[المقدمة]
مقدمة التحقيق
ولد أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ بالمدينة سنة 130 هـ في آخر خلافة مروان ابن محمد، فيما يذكر تلميذه وكاتبه ابن سعد [ (1) ] .
وقد ذكر الصفدي [ (2) ] وابن تغرى بردى [ (3) ] أنه ولد سنة 129 هـ. ويذكر أبو الفرج الأصفهانى أن أمه هي بنت عيسى بن جعفر بن سائب خاثر، التي كان والدها فارسيا [ (4) ] .
وكان الواقدي مولى لبنى سهم، إحدى بطون بنى أسلم [ (5) ] ، وليس كما ذكر ابن خلكان من أنه كان مولى لبنى هاشم [ (6) ] .
ولم تفض المصادر في أخبار الواقدي في بدء حياته، ولكن من الواضح أنه اجتهد منذ سن مبكرة في جميع المعلومات عن المغازي والسيرة النبوية.
روى ابن عساكر [ (7) ] فيما يذكر المسيبى: كان الواقدي يجلس إلى أسطوانة في مسجد المدينة، وسئل: أى شيء تدرس؟ قال: جزئى من المغازي. وأورد الخطيب البغدادي نفس الخبر عن السمي [ (8) ] .
__________
[ (1) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77.
[ (2) ] الوافي بالوفيات، ج 4، ص 238.
[ (3) ] النجوم الزاهرة، ج 2، ص 184.
[ (4) ] الأغانى، ج 8، ص 322.
[ (5) ] الطبقات، ج 5، ص 314، عيون الأثر، ج 1، ص 17، الفهرست لابن النديم، ص 144، تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 3 (ب) ، تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 348، سير أعلام النبلاء، ج 7، ورقة 117 (ب) ، لسان الميزان، ج 6، ص 852، شذرات الذهب، ج 2، ص 18، الوافي بالوفيات، ج 4، ص 238، الجرح والتعديل، ج 4، ص 20، الديباج المذهب، ص 230، تهذيب التهذيب، ج 9، ص 363.
[ (6) ] وفيات الأعيان، ج 1، ص 640.
[ (7) ] تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 5 (1) .
[ (8) ] تاريخ بغداد، ج 3، ص 7.(المقدمة/5)
وقد أفاضت أكثر المراجع في ذكر عناية الواقدي بجمع التفاصيل عن الأخبار والأحاديث والروايات المختلفة، وأشادت بجهوده فى هذا السبيل.
روى ابن عساكر، والخطيب البغدادي، وابن سيد الناس [ (1) ] عن الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء، ولا مولى لهم إلا سألته:
هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمنى مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه.
وقد رويت أخبار مشابهة عن هارون الفروى، قال: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة، فقلت: أين تريد؟ قال: أريد أن أمضى إلى حنين، حتى أرى الموضع والوقعة [ (2) ] .
ويشهد لنباهة الواقدي في هذا الشأن ما ذكر من أن هارون الرشيد، ويحيى بن خالد البرمكي- حين زارا المدينة في حجّهما- طلبا من يدلهما على قبور الشهداء والمشاهد، فدلوهما على الواقدي الذي صحبهما في زيارتهما، ولم يدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مرّ بهما عليه [ (3) ] .
وكان لقاء الواقدي بيحيى بن خالد خيرا وبركة على الواقدي، وقد ظلت هذه الصّلة بينهما حتى بعد نكبة البرامكة [ (4) ] . وقد صرف الواقدي المنحة التي منحه إياها هارون الرشيد- وقدرها عشرة آلاف درهم- فى قضاء ديون كانت قد تراكمت عليه، كما أنفق منها على زواج بعض ولده، وبقي في يسر وسعة [ (5) ] .
وقد أجمعت كل المصادر التي ترجمت للواقدي على أنه كان جوادا كريما معروفا بالسخاء، مما سبّب له اضطرابا ماديا، ظلّ يعانى منه طول حياته [ (6) ] .
__________
[ (1) ] تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 5 (1) ، تاريخ بغداد، ج 3، ص 6، عيون الأثر، ج 1، ص 18.
[ (2) ] تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 5 (1) ، تاريخ بغداد، ج 3، ص 6، عيون الأثر، ج 1، ص 18.
[ (3) ] انظر القصة بتمامها في ابن سعد (الطبقات، ج 5، ص 315) .
[ (4) ] الطبقات، ج 5، ص 319.
[ (5) ] الطبقات، ج 5، ص 315.
[ (6) ] تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 5 (1) ، تاريخ بغداد، ج 3، ص 3، عيون الأثر، ج 1، ص 17.(المقدمة/6)
شخوصه إلى العراق:
وفي سنة 180 هـ غادر أبو عبد الله المدينة إلى العراق [ (1) ] . فيروى الخطيب البغدادي أن الواقدي قال: كنت حناطا (بائع حنطة) بالمدينة، فى يدي مائة ألف درهم للناس أضراب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق، فقصدت يحيى بن خالد [ (2) ] . أما ابن سعيد فيقول: إنه ذهب إلى العراق في دين لحقه [ (3) ] .
ويبدو أن السبب الحقيقي لنزوحه إلى العراق هو رغبته في لقاء يحيى بن خالد البرمكي، حيث جذبت شخصية الواقدي اهتمام يحيى حين التقيا في الحج بالمدينة، فكأنما أراد الواقدي أن يخرج بعلمه وآماله إلى مجال أرحب، حيث الأضواء تتألق فى بغداد، لؤلؤة الرشيد. ويؤيد هذا ما يذكره ابن سعد في معرض آخر فيقول عن الواقدي: ثم إن الدهر أعضّنا، فقالت لى أم عبد الله: يا أبا عبد الله، ما قعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن تسير إليه حيث استقرّت به الدار، فرحلت من المدينة [ (4) ] . وعند وصوله إلى بغداد، وجد الخليفة والبلاط قد انتقلوا إلى الرقة بالشام، فأزجى مطيته نحو الشام، ولحق بهم هناك [ (5) ] . فتلقاه يحيى بن خالد بما عرف عن البرامكة من سماحة وأريحية.
وفي رحاب البرامكة أقبل الخير على الواقدي من كل وجه، فعطاياهم له موصولة بعطايا الرشيد وابنه المأمون. يحدّثنا الواقدي فيقول: صار إلىّ من السلطان ستمائة ألف درهم، ما وجبت علىّ فيها الزكاة [ (6) ] . ويرجع الواقدي من الرقة إلى بغداد، ويبقى فيها حتى يعود المأمون من خراسان، ويجعله قاضيا لعسكر المهدى في الجانب الشرقي من بغداد، فيما يذكر ابن سعد [ (7) ] .
__________
[ (1) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77، تاريخ بغداد، ج 3، ص 4.
[ (2) ] تاريخ بغداد، ج 3، ص 4.
[ (3) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77.
[ (4) ] الطبقات، ج 5، ص 315.
[ (5) ] انظر تفاصيل رحلته إلى الشام في ابن سعد (الطبقات، ج 5، ص 315) .
[ (6) ] تاريخ بغداد، ج 3، ص 20.
[ (7) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77.(المقدمة/7)
أما ابن خلكان، فينقل عن ابن قتيبة، أنّ الواقدي توفى وهو قاض بالجانب الغربي من بغداد [ (1) ] . وقد ناقش هوروفتس هذا الرأى، مخطئا ابن خلكان، فيقول: إنه- أى ابن خلكان- قد أخطأ في فهم قول ابن قتيبة. ونصّه:
وتوفى الواقدي سنة سبع ومائتين، وصلى عليه محمد بن سماعة التميمي، وهو يومئذ قاض على الجانب الغربي. وواضح من هذا النصّ أن الذي كان قاضيا على الجانب الغربي من بغداد هو محمد بن سماعة، وليس الواقدي [ (2) ] .
وليس ثمة شك في أن الواقدي توفى وهو قاض على الجانب الشرقىّ ببغداد، على أنه كان قد أقام مدة في الجانب الغربي قبل أن يوليه المأمون قاضيا على عسكر المهدى، كما أجمعت مصادر عدة على ذلك. ولما انتقل الواقدي من الجانب الغربي يقال إنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر [ (3) ] .
أما ياقوت [ (4) ] فيذكر أن هارون الرشيد قد ولى الواقدي القضاء بشرقىّ بغداد قبل أن يوليه المأمون قضاء عسكر المهدى. وهذا أقرب إلى الصواب، فليس من المعقول أن تتأخر تولية الواقدي القضاء حتى يرجع المأمون من خراسان ويوليه، فقد كان الواقدي على صلة طيبة بهارون الرشيد.
وعلى الرغم من صلة الصداقة المعقودة بين الواقدي ويحيى بن خالد والبرامكة، فإن ذلك لم يمنع المأمون من توليته القضاء، بل كرمه ورعاه بعد نكبة البرامكة [ (5) ] . وقد ذهب المأمون في تكريم الواقدي إلى أبعد من هذا، إذ ولّاه منصبا يتمتع فيه بقوّة السلطان والنفوذ. فيصف ابن حجر العسقلاني الواقدي بأنه أحد الأعلام، وقاضى العراق وبغداد [ (6) ] . ويورد السهمي في أثناء ترجمة الأشعث بن هلال قاضى جرجان، أن
__________
[ (1) ] وفيات الأعيان، ج 1، ص 641.
[ (2) ] . 513، 1928 IslamicCulture، The earliest biograophet and their auth، J. Horoviz 093794241، 193794241
[ (3) ] الوافي بالوفيات، ج 4، ص 238، تاريخ بغداد، ج 3، ص 5، عيون الأثر، ج 1، ص 18، سير أعلام النبلاء، ج 7، ورقة 118.
[ (4) ] معجم الأدباء، ج 18، ص 279.
[ (5) ] شذرات الذهب، ج 2، ص 18.
[ (6) ] لسان الميزان، ج 6، ص 852.(المقدمة/8)
الواقدي ولّاه القضاء من بغداد [ (1) ] . وأخيرا يتربع الواقدي على قضاء عسكر المهدى مدّة أربع سنوات قبل وفاته [ (2) ] .
وعلى الرّغم من الصلات والأعطيات التي أغدقها هارون الرشيد ووزيره يحيى وابنه المأمون على الواقدي فإنه توفى ولم يكن يملك ما يكفن به، فأرسل المأمون بأكفانه [ (3) ] . وكان الواقدي قد أوصى إلى المأمون فقبل وصيته وقضى دينه [ (4) ] .
وفاته:
اختلف في تاريخ وفاته، فابن خلكان [ (5) ] يذكر أنه توفى سنة 206 هـ.
وتذكر مصادر أخرى ومنها طبقات ابن سعد أنه توفى فى ذى الحجة سنة 207 هـ[ (6) ] ويروى الخطيب البغدادي بسنده عن عبد الله الحضرمي أن الواقدي توفى سنة 209 هـ[ (7) ] .
وإذا كان لنا أن نرجح إحدى هذه الروايات، فأولاها بالقبول الرواية الثانية، التي ذكرها ابن سعد، وذلك لتلمذته له وقربه منه وكتابته له، ثم لتحديده ليلة الوفاة ويوم الدفن من الشهر والسنة إذ يقول: مات ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة سبع ومائتين، ودفن يوم الثلاثاء في مقابر الخيزران، وهو ابن ثمان وسبعين سنة [ (8) ] . وهذا بالإضافة إلى ورودها في أغلب المصادر.
__________
[ (1) ] تاريخ جرجان، ص 125.
[ (2) ] الوافي بالوفيات، ج 4، ص 238.
[ (3) ] تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 3 (ب) ، تاريخ بغداد، ج 3، ص 20.
[ (4) ] الطبقات، ج 5، ص 321.
[ (5) ] وفيات الأعيان، ج 1، ص 641.
[ (6) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77، تاريخ مدينة دمشق، ج 11، ورقة 3 (ب) ، تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 348، معجم الأدباء، ج 18، ص 281.
[ (7) ] تاريخ بغداد، ج 3، ص 20.
[ (8) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77.(المقدمة/9)
كتب الواقدي:
كان الواقدي يجتهد في جمع الأحاديث. وقد بلغ ما جمعه منها على ما يرويه على بن المديني عشرين ألف حديث [ (1) ] . ويروى ابن سيد الناس عن يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين ألف حديث.
وقد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع، وسؤاله من أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم، ما يقتضى انفرادا بالروايات، وأخبارا لا تدخل تحت الحصر [ (2) ] .
ويقول ابن النديم: إنه كان عنده غلامان يعملان ليلا ونهارا في نسخ الكتب.
وقد ترك عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله [ (3) ] .
وواضح أن الواقدي قد صرف عنايته للعلوم الإسلامية بعامة، وللتاريخ منها بخاصة. يقول إبراهيم الحربي: إنه كان أعلم الناس بأمر الإسلام. قال: فأما فى الجاهلية فلم يعلم فيها شيئا [ (4) ] .
ويتجلى هذا في وصف كاتبه وتلميذه ابن سعد وغيره له. يقول ابن سعد:
وكان عالما بالمغازى، والسيرة، والفتوح، واختلاف الناس في الحديث، والأحكام، واجتماعهم على ما اجتمعوا عليه، وقد فسر ذلك في كتب استخرجها ووضعها وحدّث بها [ (5) ] .
أما المصادر التي ذكرت كتبه، فإننا نورد كتبه هنا حسبما جاءت في الفهرست لابن النديم [ (6) ] ، مع المقارنة بغيره من المصادر:
1- كتاب التاريخ والمغازي والمبعث.
2- كتاب أخبار مكة
__________
[ (1) ] تاريخ بغداد، ج 3، ص 13.
[ (2) ] عيون الأثر، ج 1، ص 20.
[ (3) ] الفهرست، ص 144.
[ (4) ] سير أعلام النبلاء، ج 7، ورقة 117 (ب) .
[ (5) ] الطبقات، ج 5، ص 314.
[ (6) ] الفهرست، ص 144.(المقدمة/10)
3- كتاب الطبقات.
4- كتاب فتوح الشام.
5- كتاب فتوح العراق.
6- كتاب الجمل.
7- كتاب مقتل الحسين.
8- كتاب السيرة.
9- كتاب أزواج النبي.
10- كتاب الردّة والدّار.
11- كتاب حرب الأوس والخزرج.
12- كتاب صفيّن.
13- كتاب وفاة النبي.
14- كتاب أمر الحبشة والفيل.
15- كتاب المناكح.
16- كتاب السقيفة وبيعة أبى بكر.
17- كتاب ذكر القرآن.
18- كتاب سيرة أبى بكر ووفاته.
19- كتاب مراعى قريش والأنصار في القطائع، ووضع عمر الدواوين، وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها.
20- كتاب الرغيب في علم القرآن وغلط الرجال.
21- كتاب مولد الحسن والحسين ومقتل الحسين.
22- كتاب ضرب الدنانير والدراهم.
23- كتاب تاريخ الفقهاء.
24- كتاب الآداب.(المقدمة/11)
25- كتاب التاريخ الكبير.
26- كتاب غلط الحديث.
27- كتاب السنة والجماعة، وذم الهوى، وترك الخوارج في الفتن.
28- كتاب الاختلاف.
ويتفق هذا مع ما أورده ياقوت في كتابه معجم الأدباء [ (1) ] ، مع الاختلاف الآتي:
1- الكتاب رقم 6 يذكره باسم «كتاب يوم الجمل» .
2- الكتاب رقم 19 لم يذكر فيه العبارة الأخيرة، وهي «وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها» .
3- الكتاب رقم 20 يذكره باسم «كتاب الترغيب في علم القرآن» .
4- الكتاب رقم 21 يذكره على أنه كتابان، أحدهما «مولد الحسن والحسين» والآخر «مقتل الحسين» .
5- الكتاب رقم 22 يذكره باسم «السنة والجماعة وذم الهوى» .
وكذلك أورد الصفدي أسماء كتبه مع الاختلاف الآتي [ (2) ] :
1- لم يذكر الصفدي الكتابين رقم 8 وهو «كتاب السيرة» ، ورقم 12 وهو «كتاب صفين» .
2- الكتاب رقم 11 أورده باسم «حروب الأوس والخزرج» .
3- الكتاب رقم 18 أورده باسم «ذكر الأذان» .
4- الكتاب رقم 19 لم يذكر فيه العبارة الأخيرة وهي «وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها» كما لم يفعل ياقوت.
__________
[ (1) ] معجم الأدباء، ج 18، ص 281.
[ (2) ] الوافي بالوفيات، ج 4، ص 239.(المقدمة/12)
5- الكتاب رقم 20 أورده باسم «كتاب الترغيب في علم المغازي وغلط الرجال» 6- الكتاب رقم 21 ذكره باسم «كتاب مولد الحسن والحسين ومقتله» .
7- الكتاب رقم 22 ذكره باسم «كتاب ضرب الدنانير» .
8- الكتاب رقم 28 ذكره باسم «كتاب اختلاف أهل المدينة والكوفة في أبواب الفقه» .
وقد أورد صاحب كشف الظنون- فيما يذكره عنه صاحب هدية العارفين- هذه الكتب جميعا مع فارق بسيط جدا في بعض الأسماء ولم يزد عليها سوى كتاب واحد هو «تفسير القرآن» [ (1) ] ولعله هو الذي ذكره ابن النديم باسم «كتاب ذكر القرآن» .
ومن مجموع تصانيف الواقدي هذه كتابان لا نشك في نسبتهما إليه هما «كتاب المغازي» ، و «كتاب الردّة» ، على أن نقولا من كتبه الأخرى وجدت فى التآليف المتأخرة.
وإذا تأملنا عنوان الكتاب الأوّل كما يذكره ابن النديم وهو «كتاب التاريخ والمغازي والمبعث» يبدو لنا لأوّل وهلة أن «كتاب المغازي» جزء من كتاب ضخم يتضمن التاريخ والمغازي والمبعث، على نسق سيرة ابن إسحاق.
فابن سعد ينقل أحيانا عن الواقدي أخبارا تتعلق بما كان قبل البعثة [ (2) ] .
أما الطبري فيعتمد على الواقدي في ذكر بعض الأخبار كغزو الأحباش لليمن مثلا، ووفاة عبد الله بن عبد المطلب [ (3) ] .
وحين يتحدّث ابن كثير عن التبايعة لا يعتمد على الواقدي، ولكنه ينقل عن ابن إسحاق، وحين ينقل ابن كثير عن الواقدي أخبارا تتعلق بما قبل البعثة،
__________
[ (1) ] هدية العارفين، ج 2، ص 10.
[ (2) ] الطبقات، ج 1 (1) ، ص 22، ص 36، ص 37، ص 39، ص 40، ص 41 ... إلخ.
[ (3) ] تاريخ، ج 1، ص 942، ص 980.(المقدمة/13)
نراه ينقل عنه الأخبار التي تتعلق بقرب ظهور النبي [ (1) ] وولادته [ (2) ] .
ويمكن القول أن ما نقله ابن سعد، والطبري، عن الواقدي من أخبار الجاهلية، إنما هو من «كتاب التاريخ والمغازي والمبعث» ، وأن هذه الأقسام الثلاثة، تشبه المبتدأ والمبعث والمغازي من سيرة ابن إسحاق، وهذا الاستنتاج يصبح أقلّ قبولا حين نرى الأخبار الضئيلة في الجاهلية قبل الإسلام المنسوبة إلى الواقدي.
وقد رأينا ابن سعد، والطبري، وابن كثير ينقلون كثيرا عن الواقدي عند ذكر المغازي، فإذا كانت المغازي جزءا من كتاب كبير فإنه كان من المنتظر من هؤلاء المؤرخين أن ينقلوا من القسمين الآخرين من الكتاب، وهما التاريخ والمبعث.
ومن المهم في هذا الصدد أن نذكر أن الطبري حين يورد أخبار الجاهلية وما قبل الإسلام فإنه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي، وحين يأتى إلى ذكر المغازي فإنه ينقل مباشرة عن الواقدي. وهذا يدلّ على أن الطبري اعتمد على كتاب المغازي، ولم يفعل ذلك بالنسبة لأخبار الجاهلية وما قبل البعثة.
ويستدل من تسمية الكتاب «كتاب التاريخ والمغازي والمبعث» كما ورد في ابن النديم وغيره، أنه ليس كتابا واحدا، ولكنه ثلاثة كتب، هي: «كتاب المغازي» ، والكتابان الآخران ربما كانا أقساما من «كتاب التاريخ الكبير» ، أو «كتاب السيرة» .
وتبدو المشكلة عينها حين نتأمل عنوان كتابه «الردة والدار» فإن حروب الردّة ومقتل عثمان يثيران السؤال، إذ أنه ليس من المنطق أن يكونا جزءا من كتاب واحد، فبينهما من الزمن نحو ربع قرن! وإذا فمن المعقول أننا أمام كتابين، ولسنا أمام كتاب واحد. ويؤيد ذلك ما جاء في المصادر الأخرى، فقد ذكره السهيلي [ (3) ] باسم «كتاب الردة» فقط، وكذلك فعل ابن خير الإشبيلى في
__________
[ (1) ] البداية والنهاية، ج 2، ص 240.
[ (2) ] البداية والنهاية، ج 2، ص 264.
[ (3) ] الروض الأنف، ج 2، ص 132.(المقدمة/14)
فهرسته [ (1) ] . ويصفه اليافعي فى مرآة الجنان فيقول: ومنها- أى من كتب الواقدي- «كتاب الردة» ، ذكر فيه ارتداد العرب بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحاربة الصحابة بطلحة بن خويلد الأسدى، والأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب [ (2) ] . وكذلك ذكره حاجي خليفة بهذا الاسم [ (3) ] .
وأخيرا، يذكر بروكلمان أن هناك نسخة مخطوطة لهذا الكتاب عنوانها «كتاب الردة» وهي محفوظة فى مكتبة خدا بخش فى بانكيبور بالهند [ (4) ] . وقد اطلعنا عليها فوجدناها ليست خالصة للواقدي وإنما هي أخبار فى الردة نقل بعضها عن الواقدي وابن إسحاق.
وواضح أن ما نقله ابن سعد والطبري من أخبار الأحداث التي تلت وفاة النبي إنما كانت من كتاب الردّة للواقدي. وكذلك معظم ما ذكره ابن حبيش فى كتابه الغزوات [ (5) ] .
كتاب الطبقات:
نستطيع أن نتمثل هذا الكتاب فى ضوء كتاب الطبقات الكبير الذي ألفه تلميذه وكاتبه محمد بن سعد، فقد صنفه على غراره، ونقل عنه كثيرا.
والكاتب الوحيد الذي عاصر الواقدي فى التأليف عن الطبقات هو الهيثم بن عدى [ (6) ] . وعلى ذلك فإن الواقدي يعتبر من الرواد الذين أرسوا دعائم علم الرجال.
__________
[ (1) ] فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 237.
[ (2) ] مرآة الجنان، ج 2، ص 36.
[ (3) ] كشف الظنون، ج 2، ص 1420.
[ (4) ] انظر فهرس بانكيبور، ج 5، ص 108، رقم 1042.
[ (5) ] . 516، 1928، J. Horovitz, IslamicCulture
[ (6) ] ياقوت، معجم الأدباء، ج 19، ص 310.(المقدمة/15)
كتب الفتوح:
أما فتوح الشام وفتوح العراق للواقدي، فقد فقدا ولم نعثر على أثر لهما، وما يتداوله الناس اليوم باسم «فتوح الشام» و «فتوح العراق» وغيرها، ليست له، إذ أنها متأخرة عنه [ (1) ] .
وقد نقل البلاذري فى كتابه فتوح البلدان كثيرا عن الواقدي، ولا عجب فى ذلك، فقد كان من تلاميذ ابن سعد كاتب الواقدي، وكذلك نجد كثيرا من هذه النقول عند الطبري وابن كثير. فالطبرى ينقل عن الواقدي تلك الأحداث التي وقعت فى النصف الثاني الهجري وهي الأحداث التي عاشها الواقدي [ (2) ] .
وابن كثير ينقل عن الواقدي أيضا الحوادث التاريخية التي وقعت سنة 64 هـ[ (3) ]
. حول تشيع الواقدي:
لعل وجود كتابين للواقدي، أحدهما فى مولد الحسن والحسين ومقتل الحسين، والآخر فى مقتل الحسين خاصة، يوهم أنه كان شيعيا، كما ذكر ابن النديم، منفردا بهذا الرأى دون غيره، حيث يقول: وكان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية، وهو الذي روى أن عليا عليه السّلام كان من معجزات النبي صلّى الله عليه وسلم، كالعصا لموسى عليه السّلام، وإحياء الموتى لعيسى بن مريم عليه السّلام وغير ذلك من الأخبار [ (4) ] .
وقد نقل صاحب أعيان الشيعة هذا القول عن ابن النديم، مستدلا به على تشيعه، ومن ثم ترجم له [ (5) ] . وكذلك ذكره آغا بزرك الطهراني [ (6) ] ، حين تحدّث عن تاريخ الواقدي.
__________
[ (1) ] انظر بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، الترجمة العربية، ج 3، ص 17.
[ (2) ] تاريخ، ج 2، ص 2508.
[ (3) ] البداية والنهاية، ج 8، ص 229.
[ (4) ] الفهرست، ص 144.
[ (5) ] أعيان الشيعة، ج 46، ص 171.
[ (6) ] الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 3، ص 293.(المقدمة/16)
على أنه مما يثير الدهشة أن الطوسي- وهو معاصر لابن النديم- لم يذكر الواقدي فى كتابه «الفهرس» ولم يذكر كتابا من كتبه وخاصة تلك التي تتعلق بمولد الحسن والحسين ومقتل الحسين، على أهمية هذا الأمر الذي شغل جميع علماء الشيعة ومؤرخيهم وجامعى أخبارهم.
ولو سلمنا لابن النديم أن الواقدي كان يلزم التقية، فإن تشيعه كان لا بد أن يظهر على نحو مّا عند الحديث عن على أو فى الرواية عنه، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. بل على النقيض من ذلك نرى الواقدي يذكر أحاديث قد تحط من قدر على أو تهون من شأنه على الأقل، فحين يصف رجوع النبي إلى المدينة من أحد، يذكر أن فاطمة مسحت الدم عن وجه النبي،
وذهب علىّ إلى المهراس ليأتى بماء، وقبل أن يمشى ترك سيفه وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: أَمِسْكِي هَذَا السّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمٍ. ولما أبصر النبي سيف علىّ مُخْتَضِبًا قَالَ: «إنْ كُنْت أَحْسَنْت الْقِتَالَ فَقَدْ أَحْسَنَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَسَيْفُ أَبِي دُجَانَةَ غَيْرُ مذموم» [ (1) ] .
وحين نقرأ عدد القتلى من قريش يوم بدر عند ابن إسحاق مثلا نرى أن عليا قد قتل طعيمة بن عدىّ [ (2) ] ، ولكن الواقدي يذكر أن الذي قتله هو حمزة وليس عليا [ (3) ] .
ونرى الواقدي أيضا حين يذكر قتل صؤاب يوم أحد، واختلاف الأقوال فيمن قتله، يقول: فاختلف فى قتله، فقال قَالَ: سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، وَقَائِلٌ: عَلِيّ، وقائل: قزمان، وكان أثبتهم عندنا قزمان [ (4) ] .
وأهم من كل ذلك ما ينقله الشيعة أنفسهم، كابن أبى الحديد مثلا فى كتابه، حين ينقل فقرة طويلة عن الواقدي، ثم يورد فيها رواية أخرى مختلفة عن الأولى، ويبدؤها بقوله: وفى رواية الشيعة [ (5) ] ، مما يدل دلالة قاطعة على أن ابن أبى الحديد لم يعتبر الواقدي مصدرا شيعيا، أو يمثل رأى الشيعة على الأقل.
__________
[ (1) ] المغازي، ص 249 من هذه الطبعة.
[ (2) ] السيرة النبوية، ج 2، ص 366.
[ (3) ] المغازي، ص 148 من هذه الطبعة.
[ (4) ] المغازي، ص 228 من هذه الطبعة.
[ (5) ] شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 339.(المقدمة/17)
ومن الطريف أن يلاحظ أن ابن إسحاق يتهم هو الآخر بميوله الشيعية والقدرية [ (1) ] . ويبدو لنا أن السبب فى اتهام الواقدي وابن إسحاق بالتشيع لا يرجع إلى عقيدتهما الشخصية، وإنما يرجع إلى ما ورد فى كتابيهما من الأقوال والآراء الشيعية التي يعرضانها، وليس ذلك عن عقيدة صحيحة فيها، مما تقتضيه طبيعة التأليف فى مثل هذه الموضوعات.
ولعل السبب فى وصف الواقدي خاصة بأنه يتشيع يرجع إلى ما أورده فى بعض مواضع من كتابه حين يأتى إلى جماعة من الصحابة، ومنهم بعض الخلفاء الراشدين، فيذكر مثلا عمر وعثمان فى عبارات لا تضعهما فى مكانتهما المرموقة. فمثلا فى المخطوطة التي اتخذناها أصلا لهذه النشرة نرى قائمة بمن فر عن النبي يوم أحد، تبدأ بهذه الكلمات «وَكَانَ مِمّنْ وَلّى فُلَانٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَسَوّادُ بْنُ غَزِيّةَ، وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَخَارِجَةُ بْنُ عَامِرٍ، بَلَغَ مَلَلَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ فِي نفر من بنى حارثة» [ (2) ] ، بينما نرى النص عند ابن أبى الحديد عمر وعثمان، بدلا من فلان، ويروى البلاذري عن الواقدي عثمان، ولا يذكر عمر [ (3) ] .
