
__________
[ (1) ] أوضع البعير راكبه: إذا حمله على سرعة السير. (النهاية، ج 4، ص 216) .
[ (2) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 236) .
[ (3) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «فأنا نائى» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 236) .
[ (4) ] المدره: السيد الشريف، والمقدم فى اللسان واليد عند الخصومة والقتال. (القاموس المحيط، ج 4، ص 283) .
[ (5) ] فى الأصل: «مع يمن بفيته وبركة» . وفى ابن كثير عن الواقدي: «فى يمن نفسه وبركة أمر» .
(البداية والنهاية، ج 4، ص 236) .(2/742)
عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْت لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ، وَلَوْ قَدْ دَخَلْت عَلَى النّجَاشِيّ وَسَأَلْته إيّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْت عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ سُرّتْ قُرَيْشٌ وَكُنْت قَدْ أَجْزَأَتْ [ (1) ] عَنْهَا حِينَ قَتَلْت رَسُولَ مُحَمّدٍ. قَالَ:
فَدَخَلْت عَلَى النّجَاشِيّ فَسَجَدْت لَهُ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي! أَهْدَيْت لِي مِنْ بِلَادِك شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْت: نَعَمْ أَيّهَا الْمَلِكُ، أَهْدَيْت لَك أَدَمًا كَثِيرًا. ثُمّ قَرّبْته إلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ، وَفَرّقَ مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ بِطَارِقَتِهِ، وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ وَيَحْتَفِظُ بِهِ. فَلَمّا رَأَيْت طِيبَ نَفْسِهِ قُلْت: أَيّهَا الْمَلِكُ، إنّي قَدْ رَأَيْت رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدَك وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوّ لَنَا، قَدْ وَتَرَنَا وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا فَأُعْطِنِيهِ فَأَقْتُلْهُ! فَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْت أَنّهُ كَسَرَهُ، وَابْتَدَرَ مِنْخَارِي، فَجَعَلْت أَتَلْقَى الدّمَ بِثِيَابِي، وَأَصَابَنِي مِنْ الذّلّ مَا لَوْ انْشَقّتْ بِي الْأَرْضُ دَخَلْت فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ.
ثُمّ قُلْت لَهُ: أَيّهَا الْمَلِكُ، لَوْ ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْت مَا سَأَلْتُك. قَالَ:
وَاسْتَحْيِي وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَك رَسُولَ رَسُولِ اللهِ- مَنْ يَأْتِيهِ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَاَلّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى بن مَرْيَمَ- لِتَقْتُلَهُ؟
قَالَ عَمْرٌو: وَغَيّرَ اللهُ قَلْبِي عَمّا كُنْت عَلَيْهِ، وَقُلْت فِي نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ؟ قُلْت: أَتَشْهَدُ أَيّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللهِ يَا عَمْرُو فَأَطِعْنِي وَاتّبَعَهُ، وَاَللهِ إنّهُ لَعَلَى الْحَقّ، وَلَيَظْهَرَنّ عَلَى كُلّ [ (2) ] دِينٍ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قُلْت:
أَفَتُبَايِعُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فبسط يده فبايعته على الإسلام،
__________
[ (1) ] أجزأت عنها: أى كفيتها. (شرح أبى ذر، ص 327) .
[ (2) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «على من خالفه» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 237) .(2/743)
وَدَعَا لِي بِطَسْتٍ فَغَسَلَ عَنّي الدّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدْ امْتَلَأَتْ مِنْ الدّمِ فَأَلْقَيْتهَا، ثُمّ خَرَجْت إلَى أَصْحَابِي فَلَمّا رَأَوْا كِسْوَةَ الْمَلِكِ سُرّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْت مَنْ صَاحِبُك مَا أَرَدْت؟ فَقُلْت لَهُمْ: كَرِهْت أَنْ أُكَلّمَهُ فِي أَوّلِ مَرّةٍ وَقُلْت أَعُودُ إلَيْهِ. قَالُوا: الرّأْيُ مَا رَأَيْت! وَفَارَقْتهمْ كَأَنّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ فَعَمِدْت إلَى مَوْضِعِ السّفُنِ، فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ بِرُقَعٍ [ (1) ] ، فَرَكِبْت مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا حَتّى انْتَهَوْا إلَى الشّعَيْبَةِ [ (2) ] ، وَخَرَجْت مِنْ الشّعَيْبَةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ، فَابْتَعْت بَعِيرًا وَخَرَجْت أُرِيدُ الْمَدِينَةَ حَتّى خَرَجْت عَلَى مَرّ الظّهْرَانِ، ثُمّ مَضَيْت حَتّى كُنْت بِالْهَدّةِ، إذَا رَجُلَانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلًا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي خَيْمَةٍ، وَالْآخَرُ قَائِمٌ يُمْسِكُ الرّاحِلَتَيْنِ، فَنَظَرْت وَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقُلْت: أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت:
أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: مُحَمّدًا، دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَمَعٌ [ (3) ] ، وَاَللهِ لَوْ أَقَمْنَا لَأَخَذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرِقْبَةِ الضّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا.
قُلْت: وَأَنَا وَاَللهِ قَدْ أَرَدْت مُحَمّدًا وَأَرَدْت الْإِسْلَامَ. وَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحّبَ بِي فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِي الْمَنْزِلِ، ثُمّ تَرَافَقْنَا [ (4) ] حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ! يَا رَبَاحُ! فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسِرْنَا، ثُمّ نَظَرَ إلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكّةُ الْمَقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ! فَظَنَنْت أَنّهُ يَعْنِينِي وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمّ وَلّى مدبرا إلى المسجد سريعا
__________
[ (1) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «قد شحنت تدفع» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 237) .
ورقع: جمع رقعة، كهمزة: شجرة عظيمة. (القاموس المحيط، ج 3، ص 31) .
[ (2) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «الشعبة» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 237) . والشعيبة: على شاطئ البحر بطريق اليمن. (معجم ما استعجم، ص 184) .
[ (3) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «طعم» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 237) .
[ (4) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «ثم اتفقنا» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 238) .(2/744)
فَظَنَنْت أَنّهُ يُبَشّرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا ظَنَنْت.
وَأَنَخْنَا بِالْحَرّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، وَنُودِيَ بِالْعَصْرِ فَانْطَلَقْنَا جَمِيعًا حَتّى طَلَعْنَا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنّ لِوَجْهِهِ تَهَلّلًا، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرّوا بِإِسْلَامِنَا. فَتَقَدّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ، ثُمّ تَقَدّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَبَايَعَ، ثُمّ تقدّمت، فو الله مَا هُوَ إلّا أَنْ جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِي إلَيْهِ حِيَاءً مِنْهُ، فَبَايَعْته عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخّرَ. فَقَالَ: إنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، والهجرة تجبّ ما كان قبلها. [قال] : فو الله مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرٍ حَزَبَهُ [ (1) ] مُنْذُ أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَلَقَدْ كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ فَقَالَ:
أَخْبَرَنِي رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الثّقَفِيّ، عَنْ عَمْرٍو، نَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: فَقُلْت لِيَزِيدَ: فَلَمْ يُوَقّت لَك مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ؟ قَالَ: لَا، إلّا أَنّهُ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، قُلْت: وَإِنّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنّ عَمْرًا، وَخَالِدًا، وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، قَدِمُوا الْمَدِينَةَ لِهِلَالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أبى حية، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ، فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الحارث بن هشام قال، سمعت أبى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «جربه» ، والتصحيح عن ابن كثير من الواقدي. (البداية والنهاية، ج 4، ص 238) .(2/745)
يُحَدّثُ يَقُولُ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: لَمّا أَرَادَ اللهُ بِي مِنْ الْخَيْرِ مَا أَرَادَ قَذَفَ فِي قَلْبِي حُبّ الْإِسْلَامِ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، وَقُلْت: قَدْ شَهِدْت هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلّهَا عَلَى مُحَمّدٍ، فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إلّا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي نَفْسِي أَنّي مُوضَعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَأَنّ مُحَمّدًا سَيَظْهَرُ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ خَرَجْت فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بعسفان، فقمت بإزاءه وَتَعَرّضْت لَهُ، فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الظّهْرَ آمِنًا مِنّا، فَهَمَمْنَا [ (1) ] أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ، ثُمّ لَمْ يَعْزِمْ لَنَا- وَكَانَتْ فِيهِ خِيرَةٌ- فَاطّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنْ الْهُمُومِ فَصَلّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنّي مَوْقِعًا وَقُلْت: الرّجُلُ [ (2) ] مَمْنُوعٌ! وَافْتَرَقْنَا [ (3) ] وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ [ (4) ] خَيْلِنَا وَأَخَذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، فَلَمّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَدَافَعَتْهُ قُرَيْشٌ بِالرّوَاحِ [ (5) ] قُلْت فِي نَفْسِي:
أَيّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ إلَى النّجَاشِيّ؟ فَقَدْ اتّبَعَ مُحَمّدًا، وَأَصْحَابُهُ آمِنُونَ عِنْدَهُ، فَأَخْرُجُ إلَى هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إلَى نَصْرَانِيّةٍ أَوْ يَهُودِيّةٍ، فَأُقِيمُ مَعَ عَجَمٍ تَابِعًا، أَوْ أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ؟ فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، فَتَغَيّبْت فَلَمْ أشهد دخوله،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فهمينا» .
[ (2) ] فى الأصل: «الرجوع ممنوع» ، وما أثبتناه من ابن كثير عن الواقدي. (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) .
[ (3) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «فاعتزلنا» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) .
[ (4) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «عن سير خيلنا» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) .
وعن سنن الخيل: أى عن وجهه. (الصحاح، ص 2139) .
[ (5) ] فى الأصل: «بالراح» ، وما أثبتناه من ابن كثير عن الواقدي. (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) . والرواح: نقيض الصباح، وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل. (الصحاح ص 367) .(2/746)
وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي فَكَتَبَ إلَيّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، أَمّا بَعْدُ: فَإِنّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِك عَنْ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلُك عَقْلُك! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟ وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْك فَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْت: يَأْتِي اللهُ بِهِ. فَقَالَ: مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ!
وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا فَاتَك، فَقَدْ فَاتَتْك مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.
قَالَ: فَلَمّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشِطْت لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَسَرّنِي مَقَالَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ خَالِدٌ: وَأَرَى فِي النّوْمِ كَأَنّي فِي بِلَادٍ ضَيّقَةٍ جَدِيبَةٍ، فَخَرَجْت إلَى بَلَدٍ أَخَضَرَ وَاسِعٍ، فَقُلْت إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا. فَلَمّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ قُلْت: لَأَذْكُرَنّهَا لِأَبِي بَكْرٍ. قَالَ: فَذَكَرْتهَا فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُك الّذِي هَدَاك اللهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضّيقِ الّذِي كُنْت فِيهِ مِنْ الشّرْكِ. فَلَمّا أَجَمَعْت الْخُرُوجَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت:
مَنْ أُصَاحِبُ إلَى رَسُولِ اللهِ؟ فَلَقِيت صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَقُلْت: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمّا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ إنّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ [ (1) ] ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمّدٍ فَاتّبَعْنَاهُ فَإِنّ شَرَفَ مُحَمّدٍ لَنَا شَرَفٌ.
فَأَبَى أَشَدّ الْإِبَاءِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مِنْ قُرَيْشٍ مَا اتّبَعْته أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا وَقُلْت: هَذَا رَجُلٌ مَوْتُورٌ يَطْلُبُ وِتْرًا، قَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيت عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فَقُلْت لَهُ مِثْلَ الّذِي قُلْت لِصَفْوَانَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا
__________
[ (1) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «إنما نحن كأضراس» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) . وقولهم هم أكلة رأس، أى هم قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل. (الصحاح، ص 1624) .(2/747)
قَالَ صَفْوَانُ، قُلْت: فَاطْوِ مَا ذَكَرْت لَك. قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ وَخَرَجْت إلَى مَنْزِلِي فَأَمَرْت بِرَاحِلَتِي تُخْرَجُ إلَيّ، فَخَرَجْت بِهَا إلَى أَنْ أَلْقَى عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَقُلْت: إنّ هَذَا لِي لَصَدِيقٌ وَلَوْ ذَكَرْت لَهُ مَا أُرِيدُ! ثُمّ ذَكَرْت مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ فَكَرِهْت أُذَكّرُهُ، ثُمّ قُلْت: وَمَا عَلَيّ وَأَنَا رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِي. فَذَكَرْت لَهُ مَا صَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَقُلْت: إنّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ، لَوْ صُبّ عَلَيْهِ ذَنُوبٌ [ (1) ] مِنْ مَاءٍ لَخَرَجَ. قَالَ: وَقُلْت لَهُ نَحْوًا مِمّا قُلْت لِصَاحِبَيْهِ، فَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ وَقَالَ: لَقَدْ غَدَوْت الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ، وَهَذِهِ رَاحِلَتِي بِفَخّ [ (2) ] مُنَاخَةٌ. قَالَ: فَاتّعَدْت أَنَا وَهُوَ بِيَأْجَجَ، إنْ سَبَقَنِي أَقَامَ وَإِنْ سَبَقْته أَقَمْت عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْلَجْنَا سَحَرًا فَلَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ حَتّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى الْهَدّةِ، فَنَجِد عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا فَقَالَ:
مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ! فَقُلْنَا: وَبِك! قَالَ: أَيْنَ مَسِيرُكُمْ؟ قُلْنَا مَا أَخَرَجَك؟
قَالَ: فَمَا الّذِي أَخَرَجَكُمْ؟ قُلْنَا: الدّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتّبَاعُ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَذَلِكَ الّذِي أَقْدَمَنِي.
قَالَ: فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَأَنَخْنَا بِظَاهِرِ [ (3) ] الْحَرّةِ رِكَابَنَا، فَأَخْبَرَ بِنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرّ بِنَا، فَلَبِسْت مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمّ عَمِدْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَنِي أَخِي فَقَالَ: اسْرَعْ فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْبِرَ بِك فَسُرّ بِقُدُومِك وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْت الْمَشْيَ فَطَلَعْت عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسّمُ إلَيّ حَتّى وَقَفْت عَلَيْهِ، فَسَلّمْت عَلَيْهِ بِالنّبُوّةِ
__________
[ (1) ] الذنوب: الدلو العظيمة. (النهاية، ج 2، ص 51) .
[ (2) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «بفج» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) . وفخ: واد بمكة.
(معجم البلدان، ج 6، ص 341) .
[ (3) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «بظهر الحرة» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 239) .(2/748)
فَرَدّ عَلَيّ السّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْت: إنّي أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاك! قَدْ كُنْت أَرَى لَك عَقْلًا رَجَوْت أَلّا يُسَلّمَك إلّا إلَى الْخَيْرِ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَأَيْت مَا كُنْت أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْك مُعَانِدًا عَنْ الْحَقّ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: الإسلام يحبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِخَالِدٍ كُلّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدّ عَنْ سَبِيلِك. قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدّمَ عَمْرٌو، وَعُثْمَانُ، فَبَايَعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قُدُومُنَا فى صفر سنة ثمان، فو الله مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْت يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَزَبَهُ [ (1) ] .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَأَلْت عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ زهير الكعبىّ: منى كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خُزَاعَةَ كِتَابَهُ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنّهُ كَتَبَ لَهُمْ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَذَلِكَ أَنّهُ أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بَعْدَ مُقِيمٍ عَلَى شِرْكِهِ، وَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَبْقَ مِنْ خُزَاعَةَ أَحَدٌ إلّا مُسْلِمٌ مُصَدّقٌ بِمُحَمّدٍ، قَدْ أَتَوْا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ فِيمَنْ حَوْلَهُ قَلِيلٌ، حَتّى قَدِمَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَابْنَا هَوْذَةَ وَهَاجَرُوا، فَذَلِكَ حَيْثُ كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خُزَاعَةَ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى بُدَيْلٍ، وَبِشْرٍ [ (2) ] ، وَسَرَوَاتِ بَنِي عَمْرٍو، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنّي أَحْمَدُ اللهَ إلَيْكُمْ، الله لَا إلَهَ إلّا هُوَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي لم آثم بإلّكم، ولم أضع فى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «خرته» .
[ (2) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن سعد: «بسر» . (الطبقات، ج 1، ص 25) .(2/749)
جنبكم، وإنّ أكرم تهامة علىّ أسم، وَأَقْرَبُهُمْ [ (1) ] رَحَمًا أَنْتُمْ وَمَنْ تَبِعَكُمْ مِنْ الْمُطّيّبِينَ. فَإِنّي قَدْ أَخَذْت لِمَنْ قَدْ هَاجَرَ مِنْكُمْ مِثْلَ مَا أَخَذْت لِنَفْسِي- وَلَوْ هَاجَرَ بِأَرْضِهِ- غَيْرُ سَاكِنٍ مَكّةَ إلّا مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجّا، وَإِنّي لَمْ أَضَعْ فِيكُمْ إذْ سَالَمْت [ (2) ] ، وَإِنّكُمْ غَيْرُ خَائِفِينَ مِنْ قِبَلِي وَلَا مَحْصُورِينَ. أَمّا بَعْدُ:
فَإِنّهُ قَدْ أَسْلَمَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَابْنَاهُ، وَتَابَعَا وَهَاجَرَا عَلَى مَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ عِكْرِمَةَ، أَخَذْت لِمَنْ تَبِعَنِي مِنْكُمْ مَا آخُذُ لِنَفْسِي، وَإِنّ بَعْضَنَا مِنْ بَعْضٍ أَبَدًا فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ، وَإِنّنِي وَاَللهِ مَا كَذَبْتُكُمْ وَلْيُحِبّكُمْ رَبّكُمْ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ مِثْلَ ذَلِكَ.
سَرِيّةُ أَمِيرِهَا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِالْكَدِيدِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ الله الجهنىّ، عن جندب ابن مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ اللّيْثِيّ أَحَدَ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفٍ، فِي سَرِيّةٍ كُنْت فِيهِمْ [ (3) ] ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُلَوّحِ بِالْكَدِيدِ، وَهُمْ مِنْ بَنِي لَيْثٍ. فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِقُدَيْدٍ لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وأقربه» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 1، ص 25) .
[ (2) ] فى الأصل: «إذ أسلمت» . وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 1، ص 25) .
[ (3) ] هكذا فى الأصل، وفى الزرقانى أيضا. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 316) . وفى ابن سعد: «كتب فيهم» . (الطبقات، ج 2، ص 89) .(2/750)
إنّمَا جِئْت أُرِيدُ الْإِسْلَامَ. فَقُلْنَا: لَا يَضُرّك رِبَاطُ لَيْلَةٍ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِسْلَامَ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ نَسْتَوْثِقُ مِنْك. فَشَدَدْنَاهُ وَثَاقًا، وَخَلّفْنَا عَلَيْهِ رَجُلًا مِنّا يُقَالُ لَهُ سُوَيْدُ بْنُ صَخْرٍ، وَقُلْنَا: إنْ نَازَعَك فَاحْتَزْ رَأْسَهُ.
ثُمّ سِرْنَا حَتّى أَتَيْنَا الْكَدِيدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشمس، فكمنّا ناحية الوادي، فبعثني أصحابى رَبِيئَةٍ [ (1) ] لَهُمْ، فَخَرَجْت فَأَتَيْت تَلّا مُشْرِفًا عَلَى الْحَاضِرِ [ (2) ] يُطْلِعُنِي عَلَيْهِمْ، حَتّى إذَا أَسْنَدْت فِيهِ وعلوت على رأسه انبطحت، فو الله إنّي لَأَنْظُرُ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ خِبَاءٍ لَهُ فَقَالَ [لِامْرَأَتِهِ] : وَاَللهِ إنّي لَأَرَى عَلَى هَذَا التّلّ سَوَادًا مَا رَأَيْته عَلَيْهِ صَدْرَ يَوْمِي هَذَا، فَانْظُرِي إلَى أَوْعِيَتِك لَا تَكُونُ الْكِلَابُ أَخَذْت مِنْهَا شَيْئًا. فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاَللهِ مَا أَفْقِدُ مِنْ أَوْعِيَتِي شَيْئًا. فَقَالَ: نَاوِلِينِي قَوْسِي وَنَبْلِي! فَنَاوَلَتْهُ قَوْسَهُ وَسَهْمَيْنِ مَعَهَا، فأرسل سهما، فو الله مَا أَخْطَأَ بِهِ جَنْبِي، فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِي. ثُمّ رَمَانِي الْآخَرَ فَخَالَطَنِي بِهِ أَيْضًا، فَأَخَذْته فَوَضَعْته وَثَبَتَ مَكَانِي.
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللهِ لَوْ كَانَ زَائِلَةً [ (3) ] لَتَحَرّكَ بَعْدُ، لَقَدْ خَالَطَهُ سهماي، لا أبا لك! إذا أصبحت فاتبعيهما، لَا تَمْضُغُهُمَا الْكِلَابُ. ثُمّ دَخَلَ خِبَاءَهُ وَرَاحَتْ مَاشِيَةُ الْحَيّ مِنْ إبِلِهِمْ وَأَغْنَامِهِمْ، فَحَلَبُوا وَعَطَنُوا [ (4) ] ، فلمّا اطمأنّوا وهدأوا شَنَنّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذّرّيّةَ، وَاسْتَقْنَا النّعَمَ وَالشّاءَ فَخَرَجْنَا نَحْدُرُهَا قِبَلَ الْمَدِينَةِ حتى مررنا بابن [ (5) ] البرصاء
__________
[ (1) ] الربيئة: الطليعة. (الصحاح، ص 52) .
[ (2) ] الحاضر: القوم المقيمون بمحلهم. (السيرة الحلبية، ج 2، ص 312) .
[ (3) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن سعد: «ربيئة» . (الطبقات، ج 2، ص 90) . والزائلة: كل شيء من الحيوان يزول عن مكانه ولا يستقر. (النهاية، ج 2، ص 135) .
[ (4) ] عطنت الإبل إذا سقيت وبركت عند الحياض لتعاد إلى الشرب مرة أخرى. (النهاية، ج 3، ص 107) .
[ (5) ] فى الأصل: «بابن» .(2/751)
فَاحْتَمَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا. وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ فِي قَوْمِهِمْ فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، وَنَظَرُوا إلَيْنَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الْوَادِي وَهُمْ مُوَجّهُونَ إلَيْنَا، فَجَاءَ اللهُ الْوَادِيَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ بِمَاءٍ مَلَأَ جَنْبَيْهِ، وَاَيْمُ اللهِ مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ سَحَابًا وَلَا مَطَرًا، فَجَاءَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَجُوزُهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتهمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إلَيْنَا وَقَدْ أَسْنَدْنَا فِي الْمُشَلّلِ [ (1) ] وَفُتْنَاهُمْ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى طَلَبِنَا، فَمَا أَنْسَى رَجَزَ أَمِيرِنَا غَالِبٍ:
أَبَى أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ تَعَزّ بِي [ (2) ] ... وَذَاكَ قَوْلُ صَادِقٍ لَمْ يَكْذِبْ
فِي خَضِلٍ [ (3) ] نَبَاتُهُ مُغْلَوْلِبِ [ (4) ] ... صُفْرٍ أَعَالِيهِ كَلَوْنِ الْمُذْهَبِ
ثُمّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَرَ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت مَعَهُمْ وَكُنّا بَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، شِعَارُنَا: أَمِتْ! أَمِتْ!
سَرِيّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتّى انْتَهَوْا إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَوَجَدُوا جَمْعًا من جمعهم
__________
[ (1) ] المشلل: ثنية مشرفة على قديد. (معجم ما استعجم، ص 560) .
[ (2) ] تعزبى: معناه تقيمي، يقال تعزبت الإبل فى المرعى إذا أقامت فيه. (شرح أبى ذر، ص 450) .
[ (3) ] الخضل: النبات الأخضر المبتل. (شرح أبى ذر، ص 450) .
[ (4) ] المغلولب: الكثير الذي يغلب على الماشية حين ترعاه. (شرح أبى ذر، ص 451) .(2/752)
كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَشَقُوهُمْ بِالنّبْلِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوهُمْ أَشَدّ الْقِتَالِ حَتّى قَتَلُوا، فَأَفْلَتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي الْقَتْلَى، فَلَمّا بَرَدَ عَلَيْهِ اللّيْلُ تَحَامَلَ حَتّى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ بِالْبَعْثِ إلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنّهُمْ قَدْ سَارُوا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكَهُمْ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: كَانَ كَعْبٌ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ حَتّى دَنَا مِنْهُمْ، فَرَآهُ عَيْنٌ لَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِقِلّةِ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءُوا عَلَى الْخُيُولِ فَقَتَلُوهُمْ.
سَرِيّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ إلَى السّيّ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ رُكْبَةَ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَسَرِيّةُ إلَى خَثْعَمَ بِتَبَالَةَ
[ (1) ] حَدّثَنِي الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا إلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ بِالسّيّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ، فَكَانَ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ حَتّى صَبّحَهُمْ وَهُمْ غَارّونَ، وَقَدْ أَوْعَزَ إلَى أَصْحَابِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا يُمْعِنُوا فِي الطّلَبِ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءَ، فَاسْتَاقُوا ذَلِكَ كُلّهُ حَتّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ [وَاقْتَسَمُوا الْغَنِيمَةَ] [ (2) ] ، وَكَانَتْ سِهَامَهُمْ خمسة عشر بعيرا،
__________
[ (1) ] تبالة: موضع بقرب الطائف، وهي لبنى مازن. (معجم ما استعجم، ص 191) .
[ (2) ] الزيادة من ابن سعد، عن الواقدي. (الطبقات، ج 2، ص 92) .(2/753)
كُلّ رَجُلٍ، وَعَدَلُوا الْبَعِيرَ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ، وَغَابَتْ السّرِيّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ فَقَالَ: كَانُوا قَدْ أَصَابُوا فِي الْحَاضِرِ نِسْوَةً فَاسْتَاقُوهُنّ، وَكَانَتْ فِيهِنّ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ فَقَدِمُوا بِهَا الْمَدِينَةَ. ثُمّ قَدِمَ وَفْدُهُمْ مُسْلِمِينَ، فَلَمّا قَدِمُوا كَلّمُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السّبْيِ، فَكَلَمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعًا وَأَصْحَابَهُ فِي رَدّهِنّ، فَسَلّمُوهُنّ وَرَدّوهُنّ إلَى أَصْحَابِهِنّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَأَخْبَرْت شَيْخًا مِنْ الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَمّا الْجَارِيَةُ الْوَضِيئَةُ فَكَانَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ قَدْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ بِثَمَنٍ فَأَصَابَهَا، فَلَمّا قَدِمَ الْوَفْدُ خَيّرَهَا، فَاخْتَارَتْ الْمَقَامَ عِنْدَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فَلَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَهِيَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ. فَقُلْت لَابْنِ أَبِي سَبْرَةَ:
مَا سَمِعْت أَحَدًا قَطّ يَذْكُرُ هَذِهِ السّرِيّةَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: لَيْسَ كُلّ الْعِلْمِ سَمِعْته. قَالَ: أَجَلْ وَاَللهِ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: لَقَدْ حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَرِيّةً أُخْرَى، قَالَ إسْحَاقُ: حَدّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا إلَى حَيّ مِنْ خَثْعَمَ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسِيرَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ النّهَارَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغَذّ السّيْرَ. فَخَرَجُوا عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةً يَعْتَقِبُونَهَا، قَدْ غَيّبُوا السّلَاحَ، فَأَخَذُوا عَلَى الْفَتْقِ [ (1) ] حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَطْنِ مَسْحَبٍ [ (2) ] ، فَأَخَذُوا رَجُلًا فَسَأَلُوهُ
__________
[ (1) ] الفتق: من مخاليف الطائف. (معجم البلدان، ج 6، ص 338) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل. ولعله يريد «مسحاة» وهي من مخاليف الطائف. (معجم البلدان، ج 8، ص 51) .(2/754)
فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْحَاضِرِ، فَقَدّمَهُ قُطْبَةُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ثُمّ أَقَامُوا حَتّى كَانَ سَاعَةٌ مِنْ اللّيْلِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ طَلِيعَةً فَيَجِدُ حَاضِرَ نَعَمٍ، فِيهِ النّعَمُ وَالشّاءُ، فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ يَدِبّونَ دَبِيبًا يَخَافُونَ الْحَرَسَ، حَتّى انْتَهَوْا إلَى الْحَاضِرِ وَقَدْ نَامُوا وهدأوا، فَكَبّرُوا وَشَنّوا الْغَارَةَ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رِجَالُ الْحَاضِرِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى كَثُرَتْ الْجِرَاحُ فِي الفريقين. وأصبحوا وَجَاءَ الْخَثْعَمِيّونَ الدّهْمَ [ (1) ] ، فَحَالَ بَيْنَهُمْ سَيْلٌ أَتِيّ، فَمَا قَدَرَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَمْضِي حَتّى أَتَى قُطْبَةُ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرِ، فَأَقْبَلَ بِالنّعَمِ وَالشّاءِ [ (2) ] وَالنّسَاءِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ سِهَامُهُمْ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْبَعِيرُ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْغَنَمِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ الْخُمُسُ. وَكَانَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ
غَزْوَةُ مُؤْتَةَ
[ (3) ]
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير [ (4) ] الأزدىّ ثم أحد بنى لَهَبٍ، إلَى مَلِكِ بُصْرَى بِكِتَابٍ، فَلَمّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسّانِيّ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الشّامَ. قَالَ:
لَعَلّك مِنْ رُسُلِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَأُوثِقَ رِبَاطًا، ثُمّ قَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا. وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] الدهم: العدد الكثير. (النهاية، ج 2، ص 38) .
[ (2) ] فى الأصل: «فأقبل من النعم والشاء» .
[ (3) ] مؤتة: أدنى البلقاء، والبلقاء دون دمشق. (الطبقات، ج 2، ص 92) .
[ (4) ] فى الأصل: «الحارث بن عثمان الأزدى» ، وما أثبتناه عن ح، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 92) .(2/755)
وَسَلَّمَ رَسُولٌ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ فَاشْتَدّ عَلَيْهِ، وَنَدَبَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَقْتَلِ الْحَارِثِ وَمَنْ قَتَلَهُ، فَأَسْرَعَ النّاسُ وَخَرَجُوا فَعَسْكَرُوا بِالْجَرْفِ، وَلَمْ يُبَيّنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ، فَلَمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظّهْرَ جَلَسَ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، وَجَاءَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ [ (1) ] الْيَهُودِيّ، فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حَارِثَةَ أَمِيرُ النّاسِ، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ رَجُلًا فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ: أَبَا الْقَاسِمِ، إنْ كُنْت نَبِيّا فَسَمّيْت [ (2) ] مِنْ سَمّيْت قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أُصِيبُوا جَمِيعًا، إنّ الْأَنْبِيَاءَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا اسْتَعْمَلُوا [ (3) ] الرّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ ثُمّ قَالُوا إنْ أُصِيبَ فُلَانٌ، فَلَوْ سَمّى مِائَةً أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمّ جَعَلَ اليهودىّ يقول لزيد ابن حَارِثَةَ: اعْهَدْ، فَلَا تَرْجِعْ إلَى مُحَمّدٍ أَبَدًا إنْ كَانَ نَبِيّا! فَقَالَ زَيْدٌ:
فَأَشْهَدُ أَنّهُ نَبِيّ صَادِقٌ بَارّ. فَلَمّا أَجَمَعُوا الْمَسِيرَ وَقَدْ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لَهُمْ اللّوَاءَ وَدَفَعَهُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ- لِوَاءٌ أَبْيَضُ- مَشَى النّاسُ إلَى أُمَرَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدّعُونَهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُمْ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يُوَدّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَمّا سَارُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ نَادَى الْمُسْلِمُونَ: دَفَعَ اللهُ عَنْكُمْ، وَرَدّكُمْ صَالِحِينَ غَانِمِينَ. قال ابن رواحة عند ذلك:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «النعمان بن مهض» ، وما أثبتناه من ابن كثير عن الواقدي. (البداية والنهاية، ج 4، ص 241) .
[ (2) ] فى ح: «فسيصاب من سميت» .
[ (3) ] فى ابن كثير عن الواقدي: «إذا سموا» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 241) .(2/756)
لَكِنّنِي أَسْأَلُ الرّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ [ (1) ] فَرْعٍ تَقْذِفُ الزّبَدَا [ (2) ]
وَهِيَ أَبْيَاتٌ أَنْشَدَنِيهَا شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ إسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقْمَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَبِمَنْ مَعَكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. أَوْ قَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثٍ، فَأَيّتُهُنّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ، اُدْعُهُمْ إلَى الدّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ، ثُمّ اُدْعُهُمْ إلَى التّحَوّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْقِسْمَةِ [ (3) ] شَيْءٌ إلّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَاكْفُفْ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِنْ أَنْتَ حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تَسْتَنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا. وَإِنْ حَاصَرَتْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوك عَلَى أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ اللهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمّةَ اللهِ وَلَا ذِمّةَ رَسُولِهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَك وَذِمّةَ أَبِيك وذمّة
__________
[ (1) ] ذات فرع: أى ذات سعة. (شرح أبى ذر، ص 354) .
[ (2) ] الزبد: رغوة الدم. (شرح أبى ذر، ص 344) .
[ (3) ] فى ح «الغنيمة» .(2/757)
أَصْحَابِك، فَإِنّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمّتَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ خير لكم من أن تحفروا ذِمّةَ اللهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ.
حَدّثَنِي أَبُو صَفْوَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: خَرَجَ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم مشيّعا لأهل مؤتة حتى بَلَغَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ، فَوَقَفَ وَوَقَفُوا حَوْلَهُ فَقَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللهِ، فَقَاتِلُوا عَدُوّ اللهِ وَعَدُوّكُمْ بِالشّامِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا رِجَالًا فِي الصّوَامِعِ [ (1) ] مُعْتَزِلِينَ لِلنّاسِ، فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ، وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ لِلشّيْطَانِ، فِي رُءُوسِهِمْ مَفَاحِصَ [ (2) ] فَاقْلَعُوهَا بِالسّيُوفِ، وَلَا تَقْتُلْنَ امْرَأَةً وَلَا صَغِيرًا مُرْضِعًا وَلَا كَبِيرًا فَانِيًا، لَا تُغْرِقُنّ نَخْلًا وَلَا تَقْطَعْنَ شَجَرًا، وَلَا تَهْدِمُوا بَيْتًا.
حَدّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ: لَمّا وَدّعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رَوَاحَةَ قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِشَيْءٍ أَحْفَظْهُ عَنْك! قَالَ: إنّك قَادِمٌ غدا بدّا، السّجُودُ بِهِ قَلِيلٌ، فَأَكْثِرْ السّجُودَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: زِدْنِي يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: اُذْكُرْ اللهَ، فَإِنّهُ عَوْنٌ لَك عَلَى مَا تَطْلُبُ. فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى إذَا مَضَى ذَاهِبًا رَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبّ الْوِتْرَ! قَالَ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، مَا عَجَزْت فَلَا تَعْجِزَنّ إنْ أَسَأْت عَشْرًا أَنْ تُحْسِنَ وَاحِدَةً.
فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: لا أسألك عن شيء بعدها. قال
__________
[ (1) ] الصوامع: جمع صومعة، وهي بيت للنصارى. (القاموس المحيط، ج 3، ص 52) .
[ (2) ] فى الأصل: «مفاخر» ، وما أثبتناه عن ح. ومفاحص: جمع مفحص، والمفحص مفعل من الفحص، ومفحص القطاة موضعها الذي تجثم فيه وتبيض، أى أن الشيطان قد استوطن رءوسهم فجعلها له مفاحص كما تستوطن القطا مفاحصها. (النهاية، ج 3، ص 185) .(2/758)
أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يَقُولُ: كُنْت فِي حِجْرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَلَمْ أَرَ وَالِيَ يَتِيمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْهُ، خَرَجْت مَعَهُ فِي وَجْهِهِ إلَى مُؤْتَةَ، وَصَبّ بِي وَصَبَبْت بِهِ [ (1) ] فَكَانَ يُرْدِفُنِي خَلْفَ رَحْلِهِ، فَقَالَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بَيْنَ شُعْبَتَيْ [ (2) ] الرّحْلِ، وَهُوَ يَتَمَثّلُ أَبْيَاتَ شِعْرٍ
إذَا بَلّغْتِنِي وَحَمَلْت رَحْلِي ... مَسَافَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ [ (3) ]
فَزَادُك أَنْعُمٌ وَخَلَاك ذَمّ [ (4) ] ... وَلَا أَرْجِعْ [ (5) ] إلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَآبَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي [ (6) ] ... بِأَرْضِ الشّامِ مُشْتَهَى الثّوَاءِ [ (7) ]
هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ نَخْلٍ ... وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ [ (8) ]
فَلَمّا سَمِعْت هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بَكَيْت، فَخَفَقَنِي بِيَدِهِ [ (9) ] وَقَالَ: مَا يَضُرّك يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللهُ الشّهَادَةَ فَأَسْتَرِيحَ مِنْ الدّنْيَا وَنَصَبِهَا وَهُمُومِهَا وَأَحْزَانِهَا وَأَحْدَاثِهَا. وَيَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرّحْلِ، ثُمّ نَزَلَ نَزْلَةً مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَعَاقَبَهُمَا دُعَاءً طَوِيلًا ثُمّ قَالَ لِي: يَا غُلَامُ! فَقُلْت: لَبّيْكَ! قَالَ: هِيَ إنْ شَاءَ اللهُ الشّهَادَةُ.
وَمَضَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ عَلَيْهِمْ قبل أن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وصيب وصببت به» ، وما أثبتناه عن ح.
[ (2) ] شعبتا الرحل: أى طرفاه. (القاموس المحيط، ج 1، ص 88) .
[ (3) ] فى ح: «الحشاء» . والحساء: جمع حسى، وهو ماء يغور فى الرمل وإذا بحث عنه وجد. (شرح أبى ذر، ص 355) .
[ (4) ] فى ح: «فشأنك فانعمى وخلاك ذم» .
[ (5) ] هو مجزوم على الدعاء، دعا على نفسه أن يستشهد ولا يرجع إلى أهله. (شرح أبى ذر، ص 355) .
[ (6) ] فى ح: «وخلفوني» .
[ (7) ] ثوى بالمكان ثواء إذا أطال الإقامة به أو نزل فيه. (القاموس المحيط، ج 4، ص 310) .
[ (8) ] فى ح: «رداء» .
[ (9) ] فى ح: «بالدرة» .(2/759)
يَنْتَهُوا إلَى مَقْتَلِ الْحَارِثِ بْن عُمَيْرٍ، فَلَمّا فَصَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ سَمِعَ الْعَدُوّ بِمَسِيرِهِمْ فَجَمَعُوا الْجَمُوعَ. وَقَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بِالنّاسِ، وَقَدّمَ الطّلَائِعَ أَمَامَهُ، وَقَدْ نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ وَادِيَ الْقُرَى وَأَقَامُوا أَيّامًا، وَبَعَثَ أَخَاهُ سَدُوسَ وَقُتِلَ سَدُوسُ وَخَافَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فَتَحَصّنَ، وَبَعَثَ أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ وَبْرُ بْنُ عَمْرٍو. فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى نَزَلُوا أَرْضَ مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَبَلَغَ النّاسُ أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِي بَهْرَاءَ وَوَائِلٍ وَبَكْرٍ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ. فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا لَيْلَتَيْنِ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَإِمّا يَرُدّنَا وَإِمّا يَزِيدُنَا رِجَالًا. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ جَاءَهُمْ ابْنُ رَوَاحَةَ فَشَجّعَهُمْ ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ مَا كُنّا نُقَاتِلُ النّاسَ بِكَثْرَةِ عَدَدٍ، وَلَا بِكَثْرَةِ سِلَاحٍ، وَلَا بِكَثْرَةِ خُيُولٍ، إلّا بِهَذَا الدّينِ الّذِي أَكْرَمْنَا اللهُ بِهِ. انْطَلِقُوا! [ (1) ] وَاَللهِ لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلّا فرسان، ويوم أحد فرس وَاحِدٌ، وَإِنّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إمّا ظُهُورٌ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَوَعَدَنَا نَبِيّنَا، وَلَيْسَ لِوَعْدِهِ خُلْفٌ، وَإِمّا الشّهَادَةُ فَنَلْحَقُ بِالْإِخْوَانِ نُرَافِقُهُمْ فِي الْجِنَانِ! فَشَجّعَ النّاسَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ.
فَحَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ، قَالَ:
شَهِدْت مُؤْتَةَ، فَلَمّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالدّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالذّهَبِ، فَبَرِقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثابت ابن أقرم: يَا أَبَا هَرِيرَةَ، مَا لَك؟ كَأَنّك تَرَى جَمُوعًا كَثِيرَةً. قُلْت:
نَعَمْ، قَالَ: تَشْهَدُنَا بِبَدْرٍ؟ إنّا لم ننصر بالكثرة!
__________
[ (1) ] فى ح: «انطلقوا فقاتلوا» .(2/760)
حَدّثَنِي بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: لَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَوْمئِذٍ يُقَاتِلُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، أَخَذَ اللّوَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ النّاسَ مَعَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَقُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. قَالَ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، أَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَ يَوْمئِذٍ قَالَ:
لَا، مَا قُتِلَ [ (1) ] إلّا طَعْنًا بِالرّمْحِ. ثُمّ أَخَذَهُ جَعْفَرٌ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَرْقَبَهَا [ (2) ] ، ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ فَقَطَعَهُ، نِصْفَيْنِ، فَوَقَعَ أَحَدُ نِصْفَيْهِ فِي كَرْمٍ، فَوُجِدَ فِي نِصْفِهِ ثَلَاثُونَ أَوْ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ جُرْحًا.
حَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وُجِدَ مِمّا قُتِلَ مِنْ بَدَنِ جَعْفَرٍ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ ضَرْبَةً بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ.
حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: وُجِدَ فِي بَدَنِ جَعْفَرٍ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ جُرْحًا، وَوُجِدَ بِهِ طَعْنَةٌ قَدْ أَنْفَذَتْهُ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْجَبّارِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَدِيثِ قَالَا: لَمّا الْتَقَى النّاسُ بِمُؤْتَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَشَفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشّامِ، فَهُوَ يَنْظُرُ إلَى مُعْتَرَكِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَذَ الرّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فجاءه الشيطان فحبّب
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ما قيل إلا طعن بالرمح» .
[ (2) ] عرقبها: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة فى رجلها بمنزلة الركبة فى يدها. (الصحاح، ص 180) .(2/761)
إلَيْهِ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ وَحَبّبَ إلَيْهِ الدّنْيَا! فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُحَبّبُ إلَيّ الدّنْيَا! فَمَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ، فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، فَقَدْ دَخَلَ الْجَنّةَ وَهُوَ يَسْعَى! ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَهُ الشّيْطَانُ فَمَنّاهُ الْحَيَاةَ وَكَرّهَ إلَيْهِ الْمَوْتَ، وَمَنّاهُ الدّنْيَا فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اُسْتُحْكِمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُمَنّينِي الدّنْيَا! ثُمّ مَضَى قِدْمًا حَتّى اُسْتُشْهِدَ، فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ، ثُمّ قَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ فَإِنّهُ شَهِيدٌ، دَخَلَ الْجَنّةَ فَهُوَ يَطِيرُ فِي الْجَنّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حَيْثُ يُشَاءُ مِنْ الْجَنّةِ.
ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ بَعْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاسْتُشْهِدَ وَدَخَلَ الْجَنّةَ مُعْتَرِضًا.
فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَابَهُ الْجِرَاحُ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا اعْتِرَاضُهُ؟ قَالَ: لَمّا أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ نَكَلَ، فَعَاتَبَ نَفْسَهُ فَشَجُعَ، فَاسْتُشْهِدَ فَدَخَلَ الْجَنّةَ. فَسُرّيَ عَنْ قَوْمِهِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيّ، عَنْ أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْت جَعْفَرًا مَلِكًا يَطِيرُ فِي الْجَنّةِ تَدْمَى قَادِمَتَاهُ، وَرَأَيْت زَيْدًا دُونَ ذَلِكَ فَقُلْت: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ زَيْدًا دُونَ جَعْفَرٍ. فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَالَ: إنّ زَيْدًا لَيْسَ بِدُونِ جَعْفَرٍ، وَلَكِنّا فَضّلْنَا جَعْفَرًا لِقَرَابَتِهِ مِنْك.
حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْفَرَسَانِ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ الرّجّالَةِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ.
حَدّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَجُلًا مِنْ(2/762)
بَنِي مُرّةَ كَانَ فِي الْجَيْشِ، قِيلَ لَهُ: إنّ النّاسَ يَقُولُونَ إنّ خَالِدًا انْهَزَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: لَا وَاَللهِ مَا كَانَ ذَلِكَ! لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ نَظَرْت إلَى اللّوَاءِ قَدْ سَقَطَ، وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ: فَنَظَرْت إلَى اللّوَاءِ فِي يَدِ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا، وَاتّبَعْنَاهُ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ رَأَيْتهَا قَطّ. فِي كُلّ وَجْهٍ. ثُمّ إنّ الْمُسْلِمِينَ تَرَاجَعُوا. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ ثابت بن أقرم، فَأَخَذَ اللّوَاءَ وَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَثُوبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُوَ يَقُولُ: إلَيّ أَيّهَا النّاسُ! فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ. قَالَ: فَنَظَرَ ثَابِتٌ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: خُذْ اللّوَاءَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ! فَقَالَ: لَا آخُذُهُ، أَنْتَ أَحَقّ بِهِ، أَنْتَ رَجُلٌ لَك سِنّ. وَقَدْ شَهِدْت بَدْرًا. قَالَ ثَابِتٌ: خذه أيّها الرجل! فو الله مَا أَخَذْته إلّا لَك! فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَحَمَلَهُ سَاعَةً، وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ. فَثَبَتَ حَتّى تَكَرْكَرَ [ (1) ] الْمُشْرِكُونَ، وَحَمَلَ بِأَصْحَابِهِ فَفَضّ جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ، ثُمّ دَهَمَهُ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَانْحَاشَ الْمُسْلِمُونَ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ. عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي حَضَرُوا يَوْمئِذٍ قَالُوا: لَمّا أَخَذَ اللّوَاءَ انْكَشَفَ بِالنّاسِ فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ، وَقُتِلَ الْمُسْلِمُونَ، وَاتّبَعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، فَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَصِيحُ: يَا قَوْمِ، يُقْتَلُ الرّجُلُ مُقْبِلًا أَحْسَنُ أَنْ يُقْتَلَ مُدْبِرًا! يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ فَمَا يَثُوبُ إلَيْهِ أَحَدٌ، هي الهزيمة، ويتبعون صاحب الراية منهزما.
__________
[ (1) ] تكركر الرجل فى أمره. أى تردد. (الصحاح، ص 805) .(2/763)
حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ مَصْعَبٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، قَالَ:
لَمّا أَخَذَ اللّوَاءُ ثَابِتُ بْنُ أَرْقَمَ، فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ ثَابِتٌ:
اصْطَلَحْتُمْ عَلَى خَالِدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَانْكَشَفَ بِالنّاسِ.
حَدّثَنِي عَطّافُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: لَمّا قُتِلَ ابْنُ رَوَاحَةَ مَسَاءً بَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَا، وَقَدْ جَعَلَ مُقَدّمَتَهُ سَاقَتَهُ، وَسَاقَتَهُ مُقَدّمَتَهُ، وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ، وَمَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَتَهُ، فَأَنْكَرُوا مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ رَايَاتِهِمْ وَهَيّأَتْهُمْ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ! فَرُعِبُوا فَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ، فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا قَوْمٌ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا أَخَذَ خَالِدٌ الرّايَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ حَمِيَ [ (1) ] الْوَطِيسُ!
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ:
وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، أَنّ خَالِدًا انْهَزَمَ بِالنّاسِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: بَلَغَتْ الدّمَاءُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَوْضِعَ الْأَشَاعِرِ [ (2) ] مِنْ الْحَافِرِ [ (3) ] ، وَالْوَطِيسُ أَيْضًا ذَاكَ، وَإِذَا حَمِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ الدّابّةِ كَانَ أَشَدّ لِعَدُوّهَا.
حَدّثَنِي دَاوُد بْنُ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْت ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ يَقُولُ: انْكَشَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمئِذٍ حَتّى عُيّرُوا بِالْفِرَارِ، وَتَشَاءَمَ النّاسُ بِهِ.
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَسّانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالنّاسِ
__________
[ (1) ] أى الآن اشتدت الحرب. (القاموس المحيط، ج 2، ص 257) .
وقال ابن الأثير: الوطيس التنور، وقيل هو الضراب فى الحرب، وقيل هو الوطء الذي يطس الناس، أى يدقهم. وقال الأصمعى: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطؤها. (النهاية، ج 4، ص 234) .
[ (2) ] أشارع الناقة: جوانب حيائها. (الصحاح، ص 698) .
[ (3) ] الحافر هنا: الدابة. (النهاية، ج 1، ص 239) .(2/764)
مُنْهَزِمًا،
فَلَمّا سَمِعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِجَيْشِ مُؤْتَةَ قادمين تقتلوهم بِالْجَرْفِ، فَجَعَلَ النّاسُ يَحْثُونَ فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا فُرّارُ، أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسُوا بِفُرّارٍ، وَلَكِنّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللهُ!
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، يَقُولُ: مَا لَقِيَ جَيْشٌ بُعِثُوا مَعَنَا مَا لَقِيَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالشّرّ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ وَأَهْلِهِ، فَيَدُقّ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَيَأْبَوْنَ أَنْ يَفْتَحُوا لَهُ، يَقُولُونَ: أَلَا تَقَدّمْت مَعَ أَصْحَابِك؟ فَأَمّا مَنْ كَانَ كَبِيرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ اسْتِحْيَاءً حَتّى جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، يَقُولُ: أَنْتُمْ الْكُرّارُ فِي سَبِيلِ اللهِ!
حَدّثَنِي مُصْعِبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَدَخَلَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ؟
آشْتَكَى شَيْئًا؟ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: لَا وَاَللهِ، وَلَكِنّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، إذَا خَرَجَ صَاحُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ «يَا فُرّارُ، أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟» . حَتّى قَعَدَ فِي الْبَيْتِ.
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَلْ، هُمْ الْكُرّارُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلْيَخْرُجْ! فَخَرَج.
حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ، قَالَ: كُنّا نَخْرُجُ وَنَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ مِنْ النّاسِ، لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ عَمّ لِي كَلَامٌ، فَقَالَ: إلّا فِرَارَك يَوْمَ مُؤْتَةَ! فَمَا دُرِيت أَيّ شَيْءٍ أقول له.(2/765)
حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أُمّ عِيسَى بْنِ الْحَزّارِ، عَنْ أُمّ جَعْفَرٍ بِنْتِ مُحَمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ جَدّتِهَا أَسَمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: أَصْبَحْت فِي الْيَوْمِ الّذِي أُصِيبَ فِيهِ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ هَيّأْت أَرْبَعِينَ مِنّا [ (1) ] مِنْ أُدْمٍ [ (2) ] ، وَعَجَنْت عَجِينِي، وَأَخَذْت بَنِيّ فَغَسَلْت وُجُوهَهُمْ وَدَهَنْتهمْ؟
فَدَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَسَمَاءُ، أَيْنَ بَنُو جَعْفَرٍ؟
فَجِئْت بِهِمْ إلَيْهِ فَضَمّهُمْ وَشَمّهُمْ، ثُمّ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى، فَقُلْت: أَيْ رَسُولَ اللهِ، لَعَلّك بَلَغَك عَنْ جَعْفَرٍ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُتِلَ الْيَوْمَ. قَالَتْ:
فَقُمْت أَصِيحُ، وَاجْتَمَعَ إلَيّ النّسَاءُ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَا أَسَمَاءُ، لَا تَقُولِي هُجْرًا [ (3) ] وَلَا تَضْرِبِي صَدْرًا! قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ وَهِيَ تَقُولُ: وا عمّاه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَلَى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ الْبَاكِيَةُ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ شُغِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْيَوْمَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْلَى، قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللهِ ابن جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَنَا [ (4) ] أَحْفَظُ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمّي فَنَعَى لَهَا أَبِي، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ وَهُوَ يَمْسَحُ على رأسى ورأس أخى، وعيناه
__________
[ (1) ] المن: الذي يوزن به، وهو الرطل. (شرح أبى ذر، ص 356) .
[ (2) ] الأدم: ما يؤكل مع الخبز أى شيء كان. (النهاية، ج 1، ص 21) .
[ (3) ] الهجر: الإفحاش فى المنطق. (الصحاح، ص 851) .
[ (4) ] فى الأصل: «إنما أحفظ» . وما أثبتناه عن ح.(2/766)
تُهَرَاقَانِ الدّمُوعَ حَتّى تَقْطُرَ لِحْيَتُهُ. ثُمّ قَالَ: اللهُمّ، إنّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إلَى أَحْسَنِ الثّوَابِ، فَاخْلُفْهُ فِي ذُرّيّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلَفْت أَحَدًا مِنْ عِبَادِك فِي ذُرّيّتِهِ! ثُمّ قَالَ: يَا أَسَمَاءُ، أَلَا أُبَشّرُك؟ قَالَتْ: بَلَى، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قَالَ: فَإِنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ! قَالَتْ: بِأَبِي وَأُمّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَعْلَمَ النّاسَ ذَلِكَ! فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِيَدِي، يَمْسَحُ بِيَدِهِ رَأْسِي حَتّى رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَجْلَسَنِي أَمَامَهُ عَلَى الدّرَجَةِ السّفْلَى، وَالْحُزْنُ يُعْرَفُ عَلَيْهِ، فَتَكَلّمَ فَقَالَ: إنّ الْمَرْءَ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ وَابْنُ عَمّهِ، أَلَا إنّ جَعْفَرًا قَدْ اُسْتُشْهِدَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ. ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَأَدْخَلَنِي، وَأَمَرَ بِطَعَامٍ فَصُنِعَ لِأَهْلِي، وَأَرْسَلَ إلَى أَخِي فَتَغَدّيْنَا عِنْدَهُ وَاَللهِ غَدَاءٌ طَيّبًا مُبَارَكًا، عَمِدَتْ سَلْمَى خَادِمَتُهُ إلَى شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ، ثُمّ نَسَفَتْهُ، ثُمّ أَنْضَجَتْهُ وَأَدْمَتْهُ بِزَيْتٍ، وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ فُلْفُلًا. فَتَغَدّيْت أَنَا وَأَخِي مَعَهُ فَأَقَمْنَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فِي بَيْتِهِ، نَدُورُ مَعَهُ كُلّمَا صَارَ فِي إحْدَى بُيُوتِ نِسَائِهِ، ثُمّ رَجَعْنَا إلَى بَيْتِنَا، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم وأنا أساوم بشاة أخى لِي، فَقَالَ: اللهُمّ بَارِكْ فِي صَفْقَتِهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَمَا بِعْت شَيْئًا وَلَا اشْتَرَيْت إلّا بُورِكَ فِيهِ.
حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمّا قَدِمَ نَعْيُ جَعْفَرٍ عَرَفْنَا فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُزْنَ. قَالَتْ: قَدِيمًا مَا ضَرّ النّاسَ التّكَلّفُ [ (1) ] ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ النّسَاءَ قَدْ عَنَيْنَنَا بِمَا يَبْكِينَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَارْجِعْ إلَيْهِنّ فَأَسْكِتْهُنّ، فَإِنْ أبين فاحث فى أفواههنّ
__________
[ (1) ] التكلف: كثرة السؤال والبحث عن الأشياء الغامضة التي لا يجب البحث عنها. (النهاية، ج 4، ص 31) .(2/767)
التّرَابَ.
فَقُلْت فِي نَفْسِي: أَبْعَدَك اللهُ! مَا تَرَكْت نَفْسَك، وَمَا أَنْتَ بِمُطِيعِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَنَا أَطّلِعُ مِنْ صَيْرِ [ (1) ] الْبَاب فَأَسْمَعُ هَذَا.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَمْتِعَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مِمّا غَنِمُوا خَاتَمًا جَاءَ بِهِ رَجُلٌ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
قَتَلْت صَاحِبَهُ يَوْمئِذٍ! فَنَفّلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهُ.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ: لَقِينَاهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَصَافّونَا فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الرّومِ يَسُلّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُغْرِي بِهِمْ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ، عَلَيْهِ سِلَاحٌ مُذَهّبٌ وَلِجَامٌ مُذَهّبٌ، فَجَعَلْت أَقُولُ فِي نَفْسِي: مِنْ هَذَا؟ وَقَدْ رَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ [ (2) ] حِمْيَرَ، فَكَانَ مَعَنَا فِي مَسِيرِنَا ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ سَيْفٌ، إذْ نَحَرَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، وَهَبَهُ لَهُ فَبَسَطَهُ فِي الشّمْسِ وَأَوْتَدَ عَلَى أَطْرَافِهِ أَوْتَادًا، فَلَمّا جَفّ اتّخَذَ مِنْهُ مَقْبِضًا وَجَعَلَهُ دَرَقَةً. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ الْمَدَدِيّ مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الرّومِيّ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَلَمّا مَرّ بِهِ خَرَجَ عَلَيْهِ فَعَرْقَبَ فَرَسُهُ، فَقَعَدَ الْفَرَسُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَخَرّ عَنْهُ الْعِلْجُ [ (3) ] ، وَشَدّ عَلَيْهِ فعلاه بسيفه فقتله.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «صر الباب» . والصير: شق الباب. (النهاية، ج 3، ص 8) .
[ (2) ] الأمداد: جمع مدد، وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين فى الجهاد. (النهاية، ج 4، ص 84) .
[ (3) ] العلج: الرجل من كفار العجم. (الصحاح، ص 330) .(2/768)
حَدّثَنِي بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ [ (1) ] ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
حَضَرْت مُؤْتَةَ، فَبَارَزْت رَجُلًا يَوْمئِذٍ فَأَصَبْته، وَعَلَيْهِ يَوْمئِذٍ بَيْضَةٌ لَهُ فِيهَا يَاقُوتَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ هَمّي إلّا الْيَاقُوتَةُ فَأَخَذْتهَا، فَلَمّا انْكَشَفْنَا وَانْهَزَمْنَا رَجَعْت بِهَا الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْت بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فنفّلنيها فبعتها زمن عمر ابن الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَيْت بِهَا حَدِيقَةَ نَخْلٍ بِبَنِي خَطْمَةَ.
ذِكْرُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ
اُسْتُشْهِدَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كعب: مَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ. ومن بنى عامر ابن لُؤَيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: وَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ.
وَقُتِلَ من الأنصار، ثم من بنى النّجّار مِنْ بَنِي مَازِنٍ: سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ. وَمِنْ بَنِي النّجّارِ: الْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ يِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ. ومن بنى الحارث بن الخزرج:
عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ قِيسٍ. ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْمَدِينَةِ.
غَزْوَةُ ذَاتِ السّلَاسِلِ [ (2) ]
حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، وَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بن حزم، وحدّثنى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عمارة بن خزيمة» . وقد صححناه فى أماكن أخرى من هذا الكتاب.
[ (2) ] ذات السلاسل: وراء وادي القرس، وبينها وبين المدينة عشرة أيام. الطبقات، ج 2، ص 94) .(2/769)
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْهُ طَائِفَةٌ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنْ بَعْضٍ، فَجَمَعْت مَا حَدّثُونِي، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّيْنَ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ بَلِيّ وَقُضَاعَةَ قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوَا إلَى أَطْرَافِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَجَعَلَ مَعَهُ رَايَةً سَوْدَاءَ، وَبَعَثَهُ فِي سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- فِي ثَلَاثِمِائَةِ- عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمِنْ مَرّ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ، وَهِيَ بِلَادُ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَذَلِكَ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ ذَا رَحِمٍ بِهِمْ، كَانَتْ أُمّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ بَلَوِيّةً، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلّفُهُمْ بِعَمْرٍو. فَسَارَ، وَكَانَ يَكْمُنُ النّهَارَ وَيَسِيرُ اللّيْلَ، وَكَانَتْ مَعَهُ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فَلَمّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ بَلَغَهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ عِشَاءً وَهُمْ شَاتُونَ، فَجَمَعَ أَصْحَابُهُ الْحَطْبَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصْطَلُوا- وَهِيَ أَرْضٌ بَارِدَةٌ- فَمَنَعَهُمْ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتّى كَلّمَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ فَغَالَظَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أُمِرْت أَنْ تَسْمَعَ لِي وَتُطِيعَ! قَالَ: فَافْعَلْ! وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَيَسْتَمِدّهُ بِالرّجَالِ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ سَرَاةَ الْمُهَاجِرِينَ- أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَالْأَنْصَارَ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مِائَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلَا يَخْتَلِفَا. فَسَارُوا حَتّى لَحِقُوا(2/770)
بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمّ النّاسَ وَيَتَقَدّمَ عَمْرًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إنّمَا قَدِمْت عَلَيّ مَدَدًا لِي، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَؤُمّنِي، وَأَنَا الْأَمِيرُ، وَإِنّمَا أَرْسَلَك النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيّ مَدَدًا. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: كَلّا، بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِك وَهُوَ أَمِيرُ أَصْحَابِهِ! فَقَالَ عَمْرٌو: لَا، بَلْ أَنْتُمْ مَدَدٌ لَنَا! فَلَمّا رَأَى أَبُو عُبَيْدَةَ الِاخْتِلَافَ- وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، لَيّنَ الشّيمَةِ- قَالَ: لِتَطْمَئِنّ يَا عَمْرُو، وَتَعْلَمَنّ أَنّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: «إذَا قَدِمْت عَلَى صَاحِبِك فَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . وَإِنّك وَاَللهِ إنْ عَصَيْتنِي لَأُطِيعَنّكَ! فَأَطَاعَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلّي بِالنّاسِ.
فَآبَ إلَى عَمْرٍو جَمَعَ- فَصَارُوا خَمْسَمِائَةِ- فَسَارَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِيّ وَدَوّخَهَا [ (1) ] ، وَكُلّمَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنّهُ كَانَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمَعَ فَلَمّا سَمِعُوا بِهِ تَفَرّقُوا، حَتّى انْتَهَى إلَى أَقْصَى بِلَادِ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْن، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، فَقَاتَلُوا سَاعَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ، وَرُمِيَ يَوْمئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ [ (2) ] بِسَهْمٍ فَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا، وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِي الْبِلَادِ وَتَفَرّقُوا، وَدَوّخَ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ وَأَقَامَ أَيّامًا لَا يَسْمَعُ لَهُمْ بِجَمْعٍ وَلَا بِمَكَانٍ صَارُوا فِيهِ، وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ فَيَأْتُونَ بِالشّاءِ وَالنّعَمِ، وَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ غَنَائِمُ تُقْسَمُ إلّا مَا ذُكِرَ لَهُ.