ويظهر بوضوح أن النص فى المخطوطة الأم كان يذكر عثمان وعمر، أو عمر وحده، أو عثمان وحده، ممن ولوا الأدبار يوم أحد. ولكن الناسخ لم يقبل هذا فى حق عمر أو عثمان، فأبدل اسميهما أو اسم أحدهما بقوله: فلان. ولا شك أن نص الواقدي الأصلى وقع فى أيدى طائفة من الشيعة وقرأوا فيه هذه الأخبار التي أوردها فى حق عمر وعثمان مثلا، فاعتقدوا أنه شيعى قطعا.
وفى ضوء ما تقدم من الحجج تظل عبارات ابن النديم عن تشيع الواقدي قاصرة عن أن تنهض دليلا على تشيعه، وستظل تفتقر إلى دعائم أخرى تؤيدها، وخاصة من نصوص الواقدي نفسه.
__________
[ (1) ] معجم الأدباء، ج 18، ص 7.
[ (2) ] المغازي، ص 277 من هذه الطبعة.
[ (3) ] أنساب الأشراف، ج 1، ص 326.(المقدمة/18)
أصول السيرة النبوية وتطورها فى القرنين الأول والثاني للهجرة:
مما لا شك فيه أن لفظة «السيرة» قد استعملت بمعنى سيرة النبي قبل ورودها عند ابن هشام فى روايته عن ابن إسحاق، ويتضح مما جاء فى كتاب الأغانى أن استعمال الكلمة بهذا المعنى الخاص كان معروفا فى زمن محمد بن شهاب الزهري، فقد أورد الأصفهانى النص الآتي: قال المدائني فى خبره- أى فى خبر خالد بن عبد الله القسري- وأخبرنى ابن شهاب قال: قال لى خالد بن عبد الله القسري:
اكتب لى النسب. فبدأت بنسب مضر وما أتممته، فقال: اقطعه، قطعه الله مع أصولهم، واكتب لى السيرة [ (1) ] .
ومع ذلك فإن اللفظتين- سيرة، ومغازي- مستعملتان بمعنى واحد لا يفرق بينهما، فقد ذكر ابن كثير سيرة ابن إسحاق وقال: قال ابن إسحاق فى المغازي [ (2) ] . على أن كلا من اللفظتين مضلل بحيث إن موضوع اللفظة غير مقيد بسيرة النبي على الإطلاق فى الحالة الأولى ولمغازيه فى الحالة الثانية.
والحقيقة أن التنوع الواسع فى المواضيع ظاهرة مهمة فى أدب السيرة والمغازي، ويمكن أن نلمس فيها النشأة الأولى فى تقدم وتطور علوم الحديث والتفسير والتاريخ.
من المعروف أن أشهر ما ألف فى السيرة هو كتابا ابن إسحاق والواقدي، ولكنهما مع ذلك ليسا بأول من جمع الأخبار فى هذا الميدان العلمي.
ولا شك أن موضوع السيرة ومنهج التأليف فيه ثابت ومقدر قبل أن يكتب ابن إسحاق سيرته المعروفة. وقد أخطأ لفى دلّا فيدا- LeviDellaVida- حين زعم أن سيرة ابن إسحاق تجربة ثورية فى الكتابة التاريخية [ (3) ] .
وغنى عن القول أن أقوال النبي وأعماله كان لهما أهمية كبرى إبان حياته وأهمية أكبر بعد موته، وقد أوجبت هذه الأهمية العناية الشاملة بتدوين تفاصيل حياته وبجمع الأحاديث والأخبار عنه. ولم يكن الدافع لهذه
__________
[ (1) ] الأغانى (ط الساسى) ، ج 19، ص 59.
[ (2) ] البداية والنهاية، ج 3، ص 243.
[ (3) ] . EncyclopaediaofIs778105241, Article, Sira(المقدمة/19)
العناية والاهتمام التقوى وحدها فحسب، ولكن حاجة المجتمع الإسلامى إلى إرساء وتثبيت العقائد الدينية والأحكام التشريعية هي الحافظ الأساسى لهما.
ومن الضروري أن نحكم على أدب السيرة ونقوّمه، بل وآداب الحديث والفقه والتفسير أيضا، فى ضوء الأحداث السياسية والاجتماعية والدينية فى القرنين الأول والثاني للهجرة.
ويحتمل أن تكون القصص الشعبية للسيرة موجودة فى حياة النبي نفسه وكان القصاص يعنون بها، كما كانوا يفعلون بقصص الأنبياء قبل الإسلام.
وقد بقيت بعض مظاهر هذا القصص فى السيرة الأدبية التي دونت فيما بعد، ويمكن التعرف عليها دون صعوبة- من موضوعات القصص كالأحلام والطيرة من جهة، ومن الأساليب التي صيغت بها من جهة أخرى. ورؤيا عاتكة قبل غزوة بدر مثال واقعي من القصص الشعبية فى السيرة النبوية [ (1) ] .
ولا بد أن بعض الصحابة قد تخصصوا فى علمي المغازي والسير. ذكر ابن سعد [ (2) ] عن أبان بن عثمان أنه تخصّص فيهما، وقد أخذ المغيرة بن عبد الرحمن عنه بعض الأخبار. ولكنه مع الأسف لم يصلنا أى كتاب وضع فى عهد الصحابة فى المغازي والسير.
وقال حاجي خليفة عند حديثه على المغازي: ويقال: إن أول من صنف فيها عروة بن الزبير، وجمعها أيضا وهب بن منبه [ (3) ] .
عروة بن الزبير:
أما عروة فقد كان أخا لعبد الله بن الزبير ولكنه لم يشترك فى الصراع بينه وبين بنى أمية، وبعد مقتل عبد الله بن الزبير فى سنة 74 للهجرة، بايع عروة عبد الملك بن مروان. وتدل رواية الطبري على أن عروة بن الزبير كتب إلى عبد الملك أخبارا عن فجر الإسلام. قال: حدثني أبى قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن
__________
[ (1) ] السيرة النبوية، ج 2، ص 258.
[ (2) ] الطبقات، ج 5، ص 156.
[ (3) ] كشف الظنون، ج 2، ص 1747.(المقدمة/20)
مروان: أما بعد، فإنه- يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من أَتْبَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الإسلام فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه، مع ذلك صلاح- وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا من الرزق، وأمنا ومتجرا حسنا- فأمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات، يشتدون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم [ (1) ] .
وليس لدينا دليل على أن عروة قد كتب كتابا خاصا بسيرة النبي ولكن كثرة النقول عنه عند ابن إسحاق والواقدي تدل بصورة قاطعة على أنه- أى عروة- هو أول من دوّن السيرة بشكلها الذي عرف فيما بعد.
وهب بن منبه:
وأما وهب بن منبه فقد ولد فى اليمن، ومع أنه قد زار الحجاز، إلا أنه أمضى جميع حياته فى اليمن. ويصفه ياقوت بأنه كان من خيار التابعين، ثقة، صدوقا، كثير النقل من الكتب القديمة المعروفة بالإسرائيليات [ (2) ] .
ونسب إليه ابن النديم: «كتاب المبتدأ» [ (3) ] ، ويشير هذا القول إلى احتمال التشابه بين هذا الكتاب وبين القسم الأول من السيرة التي ألفها ابن إسحاق.
__________
[ (1) ] الطبري، تاريخ، ج 1، ص 1180.
[ (2) ] معجم الأدباء، ج 19، ص 259.
[ (3) ] الفهرست، ص 128.(المقدمة/21)
ولم يصل إلينا من أخبار النبي عن وهب بن منبه إلا القليل، وقد عثر على قطعة صغيرة كتبت على البردي فى مجموعة سكوت رينهارت (. 8 PapyriSchott- Reinhardt)
ذكر فيها بيعة العقبة [ (1) ] .
وقد روى ابن إسحاق عن وهب فى القسم الأول من السيرة [ (2) ] ، على حين أن الواقدي لم يذكره ولم يشر إليه البتة.
ثم تلا ذلك مرحلة أخرى فى تطور السيرة على يدي عاصم بن عمر بن قتادة المتوفى سنة 120 هـ، ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المتوفى سنة 124 هـ.
عاصم بن عمر بن قتادة:
فأما عاصم بن عمر بن قتادة فكان أنصاريا من قبيلة بنى ظفر، وكان كالزهرى مشمولا برعاية بنى أمية. قال ابن قتيبة: إنه صاحب السير والمغازي [ (3) ] .
ولكن لم ينسب إليه كتابا خاصا في هذا الموضوع، وقد أخذ عنه ابن إسحاق مباشرة، وروى الواقدي عنه بطريق محمد بن صالح، ويونس بن محمد الظفري، ومعاذ بن محمد الأنصارى، ويعقوب بن محمد، وموسى بن محمد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز.
الزهري:
وأما محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري فهو يختلف عن أكثر أصحاب السيرة فى القرنين الأول والثاني لأنه ولد بمكة وليس فى المدينة.
وجدير بالذكر أن المرحلة المتقدمة فى علم السيرة كان مركزها فى المدينة المنورة خاصة. ولا ينفى هذا الاعتبار مولد ابن شهاب فى مكة لأنه عاش فى المدينة ودرس فيها حتى غادرها إلى دمشق فى سنة 81 أو 82 للهجرة [ (4) ] .
وفى رأى ابن حجر أن الزهري كان أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام فى
__________
[ (1) ] . 558، 1927، IslamicCulture، J. Horovitz
[ (2) ] السيرة النبوية، ج 1، ص 32.
[ (3) ] المعارف، ص 466.
[ (4) ] . 37، 1928، J. Horoviz, IslamicCulture(المقدمة/22)
الحديث [ (1) ] . وواضح من كثرة الأخبار التي رويت عنه فى ابن إسحاق والواقدي أنه من أجل علماء السيرة، ويبدو أنه أول من جمع ما رواه التابعون من السيرة وأضاف إليها ما رواه هو أيضا، وبعد ذلك رتب هذه الأخبار على شكل السيرة النبوية المعروف عند ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي.
وقال حاجي خليفة عند الكلام على المغازي: ومنها مغازي محمد بن مسلم الزهري [ (2) ] . ومع الأسف لم يصل إلينا هذا الكتاب، وهو من الأهمية بمكان أهمية الزهري فى تطور السيرة، بحيث لا يحتاج الأمر منا إلى المبالغة فى تقدير أهميته، بل إن كثرة الاعتماد عليه فى كتب ابن إسحاق والواقدي لدليل واضح على بيان قدر الكتاب. أضف إلى ذلك أن كلا من ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، ومالك بن أنس، وأبى معشر، ومعمر بن راشد، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ من تلامذته الذين أخذوا عنه، وكان هؤلاء الثلاثة المتأخرون من مصادر الواقدي.
وفى أغلب الأحيان نرى الواقدي ينقل عن الزهري بطريق معمر بن راشد.
وهذا يمثل الوضع الذي كانت عليه السيرة فى طورها المتقدم، أى أن حلقة درس أصحاب السيرة فى المدينة كانت ضئيلة، وعنها نقلت السيرة جيلا بعد جيل من شخص إلى شخص، على شكل محاضرات تملى عادة.
عبد الله بن أبى بكر:
ومن طبقة الزهري، عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن حزم الأنصارى، الذي لم ينسب إليه أنه ألف كتابا فى السيرة ولكن ابن إسحاق والواقدي يذكرانه بكثرة.
فقد روى عنه ابن إسحاق مباشرة، والواقدي بطريق عبد الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ. قال ابن حجر: توفى سنة 135 هـ ويقال سنة 130 هـ[ (3) ] .
__________
[ (1) ] تهذيب التهذيب، ج 9، ص 445.
[ (2) ] كشف الظنون، ج 2، ص 1747.
[ (3) ] تهذيب التهذيب، ج 5، ص 164- 165.(المقدمة/23)
وشملت الطبقة الثالثة من أصحاب السيرة، موسى بن عقبة المتوفى سنة 141 هـ، وابن إسحاق المتوفى سنة 151 هـ، ومعمر بن راشد المتوفى سنة 154 هـ، وأبا معشر المتوفى سنة 170 هـ، وجميعهم من تلامذة الزهري، وينسب إلى كل واحد منهم كتاب فى السيرة أو المغازي.
ومن الممكن إضافة محمد بن عمر الواقدي المتوفى سنة 207 هـ إليهم، لأنه أخذ عن كل واحد منهم أخبارا- فيما عدا ابن إسحاق- وكان معمر ابن راشد وأبو معشر من أهم مصادره.
موسى بن عقبة:
فأما موسى بن عقبة بن أبى عياش الأسدى، فقد كان مولى لآل الزبير بن العوام، وقد وضع مع ابن إسحاق والواقدي الأسس التي بنى عليها المؤلفون المتأخرون كتبهم، مثل الطبري، وابن سيد الناس، وابن كثير.
وقد كتب كتابا فى المغازي لم يصل إلينا، مع أنه كان موجودا حتى القرن العاشر للهجرة [ (1) ] .
ولا نستطيع أن نكوّن فكرة شاملة عن الكتاب من خلال القطعة التي نشرها سخاو [ (2) ] ولكننا من خلال النقول التي وجدت عند ابن سعد، والطبري، وابن سيد الناس، وابن كثير، والزرقانى، نستطيع أن نتمثل صورة أوضح عن كتاب المغازي لموسى بن عقبة.
ويتضح من النظرة الأولى أنه يشبه فى تأليفه سيرة ابن إسحاق، بل وحتى فى كثير من تفصيلاته، وهذا يدل على أن نمط السيرة النبوية كان مألوفا قبل تأليف ابن إسحاق.
__________
[ (1) ] الديار بكرى، تاريخ الخميس، ج 2، ص 60.
E.Sachau ,Das Berliner Fragment des Musaibn Uqba (Sitzungsberichte der Preussischen
[ (2) ] . 449، (1904 Akademie der Wissen 500405241(المقدمة/24)
روى ابن أبى حاتم الرازي بسنده عن معن بن عيسى، قال: كان مالك ابن أنس إذا قيل له: مغازي من نكتب؟ قال: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة [ (1) ] . وقال ابن حجر: قال إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى، كان مالك يقول: عليكم بمغازى موسى بن عقبة فإنه ثقة. وفى رواية أخرى عنه: عليكم بمغازى الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي. وفى رواية: فإنه رجل ثقة طلبها على كبر السن ولم يكثر كما أكثر غيره.
وقال إبراهيم بن المنذر أيضا عن محمد بن طلحة الطويل قال: ولم يكن بالمدينة أعلم بالمغازى منه [ (2) ] .
وقال حاجي خليفة: مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي [ (3) ] .
محمد بن إسحاق:
وأما محمد بن إسحاق بن يسار فقد ولد بالمدينة سنة 85 هـ تقريبا، وكان مولى لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف، ثم ترك المدينة فيما بعد، ولا يمكننا أن نحدد تاريخ مغادرته للمدينة.
وقال ابن حجر، قال ابن يونس: قدم الاسكندرية سنة 119 هـ[ (4) ] ، ولا نعرف إذا كانت هذه الزيارة وقعت قبل مغادرته المدينة نهائيا أم لا، ويبدو أنه كان فى المدينة سنة 123 هـ[ (5) ] .
وعلى أية حال فإنه يحتمل أن يكون قد ترك المدينة قبل بلوغه سن الأربعين.
قال ابن حجر: وكان خرج من المدينة قديما فأتى الكوفة والجزيرة والري وبغداد
__________
[ (1) ] الجرح والتعديل، ج 4، ق 1، ص 154.
[ (2) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 361.
[ (3) ] كشف الظنون، ج 2، ص 1747.
[ (4) ] تهذيب التهذيب، ج 9، ص 44.
[ (5) ] ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 621.(المقدمة/25)
فأقام بها حتى مات سنة 151 هـ[ (1) ] .
وثمة قرينة أخرى تدل على تركه المدينة قبل أن يكتهل، وذلك حين نرى أن رواته من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة لم يرو عنه منهم غير إبراهيم ابن سعد [ (2) ] .
ويذكر ابن سيد الناس أن من أهم أسباب ترك ابن إسحاق للمدينة، عداوة هشام بن عروة ومالك بن أنس له [ (3) ] .
فأما هشام بن عروة فإنه كره ابن إسحاق لما رواه فى كتابه عن زوجة أبيه عروة.
وليست الرواية عن النساء من غير نظر إليهن مما يجرّح به الإنسان، كما يذكر ابن حجر [ (4) ] .
وأما مالك بن أنس- حسبما يرى الأستاذ جيوم- فقد هاجم محمد ابن إسحاق من أجل الأحكام الشرعية التي أوردها فى كتابه «السنن» الذي لم يصل إلينا [ (5) ] .
ومن المحتمل أن مالكا كان يعترض على ابن إسحاق لرميه بالقدر [ (6) ] .
ولعل السبب الأقوى فى عداوة مالك بن أنس لابن إسحاق كما يقول ابن سيد الناس، هو: تتبعه غزوات النبي صلّى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر، وقريظة، والنضير، وما أشبه ذلك من الغرائب عن أسلافهم [ (7) ] .
وقد وصلت إلينا سيرة ابن إسحاق بطرق عدة، أشهرها رواية ابن هاشم عن البكائى. ومن أهمها رواية ابن بكير، التي لم تصل إلينا كاملة ولكننا نجد قطعا كثيرة منها عند ابن سعد، وابن الأثير، وابن كثير، وأخيرا وجدت قطعة منها
__________
[ (1) ] تهذيب التهذيب، ج 9، ص 44.
[ (2) ] تهذيب التهذيب، ج 9، ص 44.
[ (3) ] عيون الأثر، ج 1، ص 11، 12.
[ (4) ] تهذيب التهذيب، ج 9، ص 45.
[ (5) ] . A. Guillaume, ThelifeofMuhammad228405241, Introd. XIII
[ (6) ] ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج 9، ص 42.
[ (7) ] عيون الأثر، ج 1، ص 17.(المقدمة/26)
مخطوطة فى مسجد القرويين بفاس، وهي تشتمل على الجزء الأول من الكتاب.
وقد اعتمد الطبري على رواية سلمة بن الفضل الأبرش الأنصارى، واعتمد ابن سعد- زيادة على رواية ابن بكير- على رواية هارون بن سعد. ومع ذلك فإن رواية ابن هشام لا تمثل النص الأصلى الكامل لسيرة ابن إسحاق، لأنه هو والبكائى أيضا قد غيرا فى النص، كما اعترف بذلك ابن هشام فى مقدمته للسيرة [ (1) ] .
ولم يكن القصد من هذه التغييرات- التي قام بها ابن هشام واعترف بها- مجرد التغيير، أو بغية الاختصار كما زعم، بل إنه وضح تماما أن الهدف الحقيقي لهذا التغيير عند ابن هشام والبكائى هو أن يطرحا من السيرة النبوية تلك الموضوعات التي اعترض عليها النقاد، كبدء الخليقة وقصص الأنبياء والشعر المنحول.
ومن الواجب عند إمعان النظر فى تطور السيرة فى القرنين الأول والثاني للهجرة، أن نذكر ثلاثة أسماء أخرى، هي: معمر بن راشد المتوفى سنة 154 هـ، وأبو معشر المتوفى سنة 170 هـ، وأخيرا الواقدي المتوفى سنة 207 هـ.
معمر بن راشد:
كان معمر بن راشد الأزدى مولى لبنى الحدانى، مولاهم أبو عروة بن أبى عمرو البصري. [ (2) ] فيقرن اسمه إلى أسماء الموالي من كتاب السيرة، كابن إسحاق، وأبى معشر، والواقدي الذين تولوا التطوير الأخير للسيرة فى المدينة.
ولد معمر في الكوفة، ومع أن المصادر سكتت عن ذكر أية صلة له بالمدينة، فإن هناك احتمالا كبيرا يوحى بأنه زار المدينة، فقد روى أخبارا عن الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وهو نفسه حلقة فى السلسلة التي بين الزهري والواقدي.
وليس ثمة شك عندنا أنه سافر إلى اليمن، فقد ذكر ابن حجر أنه مات فى صنعاء [ (3) ] .
__________
[ (1) ] السيرة النبوية، ج 1، ص 4.
[ (2) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 243.
[ (3) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 245.(المقدمة/27)
ومعمر بن راشد من الرجال الذين وثقهم أصحاب الحديث والمغازي. قال يعقوب بن شيبة: معمر ثقة، وصالح ثبت. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال أحمد بن حنبل، عن الزهري، عن عبد الرزاق، عن ابن جريح: عليكم بهذا الرجل فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه، يعنى معمرا. وذكره ابن حبان فى الثقات [ (1) ] .
وذكر ابن النديم أن له كتابا فى المغازي [ (2) ] ، ولكن لم يصل إلينا من هذا الكتاب سوى نقول عنه، وخاصة عند الواقدي وابن سعد.
أبو معشر المدني:
كان نجيح بن عبد الرحمن السندي، أبو معشر المدني، مولى لبنى هاشم [ (3) ] ، قال عنه ابن حجر: إنه من اليمن، وقد أسر فى وقعة يزيد بن المهلب باليمامة والبحرين، ثم اشترته أم موسى بن المهدى وأعتقته، أو أنه كان مكاتبا لامرأة من بنى مخزوم فأدى نجومه فاشترت أم موسى بن المنصور ولاءه، ولما جاء المهدى إلى المدينة فى سنة 160 هـ طلب أبا معشر أن يرافقه عند رجوعه إلى العراق وهاجر من المدينة إلى بغداد ومات هناك سنة 170 هـ.
ويتضح من كثرة تجريحه فى كتب الرجال أنه كان ضعيفا من وجهة نظر رجال الحديث لأنه كان ضعيف الإسناد [ (4) ] .
ومع ذلك فإنه كان يعتبر ثقة صدوقا فى المغازي والتاريخ. روى ابن أبى حاتم الرازي، عن عبد الرحمن، قال: سمعت أبى وذكر مغازي أبى معشر فقال: كان أحمد بن حنبل يرضاه، ويقول: كان بصيرا بالمغازى [ (5) ] .
وقال الخليلي: أبو معشر له مكان فى العلم والتاريخ، وتاريخه احتج به الأئمة وضعفّوه فى الحديث [ (6) ] .
قال ابن النديم: له كتاب المغازي [ (7) ] . ويظهر من الفقرات التي أوردها
__________
[ (1) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 245.
[ (2) ] الفهرست، ص 138.
[ (3) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 419.
[ (4) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 421.
[ (5) ] الجرح والتعديل، ج 4، ق 1، ص 494.
[ (6) ] تهذيب التهذيب، ج 10، ص 422.
[ (7) ] الفهرست، ص 136.(المقدمة/28)
الطبري فى تاريخه عنه، أن مغازي أبى معشر كمغازى موسى بن عقبة، فقد اشتملت على أخبار من حياة النبي قبل الهجرة [ (1) ] .
الواقدي:
قدم لنا الواقدي كتابه المغازي، الذي يمثل الصورة الأخيرة من مراحل تطور السيرة النبوية فى القرنين الأول والثاني للهجرة. وهو لم يرو عن الزهري مباشرة ولكنه اعتمد- فى الأغلب- على الرواة الذين رووا الأخبار عن الزهري، ومما يجدر ذكره أن الشخص الوحيد الذي لم يتعرض الواقدي لذكره من بين تلامذة الزهري، هو ابن إسحاق. ولهذا السبب- أى عدم ذكر الواقدي له- وبسبب التشابه الكبير بين فقرات كتاب السيرة لابن إسحاق وكتاب المغازي للواقدي، زعم هوروفتس [ (2) ] وفلهوزن [ (3) ] أن الواقدي قد سطا على ابن إسحاق دون عزو إليه، بل إن هوروفتس قد ذهب فى زعمه إلى أبعد من هذا، فهو يرى أن لفظة «قالوا» فى مغازي الواقدي بدلا من الإسناد تدل على ذلك السطو [ (4) ] .
وزعم هوروفتس هذا قائم على حجة واهية، ذلك لأنه لم يتنبه إلى الطريقة المتبعة عند بعض المحدثين والمؤرخين الأوائل وهي جمع الرجال فى الأسانيد عند الأخبار، ولم يكن الواقدي وحده هو الذي استعمل هذه الطريقة، فقد سئل إبراهيم الحربي عما أنكره أحمد بن حنبل على الواقدي فقال: إنما أنكر عليه جمعه الأسانيد ومجيئه بالمتن واحدا. وقال إبراهيم: ليس هذا عيبا فقد فعل هذا الزهري وابن إسحاق [ (5) ] .
وقد فندت زعم سطو الواقدي على ابن إسحاق فى مقالة لى أفردتها لهذه المسألة، ولا أريد أن أكرر هنا الحجج التي ذكرتها فى تلك المقالة فليرجع إليها من شاء [ (6) ] .
__________
[ (1) ] الطبري، تاريخ، ج 1، ص 1195.
[ (2) ] . seq 518، 1928، J. Horovitz, IslamicCulture
[ (3) ] . J. Wellhausen, MuhammadinMedina, Introd., IIseq
[ (4) ] . 518، 1928، J. Horovitz, IslamicCulture
[ (5) ] ابن سيد الناس، عيون الأثر، ج 1، ص 20.
[ (6) ] J. M. B. Jones, IbnIshaqandal- Waqidi: thedreamofAtikaan232605241
. 1959، Nakhlainrelationt242605241 plagiarism, B. S. O. A. A. S., XXII, I(المقدمة/29)
ومن المحتمل- فى هذا الصدد- أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا لعدم توثيق علماء المدينة له.
ولكن الرأى الراجح عندنا فى هذا الترك هو أن ابن إسحاق ترك المدينة قبل أن يولد الواقدي. وكان اللقاء الشخصي بين الرواة من أقوى المظاهر فى تطور السيرة فى القرنين الأول والثاني للهجرة. والدليل على ذلك- كما ذكرنا من قبل- ما أورده ابن حجر فى ترجمة ابن إسحاق بقوله: وكان خرج من المدينة قديما ... ورواته- أى ابن إسحاق- من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم غير إبراهيم بن سعد [ (1) ] .
حقا إن أكثر النقاد من المحدثين الأوائل كانوا يضعفون الواقدي فى الحديث، فقد قال البخاري، والرازي، والنسائي، والدارقطني: إنه متروك الحديث. ولكن آراء المحدثين لم تكن ضد الواقدي بالإجماع، فإن منهم من وصفه بأوصاف لا تقل قدرا عما وصف به الثقات، فقد وصفه الحافظ الدراوردي بأنه: أمير المؤمنين فى الحديث. وقال يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. ووثقه أبو عبيد القاسم بن سلام، وكذلك أبو بكر الصغاني، ومصعب الزبيري، ومجاهد بن موسى، والمسيب، وإبراهيم الحربي [ (2) ] .
ومع أن أغلب العلماء ينكرونه فى الحديث، فإنه- بغير شك- يعتبر إماما فى المغازي. قال ابن النديم: كان عالما بالمغازى والسير والفتوح واختلاف الناس فى الحديث والفقه والأحكام والأخبار [ (3) ] .
وبمثل ذلك ذكره ابن سعد [ (4) ] . وقال إبراهيم الحربي: الواقدي آمن الناس على أهل الإسلام [ (5) ] . ونجد فى تاريخ بغداد أقوالا تدل على عظم قدر الواقدي فى علم المغازي والسير.
__________
[ (1) ] تهذيب التهذيب، ج 9، ص 44.
[ (2) ] انظر تهذيب التهذيب، ج 9، ص 364، 365.
[ (3) ] الفهرست، ص 144.
[ (4) ] الطبقات، ج 7 (2) ، ص 77.
[ (5) ] عيون الأثر، ج 1، ص 18.(المقدمة/30)
ويبدو واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي فى منزلة خاصة بين أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التاريخى العلمي الفنى، فإننا نلاحظ عند الواقدي- أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين- أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير. فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار، ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين فى القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب موحد، فيذكر أولا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها، ويكرر فى بعضها اسم المستخلف على المدينة وتفاصيل جغرافية مما كان قد ذكرها فى مقدمة الكتاب.
وفى أماكن كثيرة يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة بإسناد جامع- أى يجمع الرجال والأسانيد فى متن واحد.
وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها آيات كثيرة من القرآن، فإن الواقدي يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها فى نهاية أخبار الغزوة.
وفى المغازي الهامة يذكر الواقدي أسماء الذين شهدوا الغزوة وأسماء الذين استشهدوا أو قتلوا فيها. ومن اليسير أن نستدل على فطنة الواقدي وإدراكه كمؤرخ من المنهج الموحد الذي يستعمله.
وإن ما أورده فى الكتاب من التفاصيل الجغرافية ليوحى بجهده ومعرفته للدقائق فى الأخبار التي جمعها فى رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم وذلك أيضا دليل على أحقيته فى هذا الميدان بما وصفناه به [ (1) ] .
وقد تبعه فى اهتمامه بهذه التفاصيل الجغرافية كاتبه وتلميذه محمد بن سعد، بل نراه يزيد على تلك التفاصيل التي عند أستاذه الواقدي.
وجدير بالذكر أن هذه التفاصيل الجغرافية التي أوردها الواقدي تعتبر بحق
__________
[ (1) ] انظر ما تقدم ذكره فى ص 6 من هذه المقدمة.(المقدمة/31)
المرحلة الأولى فى الأدب الجغرافى العربي، إن لم تكن اللبنات والأسس التي بنى عليها كل من جاء بعده مثل ابن سعد، والبلاذري، ومن تلاهما فى التأليف لكتب الفتوح والبلدان.
ومن أهم الخصائص المميزة لمغازى الواقدي هي النظام المتكامل للتواريخ.
وكثير من المغازي غير المؤرخة عند ابن إسحاق مثل غزوة الخرار، وقتل أسماء بنت مروان، وقتل أبى عفك، وغزوة بنى قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف، وسرية قطن، وغزوة دومة الجندل، وقتل سفيان بن خالد بن نبيح، وغزوة القرطاء، وسرية الغمر، وسرية ذى القصة، وغزوة بنى سليم، وسرية الطرف، وسرية حسمى، وسرية الكديد، وسرية ذات أطلاح، وغزوة ذات السلاسل، وسرية الخبط، وسرية خضرة، وسرية علقمة بن مجزز، وسرية على بن أبى طالب إلى اليمن، لها كلها عند الواقدي تأريخ معين محدد وذكر خاص.
قلنا إن منهج الواقدي متكامل فى التأريخ للحوادث بصورة أكمل منها عند ابن إسحاق، ولكنه يجب علينا- تحريا للإنصاف- أن نتقبله بحذر فى ذكر تأريخ بعض الحوادث، وهاكم الأمثلة:
(1) نرى الاختلاف فى نص تأريخ مقتل كعب بن الأشرف. قال الواقدي:
إن محمد بن مسلمة خرج إليه- أى إلى كعب- فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة [ (1) ] ومشى معه النبي حتى أتى البقيع [ (2) ] (ب) ولكن فى قصة ذى أمر يزعم الواقدي أن النبي قد خرج من المدينة إلى غطفان يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأول، ولا يمكن أن يرافق النبي محمد بن سلمة فى الطريق بعد خروجه بيومين.
(ح) ونجد أيضا تأريخين لغزوة بحران فى مخطوطتين من المغازي للواقدي، ففي إحداهما جمادى الأولى وفى الثانية جمادى الآخرة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] المغازي، ص 148 و 189.
[ (2) ] المغازي، ص 189.
[ (3) ] المغازي، ص 196.(المقدمة/32)
(د) أرّخ الواقدي غَزْوَةُ الرّجِيعِ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وثلاثين شهرا من الهجرة [ (1) ] وذكر أن الهجوم على المسلمين فى تلك الغزوة كان عقب مقتل سفيان ابن خالد بن نبيح الهذلىّ، ولكن فى مكان آخر أرّخ مقتل سفيان بن خالد بن نبيح على رأس أربعة وخمسين شهرا [ (2) ] .
(هـ) ونجد اختلافا آخر فى تفاصيل التأريخ عند الواقدي فى قصة غزوة القرطاء. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: خَرَجْت فِي عَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وخمسين شهرا [ (3) ] . ولكن الواقدي يقول فى مكان آخر: أربعة وخمسين شهرا [ (4) ] .
(و) وفى خبر سرية الميفعة التي أرخها الواقدي فى رمضان سنة سبع [ (5) ] ذكر يسارا مولى النبي مع أنه نفسه وصف قتل يسار فى شوال سنة سبع [ (6) ] .
(ز) ذكر الواقدي فى أول خبر غزوة بنى لحيان أن النبي خرج من المدينة فى هلال ربيع الأول سنة ست [ (7) ] ، ولكنه فى نهاية القصة أرخها فى المحرم سنة ست [ (8) ] ، وفى تلك الغزوة قال إن خبيب بن عدىّ كان يومئذ فى أيدى قريش بمكة، مع أنه وصف قتل خبيب فى خبر غزوة الرجيع، التي أرخها فى صفر سنة أربع [ (9) ] .
وعلى الرغم من هذه الاختلافات فى التواريخ، فإننا نجدها أدق وأثبت بعامة فى نظامها من التواريخ المماثلة فى كتب السيرة الأخرى [ (10) ] . هذا فضلا عما انفرد به الواقدي حين يعرض فى مغازيه الأخبار الكثيرة التي لا نجدها عند غيره، مثل وصفه
__________
[ (1) ] المغازي، ص 354.
[ (2) ] المغازي، ص 531.
[ (3) ] المغازي، ص 534.
[ (4) ] المغازي، ص 531.
[ (5) ] المغازي، ص 726.
[ (6) ] المغازي، ص 569.
[ (7) ] المغازي، ص 535.
[ (8) ] المغازي، ص 537.
[ (9) ] المغازي، ص 354.
[ (10) ] ، 957
J.M.B.Jones ,142507962ologyofthemaghazi -atextualsurvey ,B.S.O.A.S. ,I
. 2، XIX(المقدمة/33)
للسرية الأولى إلى ذى القصة [ (1) ] ، وسرية أبى بكر إلى نجد [ (2) ] ، والسريتين إلى ميفعة [ (3) ] وذات أطلاح [ (4) ] .
أضف إلى ذلك الإسهاب فى التفصيل والدقة فى الترتيب عند سرده للحوادث المشهورة، مثل أحد، والطائف، بأكثر وأحسن مما هو مذكور فى المراجع الأخرى للسيرة.
كما يلقى الواقدي أيضا الضوء على مشاهد كثيرة من الحياة فى فجر الإسلام، مثل الزراعة، والأكل، والأصنام، والعادات فى دفن الموتى، وعلى تكوين وتنظيم العيرات، وبالجملة على جميع مظاهر الحياة فى المجتمع الإسلامى فى الفترة بين الهجرة وموت النبي.
ومما يزيد فى قيمة هذه الأخبار أن الواقدي يذكر بكل وضوح أنه كان يتبع منهجا نقديا واعيا فنيا فى اختيار وتنظيم أخباره، ثم لا يلبث أن يذكر آراءه وأفكاره عن الأخبار التي كان يسجلها، وكثيرا ما يقول مثلا: «وهو المثبت» ، «والثابت عندنا» ، «والمجتمع عليه عندنا» ، «ولا اختلاف عندنا» ، «والقول الأول أثبت عندنا» ، «وهو أثبت» ، «وهذا الثبت عندنا» ، «ومجمع عليه لا شك فيه» إلى غير ذلك من العبارات التي تبرز رأيه الصريح فى تقويم تلك الأخبار.
والتعبير بمثل العبارات السابقة فى المغازي للواقدي شائع جدا فى أسلوبه إلى حد لم نره عند غيره من المؤلفين الأولين، حتى البلاذري الذي توفى بعد الواقدي بسبعين سنة، لا يقدم آراءه الشخصية فى متن أخباره كما فعل الواقدي.
وعلى الرغم مما ذكرت من آراء نقدية مثل الاختلاف الواقع فى بعض تواريخ الحوادث، فلا بد من الاعتراف بأن مغازي الواقدي أكمل وأتم مصدر محايد- دون تعصب- لتاريخ حياة النبي فى المدينة.
__________
[ (1) ] المغازي، ص 551.
[ (2) ] المغازي، ص 722.
[ (3) ] المغازي، ص 726.
[ (4) ] المغازي، ص 752.(المقدمة/34)
وبعد:
فإننا نرجو أن تنشر نصوص المصادر الأولى للسيرة النبوية مثل سيرة ابن إسحاق رواية ابن بكير التي لم تر النور بعد، وأن تجمع نصوص المغازي الأولى لموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، وأبى معشر من المصادر المختلفة المخطوطة والمطبوعة التي بين أيدينا، ومقابلة بعضها ببعض ونقدها، بحيث يتوفر لنا الوقوف على نشأة وتطور أدب السيرة فى القرون الأولى للإسلام وفقا للأسس العلمية السليمة.
مارسدن جونس(المقدمة/35)
مراجع التحقيق
أ - المطبوعات
ابن الأثير، عز الدين، على بن عبد الكريم- 630 هـ اللباب فى تهذيب الأنساب، ثلاثة أجزاء، نشرته مكتبة القدسي، القاهرة، 1357/ 1369 هـ بن الأثير، مجد الدين، المبارك بن محمد بن محمد- 606 هـ (1) النهاية فى غريب الحديث والأثر، أربعة أجزاء، المطبعة العثمانية، القاهرة، 1311 هـ (2) جامع الأصول من أحاديث الرسول، اثنا عشر جزءا، نشره الشيخ حامد الفقى، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1368/ 1374 هـ أحمد بن حنبل، (الإمام) - 241 هـ.
المسند، بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، صدر منه خمسة عشر جزءا، دار المعارف، القاهرة، 1368/ 1375 هـ.
إسماعيل باشا البغدادي- 1339 هـ.
(1) إيضاح المكنون فى الذيل على كشف الظنون، جزءان، إستانبول، 1364/ 1366 هـ.
(2) هديّة العارفين. أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، جزءان، 1951/ 1955 م آغا بزرگ الطهراني، محمد محسن الذريعة إلى تصانيف الشيعة، صدر منه خمسة عشر جزءا، طبعت فى النجف وطهران، 1357/ 1384 هـ.
البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم- 256 هـ.
(1) التاريخ الكبير، أربعة أقسام فى ثمانية أجزاء بتحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1360/ 1378 هـ(المقدمة/37)
(2) الجامع الصحيح، أربعة أجزاء، طبعة الحلبي، القاهرة دون تاريخ.
بروكلمن، كارل- 1961 م تاريخ الأدب العربي، الترجمة العربية، للدكتور عبد الحليم النجار، صدر منها ثلاثة أجزاء، دار المعارف، القاهرة 1959/ 1962 م البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر- 279 هـ.
(1) أنساب الأشراف، الجزء الأول، بتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي، دار المعارف، القاهرة، 1959 م (2) فتوح البلدان، ثلاثة أجزاء، نشره الدكتور صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1956/ 1960 م ابن تغرى بردى، جمال الدين أبو المحاسن، يوسف- 874 هـ.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، صدر منه اثنا عشر جزءا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929/ 1956 م الجمحي، محمد بن سلام بن عبيد الله- 232 هـ.
طبقات فحول الشعراء، بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1952 م الجوهري، إسماعيل بن حماد- 393 هـ.
الصحاح، ستة أجزاء، بتحقيق أحمد عبد الغفور العطار، مطبعة دار الكتاب العربي، القاهرة، 1376/ 1377 هـ.
ابن أبى حاتم الرازي، عبد الرحمن بن محمد- 327 هـ.
كتاب الجرح والتعديل، تسعة أجزاء، بتحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1360/ 1373 هـ.
حاجي خليفة، كاتب چلبى، مصطفى بن عبد الله- 1067 هـ.
كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، جزءان، بتصحيح الأستاذ شرف الدين يلتقايا، والمعلم رفعت بيلكه الكليسى، مطبعة وزارة المعارف التركية، إستانبول، 1360/ 1362 هـ.(المقدمة/38)
ابن حبيب، أبو جعفر، محمد بن حبيب بن أمية- 245 هـ.
كتاب المحبر، بتصحيح الدكتورة إيلزه ليحتن شتيتر، والدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1942 م ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل، أحمد بن على بن محمد- 852 هـ.
(1) الإصابة فى تمييز الصحابة، أربعة أجزاء، نشرته الجمعية الأسيوية الملكية، كلكتا، الهند، 1877 م (2) لسان الميزان، ستة أجزاء، مطبعة حيدرآباد الدكن، الهند، 1329/ 1331 هـ.
(3) تهذيب التهذيب، اثنا عشر جزءا، مطبعة حيدرآباد الدكن، الهند، 1325/ 1327 هـ.
ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد- 655 هـ.
شرح نهج البلاغة، عشرون جزءا، بتصحيح الشيخ محمد الزهري الغمراوى، مطبعة دار إحياء الكتب العربية (الحلبي) ، القاهرة، 1329 هـ.
ابن حزم، على بن أحمد بن سعيد- 456 هـ.
جوامع السيرة (النبوية) ، بتحقيق الدكتورين إحسان عباس، وناصر الدين الأسد، ومراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة 1962 م حسان بن ثابت بن المنذر- 54 هـ.
ديوان شعره، نشر فى سلسلة جب التذكارية، بعناية هرتويج هرشفيلد، لندن، 1910 م حميد الله، محمد حميد الله الحيدرآبادي مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، والخلافة الراشدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، القاهرة. 1958 م(المقدمة/39)
الخشني، مصعب بن محمد بن مسعود- 604 هـ.
شرح غريب سيرة ابن إسحاق، جزءان، نشره يوسف برونله، مطبعة هندية، القاهرة، 1911 م الخطيب البغدادي، أحمد بن على بن ثابت- 463 هـ.
تاريخ بغداد، أربعة عشر جزءا، نشرته مكتبة الخانجى ومطبعة السعادة، القاهرة، 1349 هـ.
ابن خلكان، أحمد بن محمد بن إبراهيم- 681 هـ.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، جزءان، مطبعة بولاق، القاهرة، 1299 هـ.
الخوانساري، محمد باقر بن زين العابدين الموسوي- 1313 هـ.
روضات الجنات فى تاريخ العلماء والسادات، جزءان، الطبعة الثانية، طبع حجر، طهران، 1347 هـ.
ابن دريد الأزدى، محمد بن الحسن- 321 هـ.
الاشتقاق، بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، مكتبة الخانجى، القاهرة، 1958 م الذهبي، شمس الدين، محمد بن أحمد بن عثمان- 748 هـ.
(1) العبر فى خبر من عبر، صدر منه أربعة أجزاء، بتحقيق الأستاذ فؤاد سيد والدكتور صلاح الدين المنجد، الكويت، 1960/ 1963 م (2) تذكرة الحفاظ، أربعة أجزاء، بتحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمى، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1375/ 1377 هـ.
الربعي، عيسى بن إبراهيم- 480 هـ.
نظام الغريب، نشره يوسف برونله، مطبعة هندية، القاهرة، دون تاريخ.(المقدمة/40)
الزّبيدى، مرتضى، محمد بن محمد بن محمد- 1205 هـ.
شرح القاموس المحيط، المسمى تاج العروس من جواهر القاموس، عشرة أجزاء، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306/ 1307 هـ.
الزّبير بن بكّار- 256 هـ.
جمهرة نسب قريش، بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، الجزء الأول، القاهرة، 1381 هـ.
الزرقانى، عبد الباقي بن يوسف بن أحمد- 1099 هـ.
شرح على المواهب اللدنية، ثمانية أجزاء، مطبعة بولاق، القاهرة، 1291 هـ.
الزمخشري، محمود بن عمر بن محمد- 538 هـ.
أساس البلاغة، جزءان، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، مطابع الشعب، القاهرة، 1960 م ابن سعد، محمد بن منيع- 230 هـ.
كتاب الطبقات الكبير، تسعة أجزاء، ليدن، 1905/ 1921 م ابن السكيت، يعقوب بن إسحاق- 244 هـ.
إصلاح المنطق، بتحقيق الأستاذين الشيخ أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، 1956 م السمعاني، عبد الكريم بن محمد بن منصور- 562 هـ.
كتاب الأنساب، نشره بالزنكوغراف مرجليوث، نشر فى سلسلة جب التذكارية، لندن، 1912 م السّهيلى، عبد الرحمن بن عبد الله- 581 هـ.
الروض الأنف، شرح سيرة ابن هشام، جزءان، طبع بنفقة السلطان مولاي عبد الحفيظ، المطبعة الجمالية، القاهرة، 1332 هـ(المقدمة/41)
ابن سيد الناس اليعمري، أبو الفتح، محمد بن محمد- 734 هـ.
عيون الأثر فى فنون المغازي والشمائل والسير، جزءان، نشرته مكتبة القدسي، القاهرة، 1356 هـ.
الصفدي، صلاح الدين، خليل بن أيبك بن عبد الله- 764 هـ.
الوافي بالوفيات، صدر منه أربعة أجزاء، بتحقيق ريترو ديدرينغ، نشرته جمعية المستشرقين الألمان فى إستانبول، إستانبول ودمشق، 1936/ 1960 م الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير- 310 هـ.
(1) تفسير القرآن المسمى جامع البيان، بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، صدر منه خمسة عشر جزءا، دار المعارف، القاهرة، 1374/ 1379 هـ.
(2) تاريخ الرسل والملوك ثلاثة عشر جزءا، ليدن 1881/ 1882 م الطوسي، أبو جعفر، محمد بن الحسن بن على- 460 هـ.
الفهرست، فهرست كتب الشيعة، منشورات الجمعية الآسيوية الملكية، كلكتا 1271 هـ.
ابن عبد البر، أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمد- 463 هـ.
الاستيعاب فى معرفة الأصحاب، أربعة أجزاء، بتحقيق الأستاذ على محمد البجاوى، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ.
أبو عبيد الله البكري، عبد الله بن عبد العزيز- 487 هـ.
معجم ما استعجم، ثلاثة أجزاء، نشره وستنفلد، جوتا 1876/ 1877 م ابن العماد الحنبلي، عبد الحي بن أحمد بن محمد- 1089 هـ.
شذرات الذهب فى أخبار من ذهب، ثمانية أجزاء، نشرته مكتبة القدسي، القاهرة، 1350/ 1351 هـ(المقدمة/42)
ابن فارس، أحمد بن فارس- 395 هـ.
مقاييس اللغة، ستة أجزاء، بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1366/ 1371 هـ.
أبو الفدا، إسماعيل بن على بن محمود- 732 هـ.
المختصر فى أخبار البشر، أربعة أجزاء، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1325 هـ.
أبو الفرج الإصبهانى، على بن الحسين بن محمد- 356 هـ.
كتاب الأغانى، نشرة دار الكتب المصرية، صدر منه ستة عشر جزءا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1923/ 1935 م ابن فرحون، إبراهيم بن على بن محمد- 799 هـ.
الديباج المذهب فى معرفة أعيان علماء المذهب، المطبعة الجمالية، القاهرة، 1329 هـ.
الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب بن محمد- 817 هـ.
القاموس المحيط، أربعة أجزاء، المطبعة المصرية، القاهرة، 1938 م القالي، أبو على، إسماعيل بن القاسم بن عيذون- 356 هـ.
كتاب الأمالى، نشر بنفقة يوسف دياب، جزءان، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926 م القرشي، عبد القادر بن محمد بن نصر الله- 775 هـ.
الجواهر المضية فى طبقات الحنفية، جزءان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1332 هـ.
ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم- 276 هـ.
كتاب المعارف، بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1960 م(المقدمة/43)
قيس بن الخطيم، نحو 2 قبل الهجرة ديوان شعره، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، مطبعة المدني، القاهرة، 1960 م ابن قيس الرقيات، عبيد الله بن قيس بن شريح- نحو 85 هـ.
ديوان شعره، بتحقيق الدكتور محمد يوسف نجم، دار صادر وبيروت، بيروت، 1958 م ابن كثير القرشي، إسماعيل بن عمر- 774 هـ.
البداية والنهاية، أربعة عشر جزءا، نشرته مكتبة الخانجى ومطبعة السعادة، القاهرة، 1351/ 1358 هـ.
ابن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب- 204 هـ.
كتاب الأصنام، بتحقيق أحمد زكى باشا، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1924 م مالك بن أنس (الإمام) - 179 هـ.
الموطأ، نشره الأستاذ محمود فؤاد عبد الباقي، جزءان، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1370 هـ.
محسن الأمين، محسن بن عبد الكريم بن على- 1371 هـ.
أعيان الشيعة، بيروت، 1959 م مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري- 261 هـ.
الجامع الصحيح، نشره الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، خمسة أجزاء، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1955/ 1956 م ابن منظور، أبو الفضل، محمد بن مكرم بن على- 711 هـ.
لسان العرب، عشرون جزءا، بولاق، القاهرة، 1300 هـ(المقدمة/44)
ابن النديم، محمد بن إسحاق بن محمد- 438 هـ.
الفهرست، المكتبة التجارية، القاهرة، 1348 هـ.
نور الدين الحلبي، على بن إبراهيم بن أحمد- 1044 هـ.
السيرة الحلبية، جزءان، مصطفى الحلبي، القاهرة، 1349 هـ.
ابن هشام، أبو محمد، عبد الملك بن هشام بن أيوب- 213 هـ.
السيرة النبوية، أربعة أجزاء، بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا، وإبراهيم الأبيارى، وعبد الحفيظ شلبى، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1936 م اليافعي، عبد الله بن أسعد بن على- 768 هـ.
مرآة الجنان وعبرة اليقظان، أربعة أجزاء، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند، 1337 هـ.
ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي- 626 هـ.
(1) معجم البلدان، عشرة أجزاء، نشرة الخانجى، القاهرة، 1906 م (2) معجم الأدباء، المسمى إرشاد الأريب، عشرون جزءا، نشره أحمد فريد رفاعى، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1935/ 1938 م اليغمورى، أبو المحاسن، يوسف بن أحمد بن محمود- القرن السابع الهجري نور القبس المختصر من المقتبس، فى أخبار النحاة والأدباء والشعراء والعلماء، بتحقيق رودلف سلهايم، النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمان، بيروت، 1964 م(المقدمة/45)
ب - المخطوطات
الذهبي، شمس الدين، محمد بن أحمد بن عثمان- 748 هـ.
سير أعلام النبلاء مخطوطة أحمد الثالث، إستانبول، رقم 2910 الجزء السابع، ترجمة الواقدي.
ابن عساكر، أبو القاسم، على بن الحسن بن هبة الله- 571 هـ.
تاريخ مدينة دمشق مخطوطة أحمد الثالث، إستانبول، برقم 2887 الجزء الثاني، ترجمة الواقدي.(المقدمة/46)
الجزء الأول
[مقدمة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ بْنِ مُحَمّدٍ الْجَوْهَرِيّ، [ (1) ] قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حَيّوَيْهِ لفظا، قال: قرى عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الْوَهّابِ بْنِ أَبِي حَيّةَ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَأَقَرّ بِهِ، يَوْمَ السّبْتِ بِالْغَدَاةِ، فِي دَارِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْوَرّاقِ، مُرَبّعَةِ شُبَيْبٍ، بَابِ الشّامِ، فِي بَابِ الذّهَبِ، فِي دَرْبِ الْبَلْخِ، فِي جُمَادَى الآخرة سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، قَالَ:
حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ الْمَخْزُومِيّ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّميمىّ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بْنِ زَمَعَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التّيْمِيّ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ، وَيَحْيَى بْنُ عبد الله ابن أَبِي قَتَادَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، [ (2) ] وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بن أبى الزّناد، وأبو معشر،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أبو محمد بن على الجوهري» ، والتصحيح عن ت، والخطيب. (تاريخ بغداد، ج 7، ص 393) .
[ (2) ] فى ت: «ابن أبى حية» ، وما أثبتناه عن الأصل، وابن سعد. (الطبقات، ج 5، ص 305) .(1/1)
وَمَالِكُ بْنُ أَبِي الرّجَالِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لِحَدِيثِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنِي أَيْضًا، فَكَتَبْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَيُقَالُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَالثّابِتُ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ. فَكَانَ أَوّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ. ثُمّ لِوَاءُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي شَوّالٍ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى رَابِغٍ- وَهِيَ عَلَى عَشْرَةِ أميال من الجحفة وأنت تريد قديد- وَكَانَتْ فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. ثُمّ سَرِيّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَفَرٍ، عَلَى رَأْسِ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، حَتّى بَلَغَ الْأَبْوَاء، ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَغَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. ثُمّ غَزَا بُوَاطَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، فِيهَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا- وَبُوَاطُ هِيَ مِنْ الْجُحْفَةِ قَرِيبٌ. ثُمّ غَزَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فِي طَلَبِ كرز بن جابر الفهرىّ حتى بلغ بدار، ثُمّ رَجَعَ. ثُمّ غَزَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ حِينَ بَدَتْ إلَى الشّامِ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ، ثُمّ رَجَعَ. فَبَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ إلَى نَخْلَةَ فِي رَجَبٍ، عَلَى رَأَسَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا بَدْرَ الْقِتَالِ، صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ، قَتَلَهَا عُمَيْرُ بْنُ عدىّ بن(1/2)
خَرَشَةَ [ (1) ] . حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ قَالَ: قَتَلَهَا لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ [ (2) ] ، قَتَلَ أَبَا عَفَكٍ فِي شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ فِي النّصْفِ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة السويق في ذي الحجة، على رأس اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي سُلَيْمٍ بِالْكَدَرِ فِي الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ سريّة ابْنِ الْأَشْرَفِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزْوَةُ غَطَفَانَ إلَى نَجْدٍ، وَهِيَ ذُو أَمْرٍ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ [ (3) ] : خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا [ (4) ] ، فَغِبْت ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقَدِمْت يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ [ (5) ] بَقَيْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةُ الْقَرَدَةِ، أَمِيرُهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا فِي شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ فِي شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ إلَى قَطَنٍ إلَى بَنِي أَسَدٍ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي الْمُحَرّمِ. ثُمّ بِئْرُ مَعُونَةَ، أَمِيرُهَا
__________
[ (1) ] ذكره الزرقانى بالحاء المهملة. (شرح على المواهب اللدنية، ج 1، ص 546) .
[ (2) ] فى ب، ت: «سالم بن عميرة» . ويقال أيضا «ابن عمرو» كما ذكر الزرقانى.
(شرح على المواهب اللدنية، ج 1، ص 549) .
[ (3) ] فى الأصل: «قال عبد الرحمن» . والتصحيح عن ب، ت، وهو ما يقتضيه السياق.
[ (4) ] هكذا فى كل النسخ. وفى غير هذا الموضع: «أربعة وخمسين شهرا» .
انظر حديث سرية عبد الله بن أنيس فيما يأتى
[ (5) ] فى ت: «لتسع» .(1/3)
الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزْوَةُ الرّجِيعِ فِي صَفَرٍ، عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، أَمِيرُهَا مَرْثَدٌ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم بدر الموعد فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا.
ثُمّ سَرِيّةُ ابْنِ عَتِيكٍ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فِي ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. فَلَمّا قُتِلَ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ فَزِعَتْ يَهُودُ إلَى سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ بِخَيْبَرَ فَأَبَى أَنْ يَرْأَسَهُمْ، فَقَامَ أُسَيْرُ بْنُ زَارِمٍ [ (1) ] بِحَرْبِهِمْ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الرّقَاعِ فِي الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا دومة الجندل في ربيع الأول، على رأس تِسْعَةٍ [ (2) ] وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرَيْسِيعَ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي لَيَالٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجّةِ سَنَةَ خَمْسٍ. ثُمّ سَرِيّةُ ابْنِ أُنَيْسٍ إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدٍ بْنِ نُبَيْحٍ، فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سِتّ، ثُمّ سَرِيّةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سِتّ إلَى الْقُرْطَاءِ [ (3) ] . ثُمّ غَزْوَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي لِحْيَان، إلَى الْغَابَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَابَةَ فِي ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية أميرها عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ إلَى الْغَمْرِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ إلَى ذِي الْقَصّةِ، فِي رَبِيعٍ
__________
[ (1) ] هكذا فى كل النسخ. وفى ابن سعد: «رازم» . (الطبقات، ج 2، ص 66) . ويقال أيضا: «أسير بن رزام» ، و «اليسير بن رزام» ، كما ذكر الزرقانى. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2 ص 205) .
[ (2) ] فى ت: «سبعة» .
[ (3) ] كذا فى الأصل وابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 56) . وفى ب، ت:
«القريطاء» . والقرطاء بطن من بنى بكر. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2 ص 172) .(1/4)
الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى بَنِي سُلَيْمٍ بِالْجَمُومِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتّ، وَكَانَتَا فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ- الْجَمُومُ مَا بَيْنَ بَطْنِ نَخْلٍ وَالنّقْرَةِ.
ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الْعِيصِ [ (1) ] فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الطّرَفِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ- وَالطّرَفُ عَلَى سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ الْمَدِينَةِ. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى حِسْمَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتّ- وَحِسْمَى وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى. ثُمّ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى وَادِي الْقُرَى فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ غَزْوَةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى فَدَكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ غَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ [فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ [ (2) ]] نَاحِيَةَ وَادِي [ (3) ] الْقُرَى إلَى جَنْبِهَا. ثُمّ غَزْوَةُ ابْنِ رَوَاحَةَ إلَى أسير بن زارم في شوال سنة ست. ثُمّ سَرِيّةُ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ إلَى الْعُرَنِيّينَ فِي شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ. ثُمّ اعْتَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذى القعدة سنة ستّ. ثم غزا والنبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ انْصَرَفَ مِنْ خَيْبَرَ إلَى وَادِي الْقُرَى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَقَاتَلَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ عُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنه إلى تربة في شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ [تُرْبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكّةَ سِتّ لَيَالٍ [ (4) ]] . ثُمّ سَرِيّةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي شَعْبَانَ إلَى نَجْدٍ، سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى فَدَكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى الْمَيْفَعَةِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ- وَالْمَيْفَعَةُ ناحية
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل وابن سعد. وفى سائر النسخ: «العرض» . قال ابن سعد: العيص بينها وبين المدينة أربع ليال. (الطبقات ج 2، ص 63) .