وَكَانَ رَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ الطّائِيّ يَقُولُ: كُنْت فِيمَنْ نفر مع أبى عبيدة ابن الْجَرّاحِ، وَكُنْت رَجُلًا أُغِيرُ فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى أموال الناس، فكنت
__________
[ (1) ] دوخ البلاد: قهرها واستولى على أهلها. (الصحاح، ص 421) .
[ (2) ] فى الأصل: «عمار بن ربيعة» . وما أثبتناه من ابن الأثير. (أسد الغابة، ج 3، ص 80) .(2/771)
أَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْبَيْضِ- بَيْضِ النّعَامِ- فَأَجْعَلُهُ فِي أَمَاكِنَ أَعْرِفُهَا، فَإِذَا مَرَرْت بِهَا وَقَدْ ظَمِئْت اسْتَخْرَجْتهَا فَشَرِبْت مِنْهَا. فَلَمّا نَفَرْت فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ قُلْت: وَاَللهِ لَأَخْتَارَنّ لِنَفْسِي صَاحِبًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ. فَاخْتَرْت أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ فَصَحِبْته، وَكَانَتْ لَهُ عَبَاءَةٌ فَدَكِيّةٌ [ (1) ] ، فَإِذَا رَكِبَ خَلّهَا [ (2) ] عَلَيْهِ بِخِلَالٍ، وَإِذَا نَزَلْنَا بَسَطَهَا. فَلَمّا قَفَلْنَا قُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، رَحِمَك اللهُ! عَلّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ. قَالَ: قَدْ كُنْت فَاعِلًا وَلَوْ لَمْ تَسْأَلْنِي، لَا تُشْرِكْ بِاَللهِ، وَأَقِمْ الصّلَاةَ، وَآتِ الزّكَاةَ، وَصُمْ رَمَضَانَ، وَحُجّ الْبَيْتَ وَاعْتَمِرْ، وَلَا تَتَأَمّرْ [ (3) ] عَلَى اثْنَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: قُلْت: أَمّا مَا أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ الصّلَاةِ وَالصّوْمِ وَالْحَجّ فَأَنَا فَاعِلُهُ، وَأَمّا الْإِمَارَةُ فَإِنّي رَأَيْت النّاسَ لَا يُصِيبُونَ هَذَا الشّرَفَ وَهَذَا الْغِنَى وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ النّاسِ إلّا بِهَا. قَالَ: إنّك اسْتَنْصَحْتنِي فَجَهَدْت لَك نَفْسِي، إنّ النّاسَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا فَأَجَارَهُمْ [ (4) ] اللهُ مِنْ الظّلْمِ، وَهُمْ عُوّادُ اللهِ وَجِيرَانُ اللهِ، وَفِي أَمَانَتِهِ، فَمَنْ أَخْفَرَ فَإِنّمَا يُخْفِرُ اللهُ فِي جِيرَانِهِ، وَإِنّ شَاةَ أَحَدِكُمْ أَوْ بَعِيرَهُ لِيَذْهَبَ فَيَظِلّ نَاتِئًا [ (5) ] عَضَلَهُ غَضَبًا لِجَارِهِ، وَاَللهُ مِنْ وَرَاءِ جَارِهِ. قَالَ: فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جِئْته فَقُلْت: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَمْ تَنْهَنِي أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى اثْنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ! قَالَ: فَمَا لَك تَأَمّرْت عَلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: اخْتَلَفَ النّاسُ وَخَشِيت
__________
[ (1) ] لعلها منسوبة إلى فدك، وهي قرية قريب من خيبر بينها وبين المدينة ست ليال. (وفاء الوفا، ج 2، ص 355) .
[ (2) ] خلها عليه: أى جمع بين طرفيها بخلال من عود أو حديد. (النهاية، ج 1، ص 318) .
[ (3) ] تأمر عليهم: تسلط. (الصحاح، ص 582) .
[ (4) ] فى الأصل: «فأرجاهم» .
[ (5) ] الناتئ: المرتفع المنتفخ. والعضل: جمع عضلة، وهي القطعة من اللحم الشديدة. (شرح أبى ذر، ص 454) .(2/772)
عَلَيْهِمْ الْهَلَاكَ، وَدَعَوْا إلَيّ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ بُدّا.
قَالَ: وَكَانَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ رَفِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَعَهُمَا فِي رَحْلِهِمَا، فَخَرَجَ عَوْفٌ يَوْمًا فِي الْعَسْكَرِ فَمَرّ بِقَوْمٍ بِأَيْدِيهِمْ جَزُورٌ قَدْ عَجَزُوا عَنْ عَمَلِهَا، فَكَانَ عَوْفٌ عَالِمًا بِالْجُزُرِ فَقَالَ: أتعطونى عَلَيْهَا وَأَقْسِمُهَا بَيْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ نُعْطِيك عَشِيرًا مِنْهَا. فَنَحَرَهَا ثُمّ جَزّأَهَا بَيْنَهُمْ، وَأَعْطَوْهُ مِنْهَا جزأ فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ أَصْحَابَهُ، فَطَبَخُوهُ وَأَكَلُوا مِنْهُ.
فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا اللّحْمُ؟
فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالَا: وَاَللهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ أَطْعَمْتنَا هَذَا. ثُمّ قَامَا يَتَقَيّآنِ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَيْشُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لِعَوْفٍ: تَعَجّلْت أَجْرَك! ثُمّ أَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ قَفَلْنَا احْتَلَمَ فِي لَيْلَة بَارِدَةٍ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَرْدِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَدْ وَاَللهِ احْتَلَمْت، وَإِنْ اغْتَسَلْت مُتّ! فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضّأَ وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَتَيَمّمَ، ثُمّ قَامَ فَصَلّى بِهِمْ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَعَثَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ بَرِيدًا. قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: فَقَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّحَرِ وَهُوَ يُصَلّي فِي بَيْتِهِ، فَسَلّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ؟ قُلْت: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: صَاحِبُ الْجَزُورِ؟ قُلْت: نَعَمْ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، ثُمّ قَالَ:
أَخْبِرْنِي! فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ فِي مَسِيرِنَا وَمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُطَاوَعَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ!
ثُمّ أَخْبَرْته أَنّ عَمْرًا صَلّى بنا وهو(2/773)
جُنُبٌ وَمَعَهُ مَاءٌ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ غَسَلَ فَرْجَهُ بِمَاءٍ وَتَيَمّمَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا قَدِمَ عَمْرٌو عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اغْتَسَلْت لَمُتّ، لَمْ أَجِد قَطّ بَرْدًا مِثْلَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. [ (1) ]
فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّهُ قَالَ شَيْئًا
سَرِيّةُ الْخَبَطِ [ (2) ] أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي دَاوُد بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ مِنْ وَلَدِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ زَادَ فِي الْحَدِيثِ، قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِي سَرِيّةٍ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، إلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إلَى حَيّ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَصَابَهُمْ جَوْعٌ شَدِيدٌ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالزّادِ فَجَمَعَ حَتّى إذَا كَانُوا لَيَقْتَسِمُونَ التّمْرَةَ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: فَمَا يُغْنِي ثُلُثُ تَمْرَةٍ؟ قَالَ:
لَقَدْ وَجَدُوا فَقْدَهَا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ حَمُولَةٌ [ (3) ] ، إنّمَا كَانُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَبَاعِرَ يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا زَادَهُمْ. فَأَكَلُوا الْخَبَطَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ذُو مَشْرَةٍ [ (4) ] ، حَتّى إنّ شِدْقَ أَحَدِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مِشْفَر الْبَعِيرِ العضّة، فمكثنا على ذلك حتى قال
__________
[ (1) ] سورة 4 النساء 29
[ (2) ] الخبط: ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق أو غيره ويوخف بالماء. (القاموس المحيط، ج 2، ص 356) .
[ (3) ] الحمولة: ما يحتمل عليه الناس من الدواب. (النهاية، ج 1، ص 261) .
[ (4) ] المشرة: شبه خوصة تخرج فى العضاء وفى كثير من الشجر، أو الأغصان الحضر الرطبة قبل أن تتلون بلون. (القاموس المحيط، ج 2، ص 133) .(2/774)
قَائِلُهُمْ: لَوْ لَقِينَا عَدُوّا مَا كَانَ بِنَا حَرَكَةٌ إلَيْهِ، لِمَا بِالنّاسِ مِنْ الْجَهْدِ. فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ يَشْتَرِي مِنّي تَمْرًا بجزر، يوفيني الجزر هاهنا وأو فيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: وا عجباه لِهَذَا الْغُلَامِ، لَا مَالَ لَهُ يُدَانُ فِي مَالِ غَيْرِهِ! فَوَجَدَ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: بِعْنِي جُزُرًا وَأُوَفّيك سِقَةً [ (1) ] مِنْ تَمْرِ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ الْجُهَنِيّ: وَاَللهِ مَا أَعْرِفُك، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ [ (2) ] . قَالَ الْجُهَنِيّ: مَا أَعَرَفْتنِي بِنَسَبِك! أَمّا إنّ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ خُلّةً، سَيّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ. فَابْتَاعَ مِنْهُمْ خَمْسَ جُزُرٍ كُلّ جَزُورٍ بِوَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، يَشْرِطُ عَلَيْهِ الْبَدَوِيّ، تَمْرٍ ذَخِيرَةٍ مُصَلّبَةٍ [ (3) ] مِنْ تَمْرِ آلِ دُلَيْمٍ. قَالَ: يَقُولُ قَيْسٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الْجُهَنِيّ: فَأَشْهِدْ لِي.
فَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ قَيْسٌ: أَشْهِدْ مَنْ تُحِبّ. فَكَانَ فِيمَنْ أَشْهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ:
لَا أَشْهَدُ! هَذَا يُدَانُ وَلَا مَالَ لَهُ، إنّمَا الْمَالُ لِأَبِيهِ. قَالَ الْجُهَنِيّ: وَاَللهِ، مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخُنّي [ (4) ] بِابْنِهِ فِي سِقَةٍ مِنْ تَمْرٍ! وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفَعَالًا شَرِيفًا.
فَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ قَيْسٍ كَلَامٌ حَتّى أَغْلَظَ لَهُ قَيْسٌ الْكَلَامَ، وَأَخَذَ قَيْسٌ الْجُزُرَ فَنَحَرَهَا لَهُمْ فِي مَوَاطِنَ ثَلَاثَةٍ، كُلّ يَوْمِ جَزُورًا، فَلَمّا كَانَ الْيَوْمُ الرّابِعُ نَهَاهُ أَمِيرُهُ وَقَالَ: تُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ [ (5) ] ذِمّتَك وَلَا مَالَ لَك؟
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَمَعَهُ عُمَرُ بن الخطّاب رضى الله عنهم فقال:
__________
[ (1) ] السقة: جمع وسق وهو الحمل، وقدره الشرع بستين صاعا. ويروى أيضا بالشين المعجمة.
(النهاية، ج 2، ص 169) .
[ (2) ] فى الأصل: «دوليم» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 8، ص 330) .
[ (3) ] صلب: أى يبس. (القاموس المحيط، ج 1، ص 93) .
[ (4) ] أى يسلمه ويخفر ذمته، هو من أخنى عليه. (النهاية، ج 2، ص 4) .
[ (5) ] فى الأصل: «أن تخرب» ، وما أثبتناه عن السيرة الحلبية. (ج 2، ص 315) .(2/775)
عَزَمْت عَلَيْك أَلّا تَنْحَرَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُخْفِرَ ذِمّتَك وَلَا مَالَ لَك؟ فَقَالَ قَيْسٌ:
يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، أَتَرَى أَبَا ثَابِتٍ وَهُوَ يَقْضِي دَيْنَ النّاسِ، وَيَحْمِلُ الْكُلّ [ (1) ] ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ، لَا يَقْضِي سِقَةَ تَمْرٍ لِقَوْمٍ مُجَاهَدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ! فَكَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَلِينَ لَهُ وَيَتْرُكُهُ حَتّى جَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: اعْزِمْ عَلَيْهِ! فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ. فَبَقِيت جَزُورَانِ مَعَهُ حَتّى وَجَدَ الْقَوْمُ الْحُوتَ، فَقَدِمَ بِهِمَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظُهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَلَغَ سَعْدٌ مَا كَانَ أَصَابَ الْقَوْمُ مِنْ الْمَجَاعَةِ فَقَالَ: إنْ يَكُنْ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُهُ فَسَوْفَ يَنْحَرُ لِلْقَوْمِ.
فَلَمّا قَدِمَ قَيْسٌ لَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْت فِي مَجَاعَةِ الْقَوْمِ حَيْثُ أَصَابَهُمْ؟
قَالَ: نَحَرْت. قَالَ: أَصَبْت، انْحَرْ! قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْت. قَالَ:
أَصَبْت! قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمّ نَحَرْت. قَالَ أَصَبْت، انْحَرْ! قَالَ:
ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: نَهَيْت. قَالَ: وَمَنْ نَهَاك؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ أَمِيرِي. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنّهُ لَا مَالَ لِي وَإِنّمَا الْمَالُ لِأَبِيك، فَقُلْت:
أَبِي يَقْضِي عَنْ الْأَبَاعِدِ، وَيَحْمِلُ الْكُلّ [ (1) ] ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ، وَلَا يَصْنَعُ هَذَا بِي! قَالَ: فَلَك أَرْبَعُ حَوَائِطَ [ (2) ] . قَالَ: وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا. قَالَ:
وَأَتَى بِالْكِتَابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَشَهِدَ فِيهِ، وَأَتَى عُمَرُ فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ- وَأَدْنَى حَائِطٍ مِنْهَا يَجُذّ خَمْسِينَ وَسْقًا. وَقَدِمَ الْبَدَوِيّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ سِقَتَهُ وَحَمّلَهُ وَكَسَاهُ،
فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُ قَيْسٍ فَقَالَ: إنّهُ فِي بَيْتِ جُودٍ.
حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان، عن جابر بن عبد الله،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ويحمل فى الكل» .
[ (2) ] الحوائط: البساتين. (السيرة الحلبية، ج 2، ص 316) .(2/776)
فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مِثْلَ الظّرِبِ [ (1) ] ، فَأَكَلَ الْجَيْشُ مِنْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَ، ثُمّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرَحَلَتْ، ثُمّ مَرّ تَحْتَهَا فَلَمْ يُصِبْهَا.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَجْلِسُ فِي وَقْبِ [ (2) ] عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الرّاكِبُ لَيَمُرّ بَيْنَ ضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحِجَازِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شُجَاعٍ، قَالَ:
لَمّا قَدِمَ الْأَعْرَابِيّ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ! وَاَللهِ، مَا مِثْلُ ابْنِك صَنَعْت وَلَا تَرَكْت بِغَيْرِ مَالٍ، فَابْنُك سَيّدٌ مِنْ سَادَةِ قَوْمِهِ، نَهَانِي الْأَمِيرُ أَنْ أَبِيعَهُ. قُلْت: لِمَ؟ قَالَ: لَا مَالَ لَهُ! فَلَمّا انْتَسَبَ إلَيْك عَرَفْته فَتَقَدّمْت لِمَا عَرَفْت أَنّك تَسْمُو عَلَى مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَجَسِيمِهَا، وَأَنّك غَيْرُ مُذِمّ بِمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ لَدَيْك. قَالَ: فَأَعْطَى ابْنَهُ يَوْمئِذٍ أَمْوَالًا عِظَامًا.
سَرِيّةُ خَضِرَةَ، أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ [ (3) ] الْأَسْلَمِيّ: تزوّجت ابنة سراقة بن حارثة اللّجّارىّ وَكَانَ قُتِلَ بِبَدْرٍ، فَلَمْ أُصِبْ شَيْئًا مِنْ الدّنْيَا كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ مَكَانِهَا، فَأَصْدَقْتهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَسُوقُهُ إلَيْهَا فقلت:
__________
[ (1) ] الظرب: الجبل الصغير. (النهاية، ج 3، ص 54) .
[ (2) ] كلمة غامضة فى الأصل، وما أثبتناه عن السيرة الحلبية. (ج 2، ص 315) . ووقب العين: نقرتها (الصحاح، ص 234) .
[ (3) ] فى الأصل: «عبد الله بن أبى جدرد» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 32، ص 108) .(2/777)
عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ الْمِعْوَلُ. فَجِئْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ:
كَمْ سُقْت إلَيْهَا! قُلْت: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ تَغْتَرِفُونَهُ مِنْ نَاحِيَةَ بَطِحَانَ [ (1) ] مَا زِدْتُمْ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْنِي فِي صَدَاقِهَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا وَافَقَتْ عِنْدَنَا شَيْئًا أُعِينُك بِهِ، وَلَكِنّي قَدْ أَجَمَعْت أَنْ أَبَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا [فِي سَرِيّةٍ] ، فَهَلْ لَك أَنْ تَخْرُجَ فِيهَا؟
فَإِنّي أَرْجُو أَنْ يُغْنِمَك اللهُ مَهْرَ امْرَأَتِك. فَقُلْت: نَعَمْ. فَخَرَجْنَا فَكُنّا سِتّةَ عَشَرَ رَجُلًا بِأَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ أَمِيرُنَا، وَبَعَثَنَا إلَى غَطَفَان نَحْوَ نَجْدٍ فَقَالَ: سِيرُوا اللّيْلَ وَاكْمُنُوا النّهَارَ، وَشُنّوا الْغَارَةَ، وَلَا تَقْتُلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ.
فَخَرَجْنَا حَتّى جِئْنَا نَاحِيَةَ غَطَفَان، فَهَجَمْنَا عَلَى حَاضِرٍ مِنْهُمْ عَظِيمٍ. قَالَ: وَخَطَبَنَا أَبُو قَتَادَةَ وَأَوْصَانَا بِتَقْوَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَأَلّفَ بَيْنَ كُلّ رَجُلَيْنِ وَقَالَ: لَا يُفَارِقُ كُلّ رَجُلٍ زَمِيلَهُ حَتّى يُقْتَلَ أَوْ يَرْجِعَ إلَيّ فَيُخْبِرُنِي خَبَرَهُ، وَلَا يَأْتِنِي رَجُلٌ فَأَسْأَلُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ، لَا عِلْمَ لِي بِهِ! وَإِذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، وَإِذَا حَمَلْت فَاحْمِلُوا، وَلَا تُمْعِنُوا فِي الطّلَبِ. فَأَحَطْنَا بِالْحَاضِرِ فَسَمِعْت رَجُلًا يَصْرُخُ: يَا خَضِرَةَ! فَتَفَاءَلَتْ وَقُلْت: لَأُصِيبَنّ خَيْرًا وَلَأَجْمَعَنّ إلَيّ امْرَأَتِي! وَقَدْ أَتَيْنَاهُمْ لَيْلًا. قَالَ: فَجَرّدَ أَبُو قَتَادَةَ سَيْفَهُ وَجَرّدْنَا سُيُوفَنَا، وَكَبّرَ وَكَبّرْنَا مَعَهُ، فَشَدَدْنَا عَلَى الْحَاضِرِ فَقَاتَلَ رِجَالٌ، وَإِذَا بِرَجُلٍ طَوِيلٍ قَدْ جَرّدَ سَيْفَهُ صَلْتًا، وَهُوَ يَمْشِي الْقَهْقَرَى وَيَقُولُ: يَا مُسْلِمُ، هَلُمّ إلَى الْجَنّةِ! فَاتّبَعْته ثُمّ قَالَ: إنّ صَاحِبَكُمْ لَذُو مَكِيدَةٍ، وَإِنّ أَمْرَهُ هُوَ الْأَمْرُ. وَهُوَ يَقُولُ:
الْجَنّةَ! الْجَنّةَ! يَتَهَكّمُ بِنَا. فَعَرَفْت أَنّهُ مستقبل فخرجت فى أثره، فينادينى صَاحِبِي: لَا تَبْعُدْ، فَقَدْ نَهَانَا أَمِيرُنَا أَنْ نمعن فى الطلب! فأدركته فرميته على
__________
[ (1) ] بطحان: اسم وادي المدينة. (النهاية، ج 1، ص 83) .(2/778)
جُرَيْدَاءِ مَتْنِهِ [ (1) ] ، ثُمّ قَالَ: اُدْنُ يَا مُسْلِمُ إلَى الْجَنّةِ! فَرَمَيْته حَتّى قَتَلْته بِنَبْلِي، ثُمّ وَقَعَ مَيّتًا فَأَخَذْت سَيْفَهُ. وَجَعَلَ زَمِيلِي يُنَادِي: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنّي وَاَللهِ إنْ ذَهَبْت إلَى أَبِي قَتَادَةَ فَسَأَلَنِي عَنْك أَخْبَرْته. قَالَ: فَلَقِيته قَبْلَ أَبِي قَتَادَةَ فَقُلْت: أَسَأَلَ أَمِيرِي عَنّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ تَغَيّظَ عَلَيّ وَعَلَيْك.
وَأَخْبَرَنِي أَنّهُمْ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ- وَقَتَلُوا مَنْ أَشْرَفَ لَهُمْ- فَجِئْت أَبَا قَتَادَةَ فَلَامَنِي فَقُلْت: قَتَلْت رَجُلًا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِ كُلّهِ.
ثُمّ اسْتَقْنَا النّعَمَ، وَحَمَلْنَا النّسَاءَ، وَجُفُونُ السّيُوفِ مُعَلّقَةٌ بِالْأَقْتَابِ [ (2) ] .
فَأَصْبَحْت- وَبَعِيرِي مَقْطُورٌ [ (3) ]- بِامْرَأَةٍ كَأَنّهَا ظَبْيٌ، فَجَعَلَتْ تُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ خَلْفَهَا وَتَبْكِي، قُلْت: إلَى أَيّ شَيْءٍ تَنْظُرِينَ؟ قَالَتْ: أَنْظُرُ وَاَللهِ إلَى رَجُلٍ لَئِنْ كَانَ حَيّا لِيَسْتَنْقِذَنَا مِنْكُمْ. فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّهُ الّذِي قَتَلْته فَقُلْت: قَدْ وَاَللهِ قَتَلْته، وَهَذَا سَيْفُهُ مُعَلّقٌ بِالْقَتَبِ إلَى غِمْدِهِ، فَقَالَتْ: هَذَا وَاَللهِ غِمْدُ سيفه، فشمه [ (4) ] إن كنت صَادِقًا. قَالَ: فَشِمْته فَطَبَقَ [ (5) ] . قَالَ:
فَبَكَتْ وَيَئِسَتْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: فَقَدِمْنَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّعَمِ وَالشّاءِ.
فَحَدّثَنِي أَبُو مَوْدُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بن أبي حدرد [ (6) ] ، عن أبيه، قال: لَمّا رَجَعْت مِنْ غَزْوَةِ خَضِرَةَ وَقَدْ أَصَبْنَا فيئا، سهم كلّ رجل
__________
[ (1) ] أى وسطه، وهو موضع القفا المتجرد عن اللحم، تصغير الجرداء. (النهاية، ج 1، ص 154)
[ (2) ] الأقتاب: جمع قتب، وهو الإكاف الصغير على قدر سنام البعير. (القاموس المحيط، ج 1، ص 114) .
[ (3) ] قطرت البعير: طليته بالقطران. (الصحاح، ص 795) .
[ (4) ] شمت السيف: أغمدته. وشمته: سللته، وهو من الاضداد. (الصحاح، ص 1963) .
[ (5) ] الطبق: يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه. (مقاييس اللغة، ج 3، ص 439)
[ (6) ] فى الأصل: «عبد الله بن أبى جدرد» .(2/779)
اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، دَخَلْت بِزَوْجَتِي فَرَزَقَنِي اللهُ خَيْرًا.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: غَابُوا خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، وَجَاءُوا بِمِائَتِي بَعِيرٍ وَأَلْفِ شَاةٍ، وَسَبَوْا سَبْيًا كَثِيرًا. وَكَانَ الْخُمُسُ مَعْزُولًا، وَكَانَ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، يَعْدِلُ الْبَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ.
حَدّثَنِي ابْن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قَالَ: أَصَبْنَا فِي وَجْهِنَا أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فِيهِنّ فَتَاةٌ كَأَنّهَا ظَبْيٌ، مِنْ الْحَدَاثَةِ وَالْحَلَاوَةِ شَيْءٌ عَجَبٌ، وَأَطْفَالٌ مِنْ غِلْمَانٍ وَجِوَارٍ، فَاقْتَسَمُوا السّبْيَ وَصَارَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ الْوَضِيئَةُ لِأَبِي قَتَادَةَ. فَجَاءَ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَبَا قَتَادَةَ قَدْ أَصَابَ فِي وَجْهِهِ هَذَا جَارِيَةً وَضِيئَةً، وَقَدْ كُنْت وَعَدْتنِي جَارِيَةً مِنْ أَوّلِ فَيْءٍ يَفِيءُ اللهُ عَلَيْك. قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَبِي قَتَادَةَ فَقَالَ:
مَا جَارِيَةٌ صَارَتْ فِي سَهْمِك؟ قَالَ: جَارِيَةٌ مِنْ السّبْيِ هِيَ أَوْضَأُ ذَلِكَ السّبْيِ، أَخَذْتهَا لِنَفْسِي بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْنَا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ. قَالَ: هَبْهَا لِي.
فَقَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَهَا إلَى مَحْمِيَةَ بْنِ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ.
شَأْنُ غَزْوَةِ الْفَتْحِ
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، ومحمد بن يحيى بن سهل،(2/780)
وَابْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَنَجِيحٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفَتْحِ بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، فَكَتَبْت كُلّ مَا سَمِعْت مِنْهُمْ، قَالُوا: كَانَتْ خُزَاعَةُ فِي الْجَاهِلِيّةِ قَدْ أَصَابُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَخَذُوا مَالَهُ، فَمَرّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ عَلَى بَنِي الدّيلِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلُوهُ، فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، فَمَرّ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنُ رِزْنٍ- ذُؤَيْبٌ، وَسَلْمَى، وَكُلْثُومٌ- عَلَى خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَة عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. وَكَانَ قَوْمُ الْأَسْوَدِ يُؤَدّونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ دِيَتَيْنِ بِفَضْلِهِمْ فِي بَنِي بَكْرٍ، فَتَجَاوَزُوا وَكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، إلّا أَنّهُ قَدْ دَخَلَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فَأَمْسَكُوا، فَلَمّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ حُلَفَاءَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِفًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُ يَوْمئِذٍ خُزَاعَةُ بِكِتَابٍ عَبْدَ الْمُطّلِبِ فَقَرَأَهُ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ «بِاسْمِك اللهُمّ، هَذَا حِلْفُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ لِخُزَاعَةَ، إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ سَرَاتُهُمْ وَأَهْلُ الرّأْيِ، غَائِبُهُمْ مُقِرّ بِمَا قَضَى عَلَيْهِ شَاهِدُهُمْ. إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عُهُودَ اللهِ وَعُقُودَهُ، مَا لَا يَنْسَى [ (1) ] أَبَدًا، وَلَا يَأْتِي بِلَدّ [ (2) ] ، الْيَدُ واحدة والنصر واحد، ما أشرف ثَبِيرٌ، وَثَبَتَ حِرَاءٌ، وَمَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً [ (3) ] ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلّا
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لا تنسبني» . وما أثبتناه عن الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 345) .
[ (2) ] اللد: الخصومة الشديدة. (النهاية، ج 4، ص 58) .
[ (3) ] فى الأصل: «ما أسروه سر وثبت حرا وما تل بحر صونه» . والتصحيح من الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 345) . وثبير وحراء جبلان بمكة. (معجم البلدان، ج 2، ص 7، 239) .(2/781)
تَجَدّدًا أَبَدًا أَبَدًا، الدّهْرَ سَرْمَدًا» . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ:
مَا أَعْرِفُنِي بِحِلْفِكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَسْلَمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلْفِ! فَكُلّ حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً، وَلَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ. وَجَاءَتْهُ أَسْلَمُ وَهُوَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ [ (1) ] ،
جَاءَ بِهِمْ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ أَسْلَمُ وَهَذِهِ مَحَالّهَا، وَقَدْ هَاجَرَ إلَيْك مَنْ هَاجَرَ مِنْهَا وَبَقِيَ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي مَوَاشِيهِمْ وَمَعَاشِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ. وَدَعَا الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ لِأَسْلَمَ، لِمَنْ آمِنْ مِنْهُمْ بِاَللهِ، وَشَهِدَ أَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنّهُ آمَنَ بِأَمَانِ اللهِ، وَلَهُ ذِمّةُ اللهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ. وَإِنّ أَمَرْنَا وَأَمْرَكُمْ وَاحِدٌ عَلَى مَنْ دَهَمَنَا مِنْ النّاسِ بِظُلْمٍ، الْيَدُ وَاحِدَةٌ وَالنّصْرُ وَاحِدٌ، وَلِأَهْلِ بَادِيَتِهِمْ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ قَرَارِهِمْ، وَهُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كَانُوا» . وَكَتَبَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نِعْمَ الرّجُلُ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ لِقَوْمِهِ، عَظِيمُ الْبَرَكَةِ عَلَيْهِمْ، مَرَرْنَا بِهِ لَيْلَةً، مَرَرْنَا وَنَحْنُ مُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الرّجُلُ بُرَيْدَة لِقَوْمِهِ وَغَيْرِ قَوْمِهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إنّ خَيْرَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ مُدَافِعًا عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِنّ الْإِثْمَ لَا خَيْرَ [فِيهِ] .
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ مِحْجَنِ بْنِ وَهْبٍ [ (2) ] ، قَالَ:
كَانَ آخِرُ مَا كَانَ بَيْنَ خُزَاعَةَ وَبَيْنَ كِنَانَةَ أَنّ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ هَجَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَهُ غُلَامٌ مِنْ خُزَاعَةَ فوقع به فشجّه، فخرج
__________
[ (1) ] غدير الأشطاط: على ثلاثة أميال من عسفان مما يلي مكة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 352) .
[ (2) ] فى الأصل: «محجر بن وهب» .(2/782)
إلَى قَوْمِهِ فَأَرَاهُمْ شَجّتَهُ فَثَارَ الشّرّ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ، وَمَا تَطْلُبُ بَنُو بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ مِنْ دِمَائِهَا. فَلَمّا دَخَلَ شَعْبَانُ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ تَكَلّمَتْ بَنُو نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ- وَاعْتَزَلَتْ بَنُو مُدْلِجٍ فَلَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ- أَنْ يُعِينُوا بِالرّجَالِ وَالسّلَاحِ عَلَى عَدُوّهِمْ مِنْ خُزَاعَةَ، وَذَكَرُوهُمْ الْقَتْلَى الّذِينَ أَصَابَتْ خُزَاعَةَ لهم، وضربوهم بِأَرْحَامِهِمْ، وَأَخْبَرُوهُمْ بِدُخُولِهِمْ مَعَهُمْ فِي عَقْدِهِمْ وَعَهْدِهِمْ، وَذَهَابِ خُزَاعَةَ إلَى مُحَمّدٍ فِي عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ، فَوَجَدُوا الْقَوْمَ إلَى ذَلِكَ سِرَاعًا إلّا أَبَا سُفْيَانَ، لَمْ يُشَاوِرْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَيُقَالُ: إنّهُمْ ذَاكِرُوهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ. وَجَعَلَتْ بَنُو نُفَاثَةَ وَبَكْرٌ يَقُولُونَ: إنّمَا نَحْنُ! فَأَعَانُوهُمْ بِالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالرّجَالِ وَدَسّوا ذَلِكَ سِرّا لِئَلّا تَحْذَرُ خُزَاعَةُ، [فَهُمْ] آمِنُونَ غَارّونَ بِحَالِ الْمُوَادَعَةِ وَمَا حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ. ثُمّ اتّعَدَتْ قُرَيْشٌ الْوَتِيرَ مَوْضِعًا بِمَنْ مَعَهَا، فَوَافَوْا لِلْمِيعَادِ، فِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ كِبَارِهِمْ مُتَنَكّرُونَ مُنْتَقِبُونَ، صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَأَجْلَبُوا مَعَهُمْ أَرِقّاءَهُمْ، ورأس بنى بكر نوفل بن معاوية الدّيلىّ، فَبَيّتُوا خُزَاعَةُ لَيْلًا وَهُمْ غَارّونَ آمِنُونَ مِنْ عَدُوّهِمْ، وَلَوْ كَانُوا يَخَافُونَ هَذَا لَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ وَعُدّةٍ، فَلَمْ يَزَالُوا يَقْتُلُونَهُمْ حَتّى انْتَهَوْا بِهِمْ إلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَقَالُوا: يَا نَوْفَلُ، إلَهَك، إلَهَك! قَدْ دَخَلْت الْحَرَمَ! قَالَ: لَا إلَهَ لِي الْيَوْمَ، يَا بَنِي بَكْرٍ! قَدْ كُنْتُمْ تَسْرِقُونَ الْحَاجّ، أَفَلَا تُدْرِكُونَ ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ؟ لَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ يَأْتِي امْرَأَتَهُ حَتّى يَسْتَأْذِنّي، لَا يُؤَخّرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْيَوْمَ بَعْدَ يَوْمِهِ هَذَا مِنْ ثَأْرِهِ.
فَلَمّا انْتَهَتْ خُزَاعَةُ إلَى الْحَرَمِ، دَخَلَتْ دَارَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَدَارَ رَافِعٍ الْخُزاعِيّيْنِ وَانْتَهَوْا بِهِمْ فِي عَمَايَةَ الصّبْحَ، وَدَخَلَتْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ فِي مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ(2/783)
يَظُنّونَ أَلَا يَعْرِفُوا، وَأَلّا يَبْلُغَ هَذَا مُحَمّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، قَالَ:
قَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَحَضَرُوا خُزَاعَةَ فِي دَارِ رَافِعٍ وَبُدَيْلٍ، وَأَصْبَحَتْ خُزَاعَة مُقَتّلِينَ عَلَى بَابِ بُدَيْلٍ- وَرَافِعٌ مَوْلًى لِخُزَاعَةَ. وَتَنَحّتْ [ (1) ] قُرَيْشٌ وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَعَرَفُوا أَنّ هَذَا الّذِي صَنَعُوا نَقْضٌ لِلْمُدّةِ وَالْعَهْدِ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: وَجَاءَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَإِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، فَلَامُوهُمْ فِيمَا صَنَعُوا مِنْ عَوْنِهِمْ بَنِي بَكْرٍ، وَأَنّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ مُدّةً، وَهَذَا نَقْضٌ لَهَا. وَانْصَرَفَ ذَلِكَ الْقَوْمُ وَدَسّوا إلَى نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ الّذِي وَلّى كَلَامَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت الّذِي صَنَعْنَا بِك وَأَصْحَابِك وَمَا قَتَلْت مِنْ الْقَوْمِ، وَأَنْتَ قَدْ حَضَرْتهمْ تُرِيدُ قَتْلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَهَذَا مَا لَا نُطَاوِعُك عَلَيْهِ فَاتْرُكْهُمْ لَنَا. قَالَ: نَعَمْ. فَتَرَكَهُمْ فَخَرَجُوا. فَقَالَ ابْنُ قَيْسٍ الرّقَيّات يَذْكُرُ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو:
خَالَطَ [ (2) ] أَخْوَالَهُ خُزَاعَةَ لَمّا ... كَثَرَتْهُمْ [ (3) ] بِمَكّةَ الْأَحْيَاءُ
وَقَالَ فِي ذَلِكَ ابْنُ لُعْطٍ الدّيلِيّ [ (3) ] :
أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى [ (4) ] الْعَشِيرَةِ أَنّنَا ... رددنا بنى كعب بأفوق [ (5) ] ناصل
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ونخبت» ، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات.
[ (2) ] فى ديوان ابن قيس الرقيات: «حاط» . (ص 92) .
[ (3) ] فى الأصل: «كثر بهم» . والمثبت من ديوان ابن قيس الرقيات. (ص 93) .
[ (4) ] قصوى: أى أبعد. (شرح أبى ذر، ص 365) .
[ (5) ] تقول العرب: رددته بأفوق ناصل إذا رددته خائبا: والأفوق: السهم الذي انكسر فوقه وهو طرفه الذي يلي الوتر. والناصل: الذي زال نصله أى حديده الذي يكون فيه. (شرح أبى ذر، ص 365) .(2/784)
حَبَسْنَاهُمْ فِي دَارَة الْعَبْدِ رَافِعٍ ... وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ
حَبَسْنَاهُمْ حَتّى إذَا طَالَ يَوْمُهُمْ ... نَفَخْنَا لَهُمْ مِنْ كُلّ شِعْبٍ بِوَابِلِ [ (1) ]
ذَبَحْنَاهُمْ ذَبَحَ التّيُوسِ كَأَنّنَا ... أُسُودٌ تَبَارَى فِيهِمْ بِالْقَوَاصِلِ [ (2) ]
قَالَ: وَمَشَى الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَا: هَذَا أَمْرٌ لَا بُدّ لَهُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ، وَاَللهِ لَئِنْ لَمْ يُصْلَحْ هَذَا الْأَمْرُ لَا يَرُوعُكُمْ إلّا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ رَأَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ رُؤْيَا كَرِهَتْهَا وَأَفْظَعَتْهَا وَخِفْت مِنْ شَرّهَا. فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا هِيَ؟ قَالَ:
رَأَتْ دَمًا أَقْبَلَ مِنْ الْحَجُونِ يَسِيلُ حَتّى وَقَفَ بِالْخَنْدَمَةِ [ (3) ] مَلِيّا، ثُمّ كَانَ ذَلِكَ الدّمُ لَمْ يَكُنْ. فَكَرِهَ الْقَوْمُ هَذَا، وَقَالُوا: هَذَا شَرّ.
فَحَدّثَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَى مِنْ الشّرّ قَالَ: هَذَا وَاَللهِ أَمْرٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ، لَا حُمِلَ هَذَا إلّا عَلَيّ، وَلَا وَاَللهِ مَا شُووِرْت وَلَا هُوِيت حَيْثُ بَلَغَنِي! وَاَللهِ لَيَغْزُونَا مُحَمّدٌ إنْ صَدَقَنِي ظَنّي وَهُوَ صَادِقِي، وَمَا لِي بُدّ أَنْ آتِيَ مُحَمّدًا فَأُكَلّمَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْهُدْنَةِ وَيُجَدّدُ الْعَهْدَ قَبْل أَنْ يَبْلُغَهُ هَذَا الْأَمْرُ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ وَاَللهِ أَصَبْت الرّأْيَ! وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا صَنَعَتْ مِنْ عَوْنِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ، وَعَرَفُوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ [ (4) ] يَدْعُهُمْ حَتّى يَغْزُوَهُمْ. فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ، وَخَرَجَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ عَلَى رَاحِلَتَيْنِ، فَأَسْرَعَ السّيْرَ وَهُوَ يَرَى أَنّهُ أوّل
__________
[ (1) ] الوابل: المطر الشديد، وأراد به هنا دفعة الخيل. (شرح أبى ذر، ص 365) .
[ (2) ] يجوز أن يريد هنا السيوف. وسيف قاصل وقصال، أى قاطع. (أساس البلاغة، ص 772) .
[ (3) ] الخندمة: جبل بمكة. (معجم ما استعجم، ص 319) .
[ (4) ] فى الأصل: «لم يدعهم» .(2/785)
مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ سَمِعْنَا وَجْهًا مِنْ أَمْرِ خُزَاعَةَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ النّاسَ قَبْلَنَا وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ، وَمُخْرِجُهُ الّذِي رُدّ إلَيْهِ ثِقَةٌ مُقْنِعٌ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهًا! إلّا أَنّ النّاسَ قَبْلَنَا يَنْفُونَهُ وَيَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ، وَذَكَرْته لَابْنِ جَعْفَرٍ وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ وَلِأَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ لَهُ عِلْمَ بِالسّرِيّةِ فَكُلّهُمْ يُنْكِرُهُ وَلَا يَأْتِي لَهُ بِوَجْهٍ.
وَكَانَ أَوّلَ الْحَدِيثِ،
أَنّهُ حَدّثَنِي الثّقَةُ عِنْدِي، أَنّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، يُخْبِرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنّهُ لَمّا قَدِمَ رَكِبَ خُزَاعَةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ تُهْمَتُكُمْ وَظِنّتُكُمْ؟ قَالُوا: بَنُو بَكْرٍ. قَالَ: كُلّهَا؟ قَالُوا: لَا، وَلَكِنْ تُهْمَتُنَا بَنُو نُفَاثَةَ قَصْرَةً، وَرَأْسُ الْقَوْمِ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النّفَاثِيّ. قَالَ: هَذَا بَطْنٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَأَنَا بَاعِثٌ إلَى أَهْلِ مَكّةَ فَسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَمُخَيّرُهُمْ فِي خِصَالٍ.
فَبَعَثَ إلَيْهِمْ ضَمْرَةَ يُخَيّرُهُمْ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، بَيْنَ أَنْ يَدُوا خُزَاعَةَ أَوْ يبرأوا [مِنْ] حَلِفِ نُفَاثَةَ، أَوْ يَنْبِذُ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَأَتَاهُمْ ضَمْرَةُ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَبّرَهُمْ بِاَلّذِي أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخَيّرُهُمْ بَيْنَ [أن] يدوا قتلى خزاعة، أو يبرأوا [مِنْ] حِلْفِ نُفَاثَةَ، أَوْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. فَقَالَ قُرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْأَعْجَمِيّ:
أَمّا أَنْ نَدِيَ قَتْلَى خُزَاعَةَ، فَإِنّ نُفَاثَةَ قَوْمٌ فِيهِمْ عُرَامٌ [ (1) ] فَلَا نَدِيهِمْ حَتّى لَا يَبْقَى لَنَا سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ [ (2) ] ، وَأَمّا أَنْ نَبْرَأَ مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ فَإِنّهُ لَيْسَ قَبِيلَةً فى العرب تحجّ
__________
[ (1) ] العرام: الشدة والقوة والشراسة. (النهاية، ج 3، ص 89) .
[ (2) ] فى الأصل: «لا يبقى لنا سيد ولا لبد» . والسبد: الشعر، واللبد: الصوف. أى لا يبقى لنا شيء. (الصحاح ص 530) .(2/786)
هَذَا الْبَيْتَ أَشَدّ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْبَيْتِ مِنْ نُفَاثَةَ، وَهُمْ حَلْفَاؤُنَا فَلَا نَبْرَأُ مِنْ حِلْفِهِمْ، مَا بَقِيَ لَنَا سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ [ (1) ] ، وَلَكِنّا نَنْبِذُ إلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ. فَرَجَعَ ضَمْرَةُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك مِنْ قَوْلِهِمْ، فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَدّدَ الْعَهْدَ، وَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى رَدّ الرّسُولِ بِمَا رَدّوهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَكُلّ أَصْحَابِنَا أَنْكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ:
فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْقَابِ [ (2) ] وَعَمّى عَلَيْهِمْ الْأَخْبَارَ حَتّى دَخَلَهَا فُجَاءَةً- حَتّى ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِحِزَامِ بْنِ هِشَامٍ الْكَعْبِيّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيّعْ الّذِي حَدّثَك شَيْئًا، وَلَكِنّ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ لَك- نَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى عَوْنِ نُفَاثَةَ وَقَالُوا: مُحَمّدٌ غَازِينَا! قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ- وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَوْمئِذٍ كَافِرٌ مُرْتَدّ- إنّ عِنْدِي رَأْيًا، أَنّ مُحَمّدًا لَيْسَ يَغْزُوكُمْ حَتّى يُعْذِرُ إلَيْكُمْ وَيُخَيّرُكُمْ فِي خِصَالٍ كُلّهَا أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ مِنْ غَزْوِهِ. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: يرسل أن ادوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلا، أو تبرأوا مِنْ حِلْفِ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَنَا- بَنُو نُفَاثَةَ- أَوْ نَنْبِذُ إلَيْكُمْ الْحَرْبَ [ (3) ] ، فَمَا عِنْدَكُمْ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ؟ قَالَ الْقَوْمُ: آخِرُ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي السّرْحِ! وَقَدْ كَانَ بِهِ عَالِمًا. فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا خُصْلَةٌ أَيْسَرَ عَلَيْنَا مِنْ التّبَرّؤِ مِنْ حِلْفِ بَنِي نفاثة. قال شيبة ابن عُثْمَانَ الْعَبْدَرِيّ: حَفِظَتْ أَخْوَالُك وَغَضِبَتْ لَهُمْ! قَالَ سُهَيْلٌ: وَأَبُو قُرَيْشٍ لَمْ تَلِدْهُ خُزَاعَةُ. قَالَ شَيْبَةُ: لَا، وَلَكِنّا نَدِي قَتْلَى خُزَاعَةَ، فَهُوَ أهون
__________
[ (1) ] فى الأصل: «سيدا ولا لبدا» .
[ (2) ] الأنقاب: طرق المدينة. (النهاية، ج 4، ص 218) .
[ (3) ] فى الزرقانى عن الواقدي: «أو ننبذ إليكم على سواء» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 346) .(2/787)
عَلَيْنَا. فَقَالَ قُرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو: لَا وَاَللهِ، لَا يُودُونَ [ (1) ] وَلَا نَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ، ابْنُ الْغَوْثِ [ (2) ] بِنَا وَأَعْمِدَةٌ لِشِدّتِنَا، وَلَكِنْ نَنْبِذُ إلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ! وَمَا الرّأْيُ لَنَا إلّا جَحْدُ هَذَا الْأَمْرِ، أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ دَخَلَتْ فِي نَقْضِ عَهْدٍ وَقَطْعِ مُدّةٍ، فَإِنْ قَطَعَهُ قَوْمٌ بِغَيْرِ هَوًى مِنّا وَلَا مَشُورَةٍ فَمَا عَلَيْنَا. قَالُوا: هَذَا الرّأْيُ، لَا رَأْيَ غَيْرُهُ، الْجَحْدُ لِكُلّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! [قَالَ] : وَإِنّي لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَوَامِرِ فِيهِ، وَأَنَا فِي ذَلِكَ صَادِقٌ، لَقَدْ كَرِهْت مَا صَنَعْتُمْ وَعَرَفْت أَنْ سَيَكُونُ لَهُ يَوْمُ عَمَاسٍ [ (3) ] . قَالَتْ قُرَيْشٌ لِأَبِي سُفْيَانَ: وَاخْرُجْ أَنْتَ بِذَلِكَ! حَتّى خَرَجَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت حَدِيثَ حِزَامٍ لَابْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَقَالُوا: هَذَا وَجْهُهُ! وَكَتَبَهُ مِنّي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: قَدْ حِرْت فِي أَمْرِ خُزَاعَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ:
فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَرَى قُرَيْشًا تَجْتَرِئُ [ (4) ] عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَقَدْ أَفْنَاهُمْ السّيْفُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: خَيْرٌ أَوْ شَرّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: خَيْر!
فَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ الْكَعْبِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَخَرَجَ عمرو
__________
[ (1) ] فى الزرقانى عن الواقدي: «لا ندى» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 346) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل.
[ (3) ] يوم عماس: أى مظلم. (الصحاح، ص 949) .
[ (4) ] فى الأصل: «أن تجترى» .(2/788)
ابن سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنْ خُزَاعَة يَسْتَنْصِرُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُونَهُ بِاَلّذِي أَصَابَهُمْ وَمَا ظَاهَرَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ- فَأَعَانُوهُمْ [ (1) ] بِالرّجَالِ وَالسّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَحَضَرَ ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِمْ مُتَنَكّرِينَ، فَقَتَلُوا بِأَيْدِيهِمْ- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، وَرَأْسُ خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ، وَقَامَ يُنْشِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَعَ مِنْهُ فَقَالَ:
اللهُمّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا [ (2) ] وَأَبِيك الْأَتْلَدَا [ (3) ]
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ... ثُمّتْ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُؤَكّدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللهُ نَصْرًا أَعْتَدَا [ (4) ] ... وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرّدَا ... فِي فَيْلَقٍ [ (5) ] كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
قُرْمٌ [ (6) ] لَقُرْمٌ مِنْ قُرُومٍ أَصْيَدَا ... هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدَا [ (7) ]
نَتْلُو الْقُرْآنَ رُكّعًا وَسُجّدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
فَلَمّا فَرَغَ الرّكْبُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَنَسَ بْنَ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ قَدْ هَجَاك. فَهَدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ، فبلغ أنس بن زنيم، فقدم
__________
[ (1) ] أى أعانت قريش بنى نفاثة على خزاعة. انظر ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 97) .
[ (2) ] فى الأصل: «حلفا نيبا» ، وما أثبتناه عن ابن إسحق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 36) .
[ (3) ] الأتلد: القديم. (شرح أبى ذر، ص 367) .
[ (4) ] فى الأصل: «مويدا» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 36) .
وأعتد: حاضر، من المشي العتيد وهو الحاضر. (شرح أبى ذر، ص 367) .
[ (5) ] الفيلق: الجيش. (الصحاح، ص 1545) .
[ (6) ] القرم: السيد. (الصحاح، ص 2009) .
[ (7) ] الهجد: النيام، وقد يكون الهجد أيضا المستيقظين، وهو من الأضداد. (شرح أبى ذر، ص 367) .(2/789)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَذِرًا مِمّا بَلَغَهُ، فَقَالَ:
أَأَنْت الّذِي تُهْدَى مَعَدّ بِأَمْرِهِ ... بَلْ اللهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
فَمَا حَمَلْت مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدٍ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَوْسَعَ نَائِلًا ... إذَا رَاحَ يَهْتَزّ اهْتِزَازَ الْمُهَنّدِ [ (1) ]
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ [ (2) ] قَبْلَ اجْتِذَابِهِ ... وَأَعْطَى بِرَأْسِ السّابِقِ [ (3) ] الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخَذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللهِ أَنّك قَادِرٌ ... عَلَى كُلّ سَكْنٍ [ (4) ] مِنْ تِهَامٍ وَمُنْجِدِ
وَنُبّي رَسُولَ اللهِ أَنّي هَجَوْته ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ إذْن يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت يَا وَيْحَ فِتْيَةٍ ... أُصِيبُوا بِنَحِسِ يَوْمَ طَلْقٍ [ (5) ] وَأَسْعَدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءً فَعَزّتْ عَبْرَتِي وَتَبَلّدِي [ (6) ]
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدِ
عَلَى أَنّ سَلْمَى لَيْسَ فِيهِمْ كَمِثْلِهِ ... وَإِخْوَتِهِ أَوْ هَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ
وَإِنّي لاَ عِرْضًا خَرَقْتُ وَلاَ دَمًا ... هَرَقْتُ فَفَكّرْ عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدِ
أَنْشَدَنِيهَا حِزَامٌ.
وَبَلَغَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصِيدَتُهُ وَاعْتِذَارُهُ، وَكَلّمَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْتَ أَوْلَى النّاسِ بِالْعَفْوِ، وَمَنْ مِنّا لَمْ يُعَادِك وَيُؤْذِك، وَنَحْنُ فِي جَاهِلِيّةٍ لا ندري
__________
[ (1) ] المهند: السيف المطبوع من حديد الهند. (الصحاح، ص 554) .
[ (2) ] الخال: ضرب من برود اليمن. (شرح أبى ذر، ص 376) .
[ (3) ] السابق: الفرس. والمتجرد: الذي يتجرد من الخيل فيسبقها. (شرح أبى ذر، ص 376) .
[ (4) ] السكن: أهل الدار. (الصحاح، ص 2136) .
[ (5) ] الطلق: اليوم السعيد، يقال يوم طلق إذا لم يكن فيه حر ولا برد ولا شيء يؤذى. (شرح أبى ذر، ص 376) .
[ (6) ] التبلد: التحير. (شرح أبى ذر، ص 376) .(2/790)
مَا نَأْخُذُ وَمَا نَدْعُ حَتّى هَدَانَا اللهُ بِك مِنْ الْهَلَكَةِ، وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ الرّكْبُ وَكَثُرُوا عِنْدَك. فَقَالَ: دَعْ الرّكْبَ، فَإِنّا لَمْ نَجِدْ بِتِهَامَةَ أَحَدًا مِنْ ذِي رَحِمٍ وَلَا بِعِيدِ الرّحِمِ كَانَ أَبَرّ بِنَا مِنْ خُزَاعَةَ. فَأَسْكَتَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَلَمّا سَكَتَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عَفَوْت عَنْهُ. قَالَ نَوْفَلٌ:
فِدَاك أَبِي وَأُمّي!
وحدّثنى عبد الحميد بن جعفر عن عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُرّ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَصَرْت إنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي!
وَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَكَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ يَقُولُ: «جَدّدْ الْعَهْدَ وَزِدْ فِي الْهُدْنَةَ» وَهُوَ رَاجِعٌ بِسَخَطِهِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ: ارْجِعُوا وَتَفَرّقُوا فِي الْأَوْدِيَةِ! وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَدَخَلَ يَغْتَسِلُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَسْمَعَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَيْهِ:
لَا نَصَرَتْ إنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ! وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكّةَ وَهُوَ مُتَخَوّفٌ الّذِي صَنَعَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ وَأَصْحَابُهُ أَنْ يَكُونُوا جَاءُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الْقَوْمُ لَمّا أَتَوْا الْأَبْوَاءَ رَاجِعِينَ تَفَرّقُوا، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى السّاحِلِ تُعَارِضُ الطّرِيقَ، وَلَزِمَ بُدَيْلُ بْنُ أُمّ أَصْرَمَ فِي نَفِيرٍ مَعَهُ الطّرِيقَ، فَلَقِيَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَشْفَقَ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَكُونَ بُدَيْلٌ جَاءَ مُحَمّدًا، بَلْ كَانَ الْيَقِينُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: أَخْبِرُونِي عَنْ يَثْرِبَ، مُنْذُ كم(2/791)
عَهْدُكُمْ بِهَا؟ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِهَا. فَعَرَفَ أَنّهُمْ كَتَمُوهُ، فَقَالَ: أَمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمْرِ يَثْرِبَ شَيْءٌ تُطْعِمُونَاهُ؟ فَإِنّ لِتَمْرِ يَثْرِبَ فَضْلًا عَلَى تَمْرِ تِهَامَةَ. قَالُوا: لَا. قَالَ: ثُمّ أَبَتْ نَفْسُهُ أَنْ تُقِرّهُ [ (1) ] حَتّى قَالَ: يَا بُدَيْلُ، هَلْ جِئْت مُحَمّدًا؟ قَالَ: لَا! مَا فَعَلْت، وَلَكِنّي سِرْت فِي بِلَادِ كَعْبٍ وخزاعة مِنْ هَذَا السّاحِلِ فِي قَتِيلٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَأَصْلَحْت بَيْنَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ:
إنّك وَاَللهِ- مَا عَلِمْت- بَرّ وَاصِلٌ. ثُمّ قَايَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى رَاحَ بُدَيْلٌ وَأَصْحَابُهُ، ثُمّ جَاءَ مَنْزِلَهُمْ فَفَتّ أَبْعَارَ أَبَاعِرِهِمْ فَوَجَدَ فِيهَا نَوًى، وَوَجَدَ [ (2) ] فِي مَنْزِلِهِمْ نَوًى مِنْ تَمْرِ عَجْوَةٍ كَأَنّهَا أَلْسِنَةُ الطّيْرِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
أَحْلِفُ بِاَللهِ لَقَدْ جَاءَ الْقَوْمُ مُحَمّدًا! وَكَانَ الْقَوْمُ لَمّا كَانَتْ الْوَقْعَةُ خَرَجُوا مِنْ صُبْحِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَسَارُوا إلَى حَيْثُ لَقِيَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ ثَلَاثًا.
وَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ قَدْ حَبَسَتْ خُزَاعَةَ فِي دَارِ بُدَيْلٍ وَرَافِعٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ لَمْ يُكَلّمُوا فِيهِمْ، وَائْتَمَرَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَخْرُجَ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ ثُمّ خَرَجَ، فَهَذَا خَمْسٌ بَعْدَ مَقْتَلِ خُزَاعَةَ. وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّي كُنْت غَائِبًا فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَاشْدُدْ الْعَهْدَ وَزِدْنَا فِي الْمُدّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَدَثٌ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَحْنُ عَلَى مُدّتِنَا وَصُلْحِنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَا نُغِيرُ وَلَا نُبَدّلُ.
ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حبيبة، فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ دُونَهُ، فَقَالَ: أَرَغِبْت بِهَذَا الْفِرَاشِ عَنّي أَوْ بِي عَنْهُ؟ قالت:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يقرة» .
[ (2) ] فى الأصل: «ووجدوا» .(2/792)
بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ امْرُؤٌ نَجَسٌ مُشْرِكٌ! قَالَ: يَا بُنَيّةُ، لَقَدْ أَصَابَك بِعِلْمِك شَرّ! قَالَتْ: هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ يَا أَبَت سَيّدُ قُرَيْشٍ وَكَبِيرُهَا، كَيْفَ يَسْقُطُ عَنْك الدّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ تَعْبُدُ حَجَرًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ؟ قَالَ: يَا عَجَبَاه، وَهَذَا مِنْك أَيْضًا؟
أَأَتْرُكُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَائِي وَأَتّبِعُ دِينَ مُحَمّدٍ؟ ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهَا فَلَقِيَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَلّمَهُ وَقَالَ: تُكَلّمُ مُحَمّدًا وَتُجِيرُ أَنْتَ بَيْنَ النّاسِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم لقى عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَلّمَهُ بِمِثْلِ مَا كَلّمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ:
وَاَللهِ، لَوْ وَجَدْت الذّرّ [ (1) ] تُقَاتِلُكُمْ لَأَعَنْتهَا عَلَيْكُمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: جُزِيَتْ مِنْ ذِي رَحِمٍ شَرّا. ثُمّ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ:
إنّهُ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ أَقْرَبُ بِي رَحِمًا مِنْك، فَزِدْ فِي الْهُدْنَةِ وَجَدّدْ الْعَهْدَ، فَإِنّ صَاحِبَك لَنْ [ (2) ] يَرُدّهُ عَلَيْك أَبَدًا، وَاَللهِ مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطّ أَكْثَرَ إكْرَامًا لِصَاحِبٍ مِنْ مُحَمّدٍ لِأَصْحَابِهِ! قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ على فَاطِمَةُ بِنْتُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلّمَهَا فَقَالَ: أَجِيرِي بَيْنَ النّاسِ! فَقَالَتْ:
إنّمَا أَنَا امْرَأَةٌ. قَالَ: إنّ جِوَارَك جَائِزٌ، قَدْ أَجَارَتْ أُخْتُك أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ. قَالَتْ فَاطِمَةُ: ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَبَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مُرِي أَحَدَ بَنِيك يُجِيرُ بَيْنَ الناس!
__________
[ (1) ] الذر: النمل الأحمر الصغير. (النهاية، ج 2، ص 44) .
[ (2) ] فى الأصل: «لم يرده» .(2/793)
قَالَتْ: إنّهُمَا صَبِيَانِ، وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا يُجِيرُ. فَلَمّا أَبَت عَلَيْهِ أَتَى عَلِيّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَجِرْ بَيْنَ النّاسِ وَكَلّمْ مُحَمّدًا يُزِيدُ فِي الْمُدّةِ! قَالَ علي وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ! إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَزَمَ أَلَا يفعل، وليس أحد يستطيع أن نكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شَيْءٍ يَكْرَهُهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا الرّأْيُ؟ يَسّرْ لِي أَمْرِي [ (1) ] ، فَإِنّهُ قَدْ ضَاقَ عَلَيّ، فَمَرّ لِي بِأَمْرٍ تَرَى أَنّهُ نَافِعِي! فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَا أَجِدُ لَك شَيْئًا [أَمْثَلَ] مِنْ أَنْ تَقُومَ فَتُجِيرُ بَيْنَ النّاسِ، فَإِنّك سَيّدُ كِنَانَةَ. قَالَ:
تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّي شَيْئًا؟ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا أَظُنّ ذَلِكَ وَاَللهِ، وَلَكِنّي لَا أَجِدُ لَك غَيْرَهُ. فَقَامَ بَيْنَ ظَهْرَيْ النّاسِ فَصَاحَ: أَلَا أَنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ، وَلَا أَظُنّ مُحَمّدًا يَخْفِرُنِي! ثُمّ دَخَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَا أَظُنّ أَنْ تَرُدّ جِوَارِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ!
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ، قَدْ عَرَفْت الّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَك، وَأَنّي قَدْ كُنْت لَك فِي حَرَمِنَا جَارًا، وَكُنْت لِي بِيَثْرِبَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ سَيّدُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ [ (2) ] ، فأجر بين الناس ورد فِي الْمُدّةِ.
فَقَالَ سَعْدٌ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى أَنّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ تَقُولُ ذلك يا أبا سفيان!
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يسرى بأمري» .
[ (2) ] البحرة: البلدة (القاموس المحيط، ج 1، ص 368) .(2/794)
يُقَالُ: لَمّا صَاحَ لَمْ يَقْرَبْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَانْطَلَقَ إلَى مَكّةَ، وَكَانَ قَدْ حُبِسَ وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اتّهَمَتْهُ حِينَ أَبْطَأَ أَشَدّ التّهْمَةِ وَقَالُوا: وَاَللهِ إنّا نَرَاهُ قَدْ صَبَأَ، وَاتّبَعَ مُحَمّدًا سِرّا وَكَتَمَ إسْلَامَهُ. فَلَمّا دَخَلَ عَلَى هِنْدٍ لَيْلًا قَالَتْ: لَقَدْ حُبِسْت حَتّى اتّهَمَك قَوْمُك، فَإِنْ كُنْت مَعَ طُولِ الْإِقَامَةِ جِئْتهمْ بِنُجْحٍ فَأَنْتَ الرّجُلُ! ثُمّ دَنَا مِنْهَا فَجَلَسَ مَجْلِسَ الرّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: مَا صَنَعْت؟ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ إلّا مَا قَالَ لِي عَلِيّ. فَضَرَبَتْ بِرِجْلَيْهَا فِي صَدْرِهِ، وَقَالَتْ: قُبّحْت مِنْ رَسُولِ قَوْمٍ! حَدّثَنِي عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: فلما أصبح خلق رَأْسَهُ عِنْدَ الصّنَمَيْنِ، إِسَافَ وَنَائِلَةَ، وَذَبَحَ لَهُمَا، وَجَعَلَ يَمْسَحُ بِالدّمِ رُءُوسَهُمَا، وَيَقُولُ: لَا أُفَارِقُ عِبَادَتَكُمَا حَتّى أَمُوتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِي! أَبْرَأُ لِقُرَيْشٍ مِمّا اتّهَمُوهُ.
وَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَقَالَتْ لَه قُرَيْشٌ: مَا وَرَاءَك؟
هَلْ جِئْتنَا بِكِتَابٍ مِنْ مُحَمّدٍ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي مُدّةٍ؟ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَغْزُونَا! فَقَالَ:
وَاَللهِ لَقَدْ أَبَى عَلَيّ، وَلَقَدْ كَلّمْت عِلْيَةَ أَصْحَابِهِ فَمَا قَدَرْت عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمْ، إلّا أَنّهُمْ يَرْمُونَنِي بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، إلّا أَنّ عَلِيّا قَدْ قَالَ لَمّا ضَاقَتْ بِي الْأُمُورُ:
أَنْتَ سَيّدُ كِنَانَةَ، فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ! فَنَادَيْت بِالْجِوَارِ ثُمّ دَخَلْت عَلَى مُحَمّدٍ فَقُلْت: إنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ، وَمَا أَظُنّ أَنْ تَرُدّ جِوَارِي. فَقَالَ مُحَمّدٌ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! لَمْ يَزِدْنِي عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: مَا زَادَ عَلَى أَنْ تَلْعَبَ بِك تَلَعّبًا! قَالَ: وَاَللهِ مَا وَجَدْت غَيْرَ ذَلِكَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ(2/795)
مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا وَلّى أَبُو سُفْيَانَ رَاجِعًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: جَهّزِينَا وَأَخْفِي أَمْرَك! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ خُذْ عَلَى قُرَيْشٍ الْأَخْبَارَ وَالْعُيُونَ حَتّى نَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً. وَيُقَالُ قَالَ: اللهُمّ خُذْ عَلَى قُرَيْشٍ أَبْصَارَهُمْ فَلَا يَرَوْنِي إلّا بَغْتَةً، وَلَا يَسْمَعُونَ بِي إلّا فَجْأَة.
قَالُوا: وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْقَابِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَطُوفُ عَلَى الْأَنْقَابِ قَيّمًا بِهِمْ فَيَقُولُ: لَا تَدْعُوا أَحَدًا يَمُرّ بِكُمْ تُنْكِرُونَهُ إلّا رَدَدْتُمُوهُ- وَكَانَتْ الْأَنْقَابُ مُسْلِمَةً- إلّا مَنْ سَلَكَ إلَى مَكّةَ فَإِنّهُ يَتَحَفّظُ بِهِ وَيَسْأَلُ عَنْهُ، أَوْ نَاحِيَةِ مَكّةَ.
قَالُوا: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تُجَهّزُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْمَلُ قَمْحًا سَوِيقًا وَدَقِيقًا وَتَمْرًا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْر فَقَالَ:
يَا عَائِشَةُ، أَهَمّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَزْوٍ؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِي.
قَالَ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ هَمّ بِسَفَرٍ فَآذِنِينَا نَتَهَيّأْ لَهُ. قَالَتْ: مَا أَدْرِي، لَعَلّهُ يُرِيدُ بَنِي سُلَيْمٍ، لَعَلّهُ يُرِيدُ ثَقِيفًا، لَعَلّهُ يُرِيدُ هَوَازِنَ! فَاسْتَعْجَمَتْ عَلَيْهِ حَتّى دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْت سَفَرًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ. قَالَ: أَفَأَتَجَهّزُ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَيْنَ تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قُرَيْشًا، وَأَخْفِ ذَلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! وَأَمَرَ رسول الله [بالجهاز] ، قال: أو ليس بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدّةٌ؟ قَالَ: إنّهُمْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، فَأَنَا غَازِيهِمْ. وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ:
اطْوِ مَا ذَكَرْت لَك!
فَظَانّ يَظُنّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الشّامَ، وَظَانّ يَظُنّ ثَقِيفًا، وَظَانّ يَظُنّ هَوَازِنَ. وَبَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيّ فِي ثَمَانِيّةِ نَفَرٍ إلَى بَطْنِ إِضَمَ [ (1) ] لِيَظُنّ ظَانّ أَنّ رَسُولَ اللهِ
__________
[ (1) ] إضم: ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة. (معجم البلدان، ج 1، ص 281) .(2/796)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجّهَ إلَى تِلْكَ النّاحِيَةِ، وَلِأَنْ تَذْهَبَ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَطْنِ إِضَمَ، أَمِيرُنَا أَبُو قَتَادَةَ فِي تِلْكَ السّرِيّةِ وَفِيهَا مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ اللّيْثِيّ وَأَنَا فِيهِمْ، فَبَيْنَا نَحْنُ بِبَعْضِ وَادِي إِضَمَ إذْ مَرّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ فَسَلّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيّةِ الْإِسْلَامِ فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ فَقَتَلَهُ، وَسَلَبَهُ بَعِيرًا لَهُ وَمَتَاعًا وَوَطْبًا [ (1) ] مِنْ لَبَنٍ كَانَ مَعَهُ، فَلَمّا لَحِقَنَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ... [ (2) ] الْآيَةَ. فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ وَلَمْ يَلْقَوْا جَمْعًا حَتّى انْتَهَوْا [ (3) ] إلَى ذِي خُشُبٍ [ (4) ] فَبَلَغَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجّهَ إلَى مَكّةَ، فَأَخَذُوا عَلَى بِين حَتّى لَحِقُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّقْيَا.
حَدّثَنِي الْمُنْذِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: لَمّا أَجَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إلَى قُرَيْشٍ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ النّاسُ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِاَلّذِي أَجَمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْطَى الْكِتَابَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُوَصّلَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، فَخَرَجَتْ. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عليّا والزّبير
__________
[ (1) ] الوطب: سقاء اللبن خاصة. (الصحاح، ص 232) .
[ (2) ] سورة 4 النساء 94.
[ (3) ] فى الأصل: «حتى انتهى» .
[ (4) ] ذو خشب: واد على ليلة من المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 299) .(2/797)
فَقَالَ: أَدْرِكَا امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ كِتَابًا يُحَذّرُ قُرَيْشًا فَخَرَجَا فَأَدْرَكَاهَا بِالْخُلَيْفَةِ، فَاسْتَنْزَلَاهَا فَالْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَا لَهَا: إنّا نَحْلِفُ بِاَللهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَذَبْنَا وَلَتُخْرِجِنّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكِ! فَلَمّا رَأَتْ مِنْهُمَا الْجِدّ قَالَتْ: أَعْرِضَا عَنّي! فَأَعْرَضَا عَنْهَا، فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِمَا،
فَجَاءَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبًا فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللهِ وَرَسُولِهِ، مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت! ولكنى كنت امرءا لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلٌ وَوَلَدٌ فَصَانَعَتْهُمْ. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قَاتَلَك اللهُ! تَرَى رَسُولَ اللهِ يَأْخُذُ بِالْأَنْقَابِ وَتَكْتُبُ الْكُتُبَ إلَى قُرَيْشٍ تُحَذّرُهُمْ؟ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنّهُ قَدْ نَافَقَ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ؟ لَعَلّ اللهَ قَدْ اطّلع يوم بدر على أَهْلِ بَدْرٍ. فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ!
وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي حَاطِبٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... [ (1) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ حَاطِبٌ إلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ:
«إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ أَذّنَ فِي النّاسِ بِالْغَزْوِ، وَلَا أَرَاهُ يُرِيدُ غَيْرَكُمْ، وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَكُمْ يَدٌ بِكِتَابِي إلَيْكُمْ» . وَدَفَعَ الْكِتَابَ إلى امرأة من مزينة من أهل العرج [ (2) ] يقال لَهَا كَنُودٌ، وَجَعَلَ لَهَا دِينَارًا عَلَى أَنْ تبلّغ الكتاب، وقال:
__________
[ (1) ] سورة 60 الممتحنة 1
[ (2) ] العرج: قرية جامعة على ثلاثة أميال من المدينة بطريق مكة. (شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، ج 2، ص 360) .(2/798)
أَخْفِيهِ مَا اسْتَطَعْت، وَلَا تَمُرّي عَلَى الطّرِيقِ فإنّ عليها محرسا. فَسَلَكَتْ عَلَى غَيْرِ نَقْبٍ، عَنْ يَسَارِ الْمَحَجّةِ فِي الْفُلُوقِ [ (1) ] ، حَتّى لَقِيَتْ الطّرِيقَ بِالْعَقِيقِ.
حَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرحمن بن عمرو بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: هِيَ سَارَةُ، جَعَلَ لَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ.
قَالُوا: فَلَمّا أَبَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَزْوَ، أَرْسَلَ إلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَإِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَحْضُرْ رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَبَعَثَ رَسُولًا فِي كُلّ نَاحِيَةٍ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْلَمَ، وَغِفَارَ، وَمُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ.
وَبَعَثَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَلَقِيَتْهُ بِقُدَيْدٍ، وَأَمّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَخَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَمَاءَ بْنَ حَارِثَةَ، وَهِنْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَى أَسْلَمَ يَقُولَانِ لَهُمْ: إنّ رَسُولَ اللهِ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحْضُرُوا رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنْدُبًا وَرَافِعًا ابْنَيْ مَكِيثٍ إلَى جُهَيْنَةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَاءَ بْنَ رَحْضَةَ وَأَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ إلَى بَنِي الْحُصَيْنِ إلَى بَنِي غِفَارٍ وَضَمْرَةَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَشْجَعَ مَعْقِلَ بْنَ سِنَانٍ، وَنُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَبَعَثَ إلَى مُزَيْنَةَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ، وَبَعَثَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ الْحَجّاجَ بن علاط السّلمىّ، ثم البهزى [ (2) ] ،
__________
[ (1) ] الفلوق: جمع فلق وهو الشق، يقال: مررت بحرة فيها فلوق، أى شقوق. (الصحاح، ص 1544) .
[ (2) ] فى الأصل: «النهوى» ، وما أثبتناه عن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 325) .(2/799)
وَعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَبَعَثَ إلَى بَنِي كَعْبٍ بَنِي عَمْرَةَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ وَبُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، فَلَقِيَهُ بَنُو كَعْبٍ بِقُدَيْدٍ وَخَرَجَ مَعَهُ من بنى كعب مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَعَسْكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ، فَكَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثُ رَايَاتٍ- رَايَةٌ مَعَ الزّبَيْرِ، وَرَايَةٌ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَايَةٌ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ. وَكَانَ فِي الْأَوْسِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَايَةٌ مَعَ أَبِي نَائِلَةَ، وَفِي بَنِي ظَفَرَ رَايَةٌ مَعَ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ، وَفِي بَنِي حَارِثَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، وَفِي بَنِي مُعَاوِيَةَ رَايَةٌ مَعَ جَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ، وَفِي بَنِي خَطْمَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَفِي بَنِي أُمَيّةَ رَايَةٌ مَعَ مُبَيّضٍ- قَالَ ابْنُ حَيّوَيْهِ: «نُبَيْضٌ» فِي كِتَابِ أَبِي حَيّةَ، فَتَرَكْته أَنَا عَلَى مَا هُنَاكَ «مُبَيّضٌ» . وَفِي بَنِي سَاعِدَةَ رَايَةٌ مَعَ أَبِي أَسِيدٍ السّاعِدِيّ، وَفِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ رَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، وفى بنى سلمة راية مع قطبة ابن عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَفِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ رَايَةٌ مَعَ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، وَفِي بَنِي مَازِنٍ رَايَةٌ مَعَ سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ، وَفِي بَنِي دِينَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا [] [ (1) ] .
وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ سَبْعَمِائَةِ، وَمَعَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ ثَلَاثُمِائَةِ فَرَسٍ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، مَعَهُمْ مِنْ الْخَيْلِ خَمْسَمِائَةِ، وَكَانَتْ مُزَيْنَةُ أَلْفًا، فِيهَا مِنْ الْخَيْلِ مِائَةُ فَرَسٍ وَمِائَةُ دِرْعٍ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ النّعْمَانِ بْنِ مُقَرّنٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو. وَكَانَتْ أَسْلَمُ أَرْبَعَمِائَةِ، فِيهَا ثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَلِوَاءَانِ يَحْمِلُ أَحَدَهُمَا بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ وَالْآخَرُ نَاجِيَةُ بْنُ الْأَعْجَمِ. وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ ثَمَانَمِائَةِ، مَعَهَا مِنْ الْخَيْلِ خَمْسُونَ فَرَسًا، فِيهَا أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ ابْنِ مَكِيثٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ أَبِي زُرْعَةَ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَدْرٍ. وَكَانَتْ بَنُو كعب
__________
[ (1) ] بياض فى الأصل.(2/800)
ابْنِ عَمْرٍو خَمْسَمِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مع بسر بْنِ سُفْيَانَ، وَلِوَاءٌ مَعَ ابْنِ شُرَيْحٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ، وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُ قَوْمُهُ بِقُدَيْدٍ.
قَالَ: حَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ:
لَمْ يَعْقِدْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ حَتّى انْتَهَى إلَى قُدَيْدٍ، ثُمّ جَعَلَ رَايَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ: كَانَتْ رَايَةُ أَشْجَعَ مَعَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَمَا حَلّ عُقْدَةً حَتّى انْتَهَى إلَى الصّلْصُلِ [ (1) ] .
وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَقَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ. وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْدَاءِ- قَالَ:
فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ
قَالَ: وَحَدّثَنِي دَاوُد بْنُ خَالِدٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا- قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَأَرَى السّحَابَ تَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَحَبّ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ! وَصَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ سُمَيّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي بكر ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ رَجُلٍ رَأَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] صلصل: موضع على سبعة أميال من المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 336) .(2/801)
بِالْعَرْجِ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ مِنْ الْعَطَشِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمّا كُنّا بِالْكَدِيدِ بَيْنَ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَاءً مِنْ مَاءٍ فِي يَدِهِ حَتّى رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمّ أَفْطَرَ تِلْكَ السّاعَةَ. وَبَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ قَوْمًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ! وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّكُمْ مُصَبّحُو عَدُوّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ!
قَالَ ذَلِك بِمَرّ الظّهْرَانِ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرْجَ، وَالنّاسُ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ تَوَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلَى قُرَيْشٍ، أَوْ إلَى هَوَازِنَ، أَوْ إلَى ثَقِيفٍ! فَهُمْ يُحِبّونَ أَنْ يَعْلَمُوا، فَجَلَسَ فِي أَصْحَابِهِ بِالْعَرْجِ وَهُوَ يَتَحَدّثُ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
آتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَ وَجْهِهِ. فَجَاءَ كَعْبُ فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمّ قَالَ [ (1) ] :
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا [ (2) ] السّيُوفَا
نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُنّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا
فَلَسْت لِحَاضِرِ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنْهَا أُلُوفَا
فَنَنْتَزِعُ الْخِيَامَ بِبَطْنِ وَجّ [ (3) ] ... وَنَتْرُك دُورَهُمْ مِنْهُمْ خُلُوفَا
أَنْشَدَنِيهَا أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَجَعَلَ النّاسُ يَقُولُونَ: وَاَللهِ مَا بَيّنَ لَك رَسُولُ اللهِ شَيْئًا، مَا نَدْرِي بِمَنْ يُبْدَى، بِقُرَيْشٍ أَوْ ثَقِيفٍ أو هوازن.
__________
[ (1) ] ذكر ابن إسحاق أبيات كعب هذه فى حديث الطائف. (السيرة النبوية، ج 4، ص 121) .
[ (2) ] أجممنا: أرحنا. (شرح أبى ذر، ص 407) .
[ (3) ] وج: موضع بالطائف (معجم ما استعجم، ص 838) .(2/802)
قَالَ: حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدَيْدٍ قِيلَ: هَلْ لَك فِي بِيضِ النّسَاءِ وَأَدَمِ الْإِبِلِ؟
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللهَ تَعَالَى حَرّمَهَا عَلَيّ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَوَكَزَهُمْ فِي لَبّاتِ [ (1) ] الْإِبِلِ.
قَالَ: حَدّثَنِي الزّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ قَالَ: إنّ اللهَ حَرّمَهُمْ عَلَيّ بِبِرّ الْوَالِدِ وَوَكَزَهُمْ فِي لَبّاتِ [ (2) ] الْإِبِلِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي قُرّانُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيّ، قَالَ: كَانَ عُيَيْنَةُ فِي أَهْلِهِ بِنَجْدٍ فَأَتَاهُ الْخَبَرُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ وَجْهًا، وَقَدْ تَجَمّعَتْ الْعَرَبُ إلَيْهِ، فَخَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَيَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ، فَسَلَكَ عَنْ رُكُوبِهِ فَسَبَقَ إلَى الْعَرْجِ، فَوَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ،
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرْجَ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي خُرُوجُك وَمَنْ يَجْتَمِعُ إلَيْك فَأَقْبَلْت سَرِيعًا وَلَمْ أَشْعُرْ فَأَجْمَعُ قَوْمِي فَيَكُونُ لنا جلبة كثيرة، ولست أرى هيأة حَرْبٍ، لَا أَرَى أَلْوِيَةً وَلَا رَايَاتٍ! فَالْعُمْرَةَ تريد؟ فلا أرى هيأة الْإِحْرَامِ! فَأَيْنَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ.
وَذَهَبَ وَسَارَ مَعَهُ، وَوَجَدَ الأقرع بن حابس بالسّقيا،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لباب» . وقال ابن الأثير: لبات جمع لبة، وهي اللهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الإبل. (النهاية، ج 4، ص 44) .
[ (2) ] فى الأصل: «لباب» .(2/803)
قَدْ وَافَاهَا فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فساروا معه، فلمّا نزل قديد عَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَجَعَلَ الرّايَاتِ. فَلَمّا رَأَى عُيَيْنَةُ الْقَبَائِلَ تَأْخُذُ الرّايَاتِ وَالْأَلْوِيَةَ عَضّ عَلَى أَنَامِلِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَامَ تَنْدَمُ؟ قَالَ: عَلَى قَوْمِي أَلّا يَكُونُوا نَفَرُوا مَعَ مُحَمّدٍ، فَأَيْنَ يُرِيدُ مُحَمّدٌ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مَكّةَ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قَالَ: لَمّا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرْجِ، فَكَانَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرْجِ وَالطّلُوبِ [ (1) ] ، نَظَرَ إلَى كَلْبَةٍ تَهِرّ عَلَى أَوْلَادِهَا وَهُمْ حَوْلَهَا يَرْضَعُونَهَا، فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ أَنْ يَقُومَ حِذَاءَهَا، لَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ مِنْ الْجَيْشِ وَلِأَوْلَادِهَا.
قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَمّا رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرْجِ تَقَدّمَتْ أَمَامَهُ جَرِيدَةٌ [ (2) ] مِنْ خَيْلٍ طَلِيعَةٍ، تَكُونُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا كَانَتْ بَيْنَ الْعَرْجِ وَالطّلُوبِ أَتَوْا بِعَيْنٍ مِنْ هَوَازِنَ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاهُ حِينَ طَلَعْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَغَيّبَ عَنّا فِي وَهْدَةٍ [ (3) ] ، ثُمّ جَاءَ فَأَوْفَى عَلَى نَشَزٍ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَرَكَضْنَا إلَيْهِ فَأَرَادَ يَهْرُبَ مِنّا، وَإِذَا بَعِيرُهُ قَدْ عَقَلَهُ أَسْفَلَ مِنْ النّشَزِ وَهُوَ يُغَيّبُهُ، فَقُلْنَا: مِمّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ.
فَقُلْنَا: هُمْ أَهْلُ هَذَا الْبَلَدِ. فَقُلْنَا: مِنْ أَيّ بَنِي غِفَارٍ أَنْتَ؟ فَعَيِيَ [ (4) ] وَلَمْ
__________
[ (1) ] الطلوب: ماء فى الطريق بين المدينة ومكة. (معجم ما استعجم، ص 454) .
[ (2) ] الجريدة من الخيل: هي التي جردت من معظم الخيل لوجه. (أساس البلاغة، ص 116) .
[ (3) ] الوهدة: الأرض المنخفضة. (القاموس المحيط، ج 1، ص 347) .
[ (4) ] فى الأصل: «فعنى» . وعيى فى منطقه، من العي، وهو خلاف البيان. (الصحاح، ص 2443) .(2/804)
يُنْفِذْ لَنَا نَسَبًا، فَازْدَدْنَا بِهِ رِيبَةً وَأَسَأْنَا بَهْ الظّنّ، فَقُلْنَا: فَأَيْنَ أَهْلُك؟ قَالَ:
قَرِيبًا! وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةٍ. قُلْنَا: عَلَى أَيّ مَاءٍ، وَمَنْ مَعَك هُنَالِكَ؟ فَلَمْ يُنْفِذْ لَنَا شَيْئًا، فَلَمّا رَأَيْنَا مَا خَلَطَ قُلْنَا: لَتُصْدِقَنّا أَوْ لَنَضْرِبَنّ عُنُقَك! قَالَ:
فَإِنْ صَدَقْتُكُمْ يَنْفَعُنِي ذَلِكَ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنّي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ مِنْ بَنِي نَضْرٍ، بَعَثَتْنِي هَوَازِنُ عَيْنًا. وَقَالُوا: ائْتِ الْمَدِينَةَ حَتّى تَلْقَى مُحَمّدًا فَتَسْتَخْبِرَ لَنَا مَا يُرِيدُ فِي أَمْرِ حُلَفَائِهِ، أَيَبْعَثُ إلَى قُرَيْشٍ بَعْثًا أَوْ يَغْزُوهُمْ بِنَفْسِهِ، وَلَا نَرَاهُ إلّا يَسْتَغْوِرَهُمْ، فَإِنْ خَرَجَ سَائِرًا أَوْ بَعَثَ بَعْثًا فَسِرْ مَعَهُ حَتّى تَنْتَهِيَ إلَى بَطْنِ سَرِفَ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُنَا أَوّلًا فَيَسْلُكُ [ (1) ] فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتّى يَخْرُجَ إلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ قُرَيْشًا فَسَيَلْزَمُ الطّرِيقَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيْنَ هَوَازِنُ؟ قَالَ: تَرَكْتهمْ بِبَقْعَاءَ وَقَدْ جَمَعُوا الْجُمُوعَ، وَأَجْلَبُوا فِي الْعَرَبِ، وَبَعَثُوا إلَى ثَقِيفٍ فَأَجَابَتْهُمْ، فَتَرَكَتْ ثَقِيفًا عَلَى سَاقٍ قَدْ جَمَعُوا الْجُمُوعَ، وَبَعَثُوا إلَى الْجُرَشِ [ (2) ] فِي عَمَلِ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ، وَهُمْ سَائِرُونَ إلَى جَمْعِ هَوَازِنَ فَيَكُونُونَ جَمْعًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِلَى مَنْ جَعَلُوا أَمْرَهُمْ؟ قَالَ:
إلَى فَتَاهُمْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُلّ هَوَازِنَ قَدْ أَجَابَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ مَالِكٌ؟ قَالَ: قَدْ أَبْطَأَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَهْلُ الْجِدّ وَالْجَلْدِ. قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: كَعْبٌ وَكِلَابٌ. قَالَ: مَا فَعَلَتْ هِلَالٌ؟ قَالَ:
مَا أَقَلّ مِنْ ضَوَى [ (3) ] إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ مَرَرْت بِقَوْمِك أَمْسِ بِمَكّةَ وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَرَأَيْتهمْ سَاخِطِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ، وَهُمْ خَائِفُونَ وجلون.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فاسلك» .
[ (2) ] الجرش: من مخاليف اليمن من جهة مكة. (معجم البلدان، ج 3، ص 84) .
[ (3) ] ضوى إليه: أوى إليه. (الصحاح، ص 2410) .(2/805)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، مَا أَرَاهُ إلّا صَدَقَنِي!
قَالَ الرّجُلُ: فَلَيَنْفَعَنّي ذَلِكَ؟ فَأَمَرَ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَحْبِسَهُ، وَخَافُوا أَنْ يَتَقَدّمَ وَيُحَذّرَ النّاسَ، فَلَمّا نَزَلَ الْعَسْكَرُ مَرّ الظّهْرَانِ أَفْلَتَ الرّجُلُ، فَطَلَبَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَهُ عِنْدَ الْأَرَاكِ [ (1) ] ، وَقَالَ: لَوْلَا وُلّيت عَهْدًا لَك لَضَرَبْت عُنُقَك. وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بَهْ يُحْبَسُ حَتّى يَدْخُلَ مَكّةَ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ وَفَتَحَهَا أُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، ثُمّ خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى هَوَازِنَ فَقُتِلَ بَأَوْطَاسٍ [ (2) ] .
قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قَمَادِينَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ [كَانَ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَخَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ أَيّامًا، وَكَانَ يَأْلَفُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَهُ تِرْبًا، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَاهُ عَدَاوَةً لَمْ يُعَادِ أَحَدٌ قَطّ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ الشّعْبَ، وَهَجَا رَسُولَ اللهِ، وَهَجَا أَصْحَابَهُ، وَهَجَا حَسّانَ فَقَالَ:
أَلَا مُبَلّغٌ حَسّانَ عَنّي رِسَالَةً ... فَخِلْتُك مِنْ شَرّ الرّجَالِ الصّعَالِكِ
أَبُوك أَبُو سُوءٍ وَخَالُك مِثْلُهُ ... فَلَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَبِيك وَخَالِك
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِحَسّانَ: اُهْجُهُ! قَالَ: لَا أَفْعَلُ حَتّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ آذَنُ لَك فِي ابْنِ عَمّي أَخِي أَبِي؟
قَالَ: أَسُلّك مِنْهُ كَمَا تُسَلّ الشّعْرَةُ مِنْ العجين.
__________
[ (1) ] الأراك: موضع بعرفة. (معجم ما استعجم، ص 86) .
[ (2) ] أوطاس: واد فى ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين. (معجم ما استعجم، ص 131) .(2/806)
فَقَالَ حَسّانُ شِعْرًا، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُذَاكِرَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ، فَذَاكَرَهُ. قَالَ: فَمَكَثَ أَبُو سُفْيَانَ عِشْرِينَ سَنَةً [ (1) ] عَدُوّا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ وَيَهْجُونَهُ، وَلَا يَتَخَلّفُ عَنْ مَوْضِعٍ تَسِيرُ فِيهِ قُرَيْشٌ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ إنّ اللهَ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقُلْت: مَنْ أَصْحَبُ وَمَعَ مَنْ أَكُونُ؟ قَدْ ضَرَبَ الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ [ (2) ] ! فَجِئْت زَوْجَتِي وَوَلَدِي، فَقُلْت:
تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ فَقَدْ أَظَلّ قُدُومُ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: قَدْ آنَ لَك تُبْصِرَ أَنّ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ قَدْ تَبِعَتْ مُحَمّدًا وَأَنْتَ مُوضِعٌ فِي عَدَاوَتِهِ، وَكُنْت أَوْلَى النّاسِ بِنَصْرِهِ! فَقُلْت لِغُلَامِي مَذْكُورٍ: عَجّلْ بِأَبْعِرَةٍ وَفَرَسٍ. قَالَ: ثُمّ سِرْنَا حَتّى نَزَلْنَا الْأَبْوَاءَ، وَقَدْ نَزَلَتْ مُقَدّمَتُهُ الْأَبْوَاءَ، فَتَنَكّرْت وَخِفْت أَنْ أُقْتَلَ، وَكَانَ قَدْ هَدَرَ دَمِي، فَخَرَجْت، وأجد ابني جعفر عَلَى قَدَمِي نَحْوًا مِنْ مِيلٍ، فِي الْغَدَاةِ الّتِي صَبّحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْأَبْوَاءَ، فَأَقْبَلَ النّاسُ رَسَلًا رَسَلًا [ (3) ] ، فَتَنَحّيْت فَرَقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمّا طَلَعَ مَرْكَبُهُ تَصَدّيْت لَهُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَلَمّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنّي أَعْرَضَ عَنّي بِوَجْهِهِ إلَى النّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَتَحَوّلْت إلَى نَاحِيَةِ وَجْهِهِ الْأُخْرَى، وَأَعْرَضَ عَنّي مِرَارًا، فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، وَقُلْت: أَنَا مَقْتُولٌ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَيْهِ. وَأَتَذَكّرُ بِرّهُ وَرَحْمَتَهُ وَقَرَابَتِي فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنّي، وَقَدْ كُنْت لَا أَشُكّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ سَيَفْرَحُونَ بِإِسْلَامِي فَرَحًا شَدِيدًا، لِقَرَابَتِي [ (4) ] [مِنْ] رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ إعْرَاضَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم عنّى
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل.
[ (2) ] ضرب الإسلام بجرانه: قر قراره واستقام. (النهاية، ج 1، ص 158) .
[ (3) ] رسلا: أى فرقا. (النهاية، ج 2، ص 80) .
[ (4) ] فى الأصل: «وقرابتي» .(2/807)
أَعْرَضُوا عَنّي جَمِيعًا، فَلَقِيَنِي ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ معرضا، ونظرت إلى عمر ويغرى بى رجلا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَلَزّ [ (1) ] بِي رَجُلٌ يَقُولُ: يَا عَدُوّ اللهِ، أَنْتَ الّذِي كُنْت تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُؤْذِي أَصْحَابَهُ قَدْ بَلَغْت مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فِي عَدَاوَتِهِ! فَرَدَدْت بَعْضَ الرّدّ عَنْ نَفْسِي، فَاسْتَطَالَ عَلِيّ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ حَتّى جَعَلَنِي فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [ (2) ] مِنْ النّاسِ يُسَرّونَ بِمَا يَفْعَلُ بِي.
قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى عَمّي الْعَبّاسِ فَقُلْت: يَا عَبّاسُ، قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ سَيَفْرَحُ رَسُولُ اللهِ بِإِسْلَامِي لِقَرَابَتِي وَشَرَفِي، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ رَأَيْت، فَكَلّمَهُ لِيَرْضَى عَنّي! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أُكَلّمُهُ كَلِمَةً فِيك أَبَدًا بَعْدَ الّذِي رَأَيْت مِنْهُ إلّا أَنْ أَرَى وَجْهًا، إنّي أُجِلّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهَابُهُ.
فَقُلْت: يَا عَمّي إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَلَقِيت عَلِيّا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ فَكَلّمْته فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعْت إلَى الْعَبّاسِ فَقُلْت:
يَا عَمّ فَكُفّ عَنّي الرّجُلَ الّذِي يَشْتُمُنِي. قَالَ: صِفْهُ لِي. فَقُلْت: هُوَ رَجُلٌ آدَمُ [ (3) ] شَدِيدُ الْأُدْمَةِ، قَصِيرٌ، دَحْدَاحٌ [ (4) ] ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ شَجّةٌ. قَالَ: ذَاكَ نُعْمَانُ بْنُ الْحَارِثِ النّجّارِيّ. فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا نُعْمَانُ، إنّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنُ عَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ أَخِي، وَإِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاخِطًا فَسَيَرْضَى، فَكُفّ عَنْهُ، فَبَعْدَ لَأْيٍ مَا كَفّ. وَقَالَ: لَا أَعْرِضُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَخَرَجْت فَجَلَسْت عَلَى بَابِ منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتّى خَرَجَ إلَى الْجُحْفَةِ، وَهُوَ لَا يُكَلّمُنِي ولا أحد من المسلمين.
__________
[ (1) ] ألز به: لصق به. (القاموس المحيط، ج 2، ص 190) .
[ (2) ] فى الأصل: «الحجر» . ولعل الصواب ما أثبتناه. والحرجة: الشجر الملتف. (النهاية، ج 1، ص 213) .
[ (3) ] الآدم من الناس: الأسمر. (الصحاح، ص 1859) .
[ (4) ] دحداح: قصير. (الصحاح، ص 361) .(2/808)
وَجَعَلْت لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إلّا أَنَا عَلَى بَابِهِ وَمَعِي ابْنِي جَعْفَرٌ قَائِمٌ، فَلَا يَرَانِي إلّا أَعْرَضَ عَنّي، فَخَرَجْت عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حَتّى شَهِدْت مَعَهُ فَتْحَ مَكّةَ وَأَنَا عَلَى حِيلَةٍ تُلَازِمُهُ حَتّى هَبَطَ مِنْ أَذَاخِرَ [ (1) ] حَتّى نَزَلَ الْأَبْطَحَ [ (2) ] ، فَدَنَوْت مِنْ بَابِ قُبّتِهِ فَنَظَرَ إلَيّ نَظَرًا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ ذَلِكَ النّظَرِ الْأَوّلِ، قَدْ رَجَوْت أَنْ يَتَبَسّمَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ نِسَاءُ بَنِي الْمُطّلِبِ، وَدَخَلَتْ مَعَهُنّ زَوْجَتِي فَرَقّقَتْهُ عَلَيّ. وَخَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا أُفَارِقُهُ عَلَى حَالٍ حَتّى خَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، فَخَرَجْت مَعَهُ، وَقَدْ جَمَعَتْ الْعَرَبُ جَمْعًا لَمْ يُجْمَعْ مِثْلُهُ قَطّ، وَخَرَجُوا بِالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ وَالْمَاشِيَةِ، فَلَمّا لَقِيتهمْ قُلْت: الْيَوْمَ يُرَى أَثَرِي إنْ شَاءَ اللهُ، وَلَمّا لَقِيتهمْ حَمَلُوا الْحَمَلَةَ [ (3) ] الّتِي ذَكَرَ اللهُ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [ (4) ] .
وَثَبَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بَغْلَتِهِ الشّهْبَاءِ وَجَرّدَ سَيْفَهُ، فَأَقْتَحِمُ عَنْ فَرَسِي وَبِيَدِي السّيْفُ صَلْتًا، قَدْ كُسِرَتْ جَفْنُهُ، وَاَللهُ أَعْلَمُ أَنّي أُرِيدُ الْمَوْتَ دُونَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيّ، فَأَخَذَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بِلِجَامِ الْبَغْلَةِ، فَأَخَذْت بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَذَهَبْت أَكْشِفُ الْمِغْفَرَ، فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخُوك وَابْنُ عَمّك أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ! فَارْضَ عَنْهُ، أَيْ رَسُولَ اللهِ! قَالَ:
قَدْ فَعَلْت، فَغَفَرَ اللهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا! فَأُقَبّلُ رِجْلَهُ فِي الرّكَابِ، ثُمّ الْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ: أَخِي لَعَمْرِي! ثُمّ أَمَرَ الْعَبّاسَ فَقَالَ: نَادِ يَا أَصْحَابَ الْبَقَرَةِ [ (5) ] ! يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ [ (6) ] يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار
__________
[ (1) ] أذاخر: ثنية بين مكة والمدينة. (معجم ما استعجم. ص 84) .
[ (2) ] الأبطح: البطحاء، أى وادي مكة. (معجم ما استعجم، ص 65) .
[ (3) ] أى غزوة حنين. انظر تفسير الطبري. (ج 4، ص 178) .
[ (4) ] سورة 9 التوبة 25.
[ (5) ] أى سورة البقرة.
[ (6) ] السمرة: هي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية.(2/809)
يَا لَلْخَزْرَجِ! فَأَجَابُوا: لَبّيْكَ دَاعِيَ اللهِ! وَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، قَدْ حَطّمُوا الْجُفُونَ، وَشَرَعُوا الرماح، وخفضوا عوالي الأمنّة، وَأَرْقَلُوا إرْقَالَ الْفُحُولِ، فَرَأَيْتنِي وَإِنّي لَأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُرُوعَ رِمَاحِهِمْ حَتّى أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَقَدّمْ فَضَارِبْ الْقَوْمَ! فَحَمَلْت حَمَلَةً أَزَلْتهمْ عَنْ مَوْضِعِهِمْ، وَتَبِعَنِي- رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُمًا فِي نُحُورِ الْقَوْمِ، مَا نَالُوا مَا تَقَدّمَ، فَمَا قَامَتْ لَهُمْ قَائِمَةٌ حَتّى طَرَدْتهمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ، وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الطّلَبِ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى وَجْهٍ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي وَجْهٍ، وَبَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ إلَى عَسْكَرٍ بَأَوْطَاسٍ فَقُتِلَ، وَقَتَلَ أَبُو مُوسَى قَاتِلَهُ [ (1) ] .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ سَمِعْت فِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَجْهًا آخَرَ، قَالَ: لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بِنِيقِ الْعُقَابِ [ (2) ] ، فَطَلَبْنَا الدّخُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى يُدْخِلَهُمَا عَلَيْهِ، فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِهْرُك وَابْنُ عَمّتِك وَابْنُ عَمّك وَأَخُوك مِنْ الرّضَاعَةِ! وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِهِمَا مُسْلِمَيْنِ، لَا يَكُونَانِ أَشْقَى النّاسِ بِك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمّا أَخِي فَالْقَائِلُ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ، لَنْ يُؤْمِنَ لِي حَتّى أَرْقَى فِي السّمَاءَ! وَذَلِك قَوْلُ اللهِ عَزّ وَجَلّ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ... [ (3) ] إلى آخر الآية. فقالت:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فقتل أبا موسى قاتله» . انظر الاستيعاب. (ص 1704) .
[ (2) ] نيق العقاب: موضع بين مكة والمدينة. (معجم ما استعجم، ص 595) .
[ (3) ] سورة 17 الإسراء 93.(2/810)
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا هُوَ مِنْ قَوْمِك مَا هُوَ، وَقَدْ تَكَلّمَ وَكُلّ قُرَيْشٍ قَدْ تَكَلّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ عَفَوْت عَمّنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ، وَابْنُ عَمّك وَقَرَابَتُهُ بِك، وَأَنْتَ أَحَقّ النّاسِ عَفْوًا عَنْ جُرْمِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الّذِي هَتَكَ عِرْضِي، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا! فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمَا الْخَبَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ: وَاَللهِ، لَيَقْبَلَنّي أَوْ لَأَخَذْت بِيَدِ ابْنِي هَذَا فَلَأَذْهَبَن فِي الْأَرْضِ حَتّى أَهْلَكَ عَطَشًا وَجُوعًا، وَأَنْتَ أَحْلَمُ النّاسِ وَأَكْرَمُ النّاسِ مَعَ رَحِمِي بِك. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقَالَتُهُ فَرّقَ لَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيّةَ: إنّمَا جِئْت لِأُصَدّقَك، وَلِي مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لِي وَالصّهْرِ بِك. وَجَعَلَتْ أُمّ سَلَمَةَ تُكَلّمُهُ فِيهِمَا، فَرّقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا فَأَذِنَ لَهُمَا وَدَخَلَا، فَأَسْلَمَا وَكَانَا جَمِيعًا حَسَنَى الْإِسْلَامِ، قُتِلَ عَبْدُ اللهِ ابن أَبِي أُمَيّةَ بِالطّائِفِ، وَمَاتَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لَمْ يُغْمَصْ [ (1) ] . عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ أَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ نِيقِ الْعُقَابِ: أَنْتَ الّذِي تَقُولُ: «طَرَدْتنِي كُلّ مُطْرَدٍ؟» [ (2) ] بَلْ اللهُ طَرَدَك كُلّ مُطْرَدٍ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا قَوْلٌ قُلْته بِجَهَالَةٍ وَأَنْتَ أَوْلَى النّاسِ بِالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ. وَأَمّا قَوْلُهُ: «وَأَدّعِي وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمّدٍ» [ (3) ] فَإِنّهُ هَرَبَ وَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ، فَقَالَ: مِمّنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ ابن الْحَارِثِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. قَالَ قَيْصَرُ: أَنْتَ ابْنُ عَمّ مُحَمّدٍ إنْ كُنْت صَادِقًا، مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ قَالَ: قلت: نعم، أنا ابن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «يغمض» بالضاد المعجمة. وانظر النهاية. (ج 3، ص 171) .
[ (2) ] انظر الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 360) .
[ (3) ] ذكر ابن اسحق هذه الأبيات. (السيرة النبوية، ج 4، ص 43) .(2/811)
عَمّهِ. فَقُلْت: لَا أَرَانِي عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ وَقَدْ هَرَبْت مِنْ الْإِسْلَامِ، لَا أَعْرِفُ إلّا بِمُحَمّدٍ! فَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ وَعَرَفْت أَنّ مَا كُنْت فِيهِ بَاطِلٌ مِنْ الشّرْكِ، وَلَكِنّا كُنّا مَعَ قَوْمٍ أَهْلِ عُقُولٍ بَاسِقَةٍ [ (1) ] ، وَأَرَى فَاضِلَ النّاسِ يَعِيشُ فِي عُقُولِهِمْ وَرَأْيِهِمْ، فَسَلَكُوا فَجّا فَسَلَكْنَاهُ. وَلَمّا جَعَلَ أَهْلُ الشّرَفِ وَالسّنّ يَقْتَحِمُونَ عَنْ مُحَمّدٍ، وَيَنْصُرُونَ آلِهَتَهُمْ، وَيَغْضَبُونَ لِآبَائِهِمْ، فَاتّبَعْنَاهُمْ. وَلَقِيَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ بِالسّقْيَا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْعَبّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى رَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَنْزِلُ مَعَهُ فِي كُلّ مَنْزِلٍ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ. وَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي نَزَلَ فِيهَا بِالْجُحْفَةِ، رَأَى أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمّا دَنَوْا مِنْ مَكّةَ، خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ كَلْبَةٌ تَهِرّ، فَلَمّا دَنَوْا مِنْهَا اسْتَلْقَتْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَإِذَا أَطْبَاؤُهَا [ (2) ] تَشْخَبُ لَبَنًا. فَذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَهَبَ كَلْبُهُمْ [ (3) ] وَأَقْبَلَ دَرّهُمْ! سَائِلُوكُمْ بِأَرْحَامِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْضَهُمْ، فَإِنْ لَقِيتُمْ أَبَا سُفْيَانَ [ (4) ] فَلَا تَقْتُلُوهُ.
وَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدَيْدًا لَقِيَتْهُ سُلَيْمٌ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ نَفَرُوا مِنْ بِلَادِهِمْ فَلَقَوْهُ، وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ عَلَى الْخُيُولِ جَمِيعًا، مَعَ كُلّ رَجُلٍ رُمْحُهُ وَسِلَاحُهُ، وَقَدِمَ مَعَهُمْ الرّسُولَانِ اللّذَانِ كَانَ أرسلهما رسول الله صلّى الله
__________
[ (1) ] الباسق: المرتفع فى علوه. (النهاية، ج 1، ص 79) .
[ (2) ] الأطباء: جمع طبي بالكسر والضم، وهو حلمات الضرع التي من خف وظلف وحافر وسبع.
(القاموس المحيط، ج 4، ص 36) .
[ (3) ] الكلب: داء يعرض للإنسان من عض الكلب الكلب [بكسر اللام] فيصيبه شبه الجنون.
(النهاية، ج 4، ص 30) .
[ (4) ] أى أبو سفيان بن الحارث.(2/812)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَذَكَرَا أَنّهُمْ أَسْرَعُوا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نَزَلَا عَلَيْهِمْ، وَحَشَدُوا- وَيُقَالُ إنّهُمْ أَلْفٌ- فَقَالَتْ سُلَيْمٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّك تُقْصِينَا وَتَسْتَغِشّنَا وَنَحْنُ أَخْوَالُك- أُمّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِحِ بْنِ ذَكْوَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ- فَقَدِمْنَا يَا رَسُولَ اللهِ حَتّى تَنْظُرَ كَيْفَ بَلَاؤُنَا، فَإِنّا صُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللّقَاءِ، فُرْسَانٌ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ. قَالَ: وَمَعَهُمْ لِوَاءَانِ وَخَمْسُ رَايَاتٍ، وَالرّايَاتُ سُودٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِيرُوا!
فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَتَهُ، وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مُقَدّمَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَقِيَتْهُ بَنُو سُلَيْمٍ بِقُدَيْدٍ، حَتّى نَزَلُوا مَرّ الظّهْرَانِ وَبَنُو سُلَيْمٍ مَعَهُ.
قَالَ: حَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ تِسْعَمِائَةٍ عَلَى الْخُيُولِ، وَالْقَنَا وَالدّرُوعِ الظّاهِرَةِ، قَدْ طَوَوْا أَلْوِيَتَهُمْ وَرَايَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ لِوَاءٌ وَلَا رَايَةٌ مَعْقُودَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْقِدْ لَنَا وَضَعْ رَايَتَنَا حَيْثُ رَأَيْت. فَقَالَ: يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ! مَا فَعَلَ فَتًى كَانَ قَدِمَ مَعَ وَفْدِكُمْ عَلَيّ، حَسَنُ الْوَجْهِ، جَيّدُ اللّسَانِ؟ قَالُوا: تُوُفّيَ [ (1) ] حَدِيثًا.
قَالَ: حَدّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ فَرّوخٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ بْنِ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ، قَالَ: قَالَ عَبّاسٌ: لَقِيته وَهُوَ يَسِيرُ حَتّى هَبَطَ مِنْ الْمُشَلّلِ فِي آلَةِ الْحَرْبِ، وَالْحَدِيدُ ظَاهِرٌ عَلَيْنَا، وَالْخَيْلُ تُنَازِعُنَا الْأَعِنّةَ، فَصَفَفْنَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَنَادَى عُيَيْنَةُ مَنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا عُيَيْنَةُ [ (2) ] ! هَذِهِ بَنُو سُلَيْمٍ، قد حضرت بما ترى من العدّة
__________
[ (1) ] فى الأصل: «توفا» .
[ (2) ] فى الأصل: «يا عيينة» ، وما أثبتناه أكثر تمشيا مع السياق.(2/813)
وَالْعَدَدِ وَالسّلَاحِ: وَإِنّهُمْ لَأَحْلَاسُ [ (1) ] الْخَيْلِ، وَرِجَالُ الْحَرْبِ، وَرُعَاةُ الْحَدَقِ [ (2) ] . فَقَالَ الْعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَقْصِرْ أَيّهَا الرّجُلُ! وَاَللهِ إنّك لَتَعْلَمُ لَنَحْنُ أَفْرَسُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، وَأَطْعَنُ بِالْقَنَا، وَأَضْرَبُ بِالْمَشْرَفِيّةِ [ (3) ] مِنْك وَمِنْ قَوْمِك. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: كَذَبْت وَلَؤُمْت [ (4) ] ! لَنَحْنُ أَوْلَى بِمَا ذَكَرْت مِنْك، قَدْ عَرَفَتْهُ لَنَا الْعَرَبُ قَاطِبَةً. فَأَوْمَأَ إلَيْهِمَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ حَتّى سَكَتَا.
وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُرَيْشًا حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، فَقَدْ اغْتَمّوا وَهُمْ يَخَافُونَ يَغْزُوَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ الظّهْرَانِ عِشَاءً، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُوقِدُوا النّيرَانَ، فَأَوْقَدُوا عَشَرَةَ آلَافِ نَارٍ، فَأَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ بَعْثَةَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَتَحَسّبُ الْأَخْبَارَ، وَقَالُوا: إنْ لَقِيت مُحَمّدًا فَخُذْ لَنَا مِنْهُ جِوَارًا إلّا أَنْ تَرَى رِقّةً مِنْ أَصْحَابِهِ فَآذِنْهُ [ (5) ] بِالْحَرْبِ.
فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَلَقِيَا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ فَاسْتَتْبَعَاهُ فَخَرَجَ مَعَهُمَا، فَلَمّا بَلَغُوا الْأَرَاكَ مِنْ مَرّ الظّهْرَانِ رَأَوْا الْأَبْنِيَةَ وَالْعَسْكَرَ وَالنّيرَانَ، وَسَمِعُوا صَهِيلَ الْخَيْلِ وَرُغَاءَ الْإِبِلِ، فَأَفْزَعَهُمْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ بَنُو كَعْبٍ حَاشَتْهَا [ (6) ] الْحَرْبُ! فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي كَعْبٍ! قَالُوا:
فَتَنَجّعَتْ [ (7) ] هَوَازِنُ عَلَى أَرْضِنَا! وَاَللهِ مَا نَعْرِفُ هَذَا! إنّ هَذَا الْعَسْكَرَ مِثْلُ حَاجّ النّاسِ!
__________
[ (1) ] الأحلاس: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب. (النهاية، ج 1، ص 249) . ويريد: لزومهم لظهور الخيل.
[ (2) ] الحدق: جمع حدقة وهي سواد العين. (الصحاح، ص 1456) . والمعنى هنا: أنهم يصيبون العين إذا رموا.
[ (3) ] السيوف المشرفية: تنسب إلى مشارف الشام. (القاموس المحيط، ج 3، ص 158) .
[ (4) ] فى الأصل: «فلمت» .
[ (5) ] فى الأصل: «فيؤذونه» .
[ (6) ] فى الأصل: «جاشتها» . وحاشتها الحرب: جمعتها وساقتها. (الصحاح، ص 1003) .
[ (7) ] التنجع والانتجاع والنجعة: طلب الكلأ ومساقط الغيث. (النهاية، ج 4، ص 138) .(2/814)
قَالُوا: وَقَدْ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ. وَقَدْ رَكِبَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدّلْدُلَ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ رَسُولًا إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَسَمِعَ صَوْتَ أبى سفيان فقال: أبا حنظلة! فقال أَبُو سُفْيَانَ: يَا لَبّيْكَ، أَبُو الْفَضْلِ! قَالَ الْعَبّاسُ:
نَعَمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا وَرَاءَك؟ قَالَ الْعَبّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسْلِمْ، ثَكِلَتْك أُمّك وَعَشِيرَتُك! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ فَقَالَ: أَسْلِمَا، فَإِنّي لَكُمَا جَارٌ حَتّى تَنْتَهُوا إلَى رَسُولِ اللهِ، فَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَقْتَطِعُوا دُونَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالُوا: فَنَحْنُ مَعَك.
قَالَ: فَخَرَجَ بِهِمْ الْعَبّاسُ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو سُفْيَانَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، قَدْ أَجَرْتهمْ وَهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَدْخِلْهُمْ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَمَكَثُوا عِنْدَهُ عَامّةَ اللّيْلِ يَسْتَخْبِرُهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ:
تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّي رَسُولُ اللهِ! فَأَمّا حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ فَشَهِدَا، وَأَمّا أَبُو سُفْيَانَ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، فَلَمّا قَالَ «وَأَنّي رَسُولُ اللهِ» قَالَ: وَاَللهِ يَا مُحَمّدُ، إنّ فِي النّفْسِ مِنْ هَذَا لَشَيْئًا يَسِيرًا بَعْدُ، فَأَرْجِئْهَا. ثُمّ قَالَ لِلْعَبّاسِ: قَدْ أَجَرْنَاهُمْ، اذْهَبْ بِهِمْ إلَى مَنْزِلِك. فَلَمّا أَذّنَ الصّبْحُ أَذّنَ الْعَسْكَرُ كُلّهُمْ، فَفَزِعَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ أَذَانِهِمْ وَقَالَ: مَا يَصْنَعُونَ؟ قَالَ الْعَبّاسُ:
فَقُلْت: الصّلَاةُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَمْ يُصَلّونَ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ؟ قَالَ:
الْعَبّاسُ: يُصَلّونَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَثِيرٌ وَاَللهِ! قَالَ: ثُمّ(2/815)
رَآهُمْ يَبْتَدِرُونَ وُضُوءَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْت يَا أَبَا الْفَضْلِ مُلْكًا هَكَذَا قَطّ، لَا مُلْكَ كِسْرَى، وَلَا مُلْكَ بَنِي الْأَصْفَرِ! فَقَالَ الْعَبّاسُ:
وَيْحَك، آمِنْ! قَالَ: أَدْخِلْنِي عَلَيْهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ! فَأَدْخَلَهُ الْعَبّاسُ عَلَيْهِ وَقَالَ:
يَا مُحَمّدُ اسْتَنْصَرْت إلَهِي وَاسْتَنْصَرْت إلَهَك، فَلَا وَاَللهِ مَا لَقِيتُك مِنْ مَرّةٍ إلّا ظَفِرْت عَلَيّ، فَلَوْ كَانَ إلَهِي مُحِقّا وَإِلَهُك مُبْطِلًا غَلَبْتُك! فَتَشَهّدَ أَبُو سُفْيَانَ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمّدُ، جِئْت بِأَوْبَاشِ [ (1) ] النّاسِ، مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ، إلَى عَشِيرَتِك وَأَصْلِك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ أَظْلَمُ وَأَفْجَرُ، غَدَرْتُمْ بِعَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ وَظَاهَرْتُمْ عَلَى بَنِي كَعْبٍ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حَرَمِ اللهِ وَأَمْنِهِ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَحَيّكُمْ [ (2) ] يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ كُنْت جَعَلْت حِدّتَك وَمَكِيدَتَك بِهَوَازِنَ، فَهُمْ أَبْعَدُ رَحِمًا وَأَشَدّ لَك عَدَاوَةً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي لَأَرْجُو مِنْ رَبّي أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ لِي كُلّهُ بِفَتْحِ مَكّةَ، وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ بِهَا، وَهَزِيمَةِ هَوَازِنَ! وَأَنْ يُغْنِمَنِي اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ، فَإِنّي رَاغِبٌ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ!
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْت يَعْقُوبَ بْنَ عُتْبَةَ يُخْبِرُ عَنْ عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بمرّ الظّهران، قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ: وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ! وَاَللهِ لَئِنْ دَخَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً إنّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدّهْرِ. قَالَ: فَأَخَذْت بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّهْبَاءَ فَرَكِبْتهَا، وَقُلْت: أَلْتَمِسُ إنْسَانًا أَبْعَثُهُ إلَى قُرَيْشٍ، فَيَلْقَوْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عليهم عنوة. قال: فو الله إنى لفى الأراك أبتغى
__________
[ (1) ] الأوباش من الناس: الأخلاط. (الصحاح، ص 1025) .
[ (2) ] فى الأصل: «وجيكم» ، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات.(2/816)
إنْسَانًا إذْ سَمِعْت كَلَامًا يَقُولُ: وَاَللهِ إنْ رَأَيْت كَاللّيْلَةِ مِنْ [ (1) ] النّيرَانِ. قَالَ:
يَقُولُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: هَذِهِ وَاَللهِ خُزَاعَةُ حَاشَتْهَا الْحَرْبُ! قال أبو سفيان:
خُزَاعَةُ أَقَلّ وَأَذَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهُمْ وَعَسْكَرُهُمْ. قَالَ: وَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ فَقُلْت: أَبَا حَنْظَلَةَ! فَقَالَ: يَا لَبّيْكَ، أَبَا الْفَضْلِ- وعرف صوتي- مالك، فِدَاك أَبِي وَأُمّي؟ فَقُلْت: وَيْلَك، هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ. فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمّي! مَا تَأْمُرُنِي، هَلْ مِنْ حِيلَةٍ؟
قُلْت: نَعَمْ، تَرْكَبُ عَجُزَ هَذِهِ الْبَغْلَةِ فَأَذْهَبُ بِك إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّهُ وَاَللهِ إنْ ظُفِرَ بِك دُونَ رَسُولِ اللهِ، لَتُقْتَلَن. قَالَ أَبُو سفيان:
وَأَنَا وَاَللهِ أَرَى ذَلِكَ. قَالَ: وَرَجَعَ بُدَيْلٌ وَحَكِيمٌ، ثُمّ رَكِبَ خَلْفِي، ثُمّ وَجّهْت بِهِ، كُلّمَا مَرَرْت بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْنِي قَالُوا:
عَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمّا رَآنِي قَامَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: الْعَبّاسُ.
قَالَ: فَذَهَبَ يَنْظُرُ، فَرَأَى أبا سفيان خَلْفِي فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ، عَدُوّ اللهِ! الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ مِنْك بِلَا عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ! ثُمّ خَرَجَ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدّ، وَرَكَضَتْ الْبَغْلَةُ حَتّى اجْتَمَعْنَا جَمِيعًا عَلَى بَابِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى إثْرِي، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوّ اللهِ، قَدْ أَمْكَنَ اللهُ مِنْهُ بِلَا عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ. قَالَ: قُلْت. يَا رَسُولَ، اللهِ إنّي قَدْ أَجَرْته! قَالَ: ثُمّ الْتَزَمْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: وَاَللهِ لَا يُنَاجِيهِ اللّيْلَةَ أَحَدٌ غَيْرِي- أَوْ دُونِي. فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِيهِ قُلْت: مَهْلًا يَا عُمَرُ! فَإِنّهُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْت هَذَا، وَلَكِنّهُ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَقَالَ عُمَرُ: مَهْلًا، يَا أبا الفضل! فو الله لإسلامك كان
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فى النيران» .(2/817)
أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ بِهِ، فَقَدْ أَجَرْته لَك فَلِيَبِتْ عِنْدَك حَتّى تَغْدُو بِهِ عَلَيْنَا إذَا أَصْبَحْت. فَلَمّا أَصْبَحْت غَدَوْت بِهِ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَيْحَك، يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ؟
قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَعْظَمَ عَفْوَك! قَدْ كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ إلَهٌ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي شَيْئًا بَعْدُ. قَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، مَا أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أمّا هذه، فو الله إنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا لَشَيْئًا بَعْدُ.
فَقَالَ الْعَبّاسُ: فَقُلْت: وَيْحَك، اشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلا الله! واشهد أن محمدا عبده ورسوله قَبْلُ- وَاَللهِ- أَنْ تُقْتَلَ! فَقَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ الْعَبّاسُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّك عَرَفْت أَبَا سُفْيَانَ وَحُبّهُ الشّرَفَ وَالْفَخْرَ، اجْعَلْ لَهُ شَيْئًا! قَالَ: نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبّاسِ بَعْدَ مَا خَرَجَ: احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي إلَى خَطْمِ [ (1) ] الْجَبَلِ حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا.
قَالَ الْعَبّاسُ:
فَعَدَلْت بِهِ فِي مَضِيقِ الْوَادِي إلَى خَطْمِ الْجَبَلِ، فَلَمّا حبست أبا سفيان قَالَ:
غَدْرًا بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ الْعَبّاسُ: إنّ أَهْلَ النّبُوّةِ لَا يَغْدِرُونَ، وَلَكِنْ لِي إلَيْك حَاجَةٌ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَهَلّا بَدَأْت بِهَا أَوّلًا! فَقُلْت: إنّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَكَانَ أَفْرَخَ لِرَوْعِي. قَالَ الْعَبّاسُ: لَمْ أَكُنْ أَرَاك تَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ.
وَعَبّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى قَادَتِهَا وَالْكَتَائِبُ عَلَى رَايَاتِهَا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] خطم الجبل: أنفه. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 363) .(2/818)
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُمْ أَلْفٌ، فِيهِمْ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ، وَلِوَاءٌ يَحْمِلُهُ خُفَافُ [ (1) ] بْنُ نُدْبَةَ، وَرَايَةٌ يحملها [الحجّاج بن علاط] [ (2) ] .
قال أَبُو سُفْيَانَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ الْعَبّاسُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ:
الْغُلَامُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمّا حَاذَى خَالِدٌ الْعَبّاسَ، وَإِلَى جَنْبِهِ أَبُو سُفْيَانَ، كَبّرَ ثَلَاثًا، ثُمّ مَضَوْا. ثُمّ مَرّ عَلَى إثْرِهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ فِي خَمْسِمِائَةٍ- مِنْهُمْ مُهَاجِرُونَ وَأَفْنَاءُ [ (3) ] الْعَرَبِ- وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ، فَلَمّا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ كَبّرَ ثَلَاثًا وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. قال:
ابن أختك؟ قال: نعم. ومرّ بنو غفار فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، يَحْمِلُ رَايَتَهُمْ أَبُو ذَرّ الْغِفَارِيّ- وَيُقَالُ إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ- فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلَاثًا. قَالَ:
يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي وَلِبَنِي غِفَارٍ! ثُمّ مَضَتْ أَسْلَمُ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر ناجية بْنُ الْأَعْجَمِ، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلَاثًا. قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ:
أَسْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الفضل، ما لي وَلِأَسْلَمَ! مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مَرّةٌ قَطّ.
قَالَ الْعَبّاسُ: هُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. ثُمّ مَرّتْ بَنُو عَمْرِو بْنُ كَعْبٍ فِي خَمْسِمِائَةٍ، يَحْمِلُ رَايَتَهُمْ بُسْرُ [ (4) ] بْنُ سُفْيَانَ. قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟
قَالَ: بَنُو كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ: نَعَمْ، هَؤُلَاءِ حُلَفَاءُ مُحَمّدٍ! فَلَمّا حاذوه
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حفاف بن ندبه» ، وما أثبتناه عن الزرقانى، عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 364) . وعن ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 450) .
[ (2) ] الزيادة من الزرقانى، عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 364) .
[ (3) ] يقال: هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو. (الصحاح، ص 2457) .
[ (4) ] فى الأصل: «بسير» على صيغة التصغير. وما أثبتناه من الزرقانى، عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 364) . ومن ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 166) .(2/819)
كَبّرُوا ثَلَاثًا. ثُمّ مَرّتْ مُزَيْنَةُ فِي أَلْفٍ، فِيهَا ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ وَفِيهَا مِائَةُ فَرَسٍ، يَحْمِلُ أَلْوِيَتَهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقَرّنٍ، وَبِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مُزَيْنَةُ. قَالَ: يَا أبا الفضل ما لي وَلِمُزَيْنَةَ! قَدْ جَاءَتْنِي تُقَعْقِعُ مِنْ شَوَاهِقِهَا [ (1) ] . ثُمّ مَرّتْ جُهَيْنَةُ فِي ثَمَانِمِائَةٍ مَعَ قَادَتِهَا، فِيهَا أَرْبَعَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ أَبِي رَوْعَةَ مَعْبَدَ بْنِ خَالِدٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ عبد الله بن بدر [ (2) ] . قال:
فلمّا حاذره كَبّرُوا ثَلَاثًا. ثُمّ مَرّتْ كِنَانَةُ، بَنُو لَيْثٍ، وَضَمْرَةُ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ فِي مِائَتَيْنِ، يَحْمِلُ لِوَاءَهُمْ أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِيّ، فَلَمّا حَاذَوْهُ كَبّرُوا ثَلَاثًا، فَقَالَ:
مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: بَنُو بَكْرٍ. قَالَ: نَعَمْ، أَهْلُ شُؤْمٍ وَاَللهِ! الّذِينَ غَزَانَا مُحَمّدٌ بِسَبَبِهِمْ، أَمَا وَاَللهِ مَا شُووِرْت فِيهِ وَلَا عَلِمْته، وَلَقَدْ كُنْت لَهُ كَارِهًا حَيْثُ بلغني، ولكنه أمر حُمّ! قَالَ الْعَبّاسُ: قَدْ خَارَ اللهُ لَك فِي غَزْوِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَافّةً.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بْنِ حَمَاسٍ قَالَ: مَرّتْ بَنُو لَيْثٍ وَحْدَهَا، وَهُمْ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، يَحْمِلُ لِوَاءَهَا الصّعْبُ بْنُ جَثّامَةَ، فَلَمّا مَرّ كَبّرُوا ثَلَاثًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: بَنُو لَيْثٍ. ثُمّ مَرّتْ أَشْجَعُ- وَهُمْ آخر من مرّ وهم ثلاثمائة، مَعَهُمْ لِوَاءَانِ، لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا أَشَدّ الْعَرَبِ عَلَى مُحَمّدٍ. فَقَالَ الْعَبّاسُ: أَدْخَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ! فَسَكَتَ ثُمّ قَالَ: مَا مَضَى بَعْدُ مُحَمّدٌ! قَالَ العبّاس: لم يمض
__________
[ (1) ] الشواهق: جمع شاهق، وهو الجبل المرتفع. (الصحاح، ج 1505) .