[ (2) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (3) ] فى ت: «وكانت أم قرفة ناحية وادي القرى» .
[ (4) ] سقط من نسخة ت.(1/5)
نَجْدٍ. ثُمّ سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى الْجِنَابِ، فِي شَوّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ اعْتَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ [ (1) ] فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ ابن أبي العوجاء السلمي في ذي الحجة سَنَةَ سَبْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى الْكَدِيدِ، فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ- وَالْكَدِيدُ وَرَاءَ قُدَيْدٍ. ثُمّ سَرِيّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ، إلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ الْمُلَوّحِ. ثُمّ غَزْوَةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، إلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ- وَأَطْلَاحُ نَاحِيَةُ الشّامِ مِنْ الْبَلْقَاءِ عَلَى لَيْلَةٍ. ثُمّ غَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى مُؤْتَةَ، سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزْوَةٌ أَمِيرُهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إلَى ذَاتِ السّلَاسِلِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ.
ثُمّ غَزْوَةُ الْخَبَطِ أَمِيرُهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ سَرِيّةُ خَضِرَةَ، أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ- وَخَضِرَةُ نَاحِيَةُ نَجْدٍ عَلَى عِشْرِينَ مِيلًا عِنْدَ بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ. ثُمّ سَرِيّةُ أَبِي قَتَادَةَ إلَى إِضَمَ [ (2) ] ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ هَدَمَ الْعُزّى لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، هَدَمَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. ثُمّ هَدَمَ سُوَاعَ، هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَكَانَ فِي رَمَضَانَ. ثُمّ هَدَمَ مَنَاةَ، هَدَمَهَا سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي جَذِيمَةَ، غَزَاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا فِي شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. ثُمّ غَزَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطّائِفَ فِي شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. وَحَجّ النّاسُ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَيُقَالُ إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَتّابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى الْحَجّ، وَيُقَالُ حَجّ النّاسُ أَوْزَاعًا [ (3) ] بِلَا أَمِيرٍ. ثم سريّة
__________
[ (1) ] كذا فى كل النسخ، ويريد عمرة القضاء، وهذا هو اسمها المعروف.
[ (2) ] فى ت: «لضم» . قال ياقوت: إضم بالكسر ثم الفتح وميم، ماء يطؤه الطريق بين مكة والمدينة. (معجم البلدان، ج 1، ص 281) .
[ (3) ] أوزاع: متفرقون. (النهاية، ج 4، ص 208) .(1/6)
عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ إلَى بَنِي تَمِيمٍ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إلَى خَثْعَمَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ بَنِي كِلَابٍ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ، أَمِيرُهَا الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ. ثُمّ سَرِيّةُ عَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزّزٍ إلَى الْحَبَشَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ عَلِيّ عليه السلام إلى الفلس، في ربيع الآخر سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ غَزْوَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ سَرِيّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرَ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ. ثُمّ هَدْمُ ذِي الْكَفّيْنِ- صَنَمُ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدّوْسِيّ. وَحَجّ النّاسُ سَنَةَ تِسْعٍ، وَحَجّ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ.
ثُمّ غَزْوَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَسَرِيّةُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى الْيَمَنِ، يُقَالُ مَرّتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ. وَحَجّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَرَجَعَ مِنْ مَكّةَ فَمَرِضَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَعَقَدَ لِأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي مَرَضِهِ إلَى الشّامِ، وَتُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَتّى بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ.
فَكَانَتْ مَغَازِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّتِي غَزَا بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً.
وَكَانَ مَا قَاتَلَ فِيهَا تِسْعًا: بَدْرُ الْقِتَالِ، وَأُحُدُ، وَالْمُرَيْسِيعُ، وَالْخَنْدَقُ، وَقُرَيْظَةُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَالطّائِفُ. وَكَانَتْ السّرَايَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَرِيّةً، وَاعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ. وَيُقَالُ قَدْ قَاتَلَ فِي بَنِي النّضِيرِ، وَلَكِنّ اللهَ جَعَلَهَا لَهُ نَفَلًا خَاصّةً. وَقَاتَلَ فِي غَزْوَةِ وَادِي الْقُرَى فِي مُنْصَرَفِهِ عَنْ خَيْبَرَ، وَقُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ. وَقَاتَلَ فِي الْغَابَةِ حَتّى قُتِلَ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَقَتَلَ مِنْ الْعَدُوّ سِتّةً.
قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ عَلَى الْمَدِينَةِ: فِي غَزْوَةِ وَدّانَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَاسْتَخْلَفَ فِي غَزْوَةِ بُوَاطَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَفِي طَلَبٍ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَفِي غَزْوَةِ ذِي الْعَشِيرَةِ أَبَا سَلَمَةَ بن عبد الأسد(1/7)
المحزومىّ، وَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْقِتَالِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْعَمْرِيّ، وَفِي غَزْوَةِ السّوِيقِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْعَمْرِيّ، وَفِي غَزْوَةِ الْكُدْرِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ الْمَعِيصِيّ، وَفِي غَزْوَةِ ذِي أَمَرّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، وَفِي غَزْوَةِ بُحْرَانَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي النّضِيرِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَفِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، وَفِي غَزْوَةِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ، وَفِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَفِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ الْغَابَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ، وَفِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، وَفِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَيُقَالُ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَشْهَلِيّ، وَفِي حَجّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.
وَكَانَ شِعَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ، فِي بَدْرٍ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ،
وَيُقَالُ جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَالْخَزْرَجِ: بَنِي عَبْدِ اللهِ، وَالْأَوْسِ: بَنِي عُبَيْدِ اللهِ، وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ: أَمِتْ أَمِتْ، وَفِي بَنِي النّضِيرِ: أَمِتْ أَمِتْ، وَفِي الْمُرَيْسِيعِ: أَمِتْ أَمِتْ، وَفِي الْخَنْدَقِ: حم لَا يُنْصَرُونَ، وَفِي قُرَيْظَةَ وَالْغَابَةِ لَمْ يُسَمّ أَحَدًا، وَفِي حُنَيْنٍ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، وَفِي الْفَتْحِ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَجَعَلَ شِعَارَ الْخَزْرَجِ: بَنِي عَبْدِ اللهِ، وَالْأَوْسِ: بَنِي عُبَيْدِ اللهِ، وَفِي خَيْبَرَ: بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَلِلْخَزْرَجِ: بَنِي عَبْدِ اللهِ، وَلِلْأَوْسِ:
بَنِي عُبَيْدِ اللهِ، وَفِي الطّائِفِ لَمْ يُسَمّ أَحَدًا.(1/8)
سَرِيّةُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَكَانَتْ سَرِيّةُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي رَمَضَانَ، عَلَى رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالُوا: أَوّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، بَعَثَهُ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا شَطْرَيْنِ، خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَكَانَ [ (1) ] من المهاجرين: أبو عبيدة ابن الْجَرّاحِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ سُرَاقَةَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَنّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ [ (2) ] وَابْنُهُ مَرْثَدُ بْنُ كَنّازٍ، وَأَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي رِجَالٍ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ، وَأَبُو دُجَانَةَ، والمنذر بن عمرو، ورافع ابن مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ [ (3) ] ، فِي رِجَالٍ لَمْ يُسَمّوْا لَنَا.
فَبَلَغُوا سَيْفَ الْبَحْرِ يَعْتَرِضُ [ (4) ] لِعِيرِ قُرَيْشٍ قَدْ جَاءَتْ مِنْ الشّامِ تُرِيدُ مَكّةَ، فِيهَا أَبُو جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ. فَالْتَقَوْا حَتّى اصْطَفّوا لِلْقِتَالِ، فَمَشَى بَيْنَهُمْ مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ حَلِيفًا للفريقين جميعا، فلم يزل يمشى إلى هولاء وَإِلَى هَؤُلَاءِ حَتّى انْصَرَفَ الْقَوْمُ وَانْصَرَفَ حَمْزَةُ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ فِي أَصْحَابِهِ، وَتَوَجّهَ أَبُو جَهْلٍ فِي عِيرِهِ وَأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ، وَلَمْ
__________
[ (1) ] فى ث: «فمن المهاجرين» .
[ (2) ] فى ث: «وستة آخرون» .
[ (3) ] فى ث: «وجابر بن عبد الله بن رئاب، وبشير بن عمرو فى ثلاثة آخرين» .
[ (4) ] كذا فى كل النسخ، ولعله يريد حمزة بن عبد المطلب.(1/9)
يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. فَلَمّا رَجَعَ حَمْزَةُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ بِمَا حَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِي، وَأَنّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ نَصَفَةً لَهُمْ، فَقَدِمَ رَهْطُ مَجْدِي عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَاهُمْ وَصَنَعَ إلَيْهِمْ خَيْرًا، وَذَكَرَ مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إنّهُ مَا عَلِمْت مَيْمُونُ النّقِيبَةِ مُبَارَكُ الْأَمْرِ. أَوْ قَالَ: رَشِيدُ الْأَمْرِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَيّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَالَا: لَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَبْعَثًا حَتّى غَزَا بِنَفْسِهِ إلَى بَدْرٍ، وَذَلِك أَنّهُ ظَنّ أَنّهُمْ لَا يَنْصُرُونَهُ إلّا فِي الدّارِ، وَهُوَ الْمُثْبَتُ.
سَرِيّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ إلَى رَابِغٍ
ثُمّ عَقَدَ لِوَاءً لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، إلَى رَابِغٍ- وَرَابِغٌ عَلَى عَشْرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُ قُدَيْدًا. فَخَرَجَ عُبَيْدَةُ فِي سِتّينَ رَاكِبًا، فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ أَحْيَاءٌ مِنْ بَطْنِ رَابِغٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ فِي مِائَتَيْنِ. فَكَانَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي الْإِسْلَامِ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، نَثَرَ كِنَانَتَهُ وَتَقَدّمَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَتَرّسَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ.
قَالَ: فَرَمَى بِمَا فِي كِنَانَتِهِ حَتّى أَفْنَاهَا، مَا فِيهَا سَهْمٌ إلّا يَنْكِي بِهِ [ (1) ] .
وَيُقَالُ: كَانَ فِي الْكِنَانَةِ عِشْرُونَ سَهْمًا، فَلَيْسَ مِنْهَا سَهْمٌ إلّا يَقَعُ فَيَجْرَحُ إنْسَانًا أَوْ دَابّةً. وَلَمْ يَكُنْ سَهْمٌ يَوْمَئِذٍ إلّا هَذَا، لَمْ يَسُلّوا السّيُوفَ وَلَمْ يَصْطَفّوا لِلْقِتَالِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الرّمْيِ وَالْمُنَاوَشَةِ، ثُمّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ. فَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَقُولُ فِيمَا حَدّثَنِي ابن أبى سبرة، عن المهاجرين مِسْمَارٍ، قَالَ: كَانَ السّتّونَ كُلّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. قال سعد:
__________
[ (1) ] نكى: قتل وجرح. (القاموس المحيط، ج 4، ص 397) .(1/10)
فَقُلْت لِعُبَيْدَةَ: لَوْ اتّبَعْنَاهُمْ لَأَصَبْنَاهُمْ، فَإِنّهُمْ قَدْ وَلّوْا مَرْعُوبِينَ. قَالَ: فَلَمْ يُتَابِعْنِي عَلَى ذَلِكَ، فَانْصَرَفْنَا إلَى الْمَدِينَةِ.
سَرِيّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ
ثُمّ عَقَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ- وَالْخَرّارُ مِنْ الْجُحْفَةِ قَرِيبٌ مِنْ خُمّ- فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُخْرُجْ يَا سَعْدُ حَتّى تَبْلُغَ الْخَرّارَ، فَإِنّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ سَتَمُرّ بِهِ.
فَخَرَجْت فِي عِشْرِينَ رَجُلًا أَوْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَكُنّا نَكْمُنُ النّهَارَ وَنَسِيرُ اللّيْلَ حَتّى صَبّحْنَاهَا صُبْحَ خَمْسٍ، فَنَجِدُ الْعِيرَ قَدْ مَرّتْ بِالْأَمْسِ. وَقَدْ كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إلَيّ أَلّا أُجَاوِزَ الْخَرّارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَجَوْت أَنْ أُدْرِكَهُمْ.
فَيُقَالُ: لَمْ يَبْعَثْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَبْعَثًا حَتّى غَزَا بِهِمْ بَدْرًا، وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ شَرَطُوا لَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ فِي دَارِهِمْ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَيّاشٍ الْمَخْزُومِيّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ.
غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ [ (1) ]
ثُمّ غَزَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صفر على رأس أحد عشر
__________
[ (1) ] الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم البلدان، ج 1، ص 92) .(1/11)
شَهْرًا، حَتّى بَلَغَ الْأَبْوَاءَ يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ وَادَعَ بَنِي ضَمْرَةَ مِنْ كِنَانَةَ عَلَى أَلّا يُكْثِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَحَدًا.
ثُمّ كَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، ثُمّ رَجَعَ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
غَزْوَةُ بُوَاطَ
ثُمّ غَزَا بُوَاطَ- وَبُوَاطُ حِيَالَ ضَبّةَ مِنْ نَاحِيَةِ ذِي خُشُبٍ، بَيْنَ بُوَاطَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ بُرُدٍ- فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، فِيهَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى
ثُمّ غَزَا فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي طَلَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَرْعَى بِالْجَمّاءِ [ (1) ] وَنَوَاحِيهَا، حَتّى بَلَغَ بَدْرًا وَلَمْ يُدْرِكْهُ.
غَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ [ (2) ]
ثُمّ غَزَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَعْتَرِضُ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ حِينَ أَبْدَأَتْ إلَى الشّامِ، فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ فَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ- وَيُقَالُ فِي مِائَتَيْنِ- وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِفُصُولِ العير من مكّة تريد
__________
[ (1) ] الحماء: جبل ناحية العقيق إلى الحرف بينه وبين المدينة ثلاثة أميال. (الطبقات:
ج 2، ص 4) .
[ (2) ] العشيرة: من ناحية ينبع بين مكة والمدينة. (معجم البلدان، ج 6، ص 181) .(1/12)
الشّامَ، قَدْ جَمَعَتْ قُرَيْشٌ أَمْوَالَهَا فَهِيَ فِي تِلْكَ الْعِيرِ، فَسَلَكَ عَلَى نَقْبٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ بُيُوتَ السّقْيَا [ (1) ] ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ.
سَرِيّةُ نَخْلَةَ
ثُمّ سَرِيّةٌ أَمِيرُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ إلَى نَخْلَةَ، وَنَخْلَةُ وَادِي بُسْتَانِ [ (2) ] ابْنِ عَامِرٍ، فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا.
قَالُوا:
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلّى الْعِشَاءَ فَقَالَ: وَافِ مَعَ الصّبْحِ، مَعَك سِلَاحُك، أَبْعَثُك وَجْهًا!
قَالَ: فَوَافَيْت الصّبْحَ وَعَلَيّ سَيْفِي وَقَوْسِي وَجَعْبَتِي وَمَعِي دَرَقَتِي، فَصَلّى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ الصّبْحَ ثُمّ انْصَرَفَ، فَيَجِدُنِي قَدْ سَبَقْته وَاقِفًا عِنْدَ بَابِهِ، وَأَجِدُ نَفَرًا مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ،
فَأَمّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ كِتَابًا. ثُمّ دَعَانِي فَأَعْطَانِي صَحِيفَةً مِنْ أَدِيمٍ خَوْلَانِيّ [ (3) ] فَقَالَ: قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى هَؤُلَاءِ النّفَرِ، فَامْضِ حَتّى إذَا سِرْت لَيْلَتَيْنِ فَانْشُرْ كِتَابِي، ثُمّ امْضِ لِمَا فِيهِ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيّ نَاحِيَةٍ؟ فَقَالَ: اُسْلُكْ النّجْدِيّةَ، تَؤُمّ رَكِيّةَ [ (4) ]
قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ بِبِئْرِ ابْن ضُمَيْرَةَ نَشَرَ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: سِرْ حَتّى تَأْتِيَ بَطْنَ نَخْلَةَ عَلَى اسْمِ اللهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَلَا تُكْرِهَن أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِك عَلَى الْمَسِيرِ مَعَك، وَامْضِ لِأَمْرِي فِيمَنْ تَبِعَك حَتّى تأتى بطن نخلة
__________
[ (1) ] السقيا: قرية جامعة من عمل الفرع بينها مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلا. (معجم البلدان، ج 5، ص 94) .
[ (2) ] قال البكري: نخلة اليمانية هي بستان ابن عامر عند العامة، والصحيح أن نخلة اليمانية هي بستان عبيد الله بن معمر. (معجم ما استعجم، ص 577) .
[ (3) ] قال ياقوت: خولان من مخاليف اليمن. وخولان أيضا قرية كانت بقرب دمشق. (معجم البلدان، ج 3، ص 496) . فلعل الأديم الخولاني منسوب إلى إحداهما.
[ (4) ] الركية: البئر. (الصحاح، ص 2361) .(1/13)
فَتَرَصّدْ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ. فَلَمّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ قَالَ: لَسْت مُسْتَكْرِهًا مِنْكُمْ أَحَدًا، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الشّهَادَةَ فَلْيَمْضِ [ (1) ] لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَرَادَ الرّجْعَةَ فَمِنْ الْآنِ! فَقَالُوا أَجْمَعُونَ: نَحْنُ سَامِعُونَ وَمُطِيعُونَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَك، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ حَيْثُ شِئْت. فَسَارَ حَتّى جَاءَ نَخْلَةَ فَوَجَدَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ الْمَخْزُومِيّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيّ. فَلَمّا رَأَوْهُمْ [ (2) ] أَصْحَابُ الْعِيرِ هَابُوهُمْ وَأَنْكَرُوا أَمْرَهُمْ، فَحَلَقَ عُكّاشَةُ رَأْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، ثُمّ أو فى لِيُطَمْئِنَ الْقَوْمَ.
قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَحَلَقْت رأس عكّاشة بيدي- وكان رأى واقد ابن عَبْدِ اللهِ وَعُكّاشَةَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ- فَيَقُولُ لَهُمْ [ (3) ] : عُمّارٌ! نَحْنُ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ! فَأَشْرَفَ عُكّاشَةُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا بَأْسَ، قَوْمٌ عُمّارٌ! فَأَمِنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَيّدُوا رِكَابَهُمْ وَسَرّحُوهَا، وَاصْطَنَعُوا طَعَامًا.
تَشَاوَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِمْ- وَكَانَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، وَيُقَالُ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ- فَقَالُوا: إنْ أَخّرْتُمْ عَنْهُمْ هَذَا الْيَوْمَ دَخَلُوا الْحَرَمَ فَامْتَنَعُوا، وَإِنْ أَصَبْتُمُوهُمْ فَفِي الشّهْرِ الْحَرَامِ. وَقَالَ قَائِلٌ:
لَا نَدْرِي [ (4) ] أَمِنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ هَذَا الْيَوْمُ أَمْ لَا. وَقَالَ قَائِلٌ: لَا نَعْلَمُ [ (5) ] هَذَا الْيَوْمَ إلّا مِنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا نَرَى أَنْ تَسْتَحِلّوهُ لِطَمَعٍ أَشْفَيْتُمْ عَلَيْهِ. فَغَلَبَ عَلَى الْأَمْرِ الّذِينَ يُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا، فَشَجّعَ الْقَوْمَ فَقَاتَلُوهُمْ. فَخَرَجَ وَاقِدُ
__________
[ (1) ] فى ب: «فليمض فإنى ماض»
[ (2) ] هكذا فى كل النسخ، والأفصح: «فلما رآهم» .
[ (3) ] فى ب: «ويقولوا هم عمار» .
[ (4) ] فى ب: «لا يدرى» .
[ (5) ] فى الأصل: «لا نعلم منهم» . وما أثبتناه عن نسخة ب(1/14)
ابن عبد الله يَقْدُمُ الْقَوْمَ، قَدْ أَنْبَضَ قَوْسَهُ وَفَوّقَ بِسَهْمِهِ، فَرَمَى عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ- وَكَانَ لَا يُخْطِئُ رَمْيَتَهُ- بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَشَدّ الْقَوْمُ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَكَمَ بن كيسان، وأعجزهم نوفل ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَاسْتَاقُوا الْعِيرَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدٌ [ (1) ] قَالَ: حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمَعَةَ الْأَسَدِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا كَرِيمَةَ ابْنَةِ الْمِقْدَادِ، عَنْ الْمِقْدَادِ بن عمرو، قال: أنا أسرت الحكم ابن كَيْسَانَ، فَأَرَادَ أَمِيرُنَا ضَرْبَ عُنُقِهِ، فَقُلْت: دَعْهُ، نَقْدُمُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تُكَلّمُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَاَللهِ لَا يُسْلِمُ هَذَا آخِرَ الْأَبَدِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ وَيَقْدَمُ إلَى أُمّهِ الْهَاوِيَةِ! فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقْبِلُ عَلَى عُمَرَ حَتّى أَسْلَمَ الْحَكَمُ، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْته قَدْ أَسْلَمَ، وَأَخَذَنِي مَا تَقَدّمَ وَتَأَخّرَ وَقُلْت: كَيْفَ أَرُدّ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي، ثُمّ أَقُولُ: إنّمَا أَرَدْت بذلك النصيحة لله ولرسوله! وقال عُمَرُ: فَأَسْلَمَ وَاَللهِ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاضٍ عَنْهُ وَدَخَلَ الْجِنَانَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ قَالَ، قَالَ الْحَكَمُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: تَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: قَدْ أسلمت. فالتفت النبىّ
__________
[ (1) ] أى حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنَا محمد بن عمر الواقدي.(1/15)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ أَطَعْتُكُمْ فِيهِ آنِفًا فَقَتَلْته، دَخَلَ النّار
قَالُوا: وَاسْتَاقُوا الْعِيرَ، وَكَانَتْ الْعِيرُ فِيهَا خَمْرٌ وَأَدَمٌ وَزَبِيبٌ جَاءُوا بِهِ مِنْ الطّائِفِ، فَقَدِمُوا بِهِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ اسْتَحَلّ مُحَمّدٌ الشّهْرَ الْحَرَامَ، فَقَدْ أَصَابَ الدّمَ وَالْمَالَ، وَقَدْ كَانَ يُحَرّمُ ذَلِكَ وَيُعَظّمُهُ. فَقَالَ مَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ: إنّمَا أَصَبْتُمْ فِي لَيْلَةٍ مِنْ شَعْبَانَ. وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ بِالْعِيرِ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقّفَ الْعِيرَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَحَبَسَ الْأَسِيرَيْنِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: مَا أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِ الشّهْرِ الْحَرَامِ، إنّمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَسّسُوا [ (1) ] أَخْبَارَ قُرَيْشٍ.
قَالُوا: وَسُقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنّوا أَنْ قَدْ هَلَكُوا، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ مَنْ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَعَنّفُوهُمْ وَلَامُوهُمْ، وَالْمَدِينَةُ تَفُورُ فَوْرَ الْمِرْجَلِ. وَقَالَتْ الْيَهُودُ:
عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّمِيمِيّ، عَمْرٌو عَمُرَتْ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيّ حَضَرَتْ الْحَرْبُ، وَوَاقِدٌ وَقَدَتْ الْحَرْبُ! قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: قَدْ تَفَاءَلُوا بِذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ اللهِ عَلَى يَهُودَ.
قَالُوا: وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ نَفْدِيَهُمَا حَتّى يَقْدُمَ صَاحِبَانَا
! يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ، عن أبيه قال، قال سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جحش حتى ننزل ببحران- وبحران
__________
[ (1) ] فى ب: «يتحسبوا» .(1/16)
نَاحِيَةُ مَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ- فَأَرْسَلْنَا أَبَاعِرَنَا، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلّ اثْنَيْنِ يَتَعَاقَبَانِ بَعِيرًا. فَكُنْت زَمِيلَ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ وَكَانَ الْبَعِيرُ لَهُ، فَضَلّ بَعِيرُنَا، وَأَقَمْنَا عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ نَبْغِيهِ. وَمَضَى أَصْحَابُنَا وَخَرَجْنَا فِي آثَارِهِمْ فَأَخْطَأْنَاهُمْ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ قَبْلَنَا بِأَيّامٍ، وَلَمْ نَشْهَدْ نَخْلَةَ، فَقَدِمْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّا قَدْ أَصَبْنَا، وَلَقَدْ أَصَابَنَا فِي سَفَرِنَا مَجَاعَةٌ، لَقَدْ خَرَجْنَا مِنْ الْمَلِيحَةِ وَبَيْنَ الْمَلِيحَةِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتّةُ بُرُدٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْدِنِ لَيْلَةٌ- بَيْنَ مَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ: لَقَدْ خَرَجْنَا مِنْ الْمَلِيحَةِ نَوْبَةً [ (1) ] ، وَمَا مَعَنَا ذَوّاقٌ حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. قَالَ قَائِلٌ: أَبَا إسْحَاقَ، كَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ، كُنّا إذَا بَلَغَ مِنّا أَكَلْنَا الْعِضَاهَ وَشَرِبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ، حَتّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَجِدُ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ قَدِمُوا فِي فِدَاءِ أَصْحَابِهِمْ،
فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَادِيَهُمْ وَقَالَ: إنّي أَخَافُ عَلَى صَاحِبَيّ.
فَلَمّا قَدِمْنَا فَادَاهُمْ [ (2) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ مِنْ
قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: إنْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَيّ قَتَلْت صَاحِبَيْكُمْ.
وَكَانَ فِدَاؤُهُمَا أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً فِضّةً لِكُلّ وَاحِدٍ، وَالْأُوقِيّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ الْمِرْبَاعُ [ (3) ] ، فَلَمّا رَجَعَ عَبْدُ اللهِ بن جحش من نخلة خمّس مَا غَنِمَ، وَقَسَمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ سَائِرَ الْغَنَائِمِ، فكان
__________
[ (1) ] النوبة: الجماعة من الناس. (لسان العرب، ج 2، ص 272) .
[ (2) ] فى الأصل: «فإذا هم» بالذال المعجمة. وفى ت: «وإنى أخاف على صاحبي فإذا هم» .
وما أثبتناه قراءة ب.
[ (3) ] المرباع: ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس فى الجاهلية. (القاموس المحيط، ج 3، ص 25) .(1/17)
أَوّلَ خُمُسٍ خُمِسَ فِي الْإِسْلَامِ حَتّى نَزَلَ بَعْدُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [ (1) ] .
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ [ (2) ] ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ غَنَائِمَ أَهْلِ نَخْلَةَ، وَمَضَى إلَى بَدْرٍ، حَتّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَأَعْطَى كُلّ قَوْمٍ حقّهم.
قالوا: ونزل القرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [ (3) ] ، فَحَدّثَهُمْ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنّ الْقِتَالَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَ، وَأَنّ الّذِي يَسْتَحِلّونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ صَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَتّى يُعَذّبُوهُمْ وَيَحْبِسُوهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُفْرِهِمْ بِاَللهِ وَصَدّهِمْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ، وَفِتْنَتِهِمْ إيّاهُمْ عَنْ الدّينِ، وَيَقُولُ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [ (4) ] . قَالَ: عَنَى بِهِ إِسَافَ وَنَائِلَةَ [ (5) ] .
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: فَوَدَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ، وَحَرّمَ الشّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرّمُهُ، حَتّى أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ بَرَاءَةٌ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبّاسٍ: هَلْ وَدَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] سورة 8 الأنفال 41
[ (2) ] فى ت: «ينار» . وما أثبتناه عن الأصل وب، وابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1608) .
[ (3) ] سورة 2 البقرة 217.
[ (4) ] سورة 2 البقرة 191.
[ (5) ] إساف ونائلة: صنمان معروفان كانا لقريش.(1/18)
ابْنَ الْحَضْرَمِيّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنّهُ لَمْ يُودَ. وَفِي تِلْكَ السّرِيّةِ سُمّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو مَعْشَرٍ.
تَسْمِيَةُ مَنْ خَرَجَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي سَرِيّتِهِ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّميمىّ، وعكّاشة بن محصن، وخالد ابن أَبِي الْبَكِيرِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَلَمْ يَشْهَدَا [ (1) ] الْوَاقِعَةَ. وَيُقَالُ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَيُقَالُ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالثّابِتُ عندنا ثمانية.
بدر القتال
قالوا: وَلَمّا تَحَيّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصِرَافَ الْعِيرِ مِنْ الشّامِ، نَدَبَ أَصْحَابَهُ لِلْعِيرِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ بِعَشْرِ لَيَالٍ، يَتَحَسّسَانِ [ (2) ] خَبَرَ الْعِيرِ، حَتّى نَزَلَا عَلَى كَشَدٍ الْجُهَنِيّ بِالنّخْبَارِ مِنْ الْحَوْرَاءِ- وَالنّخْبَارُ مِنْ وَرَاءِ ذِي الْمَرْوَةِ عَلَى السّاحِلِ- فَأَجَارَهُمَا، وَأَنْزَلَهُمَا، وَلَمْ يَزَالَا مُقِيمَيْنِ عِنْدَهُ فِي خِبَاءٍ [ (3) ] حَتّى مَرّتْ الْعِيرُ، فَرَفَعَ طَلْحَةُ وَسَعِيدٌ عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْأَرْضِ، فَنَظَرَا إلَى الْقَوْمِ، وَإِلَى مَا تَحْمِلُ الْعِيرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ الْعِيرِ يَقُولُونَ: يَا كَشَدُ،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ولم يشهدوا» . والتصحيح عن ب.
[ (2) ] فى الأصل: «يتجسسان» ، وفى ت: «يتحسبان» ، والمثبت من ث. قال السهيلي: التحسس بالحاء أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم هو أن تفحص عنها بغيرك.
(الروض الأنف، ج 2، ص 61) .
[ (3) ] فى ح: «فى خباء وبر» .(1/19)
هَلْ رَأَيْت أَحَدًا مِنْ عُيُونِ مُحَمّدٍ؟ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللهِ، وَأَنّى عُيُونُ مُحَمّدٍ بِالنّخْبَارِ؟ فَلَمّا رَاحَتْ الْعِيرُ بَاتَا حَتّى أَصْبَحَا ثُمّ خَرَجَا، وَخَرَجَ مَعَهُمَا كَشَدٌ خَفِيرًا، حَتّى أَوْرَدَهُمَا ذَا الْمَرْوَةِ. وَسَاحَلَتْ الْعِيرُ فَأَسْرَعَتْ، وَسَارُوا اللّيْلَ وَالنّهَارَ فَرَقًا مِنْ الطّلَبِ. فَقَدِمَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ وَسَعِيدٌ الْمَدِينَةَ الْيَوْمَ الّذِي لَاقَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ، فَخَرَجَا يَعْتَرِضَانِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَاهُ بِتُرْبَانَ- وَتُرْبَانُ بَيْنَ مَلَلٍ وَالسّيَالَةِ [ (1) ] عَلَى الْمَحَجّةِ، وَكَانَتْ مَنْزِلَ ابْنِ أُذَيْنَةَ الشّاعِرِ. وَقَدِمَ كَشَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعِيدٌ وَطَلْحَةُ إجَارَتَهُ إيّاهُمَا، فَحَيّاهُ [ (2) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ وَقَالَ: أَلَا أَقْطَعُ لَك يَنْبُعَ؟ [ (3) ] فَقَالَ: إنّي كَبِيرٌ وَقَدْ نَفِدَ عُمْرِي، وَلَكِنْ أَقْطِعْهَا لِابْنِ أَخِي. فَقَطَعَهَا لَهُ قَالُوا: وَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: وَهَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، لَعَلّ اللهَ يُغْنِمكُمُوهَا.
فَأَسْرَعَ مَنْ أَسْرَعَ، حَتّى إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيُسَاهِمُ أَبَاهُ فِي الْخُرُوجِ، فَكَانَ مِمّنْ سَاهَمَ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ وَأَبُوهُ فِي الْخُرُوجِ إلَى بَدْرٍ، فَقَالَ سَعْدٌ لِأَبِيهِ: إنّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْجَنّةِ آثَرْتُك بِهِ، إنّي لَأَرْجُو الشّهَادَةَ فِي وَجْهِي هَذَا! فَقَالَ خَيْثَمَةُ: آثِرْنِي، وَقِرْ مَعَ نِسَائِك! فَأَبَى سَعْدٌ، فَقَالَ خَيْثَمَةُ: إنّهُ لَا بُدّ لِأَحَدِنَا مِنْ أَنْ يُقِيمَ. فَاسْتَهَمَا، فَخَرَجَ سهم سعد قتل بِبَدْرٍ.
وَأَبْطَأَ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بشر كثير من أصحابه، كرهوا
__________
[ (1) ] فى ح: «السبالة» . وقال ياقوت: السيالة أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
(معجم البلدان، ج 5، ص 189) .
[ (2) ] فى ب، ت: «حباه» بالباء.
[ (3) ] ينبع عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر. (معجم البلدان، ج 8، ص 526) .(1/20)
خُرُوجَهُ، وَكَانَ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ. وَكَانَ مَنْ تَخَلّفَ لَمْ يُلَمْ لِأَنّهُمْ مَا خَرَجُوا عَلَى قِتَالٍ، وَإِنّمَا خَرَجُوا لِلْعِيرِ. وَتَخَلّفَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ نِيّاتِ وَبَصَائِرَ، لَوْ ظَنّوا أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ مَا تَخَلّفُوا. وَكَانَ مِمّنْ تَخَلّفَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أُسَيْدُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَرّك وَأَظْهَرَك عَلَى عَدُوّك! وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا تَخَلّفْت عَنْك رَغْبَةً بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِك، وَلَا ظَنَنْت أَنّك تُلَاقِي عَدُوّا، وَلَا ظَنَنْت إلّا أَنّهَا الْعِيرُ.
فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقْت! وَكَانَتْ أَوّلَ غَزْوَةٍ أَعَزّ اللهُ فِيهَا الْإِسْلَامَ، وَأَذَلّ فِيهَا أَهْلَ الشّرْكِ.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ، ثُمّ نَزَلَ بِالْبُقْعِ وَهِيَ بُيُوتُ السّقْيَا- الْبُقْعُ نَقْبُ بَنِي دِينَارٍ بِالْمَدِينَةِ، وَالسّقْيَا مُتّصِلٌ بِبُيُوتِ الْمَدِينَةِ- يَوْمَ الْأَحَدِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ.
فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ، وَعَرَضَ الْمُقَاتِلَةَ، فَعَرَضَ عَبْدُ الله بن عمر، وأسامة ابن زَيْدٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَرَدّهُمْ وَلَمْ يُجِزْهُمْ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْت أَخِي عُمَيْرَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَارَى، فَقُلْت: مَا لَك يَا أَخِي؟ قَالَ: إنّي أَخَافُ أَنْ يَرَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَصْغِرَنِي فَيَرُدّنِي، وَأَنَا أُحِبّ الْخُرُوجَ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقُنِي الشّهَادَةَ. قَالَ: فَعُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَصْغَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ!
فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ: كُنْت أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ مِنْ صِغَرِهِ، فَقُتِلَ بِبَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ سِتّ عَشْرَةَ سنة.(1/21)
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدّثَنِي عَيّاشُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَشْجَعِيّ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ بِئْرِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَاءِ بِئْرِهِمْ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوّلَ مَنْ شَرِبَ مِنْ بِئْرِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا بَعْدَ ذَلِكَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى عِنْدَ بُيُوتِ السّقْيَا [ (1) ] ، وَدَعَا يَوْمَئِذٍ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: اللهُمّ، إنّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُك وَخَلِيلُك وَنَبِيّك، دَعَاك لِأَهْلِ مَكّةَ! وَإِنّي مُحَمّدٌ عَبْدُك وَنَبِيّك، أَدْعُوَك لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدّهِمْ وَثِمَارِهِمْ! اللهُمّ، حَبّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ، وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ الْوَبَاءِ بِخُمّ، اللهُمّ، إنّي قَدْ حَرّمْت مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرّمَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُك مَكّةَ! وَخُمّ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْجُحْفَةِ.
قَالُوا: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ وَبَسْبَسُ [ (2) ] بْنُ عَمْرٍو مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا. قَالُوا: وَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ [ (3) ] إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فقال: يا رسول الله،
__________
[ (1) ] فى ث: «بعد [أن] خرج إلى بدر» .
[ (2) ] فى ح: «بسيس» . قال السهيلي: وفى مصنف أبى داود بسيسة، وبعض رواة أبى داود يقول بسيسة بضم الباء وكذلك فى كتاب مسلم. (الروض الأنف، ج 2، ص 64) .
وقيل بسبسة كما ذكر ابن الأثير. (أسد الغابة، ج 1، ص 179) .
[ (3) ] فى ت: «حزام» .(1/22)
لَقَدْ سَرّنِي مَنْزِلُك هَذَا، وَعَرْضُك فِيهِ أَصْحَابَك، وَتَفَاءَلْت بِهِ، إنّ هَذَا مَنْزِلُنَا- بَنِي سَلَمَةَ- حَيْثُ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ حُسَيْكَةَ مَا كَانَ- حُسَيْكَةُ الذّبَابِ [ (1) ] ، وَالذّبَابُ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، كَانَ بِحُسَيْكَةَ يَهُودَ، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا مَنَازِلُ كثيرة- فعرضنا ها هنا أَصْحَابَنَا، فَأَجَزْنَا مَنْ كَانَ يُطِيقُ السّلَاحَ وَرَدَدْنَا مَنْ صَغُرَ عَنْ حَمْلِ السّلَاحِ، ثُمّ سِرْنَا إلَى يَهُودِ حُسَيْكَةَ، وَهُمْ أَعَزّ يَهُودَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ، فَقَتَلْنَاهُمْ كَيْفَ شِئْنَا، فَذَلّتْ لَنَا سَائِرُ يهود إلى اليوم، وأنا أرجوا يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَقُرَيْش، فَيُقِرّ اللهُ عَيْنَك مِنْهُمْ.
وَكَانَ خَلّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ يَقُولُ: لَمّا كَانَ مِنْ النّهَارِ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِخُرْبَى [ (2) ] ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ: مَا ظَنَنْت إلّا أَنّكُمْ قَدْ سِرْتُمْ! فَقَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ النّاسَ بِالْبُقْعِ [ (3) ] .
قَالَ عَمْرٌو: نِعْمَ الْفَأْلُ، وَاَللهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَغْنَمُوا وَأَنْ تَظْفَرُوا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ! إنّ هَذَا مَنْزِلُنَا يَوْمَ سِرْنَا إلَى حُسَيْكَةَ. قَالَ: فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَيّرَ اسْمَهُ، وَسَمّاهُ السّقْيَا. قَالَ: فَكَانَتْ فِي نَفْسِي أَنْ أَشْتَرِيَهَا، حَتّى اشْتَرَاهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ بِبِكْرَيْنِ، وَيُقَالُ بِسَبْعِ أَوَاقٍ.
قَالَ: فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ سَعْدًا اشْتَرَاهَا، فَقَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ
! قَالُوا: وَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية الأحد من بيوت السّقيا، لاثنى عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وهم ثلاثمائة وَخَمْسَةٍ، وَثَمَانِيَةٌ تَخَلّفُوا فَضَرَبَ لَهُمْ بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ. وكانت الإبل سبعين بعيرا،
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل وب. وفى ت: «الدباب» . وذكره البكري بالذال. (معجم ما استعجم، ص 383) .
[ (2) ] ذكره ياقوت ولكنه لم يعين موضعه. وقال السمهودي: خربى كحبلى منزلة لبنى سلمة فيما بين مسجد القبلتين إلى المذاد. (وفاء الوفا، ج 2، ص 298) .
[ (3) ] فى ث: «بالبقيع» .(1/23)
وَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ الْإِبِلَ، الِاثْنَيْنِ، وَالثّلَاثَةَ، وَالْأَرْبَعَةَ. فَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَمَرْثَدٌ- وَيُقَالُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَكَانَ مَرْثَدٍ- يَتَعَاقَبُونَ بَعِيرًا وَاحِدًا. وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو كَبْشَةَ، وَأَنَسَةُ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ. وَكَانَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالطّفَيْلُ، وَالْحُصَيْنُ، ابْنَا الْحَارِثِ، وَمِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ عَلَى بَعِيرٍ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ نَاضِحٍ، ابْتَاعَهُ مِنْ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيّ. وَكَانَ مُعَاذٌ، وَعَوْفٌ، وَمُعَوّذٌ، بَنُو عَفْرَاءَ، وَمَوْلَاهُمْ أَبُو الْحَمْرَاءِ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ وَحَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَكَانَ خِرَاشُ بْنُ الصّمّةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ [ (1) ] عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ عتبة بن غزوان، وطليب ابن عُمَيْرٍ عَلَى جَمَلٍ لِعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، يُقَالُ له العبيس [ (2) ] . وكان مصعب ابن عُمَيْرٍ، وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَمَسْعُودُ بْنُ رَبِيعٍ عَلَى جَمَلٍ لِمُصْعَبٍ، وَكَانَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ، وَسَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى جَمَلٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَ عُثْمَانُ، وَقُدَامَةُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَظْعُونٍ، وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ، عَلَى بَعِيرٍ يَتَعَاقَبُونَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ على بعير، وكان سعد ابن مُعَاذٍ، وَأَخُوهُ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسٍ، عَلَى جَمَلٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ نَاضِحٍ، يُقَالُ لَهُ الذّيّالُ، وَكَانَ سَعْدُ بن زيد، وسلمة ابن سَلَامَةَ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَرَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ عَلَى نَاضِحٍ لِسَعْدِ بْنِ زَيْدٍ، مَا تَزَوّدَ إلّا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
__________
[ (1) ] فى ت: «حزام» .
[ (2) ] هكذا فى الأصل بصيغة التصغير. وفى ب، ت: «العبس» .(1/24)
فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْت مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ، وَكَانَ كُلّ ثَلَاثَةٍ يَتَعَاقَبُونَ بَعِيرًا، فَكُنْت أَنَا وَأَخِي خَلّادُ بْنُ رَافِعٍ عَلَى بَكْرٍ لَنَا، وَمَعَنَا عبيد بن زيد ابن عَامِرٍ، فَكُنّا نَتَعَاقَبُ. فَسِرْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِالرّوْحَاءِ [ (1) ] ، أَذَمّ [ (2) ] بِنَا بَكْرُنَا، فَبَرَكَ عَلَيْنَا، وَأَعْيَا، فَقَالَ أَخِي: اللهُمّ، إنّ لَك عَلَيّ نَذْرًا، لَئِنْ رَدَدْتنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَأَنْحَرَنهُ. قَالَ: فَمَرّ بِنَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَرَكَ عَلَيْنَا بَكْرُنَا. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ وَتَوَضّأَ فِي إنَاءٍ، ثُمّ قَالَ: افْتَحَا فَاهُ! فَفَعَلْنَا، ثُمّ صَبّهُ فِي فِيهِ، ثُمّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمّ عَلَى عُنُقِهِ، ثُمّ عَلَى حَارِكِهِ [ (3) ] ، ثُمّ عَلَى سَنَامِهِ، ثُمّ عَلَى عَجُزِهِ، ثُمّ عَلَى ذَنَبِهِ، ثُمّ قَالَ: ارْكَبَا!
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَحِقْنَاهُ أَسْفَلَ الْمُنْصَرَفِ [ (4) ] وَإِنّ بَكْرَنَا لَيَنْفِرُ بِنَا، حَتّى إذَا كُنّا بِالْمُصَلّى [ (5) ] رَاجِعِينَ مِنْ بَدْرٍ بَرَكَ عَلَيْنَا، فَنَحَرَهُ أَخِي، فَقَسّمَ لَحْمَهُ وَتَصَدّقَ بِهِ.
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي بَدْرٍ عَلَى عِشْرِينَ جَمَلًا.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سعد بن أبى وقاص،
__________
[ (1) ] قال البكري: الروحاء على ليلتين من المدينة بينهما أحد وأربعون ميلا. (معجم ما استعجم، ص 427) .
[ (2) ] فى الأصل: «إذ مر بنا» ، والمثبت من ب وأذم: انقطع سيره (النهاية، ج 2، ص 50) .
[ (3) ] الحارك: أعلى الكاهل وعظم مشرف من جانبيه ومنبت أدنى العرف إلى الظهر الذي يأخذ به من يركبه. (القاموس المحيط، ج 3، ص 298) .
[ (4) ] المنصرف: موضع بين مكة وبدر، وبينهما أربعة برد. (معجم البلدان، ج 8، ص 177) .
[ (5) ] المصلى: موضع الصلاة، وهو هنا موضع بعينه فى عقيق المدينة كما ذكر ياقوت.
(معجم البلدان، ج 8، ص 79) .(1/25)
قَالَ: خَرَجْنَا إلَى بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا سَبْعُونَ بَعِيرًا، فَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ، الثّلَاثَةُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَالِاثْنَانِ، عَلَى بَعِيرٍ. وَكُنْت أَنَا مِنْ أَعْظَمِ أَصْحَابِ النّبِيّ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ عَنْهُ غِنَاءً، أَرْجَلَهُمْ رُجْلَةً، وَأَرْمَاهُمْ بِسَهْمٍ، لَمْ أَرْكَبْ خُطْوَةً ذَاهِبًا وَلَا رَاجِعًا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ فَصَلَ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا: اللهُمّ، إنّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، وَعُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، وَجِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ، وَعَالَةٌ فَأَغْنِهِمْ مِنْ فَضْلِك!
قَالَ: فَمَا رَجَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ إلّا وَجَدَ ظَهْرًا، لِلرّجُلِ الْبَعِيرُ وَالْبَعِيرَانِ، وَاكْتَسَى مَنْ كَانَ عَارِيًا، وَأَصَابُوا طَعَامًا مِنْ أَزْوَادِهِمْ، وَأَصَابُوا فِدَاءَ الْأَسْرَى فَأَغْنَى بِهِ كُلّ عَائِلٍ. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُشَاةِ قَيْسَ بن أبي صعصعة- واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد ابن عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ- وَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَصَلَ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا أَنْ يَعُدّ الْمُسْلِمِينَ. فَوَقَفَ لَهُمْ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ [ (1) ] فَعَدّهُمْ، ثُمّ أَخْبَرَ النّبِيّ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُيُوتِ السّقْيَا حَتّى سَلَكَ بَطْنَ الْعَقِيقِ، ثُمّ سَلَكَ طَرِيقَ الْمُكْتَمِنِ [ (2) ] حَتّى خَرَجَ عَلَى بَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى حِجَارٍ، فَبَنَى تَحْتَهَا مَسْجِدًا، فَصَلّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَصْبَحَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَهُوَ هُنَاكَ، وَأَصْبَحَ بِبَطْنِ مَلَلٍ وَتُرْبَانَ، بَيْنَ الْحَفِيرَةِ وَمَلَلٍ.
وَقَالَ سَعْدُ بن أبى وقّاص: لمّا كان بِتُرْبَانَ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ، اُنْظُرْ إلَى الظّبْيِ. قال: فأفوّق له بسهم،
__________
[ (1) ] فى ج: «بئر أبى عبيدة» . وقال ابن سعد: بئر أبى عنبة على ميل من المدينة. (الطبقات، ج 2، ص 6) .
[ (2) ] هكذا فى كل النسخ، ولعله يريد هنا المكيمن، ويقال مكيمن الحماء، وهو الجبل المتصل بجماء تضارع ببطن العقيق. (وفاء الوفاء، ج 2، ص 376) .(1/26)
وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَ ذَقَنَهُ [ (1) ] بَيْنَ مَنْكِبَيّ وَأُذُنَيّ، ثُمّ قَالَ: ارْمِ، اللهُمّ سَدّدْ رَمْيَتَهُ!
قَالَ: فَمَا أَخْطَأَ سَهْمِي عَنْ نَحْرِهِ. قَالَ:
فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَخَرَجْت أَعْدُو، فَأَجِدُهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَذَكّيْته فَحَمَلْنَاهُ حَتّى نَزَلْنَا قَرِيبًا، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُسِمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ بِجَادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ.
قَالُوا: وَكَانَ مَعَهُمْ فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ. وَيُقَالُ فَرَسٌ لِلزّبَيْرِ. وَلَمْ يَكُنْ إلّا فَرَسَانِ، وَلَا اخْتِلَافَ عِنْدَنَا أَنّ الْمِقْدَادَ لَهُ فَرَسٌ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ ضِبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ، عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ مَعِي فَرَسٌ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةُ. وَحَدّثَنِي سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الْغَنَوِيّ، عَنْ آبَائِهِ، قَالَ: شَهِدَ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يَوْمَئِذٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ السّيْلُ.
قَالُوا: وَلَحِقَتْ قُرَيْشٌ بِالشّامِ فِي عِيرِهَا، وَكَانَتْ الْعِيرُ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَتْ فِيهَا أَمْوَالٌ عِظَامٌ، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ قُرَشِيّ وَلَا قُرَشِيّةٌ لَهُ مِثْقَالٌ فَصَاعِدًا، إلّا بَعَثَ بِهِ فِي الْعِيرِ، حَتّى إنّ الْمَرْأَةَ لَتَبْعَثُ بِالشّيْءِ التّافِهِ. فَكَانَ يُقَالُ: إنّ فِيهَا لَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالُوا أَقَلّ، وَإِنْ كَانَ لَيُقَالُ إنّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَالِ لِآلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ- أَبِي أُحَيْحَةَ- إمّا مَالٌ لَهُمْ، أَوْ مَالٌ مَعَ قَوْمٍ قِرَاضٌ عَلَى النّصْفِ، فَكَانَتْ عَامّةُ الْعِيرِ لَهُمْ. وَيُقَالُ كَانَ لِبَنِي مَخْزُومٍ فِيهَا مِائَتَا بَعِيرٍ، و [خَمْسَةٌ أَوْ] [ (2) ] أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ، وَكَانَ يُقَالُ لِلْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ فِيهَا أَلْفُ مِثْقَالٍ، وَكَانَ لِأُمَيّةَ بن خلف ألفا مثقال.
__________
[ (1) ] فى ح: «رأسه» .
[ (2) ] سقط فى ت.(1/27)
فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحُوَيْرِثِ قال: كان لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فِيهَا عَشْرَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ إلَى غَزّةَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، وَكَانَتْ عِيرَاتُ بُطُونِ قُرَيْشٍ فِيهَا- يَعْنِي الْعِيرَ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي عون مولى المسور، عن مخرمة ابن نَوْفَلٍ، قَالَ: لَمّا لَحِقْنَا بِالشّامِ أَدْرَكَنَا رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ، فَأَخْبَرَنَا أَنّ مُحَمّدًا كَانَ عَرَضَ لِعِيرِنَا فِي بَدْأَتِنَا، وَأَنّهُ تَرَكَهُ مُقِيمًا يَنْتَظِرُ رَجْعَتَنَا، قَدْ حَالَفَ عَلَيْنَا أَهْلَ الطّرِيقِ وَوَادَعَهُمْ. قَالَ مَخْرَمَةُ: فَخَرَجْنَا خَائِفِينَ نَخَافُ الرّصَدَ، فَبَعَثْنَا ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ فَصَلْنَا مِنْ الشّامِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ يَقُولُ: لَمّا كُنّا بِالزّرْقَاءِ- وَالزّرْقَاءُ بِالشّامِ بِنَاحِيَةِ مَعَانَ مِنْ أَذْرِعَاتٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ- وَنَحْنُ مُنْحَدِرُونَ إلَى مَكّةَ، لقينا رجلا مِنْ جُذَامٍ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ عَرَضَ مُحَمّدٌ لَكُمْ فِي بَدْأَتِكُمْ فِي أَصْحَابِهِ. فَقُلْنَا:
مَا شَعَرْنَا! قَالَ: بَلَى، فَأَقَامَ شَهْرًا ثُمّ رَجَعَ إلَى يَثْرِبَ، وَأَنْتُمْ يَوْمَ عَرَضَ مُحَمّدٌ لَكُمْ مُخْفُونَ، فَهُوَ الْآنَ أَحْرَى أَنْ يَعْرِضَ لَكُمْ، إنّمَا يَعُدّ لَكُمْ الْأَيّامَ عَدّا، فَاحْذَرُوا عَلَى عيركم وارتأوا آراءكم، فو الله مَا أَرَى مِنْ عَدَدٍ، وَلَا كُرَاعَ، وَلَا حَلْقَةٍ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، فَبَعَثُوا ضَمْضَمًا، وَكَانَ فِي الْعِيرِ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ مَرّتْ بِهِ وَهُوَ بِالسّاحِلِ مَعَ بُكْرَانِ لَهُ، فَاسْتَأْجَرُوهُ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا. وَأَمَرَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يُخْبِرَ قُرَيْشًا أَنّ مُحَمّدًا قَدْ عَرَضَ لِعِيرِهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْدَعَ [ (1) ] بَعِيرَهُ إذَا دَخَلَ، وَيُحَوّلَ رَحْلَهُ، وَيَشُقّ قَمِيصَهُ مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ وَيَصِيحَ: الْغَوْثَ! الْغَوْثَ! وَيُقَالُ إنّمَا بَعَثُوهُ مِنْ تَبُوكَ [ (2) ] . وَكَانَ فِي الْعِيرِ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ العاص، ومخرمة بن نوفل.
__________
[ (1) ] جدع بعيره: قطع أنفه. (شرح أبى ذر، ص 153) .
[ (2) ] تبوك: موضع بين الخجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر. (معجم البلدان، ج 3، ص 365) .(1/28)
قَالُوا: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَبْلَ [ (1) ] ضَمْضَمَ بْنِ عَمْرٍو رُؤْيَا رَأَتْهَا فَأَفْزَعَتْهَا، وَعَظُمَتْ فِي صَدْرِهَا. فَأَرْسَلَتْ إلَى أَخِيهَا الْعَبّاسِ فَقَالَتْ:
يَا أَخِي، قَدْ رَأَيْت وَاَللهِ رُؤْيَا اللّيْلَةَ أَفْظَعْتهَا، وَتَخَوّفْت أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِك مِنْهَا شَرّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَلَيّ أُحَدّثْك مِنْهَا. قَالَتْ: رَأَيْت رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ حَتّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آلَ غُدَرَ [ (2) ] ، انْفِرُوا إلَى مَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! فَصَرَخَ بِهَا ثَلَاثَ مَرّاتٍ، فَأَرَى النّاسَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، ثُمّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنّاسُ يَتْبَعُونَهُ إذْ مَثَلَ بِهِ [ (3) ] بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا ثَلَاثًا، ثُمّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ، ثُمّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا ثَلَاثًا. ثُمّ أَخَذَ صَخْرَةً مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ فَأَرْسَلَهَا، فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتّى إذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكّةَ، وَلَا دَارٌ مِنْ دُورِ مَكّةَ، إلّا دَخَلَتْهُ مِنْهَا فِلْذَةٌ. فَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ فَيَقُولُ:
لَقَدْ رَأَيْت كُلّ هَذَا، وَلَقَدْ رَأَيْت فِي دَارِنَا فِلْقَةً مِنْ الصّخْرَةِ الّتِي انْفَلَقَتْ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ، فَلَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِبْرَةً، وَلَكِنّ اللهَ لَمْ يُرِدْ أَنْ نُسْلِمَ يَوْمَئِذٍ لَكِنّهُ أَخّرَ إسْلَامَنَا إلَى مَا أَرَادَ.
قَالُوا: وَلَمْ يَدْخُلْ دَارًا وَلَا بَيْتًا مِنْ دُورِ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا بَنِي زُهْرَةَ مِنْ تِلْكَ الصّخْرَةِ شَيْءٌ. قَالُوا: فَقَالَ أَخُوهَا: إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا! فَخَرَجَ مُغْتَمّا حَتّى لَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ، فَفَشَا الْحَدِيثُ فِي النّاسِ. قَالَ [ (4) ] : فَغَدَوْت أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ فِي رَهْطٍ
__________
[ (1) ] أى قبل مجيء ضمضم.
[ (2) ] قال السهيلي: أما أبو عبيد الله، فقال فى المصنف: تقول يا غدر، أى يا غادر، فإذا جمعت قلت يا آل غدر. (الروض الأنف، ج 2، ص 61) .
[ (3) ] مثل به: قام به. (شرح أبى ذر، ص 153) .
[ (4) ] أى قال العباس.(1/29)
مِنْ قُرَيْشٍ يَتَحَدّثُونَ قُعُودًا بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا رَأَتْ عَاتِكَةُ هَذِهِ! فَقُلْت: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبّأَ رِجَالُكُمْ حَتّى تَتَنَبّأَ نِسَاؤُكُمْ؟ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ أَنّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ كَذَا وَكَذَا- الّذِي رَأَتْ- فَسَنَتَرَبّصُ بِكُمْ ثَلَاثًا، فَإِنْ يَكُ مَا قَالَتْ حَقّا فَسَيَكُونُ، وَإِنْ مَضَتْ الثّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ نَكْتُبْ [ (1) ] عَلَيْكُمْ أَنّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ.