[ (2) ] فى الأصل: «عبد الله بن زيد» ، وما أثبتناه من الزرقانى، عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 364) . ومن ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 871) .(2/820)
بَعْدُ، لَوْ رَأَيْت الْكَتِيبَةَ الّتِي فِيهَا مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْت الْحَدِيدَ وَالْخَيْلَ وَالرّجَالَ، وَمَا لَيْسَ لِأَحَدِ بِهِ طَاقَةٌ، قَالَ: أَظُنّ وَاَللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ، وَمَنْ لَهُ بِهَؤُلَاءِ طَاقَةٌ؟ فَلَمّا طَلَعَتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضْرَاءُ طَلَعَ سَوَادٌ وَغَبَرَةٌ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، وَجَعَلَ النّاسُ يَمُرّونَ، كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ:
مَا مَرّ مُحَمّدٌ! فَيَقُولُ الْعَبّاسُ: لَا حَتّى مَرّ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وهو يحدّثهما، فقال الْعَبّاسُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فِيهَا الرّايَاتُ وَالْأَلْوِيَةُ، مَعَ كُلّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ رَايَةٌ وَلِوَاءٌ، فِي الْحَدِيدِ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ، وَلِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا زَجَلٌ- وَعَلَيْهِ الْحَدِيدُ- بِصَوْتِ عَالٍ وَهُوَ يُزْعِجُهَا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَنْ هَذَا المتكلّم؟ قال: عمر ابن الْخَطّابِ. قَالَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ بَنِي عَدِيّ بَعْدُ- وَاَللهِ- قِلّةٍ وَذِلّةٍ! فَقَالَ الْعَبّاسُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، إنّ اللهَ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ [ (1) ] بِمَا يَشَاءُ، وَإِنّ عُمَرَ مِمّنْ رَفَعَهُ الْإِسْلَامُ. وَيُقَالُ: كَانَ فِي الْكَتِيبَةِ أَلْفُ دَارِعٍ.
وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَهُوَ أَمَامَ الْكَتِيبَةِ، فَلَمّا مَرّ سَعْدٌ بِرَايَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى: يَا أَبَا سُفْيَانَ! الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ! الْيَوْمَ أَذَلّ اللهُ قُرَيْشًا! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى إذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمِرْت بِقَتْلِ قَوْمِك؟ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرّ بِنَا قَالَ «يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ! الْيَوْمَ أَذَلّ اللهُ قُرَيْشًا!» وَإِنّي أَنْشُدُك اللهَ فِي قَوْمِك، فَأَنْتَ أَبَرّ النّاسِ، وَأَرْحَمُ النّاسِ، وَأَوْصَلُ النّاسِ. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ما يشاء» .(2/821)
عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ! الْيَوْمَ أَعَزّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشًا!
قَالَ: وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إنى سَعْدٍ فَعَزَلَهُ، وَجَعَلَ اللّوَاءَ إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ اللّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ سَعْدٍ حِينَ صَارَ لِابْنِهِ. فَأَبَى سَعْدٌ أَنْ يُسَلّمَ اللّوَاءَ إلّا بِأَمَارَةِ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِمَامَتِهِ، فَعَرَفَهَا سَعْدٌ فَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ أَهْلِهِ، قَالُوا: دَخَلَ وَاَللهِ سَعْدٌ بِلِوَائِهِ حَتّى غَرَزَهُ بِالْحَجُونِ. وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ: وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخَذَ اللّوَاءَ، فَذَهَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِهَا حَتّى دَخَلَ بِهَا مَكّةَ فَغَرَزَهَا عِنْدَ الرّكْنِ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ قَطّ، وَلَا خَبّرَنِيهِ مُخَبّرٌ! سُبْحَانَ اللهِ، مَا لِأَحَدِ بِهَذِهِ طَاقَةٌ وَلَا يَدَانِ! ثُمّ قَالَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا! قَالَ، قُلْت: وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ، لَيْسَ بِمُلْكِ وَلَكِنّهَا نُبُوّةٌ. قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: قَالَ لَهُ الْعَبّاسُ: فَانْجُ وَيْحَك فَأَدْرِكْ قَوْمَك قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فَتَقَدّمَ النّاسُ كُلّهُمْ حَتّى دَخَلَ مِنْ كَدَاءٍ [ (1) ] وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ! حَتّى انْتَهَى إلَى هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: هَذَا مُحَمّدٌ فِي عَشَرَةِ آلاف عليهم الحديد، وقد
__________
[ (1) ] كداء: جبل بمكة. (معجم ما استعجم، ص 469) .(2/822)
جَعَلَ لِي: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ طَرَحَ السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَتْ: قَبّحَك اللهُ رَسُولَ قَوْمٍ. قَالَ: وَجَعَلَ يَصْرُخُ بِمَكّةَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَيْحَكُمْ! إنّهُ قَدْ جَاءَ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ! هَذَا مُحَمّدٌ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ عَلَيْهِمْ الْحَدِيدُ، فَأَسْلِمُوا! قَالُوا: قَبّحَك اللهُ وَافِدَ قَوْمٍ! وَجَعَلَتْ هِنْدُ تَقُولُ: اُقْتُلُوا وَافِدَكُمْ هَذَا، قَبّحَك اللهُ وَافِدَ قَوْمٍ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ، لَا تَغُرّنكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ! رَأَيْت مَا لَمْ تَرَوْا! رَأَيْت الرّجَالَ وَالْكُرَاعَ وَالسّلَاحَ، فَلَا لِأَحَدِ بِهَذَا طَاقَةٌ! قَالُوا: وَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ إلَى ذِي طُوًى، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتّى تَلَاحَقَ النّاسُ. وَقَدْ كَانَ صَفْوَانُ بْنُ أميّة، وعكرمة ابن أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ دَعَوْا إلَى قِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَوَى إلَيْهِمْ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَهُذَيْلٍ، وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ، وَيُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يَدْخُلُهَا مُحَمّدٌ عَنْوَةً أَبَدًا. فَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدّيلِ يُقَالُ لَهُ: حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الدّيلِيّ، لَمّا سَمِعَ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم جَلَسَ يُصْلِحُ سِلَاحَهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَنْ تُعِدّ هَذَا؟
قَالَ: لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنّي أَرْجُو أَنْ أَخْدُمَك مِنْهُمْ خَادِمًا فَإِنّك إلَيْهِ مُحْتَاجَةٌ. قَالَتْ: وَيْحَك، لَا تَفْعَلْ وَلَا تُقَاتِلْ مُحَمّدًا! وَاَللهِ لَيَضِلّن هَذَا عَنْك لَوْ رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ: سَتَرَيْنَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ [ (1) ] حِبَرَةٍ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ،
__________
[ (1) ] الشقة: النصف. والحبرة: ضرب من ثياب اليمن. (شرح أبى ذر، ص 369) .(2/823)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءُ، وَلِوَاؤُهُ أَسْوَدُ، حَتّى وَقَفَ بِذِي طُوًى وَتَوَسّطَ النّاسَ وَإِنّ عُثْنُونَهُ [ (1) ] لَيَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ، تَوَاضُعًا لِلّهِ تَعَالَى حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ فَتْحِ اللهِ وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمّ قَالَ: الْعَيْشُ عَيْشُ الْآخِرَةُ! قَالَ:
وَجَعَلَتْ الْخَيْلُ تَمْعَجُ [ (2) ] بِذِي طُوًى فِي كُلّ وَجْهٍ، ثُمّ ثَابَتْ وَسَكَنَتْ حَيْثُ تَوَسّطَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَصَعِدَ أَبُو قُحَافَةَ يَوْمَئِذٍ بِصُغْرَى بَنَاتِهِ، قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي قُحَافَةَ، تَقُودُهُ حَتّى ظَهَرَتْ بِهِ إلَى أَبِي قُبَيْسٍ- وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ- فَلَمّا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ قَالَ: يَا بُنَيّةُ، مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ ذَلِكَ السّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. قَالَ:
ذَلِكَ الْوَازِعُ [ (3) ] يَا بُنَيّةُ، اُنْظُرِي مَا تَرَيْنَ! قَالَتْ: تَفَرّقَ السّوَادُ. قَالَ:
قَدْ تَفَرّقَتْ الْجُيُوشُ! الْبَيْتَ! الْبَيْتَ! قَالَتْ: فَنَزَلْت بِهِ. قَالَ: فَجَعَلَتْ الْجَارِيَةُ تَرْعَبُ لِمَا تَرَى، فَيَقُولُ: يَا بُنَيّةُ، لا تخافي! فو الله إنّ أَخَاك عَتِيقًا [ (4) ] لَآثُرُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ عِنْدَ مُحَمّدٍ. قَالَ: وَعَلَيْهَا طَوْقٌ مِنْ فِضّةٍ، فَاخْتَلَسَهُ بَعْضُ مَنْ دَخَلَ.
قَالُوا: فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنْشُدُ بِاَللهِ طَوْقَ أُخْتِي! ثَلَاثَ مَرّاتٍ. ثُمّ قَالَ: يَا أُخَيّةُ احْتَسِبِي طَوْقَك، فَإِنّ الْأَمَانَةَ فِي النّاسِ قَلِيلٌ.
__________
[ (1) ] العثنون: اللحية. (النهاية، ج 3، ص 69) .
[ (2) ] معج: أى أسرع. (القاموس المحيط، ص 207) .
[ (3) ] الوازع: يريد أنه صالح للتقدم على الجيش وتدبير أمرهم وترتيبهم فى قتالهم. (النهاية، ج 4، ص 208) .
[ (4) ] فى الأصل: «عتيق» .(2/824)
قَالُوا: ثُمّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ؟
فَقَالَ [ (1) ] :
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ
ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن الْعَوّامِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كُدًى [ (2) ] ، وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ اللّيطِ [ (3) ] ، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ، وَالرّايَةُ مَعَ ابْنِهِ قَيْسٍ، وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مِنْ أَذَاخِرَ. وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقِتَالِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ سِتّةِ نَفَرٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَهَبّارِ بْنِ الأسود، وعبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ اللّيْثِيّ، وَالْحُوَيْرِثِ بْنِ نُقَيْذٍ [ (4) ] ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ الْأَدْرَمِيّ، وَهِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَارَةَ مَوْلَاةَ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، وَقَيْنَتَيْنِ لِأَبِي خَطَلٍ: قُرَيْنَا وَقُرَيْبَةَ، وَيُقَالُ: فَرْتَنَا وَأَرْنَبَةَ. فَكُلّ الْجُنُودِ دَخَلَ فَلَمْ يَلْقَ جَمْعًا، فَلَمّا دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَجَدَ جَمْعًا مِنْ قُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا [ (5) ] قَدْ جَمَعُوا لَهُ، فِيهِمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَمَنَعُوهُ الدّخُولَ، وَشَهَرُوا السّلَاحَ، وَرَمَوْا بِالنّبْلِ، وَقَالُوا: لَا تَدْخُلُهَا عَنْوَةً أَبَدًا! فَصَاحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، وأربعة من
__________
[ (1) ] ذكر ابن إسحاق هذا البيت ضمن قصيدة طويلة لحسان بن ثابت. (السيرة النبوية، ج 4، ص 64) . وانظر ديوان حسان. (ص 1) .
[ (2) ] كدى: جبل قريب من كداء. (معجم ما استعجم، ص 469) .
[ (3) ] الليط: موضع بأسفل مكة. (معجم ما استعجم، ص 499) .
[ (4) ] فى الأصل: «الحويرث بن نفيل» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 98) .
وعن البلاذري أيضا. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 357) .
[ (5) ] فى الأصل: «أجانيسها» .(2/825)
هُذَيْلٍ، وَانْهَزَمُوا أَقْبَحَ الِانْهِزَامِ حَتّى قُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ [ (1) ] وَهُمْ مُوَلّونَ فِي كُلّ وَجْهٍ.
وَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَاتّبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَصِيحَانِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلَامَ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؟ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ السّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ. فَجَعَلَ النّاسُ يَقْتَحِمُونَ الدّورَ، وَيُغَلّقُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَطْرَحُونَ السّلَاحَ فِي الطّرُقِ حَتّى يَأْخُذَهَا الْمُسْلِمُونَ.
وَلَمّا ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَنِيّةِ أَذَاخِرَ نَظَرَ إلَى الْبَارِقَةِ [ (2) ] فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْبَارِقَةُ، أَلَمْ أَنْهَ عَنْ الْقِتَالِ؟ قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قُوتِلَ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتَلْ مَا قَاتَلَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَضَى اللهُ خَيْرًا!
قَالَ: وَجَعَلَ يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ خَارِجَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الْكَعْبِيّ، أَنْشَدَنِيهَا [] [ (3) ] عَنْ أَبِيهِ:
إذَا مَا رَسُولُ اللهِ فِينَا رَأَيْتنَا ... كَلُجّةِ بَحْرٍ نَالَ فِيهَا سَرِيرُهَا
إذَا مَا ارْتَدَيْنَا الْفَارِسِيّةَ فَوْقَهَا ... رُدَيْنِيّةٌ [ (4) ] يَهْدِي الْأَصَمّ خَرِيرُهَا [ (5) ]
[] [ (6) ] وَإِنّ مُحَمّدًا لَهَا نَاصِرٌ ... عَزّتْ وَعَزّ نَصِيرُهَا
وَأَقْبَلَ ابْنُ خَطَلٍ جَائِيًا مِنْ مَكّةَ، مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ، عَلَى فَرَسٍ ذَنُوبٍ [ (7) ] ، بِيَدِهِ قَنَاةٌ. وَبَنَاتُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَدْ ذُكِرَ لَهُنّ أَنّ رَسُولَ اللهِ
__________
[ (1) ] الحزورة: سوق مكة وقد دخلت فى المسجد لما زيد فيه. (معجم البلدان، ج 3، ص 371) .
[ (2) ] بارقة السيوف: لمعانها، يقال: برق بسيفه وأبرق إذا لمع به. (النهاية، ج 1، ص 74) .
[ (3) ] كلمة غامضة، رسمها فى الأصل: «حرايد» .
[ (4) ] القناة الردينية والرمح الرديني، زعموا أنه منسوب إلى امرأة السمهري تسمى ردينة. وكانا يقومان القناة بخط هجر. (الصحاح، ص 2122) .
[ (5) ] فى الأصل: «جريرها» ، وما أثبتناه أقرب إلى السياق. والخرير: صوت الماء والريح.
(القاموس المحيط، ج 2، ص 19) .
[ (6) ] بياض بالأصل.
[ (7) ] الذنوب: الفرس الطويل الذنب. (الصحاح، ص 128) .(2/826)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ، فَخَرَجْنَ قَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ، يَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ وُجُوهَ الْخَيْلِ، فَضَرَبَهُنّ ابْنُ خَطَلٍ جَائِيًا مِنْ أَعْلَى مَكّةَ فَقَالَ لَهُنّ: أَمَا وَاَللهِ لَا يَدْخُلُهَا حَتّى تَرَيْنَ ضَرْبًا كَأَفْوَاهِ الْمَزَادِ [ (1) ] ! ثُمّ خَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْخَنْدَمَةِ، فَرَأَى خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ وَرَأَى الْقِتَالَ، وَدَخَلَهُ الرّعْبُ حَتّى مَا يَسْتَمْسِكُ مِنْ الرّعْدَةِ، حَتّى انْتَهَى إلَى الْكَعْبَةِ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَطَرَحَ سِلَاحَهُ، فَأَتَى الْبَيْتَ فَدَخَلَ بَيْنَ أَسْتَارِهِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخَذَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ دِرْعَهُ، وَصَفَفَهُ [ (2) ] ، وَمِغْفَرَهُ، وَبَيْضَتَهُ، وَسَيْفَهُ، وَأَدْرَكَ فَرَسَهُ غَائِرًا فَأَدْرَكَهُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، وَلَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجُونِ. قَالُوا:
وَأَقْبَلَ حِمَاسُ بْنُ خَالِدٍ مُنْهَزِمًا حَتّى أَتَى بَيْتَهُ، فَدَقّهُ فَفَتَحَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ فَدَخَلَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رُوحُهُ، فَقَالَتْ: أَيْنَ الْخَادِمُ الّذِي وَعَدْتنِي؟ مَا زِلْت مُنْتَظِرَتُك مُنْذُ الْيَوْمِ تُسَخّرُ بِهِ! قَالَ: دَعِي عَنْك، أَغْلِقِي بَابِي! فَإِنّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ! قَالَتْ: وَيْحَك! أَلَمْ أَنْهَك عَنْ قِتَالِ مُحَمّدٍ؟ وَقُلْت لَك:
«مَا رَأَيْته يُقَاتِلُكُمْ مِنْ مَرّةٍ إلّا ظَهَرَ عَلَيْكُمْ» ، وَمَا بَابُنَا؟ قَالَ: إنّهُ لَا يُفْتَحُ عَلَى أَحَدٍ بَابُهُ. ثُمّ قَالَ- أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ:
وَأَنْتَ لَوْ شَهِدْتنَا بِالْخَنْدَمَهْ ... إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرَمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ [ (3) ] كَالْعَجُوزِ الْمُؤْتِمَهْ [ (4) ] ... لَمْ تَنْطِقِي فى اللّوم أدنى كلمه
__________
[ (1) ] المزاد: جمع المزادة، وهي الرواية. قال أبو عبيد: لا تكون إلا من جلدين تفأم بجلد ثالث بينهما لتتسع. (الصحاح، ص 479) .
[ (2) ] فى الأصل: «وصفاصة» . والصفف: ما يلبس تحت الدرع. (القاموس المحيط، ج 3، ص 163) .
[ (3) ] هو سهيل بن عمرو خطيب قريش. (الروض الأنف، ج 2، ص 272) .
[ (4) ] المؤتمة: المرأة التي قتل زوجها فبقى لها أيتام. (شرح أبى ذر، ص 370) .(2/827)
وَضَرَبَتْنَا [ (1) ] بِالسّيُوفِ الْمِسْلِمَهْ ... لَهُمْ زَئِيرٌ [ (2) ] خَلْفَنَا وَغَمْغَمَهْ [ (3) ]
قَالَ: وَأَقْبَلَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى انْتَهَى بِهِمْ إلَى الْحَجُونِ، فَغَرّزَ الرّايَةَ عِنْدَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أحد إلّا رجلان من أصحابه، أخطئا طَرِيقَهُ فَسَلَكَا غَيْرَهَا فَقُتِلَا، كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الفهرىّ، فقام عليه خالد الأشعر وَهُوَ جَدّ حِزَامِ بْنِ خَالِدٍ حَتّى قُتِلَ، وَكَانَ الّذِي قَتَلَ خَالِدًا ابْنُ أَبِي الْجِذْعِ الْجُمَحِيّ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ بَشِيرٍ مَوْلَى الْمَازِنِيّينَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْت مِمّنْ لَزِمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلْت مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَذَاخِرَ، فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى أَذَاخِرَ نَظَرَ إلَى بُيُوتِ مَكّةَ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ قُبّتِهِ فَقَالَ: هَذَا مَنْزِلُنَا يَا جَابِرُ، حَيْثُ تَقَاسَمَتْ عَلَيْنَا قُرَيْشٌ فِي كُفْرِهَا. قَالَ جَابِرٌ: فَذَكَرْت حَدِيثًا كُنْت أَسْمَعُهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ: «مَنْزِلُنَا غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ إذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا مَكّةَ فِي الْخَيْفِ [ (4) ] حِينَ تَقَاسَمُوا عَلَيّ الْكُفْر» . وَكُنّا بِالْأَبْطَحِ وِجَاهَ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ حُصِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هَاشِمٍ ثَلَاثَ سِنِينَ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ أبو رافع
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل والبلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 357) . وفى ابن إسحاق:
«واستقبلتهم» . (السيرة النبوية، ج 4، ص 51) .
[ (2) ] فى الأصل: «لهم زبير» ، وما أثبتناه عن البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 357) .
والزئير: صوت الأسد فى صدره. (الصحاح، ص 666) .
[ (3) ] الغمغمة: أصوات الأبطال فى الحرب. (شرح أبى ذر، ص 370) .
[ (4) ] الخيف: هو بطحاء مكة، وقيل مبتدأ الأبطح، وهو الحقيقة فيه، لأن أصله ما انحدر من الجبل وأرتفع من المسيل. (معجم البلدان، ج 3، ص 500) .(2/828)
قَدْ ضَرَبَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبّةً بِالْحَجُونِ مِنْ أَدَمٍ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى انْتَهَى إلى القبّة، ومعه أم سلمة وميمونة.
قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَنْزِلُ مَنْزِلَك مِنْ الشّعْبِ؟ قَالَ:
فَهَلْ ترك لنا عقيل [ (1) ] منزلا؟ وكان عُقَيْلٌ قَدْ بَاعَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْزِلَ إخْوَتِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ بِمَكّةَ. فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْزِلْ فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكّةَ فِي غَيْرِ مَنَازِلِك! فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا أَدْخُلُ الْبُيُوتَ. فَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا، وَكَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَجُونِ.
قَالَ: وَحَدّثَنَا ابْنُ خَدِيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: لَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَدْخُلْ بُيُوتَ مَكّةَ، فَاضْطَرَبَ بِالْأَبْطَحِ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ، وَعَامَ الْفَتْحِ، وَفِي حَجّتِهِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ [ (2) ] قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ فِي الْفَتْحِ، وَيَأْتِي لِكُلّ صَلَاةٍ.
قَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ تَحْتَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَخَلَ عَلَيْهَا حَمَوَانِ لَهَا- عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ- فَاسْتَجَارَا بِهَا وَقَالَا: نَحْنُ فِي جِوَارِك! فَقَالَتْ:
نَعَمْ، أَنْتُمَا فِي جِوَارِي. قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ: فَهُمَا عِنْدِي إذْ دَخَلَ عَلِيّ فَارِسًا، مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ، وَلَا أَعْرِفُهُ، فَقُلْت لَهُ: أَنَا بِنْتُ عَمّ رسول الله صلّى الله
__________
[ (1) ] أى عقيل بن أبى طالب.
[ (2) ] هكذا فى الأصل. ويلاحظ أن مطعم بن عدى جد محمد المذكور مات قبل بدر بنحو سبعة أشهر.
انظر أسد الغابة. (ج 1، ص 271) . ولعل الخبر عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مطعم كما سيجيء فى ص 858.(2/829)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: فَكَفّ عَنّي وَأَسْفَرَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقُلْت: أَخِي! فَاعْتَنَقْته وَسَلّمْت عَلَيْهِ، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا فَشَهَرَ السّيْفَ عَلَيْهِمَا.
قُلْت: أَخِي مِنْ بَيْنِ النّاسِ يَصْنَعُ بِي هَذَا! قَالَتْ: وَأَلْقَيْت عَلَيْهِمَا ثَوْبًا، وَقَالَ: تُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ وَحُلْت دُونَهُمَا فَقُلْت: وَاَللهِ لَتَبْدَأَن بِي قَبْلَهُمَا! قَالَتْ: فَخَرَجَ وَلَمْ يَكَدْ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَيْتًا، وَقُلْت: لَا تَخَافَا!
قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ، قَالَتْ: فَذَهَبْت إلَى خِبَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَوَجَدْت فِيهِ فَاطِمَةَ فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمّي عَلِيّ؟ أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا! قَالَتْ:
فَكَانَتْ أَشَدّ عَلَيّ مِنْ زَوْجِهَا وَقَالَتْ: تُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَتْ: إلَى أَنْ طَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ رَهْجَةُ [ (1) ] الْغُبَارِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِفَاخِتَةَ [ (2) ] أُمّ هَانِئٍ! وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَقُلْت: مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمّي عَلِيّ؟ مَا كِدْت أَنْفَلِتُ مِنْهُ أَجَرْت حَمْوَيْنِ لِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَتَفَلّتَ عَلَيْهِمَا لِيَقْتُلَهُمَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ ذَاكَ، قَدْ أَمّنّا مَنْ أَمّنْت، وَأَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت. ثُمّ أَمَرَ فَاطِمَةَ فَسَكَبَتْ لَهُ غُسْلًا فَاغْتَسَلَ، ثُمّ صَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُلْتَحِفًا بِهِ، وَذَلِكَ ضُحًى فِي فَتْحِ مَكّةَ.
قَالُوا: قَالَتْ: فَرَجَعْت إلَيْهِمَا فَأَخْبَرْتهمَا وَقُلْت لَهُمَا: إنْ شِئْتُمَا فَأَقِيمَا وَإِنْ شِئْتُمَا فَارْجِعَا إلَى مَنَازِلِكُمَا. قَالَتْ: فَأَقَامَا عِنْدِي يَوْمَيْنِ فِي مَنْزِلِي، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى مَنَازِلِهِمَا. قَالَتْ: فَكُنْت أَكُونُ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِبَائِهِ بِالْأَبْطَحِ حَتّى خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ. قَالَتْ: فَأَتَى آت إلى رسول الله صلّى
__________
[ (1) ] الرهجة: آثار الغبار. (القاموس المحيط، ج 1، ص 191) .
[ (2) ] فى الأصل: «بناجية أم هانئ» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 8، ص 32) .(2/830)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الحارث بن هشام وابن أَبِي رَبِيعَةَ جَالِسَانِ فِي نَادِيهِمَا مُتَفَضّلَانِ [ (1) ] فِي الْمُلَاءِ الْمُزَعْفَرِ [ (2) ] . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا سَبِيلَ إلَيْهِمَا، قَدْ أَمّنّاهُمَا! قَالَ: وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ سَاعَةً مِنْ النّهَارِ وَاطْمَأَنّ وَاغْتَسَلَ، ثُمّ دَعَا بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَأُدْنِيَتْ إلَى بَابِ قُبّتِهِ، وَدَعَا لِلُبْسِ السّلَاحِ، وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَدْ صَفّ لَهُ النّاسُ، فَرَكِبَ بِرَاحِلَتِهِ وَالْخَيْلُ تَمْعَجُ بَيْنَ الْخَنْدَمَةِ إلَى الْحَجُونِ،
وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر رضى الله عنه إلَى جَنْبِهِ يَسِيرُ يُحَادِثُهُ، فَمَرّ بِبَنَاتِ أَبِي أُحَيْحَةَ بِالْبَطْحَاءِ حِذَاءَ مَنْزِلِ أَبِي أُحَيْحَةَ وَقَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ، يَلْطِمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ، فَنَظَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أَبِي بَكْرٍ فَتَبَسّمَ، وَذَكَرَ بَيْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ (3) ] .
تَظِلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ [ (4) ] ... يُلَطّمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
وَلَمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى الْكَعْبَةِ فَرَآهَا، وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، تَقَدّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَاسْتَلَمَ الرّكْنَ بِمِحْجَنِهِ، وَكَبّرَ فَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ، فَرَجَعُوا التّكْبِيرَ حَتّى ارْتَجّتْ مَكّةُ تَكْبِيرًا حَتّى جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إلَيْهِمْ: اُسْكُتُوا! وَالْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْجِبَالِ يَنْظُرُونَ.
ثُمّ طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، آخِذٌ بِزِمَامِهَا
__________
[ (1) ] التفضل: التوشح وأن يخالف اللابس بين أطراف ثوبه على عاتقه. (لسان العرب، ج 14، ص 41) .
[ (2) ] الملاء: جمع ملاءة وهي الريطة، أى الثوب اللين. (القاموس المحيط، ج 1، ص 29، ج 2، ص 362) .
[ (3) ] ذكر ابن إسحاق القصيدة كلها. (السيرة النبوية، ج 4، ص 65) .
[ (4) ] متمطرات: أى مصوبات بالمطر، ويقال: متمطرات أى يسبق بعضها بعضا. (شرح أبى ذر، ص 375) .(2/831)
مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، وَسِتّونَ صَنَمًا مُرَصّصَةٌ بِالرّصَاصِ وَكَانَ هُبَلُ أَعْظَمُهَا، وَهُوَ وِجَاهَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَابِهَا، وَإِسَافُ وَنَائِلَةُ حَيْثُ يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ الذّبَائِحَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّمَا مَرّ بِصَنَمِ مِنْهَا يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ [وَيَقُولُ] : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ (1) ] . فَيَقَعُ الصّنَمُ لِوَجْهِهِ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قَالَ: مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشِيرَ بِالْقَضِيبِ إلَى الصّنَمِ فَيَقَعُ لِوَجْهِهِ، فَطَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ بِمِحْجَنِهِ فِي كُلّ طَوَافٍ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ سَبْعِهِ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَجَاءَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَضْلَةَ فَأَخْرَجَ رَاحِلَتَهُ، ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَقَامِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَاصِقٌ بِالْكَعْبَةِ، وَالدّرْعُ عَلَيْهِ وَالْمِغْفَرُ، وَعِمَامَتُهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى زَمْزَمَ فَاطّلَعَ فِيهَا، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَ بَنُو عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَنَزَعْت مِنْهَا دَلْوًا. فَنَزَعَ لَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ. وَيُقَالُ:
الّذِي نَزَعَ الدّلْوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. وَأَمَرَ بِهُبَلَ فَكُسِرَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ. فَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، قَدْ كُسِرَ هُبَلُ! أَمَا إنّك قَدْ كُنْت مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي غُرُورٍ، حِينَ تَزْعُمُ أَنّهُ قَدْ أَنْعَمَ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: دَعْ هَذَا عَنْك يَا ابْنَ الْعَوّامِ، فَقَدْ أَرَى لَوْ كَانَ مَعَ إلَهِ مُحَمّدٍ غَيْرُهُ لَكَانَ غَيْرَ مَا كَانَ! قَالُوا: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فجلس ناحية من
__________
[ (1) ] سورة 17 الإسراء 81(2/832)
الْمَسْجِدِ وَالنّاسُ حَوْلَهُ، ثُمّ أَرْسَل بِلَالًا إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ يَأْتِيه بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ بِلَالٌ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ. قَالَ عُثْمَانُ: نَعَمْ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى أُمّهِ وَهِيَ بِنْتُ شَيْبَةَ، وَرَجَعَ بِلَالٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَالَ نَعَمْ، ثُمّ جَلَسَ بِلَالٌ مَعَ النّاسِ. فَقَالَ عُثْمَانُ لِأُمّهِ، وَالْمِفْتَاحُ يَوْمَئِذٍ عِنْدَهَا:
يَا أُمّهُ، أَعْطِنِي الْمِفْتَاحَ فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرْسَلَ إلَيّ وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِهِ إلَيْهِ. فَقَالَتْ أُمّهُ: أُعِيذُك بِاَللهِ أَنْ تَكُونَ الّذِي تَذْهَبُ مَأْثُرَةُ [ (1) ] قومه على يديه. قال: فو الله لَتَدْفَعَنهُ إلَيّ أَوْ لَيَأْتِيَنك غَيْرِي فَيَأْخُذُهُ مِنْك. فَأَدْخَلَتْهُ فِي حُجْزَتِهَا [ (2) ] وَقَالَتْ: أَيّ رَجُلٍ يُدْخِلُ يده هاهنا؟ فبيناهم عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يُكَلّمُهَا إذْ سَمِعَتْ صَوْتَ أبى بكر وَعُمَرَ فِي الدّارِ، وَعُمَرُ رَافِعٌ صَوْتَهُ حِينَ رَأَى إبْطَاءَ عُثْمَانَ: يَا عُثْمَانُ، اُخْرُجْ إلَيّ! فَقَالَتْ أُمّهُ: يَا بُنَيّ، خُذْ الْمِفْتَاحَ فَأَنْ تَأْخُذَهُ أَنْتَ أَحَبّ [إلَيّ] مِنْ [أَنْ] يَأْخُذَهُ تَيْمٌ وَعَدِيّ.
قَالَ: فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاوَلَهُ إيّاهُ، فَلَمّا نَاوَلَهُ بَسَطَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَدَهُ فَقَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ وَالسّقَايَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَءُونَ فِيهِ، وَلَا أُعْطِيكُمْ مَا تَرْزَءُونَ [ (3) ] مِنْهُ.
وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا فِي قَبْضِ الْمِفْتَاحِ بِوَجْهِ آخَرَ.
قال: حدثني إسمعيل بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عمر،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أن يكون الذي يذهب» . والمأثرة: الخصلة المحمودة التي تتوارث ويتحدث بها.
(شرح أبى ذر، ص 371) .
[ (2) ] حجزة السراويل: التي فيها التكة. (الصحاح، ص 869) .
[ (3) ] قال أبو على: إنما معناه إنما أعطيتكم ما تمنون كالسقاية التي تحتاج إلى مؤن، فأما السدانة فيرزأ لها الناس بالبعث إليها، يعنى كسوة البيت. (شرح أبى ذر، ص 371) .(2/833)
قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى بَعِيرٍ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.
وَأُسَامَةُ رَدِيفُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ بِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَلَمّا بَلَغَ رَأْسَ الثّنِيّةِ أَرْسَلَ عُثْمَانَ فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَاسْتَقْبَلَهُ بِهِ. قَالُوا:
وَكَانَ عُثْمَانُ قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد وعمرو ابن الْعَاصِ مُسْلِمًا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ مَعَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ:
وَهَذَا أَثْبَتُ الْوُجُوهِ.
وَقَالُوا: إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ بَعَثَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْبَطْحَاءِ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ [ (1) ] ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدّمَ فَيَفْتَحَ الْبَيْتَ، فَلَا يَدَعُ فِيهِ صُورَةً إلّا مَحَاهَا، وَلَا تِمْثَالًا، إلّا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ. فَلَمّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ رَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ شَيْخًا كَبِيرًا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ. وَيُقَالُ: أَمَرَهُ أَلّا يَدَعَ صُورَةً إلّا مَحَاهَا، فَتَرَك عُمَرُ صُورَةَ إبْرَاهِيمَ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، أَلَمْ آمُرْك أَلّا تَدَعَ فِيهَا صُورَةً إلّا مَحَوْتهَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ صُورَةُ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: فَامْحُهَا.
فَكَانَ الزّهْرِيّ يَقُولُ: لَمّا دَخَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهَا، وَرَأَى صُورَةَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، قَالَ: قَاتَلَهُمْ اللهُ، جَعَلُوهُ شَيْخًا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ! ثُمّ رَأَى صُورَةَ مَرْيَمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ثُمّ قَالَ: امْسَحُوا مَا فِيهَا مِنْ الصّوَرِ إلّا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُوَرًا، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ فِي الدّلْوِ بِمَاءِ، فَيَبُلّ الثّوْبَ وَيَضْرِبَ بِهِ الصّوَرَ، وَيَقُولُ: قَاتَلَ اللهُ قوما يصوّرون ما لا يخلقون!
__________
[ (1) ] فى السيرة الحلبية، عن الواقدي: «عثمان بن عفان» . (ج 2، ص 211) .(2/834)
قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَعْبَةِ فَغُلّقَتْ عَلَيْهِ، وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتّةِ أَعْمِدَةٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْت بِلَالًا كَيْفَ صَنَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَثَلَاثَةً وَرَاءَهُ، ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمِفْتَاحُ فِي يَدِهِ، وَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يذبّ الناس على الْبَابِ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ مَنْصُورٍ الْحَجَبِيّ، عَنْ أُمّهِ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ بَرّةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاةَ [ (1) ] ، قَالَتْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ، فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ [ (2) ] الْبَابِ، فَأَشْرَفَ عَلَى النّاسِ وَبِيَدِهِ الْمِفْتَاحُ، ثُمّ جَعَلَهُ فِي كُمّهِ.
قَالُوا: فَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النّاسِ، وَقَدْ لِيطَ بِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَهُمْ جُلُوسٌ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ! مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا تَظُنّونَ؟ قَالُوا: نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، وَقَدْ قَدَرْت! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ (3) ] . أَلَا إنّ كُلّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيّةِ، أو دم،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بجراة» ، وما أثبتناه عن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1793) . وعن ابن الأثير أيضا. (أسد الغابة، ج 5، ص 409) .
[ (2) ] عضادتا الباب: هما خشبتاه من جانبيه. (الصحاح، ص 506) .
[ (3) ] سورة 12 يوسف 92(2/835)
أَوْ مَالٍ، أَوْ مَأْثُرَةٍ، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ، أَلَا وَفِي قَتِيلِ الْعَصَا وَالسّوْطِ الْخَطَأِ شِبْهُ الْعَمْدِ، الدّيَةُ مُغَلّظَةٌ مِائَةُ نَاقَةٍ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. إنّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَكَبّرَهَا بِآبَائِهَا، كُلّكُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. أَلَا إنّ اللهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ، لَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدٍ كَائِنٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلّ لِي إلّا سَاعَةً مِنْ النّهَارِ- يُقَصّرُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ هَكَذَا- لَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ [ (1) ] عِضَاهُهَا، وَلَا تَحِلّ لُقَطَتُهَا إلّا لِمُنْشِدٍ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا [ (2) ] .
فَقَالَ الْعَبّاسُ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا: إلّا الْإِذْخِرَ [ (3) ] يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنّهُ لَا بُدّ مِنْهُ، إنّهُ لِلْقَبْرِ وَطَهُورُ الْبُيُوتِ. قَالَ: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمّ قَالَ: إلّا الْإِذْخِرَ فَإِنّهُ حَلَالٌ. وَلَا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ، وَإِنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ [ (4) ] ، وَلَا يَحِلّ لِامْرَأَةٍ تُعْطِي مِنْ مَالِهَا إلّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُونَ إخْوَةٌ، وَالْمُسْلِمُونَ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَرُدّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَمُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ [ (5) ] وَمَيْسَرَتُهُمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ.
وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ [ (6) ] ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ
__________
[ (1) ] يعضد: أى يقطع. (القاموس المحيط، ج 1، ص 314) .
[ (2) ] الخلا: النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه: قطعه. (النهاية، ج 1، ص 319) .
[ (3) ] الإذخر: حشيش طيب الريح. (القاموس المحيط، ج 2، ص 34) .
[ (4) ] أى الخيبة، يعنى أن الولد لصاحب الفراش من الزوج أو السيد وللزاني الخيبة والحرمان، كقولك مالك عندي غير التراب وما بيدك غير الحجر. (النهاية، ج 1، ص 203) .
[ (5) ] المشد الذي دوابه شديدة قوية، والمضعف الذي دوابه ضعيفة، يريد أن القوى من الغزاة يساهم الضعيف فما يكسبه من الغنيمة. (النهاية، ج 2، ص 208) .
[ (6) ] لا جلب ولا جنب: الجلب يكون فى شيئين أحدهما فى الزكاة، وهو أن يقدم المصدق على أهل الزكاة(2/836)
الْمُسْلِمِينَ إلّا فِي بُيُوتِهِمْ وَبِأَفْنِيَتِهِمْ، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَالْبَيّنَةُ عَلَى مَنْ ادّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَلَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصّبْحِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ، يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ! لَا يَحْتَبِ [ (1) ] أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِعَوْرَتِهِ إلَى السّمَاءِ، وَلَا يَشْتَمِلُ الصّمّاءَ [ (2) ] ، وَلَا إخَالُكُمْ إلّا وَقَدْ عَرَفْتُمُوهَا.
قَالَ: ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ، فَتَنَحّى نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ السّقَايَةَ مِنْ الْعَبّاسِ وَقَبَضَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، فَلَمّا جَلَسَ قَالَ: اُدْعُوا إلَيّ عثمان! فدعى له عثمان بن طَلْحَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُثْمَانَ يَوْمًا، وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَمَعَ عُثْمَانَ الْمِفْتَاحُ، فَقَالَ:
لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت! فَقَالَ عُثْمَانُ: لَقَدْ هَلَكَتْ إذًا قُرَيْشٌ وَذَلّتْ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عمرت
__________
[ () ] فينزل موضعا ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها، ليأخذ صدقتها، فنهى عن ذلك وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم. والثاني أن يكون فى سباق، وهو أن يتبع الرجل فرسه فيزجره ويجلب عليه ويصيح حثا له على الجري، فنهى عن ذلك. والجنب فى السباق أن يجنب فرسا إلى فرسه الذي يسابق عليه فإذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب، وهو فى الزكاة أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة ثم يأمر بالأموال أن تجنب إليه، أى تحضر، فنهوا عن ذلك، وقيل: هو أن يجنب رب المال بماله أى يبعده عن موضعه حتى يحتاج العامل إلى الإبعاد فى اتباعه وطلبه.
(النهاية، ج 1، ص 169، ص 180) .
[ (1) ] احتبى بالثوب: اشتمل، أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. (القاموس المحيط، ج 4، ص 315) .
[ (2) ] اشتمال الصماء: هو أن يتجلل الرجل بثوبه ولا يرفع منه جانبا، وإنما قيل لها صماء لأنه يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع. والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فتنكشف عورته.
(النهاية، ج 2، ص 275) .(2/837)
وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ. فَلَمّا دَعَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ الْمِفْتَاحَ ذَكَرْت قَوْلَةَ مَا كَانَ قَالَ، فَأَقْبَلْت فَاسْتَقْبَلْته بِبِشْرٍ وَاسْتَقْبَلَنِي بِبِشْرٍ، ثُمّ قَالَ: خُذُوهَا يَا بَنِي أَبِي طَلْحَةَ تَالِدَةً خَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا إلّا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ، إنّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ، فَكُلُوا بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ عُثْمَانُ: فَلَمّا وُلِيَتْ نَادَانِي فَرَجَعَتْ إلَيْهِ، فَقَالَ: أَلَمْ يَكُنْ الّذِي قُلْت لَك؟ قَالَ: فَذَكَرْت قَوْلَهُ لِي بِمَكّةَ فَقُلْت: بَلَى، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ! فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ، وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعٌ بِثَوْبِهِ، وَقَالَ: أَعِينُوهُ! وَقَالَ: قُمْ عَلَى الْبَابِ وَكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّقَايَةَ إلَى الْعَبّاسِ، فَكَانَ الْعَبّاسُ يَلِيهَا دُونَ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَوَلَدُهُ بَعْدَهُمْ. فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ الْحَنَفِيّةِ كَلّمَ فِيهَا ابْنَ عَبّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَا لَك وَلَهَا؟ نَحْنُ أَوْلَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوك كَلّمَ فِيهَا فَأَقَمْت الْبَيّنَةَ، طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، وَعَامِرَ بْنَ ربيعة، وأزهر بن عبد عَوْفٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، أَنّ الْعَبّاسَ كَانَ يَلِيهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَأَبُوك فِي نَادِيَتِهِ [ (1) ] بِعُرَنَةَ [ (2) ] فِي إبِلِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا الْعَبّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَعَرَفَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَ، فَكَانَتْ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ بَعْدَ أَبِيهِ، لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا مُنَازِعٌ، وَلَا يَتَكَلّمُ فِيهَا مُتَكَلّمٌ. وَكَانَ لِلْعَبّاسِ مَالٌ بِالطّائِفِ، كَرْمٌ كَانَ يَحْمِلُ زَبِيبَهُ إلَيْهَا فَيُنْبَذُ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ، ثُمّ كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ كَانَ عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ.
قَالَ: وَجَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فقال:
__________
[ (1) ] ندت الإبل إذا رعت فيما بين النهل والعلل، تندو ندوا، فهي نادية. (الصحاح، ص 2506) .
[ (2) ] فى الأصل: «يعرفه» . وعرفة: واد بحذاء عرفات. (معجم، البلدان ج 6، ص 159) .(2/838)
لِمَ قَاتَلْت وَقَدْ نَهَيْت عَنْ الْقِتَالِ؟ فَقَالَ: هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ، وَرَشَقُونَا بِالنّبْلِ، وَوَضَعُوا فِينَا السّلَاحَ، وَقَدْ كَفَفْت مَا اسْتَطَعْت، وَدَعَوْتهمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَأَبَوْا، حَتّى إذَا لَمْ أَجِدْ بُدّا قَاتَلْتهمْ، فَظَفّرَنَا اللهُ عَلَيْهِمْ وَهَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَضَى اللهُ خَيْرًا! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كُفّوا السّلَاحَ، إلّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ. فَخَبّطُوهُمْ [ (1) ] سَاعَةً، وَهِيَ السّاعَةُ الّتِي أُحِلّتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْ خُزَاعَةَ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو الْيَسَر: فَدَخَلْنَا مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ اللّيطِ، فَكَانُوا هُمْ الّذِينَ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ وَأَبَوْا أَنْ يَدْعُونَا نَدْخُلَ [ (2) ] ، وَكَلّمَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِمْ، فَأَبَوْا. قَالَ خَالِدٌ: احْمِلُوا عَلَيْهِمْ! فَحَمَلْنَا فَمَا قَامُوا لَنَا فُوَاقَ [ (3) ] نَاقَةٍ حَتّى هَرَبُوا، وَنَهَانَا عَنْ الطّلَبِ. قَالَ أَبُو الْيَسَرِ: فَجَعَلْت أَحْذِمُ [ (4) ] بِسَيْفِي، وَهَوَيْت إلَى رَجُلٍ فَضَرَبْته فَاعْتَزَلَ إلَى خُزَاعَةَ، فَسَقَطَ فِي يَدِي فَجَعَلْت أَسْأَلُ عَنْهُ، فَقِيلَ لِي: إنّهُ مِنْ الْحَيَا- أَخُو خُزَاعَةَ. فَحَمِدْت اللهَ أَلّا أَقْتُلَ أَحَدًا مِنْ خُزَاعَةَ.
قَالُوا: وَأَقَامَ أَبُو أَحَمْدَ عَبْدُ اللهِ بن جحش على باب المسجد على
__________
[ (1) ] خبطوهم: أى ضربوهم. (لسان العرب، ج 9، ص 150) .
[ (2) ] فى الأصل: «أن ندخل» .
[ (3) ] أى ما بين الحلبتين من الوقت. (القاموس المحيط، ج 3، ص 278) .
[ (4) ] حذم: قطع. (الصحاح، ص 1895) .(2/839)
جَمَلٍ لَهُ حِينَ فَرَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُطْبَتِهِ، وَهُوَ يَصِيحُ: أَنْشُدُ بِاَللهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ حِلْفِي، وَأَنْشُدُ بِاَللهِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ دَارِي [ (1) ] ! قَالَ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابن عَفّانَ، فَسَارَ عُثْمَانُ بِشَيْءِ، فَذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى أَبِي أَحْمَدَ فَسَارَهُ، فَنَزَلَ أَبُو أَحْمَدَ عَنْ بَعِيرِهِ وَجَلَسَ مَعَ الْقَوْمِ، فَمَا سَمِعَ أَبُو أَحْمَدَ ذَاكَرَهَا حَتّى لَقِيَ اللهُ، فَقِيلَ لِعُثْمَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا قَالَ لَك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تَقُولَهُ لِأَبِي أَحْمَدَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَذْكُرْهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَأَذْكُرُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ قَدْ حَالَفَ إلى حرب ابن أُمَيّةَ، وَكَانَ الْمُطّلِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ قَدْ دَعَاهُ إلَى أَنْ يُحَالِفَهُ وَقَالَ:
دَمِي دُونَ دَمِك وَمَالِي دُونَ مَالِك! وَحَالَفَ حَرْبَ بْنِ أُمَيّةَ فَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ:
أَبَنِي أُمَيّةَ كَيْفَ أَخْذُلُ فِيكُمْ ... وَأَنَا ابْنُكُمْ وَحَلِيفُكُمْ فِي الْعَشْرِ
وَلَقَدْ دَعَانِي غَيْرُكُمْ فَأَبَيْته ... وَخَبّأْتُكُمْ لِنَوَائِبِ الدّهْرِ
وَكَانُوا يَتَحَالَفُونَ فِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحَجّةِ قِيَامًا، يَتَمَاسَحُونَ كَمَا يَتَمَاسَحُ [ (2) ] الْبَيّعَانِ [ (3) ] ، وَكَانُوا يَتَوَاعَدُونَ قَبْلَ الْعَشْرِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ بَاعَ دَارَهُ مِنْ ابْنِ عَلْقَمَةَ الْعَامِرِيّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَ لَهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَنَجّمَ [ (4) ] عَلَيْهِ ما فضل.
__________
[ (1) ] ذكر ابن إسحاق قصة عدوان أبى سفيان على دار بنى جحش. انظر (السيرة النبوية، ج 2، ص 145) .
[ (2) ] تماسحا: تصافقا. (القاموس المحيط، ج 1، ص 249) .
[ (3) ] البيعان: أى البائع والمشترى. (أساس البلاغة، ص 73) .
[ (4) ] تنجيم الدين: هو أن يقرر عطاؤه فى أوقات معلومة متتابعة، مشاهرة أو مسافاة. (النهاية، ج 4، ص 129) .(2/840)
قَالَ: فَحَدّثَنِي أَهْلُ أَبِي أَحْمَدَ أَنّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: لَك بِهَا دَارٌ فِي الْجَنّةِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ فِي بَيْعِ دَارِهِ لِأَبِي سُفْيَانَ، أَنْشَدَنِيهَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ:
أَقَطَعْت عَقْدَك بَيْنَنَا ... وَالْحَادِثَاتُ إلَى نَدَامَهْ
أَلَا ذَكَرْت لَيَالِيَ الْ ... عَشْرِ الّتِي فِيهَا الْقِيَامَهْ
عَقْدِي وَعَقْدُك قَائِمٌ ... لَا عَوْقَ [ (1) ] فِيهِ وَلَا أَثَامَهْ
دَارُ ابن عمّك بعتها ... تشرى بها عَنْك الْغَرَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
وَلَقَدْ جَرَيْت [ (2) ] إلَى الْعُقُو ... قِ وَأَسْوَأُ الْخُلُقِ الرّغَامَهْ
قَدْ كُنْت آوِي فِي ذُرَى ... فِيهِ الْمَقَامَةُ وَالسّلَامَهْ
مَا كَانَ عَقْدُك مثل عق ... د ابْنِ عَمْرِو لِابْنِ مَامَهْ [ (3) ]
قَالُوا: وَكَانَ إسَافُ وَنَائِلَةُ رَجُلًا وَامْرَأَةً، الرّجُلُ إسَافُ بْنُ عَمْرٍو [ (4) ] وَالْمَرْأَةُ نَائِلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ [ (5) ] مِنْ جُرْهُمٍ، فَزَنَيَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ، فَاِتّخَذَتْهُمَا قُرَيْش يعبدونهما، وكانوا يذبحون عندهما ويلحقون رُءُوسَهُمْ إذَا نَسَكُوا، فَخَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا امْرَأَةٌ شَمْطَاءُ سَوْدَاءُ تَخْمُشُ وَجْهَهَا، عُرْيَانَةٌ، نَاشِرَةُ الشّعْرِ، تَدْعُو بِالْوَيْلِ.
فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: تِلْكَ نَائِلَةُ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ أَبَدًا.
وَيُقَالُ إنّ إبْلِيسَ رَنّ ثَلَاثَ رَنّاتٍ، رَنّةً حِينَ
__________
[ (1) ] العوق: الحبس والصرف والتثبيط. (القاموس المحيط، ج 3، ص 270) .
[ (2) ] فى الأصل: «وأجريت» ، ولا يستقيم الوزن بها، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات.
[ (3) ] فى الأصل: «أمامه» ، ولا يستقيم الوزن بها.
[ (4) ] هكذا فى الأصل: وفى ابن الكلبي: «إساف بن يعلى» . (كتاب الأصنام، ص 9) .
[ (5) ] هكذا فى الأصل: وفى ابن الكلبي: «نائلة بنت زيد» . (كتاب الأصنام، ص 9) .(2/841)
لُعِنَ فَتَغَيّرَتْ صُورَتُهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَرَنّةً حين رأى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يُصَلّي قَائِمًا بِمَكّةَ، وَرَنّةً حِينَ افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ. فَاجْتَمَعَتْ ذُرّيّتُهُ، فَقَالَ إبْلِيسُ: ايئَسُوا أَنْ تَرُدّوا أُمّةَ مُحَمّدٍ عَلَى الشّرْكِ بَعْدَ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَلَكِنْ اُفْشُوَا فِيهِمْ النّوْحَ وَالشّعْرَ.
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ نَصَبَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ إبْرَاهِيمُ، وَجِبْرِيلُ يُرِيهِ، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ إسْمَاعِيلُ فَجَدّدَهَا، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ قُصَيّ فَجَدّدَهَا، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فَجَدّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ، ثُمّ لَمْ تُحَرّكْ حَتّى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَبَعَثَ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَبْدُونَ فِي بِوَادِيهَا، مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَأَبُو هُودٍ سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيّ. ثُمّ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فَبَعَثَ هَؤُلَاءِ النّفَرَ، ثُمّ كَانَ مُعَاوِيَةُ عَامَ حَجّ فَبَعَثَ هَؤُلَاءِ النّفَرَ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ:
لَمّا حَجّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَرْسَلَ إلَى أَكْبَرِ شَيْخٍ يَعْلَمُهُ يَوْمَئِذٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَشَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، ثُمّ أَمَرَهُمْ بِتَجْدِيدِهِ، وَكُلّ وَادٍ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ يَسِيلُ فِي الْحِلّ وَلَا يَسِيلُ وَادٍ مِنْ الْحِلّ فِي الْحَرَمِ إلّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التّنْعِيمِ. وَكَانَ يُقَالُ: وَلَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا.
قَالَ: لَا يَخْرُج مِنْ الظّلّ إلَى الشّمْسِ، وَيُقَال: لَا يُذْعَرُ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ(2/842)
عُمَرَ يَغْشَاهُ الْحَمَامُ عَلَى رَحْلِهِ، وَثِيَابِهِ، وَطَعَامِهِ، مَا يُطْرَدُ، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُرَخّصُ أَنْ يُكَشْكَشَ [ (1) ] . وَقَوْلُهُ: لَا تَحِلّ لُقَطَةٌ ضَالّتَهَا إلّا لِمُنْشِدِ، يَقُولُ: لَا يَأْكُلُهَا كَمَا يَأْكُلُ اللّقَطَةَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ.
قَالُوا: خَرَجَ غَزِيّ [ (2) ] مِنْ هُذَيْلٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَفِيهِمْ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ يُرِيدُونَ حَيّ أَحْمَرَ بَأْسًا، وَكَانَ أَحْمَرَ بَأْسًا رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ شُجَاعًا لَا يُرَامُ، وَكَانَ لَا يَنَامُ فِي حَيّهِ، إنّمَا يَنَامُ خَارِجًا مِنْ حَاضِرِهِ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانُهُ، وَكَانَ الْحَاضِرُ إذَا أَتَاهُمْ فَزِعَ صَرَخُوا بِأَحْمَرَ بَأْسًا فَيَثُوبُ مِثْلَ الْأَسَدِ. فَلَمّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْغُزّيّ مِنْ هُذَيْلٍ قَالَ لَهُمْ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ: إنْ كَانَ أَحْمَرُ بَأْسًا فِي الْحَاضِرِ فَلَيْسَ إلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَطِيطٌ لَا يَخْفَى، فَدَعُونِي أَتَسَمّعُ. فَتَسَمّعَ الْحِسّ فَسَمِعَهُ، فَأَمّهُ حَتّى وَجَدَهُ نَائِمًا فَقَتَلَهُ، وَوَضَعَ السّيْفَ فِي صَدْرِهِ ثُمّ اتّكَأَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ حَمَلُوا عَلَى الْحَيّ، فَصَاحَ الْحَيّ: يَا أَحْمَرُ بَأْسًا! فَلَا شَيْءَ، لَا أَحْمَرُ بَأْسًا قَدْ قُتِلَ. فَنَالُوا مِنْ الْحَاضِرِ حَاجَتَهُمْ ثُمّ انْصَرَفُوا، فَتَشَاغَلَ النّاسُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِيَوْمِ دَخَلَ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ مَعَهُ يَرْتَادُ وَيَنْظُرُ- وَالنّاسُ آمِنُونَ- فَرَآهُ جُنْدُبُ بْنُ الْأَعْجَمِ الْأَسْلَمِيّ، فَقَالَ: جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَدْلَعِ، قَاتَلَ أَحْمَرُ بَأْسًا! فَقَالَ: نَعَمْ.
فَخَرَجَ جُنْدُبُ يَسْتَجِيشُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَ خِرَاشَ بْنِ أُمَيّةَ الْكَعْبِيّ، فَأَخْبَرَهُ، فَاشْتَمَلَ خِرَاشٌ عَلَى السّيْفِ ثُمّ أَقْبَلَ إلَيْهِ، وَالنّاسُ حَوْلَهُ وَهُوَ يُحَدّثُهُمْ عَنْ قَتْلِ أَحْمَرَ بأسا، فبيناهم مجتمعون عليه
__________
[ (1) ] أى يطرد، والكش: الطرد والزجر. (تاج العروس، ج 4، ص 345) .
[ (2) ] الغزي: جمع الغازي، وهم جماعة القوم الذين يغزون. (شرح أبى ذر، ص 372) .(2/843)
إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى السيف، فقال: هكذا عن [ (1) ] الرجل! فو الله مَا ظَنّ النّاسُ إلّا أَنّهُ يُفَرّجُ عَنْهُ النّاسُ لِيَنْصَرِفُوا عَنْهُ، فَانْفَرَجُوا [ (2) ] عَنْهُ، فَلَمّا انْفَرَجَ النّاسُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ بِالسّيْفِ فَطَعَنَهُ بِهِ فِي بَطْنِهِ، وَابْنُ الْأَدْلَعِ مُسْتَنِدٌ إلَى جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ، فَجَعَلَتْ حِشْوَتُهُ تَسَايَلَ مِنْ بَطْنِهِ، وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتَبْرُقَانِ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ! فَوَقَعَ الرّجُلُ فَمَاتَ،
فَسَمِعَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بِقَتْلِهِ، فَقَامَ خَطِيبًا- وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ الظّهْرِ- فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّ اللهَ قَدْ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَوَضَعَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، فَهِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تَحِلّ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدِ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلّ لِي إلّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمّ رَجَعْت كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ قَاتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إنّ اللهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلّهَا لَكُمْ! يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ، فَقَدْ وَاَللهِ كَثُرَ [الْقَتْلُ] [ (3) ] إنْ نَفَعَ، وَقَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ، وَاَللهِ لَأَدِيَنه! فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَتِيلِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ.
__________
[ (1) ] هكذا: اسم سمى به الفعل ومعناه تنحوا عن الرجل، وعن متعلقة بما فى «هكذا» من معنى الفعل.
(شرح أبى ذر، ص 372) .
[ (2) ] فى الأصل: «فانفرج عنه» .
[ (3) ] الزيادة من ابن إسحاق للتوضيح. (السيرة النبوية، ج 4، ص 58) .(2/844)
فَدَخَلَ أَبُو شُرَيْحٍ [عَلَى] عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بن العاص، وهو يريد قتال ابْنِ الزّبَيْرِ، فَحَدّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ يُبَلّغَ الشّاهِدُ الْغَائِبَ، وَكُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا، وَقَدْ أَدّيْت إلَيْك مَا كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك، إنّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ظَالِمٍ وَلَا خَالِعِ طَاعَةٍ، وَلَا سَافِكِ دَمٍ. فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ:
قَدْ أَدّيْت إلَيْك مَا كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ، فَأَنْتَ وَشَأْنُك!
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ أَخْبَرَ ابْنَ عُمَرَ مَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَحِمَ اللهُ أَبَا شُرَيْحٍ! قَدْ قَضَى الّذِي عَلَيْهِ، قَدْ عَلِمْت أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَكَلّمَ يَوْمَئِذٍ فِي خُزَاعَةَ حِينَ قَتَلُوا الْهُذَلِيّ بِأَمْرِ لَا أَحْفَظُهُ، إلّا أَنّي سَمِعْت الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَأَدّيهِ» [ (1) ] .
قَالَ: حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ [ (2) ] بِنْتِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قتله خراش بعد ما نَهَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَتْلِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْت قَاتِلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ لَقَتَلْت خِرَاشًا بِالْهُذَلِيّ. ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُزَاعَةَ يُخْرِجُونَ دِيَتَهُ، فَكَانَتْ خُزَاعَةُ أَخْرَجَتْ دِيَتَهُ. قَالَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى غَنَمٍ عُفْرٍ [ (3) ] جَاءَتْ بها بنو مدلج فى العقل، وكانوا يعاقلونها فى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قاديه» .
[ (2) ] كلمة غامضة فى الأصل شكلها: «حرسف» ، ولعل الصواب ما أثبتناه.
[ (3) ] عفر: أى بيض. (النهاية، ج 3، ص 109) .(2/845)
الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ شَدّهُ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي كَعْبٍ، فَأَعْطَوْا الْقَتِيلَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالُوا: وَجَاءَتْ الظّهْرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذّنَ بِالظّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ يَوْمَئِذٍ، وَقُرَيْشٌ فَوْقَ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ فَرّ وُجُوهُهُمْ [ (1) ] وَتَغَيّبُوا خَوْفًا أَنْ يُقَتّلُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أُومِنَ. فَلَمّا أَذّنَ بِلَالٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ كَأَشَدّ مَا يَكُونُ، فَلَمّا بَلَغَ «أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ» ، تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ: قَدْ لَعَمْرِي رَفَعَ لَك ذِكْرَك! أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُصَلّي، وَاَللهِ لَا نُحِبّ مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ جَاءَ أَبِي الّذِي جَاءَ مُحَمّدًا مِنْ النّبُوّةِ فَرَدّهَا وَلَمْ يُرِدْ خِلَافَ قَوْمِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أُسَيْدٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَ أَبِي فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْيَوْمَ! وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وا ثكلاه! لَيْتَنِي مُتّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ، أَسْمَعُ بِلَالًا يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ! وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: هَذَا وَاَللهِ الْحَدَثُ الْعَظِيمُ أَنْ يَصِيحَ عَبْدُ بَنِي جُمَحَ عَلَى بَنِيّةِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو:
إنْ كَانَ هَذَا سَخَطَ اللهِ فَسَيُغَيّرُهُ، وَإِنْ كَانَ رِضَاءَ اللهِ فَسَيُقِرّهُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
أَمّا أَنَا فَلَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ قُلْت شَيْئًا لَأَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الحصاء! فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ وَظَهَرَ، انْقَحَمْت [ (2) ] بيتي
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وجههم» .
[ (2) ] أى رميت بنفسي فيه. (لسان العرب، ج 15، ص 360) .(2/846)
وَأَغْلَقْت عَلَيّ بَابِي، وَأَرْسَلْت إلَى ابْنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سُهَيْلٍ أَنْ اُطْلُبْ لِي جِوَارًا مِنْ مُحَمّدٍ، وَإِنّي لَا آمَنُ أَنْ أُقْتَلَ. وَجَعَلْت أَتَذّكّرُ أَثَرِي عِنْدَ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ أَثَرًا مِنّي، وَإِنّي لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَا لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ، وَكُنْت الّذِي كَاتَبْته، مَعَ حُضُورِي بَدْرًا وَأُحُدًا، وَكُلّمَا تَحَرّكَتْ قُرَيْشٌ كُنْت فِيهَا. فَذَهَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُؤَمّنُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللهِ، فَلْيَظْهَرْ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلَا يَشُدّ النّظَرَ إلَيْهِ، فَلْيَخْرُجْ، فَلَعَمْرِي إنّ سُهَيْلًا لَهُ عَقْلٌ وَشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ!
فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: كَانَ وَاَللهِ بَرّا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا! فَكَانَ سُهَيْلٌ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ، وَخَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ حَتّى أَسْلَمَ بِالْجِعِرّانَةِ.
وَهَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ- وهو يومئذ زوج أمّ هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ- هُوَ وَابْنُ الزّبَعْرَى جَمِيعًا حَتّى انْتَهَى إلَى نَجْرَانَ، فَلَمْ يَأْمَنّا مِنْ الْخَوْفِ حَتّى دَخَلَا حِصْنَ نَجْرَانَ، فَقِيلَ لَهُمَا: مَا وَرَاءَكُمَا؟ قَالَا: أَمّا قُرَيْشٌ فَقَدْ قُتِلَتْ، وَدَخَلَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، وَنَحْنُ وَاَللهِ نَرَى أَنّ مُحَمّدًا سَائِرٌ إلَى حِصْنِكُمْ هَذَا! فَجَعَلَتْ بَلْحَارِثٍ وَكَعْبٌ يُصْلِحُونَ مَا رَثّ مِنْ حِصْنِهِمْ، وَجَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ، فَأَرْسَلَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَبْيَاتًا يُرِيدُ بِهَا ابْنَ الزّبَعْرَى، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ:
لَا تَعْدَمْنَ [ (1) ] رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عيش أحذّ [ (2) ] لئيم
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لا بعد من» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 60) .
[ (2) ] الأحذ: هو القليل المنقطع. ومن رواه أجد فمعناه منقطع أيضا، وقد يجوز أن يكون معناه:
فى عيش لئيم جدّا. (شرح أبى ذر، ص 373) .(2/847)
بَلِيَتْ قَنَاتُك فِي الْحُرُوبِ فَأُلْقِيَتْ ... خَمّانَةً خَوْفَاءَ [ (1) ] ذَاتَ وُصُومِ [ (2) ]
غَضِبَ الْإِلَهُ عَلَى الزّبَعْرَى وَابْنِهِ ... وَعَذَابُ سُوءٍ فِي الْحَيَاةِ مُقِيمِ
فَلَمّا جَاءَ ابْنَ الزّبَعْرَى شِعْرُ حَسّانَ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ، فَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ عَمّ؟ قَالَ: أَرَدْت وَاَللهِ مُحَمّدًا. قَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَتْبَعَهُ؟
قَالَ: إيِ وَاَللهِ! قَالَ: يَقُولُ هُبَيْرَةُ: يَا لَيْتَ أَنّي رَافَقْت غَيْرَك! وَاَللهِ، مَا ظَنَنْت أَنّك تَتْبَعُ مُحَمّدًا أَبَدًا! قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى: هُوَ ذَاكَ، فَعَلَى أَيّ شيء نقيم مع بنى الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَتْرُكُ ابْنَ عَمّي وَخَيْرَ النّاسِ وَأَبَرّهُمْ [ (3) ] ، وَمَعَ قَوْمِي وَدَارِي.
فَانْحَدَرَ ابْنُ الزّبَعْرَى حَتّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَلَمّا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ قَالَ: هَذَا ابْنُ الزّبَعْرَى، وَمَعَهُ وَجْهٌ فِيهِ نُورُ الْإِسْلَامِ. فَلَمّا وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: السّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَيْ رَسُولِ اللهِ! شَهِدْت أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّك عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، لَقَدْ عَادَيْتُك وَأَجْلَبْت عَلَيْك، وَرَكِبْت الْفَرَسَ وَالْبَعِيرَ، وَمَشَيْت عَلَى قَدَمِي فِي عَدَاوَتِك، ثُمّ هَرَبْت مِنْك إلَى نَجْرَانَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَلّا أَقْرَبَ الْإِسْلَامَ أَبَدًا، ثُمّ أَرَادَ بِي اللهُ عَزّ وَجَلّ مِنْهُ بِخَيْرِ، فَأَلْقَاهُ فِي قَلْبِي وَحَبّبَهُ إلَيّ، وَذَكَرْت مَا كُنْت فِيهِ مِنْ الضّلَالَةِ، وَاتّبَاعِ مَا لَا يَنْفَعُ ذَا عَقْلٍ، مِنْ حَجَرٍ يُعْبَدُ وَيُذْبَحُ لَهُ، لَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ وَمَنْ لَا يَعْبُدُهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاك لِلْإِسْلَامِ، إنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ! وَأَقَامَ هُبَيْرَةُ بِنَجْرَانَ، وَأَسْلَمَتْ أُمّ هَانِئٍ، فَقَالَ هُبَيْرَةُ حِينَ بلغه إسلامها يوم الفتح.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «جمانة خوفا» ، وقناة خمانة: ضعيفة. (لسان العرب، ج 16، ص 300) .
[ (2) ] الوصوم: جمع وصم، وهو العيب فى الحسب. (لسان العرب، ج 16، ص 126) .
[ (3) ] فى الأصل: «وأبره» .(2/848)
أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ نَآك [ (1) ] سُؤَالُهَا ... كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا [ (2) ]
وَقَدْ أَرّقَتْ [ (3) ] فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ ... بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ [ (4) ] خَيَالُهَا
وَإِنّي مِنْ قَوْمٍ إذَا جَدّ جِدّهُمْ ... عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إذَا كَرِهَتْ نَحْوَ الْعَوَالِي فَحَالُهَا [ (5) ]
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
وَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ ... وَقَطّعَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ [ (6) ] ... مُلَمْلَمَةٍ [ (7) ] حَمْرَاءَ يَبِسَ تِلَالُهَا
أَقَامَ بِنَجْرَانَ حَتّى مَاتَ مُشْرِكًا.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكّة هَرَبَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى حَتّى انْتَهَى إلَى حَائِطِ عَوْفٍ فَدَخَلَ هُنَاكَ، وَخَرَجَ أَبُو ذَرّ لِحَاجَتِهِ وَكَانَ دَاخِلَهُ، فَلَمّا رَآهُ هَرَبَ حُوَيْطِبٌ فَنَادَاهُ أَبُو ذَرّ: تَعَالَ، أَنْتَ آمِنٌ! فَرَجَعَ إلَيْهِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ، فَإِنْ شِئْت أَدْخَلْتُك عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شِئْت فَاذْهَبْ إلَى مَنْزِلِك. قَالَ: وَهَلْ لِي سَبِيلٌ إلَى مَنْزِلِي؟ أُلْقَى فَأُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَى مَنْزِلِي، أَوْ يَدْخُلَ عَلَيّ مَنْزِلِي فَأُقْتَلَ. قَالَ: فَأَنَا أَبْلُغُ معك
__________
[ (1) ] نآك: أى بعد عنك. (شرح أبى ذر، ص 374) .
[ (2) ] انفتالها: أى تقلبها من حالة إلى حالة. (شرح أبى ذر، ص 374) .
[ (3) ] أرقت: أزالت النوم. (شرح أبى ذر، ص 374) .
[ (4) ] فى الأصل: «بعدهن» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 62) .
[ (5) ] الفحال: جمع الفحل.
[ (6) ] فى الأصل: «سجوق نهيضة» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 63) .
والسحيق: البعيد. (الصحاح، ص 1495) . والهضبة: الكدية العالية. (شرح أبى ذر، ص 375) .
[ (7) ] الململمة: المستديرة. (شرح أبى ذر، ص 375) .(2/849)
منزلك. فبلغ معه منزله، تم جَعَلَ يُنَادِي عَلَى بَابِهِ: إنّ حُوَيْطِبًا آمِنٌ، فَلَا يُهْجَمُ عَلَيْهِ! ثُمّ انْصَرَفَ أَبُو ذَرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ قَدْ أَمّنّا كُلّ النّاسِ إلّا مَنْ أَمَرْت بِقَتْلِهِ؟
قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى الزّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَأَسْلَمَتْ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، الْبَغُومُ بِنْتُ الْمُعَذّلِ، مِنْ كِنَانَةَ،
وَأَسْلَمَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَسْلَمَتْ هِنْدُ بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِي عَشْرِ نسوة من قريش، فأتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِالْأَبْطَحِ، فَبَايَعْنَهُ فَدَخَلْنَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ زَوْجَتُهُ وَابْنَتُهُ فَاطِمَةُ، وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَتَكَلّمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَظْهَرَ الدّينَ [الّذِي] اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ، لِتَمَسّنِي رَحْمَتُك [ (1) ] يَا مُحَمّدُ، إنّي امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاَللهِ مُصَدّقَةٌ. ثُمّ كَشَفَتْ عَنْ نِقَابِهَا فَقَالَتْ: هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِك. فَقَالَتْ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَيّ أَنْ يَذِلّوا مِنْ [أَهْلِ] خِبَائِك، وَلَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَيّ أَنْ يَعِزّوا مِنْ [أَهْلِ] خِبَائِك. فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: وزيادة أيضا! ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلَيْهِنّ الْقُرْآنَ وَبَايَعَهُنّ، فَقَالَتْ هِنْدٌ مِنْ بَيْنِهِنّ:
يَا رَسُولَ اللهِ، نُمَاسِحُك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أُصَافِحُ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لتمسى رحمك» ، وما أثبتناه عن الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 377) .(2/850)
النّسَاءَ، إنّ قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأَةِ وَاحِدَة. وَيُقَالُ: وَضَعَ عَلَى يَدِهِ ثَوْبًا ثُمّ مَسَحْنَ عَلَى يَدِهِ يَوْمَئِذٍ. وَيُقَالُ: كَانَ يُؤْتَى بِقَدَحِ مِنْ مَاءٍ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِيهِ ثُمّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِنّ فَيُدْخِلْنَ أَيْدِيَهُنّ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُهَا عِنْدَنَا:
«إنّي لَا أُصَافِحُ النّسَاءَ» . ثُمّ قَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ:
يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ هَرَبَ عِكْرِمَةُ مِنْك إلَى الْيَمَنِ، وَخَافَ أَنْ تَقْتُلَهُ فَأَمّنْهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ آمِنٌ. فَخَرَجَتْ أُمّ حَكِيمٍ فِي طَلَبِهِ وَمَعَهَا غُلَامٌ لَهَا رُومِيّ، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَجَعَلَتْ تُمَنّيهِ حَتّى قَدِمَتْ عَلَى حَيّ مِنْ عَكّ [ (1) ] ، فَاسْتَغَاثَتْهُمْ عَلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، وَأَدْرَكَتْ عِكْرِمَةَ وَقَدْ انْتَهَى إلَى سَاحِلٍ مِنْ سَوَاحِلِ تِهَامَةَ فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَجَعَلَ نُوَتِي السّفِينَةَ يَقُولُ له: أخلص! قال: أَيّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا هَرَبْت إلّا مِنْ هَذَا. فَجَاءَتْ أُمّ حَكِيمٍ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، فَجَعَلَتْ تُلِحّ إلَيْهِ وَتَقُولُ: يَا ابْنَ عَمّ، جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَخَيْرِ النّاسِ، لَا تُهْلِكْ نَفْسَك. فَوَقَفَ لَهَا حَتّى أَدْرَكَتْهُ فَقَالَتْ: إنّي قَدْ اسْتَأْمَنْت لَك مُحَمّدًا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَنْتِ فَعَلْت؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَنَا كَلّمْته فَأَمّنَك. فَرَجَعَ مَعَهَا وَقَالَ: مَا لَقِيت مِنْ غُلَامِك الرّومِيّ؟ فَخَبّرَتْهُ خَبَرَهُ فَقَتَلَهُ عِكْرِمَةُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُسْلِمْ. فَلَمّا دَنَا مِنْ مَكّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبّوا أَبَاهُ [ (2) ] ، فَإِنّ سَبّ الْمَيّتِ يُؤْذِي الْحَيّ وَلَا يَبْلُغُ الْمَيّت. قَالَ:
وَجَعَلَ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ يُجَامِعَهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ وَتَقُولُ: إنّك كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ.
فَيَقُولُ: إنّ أَمْرًا مَنَعَك مِنّي لَأَمْرٌ كَبِيرٌ. فَلَمّا رَأَى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] عك: مخلاف من مخاليف مكة التهامية. (معجم ما استعجم، ص 223) .
[ (2) ] فى الزرقانى، عن الواقدي: «فلا تسبوا أبر الناس» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 376) .(2/851)
عِكْرِمَةَ وَثَبَ إلَيْهِ- وَمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءٌ- فَرَحًا بِعِكْرِمَةَ، ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَزَوْجَتُهُ مُنْتَقِبَةٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ إنّ هَذِهِ أَخْبَرَتْنِي أَنّك أَمّنْتنِي. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فَأَنْتَ آمِنٌ! فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِلَى مَا تَدْعُو يَا مُحَمّدُ؟
قَالَ: أَدْعُوك إلَى أَنْ تَشْهَدَ أن لا إله إلا الله وأني رسول اللهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزّكَاةَ- وَتَفْعَلَ، وَتَفْعَلَ، حَتّى عَدّ خِصَالَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاَللهِ مَا دَعَوْت إلّا إلَى الْحَقّ وَأَمْرٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، قَدْ كُنْت وَاَللهِ فِينَا قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ إلَى مَا دَعَوْت إلَيْهِ وَأَنْتَ أَصْدَقُنَا حَدِيثًا وَأَبَرّنَا بِرّا. ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَسُرّ بِذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلّمْنِي خَيْرَ شَيْءٍ أَقُولُهُ. قَالَ: تَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَقُولُ: أُشْهِدُ اللهَ وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنّي مُسْلِمٌ مُهَاجِرٌ مُجَاهِدٌ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إلّا أَعْطَيْتُكَهُ.
فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَإِنّي أَسْأَلُك أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا، أَوْ مَسِيرٍ وَضَعْت فِيهِ، أَوْ مَقَامٍ لَقِيتُك فِيهِ، أَوْ كَلَامٍ قُلْته فِي وَجْهِك أَوْ وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ اغْفِرْ لَهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَسِيرِ إطْفَاءَ نُورِك، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنّي مِنْ عِرْضٍ، فِي وَجْهِي أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ! فَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَضِيت يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْت أُنْفِقُهَا فِي صَدّ [عَنْ] سَبِيلِ اللهِ إلّا أَنْفَقْت ضِعْفَهَا فِي سَبِيلِ(2/852)
اللهِ، وَلَا قِتَالًا [ (1) ] كُنْت أُقَاتِلُ فِي صَدّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إلّا أَبْلَيْت ضِعْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ. ثُمّ اجْتَهَدَ فِي الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا، فَرَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَهُ بِذَلِكَ النّكَاحِ الْأَوّلِ.
وَأَمّا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، فَهَرَبَ حَتّى أَتَى الشّعَيْبَةَ [ (2) ] ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ يَسَارٍ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ: وَيْحَك، اُنْظُرْ مَنْ تَرَى! قَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ. قَالَ صَفْوَانُ: مَا أَصْنَعُ بِعُمَيْرِ؟ وَاَللهِ مَا جَاءَ إلّا يُرِيدُ قَتْلِي، قَدْ ظَاهَرَ مُحَمّدًا عَلَيّ. فَلَحِقَهُ فَقَالَ: يَا عُمَيْرُ، مَا كَفَاك مَا صَنَعْت بِي؟ حَمّلْتنِي دَيْنَك وَعِيَالَك، ثُمّ جِئْت تُرِيدُ قَتْلِي! قَالَ: أَبَا وَهْبٍ، جُعِلْت فِدَاك! جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَبَرّ النّاسِ وَأَوْصَلِ النّاسِ. وَقَدْ كَانَ عُمَيْرٌ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَيّدُ قَوْمِي خَرَجَ هَارِبًا لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَخَافَ أَلّا تُؤَمّنَهُ، فَأَمّنْهُ فداك أبي وأمي! فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَمّنْته. فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِ، فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمّنَك. فَقَالَ صَفْوَانُ: لَا وَاَللهِ، لَا أَرْجِعُ مَعَك حَتّى تَأْتِيَنِي بِعَلَامَةِ أَعْرِفُهَا. فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْت صَفْوَانَ هَارِبًا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَأَخْبَرْته بِمَا أَمّنْته: فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ حَتّى تَأْتِيَ بِعَلَامَةِ أَعْرِفُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ عِمَامَتِي.
قَالَ: فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إلَيْهِ بِهَا، وَهُوَ الْبُرْدُ الّذِي دَخَلَ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مُعْتَجِرًا [ (3) ] بِهِ، بُرْدَ حِبَرَةٍ [ (4) ] . فَخَرَجَ عُمَيْرٌ فِي طلبه الثانية،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ولا قتال» .
[ (2) ] الشعيبة: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وهو كان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. (معجم البلدان، ج 5، ص 276) .
[ (3) ] الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه.
(النهاية، ج 3، ص 69) .
[ (4) ] الحبرة: ضرب من ثياب اليمن. (شرح أبى ذر، ص 369) .(2/853)
حَتّى جَاءَ بِالْبُرْدِ فَقَالَ: أَبَا وَهْبٍ، جِئْتُك مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النّاسِ، وَأَوْصَلِ النّاسِ، وَأَبَرّ النّاسِ، وَأَحْلَمِ النّاسِ، مَجْدُهُ مَجْدُك، وَعِزّهُ عِزّك، وَمُلْكُهُ مُلْكُك، ابْنُ أُمّك وَأَبِيك، أُذَكّرُك اللهَ فِي نَفْسِك. قَالَ لَهُ: أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ. قَالَ: قَدْ دَعَاك إلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي الإسلام، فإن رَضِيت وَإِلّا سَيّرَك شَهْرَيْنِ، فَهُوَ أَوْفَى النّاسِ وَأَبَرّهُمْ [ (1) ] ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك بِبُرْدِهِ الّذِي دَخَلَ بِهِ مُعْتَجِرًا، تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ هُوَ! فَرَجَعَ صَفْوَانُ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلّي بِالْمُسْلِمِينَ الْعَصْرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَقَفَا، فَقَالَ صَفْوَانُ: كَمْ تُصَلّونَ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ؟ قَالَ:
خَمْسَ صَلَوَاتٍ. قَالَ: يُصَلّي بِهِمْ مُحَمّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمّا سَلّمَ صَاحَ صَفْوَانُ: يَا مُحَمّدُ، إنّ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ جَاءَنِي بِبُرْدِك، وَزَعَمَ أَنّك دَعَوْتنِي إلَى الْقُدُومِ عَلَيْك، فَإِنْ رَضِيت أَمْرًا وَإِلّا سَيّرْتنِي شَهْرَيْنِ. قَالَ: انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ.
قَالَ: لَا وَاَللهِ، حَتّى تُبَيّنَ لِي. قَالَ: بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَنَزَلَ صَفْوَانُ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ صَفْوَانُ وَهُوَ كَافِرٌ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَسْتَعِيرُهُ سِلَاحَهُ، فَأَعَارَهُ سِلَاحَهُ، مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدَاتِهَا، فَقَالَ:
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَارِيَةً مُؤَدّاةً. فَأَعَارَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمَلَهَا إلَى حُنَيْنٍ، فَشَهِدَ حُنَيْنًا [ (2) ] وَالطّائِفَ ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي الْغَنَائِمِ يَنْظُرُ إلَيْهَا، وَمَعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، جَعَلَ صَفْوَانُ يَنْظُرُ إلَى شِعْبٍ مُلِئَ نَعَمًا وَشَاءً وَرِعَاءً، فَأَدَامَ إلَيْهِ النّظَرَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُقُهُ فَقَالَ: أبا وهب، يعجبك هذا الشّعب؟
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وأبره» .
[ (2) ] فى الأصل: «حنين» .(2/854)
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُوَ لَك وَمَا فِيهِ. فَقَالَ صَفْوَانُ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا طَابَتْ نَفْسُ أَحَدٍ بِمِثْلِ هَذَا إلّا نَفْسُ نَبِيّ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ! وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قَبْلَ نِسَائِهِمْ، ثُمّ قَدِمُوا عَلَى نِسَائِهِمْ فِي الْعِدّةِ، فَرَدّهُنّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ النّكَاحِ. وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ وَامْرَأَةُ عِكْرِمَةَ قَبْلَ أَزْوَاجِهِمَا، ثُمّ أَسْلَمَا فَرَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنّ إسْلَامَهُمْ كَانَ فِي عِدّتِهِمْ.
قَالُوا: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ، فَرُبّمَا أَمْلَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَيُكْتَبُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَيَقْرَأُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: كَذَلِكَ اللهُ، وَيُقِرّهُ. وَافْتُتِنَ وَقَالَ: مَا يَدْرِي مُحَمّدٌ مَا يَقُولُ! إنّي لَأَكْتُبُ لَهُ مَا شِئْت، هَذَا الّذِي كَتَبْت يُوحَى إلَيّ كَمَا يُوحَى إلَى مُحَمّدٍ.
وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ مُرْتَدّا، فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ جَاءَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَخِي، إنّي وَاَللهِ اخْتَرْتُك فَاحْتَبِسْنِي هَاهُنَا، وَاذْهَبْ إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمْهُ فِي، فَإِنّ مُحَمّدًا إنْ رَآنِي ضَرَبَ الّذِي فِيهِ عَيْنَايَ، إنّ جُرْمِي أَعْظَمُ الْجُرْمِ، وَقَدْ جِئْت تَائِبًا. فَقَالَ:
بَلْ اذْهَبْ مَعِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَاَللهِ لَئِنْ رَآنِي لَيَضْرِبَن عُنُقِي وَلَا يُنَاظِرُنِي، قَدْ أَهْدَرَ دَمِي، وَأَصْحَابُهُ يُطْلِبُونَنِي فِي كُلّ مَوْضِعٍ. فَقَالَ عُثْمَانُ: انْطَلِقْ معى،(2/855)
فَلَا يَقْتُلُك إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يُرَعْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا بِعُثْمَانَ، أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَاقِفَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أُمّهُ كَانَتْ تَحْمِلُنِي وَتُمْشِيهِ، وَتُرْضِعُنِي وَتَقْطَعُهُ، وَكَانَتْ تُلْطِفُنِي وَتَتْرُكُهُ، فَهَبْهُ لِي. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ عُثْمَانُ كُلّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ اسْتَقْبَلَهُ فَيُعِيدُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ، فَإِنّمَا أَعْرَضَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ إرَادَةَ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، لِأَنّهُ لَمْ يُؤَمّنْهُ، فَلَمّا رَأَى أَلّا يُقْدَمَ أَحَدٌ، وَعُثْمَانُ قَدْ أَكَبّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُبَايِعُهُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. ثُمّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
مَا مَنَعَكُمْ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إلَى هَذَا الْكَلْبِ فَيَقْتُلَهُ؟ أَوْ قَالَ: «الْفَاسِقِ» .
فَقَالَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ: أَلَا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فو الذي بَعَثَك بِالْحَقّ إنّي لَأَتّبِعُ طَرَفَك مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ رَجَاءَ أَنْ تُشِيرَ إلَيّ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ: قَالَ هَذَا أَبُو الْيُسْرِ، وَيُقَالُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يومئذ: إنّ النبىّ لَا تَكُونُ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ [ (1) ] . فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَفِرّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلّمَا رَآهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَبِي [أَنْتَ] وَأُمّي، لَوْ تَرَى ابْنَ أُمّ عَبْدِ اللهِ يَفِرّ مِنْك كُلّمَا رَآك! فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
أَوَ لَمْ أُبَايِعْهُ وَأُؤَمّنْهُ؟ قَالَ: بَلَى أَيْ رَسُولَ اللهِ! وَلَكِنّهُ يَتَذَكّرُ عَظِيمَ جرمه
__________
[ (1) ] أى يضمر فى نفسه غير ما يظهره، فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان، وإذا كان ظهور تلك الحالة من قبل العين سميت خائنة الأعين. (النهاية، ج 2، ص 6) .(2/856)
فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» .
فَرَجَعَ عُثْمَانُ إلَى ابْنِ أَبِي سَرْحٍ فَأَخْبَرَهُ، فَكَانَ يَأْتِي فَيُسَلّمُ عَلَى النّبِيّ مَعَ النّاسِ.
وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ [ (1) ] مِنْ وَلَدِ قُصَيّ، فَإِنّهُ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ دَمَهُ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَقِيلَ هُوَ فِي الْبَادِيَةِ. فَأُخْبِرَ الْحُوَيْرِثُ أَنّهُ يُطْلَبُ، وَتَنَحّى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ بَابِهِ، فَخَرَجَ الْحُوَيْرِثُ يُرِيدُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ بَيْتٍ إلَى بَيْتٍ آخَرَ، فَتَلَقّاهُ عَلِيّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَأَمّا هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كُلّمَا بَعَثَ سَرِيّةً أَمَرَهَا بِهَبّارِ إنْ أُخِذَ أَنْ يُحْرَقَ بِالنّارِ. ثُمّ قَالَ: إنّمَا يُعَذّبُ بِالنّارِ رَبّ النّارِ، اقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ، ثُمّ اُقْتُلُوهُ.
فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ عَسّ بِابْنَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ وَضَرَبَ ظَهْرَهَا بِالرّمْحِ- وَكَانَتْ حُبْلَى- حَتّى سَقَطَتْ، فَأَهْدَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي أَصْحَابِهِ إذْ طَلَعَ هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ لَسِنًا، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ! سُبّ مَنْ سَبّك، إنّي قَدْ جِئْت مُقِرّا بِالْإِسْلَامِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِك عَيْنًا! أَنْتَ الّذِي فَعَلْت وَفَعَلْت. فقال: إنّ الإسلام محا ذلك. ونهى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «نفيل» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 98) . وعن البلاذري أيضا. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 357) .(2/857)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سَبّهِ وَالتّعْرِيضِ لَهُ.
قَالَ: حَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنْت جَالِسًا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فِي مَسْجِدِهِ، مُنْصَرَفَهُ مِنْ الْجِعِرّانَةِ، فَطَلَعَ هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ مِنْ بَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نَظَرَ الْقَوْمُ إلَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هبّار ابن الْأَسْوَدِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ رَأَيْته. فَأَرَادَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْقِيَامَ إلَيْهِ، فَأَشَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اجْلِسْ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ هَبّارٌ فَقَالَ: السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّك رَسُولُ اللهِ، وَلَقَدْ هَرَبْت مِنْك فِي الْبِلَادِ وَأَرَدْت اللّحُوقَ [ (1) ] بِالْأَعَاجِمِ، ثُمّ ذَكَرْت عَائِدَتَك وَفَضْلَك وَبِرّك وَصَفْحَك عَمّنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَكُنّا يَا رَسُولَ اللهِ أَهْلَ شِرْكٍ، فَهَدَانَا اللهُ عَزّ وَجَلّ بِك، وَأَنْقَذَنَا بِك مِنْ الْهَلَكَةِ، فَاصْفَحْ عَنْ جَهْلِي وَعَمّا كَانَ يَبْلُغُك عَنّي، فَإِنّي مُقِرّ بِسُوءِ فِعْلِي، مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ عَفَوْت عَنْك، وَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ بِك حَيْثُ هَدَاك لِلْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ.
قَالَ: حَدّثَنِي وَاقِدُ بْنُ أَبِي يَاسِرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قال: قال الزّبير ابن الْعَوّامِ: مَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَبّارًا قَطّ إلّا تَغَيّظَ عَلَيْهِ، وَلَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيّةً قَطّ إلّا قَالَ: إنْ ظَفِرْتُمْ بِهَبّارٍ فَاقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمّ اضْرِبُوا عُنُقَهُ. وَاَللهِ لَقَدْ كُنْت أَطْلُبُهُ وَأَسْأَلُ عَنْهُ، وَاَللهُ يَعْلَمُ لَوْ ظَفِرْت بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لقتلته. ثم اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَهُ جَالِسٌ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: سُبّ
__________
[ (1) ] فى الزرقانى، عن الواقدي: «اللحاق» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 377) .(2/858)
يَا مُحَمّدُ مَنْ سَبّك وَأُوذِيَ مَنْ آذَاكَ، فَقَدْ كُنْت مُوضِعًا فِي سَبّك وَأَذَاك، وَكُنْت مَخْذُولًا، وَقَدْ نَصَرَنِي اللهُ وَهَدَانِي لِلْإِسْلَامِ. قَالَ الزّبَيْرُ: فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنّهُ لَيُطَأْطِئُ رَأْسَهُ اسْتِحْيَاءً [ (1) ] مِمّا يَعْتَذِرُ هَبّارٌ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَدْ عَفَوْت عَنْك، الْإِسْلَامُ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ. وَكَانَ لَسِنًا، وَكَانَ يَسُبّ حَتّى يَبْلُغَ مِنْهُ، فَلَا يَنْتَصِفُ مِنْ أَحَدٍ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْمُهُ وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَذَى، فَقَالَ: هَبّارٌ، سُبّ مَنْ سَبّك!
قَالُوا: وَأَمّا ابْنُ خَطَلٍ، فَإِنّهُ خَرَجَ حَتّى دَخَلَ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ يَقُولُ: فِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [ (2) ] ، أَخْرَجْت عَبْدَ اللهِ بْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَضَرَبْت عُنُقَهُ بَيْنَ الرّكْنِ وَالْمَقَامِ. وَيُقَالُ: قَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيّ، وَيُقَالُ: عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَيُقَالُ: شَرِيكُ بْنُ عَبَدَةَ الْعَجْلَانِيّ، وَأَثْبَتَهُ عِنْدَنَا أَبُو بَرْزَةَ. وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّهُ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ، فَكَانَ يَصْنَعُ طَعَامَهُ وَيَخْدُمُهُ، فَنَزَلَا فِي مَجْمَعٍ فَأَمَرَهُ يَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ نِصْفَ النّهَارِ، فَاسْتَيْقَظَ وَالْخُزَاعِيّ نَائِمٌ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَاغْتَاظَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَهُ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ حَتّى قَتَلَهُ، فَلَمّا قَتَلَهُ قَالَ: وَاَللهِ لَيَقْتُلَنّي مُحَمّدٌ بِهِ إنْ جِئْته. فَارْتَدّ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَسَاقَ مَا أَخَذَ مِنْ الصّدَقَةِ وَهَرَبَ إلَى مَكّةَ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مَكّةَ: مَا رَدّك إلَيْنَا؟ قَالَ: لَمْ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «استحياء منه» .
[ (2) ] سورة 90 البلد 1، 2.(2/859)
أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ. فَأَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ، إحْدَاهُمَا فَرْتَنَا، وَالْأُخْرَى أَرْنَبُ، وَكَانَتَا فَاسِقَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ الشّعْرَ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُمَا تُغَنّيَانِ بِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَيْنَتَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَتُغَنّي الْقَيْنَتَانِ بِذَلِكَ الْهِجَاءِ.
وَكَانَتْ سارة مولاة عمرو ابن هَاشِمٍ مُغَنّيَةً نَوّاحَةً بِمَكّةَ، فَيُلْقَى عَلَيْهَا هِجَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُغَنّي بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلُبُ أَنْ يَصِلَهَا وَشَكَتْ الْحَاجَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ لَك فِي غِنَائِك وَنِيَاحِك مَا يُغْنِيك!
فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ، إنّ قُرَيْشًا مُنْذُ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ تَرَكُوا سَمَاعَ الْغِنَاءِ. فَوَصَلَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْقَرَ لَهَا بَعِيرًا طَعَامًا، فَرَجَعَتْ إلَى قُرَيْشٍ وَهِيَ عَلَى دِينِهَا، فَأَمَرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْ تُقْتَلَ فَقُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ. وَأَمّا الْقَيْنَتَانِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمَا، فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا، أَرْنَبُ أَوْ فَرْتَنَا، وَأَمّا فَرْتَنَا فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا حَتّى آمَنَتْ، وَعَاشَتْ حَتّى كُسِرَ ضِلَعٌ مِنْ أَضْلَاعِهَا زَمَنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمَاتَتْ مِنْهُ، فَقَضَى فِيهَا عُثْمَانُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، سِتّةَ آلَافٍ دِيَتُهَا، وَأَلْفَيْنِ تَغْلِيظًا لِلْجُرْمِ.
قَالُوا: وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَإِنّهُ كَانَ مَعَ أَخْوَالِهِ بَنِي سَهْمٍ- كَانَتْ أُمّهُ سَهْمِيّةً- فَاصْطَبَحَ الْخَمْرَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي نَدَامَى لَهُ، فَأَتَى نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ اللّيْثِيّ، وَعَلِمَ بِمَكَانِهِ، فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَهُوَ ثَمِلٌ، يَتَمَثّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ:
دَعِينِي أَصْطَبِحْ يَا بَكْرُ إنّي ... رَأَيْت الْمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشَامِ [ (1) ]
وَنَقّبَ عَنْ أَبِيك أَبِي يَزِيدٍ ... أَخِي الْقَيْنَاتِ والشّرب الكرام
__________
[ (1) ] يريد أخاه، كما يذكر الواقدي بعد.(2/860)
بِهِمْ أَرْسَتْ رَوَاسٍ مِنْ ثَبِيرٍ ... وَمِنْ ثَوْرٍ [ (1) ] وَلَمْ تَصْمَمْ صَمَامِ [ (2) ]
تُغَنّينِي الْحَمَامُ كَأَنّ رَهْطِي ... خُزَاعَةُ أَوْ أُنَاسٌ مِنْ جُذَامِ
فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ حَتّى بَرّدَهُ. وَيُقَالُ: خَرَجَ وَهُوَ ثَمِلٌ فِيمَا بَيْن الصّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَرَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهَبّتُوهُ [ (3) ] بِأَسْيَافِهِمْ حَتّى قَتَلُوهُ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ [ (4) ] :
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةَ رَهْطُهُ ... وَفُجّعَ إخْوَانُ السّنَاءِ [ (5) ] بِمِقْيَسِ
فَلِلّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ ... إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ [ (6) ]
وَكَانَ جُرْمُهُ أَنّ أَخَاهُ هَاشِمُ بْنُ صُبَابَةَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ المريسيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ خَطَأً وَلَا يَدْرِي، فَظَنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فقدم مقيس بن صبابة، فقضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالدّيَةِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَخَذَهَا وَأَسْلَمَ ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ الْعُمَرِيّ فَقَتَلَهُ، وَهَرَبَ مُرْتَدّا كَافِرًا يَقُولُ شِعْرًا. وَيُقَالُ:
قَتَلَهُ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ فِي رَهْجِ [ (7) ] الْعَدُوّ، فَخَرَجَ يَطْلُبُهُمْ فَرَجَعَ وَلَقِيَهُ أَوْسٌ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلَهُ، فَقَضَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بديته على رهط عبادة ابن الصامت- وهذا أثبت القولين- فقال:
__________
[ (1) ] ثبير وثور: جبلان بمكة. (معجم ما استعجم، ص 212، 222) .
[ (2) ] فى الأصل: «ولم يصمم ضمام» . والصمام: الداهية الشديدة. (لسان العرب، ج 15، ص 238) .
[ (3) ] هبتوه: ضربوه. (القاموس المحيط، ج 1، ص 160) .
[ (4) ] نسبه ابن إسحاق إلى أخت القتيل. (السيرة النبوية، ج 4، ص 53) .
[ (5) ] النساء: من الرفعة والشرف. (الصحاح، ص 2383) .
[ (6) ] أى لم يصنع لها طعام عند ولادتها، واسم الطعام الذي للنفساء يقال له خرس وخرسة، وإنما أراد به زمن الشدة. (شرح أبى ذر، ص 370) .
[ (7) ] الرهج: الغبار. (النهاية، ج 2، ص 114) .(2/861)
شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ [ (1) ]
ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمّلْت عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ
لت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ رَاجِعٍ
فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ.
قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عبد الله بن أبي فروة، عن أبي [بْنِ] كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ إلَى قُرَيْشٍ إلَى مَكّةَ قَالُوا: مَا رَدّك إلَيْنَا وَقَدْ اتّبَعْت مُحَمّدًا؟
قَالَ: فَانْطَلَقَ إلَى الصّنَمَيْنِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: لَمْ أَجِدْ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمْ وَلَا أَقْدَمَ. ثُمّ أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ صَنَعَ وَكَيْفَ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ، قَالَ: لَمّا قُتِلَ النّفَرُ الّذِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمْ سَمِعَ النّوْحَ عَلَيْهِمْ بِمَكّةَ، وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب فَقَالَ: فِدَاك أَبِي وَأُمّي، الْبَقِيّةُ [ (2) ] فِي قَوْمِك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تُقْتَلُ قُرَيْشٌ صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ!
يَعْنِي عَلَى الْكُفْرِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ فِرَاسٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْبَرْصَاءِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُغْزَى قُرَيْشٌ بَعْدَ الْيَوْمِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!
يَعْنِي عَلَى الْكُفْرِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بقتل وحشىّ
__________
[ (1) ] الأخادع: عروق فى القفا، وإنما هما أخدعان فجمعهما مع ما يليهما. (شرح أبى ذر، ص 334) .
[ (2) ] البقية: الإبقاء. (لسان العرب، ج 18، ص 86) .(2/862)
مَعَ النّفَرِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَحَدٍ أَحْرَصَ مِنْهُمْ عَلَى وَحْشِيّ. وَهَرَبَ وَحْشِيّ إلَى الطّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مُقِيمًا حَتّى قَدِمَ فِي وَفْدِ الطّائِفِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ: وَحْشِيّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اجْلِسْ، حَدّثْنِي كَيْفَ قَتَلْت حَمْزَةَ. فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيّبْ عَنّي وَجْهَك! قَالَ: فَكُنْت إذَا رَأَيْته تَوَارَيْت عَنْهُ. ثُمّ خَرَجَ النّاسُ إلَى مُسَيْلِمَةَ [ (1) ] ، فَدَفَعْت إلَى مُسَيْلِمَةَ فَزَرَقْته [ (2) ] بِالْحَرْبَةِ، وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَرَبّك أَعْلَمُ أَيّنَا قَتَلَهُ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فاستسلف من عبد الله ابن أَبِي رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ، فَلَمّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَوَازِنَ وَغَنّمَهُ أَمْوَالَهَا رَدّهَا وَقَالَ: إنّمَا جَزَاءُ السّلَفِ الْحَمْدُ وَالْأَدَاءُ. وَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَك فِي مَالِك وَوَلَدِك!
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ، قَالَ:
اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ من قريش: من صفوان ابن أُمَيّةَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَقْرَضَ مِنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ.
قَالَ: فَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ- كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَتْحِ، أَنّهُ قَسَمَ فِيهِمْ دَرَاهِمَ، فَيُصِيبُ الرّجُلُ خَمْسِينَ درهما
__________
[ (1) ] أى فى حروب الردة.
[ (2) ] زرقه به: رماه. (القاموس المحيط، ج 3، ص 240) .(2/863)
أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَعَثَ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ الْكَلْبِيّ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ المطلّب ابن أَبِي وَدَاعَةَ، قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، وَعَطِشَ فَاسْتَسْقَى. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ هَذَا الزّبِيبِ، أَفَلَا أَسْقِيك مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَبَعَثَ الرّجُلُ إلَى بَيْتِهِ فَأَتَى بِقَدَحٍ عَظِيمٍ، فَأَدْنَاهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَكَرِهَهُ فَرَدّهُ. قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءِ، ثُمّ دَعَا بِهِ. قَالَ: وَأُتِيَ بِمَاءِ مِنْ زَمْزَمَ فَصَبّهُ عَلَيْهِ حَتّى رَأَيْت الْمَاءَ يَفِيضُ مِنْ جَانِبِهِ، وَشَرِبَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، ثُمّ نَاوَلَهُ الّذِي عَنْ يَمِينِهِ وَقَالَ: مَنْ أَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ رَيْبٌ فَلْيَكْسِرْهُ بِالْمَاءِ.
قَالَ: حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَسْلَمَ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زيد ابن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي وَعْلَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَهْدَى صَدِيقٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم من ثقيف رواية خَمْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَمَا عَلِمْت أَنّ اللهَ تَعَالَى حَرّمَهَا؟ فَسَارّ الرّجُلُ غُلَامَهُ: اذْهَبْ بِهَا إلَى الْحَزْوَرَةِ فَبِعْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ أَمَرْته؟ قَالَ: بِبَيْعِهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ الّذِي حَرّمَ شُرْبَهَا حَرّمَ بَيْعَهَا!
فَبَلَغَنِي أَنّهَا فُرّغَتْ فِي الْبَطْحَاءِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، وَثَمَنِ الْخِنْزِيرِ، وَثَمَنِ الْمَيْتَةِ، وَثَمَنِ الْأَصْنَامِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ [ (1) ] .
قَالَ: وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ، عَنْ
__________
[ (1) ] هو ما يعطاه من الأجر والرشوة على كهانته. (النهاية، ج 1، ص 256) .(2/864)
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ: مَا تَرَى فِي شُحُومِ الْمَيْتَةِ يُدْهَنُ بِهَا السّقَاءُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ! حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحُومَ فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا.
قَالَ: وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ! حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحْمَ فَبَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَه.
قَالَ: وَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَرّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتْعَةَ النّسَاءِ يَوْمَئِذٍ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ أبى سلمة ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ:
سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْحَزْوَرَةِ: وَاَللهِ إنّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبّ أَرْضِ اللهِ إلَيّ، وَلَوْلَا أَنّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت!
قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخَرَجُونِي مَا خَرَجْت.
قَالَ: وَحَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ خُزَاعَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، وَكَانَ يَهُودِيّا، فَسَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ، فَعَرَفَ الّذِي ذُكِرَ فِي ذَلِكَ، فَاطْمَأَنّ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، فَلَمّا ارْتَدّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عَنْ إسْلَامِهِ رَجَعَ إلَى مَكّةَ فَأَخْبَرَ أَهْلَهُ بِإِسْلَامِهِ، وَكَانَ الْعَبْدُ يَكْتُمُ(2/865)
إسْلَامَهُ مِنْ أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَعَذّبُوهُ أَشَدّ الْعَذَابِ حَتّى قَالَ لَهُمْ الّذِي يُرِيدُونَ، فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ جَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ مَا لَقِيَ فِي سَبَبِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ:
فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَنَهُ فَاشْتَرَى نَفْسَهُ فَعَتَقَ، وَاسْتَغْنَى وَنَكَحَ امْرَأَةً لَهَا شَرَفٌ.
قَالَ: حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: إنّي نَذَرْت أَنْ أُصَلّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك مَكّةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاهُنَا أَفْضَلُ. فَرَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَصَلَاةٌ هَاهُنَا أَفَضْلُ مِنْ أَلْفٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْبُلْدَانِ! وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي جَعَلْت عَلَى نَفْسِي، إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك مَكّةَ، أَنْ أُصَلّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْدِرِينَ عَلَى ذلك، يحو بَيْنَك وَبَيْنَهُ الرّومُ. فَقَالَتْ: آتِي بِخَفِيرٍ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ. فَقَالَ: لَا تَقْدِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ ابْعَثِي بِزَيْتٍ يُسْتَصْبَحُ [ (1) ] لَك بِهِ فِيهِ، فَكَأَنّك أَتَيْته.
فَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تَبْعَثُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلّ سَنَةٍ بِمَالٍ يُشْتَرَى بِهِ زَيْتٌ يُسْتَصْبَحُ بِهِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتّى مَاتَتْ فَأَوْصَتْ بِذَلِكَ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ جَلَسَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي مجلس فيه جماعة، منهم سعد بن
__________
[ (1) ] يستصبح: أى يسرج السراج. (النهاية، ج 2، ص 250) .(2/866)
عُبَادَةَ، فَمَرّ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ:
قَدْ كَانَ يُذْكَرُ لَنَا مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ حُسْنٌ وَجَمَالٌ [ (1) ] ، مَا رَأَيْنَا هُنّ كَذَلِكَ!
قَالَ: فَغَضِبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حَتّى كَادَ أَنْ يَقَعَ بِسَعْدٍ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَفَرّ مِنْهُ سَعْدٌ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا لَقِيت مِنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وماله؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ. قَالَ: فَغَضِبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى كَانَ وَجْهُهُ لَيُتَوَقّدُ، ثُمّ قَالَ: رَأَيْتهنّ وَقَدْ أُصِبْنَ بِآبَائِهِنّ وَأَبْنَائِهِنّ وَإِخْوَانِهِنّ وَأَزْوَاجِهِنّ، خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ! أَحْنَاهُ [ (2) ] عَلَى وَلَدٍ، وَأَبْذَلُهُ لِزَوْجٍ بِمَا مَلَكَتْ يَدٌ!
وَكَانَ أَبُو الطّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ يَقُولُ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ، فَمَا أَنْسَى شِدّةَ بَيَاضِهِ وَسَوَادَ شَعْرِهِ، وَإِنّ مِنْ الرّجَالِ لَمَنْ هُوَ أَطْوَلُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ [هُوَ] أَقْصَرُ مِنْهُ، يَمْشِي وَيَمْشُونَ حَوْلَهُ. قَالَ:
فَقُلْت لِأُمّي: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: رَسُولُ اللهِ. قِيلَ لَهُ: مَا ثِيَابُهُ؟ قَالَ:
لَا أَدْرِي.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبّادٍ، قَالَ: دَخَلْنَا بَعْدَ فَتْحِهَا بِأَيّامٍ نَنْظُرُ وَنَرْتَادُ وَأَنَا مَعَ أَبِي، فَنَظَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَاعَةَ رَأَيْته عَرَفْته وَذَكَرْت رُؤْيَتِي إيّاهُ بِذِي الْمَجَازِ، وَأَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُ أَثَرَهُ يَوْمَئِذٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا حِلْفَ فى الإسلام، ولن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حسنا وجمالا» .
[ (2) ] إنما وحد الضمير وأمثاله ذهابا إلى المعنى، تقديره: أحنى من وجد أو خلق أو من هناك، ومثله قوله:
أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا، وهو كثير فى العربية ومن أفصح الكلام. (النهاية، ج 1، ص 267) .(2/867)
يَزِيدَ حِلْفَ الْجَاهِلِيّةِ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً. وَكَانَتْ أُمّ هَانِئٍ تُحَدّثُ تَقُولُ:
مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَحْسَنَ ثَغْرًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رَأَيْت بَطْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا ذَكَرْت الْقَرَاطِيسَ [ (1) ] الْمُثْنِيَةَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ- تَعْنِي عُكَنَهُ [ (2) ]- وَقَدْ رَأَيْته دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ ضَفّرَ رَأْسَهُ بِضَفَائِرَ [ (3) ] أَرْبَعٍ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: ضَفّرْت [ (4) ] رَأْسَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَرْبَعَ ضَفَائِرَ، فَلَمْ يُحِلّهُ حَتّى فَتَحَ مَكّةَ وَمُقَامُهُ بِمَكّةَ، حَتّى حِينَ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى حُنَيْنٍ حَلّهُ وَغَسَلْت رَأْسَهُ بِسِدْر.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ، قَالَ: لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ أَرْسَلَتْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدِيّةٍ- وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ- مَعَ مَوْلَاةٍ لَهَا، بِجَدْيَيْنِ مَرْضُوفَيْنِ [ (5) ] وَقَدّ [ (6) ] . فَانْتَهَتْ الْجَارِيَةُ إلَى خَيْمَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلّمَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ، فَأَذِنَ لَهَا فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيْنَ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ وَمَيْمُونَةَ، وَنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَالَتْ: إنّ مَوْلَاتِي أَرْسَلَتْ إلَيْك بِهَذِهِ الْهَدِيّةِ، وَهِيَ مُعْتَذِرَةٌ إلَيْك وَتَقُولُ: إنّ غَنَمَنَا الْيَوْمَ قَلِيلَةُ الْوَالِدَةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللهُ لَكُمْ فِي غَنَمِكُمْ، وأكثر
__________
[ (1) ] القراطيس: جمع قرطاس، وهو الصحيفة من أى شيء كانت، وهو أيضا برد مصرى. (القاموس المحيط، ج 2، ص 240) .
[ (2) ] العكن: جمع العكنة، وهي ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا. (القاموس المحيط، ج 4، ص 249) .
[ (3) ] فى الأصل: «ظفر رأسه بظفائر» . والضفائر: الذوائب المضفورة. (النهاية، ج 3، ص 21) .
[ (4) ] فى الأصل: «ظفرت» .
[ (5) ] المرضوف: الذي يشوى على الرضف، والرضف: الحجارة المحماة على النار. (النهاية، ج 2، ص 85) .
[ (6) ] القد: جلد السخلة. (القاموس المحيط، ج 1، ص 325) .(2/868)
وَالِدَتَهَا! فَرَجَعَتْ الْمَوْلَاةُ إلَى هِنْدٍ فَأَخْبَرَتْهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرّتْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ الْمَوْلَاةُ تَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ غَنَمِنَا وَوَالِدَتِنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَرَى قَبْلُ وَلَا قَرِيبًا، فَتَقُولُ هِنْدٌ: هَذَا دُعَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتُهُ، فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ! ثُمّ تَقُولُ: لَقَدْ كُنْت أَرَى فِي النّوْمِ أَنّي فِي الشّمْسِ أَبَدًا قَائِمَةً، وَالظّلّ مِنّي قَرِيبٌ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنّا رَأَيْت كَأَنّي دَخَلْت الظّلّ.
قَالَ أَبُو حُصَيْنٍ: وَقَدِمَتْ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ- إمّا خَالَةٌ أَوْ عَمّةٌ- بِنَحْيٍ [ (1) ] مَمْلُوءٍ سَمْنًا وَجِرَابٍ أَقِطٍ [ (2) ] ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْأَبْطَحِ، فَلَمّا دَخَلَتْ انْتَسَبَتْ لَهُ، فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهَا إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَتْ وَصَدّقَتْ، ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ هَدِيّتِهَا، وَجَعَلَ يُسَائِلُهَا عَنْ حَلِيمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنّهَا تُوُفّيَتْ فِي الزّمَانِ. قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ سَأَلَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟ فَقَالَتْ: أَخَوَاك وَأُخْتَاك، وَهُمْ وَاَللهِ مُحْتَاجُونَ إلَى بِرّك وَصِلَتِك، وَلَقَدْ كَانَ لَهُمْ مَوْئِلٌ [ (3) ] فَذَهَبَ. وَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أَهْلُك؟ فَقَالَتْ: بِذَنَبِ أَوْطَاسٍ. فَأَمَرَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِسْوَةٍ، وَأَعْطَاهَا جَمَلًا ظَعِينَةً [ (4) ] ، وَأَعْطَاهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: نِعْمَ وَاَللهِ الْمَكْفُولُ كُنْت صَغِيرًا، وَنِعْمَ الْمَرْءُ كُنْت كَبِيرًا، عَظِيمَ الْبَرَكَةِ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْهُذَلِيّ، قال:
__________
[ (1) ] النحى: الزق الذي يجعل فيه السمن خاصة. (لسان العرب، ج 20، ص 183) .
[ (2) ] الأقط: لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. (النهاية، ج 1، ص 36) .
[ (3) ] فى الأصل: «موبل» . والموئل: الملجأ. (الصحاح، ص 1848) .
[ (4) ] فى الأصل: «جمل ظعنته» . والظعينة: الجمل الذي يظعن عليه. (النهاية، ج 3، ص 55) .(2/869)
لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ بَثّ السّرَايَا، فَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى، وَبَعَثَ إلَى ذِي الْكَفّيْنِ- صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ- الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدّوْسِيّ، فَجَعَلَ يُحَرّقُهُ بِالنّارِ وَيَقُولُ:
يَا ذَا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من مِيلَادِكَا
أَنَا حَشَشْت النّارَ فِي فُؤَادِكَا
وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى مَنَاةَ بِالْمُشَلّلِ فَهَدَمَهُ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى صَنَمِ هُذَيْلٍ- سُوَاعٍ- فَهَدَمَهُ، فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: انْتَهَيْت إلَيْهِ وَعِنْدَهُ السّادِنُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْت: هدم سواع. فقال: مالك وَلَهُ؟
فَقُلْت: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى هَدْمِهِ. قُلْت: لِمَ؟ قَالَ: يَمْتَنِعُ. قَالَ عَمْرٌو: حَتّى الْآنَ أَنْتَ فِي الْبَاطِلِ! وَيْحَك هَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ عَمْرٌو: فَدَنَوْت إلَيْهِ فَكَسَرْته، وَأَمَرْت أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا شَيْئًا، ثُمّ قَالَ لِلسّادِنِ:
كَيْفَ رَأَيْت؟ قَالَ: أَسْلَمْت لِلّهِ. ثُمّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ فَلَا يَدَعَن فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ.
قَالَ: فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَكْسِرُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ أَسْلَمَ لَا يَسْمَعُ بِصَنَمٍ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ قُرَيْشٍ إلّا مَشَى إلَيْهِ حَتّى يَكْسِرَهُ، وَكَانَ أَبُو تِجْرَاةَ يَعْمَلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَيَبِيعُهَا. قَالَ سَعْدُ بْنُ عَمْرٍو:
أَخْبَرَنِي أَنّهُ كَانَ يَرَاهُ يَعْمَلُهَا وَيَبِيعُهَا. وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ إلّا وَفِي بَيْتِهِ صَنَمٌ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ بَعْضِ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ نَادَى(2/870)
منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ فَلَا يَتْرُكَن فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ أَوْ حَرَقَهُ، وَثَمَنُهُ حَرَامٌ. قَالَ جُبَيْرٌ: وَقَدْ كُنْت أَرَى قَبْلَ ذَلِكَ الْأَصْنَامَ يُطَافُ بِهَا مَكّةَ، فَيَشْتَرِيهَا أَهْلُ الْبَدْوِ فَيَخْرُجُونَ بِهَا إلَى بُيُوتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلّا وَفِي بَيْتِهِ صَنَمٌ، إذَا دَخَلَ مَسَحَهُ وَإِذَا خَرَجَ مَسَحَهُ تَبَرّكًا بِهِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، قَالَ: لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ جَعَلَتْ تَضْرِبُ صَنَمًا فِي بَيْتِهَا بِالْقَدُومِ، فِلْذَةً فِلْذَةً، وَهِيَ تَقُولُ: كُنّا مِنْك فِي غُرُورٍ! قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ:
أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ.
*** تم بعون الله تعالى الجزء الثاني من مغازي الواقدي، ويليه الجزء الثالث وأوله «شأن هدم العزّى» .(2/871)
الجزء الثالث
شَأْنُ هَدْمِ العُزَّى
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الْهُذَلِيّ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَبَثّ السَّرايا فِي كُلّ وَجْهٍ. أَمَرَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَخَرَجَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ فى مائتين قبل يلملم [ (1) ] ، وخرج خالد ابن سعيد بن العاص فى ثلاثمائة، قَبْلَ عُرَنَةَ. وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى العزَّى يَهْدِمُهَا، فَخَرَجَ خَالِدٌ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَى إلَيْهَا وَهَدَمَهَا. ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَدَمْت؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْت شَيْئًا مَا؟
قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنّك لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إلَيْهَا فَاهْدِمْهَا.
فَرَجَعَ خَالِدٌ وَهُوَ مُتَغَيّظٌ، فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا جَرّدَ سَيْفَهُ، فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، عُرْيَانَةٌ، نَاشِرَةُ الرّأْسِ. فَجَعَلَ السّادِنُ يَصِيحُ بِهَا. قَالَ خَالِدٌ: وَأَخَذَنِي اقْشِعْرَارٌ فِي ظَهْرِي، فَجَعَلَ يَصِيحُ:
أَيَا عزَّ شُدّي [ (2) ] شدَّة لَا تكذِّبى ... عَلَى خَالِدٍ [ (3) ] أَلْقِي الْقِنَاعَ وشمِّرى
أَيَا عزَّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ... فَبُوئِي [ (4) ] بِذَنْبٍ عَاجِلٍ أَوْ تنصَّرى
__________
[ (1) ] يلملم: موضع على ليلتين من مكة. وقال المرزوقي: هو جبل من الطائف على ليلتين أو ثلاث، وقيل هو واد هناك. (معجم البلدان، ج 8، ص 514) .
[ (2) ] فى الأصل: «أعزى شددتى شدة» ، ولا يستقيم به الوزن. وما أثبتناه عن ابن إسحاق.
(السيرة النبوية، ج 4، ص 79) .
[ (3) ] فى الأصل: «أعزى» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 79) .
[ (4) ] فبوئى: أى ارجعي. (شرح أبى ذر، ص 384) .(3/873)
قَالَ: وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالسّيْفِ إلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عزَّ كُفْرَانَك لَا سُبْحَانَك [ (1) ] ... إنّي وَجَدْت [ (2) ] الله قد أهانك
قال: فضربها بالسيف فجزَّ لها [ (3) ] باثنين، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلَّم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، تِلْكَ العزَّى وَقَدْ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبِلَادِكُمْ أَبَدًا.
ثُمّ قَالَ خَالِدٌ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَنَا وَأَنْقَذَنَا مِنْ الْهَلَكَةِ! إنّي كُنْت أَرَى أَبِي يَأْتِي إلَى العزَّى بِحِتْرِهِ [ (4) ] ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَيَذْبَحُهَا للعزَّى، وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمّ يَنْصَرِفُ إلَيْنَا مَسْرُورًا، فَنَظَرْت إلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِي، وَذَلِكَ الرّأْيُ الّذِي كَانَ يُعَاشُ فِي فَضْلِهِ، كَيْفَ خُدِعَ حَتّى صَارَ يَذْبَحُ لِحَجَرٍ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ إلَى اللهِ، فَمَنْ يسَّره لِلْهُدَى تَيَسّرَ، وَمَنْ يَسّرَهُ لِلضّلَالَةِ كَانَ فِيهَا.
وَكَانَ هَدْمُهَا لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَكَانَ سَادِنُهَا أَفْلَحَ بْنَ نَضْرٍ الشّيْبَانِيّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَزِينٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ:
فَلَا تَحْزَنْ، فَأَنَا أَقُومُ عَلَيْهَا بَعْدَك. فَجَعَلَ كُلّ مَنْ لَقِيَ قَالَ: إنْ تَظْهَرَ العزَّى كُنْت قَدْ اتَّخذت يَدًا عِنْدَهَا بِقِيَامِي عَلَيْهَا، وَإِنْ يَظْهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى العزَّى- وَلَا أَرَاهُ يَظْهَرُ- فَابْنُ أَخِي! فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [ (5) ] ، ويقال إنه قال هذا فى اللَّات. وقال حسّان بن ثابت....
__________
[ (1) ] فى الأصل: «كفرا بك لا سبحانك» ، وما أثبتناه عن ابن كثير، يروى عن الواقدي.
(البداية والنهاية، ج 4، ص 316) .
[ (2) ] فى ابن كثير، عن الواقدي: «إنى رأيت» . (البداية والنهاية، ج 4، ص 316) .
[ (3) ] فى الأصل: «فجد لها» ، والمثبت من ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 105) .
وجزل: أى قطع. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 415) .
[ (4) ] الحتر، بالكسر: العطية اليسيرة. وبالفتح: المصدر. (الصحاح، ص 622) .
[ (5) ] سورة 111 المسد 1(3/874)
بَابُ ذِكْرِ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الفتح
رجلان أخطئا الطّرِيقَ، كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، وَخَالِدٌ الْأَشْعَرُ، مِنْ بَنِي كَعْبٍ.
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ صَبْرًا بِالسّيْفِ ابْنُ خَطَلٍ، قَتَلَهُ أَبُو بَرْزَةَ، وَالْحُوَيْرِثُ ابن نُقَيْذٍ [ (1) ] ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ. وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَنْدَمَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قَتِيلًا.
غَزْوَةُ بَنِي جَذِيمَةَ
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ العزَّى إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُقِيمٌ بمكَّة، بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم إلَى بَنِي جَذِيمَةَ، وَبَعَثَهُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَخَرَجَ فى المسلمين من المهاجرين والأنصار وبنى سليم، فكانوا ثلاثمائة وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ بِأَسْفَلَ مكَّة، فَقِيلَ لِبَنِي جَذِيمَةَ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا: وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، قَدْ صلَّينا وَصَدّقْنَا بِمُحَمّدٍ، وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ وأذَّنَّا فِيهَا. فَانْتَهَى إلَيْهِمْ خَالِدٌ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ! قَالُوا:
نَحْنُ مُسْلِمُونَ! قَالَ: فَمَا بَالُ السّلَاحِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ عَدَاوَةً، فَخِفْنَا أَنْ تَكُونُوا هُمْ، فَأَخَذْنَا السّلَاحَ لِأَنْ نَدْفَعَ عَنْ أَنْفُسِنَا مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فضعوا السلاح! فقال لهم رجل
__________
[ (1) ] فى الأصل: «نفيل» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 98) .
وعن البلاذري أيضا. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 357) .(3/875)
مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ جَحْدَمُ: يَا بَنِي جَذِيمَةَ، إنّهُ وَاَللهِ خَالِدٌ! وَمَا يَطْلُبُ مُحَمّدٌ مِنْ أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُقِرّ بِالْإِسْلَامِ، وَنَحْنُ مُقِرّونَ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ خَالِدٌ لَا يُرِيدُ بِنَا مَا يُرَادُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِنّهُ مَا يَقْدِرُ مَعَ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارَ، ثُمّ بَعْدَ الْإِسَارِ السّيْفُ! قَالُوا: نذكِّرك اللهَ، تَسُومَنَا. فَأَبَى يُلْقِي [ (1) ] سَيْفَهُ حَتّى كلَّموه جَمِيعًا فَأَلْقَى سَيْفَهُ وَقَالُوا: إنّا مُسْلِمُونَ وَالنّاسُ قَدْ أَسْلَمُوا، وَفَتَحَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، فَمَا نَخَافُ مِنْ خَالِدٍ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَيَأْخُذَنكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْأَحْقَادِ الْقَدِيمَةِ. فَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ، ثُمّ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: اسْتَأْسِرُوا! فَقَالَ جَحْدَمٌ: يَا قَوْمُ، مَا يُرِيدُ مِنْ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ يَسْتَأْسِرُونَ! إنّمَا يُرِيدُ مَا يُرِيدُ، فَقَدْ خَالَفْتُمُونِي وَعَصَيْتُمْ أَمْرِي، وَهُوَ وَاَللهِ السّيْفُ. فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ، فَأُمِرَ بَعْضُهُمْ يَكْتِفُ بَعْضًا، فَلَمّا كُتِفُوا دَفَعَ إلَى كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الرّجُلَ وَالرّجُلَيْنِ، وَبَاتُوا فِي وَثَاقٍ، فَكَانُوا إذَا جَاءَ وَقْتُ الصّلَاةِ يُكَلّمُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلّونَ ثُمّ يَرْبِطُونَ. فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا نُرِيدُ بِأَسْرِهِمْ، نَذْهَبُ بِهِمْ إلَى النّبِيّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم. وَقَائِلٌ يَقُولُ: نَنْظُرُ هَلْ يَسْمَعُونَ أَوْ يُطِيعُونَ، وَنَبْلُوهُمْ وَنُخْبِرُهُمْ.
وَالنّاسُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَلَمّا كَانَ فِي السَّحر نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ:
مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فليذافِّه- والمذافَّة: الْإِجْهَازُ عَلَيْهِ بِالسّيْفِ. فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا كُلّ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَكَانَ فِي يَدِي أَسِيرٌ، فَأَرْسَلْته وَقُلْت: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت! وَكَانَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أُسَارَى فأرسلوهم.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فأبى ملقى» .(3/876)
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
وَأَرْسَلْت أَسِيرِي، وَمَا أُحِبّ أَنّي قَتَلْته وَأَنّ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسٌ أَوْ غَرَبَتْ، وَأَرْسَلَ قَوْمِي مَعِي مِنْ الْأَنْصَارِ أَسْرَاهُمْ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
لَمّا نَادَى خَالِدٌ «مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فليذافِّه» أَرْسَلْت أَسِيرِي.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ يَقُولُ: كَانَ مَعِي أَسِيرٌ مِنْهُمْ. قَالَ: فَلَمّا نَادَى خَالِدٌ «مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فليذافِّه» أَخْرَجْت سَيْفِي لِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ لِي الْأَسِيرُ:
يَا أَخَا الْأَنْصَارِ، إنَّ هَذَا لَا يَفُوتُك، اُنْظُرْ إلَى قَوْمِك! قَالَ: فَنَظَرْت فَإِذَا الْأَنْصَارُ طُرّا قَدْ أَرْسَلُوا أُسَارَاهُمْ. قَالَ: قُلْت: انْطَلِقْ حَيْثُ شِئْت! فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ رَحِمًا مِنْكُمْ قَدْ قَتَلُونَا! بَنُو سُلَيْمٍ.
قَالَ: فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي الْأَسْرَى يُذَافّونَ، وَثَبَتَ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى أَسْرَاهُمْ فَذَافّوهُمْ- وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ- غَضِبَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَرْسَلَ مِنْ الْأَنْصَارِ، فكلَّمه يَوْمَئِذٍ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ وَقَالَ: اتَّق اللهَ يَا خَالِدُ، وَاَللهِ مَا كُنّا لِنَقْتُلَ قَوْمًا مُسْلِمِينَ! قَالَ: وَمَا يُدْرِيك؟ قَالَ:
نَسْمَعُ إقْرَارَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ بِسَاحَتِهِمْ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قَالَ: إنّا فِي الْجَيْشِ وَقَدْ كُتّفَتْ بَنُو جَذِيمَةَ، أُمِرَ بَعْضُهُمْ فَكَتَفَ بَعْضًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَسْرَى: يَا فَتًى!(3/877)
فَقُلْت: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ برمَّتى [ (1) ] هَذِهِ فمقدِّمى إلَى النُّسيَّات، ثُمّ رَادّي فَفَاعِلٍ بِي مَا فُعِلَ بِأَصْحَابِي؟ قَالَ: قَدْ سَأَلْت يَسِيرًا. قَالَ:
وَأَخَذْت برمَّته فَانْتَهَيْت بِهِ إلَى النِّسوة. فَلَمّا انْتَهَى إليهنَّ كلَّم امْرَأَةً منهنَّ بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ. قَالَ: ثُمّ رَجَعْت بِهِ حَتّى رَدَدْته فِي الْأَسْرَى، فَقَامَ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَيُقَالُ: إنَّ فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ أَدْرَكَهُ الْجَيْشُ عَشِيّةً، فَنَادَى فِي الْقَوْمِ فكفَّ عَنْهُ، وَكَانَ الّذِينَ يَطْلُبُونَهُ [ (2) ] بَنُو سُلَيْمٍ، وَكَانُوا عَلَيْهِ مُتَغَيّظِينَ فِي حُرُوبٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِبَرْزَةَ [ (3) ] وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ بَنُو جَذِيمَةَ قَدْ أَصَابُوهُمْ بِبَرْزَةَ وَهُمْ مَوْتُورُونَ يُرِيدُونَ الْقَوَدَ مِنْهُمْ. فَشَجُعُوا عَلَيْهِ، فَلَمّا لَمْ يَرَ إلّا أَنّهُمْ يَقْتُلُونَهُ شَدّ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا، ثُمّ شَدّ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَقَتَلَ مِنْهُمْ آخَرُ، ثُمّ جَاءَ الظّلَامُ فَحَالَ بَيْنَهُمْ، وَوَجَدَ الْفَتَى فُرْجَةً، حَتّى إذَا كَانَ الْغَدَاةُ جَاءَ وَقَدْ قَتَلَ مِنْ الْقَوْمِ رَجُلَيْنِ، وَالنّسَاءُ وَالذّرّيّةُ فِي يَدِ خَالِدٍ، فَاسْتَأْمَنَ فَعَرَضَ فَرَسَهُ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ قَالُوا، هَذَا الّذِي صَنَعَ بِالْأَمْسِ مَا صَنَعَ، فَنَاوَشُوهُ عامَّة النّهَارِ ثُمّ أَعْجَزَهُمْ وَكَرّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَنْزِلَ، عَلَى أَنْ تُعْطُونِي عهدا وميثاقا لتصنعنّ بى مَا تَصْنَعُونَ بِالظّعُنِ، إنْ استحييتموهن اسْتَحْيَيْت وَإِنْ قتلتموهنَّ قَتَلْت؟ قَالُوا: لَك ذَلِكَ.
فَنَزَلَ بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ، فَلَمّا نَزَلَ قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: هَذَا صَاحِبُنَا الّذِي فَعَلَ بِالْأَمْسِ مَا فَعَلَ. قَالُوا: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْأَسْرَى مِنْ الرّجَالِ، فَإِنْ قَتَلَهُ خَالِدٌ فَهُوَ إمَامٌ وَنَحْنُ لَهُ تَبَعٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ كَأَحَدِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنّمَا جَعَلْنَا لَهُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ يكون مع الظّعن، وأنتم تعلمون
__________
[ (1) ] الرمة: قطعة من الحبل. (القاموس المحيط، ج 4، ص 122) .
[ (2) ] فى الأصل: «الذي يطلبونه» .
[ (3) ] فى الأصل: «ببرره» وبرزة: موضع فى ديار بنى كنانة، وفى هذا الموضع أوقعت بنو فراس بن مالك من بنى كنانة ببني سليم، (معجم ما استعجم، ص 152) .(3/878)
أنَّ خَالِدًا لَا يَقْتُلُ الظّعُنَ، إمّا يقسمهنَّ وَإِمّا يَعْفُو عنهنَّ. قَالَ الْفَتَى:
فَإِذَا فَعَلْتُمْ بِي مَا فَعَلْتُمْ، فَانْطَلِقُوا بِي إلَى نسيَّات هُنَاكَ، ثُمّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ. قَالَ: فَفَعَلُوا، وَهُوَ مَكْتُوفٌ برمَّة، حَتّى وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ منهنَّ، فَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيْشٌ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ [ (1) ] ! لَا ذَنْبَ لِي! قَدْ قُلْت شِعْرًا:
أَثِيبِي [ (2) ] بودِّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ [ (3) ] النَّوى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
أَلَمْ يَكُ حَقّا أَنْ ينوَّل عَاشِقٌ ... تكلَّف إدْلَاجَ [ (4) ] السُّرى وَالْوَدَائِقِ [ (5) ]
أَلَمْ أَكُ قَدْ طَالَبْتُكُمْ فَلَقِيتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ [ (6) ] أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ [ (7) ]
فَإِنّي لَا ضَيّعْت سرَّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقٍ عَيْنِي بَعْدَك الْيَوْمَ رَائِقُ
سِوَى أنَّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... لَنَا عَنْك إلّا أَنْ يَكُونَ التّوَاثُقُ
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ قُسَيْطٍ وَابْنُ أَبِي الزِّناد.
قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حُرّةَ، عَنْ الوليد، عَنْ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيّ، قَالَ: أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَنْ ضربت عنقه. يقول:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أسلم حبيس على بعد العيش» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 107) . وعلى نفد العيش: يريد على تمامه، من قولك نفد الشيء إذا تم. (شرح أبى ذر، ص 381) .
[ (2) ] فى الأصل: «أبينى» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 107) .
وعن ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج ص 76) .
[ (3) ] تشحط: أى تبعد، والشحط: البعد. (شرح أبى ذر، ص 381) .
[ (4) ] الإدلاج: سير الليل كله. (لسان العرب، ج 3، ص 97) .
[ (5) ] الودائق: جمع وديقة، وهي شدة الحر. (شرح أبى ذر، ص 381) .
[ (6) ] كلمة غامضة فى الأصل، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 107) .
وعن ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 4، ص 76) . وحلية: واد بتهامة، أعلاه لهذيل وأسفله لكنانة. (معجم البلدان، ج 3، ص 331) .
[ (7) ] فى الأصل: «الحوائق» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 107) .
وعن ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 4، ص 76) . والخوانق: بلد فى ديار فهم. (معجم ما استعجم، ص 327) .(3/879)
ثُمّ وَضَعَتْ فَاهَا عَلَى فِيهِ فَالْتَقَمَتْهُ، فَلَمْ تَزَلْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى خَالِدٍ مَا صَنَعَ، قَالَ: يَا خَالِدُ، أَخَذْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ! قَتَلْتهمْ بِعَمّك الْفَاكِهِ، قَاتَلَك اللهُ! قَالَ: وَأَعَانَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عَلَى خَالِدٍ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَخَذْتهمْ بِقَتْلِ أَبِيك! فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: كَذَبْت وَاَللهِ، لَقَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي بِيَدِي وَأَشْهَدْت عَلَى قَتْلِهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ. ثُمّ الْتَفَتَ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَنْشُدُك اللهَ، هَلْ عَلِمْت أَنّي قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي؟
فَقَالَ عُثْمَانُ: اللهُمّ، نَعَمْ. ثُمّ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: وَيْحَك يَا خَالِدُ، وَلَوْ لَمْ أَقْتُلْ قَاتِلَ أَبِي كُنْت تَقْتُلُ قَوْمًا مُسْلِمِينَ بِأَبِي فِي الْجَاهِلِيّةِ؟ قَالَ خَالِدٌ:
وَمَنْ أَخْبَرَك أَنّهُمْ أَسْلَمُوا؟ فَقَالَ: أَهْلُ السّرِيّةِ كُلّهُمْ يُخْبِرُونَنَا أَنّك وَجَدْتهمْ قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ وَأَقَرّوا بِالْإِسْلَامِ، ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ. قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَأَغَرْت بِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: كَذَبْت عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَغَالَظَ عَبْدُ الرّحْمَنِ، وَأَعْرَضَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن خَالِدٍ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَ: يَا خَالِدُ، ذَرُوا لِي أَصْحَابِي! مَتَى يُنْكَ أَنْفُ الْمَرْءِ يُنْكَ! لَوْ كَانَ أُحُدٌ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ قِيرَاطًا قِيرَاطًا فِي سَبِيلِ اللهِ لَمْ تُدْرِكْ غَدْوَةً أَوْ رَوْحَةً مِنْ غَدَوَاتِ أَوْ رَوْحَاتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ لِخَالِدٍ: وَيْحَك يَا خَالِدُ، أَخَذْت بَنِي جَذِيمَةَ بِاَلّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ! أَوَ لَيْسَ الْإِسْلَامُ قَدْ مَحَا مَا كَانَ قَبْلَهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ؟ فَقَالَ:
يَا أَبَا حَفْصٍ، وَاَللهِ، مَا أَخَذْتهمْ إلّا بِالْحَقّ! أَغَرْت عَلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ(3/880)
وامتنعوا، فلم يكن لى بدّ- إذا امْتَنَعُوا- مِنْ قِتَالِهِمْ، فَأَسَرْتهمْ ثُمّ حَمَلْتهمْ عَلَى السّيْفِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَيّ رَجُلٍ تَعْلَمُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: أَعْلَمُهُ وَاَللهِ رَجُلًا صَالِحًا. قَالَ: فَهُوَ أَخْبَرَنِي غَيْرَ الّذِي أَخْبَرْتنِي، وَكَانَ مَعَك فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. قَالَ خَالِدٌ: فَإِنّي أَسَتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ. قَالَ: فَانْكَسَرَ عَنْهُ عُمَرُ، وَقَالَ: وَيْحَك، ايتِ رَسُولَ اللهِ يَسْتَغْفِرْ لَك! قَالَ: حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ، قَالَ: لَمّا نَادَى خَالِدٌ فِي السّحَرِ «مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافّهِ» أَرْسَلْت أَسِيرِي وَقُلْت لِخَالِدٍ: اتَّق اللهَ، فَإِنّك مَيّتٌ! وَإِنّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ! قَالَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، إنّهُ لَا عِلْمَ لَك بِهَؤُلَاءِ.
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَإِنّمَا يكلِّمني خَالِدٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ التِّرة عَلَيْهِمْ.
قَالُوا: فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الوليد رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه، وهو يقول: اللهُمّ، إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِد!
وَقَدِمَ خَالِدٌ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاتِبٌ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَخَالِدٍ كَلَامٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ، فَمَشَى خَالِدٌ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ إلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ، فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ حَتّى رَضِيَ عَنْهُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا أَبَا مُحَمّدٍ!
قَالُوا: وَدَخَلَ عَمّارٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ حَمَشَ قَوْمًا [ (1) ] قَدْ صَلّوْا وَأَسْلَمُوا. ثُمّ وَقَعَ بِخَالِدٍ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ، عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالِدٌ جَالِسٌ لَا يَتَكَلّمُ، فَلَمّا قَامَ عَمّارٌ وَقَعَ بِهِ خَالِدٌ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا خَالِدُ! لَا تَقَعْ بِأَبِي اليقظان، فإنه
__________
[ (1) ] حمش القوم: ساقهم بغضب. (القاموس المحيط، ج 2، ص 270) .(3/881)
مَنْ يُعَادِهِ يُعَادِهِ اللهُ، وَمَنْ يُبْغِضْهُ يُبْغِضْهُ اللهُ، وَمَنْ يسفِّهه يُسَفّهْهُ اللهُ.
قَالُوا: فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ اسْتَقْرَضَ مَالًا بِمَكّةَ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَعْطَاهُ مَالًا، فَقَالَ:
انْطَلِقْ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ واجعل يأمر الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك، فَدِ [ (1) ] لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَخَرَجَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتّى جَاءَهُمْ، فَوَدَى لَهُمْ مَا أَصَابَ خَالِدٌ، وَدَفَعَ إلَيْهِمْ مَالَهُمْ، وَبَقِيَ لَهُمْ بَقِيّةُ الْمَالِ، فَبَعَثَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَبَا رَافِعٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَزِيدَهُ، فَزَادَهُ مَالًا، فَوَدَى لَهُمْ كُلّ مَا أَصَابَ، حَتّى إنّهُ لَيَدِي لَهُمْ مِيلَغَةَ [ (2) ] الْكَلْبِ، حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ يَطْلُبُونَهُ بَقِيَ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذِهِ الْبَقِيّةُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا أَصَابَ خَالِدٌ، مِمّا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ. وَيُقَالُ إنّمَا الْمَالُ الّذِي بَعَثَ بِهِ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، فَبَعَثَ مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَلَمّا رَجَعَ عَلِيّ دَخَلَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَا صَنَعْت يَا عَلِيّ؟ فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ، قَدْ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ بِسَاحَتِهِمْ، فَوَدَيْت لَهُمْ كُلّ مَنْ قَتَلَ خَالِدٌ حَتّى مِيلَغَةَ الْكِلَابِ، ثُمّ بَقِيَ مَعِي بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقُلْت: هَذَا مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لَا يَعْلَمُهُ وَلَا تَعْلَمُونَهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَصَبْت! مَا أَمَرْت خَالِدًا بِالْقَتْلِ، إنّمَا أَمَرْته بِالدّعَاءِ.
وَكَانَ رَسُولُ الله صلّى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فدى» .
[ (2) ] فى الأصل: «مبلغة» . والميلغة: الإناء الذي يلغ فيه الكلب. (النهاية، ج 4، ص 230) .(3/882)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْبِلُ عَلَى خَالِدٍ، وَيَعْرِضُ عَنْهُ، وَخَالِدٌ يَتَعَرّضُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْلِفُ مَا قَتَلَهُمْ عَلَى تِرَةٍ وَلَا عَدَاوَةٍ. فَلَمّا قَدِمَ عَلِيّ وَوَدَاهُمْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَالِدٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبّوا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَإِنّمَا هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، سَلّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!
قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نِعْمَ عَبْدُ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَخُو الْعَشِيرَةِ، وَسَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، سَلّهُ عَلَى الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِين!
قَالَ: وَحَدّثَنِي يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد يُغِيرَ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ، إلّا أَنْ يَسْمَعَ أَذَانًا أَوْ يَعْلَمَ إسْلَامًا، فَخَرَجَ حَتّى انْتَهَى إلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَامْتَنَعُوا أَشَدّ الِامْتِنَاعِ، وَقَاتَلُوا وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ، فَانْتَظَرَ بِهِمْ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَا يَسْمَعُ أَذَانًا، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ، فَادّعَوْا بَعْدُ الْإِسْلَامَ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا عَتَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ [عَلَى خَالِدٍ] وَلَقَدْ كَانَ الْمُقَدّمَ حَتّى مَاتَ. وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ، وَإِلَى تَبُوكَ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُكَيْدِرٍ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، فَسَبَى مَنْ سَبَى ثُمّ صَالَحَهُمْ، ولقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ إلَى نَجْرَانَ أَمِيرًا(3/883)
وَدَاعِيًا إلَى اللهِ، وَلَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ، فَلَمّا حَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ أَعْطَاهُ نَاصِيَتَهُ، فَكَانَتْ فِي مُقَدّمِ قَلَنْسُوَتِهِ، فَكَانَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إلّا هَزَمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَقَدْ قَاتَلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَوَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ. فَجَعَلَ يَقُولُ: الْقَلَنْسُوَةُ! الْقَلَنْسُوَةُ! فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ، عَجَبًا لِطَلَبِك الْقَلَنْسُوَةَ وَأَنْتَ فِي حَوْمَةِ الْقِتَالِ! فَقَالَ:
إنّ فِيهَا نَاصِيَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ أَلْقَ بِهَا أَحَدًا إلّا وَلّى. وَلَقَدْ تُوُفّيَ خَالِدٌ يَوْمَ تُوُفّيَ، وَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَبْرُهُ بِحِمْصٍ، فَأَخْبَرَنِي مَنْ غَسّلَهُ وَحَضَرَ مَوْتَهُ، وَنَظَرَ إلَى مَا تَحْتَ ثِيَابِهِ، مَا فِيهِ مَصَحّ، مَا بَيْنَ ضَرْبَةِ بسيف أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ. وَلَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَيْسَ بِذَلِكَ، ثُمّ يَذْكُرُهُ بَعْدُ فَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِ وَيَتَنَدّمُ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ فِي أَمْرِهِ، وَيَقُولُ: سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ تَعَالَى!
وَلَقَدْ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَبَطَ مِنْ لَفْتٍ [ (1) ] فِي حَجّتِهِ، وَمَعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ الرّجُلُ: فُلَانٌ. قَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللهِ فُلَانٌ! ثُمّ طَلَعَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ. فَقَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللهِ فُلَانٌ! ثُمّ طَلَعَ خَالِدُ بْنُ الوليد فقال: من هذا؟ قال: خالد ابن الْوَلِيدِ. قَالَ: نِعْمَ عَبْدُ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ!
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ مبيَّض قَالَ: سَمِعْت خَالِدَ بْنَ إلْيَاسَ يَقُولُ: بَلَغْنَا أَنّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حين هبطا من لقب» . ولفت: ثنية بين مكة والمدينة (معجم البلدان، ج 7، ص 333) .(3/884)
غَزْوَةُ حُنَيْنٍ
حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، وَبُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ حَدّثَنَا مِمّنْ لَمْ أُسَمّ، أَهْلُ ثِقَةٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنَا بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ مَا قَدْ حَدّثُونِي بِهِ.
قَالُوا: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ مَشَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَثَقِيفٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَحَشَدُوا وَبَغَوْا وَأَظْهَرُوا أَنْ قَالُوا: وَاَللهِ مَا لَاقَى مُحَمّدٌ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فَسِيرُوا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَيْكُمْ. فَأَجْمَعَتْ هَوَازِنُ أَمْرَهَا وَجَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ [ (1) ] وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً- وَكَانَ سَيّدًا فِيهَا، وَكَانَ مُسَبّلًا [ (2) ] ، يَفْعَلُ فِي مَالِهِ وَيُحْمَدُ. فَاجْتَمَعَتْ هَوَازِنُ كُلّهَا، وَكَانَ فِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهَا يَوْمَئِذٍ:
قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْأَحْلَافِ، هُوَ [الّذِي] قَادَهَا، وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ- وَيُقَالُ الْأَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ- وَهُوَ الّذِي قَادَهَا مُوَالِيًا [ (3) ] ثَقِيفًا، فَأَوْعَبَتْ كُلّهَا مَعَ هَوَازِنَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ إلَى مُحَمّدٍ، فَوَجَدَ ثَقِيفًا إلَى ذَلِكَ سِرَاعًا، فَقَالُوا: قَدْ كُنّا نَهُمّ بالمسير إليه، ونكره أن
__________
[ (1) ] أى «مالك بن عوف النصري» كما فى ث، وسيأتي بعد.
[ (2) ] المسبل: هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كبرا واختيالا.
(النهاية، ج 2، ص 145) .
[ (3) ] فى الأصل: «واليا» .(3/885)
يَسِيرَ إلَيْنَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ سَارَ إلَيْنَا لَوَجَدَ حِصْنًا حَصِينًا نُقَاتِلُ دُونَهُ، وَطَعَامًا كَثِيرًا، حَتّى نُصِيبَهُ أَوْ يَنْصَرِفَ، وَلَكِنّا لَا نُرِيدُ ذَلِكَ، وَنَسِيرُ مَعَكُمْ وَنَكُونُ يَدًا وَاحِدَةً. فَخَرَجُوا مَعَهُمْ. قَالَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ لَبَنِيهِ، وَهُمْ عَشَرَةٌ:
إنّي أُرِيدُ أَمْرًا كَائِنَةً لَهُ أُمُورٌ، لَا يَشْهَدُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلّا عَلَى فَرَسِهِ. فَشَهِدَهَا عَشَرَةٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَفْرَاسٍ، فَلَمّا انْهَزَمُوا بَأَوْطَاسٍ هَرَبُوا، فَدَخَلُوا حِصْنَ الطّائِفِ فَغَلّقُوهُ. وَقَالَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل: يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ، إنّكُمْ تَخْرُجُونَ مِنْ حِصْنِكُمْ وَتَسِيرُونَ إلَى رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ أَيَكُونُ لَكُمْ أَمْ عَلَيْكُمْ، فَمُرُوا بِحِصْنِكُمْ أَنْ يُرَمّ مَا رَثّ مِنْهُ، فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. فَأَمَرُوا بِهِ أَنْ يُصْلَحَ، وَخَلّفُوا عَلَى مَرَمّتِهِ رَجُلًا وَسَارُوا، وَشَهِدَهَا نَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ لَيْسُوا بِكَثِيرٍ، مَا يَبْلُغُونَ مِائَةً، وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَلَقَدْ كَانَتْ كِلَابٌ قَرِيبَةً، فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: لِمَ تَرَكَتْهَا كِلَابٌ فَلَمْ تَحْضُرْهَا؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ إنْ كَانَتْ لَقَرِيبَةٌ، وَلَكِنّ ابْنَ أَبِي الْبَرَاءِ مَشَى فَنَهَاهَا عَنْ الْحُضُورِ فَأَطَاعَتْهُ، وَقَالَ: وَاَللهِ، لَوْ نَأَوْا مُحَمّدًا [ (1) ] مِنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَظَهَرَ عَلَيْهِ [ (2) ] .
وَنَصَرَهَا دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي بَنِي جُشَمٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِهِ وَمَعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ يَوْمَئِذٍ. وَجِمَاعُ النّاسِ، ثَقِيفٌ وَغَيْرُهَا مِنْ هَوَازِنَ، إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ، فَلَمّا أَجْمَعَ مَالِكٌ الْمَسِيرَ بِالنّاسِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النّاسَ فَجَاءُوا مَعَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ حَتّى نَزَلُوا بَأَوْطَاسٍ، وَاجْتَمَعَ النّاسُ بِهِ فَعَسْكَرُوا وَأَقَامُوا بِهِ، وجعلت الأمداد
__________
[ (1) ] في الأصل: «محمد»
[ (2) ] فى الأصل: «عليها» .(3/886)
تَأْتِيهِمْ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ. وَدُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ يَوْمَئِذٍ فِي شِجَارٍ [ (1) ] يُقَادُ بِهِ عَلَى بَعِيرٍ، فَمَكَثَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمّا نَزَلَ الشّيْخُ لَمَسّ الأرض بيده، فقال: بأىّ واد أنتم؟ بَأَوْطَاسٍ. قَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ! لَا حَزْنٌ ضَرِسٌ [ (2) ] ، وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ [ (3) ] ! مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَثُغَاءَ الشّاءِ، وَخُوَارَ الْبَقَرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مِنْ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدٌ؟
قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كعب بن ربيعة أحد؟ قَالُوا: لَا. قَالَ:
فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ دُرَيْدٌ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُوهُمْ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ شَرَفًا مَا تَخَلّفُوا عَنْهُ، فَأَطِيعُونِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَارْجِعُوا وَافْعَلُوا مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ! فَأَبَوْا عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بن عامر. قال: ذلك الْجَذَعَانِ [ (4) ] مِنْ عَامِرٍ، لَا يَضُرّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ! ثُمّ قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ.
فَدَعَا لَهُ فَقَالَ: يَا مَالِكٌ، إنّك تُقَاتِلُ رَجُلًا كَرِيمًا، وَقَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك، وَإِنّ هذا اليوم كائن لِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ! يَا مَالِكُ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَخُوَارَ الْبَقَرِ، وَبُكَاءَ الصّغِيرِ، وَثُغَاءَ الشّاءِ؟
قَالَ مَالِكٌ: سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. قَالَ دُرَيْدٌ: وَلِمَ؟
قَالَ مَالِكٌ: أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ حتى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «سحار» ، والتصحيح عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 80) . والشجار: مركب مكشوف دون الهودج. (النهاية، ج 2، ص 206) .
[ (2) ] الحزن: المرتفع من الأرض. والضرس: الذي فيه حجارة محددة. (شرح أبى ذر، ص 384) .
[ (3) ] دهس: أى لين، كثير التراب. (شرح أبى ذر، ص 384) .
[ (4) ] الجذعان: يريد أنهما ضعيفان فى الحرب، بمنزلة الجذع فى سنة. (شرح أبى ذر، ص 384) .(3/887)
يُقَاتِلَ عَنْهُمْ [ (1) ] . قَالَ: فَأَنْقَضَ [ (2) ] بِيَدِهِ، ثُمّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ، مَا لَهُ وَلِلْحَرْبِ؟ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَكُمْ لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك! ثُمّ قَالَ:
مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ: غَابَ الْجَدّ وَالْحَدّ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ رِفْعَةٍ وَعَلَاءٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ. يَا مَالِكُ، إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ بَيْضَةِ [ (3) ] هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، فَإِذَا صَنَعْت مَا صَنَعْت فَلَا تَعْصِنِي فِي هَذِهِ الْخُطّةِ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُمْتَنِعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ وَعِزّهِمْ، ثُمّ الْقَ الْقَوْمَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ [ (4) ] لَك لَحِقَ بِك مِنْ وَرَاءَك، وَكَانَ أَهْلُك لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك. فَغَضِبَ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: وَاَللهِ لَا أَفْعَلُ، وَلَا أُغَيّرُ أَمْرًا صَنَعْته، إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبُرَ عِلْمُك، وَحَدَثَ بَعْدَك مَنْ هُوَ أَبْصَرُ بِالْحَرْبِ مِنْك! قَالَ دُرَيْدٌ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ! هَذَا فَاضِحُكُمْ فِي عَوْرَتِكُمْ وَمُمَكّنٌ مِنْكُمْ عَدُوّكُمْ، وَلَاحِقٌ بِحِصْنِ ثَقِيفٍ وَتَارِكُكُمْ، فَانْصَرِفُوا وَاتْرُكُوهُ! فَسَلّ مَالِكٌ سَيْفَهُ، ثُمّ نَكّسَهُ [ (5) ] ، ثُمّ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، وَاَللهِ لَتُطِيعُنّنِي أَوْ لَأَتّكِئَن عَلَى السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي! وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ وَرَأْيٌ، فَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: وَاَللهِ، لَئِنْ عَصَيْنَا مَالِكًا، وَهُوَ شَابّ، لَيَقْتُلَن نَفْسَهُ وَنَبْقَى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حتى يقاتلوا عنه» .
[ (2) ] أى صفق بإحدى يديه على الأخرى حتى يسمع لهما نقيض، أى صوت. (النهاية، ج 4، ص 171) .
[ (3) ] بيضة هوازن: جماعتهم. (شرح أبى ذر، ص 385) .
[ (4) ] فى الأصل: «فإن كان لك» .
[ (5) ] نكسه: أى قلبه. (الصحاح، ص 983) .(3/888)
مَعَ دُرَيْدٍ، شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا قِتَالَ فِيهِ. ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةً. وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ مَعَ مَالِكٍ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ دُرَيْدٌ وَأَنّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ، قَالَ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
وَكَانَ دُرَيْدٌ قَدْ ذُكِرَ بِالْفُرُوسِيّةِ وَالشّجَاعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَيّدَ بَنِي جُشَمٍ وَأَوْسَطَهُمْ نَسَبًا، وَلَكِنّ السّنّ أَدْرَكَتْهُ حَتّى فَنِيَ فَنَاءً- وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (1) ] قَالُوا: وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمّ غَدَا يَوْمَ السّبْتِ لِسِتّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكّةَ عَتّابَ بْنِ أُسَيْدٍ يُصَلّي بِهِمْ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُعَلّمُهُمْ السّنَنَ وَالْفِقْهَ.
قَالُوا: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَلْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمّا فَصَلَ [ (2) ] قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَوْ لَقِينَا بَنِي شَيْبَانَ مَا بَالَيْنَا [ (3) ] ، وَلَا يَغْلِبُنَا الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ قِلّةٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [ (4) ] الآية
__________
[ (1) ] سورة 110 النصر 1
[ (2) ] فصل: أى خرج. (الصحاح، ص 1790) .
[ (3) ] بالي بالشيء يبالى إذا اهتم به. (لسان العرب، ج 18، ص 91) .
[ (4) ] سورة 9 التوبة. 25.(3/889)
قَالَ: حَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَغْلِبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ.. الْآيَةَ.
قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عبد الله ابن عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الحيوش أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَا تُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلّةٍ- كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ.
قَالُوا: وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ اسْتَعَارَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِأَدّاتِهَا كَامِلَةً، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَارِيَةً مُؤَدّاةً! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ: اكْفِنَا حَمْلَهَا.
فَحَمَلَهَا صَفْوَانُ عَلَى إبِلِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى أَوْطَاسٍ، فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّيلِيّ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ- وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ [ (1) ] ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ يُعَلّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا يَوْمًا، وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، شجرة عظيمة خضراء، فسترتنا [ (2) ]
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ذات أنوط» . وما أثبتناه هو قراءة، وهو كذلك فى كل المراجع.
[ (2) ] فى الأصل: «فساترتنا» .(3/890)
مِنْ جَانِبِ الطّرِيقِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُ أَكْبَرُ! اللهُ أَكْبَرُ! قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [ (1) ] إنّهَا لِلسّنَنِ، سَنَنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ شَجَرَةً عَظِيمَةً، أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ يَذْبَحُونَ بِهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا، وَكَانَ مَنْ حَجّ مِنْهُمْ وَضَعَ رِدَاءَهُ عِنْدَهَا، وَيَدْخُلُ بِغَيْرِ رِدَاءٍ تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَمّا مَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ قَالَ لَهُ رَهْطٌ. مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ. اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم ثلاثا، وقال: هكذا فَعَلَ قَوْمُ مُوسَى بِمُوسَى.
قَالَ: قَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: لَمّا كُنّا دُونَ أَوْطَاسٍ نَزَلْنَا تَحْتَ شَجَرَةٍ وَنَظَرْنَا إلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَهَا، وَعَلّقَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ. قَالَ: وَكُنْت مِنْ أَقْرَبِ أَصْحَابِهِ إلَيْهِ. قَالَ: فَمَا أَفْزَعَنِي إلّا صَوْتُهُ: يَا أَبَا بُرْدَةَ! فَقُلْت: لَبّيْكَ! فَأَقْبَلَتْ سَرِيعًا، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ هَذَا الرّجُلَ جَاءَ وَأَنَا نَائِمٌ، فَسَلّ سَيْفِي ثُمّ قَامَ بِهِ عَلَى رَأْسِي فَفَزِعْت بِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمّدُ، مَنْ يُؤَمّنُك مِنّي الْيَوْمَ؟ قُلْت: اللهُ! قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَوَثَبْت إلَى سيفي فسللته، فقال
__________
[ (1) ] سورة 7 الأعراف 138.(3/891)
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِمْ [ (1) ] سَيْفَك! قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ عَدُوّ اللهِ، فَإِنّ هَذَا مِنْ عُيُونِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَقَالَ لِي:
اُسْكُتْ يَا أَبَا بُرْدَةَ. قَالَ: فَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَا عَاقَبَهُ. قَالَ: فَجَعَلْت أَصِيحُ بِهِ فِي الْعَسْكَرِ لِيَشْهَدَهُ النّاسُ فَيَقْتُلُهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمّا أَنَا فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَفّنِي عَنْ قَتْلِهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قول: اُلْهُ عَنْ الرّجُلِ يَا أَبَا بُرْدَةَ! قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا بُرْدَةَ، إنّ اللهَ مَانِعِي وَحَافِظِي حَتّى يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ.
قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ مَسَاءَ لَيْلَةِ الثّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ. وَبَعَثَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رِجَالًا مِنْ هَوَازِنَ يَنْظُرُونَ إلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ- ثَلَاثَةَ نَفَرٍ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرّقُوا فِي الْعَسْكَرِ، فَرَجَعُوا إلَيْهِ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ وَيْلَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بيضا على خيل بلق، فو الله مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى! وَقَالُوا لَهُ: مَا نُقَاتِلُ أَهْلَ الْأَرْضِ، إنْ نُقَاتِلْ [إلّا] أَهْلَ السّمَوَاتِ- وَإِنّ أَفْئِدَةَ عُيُونِهِ تَخْفُقُ- وَإِنْ أَطَعْتنَا رَجَعْت بِقَوْمِك، فَإِنّ النّاسَ إنْ رَأَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْنَا أَصَابَهُمْ مِثْلَ الّذِي أَصَابَنَا. قَالَ: أُفّ لَكُمْ! بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ أَجْبَنُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ. فَحَبَسَهُمْ عِنْدَهُ فَرَقًا أَنْ يَشِيعَ ذَلِكَ الرّعْبُ فِي الْعَسْكَرِ، وَقَالَ: دِلّونِي عَلَى رَجُلٍ شُجَاعٍ. فَأَجْمِعُوا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، فَخَرَجَ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِ وَقَدْ أَصَابَهُ نَحْوَ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَا رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا على
__________
[ (1) ] شم سيفك: أى أغمده. (الصحاح، ص 1963) .(3/892)
خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو الله تَمَاسَكْت أَنْ أَصَابَنِي مَا تَرَى! فَلَمْ يُثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ.
قَالُوا: وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ [ (1) ] الْأَسْلَمِيّ فَقَالَ: انْطَلِقْ فَادْخُلْ فِي النّاسِ حَتّى تَأْتِيَ بِخَبَرِ مِنْهُمْ، وَمَا يَقُولُ مَالِكٌ.
فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ فَطَافَ فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمّ انْتَهَى إلَى ابْنِ عَوْفٍ فَيَجِدُ عِنْدَهُ رُؤَسَاءُ هَوَازِنَ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إنّ مُحَمّدًا لَمْ يُقَاتِلْ قَطّ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرّةِ، وَإِنّمَا كَانَ يَلْقَى قوما أَغْمَارًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَيُنْصَرُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ فِي السّحَرِ فَصَفّوا مَوَاشِيَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ، ثُمّ صُفّوا صُفُوفَكُمْ، ثُمّ تَكُونُ الْحَمَلَةُ مِنْكُمْ، وَاكْسِرُوا جُفُونَ [ (2) ] سُيُوفِكُمْ فَتَلْقَوْنَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفِ سَيْفٍ مَكْسُورِ الْجَفْنِ [ (3) ] ، وَاحْمِلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاعْلَمُوا أَنّ الْغَلَبَةَ لِمَنْ حَمَلَ أَوّلًا! فَلَمّا وَعَى ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ بِكُلّ مَا سَمِعَ، فَدَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ:
كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: لَئِنْ كَذّبْتنِي لَرُبّمَا كَذّبَتْ بِالْحَقّ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْمَعْ [ (4) ] مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ! قَالَ:
صَدَقَ، كُنْت ضالّا فهداك الله!
قالوا: وَكَانَ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيّةِ الْأَنْصَارِيّ يَقُولُ: سِرْنَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ، فَأَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى أَتَاهُ رَجُلٌ فقال:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أبى جدرد» . وما أثبتناه عن كل مراجع السيرة الأخرى.
[ (2) ] جفون: جمع جفن، وهو غمد السيف. (القاموس المحيط، ج 4، ص 209) .
[ (3) ] فى الزرقانى، عن الواقدي: «مكسورة الجفون» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 8) .
[ (4) ] فى الزرقانى، عن الواقدي: «ألا تسمع» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 9) .(3/893)
يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ تَقَطّعُوا مِنْ وَرَائِك! فَنَزَلَ فَصَلّى الْعَصْرَ، وَأَوَى إلَيْهِ النّاسَ فَأَمَرَهُمْ فَنَزَلُوا، وَجَاءَهُ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي انْطَلَقْت [مِنْ] بَيْنِ أَيْدِيكُمْ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهَا [ (1) ] بِظُعُنِهَا وَنِسَائِهَا وَنَعَمِهَا فِي وَادِي حُنَيْنٍ. فَتَبَسّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلَا فَارِسٌ يَحْرُسُنَا اللّيْلَةَ؟ إذْ أَقْبَلَ أُنَيْسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ عَلَى فَرَسِهِ، فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: انْطَلِقْ حَتّى تَقِفَ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا تَنْزِلَن إلّا مُصَلّيًا أَوْ قَاضِي حَاجَةٍ، وَلَا تَغُرّن مَنْ خَلْفَك! قَالَ: وَبِتْنَا حَتّى أَضَاءَ الْفَجْرُ، وَحَضَرْنَا الصّلَاةَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ اللّيْلَةَ؟ قُلْنَا: لَا وَاَللهِ! فَأُقِيمَتْ الصّلَاةُ فَصَلّى بِنَا، فَلَمّا سَلّمَ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ خِلَالَ الشّجَرِ، فَقَالَ: أَبْشِرُوا، قَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ! وَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي وَقَفْت عَلَى الْجَبَلِ كَمَا أَمَرْتنِي، فَلَمْ أَنْزِلْ عَنْ فَرَسِي إلّا مُصَلّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ حَتّى أَصْبَحْت، فَلَمْ أُحِسّ أَحَدًا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ فَانْزِلْ عَنْ فَرَسِك، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا. فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا أَلّا يَعْمَلَ بَعْدَ هَذَا عَمَلًا؟
قَالُوا، وَخَرَجَ رِجَالٌ مِنْ مَكّةَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ (2) ]- عَلَى غَيْرِ دِينٍ- ركبانا ومشاة، ينظرون لمن تكون
__________
[ (1) ] على بكرة أبيها، هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفر العدد وأنهم جاءوا جميعا لم يتخلف منهم أحد. وليس هناك بكرة فى الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت فى هذا الموضع (النهاية، ج 1، ص 91) .
[ (2) ] فى الأصل: «فلم يتغادر منهم أحدا» .(3/894)
الدّائِرَةُ فَيُصِيبُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَلَا يَكْرَهُونَ أَنْ تكون الصّدمة [ (1) ] لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابِهِ. وَخَرَج أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي أَثَرِ الْعَسْكَرِ، كُلّمَا مَرّ بِتُرْسٍ سَاقِطٍ. أَوْ رُمْحٍ أَوْ مَتَاعٍ مِنْ مَتَاعِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَهُ، وَالْأَزْلَامُ فِي كِنَانَتِهِ، حَتّى أَوْقَرَ [ (2) ] جَمَلَهُ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَهُوَ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاضْطَرَبَ خَلْفَ النّاسِ، وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ. وَاضْطَرَبُوا خَلْفَ النّاسِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ، فَمَرّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ أَبَا وَهْبٍ! هُزِمَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ! فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: إنّ رَبّا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ رَبّ مِنْ هَوَازِنَ إن كنت مربوبا.
قالوا: وَلَمّا كَانَ مِنْ اللّيْلِ عَمَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ إلَى أَصْحَابِهِ فَعَبّأَهُمْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ- وَهُوَ وَادٍ أَجْوَفَ، ذُو شِعَابٍ وَمَضَايِقَ- وَفَرّقَ النّاسُ فِيهِ، وَأَوْعَزَ إلَى النّاسِ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ حَمْلَةً وَاحِدَةً. وَعَبَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَصَفّهُمْ صُفُوفًا فِي السّحَرِ، وَوَضَعَ الْأَلْوِيَةَ وَالرّايَاتِ فِي أَهْلِهَا، مَعَ الْمُهَاجِرِينَ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفِي الْأَنْصَارِ رَايَاتٌ، مَعَ الْخَزْرَجِ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ- وَيُقَالُ لِوَاءُ الْخَزْرَجِ الْأَكْبَرُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ- وَلِوَاءُ الْأَوْسِ مَعَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَفِي كُلّ بَطْنٍ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لِوَاءٌ أَوْ رَايَةٌ. وَفِي بنى عبد الأشهل راية يحملها
__________
[ (1) ] الصدمة: قوة المصيبة وشدتها. (النهاية، ج 2، ص 256) .
[ (2) ] أوقر جمله: أى حمله وقرا. (النهاية، ج 4، ص 224) .(3/895)
أَبُو نَائِلَةَ، وَفِي بَنِي حَارِثَةَ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَفِي ظَفَرٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ. وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ فِي بَنِي وَاقِفٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَرَايَةُ يَحْمِلُهَا أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ فِي بَنِي سَاعِدَةَ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو سَلِيطٍ فِي بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَنِي مَازِنٍ. وَكَانَتْ رَايَاتُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الْجَاهِلِيّةِ خُضْرٌ وَحُمْرٌ، فَلَمّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَقَرّوهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْمُهَاجِرِينَ سُودٌ وَالْأَلْوِيَةُ بِيضٌ. وَكَانَ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي أَسْلَمَ رَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا مَعَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَالْأُخْرَى مَعَ جُنْدُبِ بْنِ الْأَعْجَمِ. وَكَانَ فِي بَنِي غِفَارٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو ذَرّ، وَمَعَ بَنِي ضَمْرَةَ، وَلَيْثٍ، وَسَعْدِ بْنِ لَيْثٍ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا أَبُو وَاقِدٍ اللّيْثِيّ الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ. وَكَانَ مَعَ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو رَايَتَانِ يَحْمِلُ إحْدَاهُمَا بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى أَبُو شُرَيْحٍ. وَكَانَ فِي بَنِي مُزَيْنَةَ ثَلَاثُ رَايَاتٍ، رَايَةٌ يَحْمِلُهَا بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ، راية يَحْمِلُهَا النّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ، وَرَايَةٌ يَحْمِلُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَكَانَ فِي جُهَيْنَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ، رَايَةٌ مَعَ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ، وَرَايَةٌ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَرَايَةٌ مَعَ أَبِي زُرْعَةَ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، وَرَايَةٌ مَعَ سُوَيْدِ بْنِ صَخْرٍ. وَكَانَتْ فِي بَنِي أَشْجَعَ رَايَتَانِ، وَاحِدَةٌ مَعَ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأُخْرَى مَعَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ. وَكَانَتْ فِي بَنِي سُلَيْمٍ ثَلَاثُ رَايَاتٍ، رَايَةٌ مَعَ الْعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَرَايَةٌ مَعَ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ، وَرَايَةٌ مَعَ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ [ (1) ] . وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] في الأصل: «الحجاج بن عيلاط» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 10) . وعن البلاذري أيضا. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 53) .(3/896)
قَدْ قَدِمَ سُلَيْمًا مِنْ يَوْمِ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فَجَعَلَهُمْ مُقَدّمَةَ الْخَيْلِ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُقَدّمَتِهِ حَتّى وَرَدَ الْجِعِرّانَةِ.
قَالُوا: وَانْحَدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، وَقَدْ مَضَتْ مُقَدّمَتُهُ وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَةٍ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، فَانْحَدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْحِدَارًا- وَهُوَ وَادٍ حُدُورٌ [ (1) ]- وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بغلته البيضاء دلدل، ولبس درعين والمغفر وَالْبَيْضَةَ، وَاسْتَقْبَلَ الصّفُوفَ، وَطَافَ عَلَيْهَا بَعْضَهَا خَلْفَ بَعْضٍ يَنْحَدِرُونَ فِي الْوَادِي، فَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إنْ صَدَقُوا وَصَبَرُوا، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ يَنْحَدِرُونَ فِي غَلَسِ [ (2) ] الصّبْحِ.
فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا انْتَهَيْنَا إلَى وَادِي حُنَيْنٍ- وَهُوَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ لَهُ مَضَايِقُ وَشِعَابٌ- فَاسْتَقْبَلْنَا مِنْ هَوَازِنَ شَيْءٌ، لَا وَاَللهِ مَا رَأَيْت مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ قَطّ مِنْ السّوَادِ وَالْكَثْرَةِ! قَدْ سَاقُوا نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ ثُمّ صَفّوا صُفُوفًا، فَجَعَلُوا النّسَاءَ فَوْقَ الْإِبِلِ وَرَاءَ صُفُوفِ الرّجَالِ، ثُمّ جَاءُوا بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَجَعَلُوهَا وَرَاءَ ذَلِكَ، لِئَلّا يَفِرّوا بِزَعْمِهِمْ. فَلَمّا رَأَيْنَا ذَلِكَ السّوَادَ حَسِبْنَاهُ رِجَالًا كُلّهُمْ، فَلَمّا تَحَدّرْنَا فِي الْوَادِي، فَبَيْنَا نَحْنُ فِيهِ غَلَسَ الصّبْحُ، إنْ شَعَرْنَا إلّا بِالْكَتَائِبِ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي وَشِعْبِهِ فَحَمَلُوا حَمَلَةً وَاحِدَةً، فَانْكَشَفَ أَوّلُ الْخَيْلِ- خَيْلِ سُلَيْمٍ- مُوَلّيَةً فَوَلّوْا، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكّةَ وَتَبِعَهُمْ النّاسُ مُنْهَزِمِينَ، مَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.
قَالَ أَنَسٌ: فَسَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أنصار الله وأنصار
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وهو وادي حذور» ، ولعل الصواب ما أثبتناه. والحدور: المكان ينحدر منه. (لسان العرب، ج 5، ص 244) .
[ (2) ] الغلس: ظلمة آخر الليل. (النهاية، ج 3، ص 166) .(3/897)
رَسُولِهِ! أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَابِرٌ!
قَالَ: ثم تقدم بحربته أمام الناس، فو الّذى بَعَثَهُ بِالْحَقّ، مَا ضَرَبْنَا بِسَيْفٍ وَلَا طَعَنّا بِرُمْحٍ حَتّى هَزَمَهُمْ اللهُ، ثُمّ رَجَعَ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى العسكر وأمر أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَجَعَلَتْ هَوَازِنُ تُوَلّي وَثَابَ مَنْ انْهَزَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَوَلّى الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ، فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إلّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آخِذًا بِثَفَرِ [ (1) ] بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم لا يألوا مَا أَسْرَعَ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَأَتَيْته حَتّى أَخَذْت بِحَكَمَةِ [ (2) ] بَغْلَتِهِ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ شبهاء، فَشَجَرْتهَا [ (3) ] بِالْحَكَمَةِ، وَكُنْت رَجُلًا صَيّتًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مِنْ النّاسِ مَا رَأَى، لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ: يَا عَبّاسُ، اُصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ [ (4) ] ! فَنَادَيْت: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ! قَالَ: فَأَقْبَلُوا كَأَنّهُمْ الْإِبِلُ إذَا حَنَتْ إلَى أَوْلَادِهَا، يَقُولُونَ: يَا لبّيك! يا لبّيك! فيذهب الرجل
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بتقر» . والثفر، بالتحريك: السير فى مؤخر السرج. (القاموس المحيط، ج 1، ص 383) .
[ (2) ] الحكمة: ما أحاط بحنكى الفرس من لجامه وفيها العذاران. (القاموس المحيط، ج 4، ص 98) .
[ (3) ] فى الأصل: «فسجرها بالحكمة» ، وشجرتها: أى ضربتها بلجامها أكفها. (القاموس المحيط، ج 2، ص 56) .
[ (4) ] فى الأصل: «يا أصحاب الشجرة» ، وما أثبتناه عن الطبري. (تاريخ، ص 1661) .
والسمرة: الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية. (النهاية، ج 2، ص 181) .(3/898)
مِنْهُمْ فَيُثْنِي بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيُقَدّمُهَا فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ تُرْسَهُ وَسَيْفَهُ ثُمّ يَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ فَيُخَلّي سَبِيلَهُ فِي النّاسِ، وَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذَا ثَابَ إلَيْهِ النّاسُ اجْتَمَعُوا، فَكَانَتْ الدّعْوَةُ أَوّلًا: يَا لَلْأَنْصَارِ! ثُمّ قُصِرَتْ الدّعْوَةُ فَنَادَوْا:
يَا لَلْخَزْرَجِ! قَالَ: وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ اللّقَاءِ، صُدُقًا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ:
فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُتَطَاوَلِ فِي رَكَائِبِهِ، فَنَظَرَ إلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ! ثُمّ أَخَذَ بِيَدِهِ مِنْ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ، ثُمّ قال:
انهزموا، ورب الكعبة! فو الله مَا زِلْت أَرَى أَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، وَحَدّهُمْ كَلِيلًا حَتّى هَزَمَهُمْ اللهُ، وَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ. وَيُقَالُ: إنّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبّاسِ:
نَادِ «يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ!» فَرَجَعَتْ الْأَنْصَارُ وَهُمْ يَقُولُونَ: الْكَرّةُ بَعْدَ الْفَرّةِ.
قَالَ: فَعَطَفُوا عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، قَدْ شَرَعُوا الرّمَاحَ حَتّى إنّي لَأَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِمَاحَهُمْ أَشَدّ مِنْ خَوْفِي رِمَاحَ الْمُشْرِكِينَ، يَؤُمّونَ الصّفُوفَ وَيَقُولُونَ: يَا لَبّيْكَ! يَا لَبّيْكَ! فَلَمّا اخْتَلَطُوا وَاجْتَلَدُوا [ (1) ] ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى بَغْلَتِهِ فِي رَكَائِبِهِ، يَقُولُ: اللهُمّ، إنّي أَسَلُكَ [ (2) ] وَعْدَك، لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا. ثُمّ قَالَ لِلْعَبّاسِ:
نَاوِلْنِي حَصَيَاتٍ! فَنَاوَلَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمّ قَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ! وَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: انْهَزِمُوا، وَرَبّ الْكَعْبَةِ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن عاصم بن عمرو بن
__________
[ (1) ] اجتلد: أى ضرب بالسيف. (لسان العرب، ج 4، ص 98) .
[ (2) ] سألت أسأل، وسلت أسل بمعنى. (لسان العرب، ج 13، ص 338) .(3/899)
قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ وَاَللهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وُجِدَ الْأَسْرَى عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتّفِينَ. قَالَ: وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللهِ. وَيُقَالُ إنّهُ قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَخُوك- فِدَاك أَبِي وَأُمّي- أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ أَخِي، نَاوِلْنِي حَصًى مِنْ الْأَرْضِ!
فَنَاوَلْته فَرَمَى بِهَا فِي أَعْيُنِهِمْ كُلّهِمْ، وَانْهَزَمُوا.
قَالُوا: فَلَمّا انْكَشَفَ النّاسُ انْحَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى دَابّتِهِ لَمْ يَنْزِلْ، إلّا أَنّهُ قَدْ جرد سيفه وطرح غمد وَبَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، الْعَبّاسُ، وَعَلِيّ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبّاسٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بن الحارث، وربيعة ابن الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْخَزْرَجِيّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ.
وَيُقَالُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ، قَالَ لِحَارِثَةَ بْنِ النّعْمَانِ: يَا حَارِثَةُ، كَمْ تَرَى الّذِينَ ثَبَتُوا؟ قَالَ:
فَلَمّا الْتَفَتَ وَرَائِي تَحَرّجًا [ (1) ] ، فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَحَزَرْتُهُمْ مِائَةً، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ مِائَةٌ! حَتّى كَانَ يَوْمٌ مَرَرْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُنَاجِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَال
__________
[ (1) ] تحرج فلان إذا فعل فعلا يخرج به من الحرج: الإثم والضيق. (النهاية، ج 1، ص 213) .(3/900)
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ. فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذَا أَحَدُ الْمِائَةِ الصّابِرَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، لَوْ سَلّمَ لَرَدَدْت عَلَيْهِ السّلَامَ. فَأَخْبَرَهُ [ (1) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا كُنْت أَظُنّهُ إلّا دِحْيَةَ الْكَلْبِيّ وَاقِفٌ مَعَك.
وَكَانَ دُعَاءُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حِينَ انْكَشَفَ النّاسُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا الْمِائَةُ الصّابِرَةُ: اللهُمّ، لَك الْحَمْدُ، وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ!
قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لَقَدْ لُقّنْت [ (2) ] الْكَلِمَاتِ الّتِي لَقّنَ اللهُ مُوسَى يَوْمَ فَلَقَ الْبَحْرَ أَمَامَهُ وَفِرْعَوْنُ خَلْفَهُ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: إنّ حَارِثَةَ بْنَ النّعْمَانِ مَرّ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُنَاجِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُمَا قَائِمَانِ، فَسَلّمَ عَلَيْهِمَا حَارِثَةُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْت الرّجُلَ؟ قَالَ حَارِثَةُ:
نَعَمْ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَقَدْ رَدّ عَلَيْك السّلَامَ. وَيُقَالُ: إنّ الْمِائَةَ الصّابِرَةَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَسَبْعَةٌ وَسِتّونَ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَالْعَبّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، الْعَبّاسُ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ عَنْ يَمِينِهِ، وَحَفّ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُحَدّثُ قَالَ: مَرّ جِبْرِيلُ، وَحَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ؟ فَقَالَ:
حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ.
فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: هَذَا أَحَدُ الثّمَانِينَ الصّابِرَةِ، وَقَدْ تَكَفّلَ اللهُ لَهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِي الْجَنّةِ. وَكَانَ ابْنُ عبّاس
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فأخبر» .
[ (2) ] لقن: فهم. (لسان العرب، ج 17، ص 275) .(3/901)
يَقُولُ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ الّذِينَ تَكَفّلَ اللهُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهِمْ فِي الْجَنّةِ.
قَالُوا: وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُول: وَاَللهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ، مَا وَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنّهُ وَقَفَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمّ نَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ
فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ نَصْرَهُ، وَكُبِتَ عَدُوّهُ، وَأَفْلَحَ حُجّتُهُ.
قَالُوا: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ النّاسِ، إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ، قَدْ أَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ، فَيَصْمُدُ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَعَرْقَبَ جَمَلَهُ، فَسَمِعَ خَرْخَرَةَ [ (1) ] جَمَلِهِ وَاكْتَسَعَ الْجَمَلُ، وَيَشُدّ عَلِيّ وَأَبُو دُجَانَةَ عَلَيْهِ، فَيَقْطَعُ عَلِيّ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَيَقْطَعُ أَبُو دُجَانَةَ يَدَهُ الْأُخْرَى، وَأَقْبَلَا يَضْرِبَانِهِ بِسَيْفَيْهِمَا جَمِيعًا حَتّى تَثَلّمَ سَيْفَاهُمَا، فَكَفّ أَحَدُهُمَا وَأَجْهَزَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: امْضِ، لَا تُعَرّجْ عَلَى سَلَبِهِ! فَمَضَيَا يَضْرِبَانِ أَمَامَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْتَرِضُ لَهُمَا فَارِسٌ مِنْ هَوَازِنَ بِيَدِهِ رَايَةٌ حَمْرَاءُ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا يَدَ الْفَرَسِ وَوَقَعَ لِوَجْهِهِ، ثُمّ ضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا فَمَضَيَا عَلَى سَلَبِهِ. وَيَمُرّ أَبُو طَلْحَة فَسَلَبَ الْأَوّلَ وَمَرّ بِالْآخَرِ فَسَلَبَهُ. وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَعَلِيّ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ يُقَاتِلُونَ بَيْن يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: حَدّثَنِي سُلَيْمَان بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، قَالَ: قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فِي يَدِي سَيْفٌ لِي صَارِمٌ، وَأُمّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ قَدْ حَزَمَتْهُ عَلَى وَسَطِهَا- وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَامِلٌ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ- وَأُمّ سليط، وأمّ الحارث. قالوا:
__________
[ (1) ] الخرخرة: سرعة الخرير فى القضب. (لسان العرب، ج 5، ص 316) .(3/902)
فَجَعَلَتْ تُسِلّهُ [ (1) ] وَتَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ: أَيّةُ عَادَةٍ هَذِهِ [ (2) ] ! مَا لَكُمْ وَلِلْفِرَارِ! قَالَتْ: وَأَنْظُرُ إلَى رَجُلٍ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، مَعَهُ لِوَاءٌ، يُوضِعُ جَمَلَهُ فِي أَثَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَعْتَرِضُ لَهُ فَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ الْجَمَلِ، وَكَانَ جَمَلًا مُشْرِفًا [ (3) ] ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَأَشُدّ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ حَتّى أَثْبَتّه، وَأَخَذْت سَيْفًا لَهُ وَتَرَكْت الْجَمَلَ يُخَرْخِرُ، يَتَصَفّقُ [ (4) ] ظَهْرًا لِبَطْنٍ،
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مُصْلِتٌ السّيْفَ بِيَدِهِ، قَدْ طَرَحَ غِمْدَهُ، يُنَادِي:
يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ!
قَالَ: وَكَرّ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا بنى عبد الرحمن! با بَنِي عُبَيْدِ اللهِ! يَا خَيْلَ اللهِ! وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سَمّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللهِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْأَوْسِ بَنِي عُبَيْدِ اللهِ. فَكَرّتْ الْأَنْصَارُ، وَوَقَفَتْ هَوَازِنُ حَلْبَ ناقة فتوح [ (5) ] ، ثم كانت إيّاها، فو الله مَا رَأَيْت هَزِيمَةً كَانَتْ مِثْلَهَا، ذَهَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، فَرَجَعَ ابْنَايَ إلَيّ- حَبِيبٌ وَعَبْدُ الله ابناي زَيْدٍ- بِأُسَارَى مُكَتّفِينَ، فَأَقُومُ إلَيْهِمْ مِنْ الْغَيْظِ، فَأَضْرِبُ عُنُقَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ النّاسُ يَأْتُونَ بِالْأُسَارَى، فَرَأَيْت فِي بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ ثَلَاثِينَ أَسِيرًا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ بَلَغَ أَقْصَى هَزِيمَتِهِمْ مَكّةَ، ثُمّ كَرّوا بَعْدُ وَتَرَاجَعُوا، فَأَسْهَمَ لَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا.
فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: إنّ أُمّ سُلَيْمٍ، أُمّي ابْنَةَ مِلْحَانَ جَعَلَتْ تَقُولُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَسْلَمُوك وَفَرّوا عنك وخذلوك! لا تعف
__________
[ (1) ] فى الأصل: «تسبه» .
[ (2) ] فى الأصل: «أنت عاده هذه» .
[ (3) ] جمل مشرف: أى عال. (الصحاح، ص 1385) .
[ (4) ] تصفق: أى انقلب. (لسان العرب، ج 12، ص 71) .
[ (5) ] الفتوح من النوق: الواسعة الإحليل. (الصحاح، ص 389) .(3/903)
عَنْهُمْ إذَا أَمْكَنَك اللهُ مِنْهُمْ، فَاقْتُلْهُمْ كَمَا تَقْتُلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ! فَقَالَ:
يَا أُمّ سُلَيْمٍ، قَدْ كَفَى اللهُ! عَافِيَةُ اللهِ أَوْسَعُ!
وَمَعَهَا يَوْمَئِذٍ جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ قَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَغْلِبَهَا، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ، وَهِيَ شَادّةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَمَعَهَا خَنْجَرٌ فِي يَدِهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ:
مَا هَذَا مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ؟ قَالَتْ: خَنْجَرٌ أَخَذْته مَعِي، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته [ (1) ] بِهِ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ؟
وَكَانَتْ أُمّ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيّةُ أَخَذَتْ بِخِطَامِ جَمَلِ أَبِي الْحَارِثِ زَوْجِهَا، وَكَانَ جَمَلُهُ يُسَمّى الْمِجْسَارَ، فَقَالَتْ: يَا حَارِ، تترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فأخذت بخطام الجمل، يُرِيدُ أَنْ يَلْحَقَ بِأُلّافِهِ [ (2) ] ، وَالنّاسُ يُوَلّونَ مُنْهَزِمِينَ، وَهِيَ لَا تُفَارِقُهُ. فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ: فَمَرّ بى عمر ابن الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ أُمّ الْحَارِثِ: يَا عُمَرُ. مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَمْرُ اللهِ. وَجَعَلَتْ أُمّ الْحَارِثِ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ جَاوَزَ بَعِيرِي فَأَقْتُلُهُ، وَاَللهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِنَا! تَعْنِي بَنِي سُلَيْمٍ وَأَهْلَ مَكّةَ الّذِينَ انْهَزَمُوا بِالنّاسِ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَصِيحُ يَوْمَئِذٍ بِالْخَزْرَجِ: يَا لَلْخَزْرَجِ! يَا لَلْخَزْرَجِ! وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: يَا لَلْأَوْسِ! ثَلَاثًا. فَثَابُوا وَاَللهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ كَأَنّهُمْ النّحْلُ تَأْوِي إلَى يَعْسُوبِهَا [ (3) ] . قَالَ: فحنق المسلمون عليهم فقتلوهم حتى
__________
[ (1) ] بعج بطنه بالسكين: أى شقه. (الصحاح، ص 300) .
[ (2) ] فى الأصل: «باللافه» .