فَقَالَ: يَا مُصَفّرَ اسْتِهِ، أَنْتَ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَاللّؤْمِ مِنّا! قَالَ أَبُو جَهْلٍ:
إنّا اسْتَبَقْنَا الْمَجْدَ وَأَنْتُمْ فَقُلْتُمْ: فِينَا السّقَايَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَسْقُونَ الْحَاجّ! ثُمّ قُلْتُمْ: فِينَا الْحِجَابَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَحْجُبُونَ الْبَيْتَ! ثُمّ قُلْتُمْ: فِينَا النّدْوَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَلُونَ الطّعَامَ وَتُطْعِمُونَ النّاسَ، ثُمّ قُلْتُمْ:
فِينَا الرّفَادَةُ! فَقُلْنَا: لَا نُبَالِي، تَجْمَعُونَ عِنْدَكُمْ مَا تَرْفِدُونَ بِهِ الضّعِيفَ! فَلَمّا أَطْعَمْنَا النّاسَ وَأَطْعَمْتُمْ، وَازْدَحَمَتْ الرّكْبُ، وَاسْتَبَقْنَا الْمَجْدَ، فَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قُلْتُمْ: مِنّا نَبِيّ! ثُمّ قلتم: منا نبيّة! فلا واللّات والعزى، لا كان هذا أبدا! قال: فو الله، مَا كَانَ مِنّي مِنْ غِيَرٍ إلّا [ (2) ] أَنّي جَحَدْت ذَلِكَ، وَأَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ عَاتِكَةُ رَأَتْ شَيْئًا. فَلَمّا أَمْسَيْت لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا وِلَادَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ إلّا جَاءَتْ، فَقُلْنَ: رَضِيتُمْ بِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ يَقَعُ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمّ قَدْ تَنَاوَلَ نِسَاءَكُمْ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، وَلَمْ يَكُنْ لَك عِنْدَ ذَلِكَ غَيْرَةٌ؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا فَعَلْت إلّا مَا لَا بَالَ [ (3) ] بِهِ. وَاَللهِ لَأَعْتَرِضَن لَهُ غَدًا، فَإِنْ عَادَ لَأَكْفِيكُمُوهُ. فَلَمّا أَصْبَحُوا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ الّذِي رَأَتْ فِيهِ عَاتِكَةُ مَا رَأَتْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا يَوْمٌ! ثُمّ الْغَدُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَانِ يَوْمَانِ! فَلَمّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَيّامٍ، مَا بَقِيَ!
__________
[ (1) ] فى ت: «يكتب عليكم» ، بالبناء للمجهول.
[ (2) ] فى ب، ت: «ما كان منى غير إلا أنى» ، وفى ح: «ما كان منى غير أنى» .
[ (3) ] فى ح: «إلا لأنى لا أبالى به» .(1/30)
قَالَ: وَغَدَوْت فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ، أَرَى أَنْ قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبّ أَنْ أُدْرِكَهُ، وَأَذْكُرَ مَا أَحْفَظَتْنِي النّسَاءُ به من مقالتهنّ لى ما قلن، فو الله إنّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ- وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللّسَانِ، حَدِيدَ النّظَرِ- إذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ بَنِي سَهْمٍ يَشْتَدّ، فَقُلْت: مَا بَالُهُ، لَعَنَهُ اللهُ؟ أَكُلّ هَذَا فَرْقًا مِنْ أَنْ أُشَاتِمَهُ؟ فَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ ضمضم ابن عَمْرٍو وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، يَا آلَ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ، اللّطِيمَةَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ! الْغَوْثَ، الْغَوْثَ! وَاَللهِ، مَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا! وَضَمْضَمُ يُنَادِي بِذَلِكَ بِبَطْنِ الْوَادِي، قَدْ جَدَعَ أُذُنَيْ بَعِيرِهِ، وَشَقّ قَمِيصَهُ قُبُلًا وَدُبُرًا، وَحَوّلَ رَحْلَهُ. وَكَانَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنِي قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكّةَ وَإِنّي لَأَرَى فِي النّوْمِ، وَأَنَا عَلَى رَاحِلَتِي، كَأَنّ وَادِيَ مَكّةَ يَسِيلُ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ دَمًا، فَاسْتَيْقَظْت فَزِعًا مَذْعُورًا، وَكَرِهْتهَا لِقُرَيْشٍ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّهَا مُصِيبَةٌ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ: إنّ الّذِي نَادَى يَوْمَئِذٍ إبْلِيسُ، تَصَوّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، فَسَبَقَ ضَمْضَمًا فَأَنْفَرَهُمْ إلَى عِيرِهِمْ، ثُمّ جَاءَ ضَمْضَمٌ بَعْدَهُ. فَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَعْجَبَ مِنْ أَمْرِ ضَمْضَمٍ قَطّ، وَمَا صَرَخَ عَلَى لِسَانِهِ إلّا شَيْطَانٌ، إنّهُ لَمْ يُمَلّكْنَا مِنْ أُمُورِنَا شَيْئًا حَتّى نَفَرْنَا عَلَى الصّعْبِ وَالذّلُولِ. وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الّذِي جَاءَنَا فَاسْتَنْفَرَنَا إلَى الْعِيرِ إنْسَانٌ، إنْ هُوَ إلّا شَيْطَانٌ! فَقِيلَ: كَيْفَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ فَقَالَ: إنّي لَأَعْجَبُ مِنْهُ، مَا مَلّكَنَا مِنْ أُمُورِنَا شَيْئًا! قَالُوا: وَتَجَهّزَ النّاسُ، وَشُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَ النّاسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إمّا خَارِجٍ، وَإِمّا بَاعِثٍ مَكَانَهُ رَجُلًا. فَأَشْفَقَتْ قُرَيْشٌ لِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَسُرّتْ بَنُو هَاشِمٍ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: كَلَا، زَعَمْتُمْ أَنّا كَذَبْنَا وَكَذَبَتْ عَاتِكَةُ! فَأَقَامَتْ قُرَيْشٌ ثَلَاثَةً تَتَجَهّزُ، وَيُقَالُ يَوْمَيْنِ، وأخرجت قريش أسلحتها(1/31)
وَاشْتَرَوْا سِلَاحًا، وَأَعَانَ قَوِيّهُمْ ضَعِيفَهُمْ. وَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمّدٌ وَالصّبَاةُ مَعَهُ مِنْ شُبّانِكُمْ، وَأَهْلُ يَثْرِبَ، قَدْ عَرَضُوا لِعِيرِكُمْ وَلَطِيمَةِ قُرَيْشٍ- وَاللّطِيمَةُ: التّجَارَةُ. قَالَ أَبُو الزّنَادِ:
اللّطِيمَةُ جَمِيعُ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ لِلتّجَارَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: اللّطِيمَةُ الْعِطْرُ خَاصّةً- فَمَنْ أَرَادَ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرٌ، وَمَنْ أَرَادَ قُوّةً فَهَذِهِ قُوّةٌ. وقام زمعة بن الأسود فقال: إنه واللّات وَالْعُزّى، مَا نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، إنْ طَمِعَ مُحَمّدٌ وَأَهْلُ يَثْرِبَ أَنْ يَعْتَرِضُوا لِعِيرِكُمْ فِيهَا حَرَائِبُكُمْ [ (1) ] فَأَوْعِبُوا [ (2) ] ، وَلَا يَتَخَلّفْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ لَا قُوّةَ لَهُ فَهَذِهِ قُوّةٌ! وَاَللهِ، لَئِنْ أَصَابَهَا مُحَمّدٌ لَا يَرُوعُكُمْ بِهِمْ إلّا وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْكُمْ. وَقَالَ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّهُ وَاَللهِ مَا نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ أَجَلّ مِنْ هَذَا، أَنْ تُسْتَبَاحَ عِيرُكُمْ وَلَطِيمَةُ قُرَيْشٍ، فِيهَا أَمْوَالُكُمْ وَحَرَائِبُكُمْ [ (3) ] . وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَهُ نَشّ [ (4) ] فَصَاعِدًا إلّا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْعِيرِ، فَمَنْ كَانَ لَا قُوّةَ بِهِ فَعِنْدَنَا قُوّةٌ، نَحْمِلُهُ وَنُقَوّيهِ. فَحَمَلَ عَلَى عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَقَوّاهُمْ وَخَلَفَهُمْ فِي أَهْلِهِمْ بِمَعُونَةٍ. وَقَامَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَحَرّضَا [ (5) ] النّاسَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَمْ يَدْعُوَا إلَى قُوّةٍ وَلَا حُمْلَانٍ. فَقِيلَ لَهُمَا:
أَلَا تَدْعُوَانِ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ قَوْمُكُمَا مِنْ الْحُمْلَانِ؟ فَقَالَا: وَاَللهِ مَا لَنَا مَالٌ وَمَا الْمَالُ إلّا لِأَبِي سُفْيَانَ. وَمَشَى نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ [ (6) ] إلَى أهل القوّة
__________
[ (1) ] فى ح: «خزائنكم» . والحرائب: جمع الحريبة، وحريبة الرجل ماله الذي يعيش به.
(الصحاح، ص 108) .
[ (2) ] أوعب القوم إذا خرجوا كلهم إلى الغزو. (لسان العرب، ج 1، ص 800) .
[ (3) ] فى ح: «خزائنكم» .
[ (4) ] النش: عشرون درهما، وهو نصف أوقية لأنهم يسمون الأربعين درهما أوقية. (الصحاح، ص 1021) .
[ (5) ] فى ت، ح: «فحضا» .
[ (6) ] فى ح: «الديلمي» .(1/32)
مِنْ قُرَيْشٍ، فَكَلّمَهُمْ فِي بَذْلِ النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ لمن خرج، فكلّم عبد الله ابن أبى ربيعة فقال: هذ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَضَعْهَا حَيْثُ رَأَيْت. وَكَلّمَ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ أو ثلاثمائة، ثم قوّى بها السّلَاحَ وَالظّهْرَ.
قَالُوا: وَكَانَ لَا يَتَخَلّفُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلّا بَعَثَ مَكَانَهُ بَعِيثًا، فَمَشَتْ قُرَيْشٌ إلَى أَبِي لَهَبٍ فَقَالُوا: إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَإِنّك إنْ تَخَلّفْت عَنْ النّفِيرِ يَعْتَبِرُ بِك غَيْرُك مِنْ قَوْمِك، فَاخْرُجْ أو ابعث أحدا. فقال: واللّات وَالْعُزّى لَا أَخْرُجُ وَلَا أَبْعَثُ أَحَدًا! فَجَاءَهُ أبو جهل فقال: قم أبا عتبة، فو الله مَا خَرَجْنَا إلّا غَضَبًا لِدِينِك وَدِينِ آبَائِك! وَخَافَ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يُسْلِمَ أَبُو لَهَبٍ، فَسَكَتَ أَبُو لَهَبٍ فَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَبْعَثْ، وَمَا مَنَعَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يَخْرُجَ إلّا إشْفَاقٌ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَإِنّهُ كَانَ يَقُولُ: إنّمَا رُؤْيَا عَاتِكَةَ أَخْذٌ بِالْيَدِ. وَيُقَالُ إنّهُ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ: اُخْرُجْ وَدَيْنِي لَك! فَخَرَجَ عَنْهُ.
قَالُوا: وَأَخْرَجَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ دُرُوعًا لَهُمَا، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا عَدّاسٌ [ (1) ] وَهُمَا يُصْلِحَانِ دُرُوعَهُمَا وَآلَةَ حَرْبِهِمَا، فَقَالَ: مَا تُرِيدَانِ؟ قَالَا: أَلَمْ تَرَ إلَى الرّجُلِ الّذِي أَرْسَلْنَاك إلَيْهِ بِالْعِنَبِ فِي كَرْمِنَا بِالطّائِفِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَا: نخرج فنقاتله. فبكى وقال: لا تخرجا، فو الله إنّهُ لَنَبِيّ! فَأَبَيَا فَخَرَجَا، وَخَرَجَ مَعَهُمَا فَقُتِلَ بِبَدْرٍ مَعَهُمَا.
قَالُوا: وَاسْتَقْسَمَتْ قُرَيْشٌ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ هُبَلَ لِلْخُرُوجِ، فَاسْتَقْسَمَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ عِنْدَ هُبَلَ بِالْآمِرِ وَالنّاهِي، فَخَرَجَ الْقَدَحُ النّاهِي لِلْخُرُوجِ، فَأَجْمَعُوا الْمُقَامَ حَتّى أَزْعَجَهُمْ أَبُو جهل فقال: ما استقسمت
__________
[ (1) ] عداس هو غلام لهما، كما ذكر ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 62) .(1/33)
وَلَا نَتَخَلّفُ عَنْ عِيرِنَا! وَلَمّا تَوَجّهَ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ خَارِجًا، وَكَانَ بِذِي طُوًى [ (1) ] ، أَخْرَجَ قِدَاحَهُ فَاسْتَقْسَمَ بِهَا، فَخَرَجَ النّاهِي لِلْخُرُوجِ، فَلَقِيَ غَيْظًا، ثُمّ أَعَادَهَا الثّانِيَةَ فَخَرَجَ مِثْلُ ذَلِكَ، فَكَسَرَهَا، وَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قِدَاحًا أَكْذَبَ مِنْ هَذِهِ! وَمَرّ بِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاك غَضْبَانَ يَا أَبَا حُكَيْمَةَ؟ فَأَخْبَرَهُ زَمَعَةُ فَقَالَ: امْضِ عَنْك أَيّهَا الرّجُلُ، وَمَا أَكْذَبَ مِنْ هَذِهِ الْقِدَاحِ! قَدْ أَخْبَرَنِي عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ مِثْلَ الّذِي أَخْبَرْتنِي أَنّهُ لَقِيَهُ. ثُمّ مَضَيَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لِضَمْضَمٍ: إذَا قَدِمْت [ (2) ] عَلَى قُرَيْشٍ فَقُلْ لَهَا لَا تَسْتَقْسِمُوا [ (3) ] بِالْأَزْلَامِ.
حَدّثَنِي محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: سَمِعْت حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ يَقُولُ: مَا وَجّهْت وَجْهًا قَطّ كَانَ أَكْرَهَ لِي مِنْ مَسِيرِي إلَى بَدْرٍ، وَلَا بَانَ لِي فِي وَجْهٍ قَطّ. مَا بَانَ لِي قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ.
ثُمّ يَقُولُ: قَدِمَ ضَمْضَمٌ فَصَاحَ بِالنّفِيرِ، فَاسْتَقْسَمْت بِالْأَزْلَامِ، كُلّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الّذِي أَكْرَهُ، ثُمّ خَرَجْت عَلَى ذَلِكَ حَتّى نَزَلْنَا مَرّ الظّهْرَانِ [ (4) ] .
فَنَحَرَ ابْنُ الْحَنْظَلِيّةِ [ (5) ] جُزُرًا، فَكَانَتْ جَزُورٌ مِنْهَا بِهَا حَيَاةٌ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إلّا أَصَابَهُ مِنْ دَمِهَا، فَكَانَ هَذَا بَيّنًا. ثُمّ هَمَمْت بِالرّجُوعِ، ثُمّ أَذْكُرُ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ وَشُؤْمَهُ، فَيَرُدّنِي حَتّى مَضَيْت لِوَجْهِي.
__________
[ (1) ] ذو طوى: واد بمكة. (معجم ما استعجم، ص 457) .
[ (2) ] فى ت: «أتيت» .
[ (3) ] فى ب، ت، ح: «لا تستقسم» .
[ (4) ] مر الظهران على مرحلة من مكة. (معجم البلدان، ج 8، ص 21) .
[ (5) ] ابن الحنظلية: كنية أبى جهل.(1/34)
فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنَا حِينَ بَلَغْنَا الثّنِيّةَ الْبَيْضَاءَ- وَالثّنِيّةُ الْبَيْضَاءُ الّتِي تُهْبِطُكَ عَلَى فَخّ وَأَنْتَ مُقْبِلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ- إذَا عَدّاسٌ جَالِسٌ عَلَيْهَا وَالنّاسُ يَمُرّونَ، إذْ مَرّ عَلَيْهِ ابْنَا رَبِيعَةَ، فَوَثَبَ إلَيْهِمَا فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهِمَا فِي غَرْزِهِمَا، وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي وَأُمّي أَنْتُمَا، وَاَللهِ إنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَمَا تُسَاقَانِ إلّا إلَى مَصَارِعِكُمَا! وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلُ دُمُوعُهُمَا عَلَى خَدّيْهِ، فَأَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ أَيْضًا، ثُمّ مَضَيْت، وَمَرّ بِهِ الْعَاصُ [ (1) ] بْنُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ حِينَ وَلّى عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: يُبْكِينِي سَيّدَايَ وَسَيّدَا أَهْلِ الْوَادِي، يَخْرُجَانِ إلَى مَصَارِعِهِمَا، وَيُقَاتِلَانِ رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ الْعَاصُ:
وَإِنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: فَانْتَفَضَ عَدّاسٌ انْتِفَاضَةً، وَاقْشَعَرّ جِلْدُهُ، ثُمّ بَكَى وَقَالَ: إي وَاَللهِ، إنّهُ لَرَسُولُ اللهِ إلَى النّاسِ كَافّةً. قَالَ: فَأَسْلَمَ الْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، ثُمّ مَضَى وَهُوَ عَلَى الشّكّ حَتّى قُتِلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَكّ وَارْتِيَابٍ. وَيُقَالُ رَجَعَ عَدّاسٌ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَيُقَالُ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ- وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
قَالُوا: وَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا [ (2) ] قَبْلَ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَتَنْزِلُ [ (3) ] هَذَا، وَقَدْ آوَى مُحَمّدًا وَآذَنّا بِالْحَرْبِ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قُلْ مَا شِئْت، أَمَا إنّ طَرِيقَ عِيرِكُمْ عَلَيْنَا.
قَالَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ: مَهْ، لَا تَقُلْ هَذَا لِأَبِي الْحَكَمِ، فَإِنّهُ سَيّدُ أَهْلِ الْوَادِي! قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أُمَيّةُ، أَمَا وَاَللهِ
لَسَمِعْت مُحَمّدًا يَقُولُ «لَأَقْتُلَن أُمَيّةَ بْنَ خَلَف» .
قَالَ أُمَيّةُ: أَنْتَ سَمِعْته؟ قال، قلت: نعم.
__________
[ (1) ] فى الأصل. «عاصم بن منبه» . وما أثبتناه عن سائر النسخ، وهكذا ذكره ابن إسحاق أيضا.
(السيرة النبوية، ج 2، ص 295) .
[ (2) ] فى ت: «وخرج سعد بن معاذ إلى مكة قبل بدر» .
[ (3) ] فى ت، ح: «أتترك هذا» .(1/35)
قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَلَمّا جَاءَ النّفِيرُ أَبَى أُمَيّةُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إلَى بَدْرٍ، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَأَبُو جَهْلٍ، وَمَعَ عُقْبَةَ مِجْمَرَةٌ فِيهَا بَخُورٌ، وَمَعَ أَبِي جَهْلٍ مُكْحُلَةٌ وَمِرْوَدٌ، فَأَدْخَلَهَا عُقْبَةُ تَحْتَهُ وَقَالَ: تَبَخّرْ، فَإِنّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ! وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: اكْتَحِلْ، فَإِنّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ! قَالَ أُمَيّةُ: ابْتَاعُوا لِي أَفْضَلَ بَعِيرٍ فِي الْوَادِي. فَابْتَاعُوا لَهُ جَمَلًا بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ نَعَمِ بَنِي قُشَيْرٍ، فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَصَارَ فِي سَهْمِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ [ (1) ] .
قَالُوا: وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِمّنْ خَرَجَ إلَى الْعِيرِ أَكْرَهَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الحارث ابن عَامِرٍ، وَقَالَ: لَيْتَ قُرَيْشًا تَعْزِمُ عَلَى الْقُعُودِ، وَأَنّ مَالِي فِي الْعِيرِ تَلِفَ، وَمَالَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَيْضًا. فَيُقَالُ: إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِهَا، أَفَلَا تَزَعَهَا [ (2) ] عَنْ الْخُرُوجِ؟ قَالَ: إنّي أَرَى قُرَيْشًا قَدْ أَزْمَعَتْ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَا أَرَى أَحَدًا بِهِ طِرْقٌ [ (3) ] تَخَلّفَ إلّا مِنْ عِلّةٍ، وَأَنَا أَكْرَهُ خِلَافَهَا، وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ قُرَيْشٌ مَا أَقُولُ الْآنَ، مَعَ أَنّ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ رَجُلٌ مَشْئُومٌ عَلَى قَوْمِهِ، مَا أَعْلَمُهُ إلّا يُحْرِزُ [ (4) ] قَوْمَهُ أَهْلَ يَثْرِبَ. وَلَقَدْ قَسَمَ مَالًا مِنْ مَالِهِ بَيْنَ وَلَدِهِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مَكّةَ. وَجَاءَهُ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَتْ لِلْحَارِثِ عِنْدَهُ أَيَادٍ، فَقَالَ: أَبَا عَامِرٍ، رَأَيْت رُؤْيَا كَرِهْتهَا، وَإِنّي كَالْيَقْظَانِ [ (5) ] عَلَى رَاحِلَتِي، وَأَرَى كَأَنّ وَادِيَكُمْ يَسِيلُ دَمًا مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى أَعْلَاهُ. قَالَ الْحَارِثُ:
مَا خَرَجَ أَحَدٌ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ أَكْرَهَ لَهُ مِنْ وَجْهِي هَذَا. قَالَ: يَقُولُ ضَمْضَمٌ لَهُ: وَاَللهِ، إنّي لَأَرَى أَنْ تَجْلِسَ. فقال الحارث: لو سمعت هذا منك
__________
[ (1) ] كذا فى كل النسخ، وفى ابن إسحاق: «خبيب بن إساف» . (السيرة النبوية، ج 2، ص 349) . وهو ما أثبته ابن عبد البر أيضا. (الاستيعاب، ص 164) .
[ (2) ] فى ح: «أفلا تردعها» .
[ (3) ] به طرق: أى به قوة. (القاموس المحيط، ج 3، ص 257) .
[ (4) ] فى ب: «إلا يحذر» .
[ (5) ] فى ب: «وإنى أراك كاليقظان» .(1/36)
قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مَا سِرْت خُطْوَةً! فَاطْوِ هَذَا الْخَبَرَ أَنْ تَعْلَمَهُ قُرَيْشٌ، فَإِنّهَا تَتّهِمُ كُلّ مَنْ عَوّقَهَا عَنْ الْمَسِيرِ. وَكَانَ ضَمْضَمٌ قَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْحَارِثِ بِبَطْنِ يَأْجَجَ [ (1) ] .
قَالُوا: وَكَرِهَتْ قُرَيْشٌ- أَهْلُ الرّأْيِ مِنْهُمْ- الْمَسِيرَ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مِنْ أَبْطَئِهِمْ [ (2) ] عَنْ ذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حزام، وأبو البخترىّ، وعلىّ بن أميّة ابن خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، حَتّى بَكّتَهُمْ [ (3) ] أَبُو جَهْلٍ بِالْجُبْنِ- وَأَعَانَهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ- فِي الْخُرُوجِ، فَقَالُوا:
هَذَا فِعْلُ النّسَاءِ! فَأَجْمَعُوا الْمَسِيرَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا تَدَعُوا أَحَدًا مِنْ عَدُوّكُمْ خَلْفَكُمْ.
قَالُوا: وَمِمّا اُسْتُدِلّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِلْخُرُوجِ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ، أَنّهُ مَا عَرَضَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حُمْلَانًا، وَلَا حَمَلُوا أَحَدًا مِنْ النّاسِ. وَإِنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَأْتِيهِمْ حَلِيفًا أَوْ عَدِيدًا وَلَا قُوّةَ لَهُ، فَيَطْلُبُ الْحُمْلَانَ مِنْهُمْ، فَيَقُولُونَ: إنْ كَانَ لَك مَالٌ فَأَحْبَبْت أَنْ تَخْرُجَ فَافْعَلْ، وَإِلّا فَأَقِمْ! حَتّى كَانَتْ قُرَيْشٌ تَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
فَلَمّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ، ذَكَرُوا الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ، وَخَافُوهُمْ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ، وَكَانَ أَشَدّهُمْ خَوْفًا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ وَإِنْ ظَفِرْتُمْ بِاَلّذِي تريدون، فإنا
__________
[ (1) ] هو مكان على ثمانية أميال من مكة، كما ذكر ياقوت. (معجم البلدان، ج 8، ص 490) .
[ (2) ] فى الأصل، ت، ث، خ: «أبطأ بهم» . وأما أثبتناه قراءة نسخة ب.
[ (3) ] فى ت: «حتى نكتهم» .(1/37)
لَا نَأْمَنُ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ، إنّمَا تَخَلّفَ نِسَاءٌ وَذُرّيّةٌ، وَمَنْ لَا طَعْمَ [ (1) ] بِهِ فَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ [ (2) ] ! فَتَصَوّرَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. قَدْ عَرَفْتُمْ شَرَفِي وَمَكَانِي فِي قَوْمِي، أَنَا لَكُمْ جَارٍ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَطَابَتْ نَفْسُ عُتْبَةَ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ:
فَمَا تُرِيدُ؟ هَذَا سَيّدُ كِنَانَةَ وَهُوَ لَنَا جَارٍ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ. فَقَالَ عُتْبَةُ:
لَا شَيْءَ، أَنَا خَارِجٌ! وَكَانَ الّذِي بَيْنَ بَنِي كِنَانَة وقريش فِيمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ فِرَاسٍ اللّيْثِيّ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، أَنّ ابْنًا لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ أحد بنى معيص بن عامر بن لوى خَرَجَ يَبْغِي ضَالّةً لَهُ، وَهُوَ غُلَامٌ فِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ، وَعَلَيْهِ حُلّةٌ، وَكَانَ غُلَامًا وَضِيئًا، فمر بعامر بن يزيد ابن عَامِرِ بْنِ الْمُلَوّحِ بْنِ يَعْمُرَ، وَكَانَ بِضَجْنَانَ [ (3) ] ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: ابْنٌ لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ. فَقَالَ: يَا بَنِي بَكْرٍ، لَكُمْ فِي قُرَيْشٍ دَمٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا كَانَ رَجُلٌ يَقْتُلُ هَذَا بِرَجُلِهِ إلّا اسْتَوْفَى.
فَأَتْبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فَقَتَلَهُ بِدَمٍ كَانَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ. فَتَكَلّمَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ يَزِيدَ: قَدْ كَانَتْ لَنَا فِيكُمْ دِمَاءٌ، فَمَا شِئْتُمْ؟ فَإِنْ شِئْتُمْ فأدوا مالنا قِبَلَكُمْ وَنُؤَدّي إلَيْكُمْ مَا كَانَ فِينَا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِنّمَا هُوَ الدّمُ، رَجُلٌ بِرَجُلٍ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَتَجَافَوْا عَنّا فِيمَا قِبَلَنَا، وَنَتَجَافَى عَنْكُمْ فِيمَا قِبَلَكُمْ. فَهَانَ ذَلِكَ الْغُلَامُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: صَدَقَ، رَجُلٌ بِرَجُلٍ! فَلَهَوْا عَنْهُ أَنْ يَطْلُبُوا بِدَمِهِ.
فَبَيْنَا أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ، إذْ نَظَرَ إلَى عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ سَيّدُ بَنِي بَكْرٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَلَمّا رَآهُ قَالَ: مَا أَطْلُبُ أَثَرًا بعد عين!
__________
[ (1) ] الطعم بالضم: الطعام والقدرة. (القاموس المحيط، ج 4، ص 144) .
[ (2) ] فى ت: «رأيكم» .
[ (3) ] ضجنان: جبل بناحية مكة على طريق المدينة. (معجم ما استعجم، ص 618) .(1/38)
وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ، وَهُوَ مُتَوَشّحٌ بِسَيْفِهِ، فَعَلَاهُ بِهِ حَتّى قَتَلَهُ، ثُمّ أَتَى مَكّةَ مِنْ اللّيْلِ فَعَلّقَ سَيْفَ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ الّذِي قَتَلَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَمّا أَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ رَأَوْا سَيْفَ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ، فَعَرَفُوا أَنّ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ قَتَلَهُ، وَكَانَ يُسْمَعُ مِنْ مِكْرَزٍ فِي ذَلِكَ قَوْلُ [ (1) ] . وَجَزِعَتْ بَنُو بَكْرٍ مِنْ قَتْلِ سَيّدِهَا، فَكَانَتْ مُعِدّةً لِقَتْلِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، سَيّدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ سَادَاتِهَا.
فَجَاءَ النّفِيرُ وَهُمْ عَلَى هَذَا مِنْ الْأَمْرِ، فَخَافُوهُمْ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ بِمَكّةَ مِنْ ذَرَارِيّهِمْ، فَلَمّا قَالَ سُرَاقَةُ مَا قَالَ، وَهُوَ يَنْطِقُ بِلِسَانِ إبْلِيسَ، شَجُعَ الْقَوْمُ وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ سِرَاعًا. وَخَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدّفَافِ: سَارّةِ مَوْلَاةِ عَمْرِو بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطّلِبِ، وَعَزّةَ مَوْلَاةِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ، وَمَوْلَاةِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، يُغَنّينَ فِي كُلّ مَنْهَلٍ، وَيَنْحَرُونَ الْجُزُرَ. وَخَرَجُوا بِالْجَيْشِ [ (2) ] يَتَقَاذَفُونَ بِالْحِرَابِ، وَخَرَجُوا بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مُقَاتِلًا، وَقَادُوا مِائَةَ فَرَسٍ بَطَرًا وَرِئَاءَ النّاسِ كَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ ... [ (3) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: أَيَظُنّ مُحَمّدٌ أَنْ يُصِيبَ مِنّا مَا أَصَابَ بِنَخْلَةَ وَأَصْحَابُهُ؟ سَيَعْلَمُ أَنَمْنَعُ [ (4) ] عِيرَنَا أَمْ لَا! وَكَانَتْ الْخَيْلُ لِأَهْلِ الْقُوّةِ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي بَنِي مَخْزُومٍ مِنْهَا ثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَكَانَتْ الْإِبِلُ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْخَيْلِ كُلّهُمْ دَارِعٌ.
وَكَانُوا مِائَةً، وَكَانَ فِي الرّجّالَةِ دُرُوعٌ سِوَى ذَلِكَ.
قَالُوا: وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ، وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا حِينَ دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ وَاسْتَبْطَئُوا ضَمْضَمًا وَالنّفِيرَ. فَلَمّا كَانَتْ اللّيْلَةُ التي يصبحون فيها على ماء بدر،
__________
[ (1) ] ذكر ابن إسحاق أبيات مكرز بن حفص فى السيرة. (السيرة النبوية، ج 2، ص 262)
[ (2) ] فى ب، ت: «الحبش» .
[ (3) ] سورة 8 الأنفال 47
[ (4) ] فى ت: «أمنع» .(1/39)
جَعَلَتْ الْعِيرُ تُقْبِلُ بِوَجْهِهَا [ (1) ] إلَى مَاءِ بَدْرٍ. وَكَانُوا بَاتُوا [ (2) ] مِنْ وَرَاءِ بَدْرٍ آخِرَ لَيْلَتِهِمْ، وَهُمْ عَلَى أَنْ يُصْبِحُوا بَدْرًا إنْ لَمْ يَعْتَرِضْ لَهُمْ، فَمَا أَقَرّتْهُمْ الْعِيرُ حَتّى ضَرَبُوهَا بِالْعُقُلِ، عَلَى أَنّ بَعْضَهَا لَيُثْنَى بِعِقَالَيْنِ، وَتُرَجّعُ الْحَنِينَ تَوَارُدًا إلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَمَا بِهَا إلَى الْمَاءِ حَاجَةٌ، لَقَدْ شَرِبَتْ بِالْأَمْسِ. وَجَعَلَ أَهْلُ الْعِيرِ يَقُولُونَ: إنّ هَذَا شَيْءٌ مَا صَنَعَتْهُ مُنْذُ خَرَجْنَا! قَالُوا: وَغَشِيَتْنَا تِلْكَ اللّيْلَةَ ظُلْمَةٌ حَتّى مَا نُبْصِرُ شَيْئًا.
وَكَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ وَرَدَا عَلَى مَجْدِي بَدْرًا يَتَحَسّسَانِ [ (3) ] الْخَبَرَ، فَلَمّا نَزَلَا مَاءَ بَدْرٍ أَنَاخَا رَاحِلَتَيْهِمَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمَاءِ، ثُمّ أَخَذَا أَسْقِيَتَهُمَا يَسْتَقِيَانِ مِنْ الْمَاءِ، فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِي جُهَيْنَةَ يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا بَرْزَةُ، وَهِيَ تَلْزَمُ صَاحِبَتَهَا فِي دِرْهَمٍ كَانَ لَهَا عَلَيْهَا، وَصَاحِبَتُهَا تَقُولُ: إنّمَا الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، قَدْ نَزَلَتْ الرّوْحَاءَ. وَمَجْدِي بْنُ عَمْرٍو يَسْمَعُهَا فَقَالَ: صَدَقَتْ! فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ بَسْبَسُ وَعَدِيّ انْطَلَقَا رَاجِعِينَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتّى لَقِيَاهُ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ [ (4) ] فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، وَكَانَ أَحَدَ الْبَكّائِينَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ سَلَكَ فَجّ الرّوْحَاءِ مُوسَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَصَلّوْا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي بِعِرْقِ الظّبْيَةِ
- وَهِيَ مِنْ الرّوْحَاءِ عَلَى مِيلَيْنِ مِمّا يَلِي الْمَدِينَةَ إذَا خَرَجْت عَلَى يَسَارِك. فَأَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ تِلْكَ اللّيْلَةَ بِبَدْرٍ، قَدْ تَقَدّمَ الْعِيرَ وَهُوَ خَائِفٌ
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ب، ت، ح: «بوجوهها» .
[ (2) ] فى ب، ت: «وكانوا يأتون» .
[ (3) ] فى ت: «يتحسبان» .
[ (4) ] وهو من الروحاء على ميلين كما بذكر الواقدي بعد.(1/40)
مِنْ الرّصَدِ، فَقَالَ: يَا مَجْدِي، هَلْ أَحْسَسْت أَحَدًا؟ تَعْلَمُ وَاَللهِ مَا بِمَكّةَ مِنْ قُرَشِيّ وَلَا قُرَشِيّةٍ لَهُ نَشّ فَصَاعِدًا- وَالنّشّ نِصْفُ أُوقِيّةٍ، وَزْنُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- إلّا وَقَدْ بَعَثَ بِهِ مَعَنَا، وَلَئِنْ كَتَمْتنَا شَأْنَ عَدُوّنَا لَا يُصَالِحُك رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً. فَقَالَ مَجْدِي: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت أَحَدًا أُنْكِرُهُ، وَلَا بَيْنَك وَبَيْنَ يَثْرِبَ مِنْ عَدُوّ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا عَدُوّ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، وَمَا كُنْت لَأُخْفِيهِ عَلَيْك، إلّا أَنّي قَدْ رَأَيْت رَاكِبَيْنِ أَتَيَا إلَى هَذَا الْمَكَانِ- فَأَشَارَ إلَى مُنَاخِ عَدِيّ وَبَسْبَسٍ- فَأَنَاخَا بِهِ، ثُمّ اسْتَقَيَا بِأَسْقِيَتِهِمَا، ثُمّ انْصَرَفَا. فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مُنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ أَبْعَارًا مِنْ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتّهُ، فَإِذَا فِيهِ نَوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاَللهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ، هَذِهِ عُيُونُ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، مَا أَرَى الْقَوْمَ إلّا قَرِيبًا! فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ، فَسَاحَلَ بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا يَسَارًا، وَانْطَلَقَ سَرِيعًا. وَأَقْبَلَتْ قريش مِنْ مَكّةَ يَنْزِلُونَ كُلّ مَنْهَلٍ يُطْعِمُونَ الطّعَامَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَيَنْحَرُونَ الْجُزُرَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ فِي مَسِيرِهِمْ إذْ تَخَلّفَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، وَهُمَا يَتَحَدّثَانِ [ (1) ] ، قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَلَمْ تَرَ إلَى رُؤْيَا عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ لَقَدْ خَشِيت مِنْهَا. قَالَ الْآخَرُ: فَاذْكُرْهَا [ (2) ] ! فَذَكَرَهَا، فَأَدْرَكَهُمَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: مَا تُحَدّثَانِ بِهِ؟ قَالَا: نَذْكُرُ رُؤْيَا عَاتِكَةَ.
فَقَالَ: يَا عَجَبًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ! لَمْ تَرْضَ أَنْ تَتَنَبّأَ عَلَيْنَا رِجَالُهُمْ حَتّى تَتَنَبّأَ عَلَيْنَا النّسَاءُ! أَمَا وَاَللهِ، لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى مَكّةَ لَنَفْعَلَنّ بِهِمْ وَلَنَفْعَلَنّ! قَالَ عُتْبَةُ: إنّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَقَرَابَةً قَرِيبَةً. قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هَلْ لَك أَنْ تَرْجِعَ؟ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتَرْجِعَانِ بَعْدَ مَا سِرْتُمَا، فَتَخْذُلَانِ قَوْمَكُمَا، وَتَقْطَعَانِ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُمْ ثأركم بأعينكم؟ أتظنّان أنّ محمّدا وأصحابه
__________
[ (1) ] فى ح: «يترددان» .
[ (2) ] فى ت: «فاذكرها فأدركهما» .(1/41)
يلاقونكما؟ كلّا والله، ألا فو الله إنّ مَعِي مِنْ قَوْمِي مِائَةً وَثَمَانِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَحِلّونَ إذَا حَلَلْت، وَيَرْحَلُونَ إذَا رَحَلْت، فَارْجِعَا إنْ شِئْتُمَا! قَالَا: وَاَللهِ، لَقَدْ هَلَكْت وَأَهْلَكْت قَوْمَك! ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ لِأَخِيهِ شَيْبَةَ: هَذَا رَجُلٌ مَشْئُومٌ- يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ- وَإِنّهُ لَا يَمَسّهُ مِنْ قَرَابَةِ مُحَمّدٍ مَا يَمَسّنَا، مَعَ أَنّ مُحَمّدًا مَعَهُ الْوَلَدُ، فَارْجِعْ بِنَا وَدَعْ قَوْلَهُ! قَالَ شَيْبَةُ: تَكُونُ وَاَللهِ سُبّةٌ عَلَيْنَا يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَنْ نَرْجِعَ الْآنَ بَعْدَ مَا سِرْنَا! فَمَضَيَا. ثُمّ انْتَهَوْا إلَى الْجُحْفَةِ [ (1) ] عِشَاءً، فَنَامَ جُهَيْمُ بْنُ الصّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَ: إنّي أَرَى أَنّي بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ أَنْظُرُ إلَى رَجُلٍ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مَعَهُ بَعِيرٌ، حَتّى وَقَفَ عَلَيّ فَقَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، وَأَبُو الْحَكَمِ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ فِي رِجَالٍ سَمّاهُمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَفَرّ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَخِيهِ. قَالَ: يقول فائل مِنْهُمْ: وَاَللهِ، إنّي لَأَظُنّكُمْ الّذِينَ تَخْرُجُونَ إلَى مَصَارِعِكُمْ! قَالَ: ثُمّ أَرَاهُ ضَرَبَ فِي لَبّةِ بَعِيرِهِ فَأَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إلّا أَصَابَهُ بَعْضُ دَمِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِأَبِي جَهْلٍ، وَشَاعَتْ هَذِهِ الرّؤْيَا فِي الْعَسْكَرِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا نَبِيّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنْ الْمَقْتُولُ نَحْنُ أَوْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ! فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِجُهَيْمٍ: إنّمَا يَلْعَبُ بِك [ (2) ] الشّيْطَانُ فِي مَنَامِك، فَسَتَرَى غَدًا خِلَافَ مَا تَرَى، يُقْتَلُ أَشْرَافُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَيُؤْسَرُونَ. قَالَ: فَخَلَا عُتْبَةُ بِأَخِيهِ فقال:
هل لك فى الرجوع؟ فهذه الرويا مثل رويا عَاتِكَةَ، وَمِثْلُ قَوْلِ عَدّاسٍ، وَاَللهِ مَا كَذَبَنَا عَدّاسٌ، وَلِعَمْرِي لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ كَاذِبًا إنّ فى العرب لمن
__________
[ (1) ] الجحفة: كانت قرية كبيرة على طريق المدينة، من مكة على أربع مراحل. (معجم البلدان، ج 3، ص 62) .
[ (2) ] فى الأصل: «تغلب بك» .(1/42)
يَكْفِينَاهُ، وَلَئِنْ كَانَ صَادِقًا إنّا لَأَسْعَدِ الْعَرَبِ بِهِ، إنّا لَلُحْمَتُهُ. قَالَ شَيْبَةُ:
هُوَ عَلَى مَا تَقُولُ، أَفَنَرْجِعُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ؟ فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا تُرِيدَانِ؟ قَالَا: الرّجُوعَ، أَلَا تَرَى إلَى رؤيا عاتكة وإلى رويا جُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ، مَعَ قَوْلِ عَدّاسٍ لَنَا؟ فَقَالَ: تَخْذُلَانِ وَاَللهِ قَوْمَكُمَا، وَتَقْطَعَانِ بِهِمْ. قَالَا: هَلَكْت وَاَللهِ، وَأَهْلَكْت قَوْمَك! فَمَضَيَا عَلَى ذَلِكَ.
فَلَمّا أَفْلَتَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ وَرَأَى أَنْ قَدْ أَجْزَرَهَا [ (1) ] ، أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ- وَكَانَ مَعَ أَصْحَابِ الْعِيرِ، خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ مَكّةَ- فَأَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالرّجُوعِ، وَيَقُولُ: قَدْ نَجَتْ عِيرُكُمْ، فَلَا تُجْزِرُوا [ (2) ] أَنْفُسَكُمْ أَهْلَ يَثْرِبَ، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَقَدْ نَجّاهَا اللهُ. فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْك، فَلَا يَأْبَوْنَ خَصْلَةً وَاحِدَةً، يَرُدّونَ الْقِيَانَ، فَإِنّ الْحَرْبَ إذَا أَكَلَتْ نَكَلَتْ [ (3) ] . فَعَالَجَ قُرَيْشًا وَأَبَتْ الرّجُوعَ، وَقَالُوا: أَمّا الْقِيَانُ فَسَنَرُدّهُنّ! فَرَدّوهُنّ مِنْ الْجُحْفَةِ. ولحق الرسول أبا سفيان بِالْهَدّةِ- وَالْهَدّةُ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عَقَبَةِ عُسْفَانَ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ مَكّةَ- فأخبره بمضى قريش، فقال: وا قوماه! هَذَا عَمَلُ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، كَرِهَ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنّهُ قَدْ تَرَأّسَ عَلَى النّاسِ، وَبَغَى، وَالْبَغْيُ مَنْقَصَةٌ وَشُؤْمٌ. إنْ أَصَابَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ النّفِيرَ ذَلَلْنَا إلَى أَنْ يَدْخُلَ مَكّةَ. وَكَانَتْ الْقِيَانُ: سَارّةُ مَوْلَاةُ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَمَوْلَاةٌ كَانَتْ لِأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمَوْلَاةٌ يُقَالُ لَهَا عَزّةُ لِلْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ. لا والله، لا نرجع
__________
[ (1) ] فى ث: «أن قد نجا بالعير» .
[ (2) ] فى ح: «فلا تحرزوا» . ويقال أجزرتك شاة إذا دفعت إليك شاة تذبحها. (مقاييس اللغة، ج 1، ص 456) . والمعنى هنا: لا تجعلوا أنفسكم ذبائح.
[ (3) ] فى الأصل: «إذا أوكلت اتكلت» ، وفى ت: «إذا أكلت انكلت» . وما أثبتناه هو قراءة ب.(1/43)
حَتّى نَرِدَ بَدْرًا- وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْجَاهِلِيّةِ يَجْتَمِعُ بِهَا الْعَرَبُ، لَهَا بِهَا سُوقٌ- تَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا، فَنُقِيمُ ثَلَاثًا عَلَى بَدْرٍ نَنْحَرُ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطّعَامَ، وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ الْقِيَانُ عَلَيْنَا، فَلَنْ تَزَالَ الْعَرَبُ تَهَابُنَا أَبَدًا.
وَكَانَ الْفُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ حِينَ فَصَلَتْ مِنْ مَكّةَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يُخْبِرُهُ بِمَسِيرِهَا وَفُصُولِهَا، وَمَا قَدْ حَشَدَتْ. فَخَالَفَ أَبَا سُفْيَانَ، وَذَلِكَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ لَصِقَ بِالْبَحْرِ وَلَزِمَ فُرَاتَ الْمَحَجّةِ، فَوَافَى الْمُشْرِكِينَ بِالْجُحْفَةِ، فَسَمِعَ كَلَامَ أَبِي جَهْلٍ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَرْجِعُ! فَقَالَ: مَا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِك رَغْبَةً، وَإِنّ الّذِي يَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ رَأَى ثَأْرَهُ مِنْ كَثَبٍ لَضَعِيفٌ! فَمَضَى مَعَ قُرَيْشٍ، وَتَرَكَ أَبَا سُفْيَانَ، فَجُرِحَ يَوْمَ بَدْرٍ جِرَاحَاتٍ، وَهَرَبَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ أَمْرًا أَنْكَدُ! إنّ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ لَغَيْرُ مُبَارَكِ الْأَمْرِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أُمّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ- وَكَانَ اسْمُهُ أُبَيّا [ (1) ] ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ- فَقَالَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، قَدْ نَجّى اللهُ عِيرَكُمْ، وَخَلّصَ أَمْوَالَكُمْ، وَنَجّى صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ. وَإِنّمَا مُحَمّدٌ رَجُلٌ مِنْكُمْ، ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَإِنْ يَكُ نَبِيّا فَأَنْتُمْ أَسْعَدُ بِهِ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا يَلِي قَتْلَهُ غَيْرُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلُوا قَتْلَ ابْنِ أُخْتِكُمْ، فَارْجِعُوا وَاجْعَلُوا جُبْنَهَا [ (2) ] بِي، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ [ (3) ] ، لَا مَا يَقُولُ هَذَا الرّجُلُ، فَإِنّهُ مُهْلِكٌ قَوْمَهُ، سَرِيعٌ فِي فَسَادِهِمْ! فَأَطَاعُوهُ، وكان فيهم مطاعا، وكانوا
__________
[ (1) ] فى ت: «وكان أعرابيا وكان حليفا» .
[ (2) ] فى ح: «خبثها لى» .
[ (3) ] فى الأصل، ت: «غير صنعة» ، وفى ح: «غير ما يهمكم» . والمثبت من ب.(1/44)
يَتَيَمّنُونَ بِهِ، قَالُوا: فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِالرّجُوعِ إنْ نَرْجِعُ؟ قَالَ الْأَخْنَسُ: نَخْرُجُ مَعَ الْقَوْمِ، فَإِذَا أَمْسَيْت سَقَطْت عَنْ بَعِيرِي فَتَقُولُونَ نَهَشَ [ (1) ] الْأَخْنَسُ! فَإِذَا قَالُوا امْضُوا فَقُولُوا لَا نُفَارِقُ صَاحِبَنَا حَتّى نَعْلَمَ أَهُوَ حَيّ أَمْ مَيّتٌ فَنَدْفِنُهُ، فَإِذَا مَضَوْا رَجَعْنَا. فَفَعَلَتْ بَنُو زُهْرَةَ، فَلَمّا أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ رَاجِعِينَ تَبَيّنَ لِلنّاسِ أَنّ بَنِي زُهْرَةَ رَجَعُوا، فَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ. قَالُوا: وَكَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلّ مِنْ الْمِائَةِ، وَهُوَ أَثْبَتُ، وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ كَانُوا ثلاثمائة. وقال عدىّ ابن أَبِي الزّغْبَاءِ فِي مُنْحَدَرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَدْرٍ، وَانْتَشَرَتْ الرّكَابُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ عَدِيّ يَقُولُ:
أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ ... إنّ مَطَايَا [ (2) ] الْقَوْمِ لَا تُحَبّسُ
وَحَمْلُهَا عَلَى الطّرِيقِ أَكْيَسُ ... قَدْ نَصَرَ اللهُ وَفَرّ الْأَخْنَسُ
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بن عبد الرحمن ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ: خَرَجَتْ بَنُو عَدِيّ مَعَ النّفِيرِ حَتّى كَانُوا بِثَنِيّةِ لَفْتٍ [ (3) ] ، فَلَمّا كَانُوا فِي السّحَرِ عَدَلُوا فِي السّاحِلِ مُنْصَرِفِينَ إلَى مَكّةَ، فَصَادَفَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا بَنِي عَدِيّ، كَيْفَ رَجَعْتُمْ لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النّفِيرِ؟ قَالُوا: أَنْتَ أَرْسَلْت إلَى قُرَيْشٍ أَنْ تَرْجِعَ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ وَمَضَى مَنْ مَضَى! فَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ. وَيُقَالُ إنّهُ لَاقَاهُمْ بِمَرّ الظّهْرَانِ فَقَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ لَهُمْ. قَالَ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ: رَجَعَتْ زُهْرَةُ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَمّا بَنُو عَدِيّ فَرَجَعُوا مِنْ الطّرِيقِ، ويقال من مرّ الظّهران.
__________
[ (1) ] فى ح: «نحل» . ونهش: أى نهس أو لسع. (القاموس المحيط، ج 2، ص 291) .
[ (2) ] المطايا: أشراف القوم. (شرح أبى ذر، ص 162) .
[ (3) ] قال البكري: لفت بفتح أوله وكسره وسكون الفاء موضع بين مكة والمدينة. (معجم ما استعجم، ص 494) .(1/45)
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ صَبِيحَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيّ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ تِهَامَةَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَك عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؟
قَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ. قَالُوا: تَعَالَ، سَلّمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَفِيكُمْ رَسُولُ اللهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَأَيّكُمْ رَسُولُ اللهِ؟
قَالُوا: هَذَا. قَالَ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْأَعْرَابِيّ: فَمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ إنْ كُنْت صَادِقًا؟ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: نَكَحْتهَا فَهِيَ حُبْلَى مِنْك! فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ.
ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَتَى الرّوْحَاءَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِلنّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَلّى عِنْدَ بِئْرِ الرّوْحَاءِ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ وِتْرِهِ لَعَنَ الْكَفَرَةَ وَقَالَ: اللهُمّ لَا تُفْلِتَن أَبَا جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمّةِ، اللهُمّ لَا تُفْلِتَن زَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، اللهُمّ وَأَسْخِنْ عَيْنَ أَبِي زَمَعَةَ بِزَمَعَةَ، اللهُمّ أَعْمِ بَصَرَ أَبِي زَمَعَةَ، اللهُمّ لَا تُفْلِتَن سُهَيْلًا، اللهمّ أنج سلمة ابْنِ هِشَامٍ وَعَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ! وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمْ يَدْعُ لَهُ يَوْمَئِذٍ، أُسِرَ بِبَدْرٍ وَلَكِنّهُ لَمّا رَجَعَ مِنْ مَكّةَ بَعْدَ بَدْرٍ أَسْلَمَ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَدِينَةِ فَحُبِسَ، فَدَعَا لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بالرّوحاء: هذه سجاسج [ (1) ]
__________
[ (1) ] السجسج: الهواء الذي لا حر فيه ولا برد. (وفاء الوفا، ج 2، ص 321) . وقال السهيلي:
سميت سجسجا لأنها بين جبلين، وكل شيء بين شيئين فهو سجسج. (الروض الأنف، ج 2، ص 63) .(1/46)
- يَعْنِي وَادِيَ الرّوْحَاءِ- هَذَا أَفْضَلُ أَوْدِيَةِ الْعَرَبِ.
قَالُوا: وَكَانَ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ رَجُلًا شُجَاعًا، وَكَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ،
فَلَمّا خَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ خَرَجَ هُوَ وَقَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ، وَهُمَا عَلَى دِينِ قَوْمِهِمَا، فَأَدْرَكَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقِيقِ، وَخُبَيْبٌ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَعَرَفَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَالْتَفَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهُوَ يَسِيرُ إلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ بِخُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: فَأَقْبَلَ خُبَيْبٌ حَتّى أَخَذَ بِبِطَانِ [ (1) ] نَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِقَيْسِ بْنِ مُحَرّثٍ- يُقَالُ قَيْسُ بْنُ الْمُحَرّثِ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ- مَا أَخْرَجَكُمَا مَعَنَا؟ قَالَا: كُنْت ابْنَ أُخْتِنَا وَجَارَنَا، وَخَرَجْنَا مَعَ قَوْمِنَا لِلْغَنِيمَةِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا يَخْرُجَن مَعَنَا رَجُلٌ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا. قَالَ خُبَيْبٌ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنّي عَظِيمُ [ (2) ] الْغِنَاءِ فِي الْحَرْبِ، شَدِيدُ النّكَايَةِ، فَأُقَاتِلُ مَعَك لِلْغَنِيمَةِ وَلَنْ أُسْلِمَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلِمْ ثُمّ قَاتِلْ. ثُمّ أَدْرَكَهُ بِالرّوْحَاءِ فَقَالَ: أَسْلَمْت لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، وَشَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللهِ. فَسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وَقَالَ: امْضِهِ!
وَكَانَ عَظِيمَ الْغِنَاءِ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِ بَدْرٍ وَأَبَى قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ أَنْ يُسْلِمَ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمّا قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ أَسْلَمَ، ثُمّ شَهِدَ أُحُدًا فَقُتِلَ.
قَالُوا: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمّ رَجَعَ وَنَادَى مُنَادِيهِ: يَا مَعْشَرَ الْعُصَاةِ، إنّي مُفْطِرٌ فَأَفْطِرُوا! وَذَلِكَ أَنّهُ
__________
[ (1) ] البطان للقتب: الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير. (الصحاح، ص 2079) .
[ (2) ] فى ب: «عظيم القدر والغناء» .(1/47)
قَدْ كَانَ قَالَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ «أَفْطِرُوا» فَلَمْ يَفْعَلُوا.
قَالُوا: وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى إذَا كَانَ دُوَيْنَ بَدْرٍ أَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ، وَاسْتَشَارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمّ قَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهَا وَاَللهِ قُرَيْشٌ وَعِزّهَا، وَاَللهِ مَا ذَلّتْ مُنْذُ عَزّتْ، وَاَللهِ مَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ، وَاَللهِ لَا تُسْلِمُ عِزّهَا أَبَدًا، وَلَتُقَاتِلَنك، فَاتّهِبْ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ وَأَعِدّ لِذَلِكَ عُدّتَهُ. ثُمّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْضِ لِأَمْرِ اللهِ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِنَبِيّهَا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [ (1) ] ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك- وَبِرْكُ الْغِمَادِ مِنْ وَرَاءِ مَكّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ مِنْ وَرَاءِ السّاحِلِ مِمّا يَلِي الْبَحْرَ، وَهُوَ عَلَى ثَمَانِ لَيَالٍ مِنْ مَكّةَ إلَى الْيَمَنِ. فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيّ أيّها للناس! وَإِنّمَا يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ، وَكَانَ يَظُنّ أَنّ الْأَنْصَارَ لَا تَنْصُرُهُ إلّا فِي الدّارِ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ شَرَطُوا لَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيّ! فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: أَنَا أُجِيبُ عَنْ الْأَنْصَارِ، كَأَنّك يَا رَسُولَ اللهِ تُرِيدُنَا! قَالَ: أَجَلْ.
قَالَ: إنّك عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْت عَنْ أَمْرٍ قَدْ أُوحِيَ إلَيْك فِي غَيْرِهِ، وَإِنّا قَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ كُلّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، وَأَعْطَيْنَاك مَوَاثِيقَنَا وَعُهُودَنَا عَلَى السّمْعِ والطاعة، فامض يا نبىّ الله، فو الذي
__________
[ (1) ] سورة المائدة 24.(1/48)
بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ، وَصِلْ مَنْ شِئْت، وَاقْطَعْ مَنْ شِئْت، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْت، وَمَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبّ إلَيْنَا مِمّا تَرَكْت. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَلَكْت هَذَا الطّرِيقَ قَطّ، وَمَا لِي بِهَا مِنْ عِلْمٍ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ يَلْقَانَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللّقَاءِ، لَعَلّ اللهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا قَدْ خَلَفْنَا مِنْ قَوْمِنَا قَوْمًا مَا نَحْنُ بِأَشَدّ حُبّا لَك مِنْهُمْ، وَلَا أَطْوَعَ لَك مِنْهُمْ، لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ وَنِيّةٌ، وَلَوْ ظَنّوا يَا رَسُولَ اللهِ أَنّك مُلَاقٍ عَدُوّا مَا تَخَلّفُوا، وَلَكِنْ إنّمَا ظَنّوا أَنّهَا الْعِيرُ. نَبْنِي لَك عَرِيشًا فَتَكُونُ فِيهِ وَنَعُدّ لَك رَوَاحِلَك، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا، فَإِنْ أَعَزّنَا اللهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى جَلَسْت عَلَى رَوَاحِلِك فَلَحِقْت مَنْ وَرَاءَنَا. فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَقَالَ: أَوْ يَقْضِي اللهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ! قَالُوا: فَلَمّا فَرَغَ سَعْدٌ مِنْ الْمَشُورَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَإِنّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ. وَاَللهِ، لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ.