[ (3) ] هو مقدمها وسيدها. (النهاية، ج 4، ص 266) .(3/904)
أَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي قَتْلِ الذّرّيّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَا بَالُ أَقْوَامٍ ذَهَبَ بِهِمْ الْقَتْلُ حَتّى بَلَغَ الذّرّيّةَ! أَلَا لَا تُقْتَلُ الذّرّيّةُ! ثَلَاثًا. قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ إنّمَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ خِيَارُكُمْ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ؟ كُلّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوّدَانِهَا أَوْ يُنَصّرَانِهَا.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَلِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَمّا تَرَاءَيْنَا نَحْنُ وَالْقَوْمُ رَأَيْنَا سَوَادًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ قَطّ كَثْرَةً، وَإِنّمَا ذَلِكَ السّوَادُ نَعَمٌ، فَحَمَلُوا النّسَاءَ عَلَيْهِ. قَالَ:
فَأَقْبَلَ مِثْلَ الظّلّةِ السّوْدَاءِ مِنْ السّمَاءِ حَتّى أَظَلّتْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ وَسَدّتْ الْأُفُقَ، فَنَظَرْت فَإِذَا وَادِي حُنَيْنٍ يَسِيلُ بِالنّمْلِ، نَمْلٍ أَسْوَدَ مَبْثُوثٍ، لَمْ أَشُكّ أَنّهُ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللهُ بِهِ، فَهَزَمَهُمْ اللهُ عَزّ وَجَلّ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ شُيُوخٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ كَالْبُجُدِ [ (1) ] السّودِ هَوَتْ مِنْ السّمَاءِ رُكَامًا [ (2) ] ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا نَمْلٌ مَبْثُوثٌ، فَإِنْ كُنّا لَنَنْفُضُهُ عَنْ ثِيَابِنَا، فَكَانَ نَصْرٌ أَيّدَنَا اللهُ بِهِ.
وَكَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، وَكَانَ الرّعْبُ الّذِي قَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِ المشركين يوم حنين [كوقع الحصى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «كالنحل» . وما أثبتناه عن الزرقانى يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 18) . والبجد: جمع البجاد، وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب. (الصحاح، ص 440) .
[ (2) ] الركام: السحاب المتراكب بعضه فوق بعض. (النهاية، ج 2، ص 101) .(3/905)
فِي الطّسْتِ] [ (1) ] . فَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ عَامِرٍ السّوَائِيّ يُحَدّثُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ يَوْمَئِذٍ فَسُئِلَ عَنْ الرّعْبِ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْحَصَاةَ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطّسْتِ فَيَطِنّ، فَقَالَ: إنْ كُنّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ يَقُولُ: حَدّثَنِي عِدّةٌ مِنْ قَوْمِي شَهِدُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقُولُونَ: لَقَدْ رَمَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْكَفّ مِنْ الْحَصَيَاتِ، فَمَا مِنّا أَحَدٌ إلّا يَشْكُو الْقَذَى فِي عَيْنَيْهِ، وَلَقَدْ كُنّا نَجِدُ فِي صُدُورِنَا خَفَقَانًا كَوَقْعِ الْحَصَى فِي الطّسَاسِ، مَا يَهْدَأُ ذَلِكَ الْخَفَقَانُ عَنّا، وَلَقَدْ رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ حُمْرٌ قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَتَائِبَ كَتَائِبَ [ (2) ] مَا يُلِيقُونَ [ (3) ] شَيْئًا، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ [ (4) ] مِنْ الرّعْبِ مِنْهُمْ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْعَبْسِيّ، عَمّنْ أَخْبَرَهُ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِنَا حَضَرُوا يَوْمَئِذٍ قَالُوا: كَمَنّا لَهُمْ فِي الْمَضَايِقِ وَالشّعَابِ، ثُمّ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ حَمَلَةً رَكِبْنَا أَكْتَافَهُمْ حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى صَاحِبِ بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَحَوْلَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا! فَانْهَزَمْنَا، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَنَا وَكَانَتْ إيّاهَا، وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ وَرَاءَنَا نَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَكِدُونَنَا [ (5) ] ، فتفرقّت
__________
[ (1) ] الزيادة عن الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 4، ص 25) .
[ (2) ] فى الأصل: «كثائب كثائب» ، والمثبت عن الزرقانى، يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 21) .
[ (3) ] فى الأصل: «ما يلتفون» ، وما أثبتناه عن الزرقانى، يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 21) . ويقال فلان ما يليق شيأ من سخائه، أى ما يمسك. (لسان العرب، ج 12، ص 210) .
[ (4) ] فى الأصل: «ولا يستطيع أن تتأملهم» ، وما أثبتناه عن الزرقانى، يروى عن الواقدي.
(شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 21) .
[ (5) ] فى الأصل: «يكدونا» . ووكد فلان أمرا إذا قصده وطلبه. (النهاية، ج 4، ص 227) .(3/906)
جَمَاعَتُنَا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَجَعَلَتْ الرّعْدَةُ تَسْحَقُنَا حَتّى لَحِقْنَا بِعَلْيَاءِ بِلَادِنَا، فَإِنْ كَانَ لَيُحْكَى عَنّا الْكَلَامُ مَا كُنّا نَدْرِي بِهِ، مِمّا كَانَ بِنَا مِنْ الرّعْبِ، فَقَذَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قُلُوبِنَا.
وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مِنْ ثَقِيفٍ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ مِنْ الْأَحْلَافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إلّا رَجُلَانِ، مِنْ بَنِي غِيَرَةَ [ (1) ] ، وَهْبٌ وَاللّجْلَاجُ [ (2) ] .
وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ اللّجْلَاجِ: قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شُبّانِ ثَقِيفٍ، إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ. وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي مَالِكٍ مَعَ ذِي الْخِمَارِ، فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ تَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَيُسْتَحْصَى الْقَتْلَى [ (3) ] مِنْ ثَقِيفٍ بِبَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ تَحْتَ رَايَتِهِمْ، فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَاتَلَ بِهَا مَلِيّا، وَجَعَلَ يَحُثّ ثَقِيفًا وَهَوَازِنَ عَلَى الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ، وَكَانَ اللّجْلَاجُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كُنّةَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَخِي بَنِي كُنّةَ:
هَذَا سَيّدُ شُبّانِ كُنّةَ إلّا ابْنَ هُنَيْدَةَ- الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بن يعمر بن إياس ابن أَوْسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ. وَكَانَتْ كُنّةُ امْرَأَةً مِنْ غَامِدٍ يَمَانِيّةً قَدْ وُلِدَتْ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَتْ أَمَةً، فَأَعْتَقَ الْحَارِثُ كُلّ مَمْلُوكٍ مِنْ بَنِي كُنّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ: أَيَسُرّك أَنّ أَهْلَ بَيْتِ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ مَكَانَ كُنّةَ؟ فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، لوددت أنّ ذلك
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بنو عره» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 5، ص 377) .
وعن ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 4، ص 93) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل. وفى ابن إسحاق: «الجلاح» . (السيرة النبوية، ج 4، ص 93) .
[ (3) ] فى الأصل: «القتل» .(3/907)
كَذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَيْتَ أُمّي كُنّةُ وَأَنّ الله رزقني مِنْ بِرّهَا مَا رَزَقَك. وَكَانَ أَبَرّ النّاسِ بِأُمّهِ، مَا كَانَتْ تَأْكُلُ طَعَامًا إلّا مِنْ يَدِهِ، وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهَا إلّا هُوَ، وَلَا يُسَرّحُ [ (1) ] رَأْسَهَا إلّا هُوَ.
قَالُوا: وَهَرَبَتْ ثَقِيفٌ، فَقَالَ شُيُوخٌ مِنْهُمْ- أَسْلَمُوا بَعْدُ، كَانُوا قَدْ حَضَرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ- قَالُوا: مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِنَا فِيمَا نَرَى، وَنَحْنُ مُوَلّونَ حَتّى إنّ الرّجُلَ مِنّا لَيَدْخُلُ حِصْنَ الطّائِفِ وَإِنّهُ لَيَظُنّ أَنّهُ عَلَى أَثَرِهِ، مِنْ رُعْبِ الْهَزِيمَةِ.
وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ: لَمّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْت رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا، قَدْ عَلَاهُ الْمُشْرِكُ، فَاسْتَدَرْت لَهُ حَتّى أَتَيْته مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْته عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيّ فَضَمّنِي ضَمّةً وَجَدْت مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، وَكَادَ أَنْ يَقْتُلَنِي لَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ، فَسَقَطَ وَذَفّفْتُ عَلَيْهِ وَمَضَيْت وَتَرَكْت عَلَيْهِ سَلَبَهُ، فَلَحِقْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقُلْت: مَا بَالُ النّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللهِ. ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْت، ثُمّ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ.
فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ.
فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَشَهِدَ لِي، ثُمّ لَقِيت الْأَسْوَدَ بْنَ الْخُزَاعِيّ فَشَهِدَ لِي، وَإِذَا صَاحِبِي الّذِي أَخَذَ السّلَبَ لَا يُنْكِرُ أَنّي قَتَلْته- وَقَدْ قَصَصْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصّةَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَاهَا اللهِ إذا [ (2) ] ،
__________
[ (1) ] تسريح الشعر: إرساله قبل المشط. (لسان العرب، ج 3، ص 308) .
[ (2) ] قال ابن الأثير: هكذا جاء الحديث «لاها الله إذا» ، والصواب: «لاها الله ذا» بحذف الهمزة. ومعناه: لا والله لا يكون ذا، أو لا والله الأمر ذا، فحذف تخفيفا. (النهاية، ج 4، ص 236) .(3/908)
لَا تَعْمِدْ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، يُعْطِيك سَلَبَهُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ، فَأَعْطِهِ إيّاهُ.
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ:
فَأَعْطَانِيهِ، فَقَالَ لِي حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَتَبِيعُ السّلَاحَ؟
فَبِعْته مِنْهُ بِسَبْعِ أَوَاقٍ، فَأَتَيْت الْمَدِينَةَ فَاشْتَرَيْت بِهِ مَخْرَفًا [ (1) ] فِي بَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ الرّدَيْنِيّ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ لِي نِلْته فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمْ نَزَلْ نَعِيشُ مِنْهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَكَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَدْ تَعَاهَدَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ وُجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ- وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْر، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- فَكَانَا تَعَاهَدَا إنْ رَأَيَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِرَةً أَنْ يَكُونَا عَلَيْهِ، وَهُمَا خَلْفَهُ.
قَالَ شَيْبَةُ: فَأَدْخَلَ اللهُ الْإِيمَانَ قُلُوبَنَا. قَالَ شَيْبَةُ: لَقَدْ هَمَمْت بِقَتْلِهِ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ، وَعَلِمْت أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي.
وَيُقَالُ: قَالَ: غَشِيَتْنِي ظُلْمَةٌ حَتّى لَا أُبْصِرُ، فَعَرَفْت أَنّهُ مُمْتَنِعٌ مِنّي وَأَيْقَنْت بِالْإِسْلَامِ. وَقَدْ سَمِعْت فِي قِصّةِ شَيْبَةَ وَجْهًا آخَرَ، كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ يَقُولُ:
لَمّا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا مَكّةَ فَظَفِرَ بِهَا وَخَرَجَ إلَى هَوَازِنَ، قُلْت: أَخْرُجُ لَعَلّي أُدْرِكُ ثَأْرِي! وَذَكَرْت قَتْلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ، وَعَمّي قَتَلَهُ عَلِيّ. قَالَ: فَلَمّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ جِئْته عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا الْعَبّاسُ قَائِمٌ، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضّةِ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ [ (2) ] ، فَقُلْت: عَمّهُ لَنْ يَخْذُلَهُ! قَالَ: ثُمّ جِئْته عَنْ يَسَارِهِ فَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ ابن عمّه، فقلت:
__________
[ (1) ] المخرف: الحائط من النخل. (النهاية، ج 1، ص 289) .
[ (2) ] العجاج: الغبار. (الصحاح، ص 327) .(3/909)
ابْنُ عَمّهِ لَنْ يَخْذُلَهُ! فَجِئْته مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أُسَوّرُهُ [ (1) ] بِالسّيْفِ إذْ رُفِعَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ شُوَاظٌ [ (2) ] مِنْ نَارٍ كَأَنّهُ بَرْقٌ، وَخِفْت أَنْ يَمْحَشَنِي [ (3) ] وَوَضَعْت يَدَيّ عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْت الْقَهْقَرَى، وَالْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ: يَا شَيْبَ، اُدْنُ مِنّي! فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: اللهُمّ، أَذْهِبْ عَنْهُ الشّيْطَانَ! قَالَ: فَرَفَعْت إلَيْهِ رَأْسِي وَهُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَقَلْبِي، ثُمّ قَالَ:
يَا شَيْبَ، قَاتِلْ الْكُفّارَ! فَقَالَ: فَتَقَدّمْت بَيْنَ يَدَيْهِ أُحِبّ وَاَللهِ أَقِيهِ بِنَفْسِي وَبِكُلّ شَيْءٍ، فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، وَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لله الذي أراد بك خيرا ممّا أراد. ثُمّ حَدّثَنِي بِمَا هَمَمْت بِهِ.
فَلَمّا كَانَتْ الْهَزِيمَةُ حَيْثُ كَانَتْ، وَالدّائِرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَتَكَلّمُوا بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالضّغْنِ وَالْغِشّ، قال أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ! قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَقِيتٍ:
أَمَا وَاَللهِ، لَوْلَا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينهى عن فتلك لَقَتَلْتُك! وَقَالَ: صَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ [ (4) ] ، وَهُوَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَخُو صَفْوَانَ لِأُمّهِ، أَسْوَدُ مِنْ سُودَانِ مَكّةَ، أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ صَفْوَانُ:
اُسْكُتْ، فَضّ اللهُ فَاك! لَأَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَبّ مِنْ هَوَازِنَ. قَالَ: وَقَالَ سهيل بن عمرو: لا يجتبرها [ (5) ] محمّد
__________
[ (1) ] سوره: أى علاه. (لسان العرب، ج 6، ص 52) .
[ (2) ] الشواظ: اللهب الذي لا دخان له. (الصحاح، ص 1173) .
[ (3) ] فى الأصل: «أن ينحشنى» ، والتصحيح عن ابن سيد الناس، يروى عن الواقدي. (عيون الأثر، ج 2، ص 191) . ويمحشني: أى يحرقني (الصحاح، ص 1018) .
[ (4) ] فى الأصل: «كلدة بن حبل» ، وما أثبتناه عن ابن هشام. (السيرة النبوية، ج 4، ص 86) . وكذا فى ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 1332) .
[ (5) ] فى الأصل: «تحتبرها» . واستجبر واجتبر: أصابته مصيبة لا يجتبرها، أى لا مجبر منها. (لسان العرب، ج 5، ص 185) .(3/910)
وَأَصْحَابُهُ! قَالَ: يَقُولُ لَهُ عِكْرِمَةُ: هَذَا لَيْسَ بِقَوْلٍ، وَإِنّمَا الْأَمْرُ بِيَدِ اللهِ، وَلَيْسَ إلَى مُحَمّدٍ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ! إنْ أُدِيلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنّ لَهُ الْعَاقِبَةَ غَدًا. قَالَ:
يَقُول سُهَيْلٌ: إنّ عَهْدَك بِخِلَافِهِ لَحَدِيثٌ! قَالَ: يَا أَبَا يَزِيدَ، إنّا كُنّا وَاَللهِ نُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَعُقُولُنَا عُقُولُنَا، نَعْبُدُ الْحَجَرَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرّ! قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: حَضَرَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِأَفْرَاسٍ وَعَبِيدٍ وَمَوَالٍ، فَقُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ [ (1) ] ، فَبَيْنَا طَلْحَةُ يَسْلُبُ الْقَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ إذْ مَرّ بِهِ فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَحْلِفُ بِاَللهِ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ مَا تَخْتَتِنُ [ (2) ] ! قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: وَسَمِعْتهَا وَخَشِيت أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْنَا مِنْ الْعَرَبِ، فَقُلْت:
لَا تَفْعَلْ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ! ثُمّ جَعَلْت أَكْشِفُ لَهُ عَنْ قَتْلَى ثَقِيفٍ، فَأَقُولُ: أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتَنِينَ؟ وَيُقَالُ: إنّ الْعَبْدَ كَانَ لِذِي الْخِمَارِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا أَزْرَقَ، فَقُتِلَ مَعَ سَيّدِهِ يومئذ. وكان أبو طلحة الْخِمَارِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا أَزْرَقَ، فَقُتِلَ مَعَ سَيّدِهِ يَوْمَئِذٍ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَسْلُبُ الْقَتْلَى، فَجَرّدَهُ فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لِلْأَنْصَارِ فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ مَا تَخْتَتِنُ ثَقِيفٌ! وَسَمِعَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ: فَقَالَ: أُرِيك يَا أَبَا طَلْحَةَ! فَجَرّدَ لَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: هَذَا سَيّدُ ثَقِيفٍ! ثُمّ أَتَى إلَى ذِي الْخِمَارِ سَيّدِ الْعَبْدِ، فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ.
قَالَ الْمُغِيرَةُ: وَجَاءَنِي أَمْرٌ قَطَعَنِي، وَخَشِيت أَنْ تَسِيرَ عَلَيْنَا فِي الْعَرَبِ، حَتّى أَبْصَرَ القوام وعرفوا أنه عبد الهم نَصْرَانِيّ. وَكَانَ الّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، فَبَلَغَ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
__________
[ (1) ] الأغرل: الأقلف، أى غير مختتن. (الصحاح، ص 1780) .
[ (2) ] فى الأصل: «ما كننى» .(3/911)
يَرْحَمُ اللهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ! وَأَبْعَدَ اللهُ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا! قَالَ: وَكَانَ دُعَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بِرَحْمَةِ اللهِ، فَبَلَغَهُ فَقَالَ: إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي اللهُ الشّهَادَةَ فِي وَجْهِي هَذَا! فَقُتِلَ فِي حِصَارِ الطّائِفِ. وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَوْلَا ابْنُ جَثّامَةَ الْأَصْغَرُ لَفُضِحَتْ الْخَيْلُ الْيَوْمَ. وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:
إنّ مَاءَ حُنَيْنٍ لَنَا فَخَلّوهْ ... إنْ تَشْرَبُوا مِنْهُ فَلَنْ تَعْلُوهْ
هَذَا رَسُولُ اللهِ لَنْ يَعْلُوهْ
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ جَعْفَرٍ. [وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ... ] [ (1) ]
غَلَبَتْ خَيْلُ اللهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَاَللهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ قَدّمَ سُلَيْمًا فِي مُقَدّمَتِهِ، عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ سلّم رَجُلًا يُدْرِكُ خَالِدًا فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا [ (2) ] . وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً أُخْرَى فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا قَتَلْتهَا يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْدَفْتهَا وَرَائِي فَأَرَادَتْ قَتْلِي فَقَتَلْتهَا. فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُفِنَتْ.
قالوا: لمّا هزم الله تعالى هوازن اتّبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، فَنَادَتْ بَنُو سُلَيْمٍ بَيْنَهَا: ارْفَعُوا عَنْ بَنِي أُمّكُمْ الْقَتْلَ! فَرَفَعُوا الرّمَاحَ وَكَفّوا عَنْ الْقَتْلِ- وَأُمّ سُلَيْمٍ، بُكْمَةُ ابْنَةُ مُرّةَ أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرّةَ- فَلَمّا رَأَى رسول الله
__________
[ (1) ] زيادة من ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 92) .
[ (2) ] العسيف: الشيخ الفاني، وقيل العبد. (النهاية، ج 3، ص 96) .(3/912)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّذِي صَنَعُوا قَالَ: اللهُمّ، عَلَيْك بِبَنِي بُكْمَةَ- وَلَا يَشْعُرُونَ أَنّ لَهُمْ أُمّا اسْمُهَا بُكْمَةُ- أَمّا فِي قَوْمِي فَوَضَعُوا السّلَاحَ وَضْعًا، وَأَمّا عَنْ قَوْمِهِمْ فَرَفَعُوا رَفْعًا! وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الْقَوْمِ، ثُمّ قَالَ لِخَيْلِهِ: إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ فَلَا يُفْلِتَنّ مِنْكُمْ! وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا، وَكَانَ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، وَكَانَ قَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، فَأَخَذَهُ بِجَادٌ فَقَطّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ، فَكَانَ قَدْ عُرِفَ جُرْمُهُ فَهَرَبَ. فَأَخَذَتْهُ الْخَيْلُ، فَضَمّوهُ إلَى الشّيْمَاءِ [ (1) ] بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَعَنّفُوا عَلَيْهَا فِي السّيَاقِ، فَجَعَلَتْ الشّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَقُولُ: إنّي وَاَللهِ أُخْتُ صَاحِبِكُمْ! وَلَا يُصَدّقُوهَا، وَأَخَذَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا أَشَدّ النّاسِ عَلَى هَوَازِنَ، حَتّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ، إنّي أُخْتُك! قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَأَرَتْهُ عَضّةً [وَقَالَتْ] : عَضَضْتَنِيهَا وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك [ (2) ] بِوَادِي السّرَرِ [ (3) ] ، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِرِعَائِهِمْ، أَبُوك أَبِي وَأُمّك أُمّي، قَدْ نَازَعْتُك الثّدْيَ، وَتَذَكّرْ يَا رَسُولَ اللهِ ... [ (4) ] فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ، فَوَثَبَ قَائِمًا فَبَسَطَ رِدَاءَهُ، ثُمّ قَالَ: اجْلِسِي عَلَيْهِ!
وَرَحّبَ بِهَا، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ أُمّهِ وَأَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَوْتِهِمَا فِي الزّمَانِ.
ثُمّ قَالَ: إنْ أَحْبَبْت فَأَقِيمِي عِنْدَنَا مُحَبّةً مُكَرّمَةً، وَإِنْ أحببت أن ترجعى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «الشماء بنت الحرث» ، وما أثبتناه عن البلاذري (أنساب الأشراف، ج 1، ص 93) . وهكذا فى ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 4، ص 100) .
[ (2) ] متوركة، أى حاملته على وركها. (النهاية، ج 4، ص 206) .
[ (3) ] فى الأصل: «وادي سور» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 69) .
والسرر على أربعة أميال من مكة. (معجم البلدان، ج 5، ص 68) .
[ (4) ] جملة غامضة، شكلها فى الأصل: «حلالي لك غير أبيك إطلال» . ولم يظهر لها معنى فى نظرنا.(3/913)
إلَى قَوْمِك وَصِلَتِك رَجَعْت إلَى قَوْمِك. قَالَتْ: أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي. وَأَسْلَمَتْ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً، أَحَدُهُمْ يُقَالُ لَهُ: مَكْحُولٌ، فَزَوّجُوهُ الْجَارِيَةَ.
قَالَ عَبْدُ الصّمَدِ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنّهُ أَدْرَكَ نَسْلَهَا فِي بَنِي سَعْدٍ، وَرَجَعَتْ الشّيْمَاءُ إلَى مَنْزِلِهَا وَكَلّمَهَا النّسْوَةُ فِي بِجَادٍ، فَرَجَعَتْ إلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أَنّهُ يَهَبُهُ لَهَا وَيَعْفُو عَنْهُ. فَفَعَلَ ثُمّ أَمَرَ لَهَا بِبَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ، وَسَأَلَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟
فَأَخْبَرَتْهُ بِأُخْتِهَا وَأَخِيهَا وَبِعَمّهَا أَبِي بُرْقَانَ، وَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْمٍ سَأَلَهَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعِي إلَى الْجِعِرّانَةِ تَكُونِينَ مَعَ قَوْمِك، فَإِنّي أَمْضِي إلى الطائف
فرجعت إلى الجعرّانة، وأناها رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهَا نَعَمًا وَشَاءً لَهَا، وَلِمَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهَا.
قَالُوا: وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَتَوْا الطّائِفَ، وَعَسْكَرَ عَسْكَرٌ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ [إلَى] نَخْلَةَ إلّا بَنُو عَنَزَةَ مِنْ ثَقِيفٍ.
فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا تَتْبَعُ مَنْ سَلَكَ نَخْلَةَ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا وَيُدْرِكُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّالِ [ (1) ] بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنّهُ كان فى شجار [ (2) ] له،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «سهيل بن عوف» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 95) . وعن ابن حزم أيضا. (جوامع السيرة، ص 240) .
[ (2) ] الشجار: مركب مكشوف دون الهودج. (النهاية، ج 2، ص 206) .(3/914)
فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ فَأَنَاخَ بِهِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ سِتّينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، فَإِذَا هُوَ دُرَيْدٌ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ. قَالَ الْفَتَى: مَا أُرِيدُ إلَى غَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ دِينِهِ.
قَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السّلَمِيّ. قَالَ: فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا. قَالَ دُرَيْدٌ: بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك! خُذْ سَيْفِي مِنْ وَرَاءِ الرّحْلِ فِي الشّجَارِ فَاضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الطعام واخفض عن الدّماغ، فإن كُنْت كَذَلِكَ أَقْتُلُ الرّجَالَ، ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَرَبّ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْت [ (1) ] فِيهِ نِسَاءَك! زَعَمَتْ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ تَكَشّفَ لِلْمَوْتِ عِجَانُهُ [ (2) ] ، وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلَ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ. فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ: وَاَللهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَزّ نَاصِيَةَ أَبِيك. قَالَ الْفَتَى:
لَمْ أَشْعُرْ.
قَالُوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ إلَى أَوْطَاسٍ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، فَكَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، فَكَانَ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ عَسْكَرُوا بِأَوْطَاسٍ عَسْكَرًا عَظِيمًا، تَفَرّقَ مِنْهُمْ مَنْ تَفَرّقَ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَأُسِرَ مَنْ أُسِرَ، فَانْتَهَيْنَا إلَى عَسْكَرِهِمْ فَإِذَا هُمْ مُمْتَنِعُونَ [ (3) ] ، فَبَرَزَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ، فَقَالَ: اللهُمّ اشْهَدْ! فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ حَتّى قَتَلَ تِسْعَةً كَذَلِكَ، فَلَمّا كَانَ التّاسِعُ بَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مُعْلِمٌ يَنْحُبُ [ (4) ] لِلْقِتَالِ، وَبَرَزَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمّا كَانَ الْعَاشِرُ بَرَزَ رَجُلٌ مُعْلِمٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، فَقَالَ أَبُو عامر: اللهمّ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ضيعت» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 95) .
[ (2) ] العجان: الدبر، وقيل ما بين القبل والدبر. (النهاية، ج 3، ص 71) .
[ (3) ] فى الأصل «متمتعون» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 109) .
[ (4) ] نحب: أى أجهد السير. (الصحاح، ص 222) .(3/915)
اشْهَدْ! قَالَ: يَقُولُ الرّجُلُ: اللهُمّ لَا تَشْهَدْ! فَضَرَبَ أَبَا عَامِرٍ فَأَثْبَتَهُ، فَاحْتَمَلْنَاهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَخْبَرَ أَبُو عَامِرٍ أَبَا مُوسَى أَنّ قَاتِلَهُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الصّفْرَاءِ.
قَالُوا: وَأَوْصَى أَبُو عَامِرٍ إلَى أَبِي مُوسَى، وَدَفَعَ إلَيْهِ الرّايَةَ وَقَالَ: ادْفَعْ فَرَسِي وَسِلَاحِي لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَاتَلَهُمْ أَبُو مُوسَى حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ، وَجَاءَ بِسِلَاحِهِ وَتَرِكَتِهِ وَفَرَسِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إنّ أَبَا عَامِرٍ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَقَالَ: قُلْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لِي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ قَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي عَامِرٍ، وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى أُمّتِي فِي الْجَنّةِ! وَأَمَرَ بِتَرِكَةِ أَبِي عَامِرٍ فَدُفِعَتْ إلَى ابْنِهِ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَعْلَمُ أَنّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِأَبِي عَامِرٍ، قُتِلَ شَهِيدًا، فَادْعُ اللهَ لِي. فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي مُوسَى، وَاجْعَلْهُ فِي أَعْلَى أُمّتِي!
فَيَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ وَقَعَ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ.
قَالُوا: وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ فِي بَنِي نَصْرٍ، ثُمّ فِي بَنِي رِبَابٍ [ (1) ] ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ- وَكَانَ مُسْلِمًا- يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتْ بَنُو رِبَابٍ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُم!
وَوَقَفَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ الثّنَايَا مَعَهُ فُرْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ.
قِفُوا حَتّى يَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ تَلْتَمّ أُخْرَاكُمْ. وَقَالَ: اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ. قَالُوا:
نَرَى قَوْمًا عَلَى خُيُولِهِمْ وَاضِعِينَ رِمَاحَهُمْ عَلَى آذَانِ خُيُولِهِمْ. قَالَ: أُولَئِكَ إخْوَانُكُمْ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ، انظروا ماذا ترون. قالوا:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فى بنى ركاب» ، وما أثبتناه عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2 ص 110) .(3/916)
نَرَى رِجَالًا أَكْفَالًا [ (1) ] ، قَدْ وَضَعُوا رِمَاحَهُمْ عَلَى أَكْفَالِ [ (2) ] خُيُولِهِمْ. قَالَ:
تِلْكَ الْخَزْرَجُ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَهُمْ سَالِكُونَ طَرِيقَ إخْوَانِهِمْ. قَالَ:
اُنْظُرُوا مَاذَا تَرَوْنَ. قَالُوا: نَرَى أَقْوَامًا كَأَنّهُمْ الْأَصْنَامُ عَلَى الْخَيْلِ. قَالَ:
تِلْكَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكُمْ! فَلَمّا غَشِيَتْهُ الْخَيْلُ نَزَلَ عن فرسه مَخَافَةَ أَنْ يُؤْسَرَ، ثُمّ طَفِقَ يَلُوذُ بِالشّجَرِ حَتّى سَلَكَ فِي يَسُومَ، جَبَلٌ بِأَعْلَى نَخْلَةَ، فَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا. وَيُقَالُ: قَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى رَجُلًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ، يَخْبِطُ بِرِجْلَيْهِ فِي الْأَرْضِ، وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ. قَالَ: ذَلِكَ ابْنُ صَفِيّةَ، الزّبَيْر، وَاَيْمُ اللهِ لَيُزِيلَنّكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ! فَلَمّا بَصُرَ بِهِمْ الزّبَيْرُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتّى أَهْبَطَهُمْ مِنْ الثّنِيّةِ، وَهَرَبَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فَتَحَصّنَ فِي قَصْرٍ بِلِيّةَ [ (3) ] . وَيُقَالُ: دَخَلَ حِصْنَ ثَقِيفٍ.
وَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ رَجُلًا كَانَ بِحُنَيْنٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى اشْتَدّ بِهِ الْجِرَاحُ. فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ! فَارْتَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، فَلَمّا اشْتَدّ بِهِ الْجِرَاحُ أَخَذَ مِشْقَصًا [ (4) ] مِنْ كِنَانَتِهِ فَانْتَحَرَ بِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا أَنْ يُنَادِيَ: أَلَا لَا دَخَلَ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ، وَأَنّ اللهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِر.
قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ تجمع، ونادى مناديه:
__________
[ (1) ] الكفل من الرجال، الذي يكون فى مؤخر الحرب، والجمع أكفال. (لسان العرب، ج 14، ص 108) .
[ (2) ] الأكفال: جمع الكفل بالتحريك، وهو العجز، وقيل ردف العجز. (لسان العرب، ج 14، ص 107) .
[ (3) ] فى الأصل: «فى قصر بنيه» . ولية: من نواحي الطائف. (معجم البلدان، ج 7، ص 348) .
[ (4) ] المشقص من النصال: ما طال وعرض. (الصحاح، ص 1042) .(3/917)
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَغُلّ! وَجَعَلَ النّاسُ غَنَائِمَهُمْ فِي مَوْضِعٍ حَتّى اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا. وَكَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا، فَقَالَتْ: إنّي قَدْ عَلِمْت أَنّك قَدْ قَاتَلْت الْمُشْرِكِينَ، فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِهِمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْإِبْرَةَ تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. فَسَمِعَ مُنَادِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ فَلْيَرُدّهُ. فَرَجَعَ عَقِيلٌ فَقَالَ: وَاَللهِ مَا أَرَى إبْرَتَك إلّا قَدْ ذَهَبَتْ. فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيّ أَخَذَ يَوْمَئِذٍ قَوْسًا فَرَمَى عَلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ، ثُمّ رَدّهَا فِي الْمَغْنَمِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُبّةِ [ (1) ] شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اضْرِبْ بِهَذِهِ! أَيْ دَعْهَا [ (2) ] لِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَك. وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْحَبْلُ وَجَدْته حَيْثُ انْهَزَمَ الْعَدُوّ فَأَشُدّ بِهِ عَلَى رَحْلِي؟ قَالَ: نَصِيبِي مِنْهُ لَك، وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَنْصِبَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟
قَالَ: فَحَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عن عبد الله ابن الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى النّاسَ عَامَ حُنَيْنٍ فِي قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُمْ، وَأَنّهُ نَزَلَ قَبِيلَةً مِنْ الْقَبَائِلِ وَجَدُوا فِي بَرْذَعَةِ [ (3) ] .
رَجُلٍ مِنْهُمْ عِقْدًا مِنْ جَزَعٍ غُلُولًا، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] كبة الغزل: ما جمع منه. (لسان العرب، ج 2، ص 190) .
[ (2) ] فى الأصل: «دعه لى» .
[ (3) ] البرذعة: الحلس الذي يلقى تحت الرحل. (الصحاح، ص 1184) .(3/918)
فَكَبّرَ عَلَيْهِمْ كَمَا يُكَبّرُ عَلَى الْمَيّتِ.
قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي رَحْلِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ غُلُولًا فَبَكّتَهُ وَلَامَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَلَمْ يَخْرِقْ رَحْلَهُ.
قَالُوا: وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ سَبَايَا يَوْمَئِذٍ، فَكَانُوا يَكْرَهُونَ يَقَعُوا عَلَيْهِنّ وَلَهُنّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [ (1) ] . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ مِنْ السّبْيِ حَتّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً. وَسَأَلُوا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ الْعَزْلِ، فَقَالَ: لَيْسَ من كلّ الماء يكون الْوَلَدِ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ.
قَالُوا: وَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ يَوْمًا بِحُنَيْنٍ، ثُمّ تَنَحّى إلَى شَجَرَةٍ فَجَلَسَ إلَيْهَا. فَقَامَ إليه عيينة بن حص بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ قُرَيْشٍ- وَمَعَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، يَدْفَعُ عَنْ مُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ لِمَكَانِهِ مِنْ خِنْدِفَ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُيَيْنَةُ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا وَاَللهِ لَا أَدَعُهُ حَتّى أُدْخِلَ عَلَى نِسَائِهِ مِنْ الْحَرْبِ وَالْحَزَنِ مَا أَدْخَلَ عَلَى نِسَائِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَأْخُذُ الدّيَةَ؟ وَيَأْبَى عُيَيْنَةُ، فَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللّغَطُ إلَى أَنْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ مُكَيْتَلٌ، قَصِيرٌ، مُجْتَمِعٌ، عَلَيْهِ شِكّةٌ [ (2) ] كَامِلَةٌ، ودرقة فى يده، فقال: يا رسول
__________
[ (1) ] سورة 4 النساء 24.
[ (2) ] الشكة: السلاح. (الصحاح، ص 1594) .(3/919)
اللهِ، إنّي لَمْ أَجِدْ لِمَا فَعَلَ هَذَا شَبَهًا فِي غُرّةِ [ (1) ] الْإِسْلَامِ إلّا غَنَمًا وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولَاهَا، فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا [ (2) ] ، فَاسْنُنْ الْيَوْمَ وَغَيّرْ غَدًا [ (3) ] فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: تَقْبَلُونَ الدّيَةَ خَمْسِينَ فِي فَوْرِنَا هَذَا وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا الْمَدِينَةَ! فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْمِ حَتّى قَبِلُوهَا.
وَمُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ الْقَاتِلُ فِي طَرَفِ النّاسِ، فَلَمْ يَزَالُوا يَرَوْنَهُ وَيَقُولُونَ:
ايتِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لَك. فَقَامَ مُحَلّمٌ فَقَامَ رَجُلٌ طَوِيلٌ، آدَمُ [ (4) ] ، مُحْمَرّ بِالْحِنّاءِ، عَلَيْهِ حُلّةٌ، قَدْ كَانَ تَهَيّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ، حَتّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الّذِي بَلَغَكُمْ، فَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُك؟ قَالَ:
أَنَا مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ. قَالَ: قَتَلْته بِسِلَاحِك فِي غُرّةِ الْإِسْلَامِ! اللهُمّ، لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ! بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ. قَالَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ كَانَ الّذِي بَلَغَك، وَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ عَالٍ يَتَفَقّدُ بِهِ النّاسَ: اللهُمّ، لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ! حَتّى كَانَتْ الثّالِثَةُ. قَالَ: فَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَقَالَتِهِ. ثُمّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ!
فَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقّى دمعه بفضل ردائه. وكان ضمرة
__________
[ (1) ] غرة الإسلام: أوله. (النهاية، ج 3، ص 155) .
[ (2) ] فى الأصل: «فرميت فنفر أحدهما» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 276) .
[ (3) ] أى اعمل بسنتك التي سننتها فى القصاص، ثم بعد ذلك إذا شئت أن تغير فغير. (النهاية ج 2، ص 186) .
[ (4) ] الآدم من الناس: الأسمر. (الصحاح، ص 1859) .(3/920)
السّلَمِيّ يُحَدّثُ وَكَانَ قَدْ حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ: كُنّا نَتَحَدّثُ فِيمَا بَيْنَنَا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِاسْتِغْفَارٍ لَهُ، وَلَكِنّهُ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ قَدْرَ الدّمِ عِنْدَ اللهِ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، قَالَ: لَمّا مَاتَ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ دَفَنَهُ قَوْمُهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَطَرَحُوهُ بَيْنَ صَخْرَتَيْنِ فَأَكَلَتْهُ السّبَاعُ.
قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الوليد، عن لقمان ابن عَامِرٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ، قَالَ: لَمّا حَضَرَ مُحَلّمَ بْنَ جَثّامَةَ الْمَوْتُ أَتَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ، فَقَالَ: يَا مُحَلّمُ، إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْجِعَ إلَيْنَا فَتُخْبِرَنَا بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَقِيتُمْ. قَالَ: فَأَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، فَقَالَ لَهُ:
كَيْفَ أَنْتُمْ يَا مُحَلّمُ؟ قَالَ: نَحْنُ بِخَيْرٍ، وَجَدْنَا رَبّا رَحِيمًا غَفَرَ لَنَا. قَالَ عَوْفٌ: أَكُلّكُمْ؟ قَالَ: كُلّنَا غَيْرَ الْأَحْرَاضِ. قَالَ: وَمَا الْأَحْرَاضُ؟ قَالَ:
الّذِينَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ [ (1) ] . وَاَللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ اسْتَنْفَقَهُ اللهُ لِي إلّا وَقَدْ وُفّيت أَجْرَهُ، حَتّى إنّ قِطّةً لِأَهْلِي هَلَكَتْ فَلَقَدْ أُعْطِيت أَجْرَهَا. قَالَ عَوْفٌ:
فَقُلْت: وَاَللهِ إنّ تَصْدِيقَ رُؤْيَايَ أَنْ أَنْطَلِقَ إلَى أَهْلِ مُحَلّمٍ فَأَسْأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْقِطّةِ. فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: عَوْفٌ يَسْتَأْذِنُ! فَأَذِنُوا، فَلَمّا دَخَلَ قَالُوا [ (2) ] : وَاَللهِ، مَا كُنْت لَنَا بِزَوّارٍ! قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ بِخَيْرٍ، وَهَذِهِ بِنْتُ أَخِيك أَمْسَتْ وَلَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، وَهِيَ هَذِهِ! لِمَا بِهَا، وَلَقَدْ فَارَقَنَا أَبُوهَا اللّيْلَةَ.
قَالَ: قُلْت: هَلْ هَلَكَتْ لَكُمْ قِطّةٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. [قَالَ:] فَهَلْ حَسَسْتُمُوهَا
__________
[ (1) ] أى اشتهروا بالشر، وقيل: هم الذين أسرفوا فى الذنوب فأهلكوا أنفسهم، وقيل: أراد الذين فسدت مذاهبهم. (النهاية، ج 1، ص 218) .
[ (2) ] فى الأصل: «فقال فأذنوا لعوف فلما دخل قالوا» .(3/921)
يا عوف؟ قال: لقد أُنْبِئْت نَبَأَهَا فَاحْتَسِبُوهَا.
قَالَ: حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ، قَالَ: رَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ يَتَخَلّلُ الرّجَالَ يَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَنَا مَعَهُ، فَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ بِشَابّ فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَضَرَبُوهُ بِمَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَحَثَا عَلَيْهِ التّرَابَ.
تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِحُنَيْنٍ
أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ ابْنُ أُمّ أَيْمَنَ، وَهُوَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَمَوَالِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لُوذَانَ [ (1) ] ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ أُصِيبَ بِأَوْطَاسٍ، فَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ أَرْبَعَةٌ.
شَأْنُ غَزْوَةِ الطّائِفِ
قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَابْنُ مَوْهَبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عبد الله، عن الزّهْرِيّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمّنْ لَمْ يُسَمّ، أَهْلُ ثِقَاتٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَقَدْ كَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي بِهِ.
قَالُوا: لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حنينا وأراد المسير إلى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ورقيم بن ثعلبة بن زيد بن كودان» ، وما أثبتناه عن ابن حزم. (جوامع السيرة، ص 244) .(3/922)
الطّائِفِ، بَعَثَ الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو إلَى ذِي الْكَفّيْنِ- صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ [ (1) ]- يَهْدِمُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِدّ قَوْمَهُ وَيُوَافِيَهُ بِالطّائِفِ.
فَقَالَ الطّفَيْلُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي. قَالَ: أَفْشِ السّلَامَ، وَابْذُلْ الطّعَامَ، وَاسْتَحْيِ مِنْ اللهِ كَمَا يَسْتَحْيِي الرّجُلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْ أَهْلِهِ. إذَا أَسَأْت فَأَحْسِنْ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ [ (2) ] .
قَالَ: فَخَرَجَ الطّفَيْلُ سَرِيعًا إلَى قَوْمِهِ، فَهَدَمَ ذَا الْكَفّيْنِ، وَجَعَلَ يَحْشُو النّارَ فِي جَوْفِهِ وَيَقُولُ:
يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْت مِنْ عُبّادِكَا ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا
أَنَا حَشَوْت [ (3) ] النّارَ فِي فُؤَادِكَا
وَأَسْرَعَ مَعَهُ قَوْمُهُ، انْحَدَرَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَوَافَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطّائِفِ بَعْدَ مُقَامِهِ بِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ، فَقَدِمَ بِدَبّابَةٍ وَمَنْجَنِيقٍ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ، مَنْ يَحْمِلُ رَايَتَكُمْ؟ قَالَ الطّفَيْلُ: مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ. قَالَ: أَصَبْتُمْ! وَهُوَ النّعْمَانُ بْنُ الزّرَافَةِ اللهْبِيّ [ (4) ] .
وَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد مِنْ حُنَيْنٍ عَلَى مُقَدّمَتِهِ، وَأَخَذَ مَنْ يَسْلُكُ بِهِ مِنْ الْأَدِلّاءِ إلَى الطّائِفِ، فَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطّائِفِ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ [ (5) ] بِالسّبْيِ أَنْ يُوَجّهُوا إلَى الْجِعِرّانَةِ، واستعمل عليهم بديل بن ورقاء الخزاعىّ،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عمرو بن حثمة دوسى» ، والتصحيح عن كل مراجع السيرة الأخرى.
[ (2) ] سورة 11 هود 114
[ (3) ] فى الأصل: «حشيت» ، والتصحيح عن الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 33) .
[ (4) ] هكذا فى الأصل، ولعله النعمان بن الزراع عريف الأزد، ذكره ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1500) . وفى ابن سعد: «النعمان بن بازية اللهبي» . (الطبقات، ج 2، ص 114) .
[ (5) ] فى الأصل: «أمرنا» .(3/923)
وَأَمَرَ بِالْغَنَائِمِ فَسِيقَتْ إلَى الْجِعِرّانَةِ وَالرّثّةِ. وَمَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطّائِفِ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ رَمّوا [ (1) ] حِصْنَهُمْ، وَدَخَلُوا فِيهِ مُنْهَزِمِينَ مِنْ أَوْطَاسٍ وَأَغْلَقُوهُ عَلَيْهِمْ- وَهُوَ حِصْنٌ عَلَى مَدِينَتِهِمْ لَهُ بَابَانِ- وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ وَتَهَيّئُوا، وَأَدْخَلُوا حِصْنَهُمْ مَا يُصْلِحُهُمْ لِسَنَةٍ لَوْ حُصِرُوا.
وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ بِجُرَشَ يَتَعَلّمَانِ عَمَلَ الدّبّابَاتِ وَالْمَنْجَنِيقِ، يُرِيدَانِ أَنْ يَنْصِبَاهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ، وَكَانَا لَمْ يَحْضُرَا حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ. وَسَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أَوْطَاسٍ، فَسَلَكَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ [ (2) ] ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ [ (3) ] ، ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ [ (4) ] ، ثُمّ عَلَى بَحْرَةِ الرّغَاءِ [ (5) ] مِنْ لِيّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَبْنِي بِيَدِهِ مَسْجِدًا بِلِيّةَ، وَأَصْحَابُهُ يَنْقُلُونَ إلَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللّيْثِيّ إلَى الْهُذَلِيّينَ فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ. وَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِلِيّةَ،
وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قَصْرًا فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا:
هَذَا قَصْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هُوَ يَرَاك الآن فى
__________
[ (1) ] رموا: أى أصلحوا. (الصحاح، ص 1936) .
[ (2) ] نخلة اليمانية: واد يصب فيه يدعان وبه مسجد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبه عسكرت هوازن يوم حنين. (معجم البلدان، ج 8، ص 275) .
[ (3) ] قرن: قرية بينها وبين مكة أحد وخمسون ميلا. (معجم البلدان، ج 7، ص 64) .
[ (4) ] المليح: واد بالطائف. (معجم البلدان، ج 7، ص 156) .
[ (5) ] بحرة الرغاء: موضع فى لية من ديار بنى نصر. (معجم ما استعجم، ص 140) .(3/924)
حِصْنِ ثَقِيفٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ فِي قَصْرِهِ؟ قَالُوا:
مَا فِيهِ أَحَدٌ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرّقُوهُ! فَحُرّقَ مِنْ حِينِ الْعَصْرِ إلَى أَنْ غَابَتْ الشّمْسُ. وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَبْرِ أَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ عِنْدَ مَالِهِ وَهُوَ قَبْرٌ مُشْرِفٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَعَنَ اللهُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ، فَإِنّهُ كَانَ مِمّنْ يُحَادّ اللهَ وَرَسُولَهُ! فَقَالَ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللهُ أَبَا قُحَافَةَ، فَإِنّهُ كَانَ لَا يَقْرِي الضّيْفَ وَلَا يَمْنَعُ الضّيْمَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ سَبّ الْأَمْوَاتِ يُؤْذِي الْأَحْيَاءَ، فَإِنْ شِئْتُمْ الْمُشْرِكِينَ فَعُمّوا. ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لِيّةَ فَسَلَكَ طَرِيقًا يُقَالُ لَهَا: الضّيْقَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى. ثُمّ خَرَجَ عَلَى نَخِبٍ [ (1) ] حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةِ الصّادِرَةِ عِنْدَ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إمّا أَنْ تَخْرُجَ وَإِمّا أَنْ نُحَرّقَ عَلَيْك حَائِطَك! فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْرَاقِ حَائِطِهِ وَمَا فِيهِ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ، فَيَضْرِبُ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ، فَسَاعَةَ حَلّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ جَاءَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا قَدْ دَنَوْنَا مِنْ الْحِصْنِ، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ سَلّمْنَا، وَإِنْ كَانَ عَنْ الرّأْيِ فَالتّأَخّرُ عَنْ حِصْنِهِمْ. قَالَ: فَأَسْكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ يحدّث يقول: لقد طلع علينا من
__________
[ (1) ] نخب: واد بالطائف. (معجم البلدان، ج 8، ص 272) .(3/925)
نَبْلِهِمْ سَاعَةَ نَزَلْنَا شَيْءٌ اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، كَأَنّهُ رِجْلٌ [ (1) ] مِنْ جَرَادٍ- وَتَرّسْنَا لَهُمْ- حَتّى أُصِيبَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُبَابَ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَكَانًا مُرْتَفِعًا مُسْتَأْخِرًا عَنْ الْقَوْمِ.
فَخَرَجَ الْحُبَابُ حَتّى انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطّائِفِ خَارِجٍ مِنْ الْقَرْيَةِ، فَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَحَوّلُوا. قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ: إنّي لَأَنْظُرُ إلَى أَبِي مِحْجَنٍ يَرْمِي مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ بِعِشْرَتِهِ [ (2) ] بِمَعَابِلَ [ (3) ] كَأَنّهَا الرّمَاحُ، مَا يَسْقُطُ لَهُ سَهْمٌ. قَالُوا:
وَارْتَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَسْجِدِ الطّائِفِ الْيَوْمَ. قَالُوا:
وَأَخْرَجُوا امْرَأَةً سَاحِرَةً، فَاسْتَقْبَلَتْ الْجَيْشَ بِعَوْرَتِهَا- وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْفَعُونَ بِذَلِكَ عَنْ حِصْنِهِمْ. فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَكَمَةَ، وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ [ (4) ] مِنْ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ، وَزَيْنَبُ، وَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْحِصْنِ، فَخَرَجَ قُدّامَ النّاسِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ [ (5) ] بْنِ الْأَسْوَدِ عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ ثَقِيفًا الْأَمَانَ يُرِيدُ يُكَلّمُهُمْ، فَأَعْطَوْهُ الْأَمَانَ، فَلَمّا دَنَا مِنْهُمْ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوهُ. وَخَرَجَ هُذَيْلُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ أَخُو أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ، وَلَا يَرَى أَنّ عِنْدَهُ أَحَدًا. وَيُقَالُ: إنّ يَعْقُوبَ بْنَ زَمْعَةَ كَمَنَ لَهُ فَأَسَرَهُ حَتّى أَتَى بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَاتِلُ أَخِي يَا رسول الله! فسر رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «زجل من جراد» ، وما أثبتناه عن الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 35) . والرجل: الكثير. (النهاية، ج 2، ص 70) .
[ (2) ] العشرة: الصحبة. (النهاية، ج 3، ص 98) .
[ (3) ] المعابل: نصال عراض طوال، الواحدة معبلة. (النهاية، ج 3، ص 63) .
[ (4) ] فى الأصل: «امرأتين» .
[ (5) ] فى الأصل: «يريدون ربيعة بن الأسود» .(3/926)
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب لزوجتيه قبّتين، تم كَانَ يُصَلّي بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ حِصَارَ الطّائِفِ كُلّهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِي حِصَارِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ قَائِلٌ: تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ قَائِلٌ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكُلّ ذَلِكَ وَهُوَ يُصَلّي بَيْن الْقُبّتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، بَنَى أُمَيّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى مُصَلّى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا مِنْ الدّهْرِ إلّا يُسْمَعُ لَهَا نَقِيضٌ [ (1) ] أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ.
فَنَصَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْجَنِيقَ. قَالَ: وَشَاوَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَى أَنْ تَنْصِبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَإِنّا كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ نَنْصِبُ الْمَنْجَنِيقَاتِ عَلَى الْحُصُونِ وَتُنْصَبُ عَلَيْنَا، فَنُصِيبُ مِنْ عَدُوّنَا وَيُصِيبُ مِنّا بِالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْجَنِيقُ طَالَ الثّوَاءُ [ (2) ] . فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَ مَنْجَنِيقًا بِيَدِهِ، فَنَصَبَهُ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ. وَيُقَالُ: قَدِمَ بِالْمَنْجَنِيقِ يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ وَدَبّابَتَيْنِ، وَيُقَالُ: الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَيُقَالُ:
خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَدِمَ مِنْ جُرَشَ بِمَنْجَنِيقٍ وَدَبّابَتَيْنِ. وَنَثَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَكَ [ (3) ] شِقّتَيْنِ- حَسَكٌ مِنْ عَيْدَانَ- حَوْلَ حِصْنِهِمْ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ تَحْتَ الدّبّابَةِ، وَهِيَ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ- وَذَلِكَ يَوْمٌ يُقَالُ لَهُ الشّدْخَةُ.
__________
[ (1) ] النقيض: الصوت. (الصحاح، ص 1111)
[ (2) ] الثواء: الإقامة. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 37) .
[ (3) ] الحسك: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم، يعمل على مثال شوكه أداة للحرب من حديد أو قصب فيلقى حول العسكر ويسمى باسمه. (القاموس المحيط، ج 3، ص 298) .(3/927)
قِيلَ: وَمَا الشّدْخَةُ؟ قَالَ: مَا قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ- دَخَلُوا تَحْتَهَا، ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الْحِصْنِ لِيَحْفِرُوهُ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَحَرَقَتْ الدّبّابَةَ، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تَحْتِهَا وَقَدْ أُصِيبَ مِنْهُمْ مَنْ أُصِيبَ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ رِجَالٌ.
قَالَ: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ أَعْنَابِهِمْ وَتَحْرِيقِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَطَعَ حَبَلَةً [ (1) ] فَلَهُ حَبَلَةٌ فِي الْجَنّةِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ لِيَعْلَى بْنِ مُرّةَ الثّقَفِيّ: أَقَطْعُ ذَلِكَ أَجْرِي؟ فَفَعَلَ يَعْلَى بْنُ مُرّةَ، ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ يَعْلَى: نَعَمْ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَك النّارُ! فَبَلَغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عُيَيْنَةُ أَوْلَى بِالنّارِ مِنْ يَعْلَى. وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقْطَعُونَ قَطْعًا ذَرِيعًا.
قَالَ: وَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الثّقَفِيّ:
وَاَللهِ لَنُقَطّعَنّ أَبَا عِيَالِك. فَقَالَ سُفْيَانُ: إذًا لَا تَذْهَبُونَ بِالْمَاءِ وَالتّرَابِ! فَلَمّا رَأَى الْقَطْعَ نَادَى سُفْيَانُ: يَا مُحَمّدُ، لِمَ تَقْطَعُ أَمْوَالَنَا؟ إمّا أَنْ تَأْخُذَهَا إنْ ظَهَرْت عَلَيْنَا، وَإِمّا أَنْ تَدَعَهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ كَمَا زَعَمْت! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّي أَدَعُهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ [ (2) ] .
فَتَرَكَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَ أَبُو وَجْزَةَ السّعْدِيّ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعُ كُلّ رَجُلٍ مِنْ أَعْنَابِهِمْ خَمْسَ حَبَلَاتٍ.
فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
__________
[ (1) ] الحبلة: من شجر العنب. (النهاية، ج 1، ص 198) .
[ (2) ] أى للرحم التي بيني وبينهم، لأن أمه آمنة أمها برة بنت عبد العزى بن قصى، وأم برة هذه أم حبيب بنت أسعد، وأمها برة بنت عوف، وأمها قلابة بنت الحارث، وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 37) .(3/928)
اللهِ، إنّهُ عُمّ [ (1) ] لَمْ يُؤْكَلْ ثَمَرُهُ. فَأَمَرَ أَنْ يَقْطَعُوا مَا أَكَلُوا ثَمَرَهُ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ الْأَوّلَ فَالْأَوّلَ.
قَالَ: وَتَقَدّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى ثَقِيفٍ فَقَالَا:
أَمّنُوا حَتّى نَتَكَلّمَ. فَأَمّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ لِيَخْرُجْنَ إلَيْهِمَا- وَهُمْ يَخَافُونَ السّبَاءَ [ (2) ]- مِنْهُمْ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ، وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عمرو بن ثعلبة- كانت عند قارب ابن الْأَسْوَدِ، لَهَا مِنْهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ قَارِبٍ- وَامْرَأَةٌ أُخْرَى. فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا قَالَ لَهُمَا بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ، أَلَا نَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ! إنّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا- وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّائِفِ نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَمْقُ [ (3) ]- لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً، ولا أشدّ مونة مِنْهُ، وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً- وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعَمّرْ أَبَدًا، فَكَلّمَاهُ لِيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ، فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يَجْهَلُ. فَكَلّمَاهُ فَتَرَكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رَجُلٌ يَقُومُ عَلَى الْحِصْنِ فَيَقُولُ: رُوحُوا رِعَاءَ الشّاءِ! رُوحُوا جَلَابِيبَ مُحَمّدٍ! رُوحُوا عَبِيدَ مُحَمّدٍ! أَتَرَوْنَا نَتَبَاءَسُ عَلَى أَحْبُلٍ [ (4) ] أَصَبْتُمُوهَا مِنْ كُرُومِنَا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهُمّ، رَوّحْ مُرَوّحًا إلَى النّارِ!
قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: فَأَهْوَى لَهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فى نحره، وهوى من الحصن
__________
[ (1) ] نخل عم: أى تام فى طوله. (النهاية، ج 3، ص 129) .
[ (2) ] فى الأصل: «النساء» ، وما أثبتناه عن الطبري، يروى عن الواقدي. (التاريخ، ص 1672) .
[ (3) ] العمق: واد من أودية الطائف. (معجم البلدان، ج 6، ص 223) .
[ (4) ] أحبل: جمع حبلة، وهي الأصل أو القضيب من شجر الأعناب. (النهاية، ج 1، ص 198) .(3/929)
مَيّتًا. قَالَ: فَرَأَيْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سُرّ بِذَلِكَ. قَالَ: وَجَعَلُوا يَقُولُونَ عَلَى حِصْنِهِمْ: هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالَ [ (1) ] . قَالَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَتَدْرِي يَا عَلِيّ مَا هَذَا؟ قَبْرُ أَبِي رِغَالَ: وَهُمْ قَوْمُ ثَمُودَ!
قَالُوا: وَكَانَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى رَأْسِ الْحِصْنِ يَرْمِي بِمَعَابِلَ وَالْمُسْلِمُونَ يُرَامُونَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ لِصَاحِبِهِ: إنْ افْتَتَحْنَا الطّائِفَ فَعَلَيْك بِنِسَاءِ بَنِي قَارِبٍ، فَإِنّهُنّ أَجْمَلُ إنْ أَمْسَكْت، وَأَكْثَرُ فِدَاءً إنْ فَادَيْتَ. فَسَمِعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا أَخَا مُزَيْنَةَ! قَالَ: لَبّيْكَ! قَالَ: ارْمِ ذَلِكَ الرّجُلَ. يَعْنِي أَبَا مِحْجَنٍ، وَإِنّمَا غَارَ الْمُغِيرَةُ حِينَ ذَكَرَ الْمُزَنِيّ النّسَاءَ، وَعَرَفَ أَنّ أَبَا مِحْجَنٍ رَجُلٌ رَامٍ لَا يَسْقُطُ له سهم، فرماه المزنىّ فَلَمْ يَصْنَعْ سَهْمُهُ شَيْئًا، وَفَوّقَ لَهُ أَبُو محجن بمعبلة، فَتَقَعُ فِي نَحْرِهِ فَقَتَلَتْهُ [ (2) ] . قَالَ، يَقُولُ الْمُغِيرَةُ: مَنّى الرّجَالَ بِنِسَاءِ بَنِي قَارِبٍ. قَالَ لَهُ عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَهُ أَوّلَهُ وَآخِرَهُ: قَاتَلَك اللهُ يَا مُغِيرَةُ! أَنْتَ وَاَللهِ عَرّضْته لِهَذَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ سَاقَ لَهُ الشّهَادَةَ. أَنْتَ وَاَللهِ مُنَافِقٌ، وَاَللهِ لَوْلَا الْإِسْلَامُ مَا تَرَكْتُك حَتّى أَغْتَالَك! وَجَعَلَ الْمُزَنِيّ يَقُولُ:
إنّ مَعَنَا الدّاهِيَةَ وَمَا نَشْعُرُ، وَاَللهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا! قَالَ: طَلَبَ الْمُغِيرَةُ إلَى الْمُزَنِيّ أَنْ يَكْتُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. قَالَ: لَا وَاَللهِ أَبَدًا! قَالَ: فَبَلَغَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ [ (3) ] فِي عَمَلِ عُمَرَ بِالْكُوفَةِ- فَقَالَ: وَاَللهِ، مَا كَانَ الْمُغِيرَةُ بِأَهْلٍ أَنْ يُوَلّى وَهَذَا فِعْلُهُ! قَالَ: وَرَمَى أَبُو مِحْجَنٍ يَوْمَ الطّائِفِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِسَهْمٍ، فَدَمِلَ الْجُرْحُ حتى بغى [ (4) ] ،
__________
[ (1) ] انظر ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 1، ص 49) .
[ (2) ] فى الأصل: «فيقع فى نحره فقتله» .
[ (3) ] أى المغيرة.
[ (4) ] بغى الجرح: ورم وترامى إلى فساد. (الصحاح، ص 2281) .(3/930)
وَخَرَجَ السّهْمُ مِنْ الْجُرْحِ فَأَمْسَكَهُ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ. وَتُوُفّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقَدِمَ أَبُو مِحْجَنٍ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمِشْقَصَ [ (1) ] فَأَخْرَجَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مِحْجَنٍ، هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الْمِشْقَصَ؟ قَالَ: وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُهُ وَأَنَا بَرَيْت قَدَحَهُ وَرِيشَتَهُ وَرَصَفَتَهُ، وَرَمَيْت بِهِ ابْنَك؟ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَهُ عَلَى يَدَيّ وَلَمْ يُهِنّي عَلَى يَدَيْهِ.
وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيّمَا عَبْدٍ نَزَلَ مِنْ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرّ! فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ رِجَالٌ، بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا:
أَبُو بَكَرَةَ، وَالْمُنْبَعِثُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْبَعِثَ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ عَبْدًا لعثمان بن عمّار بن معتّب، والأزرق ابن عُقْبَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَكَانَ عَبْدًا لِلْكَلَدَةِ الثّقَفِيّ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، ثُمّ صَارَ حَلِيفًا فِي بَنِي أُمَيّةَ فَنَكَحُوا إلَيْهِ وَأَنْكَحُوهُ، وَوَرْدَانُ، عَبْدٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ جَدّ الْفُرَاتِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَرْدَانَ، وَيُحَنّسُ النّبّالُ، وَكَانَ عبدا ليسار ابن مَالِكٍ، فَأَسْلَمَ سَيّدُهُ بَعْدُ، فَرَدّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَاءَهُ، - فَهُمْ [أَعْبُدُ] الطّائِفِ- وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ، كَانَ عَبْدًا لِخَرَشَةَ الثّقَفِيّ، وَيَسَارٌ، عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ لَمْ يُعْقِبْ، وَأَبُو بَكَرَةَ [ (2) ] نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ، وَكَانَ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَإِنّمَا كُنّيَ بِأَبِي بَكَرَةَ أَنّهُ نَزَلَ فِي بَكَرَةٍ [ (3) ] مِنْ الْحِصْنِ، وَنَافِعٌ أَبُو السّائِبِ، عَبْدٌ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، فأسلم غيلان
__________
[ (1) ] المشقص من النصال: ما طال وعرض. (الصحاح، ص 1043) .
[ (2) ] فى الأصل: «أبو بكرة بن نفيع» ، وما أثبتناه عن الزرقانى يروى عن الواقدي. (شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 37) . وعن ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 1614) .
[ (3) ] بكرة البئر: ما يستقى عليها، وهي خشبة مستديرة فى وسطها محز للحبل وفى جوفها محور تدور عليه. (لسان العرب، ج 5، ص 146) .(3/931)
بَعْدُ، فَرَدّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَاءَهُ، وَمَرْزُوقٌ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ، لَا عَقِبَ لَهُ. كُلّ هَؤُلَاءِ أَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُونُهُ [ (1) ] وَيَحْمِلُهُ، فَكَانَ أَبُو بَكَرَةَ إلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وكان الأزرق إلى خالد ابن سَعِيدٍ، وَكَانَ وَرْدَانُ إلَى أَبَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وكان يحنّس النّبّال إلى عثمان ابن عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَسَارُ بْنُ مالك إلى سعد بن عبادة، وإبراهيم ابن جَابِرٍ إلَى أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْرِئُوهُمْ الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُوهُمْ السّنَنَ.
فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ تَكَلّمَتْ أَشْرَافُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعْتَقِينَ، فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ، يَرُدّوهُمْ فِي الرّقّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللهِ، لَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ!
وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ مَشَقّةً شَدِيدَةً، وَاغْتَاظُوا عَلَى غِلْمَانِهِمْ.
قَالُوا: وَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اِيذَنْ لِي حَتّى آتِيَ حِصْنَ الطّائِفِ فَأُكَلّمَهُمْ. فَأَذِنَ لَهُ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: أَدْنُو مِنْكُمْ وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
وَعَرَفَهُ أَبُو مِحْجَنٍ فَقَالَ: اُدْنُ. فَدَنَا. فقال: ادخل. فدخل عليهم الحصن، فقال: فداءكم أَبِي وَأُمّي! وَاَللهِ لَقَدْ سَرّنِي مَا رَأَيْت مِنْكُمْ، وَاَللهِ لَوْ أَنّ فِي الْعَرَبِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ! وَاَللهِ مَا لَاقَى مُحَمّدٌ مِثْلَكُمْ قَطّ، وَلَقَدْ مَلّ الْمُقَامَ، فَاثْبُتُوا فِي حِصْنِكُمْ، فَإِنّ حِصْنَكُمْ حَصِينٌ، وَسِلَاحَكُمْ كَثِيرٌ، وَمَاءَكُمْ وَاتِنٌ، لَا تَخَافُونَ قَطْعَهُ! قَالَ: فَلَمّا خَرَجَ قَالَتْ ثَقِيفٌ لِأَبِي مِحْجَنٍ: فَإِنّا كَرِهْنَا دُخُولَهُ، وَخَشِينَا أَنْ يُخْبِرَ مُحَمّدًا بِخَلَلٍ إنْ رَآهُ فِينَا أَوْ فِي حِصْنِنَا. قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: أَنَا كُنْت أَعْرَفَ لَهُ، لَيْسَ مِنّا أَحَدٌ أَشَدّ عَلَى مُحَمّدٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ. فَلَمّا رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: مَا قُلْت لَهُمْ؟ قَالَ: قُلْت اُدْخُلُوا
__________
[ (1) ] يمونه: يحتمل مؤونته ويقوم بكفايته. (الصحاح، ص 2209) .(3/932)
فِي الْإِسْلَامِ، وَاَللهِ لَا يَبْرَحُ مُحَمّدٌ عُقْرَ دَارِكُمْ حَتّى تَنْزِلُوا، فَخُذُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَمَانًا، قَدْ نَزَلَ بِسَاحَةِ أَهْلِ الْحُصُونِ قَبْلَكُمْ، قَيْنُقَاعَ، وَالنّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَخَيْبَرَ أَهْلِ الْحَلْقَةِ وَالْعُدّةِ وَالْآطَامِ. فَخَذّلْتُهُمْ مَا اسْتَطَعْت، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ عَنْهُ، حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْت! قُلْت لَهُمْ كَذَا وَكَذَا! لِلّذِي قَالَ. قَالَ عُيَيْنَةُ: أَسَتَغْفِرُ اللهَ! فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أُقَدّمُهُ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي.
وَيُقَالُ: إنّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَغْلَظَ. لَهُ يَوْمَئِذٍ وَقَالَ: وَيْحَك يَا عُيَيْنَةُ! إنّمَا أَنْتَ أَبَدًا تُوضِعُ فِي الْبَاطِلِ، كَمْ لَنَا مِنْك مِنْ يَوْمٍ بَنِي النّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَخَيْبَرَ، تَجْلِبُ عَلَيْنَا وَتُقَاتِلُنَا بِسَيْفِك، ثُمّ أَسْلَمْت كَمَا زَعَمْت فَتُحَرّضُ عَلَيْنَا عَدُوّنَا! قَالَ: أَسَتَغْفِرُ اللهَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَأَتُوبُ إلَيْهِ، لَا أَعُودُ أَبَدًا! قَالُوا: وَكَانَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، يُقَالُ لَهُ: مَاتِعٌ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: هِيتٌ.
وَكَانَ مَاتِعٌ يَكُونُ فِي بُيُوتِهِ، لَا يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النّسَاءِ مِمّا يَفْطِنُ لَهُ الرّجَالُ، وَلَا يرى أنّ له فى ذلك أربعة [ (1) ] ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ: إنْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطّائِفَ غَدًا فَلَا تُفْلِتَنّ مِنْك بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ، فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ [ (2) ] وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، وَإِذَا جَلَسَتْ تَثَنّتْ، وَإِذَا تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ، وَإِذَا اضْطَجَعَتْ تَمَنّتْ، وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا مِثْلُ الْإِنَاءِ الْمَكْفُوءِ، مَعَ ثغر كأنّه الأقحوان، كما قال الخطيم:
__________
[ (1) ] الإربة: الحاجة. (الصحاح، ص 87) .
[ (2) ] قال ابن كثير: وقوله تقبل بأربع وتدبر بثمان، يعنى بذلك عكن بطنها فإنها تكون أربعا إذا أقبلت ثم تصير كل واحدة ثنتين إذا أدبرت. (البداية والنهاية، ج 4، ص 349) .(3/933)
بَيْنَ شُكُولِ [ (1) ] النّسَاءِ خِلْقَتُهَا ... نَصْبٌ فَلَا جَبْلَةٌ [ (2) ] وَلَا قَضَفُ
تَغْتَرِقُ [ (3) ] الطّرْفَ وَهْيَ لَاهِيَةٌ [ (4) ] ... كَأَنّمَا شَفّ وَجْهَهَا نُزُفُ [ (5) ]
فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ فَقَالَ: أَلَا أَرَى هَذَا الْخَبِيثَ يَفْطِنُ لِلْجَمَالِ إذَا خَرَجْت إلَى الْعَقِيقِ! وَالْحَيْلُ لَا يُمْسَكُ [ (6) ] لِمَا أَسْمَعُ! وَقَالَ: لَا يَدْخُلَنّ عَلَى نِسَاءِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ! وَيُقَالُ: قَالَ: لَا يَدْخُلَنّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ!
وَغَرّبَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحِمَى، فَشَكَيَا الْحَاجَةَ، فَأَذِنَ لَهُمَا أَنْ يَنْزِلَا كُلّ جُمُعَةٍ يَسْأَلَانِ ثُمّ يَرْجِعَانِ إلَى مَكَانِهِمَا، إلَى أَنْ تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَا مَعَ النّاسِ. فَلَمّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُدْخِلُكُمَا؟ فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا. فَلَمّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَا مَعَ النّاسِ، فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَكُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَأُدْخِلُكُمَا؟ اُخْرُجَا إلَى مَوْضِعِكُمَا! فَأَخْرَجَهُمَا إلَى مَوْضِعِهِمَا، فَلَمّا قُتِلَ عُمَرُ دَخَلَا مع الناس.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «سكول» ، والتصحيح عن ديوان قيس بن الحطيم ص 54) . وكتاب الأغانى، (ج 2، ص 168) . والكشول: الضروب. (الصحاح، ص 1736) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل. وفى ديوان قيس بن الخطيم والأغانى: «قصد فلا جثلة» . وجبلة: أى غليظة. والقضف: الدقة. (الصحاح، ص 1650، 1417) .
[ (3) ] قال ابن السكيت: من نظر إليها استغرقت طرفه وبصره وشغلته عن النظر إلى غيرها.
(ديوان قيس بن الخطيم، ص 55) .
[ (4) ] وهي لاهية: غير محتفلة، وأراد أنها عتيقة الوجه ليست بكثيرة اللحم. (ديوان قيس بن الخطيم، ص 56) .
[ (5) ] قال ابن السكيت: النزف خروج الدم. وقال العدوى: أراد أن فى لونها مع البياض صفرة وذلك أحسن. (ديوان قيس بن الخطيم، ص 56) .
[ (6) ] فى الأصل: «والحيل عن يمسك» ولعل الصواب ما أثبتناه. والحيل: القوة. (النهاية، ج 1، ص 267) .(3/934)
قَالُوا: قَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ، وَهُوَ عَلَى حِصْنِ الطّائِفِ: يَا عَبِيدَ مُحَمّدٍ، إنّكُمْ وَاَللهِ مَا لَاقَيْتُمْ أَحَدًا يُحْسِنُ قِتَالَكُمْ غَيْرَنَا، تُقِيمُونَ مَا أَقَمْتُمْ بِشَرّ مَحْبِسٍ، ثُمّ تَنْصَرِفُونَ لَمْ تُدْرِكُوا شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ، نَحْنُ قَسِيّ وَأَبُونَا قَسَا [ (1) ] ، وَاَللهِ لَا نُسَلّمُ مَا حَيِينَا، وَقَدْ بَنَيْنَا طَائِفًا حَصِينًا! فَنَادَاهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَاَللهِ لَنَقْطَعَنّ عَلَيْك مَعَاشَك حَتّى تَخْرُجَ مِنْ جُحْرِك هَذَا، إنّمَا أَنْتَ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ.
فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: إنْ قَطَعْتُمْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ حَبَلَاتِ عِنَبٍ، فَإِنّ فِي الْمَاءِ وَالتّرَابِ مَا يُعِيدُ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَقْدِرُ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ، لَنْ نَبْرَحَ عَنْ بَابِ جُحْرِك حَتّى تَمُوتَ! قَالَ: يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ لَا تَقُلْ هَذَا، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي فَتْحِ الطّائِفِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ قَالَ لَك هَذَا رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
فَجَاءَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَمْ يُؤْذَنْ لَك يَا رَسُولَ اللهِ فِي فَتْحِهَا؟ قَالَ: لَا.
وَجَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّةُ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ. أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك حُلِيّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ الْخُزَاعِيّ. أَوْ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ- وَكَانَتَا مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ ثَقِيفٍ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي ثَقِيفٍ يَا خَوْلَةُ؟ قَالَ: فَخَرَجَتْ خَوْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدّثَتْ خَوْلَةُ مَا حَدّثَتْنِي أَنّك قُلْته؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قُلْته. قَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَمْ يُؤْذَنْ لَك فِيهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَلَا أُؤَذّنُ فى
__________
[ (1) ] قسى: لقب ثقيف. قال أبو عبيد: لأنه مر على أبى رغال وكان مصدقا فقتله، فقيل قسا قلبه. فسمى قسيا. (لسان العرب، ج 20، ص 42) .(3/935)
النّاسِ بِالرّحِيلِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى.
فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتَكَلّمُونَ، يَمْشِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا:
نَنْصَرِفُ وَلَا نَفْتَحُ الطّائِفَ! لَا نَبْرَحُ حَتّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْنَا، وَاَللهِ إنّهُمْ لَأَذَلّ وَأَقَلّ مَنْ لَاقَيْنَا، قَدْ لَقِينَا جَمْعَ مَكّةَ وَجَمْعَ هَوَازِنَ، فَفَرّقَ اللهُ تِلْكَ الْجَمُوعَ! وَإِنّمَا هَؤُلَاءِ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، لَوْ حَصَرْنَاهُمْ لَمَاتُوا فِي حِصْنِهِمْ هَذَا! وَكَثُرَ الْقَوْلُ بَيْنَهُمْ وَالِاخْتِلَافُ، فَمَشَوْا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَتَكَلّمُوا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ. فَكَلّمُوا عُمَرَ فَأَبَى وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، وَدَخَلَنِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الشّكّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلّا اللهُ، وَرَاجَعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِكَلَامٍ لَيْتَ أَنّي لَمْ أَفْعَلْ، وَأَنّ أَهْلِي وَمَالِي ذَهَبَا! ثُمّ كَانَتْ الْخِيَرَةُ لَنَا مِنْ اللهِ فِيمَا صَنَعَ، فَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ كَانَ خَيْرًا لِلنّاسِ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ- بِلَا سَيْفٍ، دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَنْ كَانَ دَخَلَ- مِنْ يَوْمِ بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِ كُتِبَ الْكِتَابُ. فَاتّهِمُوا الرّأْيَ، وَالْخِيَرَةُ فِيمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَنْ أُرَاجِعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَبَدًا! وَالْأَمْرُ أَمْرُ اللهِ، وَهُوَ يُوحِي إلَى نَبِيّهِ مَا يَشَاءُ! وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ [ (1) ] مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَأُهْرَاقَ مَا فِيهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ.
قَالَ: حَدّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ حصارهم استشار
__________
[ (1) ] القعبة: القدح. (شرح أبى ذر، ص 409) .(3/936)
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ: يَا نَوْفَلُ:
ما تقول؟ أوترى [ (1) ] . فَقَالَ نَوْفَلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إنْ أَقَمْت عَلَيْهِ أَخَذْته، وَإِنْ تَرَكْته لَمْ يَضُرّك شَيْئًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَلَمْ يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِهَا. قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ. قَالَ: فَجَعَلَ النّاسُ يَضِجّونَ مِنْ ذَلِكَ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ. فَغَدَوْا فَأَصَابَتْ الْمُسْلِمِينَ جِرَاحَاتٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللهُ! فَسُرّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا [ (2) ] ، وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ. فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ لِوَجْهِهِمْ نَادَى سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ عَمْرِو ابن عِلَاجٍ الثّقَفِيّ قَالَ: أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ:
أَجَلْ وَاَللهِ، مَجَدَةٌ كِرَامٌ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: قَاتَلَك اللهُ، تَمْدَحُ قَوْمًا مُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُهُ؟ فَقَالَ: إنّي وَاَللهِ مَا جِئْت مَعَكُمْ أُقَاتِلُ ثَقِيفًا، وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ مُحَمّدٌ الطّائِفَ فَأُصِيبَ جَارِيَةً مِنْ ثَقِيفٍ فَأَطَأهَا لَعَلّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مُبَارَكُونَ. فَأَخْبَرَ عُمَرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِ، فَتَبَسّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: هَذَا الْحُمْقُ الْمُطَاعُ! وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا: قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وحده! فلمّا ارتحلوا واستقلّوا قال: قولوا آئبون إنْ شَاءَ اللهُ، عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ! وَلَمّا ظَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ عَلَى ثَقِيفٍ. قَالَ: اللهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وائت بهم!
__________
[ (1) ] فى الطبري، يروى عن الواقدي: «ما ترى فى المقام عليهم» . (التاريخ، ص 1673) .
[ (2) ] أذعن: أسرع فى الطاعة. (القاموس المحيط، ج 4، ص 225) .(3/937)
تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ
مِنْ بَنِي أُمَيّةَ: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أُمَيّةَ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الْجَنَاحُ- إلَى حِصْنِ الطّائِفِ فَقَتَلُوهُ. وَيُقَالُ: قَالَ لَهُمْ: أَمّنُونِي حَتّى أُكَلّمَكُمْ. فَأَمّنُوهُ ثُمّ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ حَتّى قَتَلُوهُ.
وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَزَلْ مِنْهُ جَرِيحًا، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، رُمِيَ مِنْ الْحِصْنِ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَنَزِيّ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِن بَنِي سَهْمٍ: السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ.
وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن محارب بن الضّيحان ابن نَاشِبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ: ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ- وَاسْمُ الْجَذَعِ ثَعْلَبَةُ- وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَوْفَلٍ. فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رجلا.(3/938)
شَأْنُ مَسِيرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ
عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ
قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطّائِفِ فَأَخَذَ عَلَى دَحْنَا [ (1) ] ثُمّ عَلَى قَرْنِ الْمَنَازِلِ [ (2) ] ، ثُمّ عَلَى نَخْلَةَ حَتّى خَرَجَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ وَأَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ غَلِيظَتَانِ، إذْ زَحَمَتْ نَاقَتُهُ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِهِ عَلَى سَاقِهِ فَأَوْجَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْجَعْتنِي، أَخّرْ رِجْلَك!
وَقَرَعَ رِجْلَهُ بِالسّوْطِ. قَالَ: فَأَخَذَنِي مِنْ أَمْرِي مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ، وَخَشِيت أَنْ يَنْزِلَ فِيّ الْقُرْآنُ لِعَظِيمِ مَا صَنَعْت، فَلَمّا أَصْبَحْنَا بِالْجِعِرّانَةِ، خَرَجْت أَرْعَى الظّهْرَ وَمَا هُوَ يَوْمِي، فَرَقًا أَنْ يَأْتِيَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُنِي، فَلَمّا رَوّحْت الرّكَابَ سَأَلْت فَقَالُوا: طَلَبَك رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجِئْته وَأَنَا أَتَرَقّبُ فَقَالَ: إنّك أَوْجَعْتنِي بِرِجْلِك فَقَرَعْتُك بِالسّوْطِ، فَخُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ عِوَضًا مِنْ ضَرْبَتِي. قَالَ أَبُو رُهْمٍ: فَرِضَاهُ عَنّي كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ يَقُولُ: كُنْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرَةٍ وَهُوَ يُحَادِثُنِي، فَجَعَلَتْ نَاقَتِي تَلْصِقُ بِنَاقَتِهِ، وَكَانَتْ نَاقَتِي نَاقَةً شَهْمَةً [ (3) ] ، فَجَعَلْت أُرِيدُ أَنْ أُنَحّيَهَا فَلَا تُطَاوِعُنِي، فَلَصِقَتْ بِنَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُصِيبَتْ رِجْلُهُ فَقَالَ: أَخْ! أوجعتنى! فرفع رجله
__________
[ (1) ] دحنا: من مخاليف الطائف. (معجم البلدان، ج 4، ص 43) .
[ (2) ] قرن المنازل: جبيل قرب مكة يحرم منه حاج نجد. (معجم البلدان، ج 8، ص 163) .
[ (3) ] ناقة شهمة: أى جلدة. (الصحاح، ص 1963) .(3/939)
مِنْ الْغَرْزِ كَأَنّهَا جُمّارَةً [ (1) ] ، وَدَفَعَ رِجْلِي بِمِحْجَنٍ فى يده. فمكث ساعة لا يتحدّث، فو الله مَا نَزَلْت حَتّى ظَنَنْت أَنْ سَيَنْزِلُ فِيّ عَذَابٌ. قَالَ: فَلَمّا نَزَلْنَا قُلْت لِأَصْحَابِي: إنّي أَرْعَى لَكُمْ! وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَوْمَ رِعْيَتِي، فَلَمّا أَرَحْت الظّهْرَ عَلَيْهِمْ قُلْت: هَلْ جَاءَ أَحَدٌ يَبْغِينِي؟ فَقَالُوا: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَبْغِيك. فَقُلْت فِي نَفْسِي: هِيَ وَاَللهِ هِيَ! قُلْت:
مَنْ جَاءَ؟ قَالُوا: رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَكَانَ أَكْرَهَ إلَيّ، وَذَلِكَ أَنّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَيْنَا غِلْظَةٌ. قَالَ: ثُمّ جَاءَ بَعْدُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَبْتَغِينِي. قَالَ: فَخَرَجْت خَائِفًا حَتّى وَاجَهْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَبْتَسِمُ فِي وَجْهِي وَقَالَ: أَوْجَعْتُك بِمِحْجَنِي الْبَارِحَةَ. ثُمّ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنْ الْغَنَمِ. قَالَ: فَأَخَذْتهَا فَوَجَدْتهَا ثَمَانِينَ شَاةً ضَائِنَةً [ (2) ] .
وَكَانَ أَبُو زُرْعَةَ الْجُهَنِيّ يَقُولُ: لَمّا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْكَبَ مِنْ قَرْنٍ رَاحِلَتَهُ الْقَصْوَاءَ وَطِئْت لَهُ عَلَى يَدَيْهَا، وَالزّمَامُ فِي يَدِي مَطْوِيّ، فَرَكِبَ عَلَى الرّحْلِ وَنَاوَلْته الزّمَامَ، وَدُرْت مِنْ خَلْفِهِ فَخَلّفَ [ (3) ] النّاقَةَ بِالسّوْطِ، كُلّ ذَلِكَ يُصِيبُنِي، فَالْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ: أَصَابَك السّوْطُ؟
قُلْت: نَعَمْ بِأَبِي وَأُمّي! قَالَ: فَلَمّا نَزَلَ الْجِعِرّانَةَ إذَا رِبْضَةٌ [ (4) ] مِنْ الْغَنَمِ نَاحِيَةً مِنْ الغنائم، فسأل عنها صاحب الغنائم فَخَبّرَهُ عَنْهَا بِشَيْءٍ لَا أَحْفَظُهُ، ثُمّ صَاحَ: أَيْنَ أَبُو زُرْعَةَ؟ قَالَ: قُلْت: هَا أَنَا ذَا! قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ بِاَلّذِي أَصَابَك مِنْ السّوْطِ أَمْسِ. قَالَ: فَعَدَدْتهَا فَوَجَدْتهَا عِشْرِينَ ومائة رأس. قال: فتأثّلت [ (5) ] بها مالا.
__________
[ (1) ] الجمارة: قلب النخلة وشحمتها، شبه ساقه ببياضها. (النهاية، ج 1، ص 175) .
[ (2) ] الضائن من الغنم: ذو الصوف، والأنثى ضائنة. (لسان العرب، ج 17، ص 119) .
[ (3) ] أى ضربها بسوطه على خلفها.
[ (4) ] الربضة: الجماعة. (القاموس المحيط، ج 2، ص 331) .
[ (5) ] تأثل مالا: اكتسبه واتخذه وثمره. (لسان العرب، ج 13، ص 8) .(3/940)
وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْحَدِرٌ مِنْ الطّائِفِ إلَى الْجِعِرّانَةِ فَتَحَصّلْت [ (1) ] ، وَالنّاسُ يَمْضُونَ أَمَامَهُ أَرْسَالًا [ (2) ] ، فَوَقَعْت فِي مِقْنَبٍ [ (3) ] مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلُوا يَقْرَعُونِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ:
إلَيْك! إلَيْك! مَا أَنْتَ؟ وَأَنْكَرُونِي، حَتّى إذَا دَنَوْت وَعَرَفْت أَنّهُ يَسْمَعُ صَوْتِي أَخَذْت الْكِتَابَ الّذِي كَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلْته بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِي، ثُمّ رَفَعْت يَدَيّ وَنَادَيْت: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ، وَهَذَا كِتَابِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمَ وَفَاءٍ، أَدْنُوهُ! فَأَدْنَيْت مِنْهُ، فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ، فَلَمّا انْتَهَيْت إلَيْهِ سَلّمْت، وَسُقْت إلَيْهِ الصّدَقَةَ، فَمَا ذَكَرْت شَيْئًا أَسْأَلُهُ عَنْهُ إلّا أَنّي قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت الضّالّةَ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ إنْ أَسْقَيْتهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نَعَمْ، فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرّى [ (4) ] أَجْر.
قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ غَنَمٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ هَدِيّةٌ قَدْ أَهْدَيْتهَا لَك، قَالَ: وَمِمّنْ أَنْتَ؟
قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ. قَالَ: إنّي لَا أَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي مُؤْمِنٌ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ، قَدْ سُقْت الصّدَقَةَ إلَى بُرَيْدَةَ بن الحصيب
__________
[ (1) ] تحصل: تجمع وثبت. (القاموس المحيط، ج 3، ص 357) .
[ (2) ] أى أفواجا وفرقا متقطعة يتبع بعضهم بعضا، واحدهم رسل. (النهاية، ج 2، ص 80) .
[ (3) ] المقنب: ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل. (الصحاح، ص 206) .
[ (4) ] الحرى: فعلى من الحر، والمعنى أن فى سقى كل ذى كبد حرى أجرا. (النهاية، ج 1، ص 215) .(3/941)
لِمَالِي بِعَيْنِهِ مُصَدّقًا، قَالَ: وَأَقْبَلَ بُرَيْدَةُ فَلَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا مِنْ قَوْمِي، شَرِيفٌ [ (1) ] يَنْزِلُ بِالصّفَاحِ [ (2) ] .
قَالَ: فَمَا أَقْدَمَك إلَى نَخْلَةَ؟ قَالَ: هِيَ أَمْرَعُ [ (3) ] مِنْ الصّفَاحِ الْيَوْمَ.
ثُمّ قَالَ: نَحْنُ عَلَى ظَهْرٍ كَمَا تَرَى، فَالْحَقْنَا بِالْجِعِرّانَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ يَعْدُو عِرَاضَ [ (4) ] نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَسُوقُ الْغَنَمَ مَعِي إلَى الْجِعِرّانَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا تَسُقْهَا، وَلَكِنْ تَقْدَمُ عَلَيْنَا الْجِعِرّانَةَ فَنُعْطِيك غَنَمًا أُخْرَى إنْ شَاءَ اللهُ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُدْرِكُنِي الصّلَاةُ وَأَنَا فِي عَطَنِ [ (5) ] الْإِبِلِ، أَفَأُصَلّي فِيهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَتُدْرِكُنِي وَأَنَا فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ، أَفَأُصَلّي فِيهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رُبّمَا تَبَاعَدَ مِنّا الْمَاءُ وَمَعَ الرّجُلِ زَوْجَتُهُ فَيَدْنُو مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَتَيَمّمُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَكُونُ فِينَا الْحَائِضُ، قَالَ: تَتَيَمّمُ. قَالَ: فَلَحِقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعِرّانَةِ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ شَاةٍ.
قَالُوا: وَجَعَلَتْ الْأَعْرَابُ فِي طَرِيقِهِ يَسْأَلُونَهُ، وَكَثُرُوا عَلَيْهِ حَتّى اضْطَرّوهُ إلَى سَمُرَةٍ، فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَنَزَعَتْهُ عَنْ مِثْلِ شِقّةِ الْقَمَرِ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: أَعْطُونِي رِدَائِي! أَعْطُونِي رِدَائِي! لَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته بَيْنَكُمْ، ثُمّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا ولا كذّابا!
__________
[ (1) ] فى الأصل: «شريفا» .
[ (2) ] الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش. (معجم البلدان، ج 5، ص 266) .
[ (3) ] المريع: الخصيب. (الصحاح، ص 1283) .
[ (4) ] أى يسير حذاه معارضا له. (النهاية، ج 3، ص 83) .
[ (5) ] العطن: مبرك الإبل حول الحوض. (القاموس المحيط، ج 4، ص 248) .(3/942)
ثُمّ لَمّا كَانَ عِنْدَ الْقَسْمِ قَالَ: أَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ [ (1) ] ، وَإِيّاكُمْ وَالْغُلُولَ فَإِنّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ [ (2) ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ! ثُمّ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ فَقَالَ:
وَاَللهِ مَا يَحِلّ لِي مِمّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُم.
قَالُوا: وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ، وَالسّبْيُ وَالْغَنَائِمُ بِهَا مَحْبُوسَةٌ، وَقَدْ اتّخَذَ السّبْيُ حَظَائِرَ [ (3) ] يَسْتَظِلّونَ بِهَا مِنْ الشّمْسِ، فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى تِلْكَ الْحَظَائِرِ سَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا سَبْيُ هَوَازِنَ اسْتَظَلّوا مِنْ الشّمْسِ. وَكَانَ السّبْيُ سِتّةَ آلَافٍ، وَكَانَتْ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَتْ الْغَنَمُ لَا يُدْرَى عَدَدُهَا، قَدْ قَالُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَقَلّ وَأَكْثَرَ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بُسْرَ [ (4) ] بْنَ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيّ يَقْدَمُ مَكّةَ فَيَشْتَرِي لِلسّبْيِ ثِيَابًا يَكْسُوهَا، ثِيَابَ الْمَعْقِدِ [ (5) ] ، فَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ [ (6) ] مِنْهُمْ إلّا كَاسِيًا، فَاشْتَرَى بُسْرٌ كُسْوَةً فَكَسَا السّبْيَ كُلّهُمْ، وَاسْتَأْذَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّبْيِ، وَقَدْ كَانَ فَرّقَ مِنْهُ، وَأَعْطَى رِجَالًا، عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنّ قَدْ وَطِئَهَا بِالْمِلْكِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبَهَا لَهُ بِحُنَيْنٍ فَرَدّهَا إلَى الْجِعِرّانَةِ حَتّى حَاضَتْ فَوَطِئَهَا، وأعطى صفوان ابن أُمَيّةَ أُخْرَى، وَأَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام جارية يقال لها
__________
[ (1) ] الخياط هنا: الخيط، والمخيط: الإبرة. (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (2) ] الشنار: العيب. (النهاية، ج 2، ص 238) .
[ (3) ] الحظائر: جمع الحظيرة، وهي الزرب الذي يصنع للإبل والغنم ليكفها. وكان السبي فى حظائر مثلها. (شرح أبى ذر، ص 411) .
[ (4) ] فى الأصل: «بشر» ، وما أثبتناه عن كل مراجع السيرة الأخرى.
[ (5) ] المعقد: ضرب من برود هجر. (النهاية، ج 3، ص 113) .
[ (6) ] فى الأصل: «الجز» .(3/943)
رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرٍو، فَوَطِئَهَا عُثْمَانُ فَكَرِهَتْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِيّ وَطِئَ.
وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ جَارِيَةً، فَأَعْطَاهَا عُمَرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَبَعَثَ بِهَا ابْنُ عُمَرَ إلَى أَخْوَالِهِ بِمَكّةَ بَنِي جُمَحَ لِيُصْلِحُوا مِنْهَا حَتّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ يَأْتِيَهُمْ، وَكَانَتْ جَارِيَةً وَضِيئَةً مُعْجِبَةً. [قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ:] [ (1) ] فَقَدِمْت مَكّةَ فَطُفْت بِالْبَيْتِ، فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ وَأَنَا أُرِيدُ الْجَارِيَةَ أَنْ أُصِيبَهَا، وَأَرَى النّاسَ يَشْتَدّونَ فَقُلْت: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: رَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَأَبْنَاءَهَا. قَالَ: قُلْت: تِلْكَ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحَ، فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا! فَذَهَبُوا فَأَخَذُوهَا. وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ فَلَمْ تُوطَأْ.
وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا طَلْحَةُ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ جَارِيَةً، وَأَعْطَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن الْعَوّامِ جَارِيَةً، وَهَذَا كُلّهُ بِحُنَيْنٍ. فَلَمّا رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْجِعِرّانَةِ أَقَامَ يَتَرَبّصُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَفْدُهُمْ، وَبَدَأَ بِالْأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا، وَأَعْطَى الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ أَوّلَ النّاسِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَنِمَ فِضّةً كَثِيرَةً، أَرْبَعَةَ آلَافِ أُوقِيّةٍ، فَجُمِعَتْ الْغَنَائِمُ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفِضّةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصْبَحْت أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مَالًا! فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ هَذَا الْمَالِ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: يَا بِلَالُ، زِنْ لِأَبِي سُفْيَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً، وأعطوه
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.(3/944)
مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ابْنِي يَزِيدُ أَعْطِهِ! قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلّم: زنوا ليزيد أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً، وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ابْنِي مُعَاوِيَةُ، يَا رَسُولَ اللَّه! قَالَ: زِنْ لَهُ يَا بِلَالُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً،
وَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّك الْكَرِيمُ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي! وَلَقَدْ حَارَبْتُك فَنِعْمَ الْمُحَارَبُ كُنْت، ثُمّ سَالَمْتُك فَنِعْمَ الْمُسَالَمُ أَنْتَ، جَزَاك اللَّه خَيْرًا! وَأَعْطَى فِي بَنِي أَسَدٍ.
قَالَ: حَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَا: حَدّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحنين مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ سَأَلْته مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمّ قَالَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا حكيم ابن حِزَامٍ، إنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَاَلّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ!
قَالَ: فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، لَا أَرْزَأُ [ (1) ] أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا! فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى يَأْخُذُهُ، فَيَقُولُ عُمَرُ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنّي أَدْعُوهُ إلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَه. قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي الزّناد قال: أخذ حكيم الماءة الْأُولَى ثُمّ تَرَكَ.
وَفِي بَنِي عَبْدِ الدّارِ: النّضَيْرُ، وَهُوَ أَخُو النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كلدة،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لا أرزى آخذا» . ولا أرزا: أى لا آخذ من أحد. (النهاية، ج 2، ص 78) .(3/945)
مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَفِي بَنِي زُهْرَةَ: أُسَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا. وَقَدْ رَأَيْت عَبْدَ اللَّه بْنَ جَعْفَرٍ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ مَخْرَمَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِي يَذْكُرُ أَنّهُ أُعْطِيَ شَيْئًا. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى فِي بَنِي جُمَحَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ،
وَيُقَالُ إنّهُ طَافَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَفّحُ الْغَنَائِمَ إذْ مَرّ بِشِعْبٍ مِمّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ، فِيهِ غَنَمٌ وَإِبِلٌ وَرِعَاؤُهَا مَمْلُوءٌ. فَأَعْجَبَ صَفْوَانَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْجَبَك يَا أَبَا وَهْبٍ هَذَا الشّعْبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُوَ لَك وَمَا فِيهِ.
فَقَالَ صَفْوَانُ: أَشْهَدُ مَا طَابَتْ بِهَذَا نَفْسُ أَحَدٍ قَطّ إلّا نَبِيّ، وَأَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللَّه! وَأَعْطَى قَيْسَ بْنَ عَدِيّ مِائَةً من الإبل، وأعطى عثمان ابن وَهْبٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ. وَفِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ أَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى هِشَامَ بْنَ عُمَرَ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى فِي الْعَرَبِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِيّ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وَأَعْطَى الْعَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ أَرْبَعًا مِنْ الْإِبِلِ، فَعَاتَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْرٍ قَالَهُ:
كَانَتْ [ (1) ] نِهَابًا تَلَافَيْتهَا ... بِكَرّي على القوم فى الأجرع [ (2) ]
__________
[ (1) ] كانت: يعنى الإبل والماشية. والنهاب: جمع نهب، وهو ما ينهب ويغنم. (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (2) ] الأجرع: المكان السهل. (شرح أبى ذر، ص 413) .(3/946)
وَحَثّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا ... إذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِي ... دِ [ (1) ] بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
إلّا أَفَائِلَ [ (2) ] أُعْطِيتهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ [ (3) ] ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ [ (4) ] وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَبْيَاتَهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبّاسِ: أَنْتَ الّذِي تَقُولُ «أَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:
بِأَبِي وَأُمّي يَا رَسُولَ اللَّه، لَيْسَ هَكَذَا! قَالَ، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَالَ عَبّاسٌ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوَاءٌ، مَا يَضُرّك بَدَأْت بِالْأَقْرَعِ أَمْ عُيَيْنَةَ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بِأَبِي أنت وأمّى، ما أنت بشاعر ولا رواية، وَلَا يَنْبَغِي لَك. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْطَعُوا لِسَانَهُ عَنّي. فَأَعْطُوهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ.
وَيُقَالُ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ، فَفَزِعَ مِنْهَا أُنَاسٌ، وَقَالُوا: أَمَرَ بِعَبّاسٍ يُمَثّلُ بِهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيمَا أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ النّاسَ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللَّه بْنُ جَعْفَرٍ. عَنْ ابْنِ أبى عون، عن سعد، عن
__________
[ (1) ] العبيد: فرس عباس بن مرداس. (شرح أبى ذر، ص 413) .
[ (2) ] أفائل: جمع أفيل، وهي الصغار من الإبل. (شرح أبى ذر، ص 413) .
[ (3) ] ذا تدرإ: أى ذا دفع، من قولك، درأه إذا دفعه. (شرح أبى ذر، ص 413) .
[ (4) ] فى الأصل: «وما كان بدرا» وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 137) . وعن ابن كثير يروى عن موسى ابن عقبة. (البداية والنهاية ج 4، ص 360) .(3/947)
إبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَا: كَانَتْ الْعَطَايَا فَارِعَةً [ (1) ] مِنْ الْغَنَائِمِ.
قَالَ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ مِنْ الْخُمُسِ.
فَأَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ أَنّهَا مِنْ الْخُمُسِ.
قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِيّ! فَقَالَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أما وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ [ (2) ] الْأَرْضِ كُلّهَا مِثْلَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ، وَلَكِنّي تَأَلّفْتهمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ.
وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضّةٌ يَقْبِضُهَا لِلنّاسِ عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّه، فَأَتَاهُ ذُو الخويصرة التّمِيمِيّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّه! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَك! فَمَنْ يَعْدِلْ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ: يا رسول اللَّه، إيذن لي أن أضرب عُنُقَهُ! قَالَ:
دَعْهُ، إنّ لَهُ أَصْحَابًا! يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ، يَنْظُرُ [الرّامِي] فِي قُذَذِهِ [ (3) ] فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمّ يَنْظُرُ فِي رِصَافِهِ [ (4) ] فَلَا يَرَى شَيْئًا، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّمَ، يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، رأيتهم إنّ فيهم رجلا
__________
[ (1) ] أى مرتفعة صاعدة من أصلها قبل أن تخمس. (النهاية، ج 3، ص 196) .
[ (2) ] طلاع الأرض: أى ما يملؤها حتى يطلع عنها ويسيل. (النهاية، ج 3، ص 42) .
[ (3) ] القذذ: ريش السهم. (الصحاح، ص 568) .
[ (4) ] الرصاف: عقب يلوى على مدخل النصل فيه. (النهاية، ج 2، ص 83) .(3/948)
أَسْوَدَ، إحْدَى يَدَيْهِ [مِثْلُ ثَدْيِ] [ (1) ] الْمَرْأَةِ أَوْ كَبَضْعَةٍ تَدَرْدَر [ (2) ] . فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْت عَلِيّا يُحَدّثُ هَذَا الْحَدِيثَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَئِذٍ وَرَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي تِلْكَ الْعَطَايَا، وَهُوَ يَقُولُ: إنّهَا الْعَطَايَا مَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّه! قُلْت: أَمَا واللَّه لَأُبَلّغَنّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُلْت. فَجِئْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَتَغَيّرَ لَوْنُهُ حَتّى نَدِمْت عَلَى مَا صَنَعْته، فَوَدِدْت أَنّي لَمْ أُخْبِرْهُ، ثُمّ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّه أَخِي مُوسَى! قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ!
وَكَانَ الْمُتَكَلّمُ بِهَذَا مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ الْعَمْرِيّ. ثُمّ أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ النّاسِ وَالْغَنَائِمِ، ثُمّ فضّلها [ (3) ] عَلَى النّاسِ، فَكَانَتْ سِهَامَهُمْ، لِكُلّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أَخَذَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ شَاةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ.
ذِكْرُ وَفْدِ هَوَازِنَ
قَالُوا: فَقَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ، وَكَانَ فِي الْوَفْدِ عَمّ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ، قَالَ يَوْمَئِذٍ: يَا رَسُولَ اللَّه، إنّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ مَنْ كَانَ يَكْفُلُك مِنْ عَمّاتِك وَخَالَاتِك وَحَوَاضِنِك، وَقَدْ حَضَنّاك فى حجورنا،
__________
[ (1) ] الزيادة عن مسلم. (الصحيح، ج 2، ص 744) .
[ (2) ] تدردر: أى ترجرج تجيء وتذهب، والأصل تتدردر، فحذف إحدى التاءين تخفيفا.
(النهاية، ج 2، ص 20) .
[ (3) ] فضها: أى فرقها. (الصحاح، ص 1098) .(3/949)
وَأَرْضَعْنَاك [ (1) ] بِثُدِيّنَا، وَلَقَدْ رَأَيْتُك مُرْضَعًا فَمَا رَأَيْت مُرْضَعًا خَيْرًا مِنْك، وَرَأَيْتُك فَطِيمًا فَمَا رَأَيْت فَطِيمًا خَيْرًا مِنْك، ثُمّ رَأَيْتُك شَابّا فَمَا رَأَيْت شَابّا خَيْرًا مِنْك، وَقَدْ تَكَامَلَتْ فِيك خِلَالُ الْخَيْرِ، وَنَحْنُ مَعَ ذَلِكَ أَهْلُك وَعَشِيرَتُك، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنّ اللَّه عَلَيْك! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَدْ اسْتَأْنَيْت بِكُمْ حَتّى ظَنَنْت أَنّكُمْ لَا تَقْدَمُونَ، وَقَدْ قُسِمَ السّبْيُ، وَجَرَتْ فِيهِمْ السّهْمَانُ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا بِإِسْلَامِ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَكَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ وَالْمُتَكَلّمَ أَبُو صُرَدٍ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه إنّا أَهْلُك وَعَشِيرَتُك، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْك. يَا رَسُولَ اللَّه، إنّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ عَمّاتُك وَخَالَاتُك وَحَوَاضِنُك اللّاتِي كُنّ يَكْفُلْنَك، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا [ (2) ] لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَلِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمّ نَزَلَا مِنّا بِمِثْلِ الّذِي نَزَلْت بِهِ، رَجَوْنَا عَطْفَهُمَا وَعَائِدَتَهُمَا [ (3) ] ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. وَيُقَالُ: إنّهُ قَالَ يَوْمَئِذٍ- أَبُو صُرَدٍ: إنّمَا فِي هَذِهِ الْحَظَائِرِ أَخَوَاتُك وَعَمّاتُك وَبَنَاتُ عَمّاتِك وَخَالَاتُك وَبَنَاتُ خَالَاتِك، وَأَبْعَدُهُنّ قَرِيبٌ مِنْك. يَا رَسُولَ اللَّه! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، إنّهُنّ حَضَنّك فِي حُجُورِهِنّ، وَأَرْضَعْنَك بِثُدِيّهِنّ، وَتَوَرّكْنَك عَلَى أَوْرَاكِهِنّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ! وَقَالَ:
أُمْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّه فِي كَرَمٍ ... فَإِنّك الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدّخِرُ
أُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ عَاقَهَا [ (4) ] قدر ... ممزّق شملها فى دهرها غير
__________
[ (1) ] فى الأصل: «رضعناك» .
[ (2) ] فى الأصل: «ملجأنا» . ولو أن ملحنا: أى لو كنا أرضعنا لهما. (النهاية، ج 4، ص 105) .
[ (3) ] العائدة: الفضل. (شرح أبى ذر، ص 411) .
[ (4) ] فى الأصل: «إعتاقها» ، والمثبت من السهيل. (الروض الأنف، ج 2، ص 306) .(3/950)
أُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْت تَرْضَعُهَا ... إذْ فوك مملوءة من محضها الدّرر [ (1) ]
اللآلي إذْ كُنْت طِفْلًا كُنْت تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَزِينُك [ (2) ] مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
أَلَا تَدَارَكَهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النّاسِ حَتّى حِينَ يُخْتَبَرُ
لَا تَجْعَلَنّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ [ (3) ] ... وَاسْتَبْقِ مِنّا فَإِنّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إنّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ قَدُمَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدّخَرُ
فَقَالَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَصْدَقُهُ، وَعِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، خَيّرْتنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَبَيْنَ أَمْوَالِنَا، وَمَا كُنّا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا، فَرُدّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمّا مَا لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَأَسْأَلُ لَكُمْ النّاسَ، وَإِذَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُولُوا، إنّا لَنَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّه إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللَّه! فَإِنّي سَأَقُولُ لَكُمْ، مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَطْلُبُ لَكُمْ إلَى النّاسِ. فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظّهْرَ بِالنّاسِ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّه إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللَّه! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أما ما كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: فَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه! وقالت الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه! قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمّا أَنَا وَبَنُو تميم فلا! وقال عيينة بن حصن:
__________
[ (1) ] أى الدفعات الكثيرة من اللبن. (السيرة الحلبية، ج 2، ص 250) .
[ (2) ] فى الأصل: «يريبك» وأثبتنا ما فى السهيل. (الروض الأنف، ج 2، ص 306) .
وانظر أيضا ابن كثير. (البداية والنهاية، ج 4، ص 353) .
[ (3) ] أى تفرقت كلمتهم، أو ذهب عزهم. (القاموس المحيط، ج 3، ص 404) .(3/951)
أَمّا أَنَا وَفَزَارَةُ فَلَا! وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ: أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا! قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه! فَقَالَ الْعَبّاسُ:
وَهّنْتُمُونِي [ (1) ] ! ثُمّ قَامَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الناس خطيبا فقال: إنّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ جَاءُوا مُسْلِمِينَ، وَقَدْ كُنْت اسْتَأْنَيْت بِهِمْ فَخَيّرْتهمْ بَيْنَ النّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالنّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنّ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَرُدّهُ فَلْيُرْسِلْ، وَمَنْ أَبَى مِنْكُمْ وَتَمَسّكَ بِحَقّهِ فَلْيَرُدّ عَلَيْهِمْ، وَلْيَكُنْ فَرْضًا عَلَيْنَا سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ مَا يَفِيءُ اللَّه بِهِ عَلَيْنَا! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، رَضِينَا وَسَلّمْنَا! قَالَ: فَمُرُوا عُرَفَاءَكُمْ أَنْ يَدْفَعُوا ذَلِكَ إلَيْنَا حَتّى نَعْلَمَ.
فَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَطُوفُ عَلَى الْأَنْصَارِ يَسْأَلُهُمْ: هَلْ سَلّمُوا وَرَضُوا؟ فَخَبّرُوهُ أَنّهُمْ سَلّمُوا وَرَضُوا، وَلَمْ يَتَخَلّفْ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إلَى الْمُهَاجِرِينَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ يَطُوفُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، ثُمّ جَمَعُوا الْعُرَفَاءَ، وَاجْتَمَعَ الْأُمَنَاءُ الّذِينَ أَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاتّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، تَسْلِيمِهِمْ وَرِضَاهُمْ، وَدَفَعَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السّبْيِ. فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الّتِي عِنْدَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدْ خُيّرَتْ تُقِيمُ أَوْ تَرْجِعُ إلَى قَوْمِهَا، فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا فَرُدّتْ إلَيْهِمْ. وَاَلّتِي عِنْدَ عَلِيّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَابْنِ عُمَرَ، رَجَعْنَ إلَى قَوْمِهِنّ. وَأَمّا الّتِي عِنْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ فَاخْتَارَتْ سَعْدًا وَلَهَا مِنْهُ وَلَدٌ.
وَكَانَ عُيَيْنَةُ قَدْ خَيّرُوهُ فِي السّبْيِ فَأَخَذَ رَأْسًا مِنْهُمْ، نَظَرَ إلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ أُمّ الْحَيّ! لَعَلّهُمْ أَنْ يُغْلُوا بِفِدَائِهَا. فإنّه عسى أن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وهبتمونى» ، ووهنتمونى: أى أضعفتمونى. (الصحاح، ص 2216) .(3/952)
يَكُونَ لَهَا فِي الْحَيّ نَسَبٌ! فَجَاءَ ابْنُهَا إلَى عُيَيْنَةَ فَقَالَ: هَلْ لَك فِي مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا فَرَجَعَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ سَاعَةً، فَجَعَلَتْ الْعَجُوزُ تَقُولُ لِابْنِهَا: مَا أَرَبُك [ (1) ] فِي نَقْدِ مِائَةِ نَاقَةٍ؟ اُتْرُكْهُ، فَمَا أَسْرَعَ مَا يَتْرُكُنِي بِغَيْرِ فِدَاءٍ! فَلَمّا سَمِعَهَا عُيَيْنَةُ قَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ خُدْعَةً! واللَّه مَا أَنَا مِنْ هَذِهِ إلّا فِي غُرُورٍ وَلَا جَرَمَ، واللَّه لَأُبَاعِدَنّ أَثَرَك مِنّي! قَالَ: ثُمّ مَرّ بِهِ ابْنُهَا فَقَالَ: هَلْ لَك فِي الْعَجُوزِ فِيمَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ! قَالَ ابْنُهَا: لَا أَزِيدُك عَلَى خَمْسِينَ. قَالَ عُيَيْنَةُ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: فَلَبِثَ سَاعَةً فَمَرّ بِهِ مَرّةً أُخْرَى وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هَلْ لَك فِي الْعَجُوزِ فِي الّذِي بَذَلْت لِي؟
قَالَ الْفَتَى: لَا أَزِيدُك عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَرِيضَةً [ (2) ] ، هَذَا الّذِي أَقْوَى عَلَيْهِ. قَالَ عُيَيْنَةُ: واللَّه لَا أَفْعَلُ، بَعْدَ مِائَةِ فَرِيضَةٍ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ! فلمّا تخوّف عيينة أن يتفرّق الناس ويرتحلون جَاءَهُ عُيَيْنَةُ فَقَالَ: هَلْ لَك إلَى مَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ؟ قَالَ الْفَتَى: هَلْ لَك إلَى عَشْرِ فَرَائِضَ أُعْطِيكهَا؟
قَالَ عُيَيْنَةُ: واللَّه لَا أَفْعَلُ! فَلَمّا رَحَلَ النّاسُ نَادَاهُ عُيَيْنَةُ: هَلْ لَك إلَى مَا دَعَوْتنِي إلَيْهِ إنْ شِئْت؟ قَالَ الْفَتَى: أَرْسِلْهَا وَأَحْمِلُك. قَالَ: لَا واللَّه، مَا لِي بِحَمْلِك حَاجَةٌ. قَالَ: وَأَقْبَلَ عُيَيْنَةُ عَلَى نَفْسِهِ لَائِمًا لَهَا، وَيَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا. قَالَ الْفَتَى: أَنْتَ صَنَعْت هَذَا بِنَفْسِك، عَمَدْت إلَى عَجُوزٍ كَبِيرَةٍ، واللَّه مَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلَا بَطْنُهَا، بِوَالِدٍ، وَلَا فُوهَا [ (3) ] بِبَارِدٍ، وَلَا صَاحِبُهَا بِوَاجِدٍ [ (4) ] ، فَأَخَذْتهَا مِنْ بَيْنِ مَنْ تَرَى. فَقَالَ عُيَيْنَةُ:
خُذْهَا لَا بَارَكَ اللَّه لَك فِيهَا، وَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا! قال، يقول الفتى:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ما أريك» . والأرب: الحاجة. (الصحاح، ص 97) .
[ (2) ] الفريضة: البعير المأخوذ فى الزكاة، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع حتى سمى البعير فريضة فى غير الزكاة. (النهاية، ج 3، ص 194) .
[ (3) ] فى الأصل: «ولا فوقها» ، والتصحيح من ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 133) .
[ (4) ] أى لا يحزن زوجها عليها لأنها عجوز كبيرة. (شرح أبى ذر، ص 411) .(3/953)
يَا عُيَيْنَةُ، إنّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَسَا السّبْيَ فَأَخْطَأَهَا مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْكُسْوَةِ، فَمَا أَنْتَ كَاسِيهَا ثَوْبًا؟ قَالَ: لَا واللَّه، مَا ذَلِكَ لَهَا عِنْدِي! قَالَ: لَا تَفْعَلْ! فَمَا فَارَقَهُ حَتّى أَخَذَ مِنْهُ شَمْلَ ثَوْبٍ، ثُمّ وَلّى الْفَتَى وَهُوَ يَقُولُ: إنّك لَغَيْرُ بَصِيرٍ بِالْفُرَصِ! وَشَكَا عُيَيْنَةُ إلَى الْأَقْرَعِ مَا لَقِيَ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إنّك واللَّه مَا أَخَذْتهَا بِكْرًا غَرِيرَةً [ (1) ] ، وَلَا نَصَفًا [ (2) ] وَثِيرَةً [ (3) ] ، وَلَا عَجُوزًا أَصِيلَةً، عَمَدْت إلَى أَحْوَجِ شَيْخٍ فِي هَوَازِنَ فَسَبَيْت امْرَأَتَهُ. قَالَ عُيَيْنَةُ: هُوَ ذاك.
وتمسك بَنُو تَمِيمٍ مَعَ الْأَقْرَعِ بِالسّبْيِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ سِتّ فَرَائِضَ، ثَلَاثَ حِقَاقٍ [ (4) ] وَثَلَاثَ جِذَاعٍ [ (5) ] .
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ وَلَاءٌ أَوْ رِقّ لَثَبَتَ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ إنّمَا هُوَ إسَارٌ وَفِدْيَةٌ. وَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيّ عَلَى مَقَاسِمِ الْمَغْنَمِ.
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لِلْوَفْدِ: مَا فَعَلَ مَالِكٌ [ (6) ] ؟ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّه، هَرَبَ فَلَحِقَ بِحِصْنِ الطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنّهُ إنْ كَانَ يَأْتِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمر
__________
[ (1) ] الغرية: المتوسطة من النساء فى السن. (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (2) ] النصف: المرأة بين الحدثة والمسنة. (الصحاح، ص 1432) .
[ (3) ] وثيرة: أى كثيرة اللحم. (الصحاح، ص 844) .
[ (4) ] الحقاق: جمع الحق، والحق من الإبل الداخلة فى السنة الرابعة. (القاموس المحيط، ج 3، ص 221) .
[ (5) ] الجذاع: جمع الجذع، وهو من الإبل ما دخل فى السنة الخامسة. (النهاية، ج 1، ص 150) .
[ (6) ] أى مالك بن عوف(3/954)
بِحَبْسِ أَهْلِ مَالِكٍ بِمَكّةَ عِنْدَ عَمّتِهِمْ أُمّ عَبْدِ اللَّه بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ. فَقَالَ الْوَفْدُ:
يَا رَسُولَ اللَّه، أُولَئِكَ سَادَتُنَا وَأَحِبّتُنَا إلَيْنَا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
إنّمَا أُرِيدُ بِهِمْ الْخَيْر.
فَوَقَفَ مَالَ مَالِكٍ فَلَمْ يُجْرِ فِيهِ السّهْمَ، فَلَمّا بَلَغَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ الْخَبَرُ، وَمَا صَنَعَ فِي قَوْمِهِ، وَمَا وَعَدَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنّ أَهْلَهُ وَمَالَهُ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ خَافَ مَالِكٌ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لَهُ مَا قَالَ فَيَحْبِسُونَهُ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَقُدّمَتْ حَتّى وُضِعَتْ بِدَحْنَا [ (1) ] وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ لَيْلًا، فَخَرَجَ مِنْ الْحِصْنِ فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ لَيْلًا فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى دَحْنَا، فَرَكِبَ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَحِقَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُدْرِكُهُ قَدْ رَكِبَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ، فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ. وَيُقَالُ:
لَحِقَهُ بِمَكّةَ، وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ الطّائِفِ مِنْ هَوَازِنَ وَفَهْمٍ، فَكَانَ قَدْ ضَوَى إلَيْهِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى الشّرْكِ، وَيُغِيرُ بِهِمْ عَلَى ثَقِيفٍ، يُقَاتِلُهُمْ بِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُ لِثَقِيفٍ سَرْحٌ إلّا أَغَارَ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَجَعَ حِينَ رَجَعَ وَقَدْ سَرّحَ النّاسُ مَوَاشِيَهُمْ، وَأَمِنُوا فِيمَا يَرَوْنَ حَيْثُ انْصَرَفَ عَنْهُمْ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكان لَا يَقْدِرُ عَلَى سَرْحٍ إلّا أَخَذَهُ، وَلَا عَلَى رَجُلٍ إلّا قَتَلَهُ، فَكَانَ قَدْ بَعَثَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُمُسِ مِمّا يُغِيرُ بِهِ، مَرّةً مِائَةَ بَعِيرٍ وَمَرّةً أَلْفَ شَاةٍ، وَلَقَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحٍ لِأَهْلِ الطّائِفِ فَاسْتَاقَ لَهُمْ أَلْفَ شَاةٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ الثّقَفِيّ:
تَهَابُ الأعداء جانبنا ... ثمّ تغزونا بنو سلمه
__________
[ (1) ] دحنا: من مخاليف الطائف. (معجم البلدان، ج 4 ص 43) .(3/955)
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمُ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرُمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كَانُوا أُولِي نَقِمَهْ
فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ:
مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ ... فِي النّاسِ كُلّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
أوفى وأعطى للجزيل [ (1) ] إذا اجتدى ... ومتى تشأ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَدِ [ (2) ]
وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ [ (3) ] أَنْيَابَهَا ... بِالْمَشْرَفِيّ [ (4) ] وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ [ (5) ]
فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ [ (6) ] خَادِرٌ [ (7) ] فِي مَرْصَدِ
قَالُوا: لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتّى كَثُرَتْ الْقَالَةُ [ (8) ] حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قومه، وأمّا حِينَ الْقِتَالِ فَنَحْنُ أَصْحَابُهُ، وَأَمّا حِينَ الْقَسْمِ فَقَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَوَدِدْنَا أَنّا نَعْلَمُ مِمّنْ كَانَ هذا! إن كان هذا من اللَّه
__________
[ (1) ] الجزيل: العطاء الكثير. واجتدى: أى طلب منه الجدوى، وهو العطية. (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (2) ] فى الأصل: «عما يكون فى غد» ، ولا يستقيم الوزن بها، وما أثبتناه عن ابن إسحاق.
(السيرة النبوية، ج 4، ص 134) .
[ (3) ] عردت: أى عوجت. (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (4) ] المشرفي: السيف. قال أبو عبيدة: نسبت السيوف المشرفية إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، يقال سيف مشرفي ولا يقال مشارفى، لأن الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن. (الصحاح، ص 1380) .
[ (5) ] المهند: السيف المطبوع من حديد الهند. (الصحاح، ص 554) .
[ (6) ] فى الأصل: «المياة» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 4، ص 134) .
والهباءة: الغبرة. (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (7) ] الخادر: الداخل فى خدره، والخدر هنا غابة الأسد (شرح أبى ذر، ص 412) .
[ (8) ] القالة: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض. (النهاية، ج 3، ص 284) .(3/956)
صَبَرْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ رَأْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْتَبْنَاهُ.
فَبَلَغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا يَقُولُ فِيّ قَوْمُك؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: أَمّا حِينَ الْقِتَالِ فَنَحْنُ أَصْحَابُهُ، وَأَمّا حِينَ الْقَسْمِ فَقَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَوَدِدْنَا أَنّا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هَذَا! إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ اللهِ صَبَرْنَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْتَبْنَاهُ. فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ فَقَالَ سَعْدٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إلّا كَأَحَدِهِمْ، وَإِنّا لَنُحِبّ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاجْمَعْ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ. فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ، فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ جَاءَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْغَضَبُ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ [ (1) ] وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللهُ، وَعَالَةً [ (2) ] فَأَغْنَاكُمْ اللهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا:
بَلَى، اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ! قَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟
قَالُوا: وَمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِرَسُولِ اللهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ: أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك، وَمَخْذُولًا [ (3) ] فَنَصَرْنَاك،
__________
[ (1) ] الجدة والموجدة: الغضب. (الصحاح، ص 544) .
[ (2) ] العالة: الفقراء. (شرح أبى ذر، ص 414) .
[ (3) ] المخذول: المتروك. (شرح أبى ذر، ص 414) .(3/957)
وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك [ (1) ] ! وَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهِ قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْت شِعْبَ الْأَنْصَارِ. أَكْتُبُ لَكُمْ بِالْبَحْرَيْنِ كِتَابًا مِنْ بَعْدِي تَكُونُ [ (2) ] لَكُمْ خَاصّةً دُونَ النّاسِ! فَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَنْصَارِ.
قَالُوا: وَمَا حَاجَتُنَا بِالدّنْيَا بَعْدَك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إمّا لَا فَسَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتّى تَلْقَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ، وَهُوَ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَعُمَانَ، وَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النّجُومِ. اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ! قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ حَظّا وَقَسْمًا. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرّقُوا.
وَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ [ (3) ] الْوَادِي
__________
[ (1) ] آسيناك: أى أعطيناك حتى جعلناك كأحدنا. (شرح أبى ذر، ص 415) .
[ (2) ] فى الأصل: «يكون» .
[ (3) ] فى الأصل: «إلى بحير؟ الوادي» . والمثبت من القسطلاني يروى عن الواقدي.
(شرح على المواهب اللدنية، ج 3، ص 48) .(3/958)
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ- فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ- وَلَمْ يَجُزْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَادِيَ إلّا مُحْرِمًا، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبّي حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ. وَيُقَالُ: لَمّا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَطَعَ التّلْبِيَةَ، فَلَمّا أَتَى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ عَلَى بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَدَخَلَ وَطَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ [ (1) ] يَرْمُلُ [ (2) ] مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، ثُمّ خَرَجَ فَطَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَتّى إذَا انْتَهَى إلَى الْمَرْوَةِ فِي الطّوَافِ السّابِعِ حَلَقَ رَأْسَهُ. عِنْدَ الْمَرْوَةِ، حَلَقَهُ أَبُو هِنْدٍ عَبْدُ بَنِي بَيَاضَةَ، وَيُقَالُ حَلَقَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ، وَلَمْ يَسُقْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا هَدْيًا. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ مِنْ لَيْلَتِهِ فَكَانَ كَبَائِتٍ بِهَا، فَلَمّا رَجَعَ إلَى الْجِعِرّانَةِ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَسَلَكَ فِي وَادِي الْجِعِرّانَةِ، وَسَلَكَ مَعَهُ حَتّى خَرَجَ عَلَى سَرِفَ، ثُمّ أَخَذَ الطّرِيقَ حَتّى انْتَهَى إلَى مَرّ الظّهْرَانِ.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ، وَخَلّفَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يُعَلّمَانِ النّاسَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ فِي الدّينِ. وَقَالَ لَهُ: أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسْتَعْمِلُك؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: اسْتَعْمَلْتُك عَلَى أَهْلِ اللهِ، بَلّغْ عَنّي أَرْبَعًا: لَا يَصْلُحُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا بَيْعٌ وَسَلَفٌ، وَلَا بَيْعٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ، ولا تأكل ربح ما ليس عندك!
وأقام لِلنّاسِ الْحَجّ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ تِلْكَ السّنَةَ- وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ- بِغَيْرِ تَأْمِيرٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَجّ، ولكنه أمير مكّة، وحجّ
__________
[ (1) ] أشواط: جمع شوط، والمراد به المرة الواحدة من الطواف حول البيت وهو فى الأصل مسافة من الأرض يعدوها الفرس (النهاية، ج 2، ص 240) .
[ (2) ] رمل: أى أسرع فى المشي. (النهاية، ج 2، ص 104) .(3/959)