قَالَ: وَأَرَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصَارِعَهُمْ يَوْمَئِذٍ، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، فَمَا عَدَا كُلّ رَجُلٍ مَصْرَعَهُ قَالَ: فَعَلِمَ الْقَوْمُ أَنّهُمْ يُلَاقُونَ الْقِتَالَ، وَأَنّ الْعِيرَ تُفْلِتُ، وَرَجَوْا النّصْرَ لِقَوْلِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْمَاعِيلَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَمِنْ يَوْمَئِذٍ(1/49)
عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الْأَلْوِيَةَ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، وَأَظْهَرَ السّلَاحَ، وَكَانَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِ لِوَاءٍ مَعْقُودٍ. وَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّوْحَاءِ، فَسَلَكَ الْمَضِيقَ، ثُمّ جَاءَ إلَى الْخَبِيرَتَيْنِ [ (1) ] فَصَلّى بَيْنَهُمَا، ثُمّ تَيَامَنَ فَتَشَاءَمَ فِي الْوَادِي حَتّى مَرّ عَلَى خَيْفِ [ (2) ] الْمُعْتَرِضَةِ، فَسَلَكَ فِي ثَنِيّةِ الْمُعْتَرِضَةِ حَتّى سَلَكَ عَلَى التّيّا، وَبِهَا لَقِيَ سُفْيَانَ الضّمْرِيّ،
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَعَجّلَ، مَعَهُ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ الظّفَرِيّ- وَيُقَالُ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ الْمَازِنِيّ، وَيُقَالُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ- فَلَقِيَ سُفْيَانَ الضّمْرِيّ عَلَى التّيّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقَالَ الضّمْرِيّ:
بَلَى مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا وَنُخْبِرْك! قَالَ الضّمْرِيّ: وَذَاكَ بِذَاكَ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: نعم قال الضّمرىّ: سلوا عَمّا شِئْتُمْ! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: أخبرنا عن قريش. قَالَ الضّمْرِيّ:
بَلَغَنِي أَنّهُمْ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَكّةَ، فَإِنْ كَانَ الّذِي أَخْبَرَنِي صَادِقًا فَإِنّهُمْ بِجَنْبِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْبِرْنَا عَنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ: خُبّرْت أَنّهُمْ خَرَجُوا مِنْ يَثْرِبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الّذِي خَبّرَنِي صَادِقًا فَهُمْ بِجَانِبِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ الضّمْرِيّ: فَمَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ ... وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْعِرَاقِ. فَقَالَ الضّمْرِيّ: مِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ! ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَصْحَابِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلِ صَاحِبِهِ، بَيْنَهُمْ قَوْزٌ [ (3) ] مِنْ رَمْلٍ
__________
[ (1) ] هكذا فى كل النسخ، ولعلها «الحبرتين» ، وهما أطمان بالمدينة ذكرهما السمهودي.
(وفاء الوفا، ج 2، ص 284) .
[ (2) ] الخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع من مسيل الماء. (القاموس المحيط، ج 3، ص 140) .
[ (3) ] القوز: المستدير من الرمل والكثيب المشرف. (القاموس المحيط، ج 2، ص 188) .(1/50)
وَكَانَ قَدْ صَلّى بِالدّبَةِ [ (1) ] ، ثُمّ صَلّى بِسَيَرٍ [ (2) ] ، ثُمّ صَلّى بِذَاتِ أَجْدَالٍ [ (3) ] ، ثُمّ صَلّى بِخَيْفِ عَيْنِ الْعَلَاءِ، ثُمّ صَلّى بِالْخَبِيرَتَيْنِ، ثُمّ نَظَرَ إلَى جَبَلَيْنِ فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ؟ قَالُوا: مُسْلِحٌ وَمُخْرَى [ (4) ] . فَقَالَ: مَنْ سَاكِنُهُمَا؟
قَالُوا: بَنُو النّارِ وَبَنُو حُرَاقٍ [ (5) ] . فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ الْخَبِيرَتَيْنِ فَمَضَى حَتّى قَطَعَ الْخُيُوفَ، وَجَعَلَهَا يَسَارًا حَتّى سَلَكَ فِي الْمُعْتَرِضَةِ، وَلَقِيَهُ بَسْبَسٌ وَعَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ.
وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ [ (6) ] بَدْرٍ عِشَاءَ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَبَعَثَ عَلِيّا وَالزّبَيْرَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وقّاص وبسبس ابن عَمْرٍو يَتَحَسّسُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ظُرَيْبٍ [ (7) ] فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَجِدُوا الْخَبَرَ عِنْدَ هَذَا الْقَلِيبِ الّذِي يَلِي الظّرَيْبَ- وَالْقَلِيبُ بِئْرٌ بِأَصْلِ الظّرَيْبِ، وَالظّرَيْبُ جَبَلٌ صَغِيرٌ. فَانْدَفَعُوا تِلْقَاءَ الظّرَيْبِ فَيَجِدُونَ عَلَى تِلْكَ الْقَلِيبِ الّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَايَا قُرَيْشٍ فِيهَا سُقّاؤُهُمْ. وَلَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَفْلَتَ عَامّتُهُمْ، وَكَانَ مِمّنْ عُرِفَ أَنّهُ أَفْلَتَ عُجَيْرٌ، وَكَانَ أَوّلَ مَنْ جَاءَ قُرَيْشًا بِخَبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَادَى فَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ، هَذَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَخَذُوا سُقّاءَكُمْ! فَمَاجَ الْعَسْكَرُ، وَكَرِهُوا مَا جَاءَ به.
__________
[ (1) ] الدبة: بلد بين الأصافر وبدر. (معجم البلدان، ج 4، ص 34) .
[ (2) ] سير: كثيب بين المدينة وبدر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 327) .
[ (3) ] ذات أجدال: بمضيق الصفراء كما ذكر السمهودي. (وفاء الوفا، ج 2، ص 308) .
[ (4) ] فى الأصل: «مسلخ ومخزى» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 2، ص 266) .
[ (5) ] هما بطنان من بنى غفار كما ذكر ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 2، ص 266) .
[ (6) ] فى ت: «أدنى بدر» .
[ (7) ] فى الأصل: «ضريب» ، والتصحيح عن سائر النسخ. وهكذا ذكره ابن الأثير أيضا.
(النهاية، ج 3، ص 54) .(1/51)
قَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: وَكُنّا فِي خِبَاءٍ لَنَا عَلَى جَزُورٍ نَشْوِي مِنْ لَحْمِهَا، فَمَا هُوَ إلّا أَنْ سَمِعْنَا الْخَبَرَ، فَامْتَنَعَ الطّعَامُ مِنّا، وَلَقِيَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَقِيَنِي عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا خَالِدٍ، مَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَسِيرُ أَعْجَبَ مِنْ مَسِيرِنَا، إنّ عِيرَنَا قَدْ نَجَتْ، وَإِنّا جِئْنَا إلَى قَوْمٍ فِي بِلَادِهِمْ بَغْيًا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُتْبَةُ لِأَمْرٍ حُمّ: وَلَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ، هَذَا شُؤْمُ ابْنِ الْحَنْظَلِيّةِ! يَا أَبَا خَالِدٍ، أَتَخَافُ أَنْ يُبَيّتَنَا الْقَوْمُ؟ قُلْت: لَا آمَنُ ذَلِكَ. قَالَ: فَمَا الرّأْيُ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: نَتَحَارَسُ حَتّى نُصْبِحَ وَتَرَوْنَ مَنْ [ (1) ] وَرَاءَكُمْ. قَالَ عُتْبَةُ: هَذَا الرّأْيُ! قَالَ: فَتَحَارَسْنَا حَتّى أَصْبَحْنَا. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَا [هَذَا؟] [ (2) ] هَذَا عَنْ أَمْرِ عُتْبَةَ، قَدْ كَرِهَ قِتَالَ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ! إنّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، أَتَظُنّونَ أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَعْتَرِضُونَ لِجَمْعِكُمْ؟ وَاَللهِ لَأَنْتَحِيَن نَاحِيَةً بِقَوْمِي، فَلَا يَحْرُسُنَا أَحَدٌ. فَتَنَحّى نَاحِيَةً، وَالسّمَاءُ تُمْطِرُ عَلَيْهِ، يَقُولُ عُتْبَةُ: إنّ هَذَا لَهُوَ النّكَدُ، وَإِنّهُمْ قَدْ أَخَذُوا سُقّاءَكُمْ. وَأُخِذَ تِلْكَ اللّيْلَةَ يَسَارٌ غلام عبيدة ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَسْلَمَ غُلَامُ مُنَبّهِ بْنِ الحجّاج، وأبو رافع غلام أميّة ابن خَلَفٍ، فَأُتِيَ بِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي، فَقَالُوا:
سُقّاءُ قُرَيْش بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنْ الْمَاءِ. وَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمْ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونُوا لِأَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِ الْعِيرِ، فَضَرَبُوهُمْ، فَلَمّا أَذَلْقُوهُمْ [ (3) ] بِالضّرْبِ قَالُوا:
نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ، وَنَحْنُ فِي الْعِيرِ، وَهَذِهِ الْعِيرُ بِهَذَا الْقَوْزِ [ (4) ] . فَيُمْسِكُونَ عَنْهُمْ،
فَسَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمّ قَالَ:
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ب، ت: «وترون من رأيكم» ، وفى ح: «وترون رأيكم» .
[ (2) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (3) ] فى الأصل: «أتلفوهم» ، والتصحيح عن ب، ت. وأذلقوهم: أضعفوهم. (القاموس المحيط، ج 3، ص 234) .
[ (4) ] فى الأصل: «الغور» .(1/52)
إنْ صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ وَإِنْ كَذَبُوكُمْ تَرَكْتُمُوهُمْ! فَقَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُخْبِرُونَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ جَاءَتْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صَدَقُوكُمْ، خَرَجَتْ قُرَيْشٌ تَمْنَعُ عِيرَهَا، وَخَافُوكُمْ عَلَيْهَا. ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السّقّاءِ فَقَالَ:
أَيْنَ قُرَيْشٌ؟: قَالُوا: خَلْفَ هَذَا الْكَثِيبِ الّذِي تَرَى. قَالَ: كَمْ هِيَ؟
قَالُوا: كَثِيرٌ. قَالَ: كَمْ عَدَدُهَا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي كَمْ هُمْ. قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ؟ قَالُوا: يَوْمًا عَشَرَةً وَيَوْمًا تِسْعَةً. قَالَ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ وَالتّسْعِمِائَةِ.
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسّقّاءِ: مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ؟ قَالُوا:
لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَعِمَ إلّا خَرَجَ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكّةُ، قَدْ أَلْقَتْ [إلَيْكُمْ] أَفْلَاذَ كَبِدِهَا. ثُمّ سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَلْ رَجَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: رَجَعَ ابْنُ أَبِي شَرِيقٍ بِبَنِي زُهْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْشَدُهُمْ وَمَا كَانَ بِرَشِيدٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْت لَمُعَادِيًا لِلّهِ وَلِكِتَابِهِ. قَالَ: أَحَدٌ غَيْرُهُمْ؟
قَالُوا: بَنُو عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ.
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: أَشِيرُوا عَلَيّ فِي الْمَنْزِلِ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟
قَالَ: بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ! انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ، فَإِنّي عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا، بِهَا قَلِيبٌ قَدْ عَرَفْت عُذُوبَةَ مَائِهِ، وَمَاءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْزَحْ، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهَا حَوْضًا وَنَقْذِفُ فِيهِ الْآنِيَةَ، فَنَشْرَبُ وَنُقَاتِلُ، وَنُغَوّرُ [ (1) ] مَا سواها من القلب.
__________
[ (1) ] فى ت، ح: «ونعور» . ونغوّر: نفسد. (شرح أبى ذر، ص 155) .(1/53)
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: الرّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا حُبَابُ، أَشَرْت بِالرّأْيِ!
فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ كُلّ ذَلِكَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ اللهُ السّمَاءَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا- وَالدّهْسُ الْكَثِيرُ الرّمْلِ- فَأَصَابَنَا مَا لَبّدَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْنَا مِنْ الْمَسِيرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهُ، وَإِنّمَا بَيْنَهُمْ قَوْزٌ مِنْ رَمْلٍ.
قَالُوا: وَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللّيْلَةَ النّعَاسُ، أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ [ (1) ] فَنَامُوا، وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَطَرِ مَا يُؤْذِيهِمْ. قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: سُلّطَ عَلَيْنَا النّعَاسُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى إنّي كُنْت لَأَتَشَدّدُ، فَتَجْلِدُنِي الْأَرْضُ فَمَا أُطِيقُ إلّا ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الحال. وقال سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ: رَأَيْتنِي وَإِنّ ذَقَنِي بَيْنَ يَدَيّ [ (2) ] ، فَمَا أَشْعُرُ حَتّى أَقَعَ عَلَى جَنْبِي.
قَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ: غَلَبَنِي النّوْمُ، فاحتملت حَتّى اغْتَسَلْت آخِرَ اللّيْلِ.
قَالُوا: فَلَمّا تَحَوّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَنْزِلِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ السّقَاءَ، أَرْسَلَ عَمّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ، فَأَطَافَا بِالْقَوْمِ ثُمّ رَجَعَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْقَوْمُ مَذْعُورُونَ فَزِعُونَ، إنّ الْفَرَسَ لَيُرِيدُ أَنْ يَصْهَلَ فَيَضْرِبَ وَجْهَهُ، مَعَ أَنّ السّمَاءَ تَسِحّ عَلَيْهِمْ.
فَلَمّا أَصْبَحُوا قَالَ نُبَيْهُ بْنُ الْحَجّاجِ، وَكَانَ رَجُلًا يُبْصِرُ الأثر، فقال:
__________
[ (1) ] فى ب: «ألقى الله عزّ وجلّ عليهم» .
[ (2) ] فى ب، ت، ح: «ثديي» .(1/54)
هَذَا أَثَرُ ابْنِ سُمَيّةَ وَابْنِ أُمّ عَبْدٍ، أَعْرِفُهُ، قَدْ جَاءَ مُحَمّدٌ بِسُفَهَائِنَا وَسُفَهَاءِ أَهْلِ يَثْرِبَ! ثُمّ قَالَ:
لَمْ يَتْرُكِ الْجَوْعُ لَنَا مَبِيتَا ... لَا بُدّ أَنْ نَمُوت أَوْ نُمِيتَا
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَذَكَرْت قَوْلَ نُبَيْهِ بْنِ الْحَجّاجِ «لَمْ يَتْرُكِ الْجَوْعُ لَنَا مَبِيتَا» لِمُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَ: لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا شِبَاعًا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي [أَبِي] [ (1) ] أَنّهُ سَمِعَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: نَحَرْنَا تِلْكَ اللّيْلَةَ عَشْرَ جَزَائِرَ، فَنَحْنُ فِي خِبَاءٍ مِنْ أَخْبِيَتِهِمْ نَشْوِي السّنَامَ وَالْكَبِدَ وَطِيبَةَ اللّحْمِ، وَنَحْنُ نَخَافُ مِنْ الْبَيَاتِ، فَنَحْنُ نَتَحَارَسُ إلَى أَنْ أَضَاءَ الْفَجْرُ، فَأَسْمَعُ مُنَبّهًا يَقُولُ بَعْدَ أَنْ أَسْفَرَ [الصّبْحُ] [ (2) ] : هَذَا [أَثَرُ] [ (3) ] ابْنِ سُمَيّةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ! وَأَسْمَعُهُ يَقُولُ:
لَمْ يَتْرُكِ الْخَوْفُ لَنَا مَبِيتَا ... لَا بُدّ أَنْ نَمُوت أَوْ نُمِيتَا
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اُنْظُرُوا غَدًا إنْ لَقِينَا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَابْقَوْا فِي أَنْسَابِكُمْ [ (4) ] هَؤُلَاءِ، وَعَلَيْكُمْ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَإِنّا إنْ نَرْجِعُ بِهِمْ إلَى مَكّةَ يُبْصِرُوا ضَلَالَتَهُمْ وَمَا فَارَقُوا مِنْ دِينِ آبَائِهِمْ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حدّثنا الواقدي قال: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر، عن محمود بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَلِيبِ بُنِيَ لَهُ عَرِيشٌ مِنْ جَرِيدٍ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَوَشّحَ السّيْفِ، فَدَخَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ.
فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (2) ] الزيادة عن ب.
[ (3) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (4) ] فى ح: «فاتقوا على شبانكم وفتيانكم» ، وفى ب، ت: «فابقوا فى شبابكم» .(1/55)
ابن حزم، قَالَ: صَفّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ قُرَيْشٌ، وَطَلَعَتْ قُرَيْشٌ وَرَسُولُ اللهِ يَصُفّهُمْ، وَقَدْ أَتْرَعُوا حَوْضًا، يَفْرُطُونَ [ (1) ] فِيهِ مِنْ السّحَرِ، وَيَقْذِفُونَ فِيهِ الْآنِيَةَ. وَدَفَعَ رَايَتَهُ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَتَقَدّمَ بِهَا إلَى مَوْضِعِهَا الّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضَعَهَا فِيهِ. وَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَى الصّفُوفِ، فَاسْتَقْبَلَ الْمَغْرِبَ، وَجَعَلَ الشّمْسَ خَلْفَهُ، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَقْبَلُوا الشّمْسَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُدْوَةِ الشّامِيّةِ وَنَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْيَمَانِيّةِ- عُدْوَتَا النّهْرِ وَالْوَادِي جَنْبَتَاهُ- فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانَ هَذَا مِنْك عَنْ وَحْيٍ نَزَلَ إلَيْك فَامْضِ لَهُ، وَإِلّا فَإِنّي أَرَى أَنْ تَعْلُوَ الْوَادِيَ، فَإِنّي أَرَى رِيحًا قَدْ هَاجَتْ مِنْ أَعْلَى الْوَادِي، وَإِنّي أَرَاهَا بُعِثَتْ بِنَصْرِك.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ صَفَفْت صُفُوفِي وَوَضَعْت رَايَتِي، فَلَا أُغَيّرُ ذَلِكَ! ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (2) ] ، بَعْضُهُمْ عَلَى إثْرِ بَعْض.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ: عَدّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّفُوفَ يَوْمَئِذٍ، فَتَقَدّمَ سَوَادُ بْنُ غَزِيّةَ أَمَامَ الصّفّ، فَدَفَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِي بَطْنِ سواد بن غزيّة، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوِ [ (3) ] يَا سَوَادُ! فَقَالَ لَهُ سَوَادُ: أوجعتنى،
__________
[ (1) ] فى الأصل وب: «يقرظون فيه من الشجر» ، وما أثبتناه عن نسخة ت.
وفرط الرجل إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء ويهيئ لهم الدلاء والأرشية. (النهاية، ج 3، ص 194) .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 9.
[ (3) ] فى الأصل: «اسبق» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/56)
وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا، أَقِدْنِي! فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ، ثُمّ قَالَ: اسْتَقِدْ! فَاعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ فَقَالَ: حَضَرَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا قَدْ تَرَى، وَخَشِيت الْقَتْلَ، فَأَرَدْت أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِي بِك، أَنْ أَعْتَنِقَك [ (1) ] .
قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوّي الصّفُوفَ يَوْمَئِذٍ، وَكَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهَا الْقِدَاحَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ: قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَوْدٍ، قَالَ: سَمِعْت عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ يَقُولُ: وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْكُوفَةِ: بَيْنَا أَنَا أَمِيحُ [ (2) ] فِي قَلِيبِ بَدْرٍ- أَمِيحُ يَعْنِي أَسْتَقِي، وَهُوَ مَنْ يَنْزِعُ الدّلَاءَ، وَهُوَ الْمَتْحُ أَيْضًا- جَاءَتْ رِيحٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطّ شِدّةً، ثُمّ ذَهَبَتْ فَجَاءَتْ رِيحٌ أُخْرَى، لَمْ أَرَ مِثْلَهَا إلّا الّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا، ثُمّ جَاءَتْ رِيحٌ أُخْرَى، لَمْ أَرَ مِثْلَهَا إلّا الّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا ثُمّ جَاءَتْ رِيحٌ أُخْرَى، لَمْ أَرَ مِثْلَهَا إلّا الّتِي كانت قبلها، وكانت الأولى جبرئيل فِي أَلْفٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثّانِيَةُ مِيكَائِيلَ فِي أَلْفٍ عَنْ ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ الثّالِثَةُ إسْرَافِيلَ فِي أَلْفٍ، نَزَلَ عَنْ مَيْسَرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ، فَلَمّا هَزَمَ الله عزّ وجلّ أعداه حَمَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَمَزَتْ بِي [ (3) ] ، فَلَمّا جَمَزَتْ خَرَرْت عَلَى عُنُقِهَا، فَدَعَوْت رَبّي فَأَمْسَكَنِي حَتّى اسْتَوَيْت، وما لى وللخيل، وإنما كنت صاحب
__________
[ (1) ] فى الأصل، ت: «أن أكون آخر عهد بك وأن أعنفك» ، وفى ب: «أن أكون آخر الناس عهد بك وأن أعتنقك» . والمثبت أقرب لما فى ابن إسحاق (ج 2، ص 279)
[ (2) ] فى ب: «أمتح» .
[ (3) ] فى ب، ح: «فجرت بى فلما جرت» . والجمز: هو العدو دون الحضر وفوق العنق (القاموس المحيط، ج 2، ص 169) .(1/57)
غَنَمٍ! [ (1) ] فَلَمّا اسْتَوَيْت طَعَنْت بِيَدِي هَذِهِ حَتّى اخْتَضَبَتْ مِنّي ذَا- يَعْنِي إبِطَهُ.
قَالُوا: وَكَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ. فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ قَائِلٌ: كَانَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ [ (2) ] .
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قَالَا: مَا كَانَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ- مَيْمَنَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا عَلَى مَيْسَرَتِهِ أَحَدٌ يُسَمّى، وَكَذَلِكَ مَيْمَنَةُ الْمُشْرِكِينَ وميسرتهم، وما سَمِعْنَا فِيهَا بِأَحَدٍ.
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ الْأَعْظَمَ- لِوَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَلِوَاءُ الْخَزْرَجِ مع الحباب ابن الْمُنْذِرِ، وَلِوَاءُ الْأَوْسِ مَعَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَمَعَ قُرَيْشٍ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءٌ مَعَ أَبِي عَزِيزٍ، وَلِوَاءٌ مَعَ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلِوَاءٌ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
قَالُوا: وَخَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ، وَيَحُثّهُمْ، وَيُرَغّبُهُمْ فِي الْأَجْرِ: أَمّا بَعْدُ، فَإِنّي أَحُثّكُمْ عَلَى مَا حَثّكُمْ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَمّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ، فَإِنّ اللهَ عَظِيمٌ شَأْنُهُ، يَأْمُرُ بِالْحَقّ، وَيُحِبّ الصّدْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الْخَيْرِ أَهْلَهُ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ، بِهِ يُذْكَرُونَ وَبِهِ يَتَفَاضَلُونَ، وَإِنّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ بِمَنْزِلٍ
__________
[ (1) ] فى ح: «صاحب الحشم» .
[ (2) ] فى ح: «عمرو بن عبد ودّ» .(1/58)
مِنْ مَنَازِلِ الْحَقّ، لَا يَقْبَلُ اللهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ إلّا مَا ابْتَغَى بِهِ وَجْهَهُ. وَإِنّ الصّبْرَ فِي مَوَاطِنِ الْبَأْسِ مِمّا يُفَرّجُ اللهُ بِهِ الْهَمّ، وَيُنَجّي بِهِ مِنْ الْغَمّ، وَتُدْرِكُونَ [ (1) ] بِهِ النّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ. فِيكُمْ نَبِيّ اللهِ يُحَذّرُكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ، فَاسْتَحْيُوا الْيَوْمَ أَنْ يَطّلِعَ اللهُ عَزّ وَجَلّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكُمْ يَمْقُتُكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنّ اللهَ يَقُولُ: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [ (2) ] . اُنْظُرُوا إلَى الّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَرَاكُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَأَعَزّكُمْ بَعْدَ ذِلّةٍ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ يَرْضَ رَبّكُمْ عَنْكُمْ. وَأَبْلَوْا رَبّكُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَمْرًا، تَسْتَوْجِبُوا الّذِي وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنّ وَعْدَهُ حَقّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَعِقَابَهُ شَدِيدٌ.
وَإِنّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ بِاَللهِ الْحَيّ الْقَيّومِ، إلَيْهِ أَلْجَأْنَا ظُهُورَنَا، وَبِهِ اعْتَصَمْنَا، وَعَلَيْهِ تَوَكّلْنَا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ!
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَا: لَمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا تُصَوّبُ مِنْ الْوَادِي- وَكَانَ أَوّلُ مَنْ طَلَعَ زَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، يَتْبَعُهُ ابْنُهُ، فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَوّأَ [ (3) ] لِلْقَوْمِ مَنْزِلًا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، إنّك أَنْزَلْت عَلَيّ الْكِتَابَ، وَأَمَرْتنِي بِالْقِتَالِ، وَوَعَدَتْنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ، وَأَنْتَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ! اللهُمّ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادّك [ (4) ] وَتُكَذّبُ رَسُولَك! اللهُمّ، نَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي! اللهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ! وَطَلَعَ عُتْبَةُ بن ربيعة على
__________
[ (1) ] فى ت: «يدركون النجاة» .
[ (2) ] سورة 40 غافر 10
[ (3) ] فى خ: «يريد أن يبنوا» .
[ (4) ] فى ح: «تخاذل» .(1/59)
جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ يَكُ فِي أَحَدٍ مِنْ القوم خير ففي صاحب الجمل الأخمر، إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: وَكَانَ إيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ قَدْ بَعَثَ إلَى قُرَيْشٍ ابْنًا لَهُ بِعَشْرِ جَزَائِرَ حِينَ مَرّوا بِهِ، أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ:
إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نَمُدّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ- فَإِنّا مُعِدّونَ لِذَلِكَ مُؤَدّونَ- فَعَلْنَا.
فَأَرْسَلُوا: أَنْ وَصَلَتْك رَحِمٌ، قَدْ قَضَيْت الّذِي عَلَيْك، فَلِعَمْرِي لَئِنْ كُنّا إنّمَا نُقَاتِلُ النّاسَ مَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَلَئِنْ كُنّا نُقَاتِلُ اللهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمّدٌ، فَمَا لِأَحَدٍ بِاَللهِ طَاقَةٌ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ جَدّهِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ خِفَافِ بْنِ إيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ، قَالَ: كَانَ أَبِي لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ، مُوَكّلٌ بِذَلِكَ. فَلَمّا مَرّتْ قُرَيْشٌ أَرْسَلَنِي بِجَزَائِرَ عَشْرٍ هَدِيّةً لَهَا، فَأَقْبَلْت أَسُوقُهَا وَتَبِعَنِي أَبِي، فَدَفَعْتهَا إلَى قُرَيْشٍ فَقَبِلُوهَا، فَوَزّعُوهَا فِي الْقَبَائِلِ. فَمَرّ أَبِي عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَهُوَ سَيّدُ النّاسِ يَوْمَئِذٍ- فَقَالَ:
يَا أَبَا الْوَلِيدِ، مَا هَذَا الْمَسِيرُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَاَللهِ غُلِبْت! قَالَ: فَأَنْتَ سَيّدُ الْعَشِيرَةِ، فَمَا يَمْنَعُك أَنْ تَرْجِعَ بِالنّاسِ وَتَحْمِلَ دَمَ حَلِيفِك [ (1) ] ، وَتَحْمِلَ الْعِيرَ الّتِي أَصَابُوا بِنَخْلَةَ فَتُوَزّعَهَا عَلَى قَوْمِك؟ وَاَللهِ، مَا تَطْلُبُونَ قِبَلَ مُحَمّدٍ إلّا هَذَا؟ وَاَللهِ، يَا أَبَا الْوَلِيدِ، مَا تَقْتُلُونَ بِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ إلّا أَنْفُسَكُمْ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سَمِعْنَا بأحد ساد [ (2) ] بغير
__________
[ (1) ] يعنى عمرو بن الحضرمي، وكان قتل يوم نخلة.
[ (2) ] فى ح: «سار» .(1/60)
مَالٍ إلّا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ الْقَوْمُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ:
ارْجِعُوا، فَإِنّهُ يَلِي هَذَا الْأَمْرَ مِنّي غَيْرُكُمْ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ تَلُوهُ مِنّي، وَأَلِيَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَلِيَهُ مِنْكُمْ. فَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: قَدْ عَرَضَ نِصْفًا، فَاقْبَلُوهُ [ (1) ] . وَاَللهِ لَا تُنْصَرُونَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا عَرَضَ مِنْ النّصْفِ. قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاَللهِ، لَا نَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ أَمْكَنَنَا اللهُ مِنْهُمْ، وَلَا نَطْلُبُ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ [ (2) ] لِعِيرِنَا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا.
قَالُوا: وَأَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى وَرَدُوا الْحَوْضَ- مِنْهُمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ تَجْلِيَتَهُمْ [ (3) ]- يَعْنِي طَرْدَهُمْ- فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ! فَوَرَدُوا الْمَاءَ فَشَرِبُوا، فَمَا شَرِبَ مِنْهُ أَحَدٌ إلّا قُتِلَ، إلّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ.
فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: نَجَا حَكِيمٌ مِنْ الدّهْرِ مَرّتَيْنِ لِمَا أَرَادَ اللهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ جُلُوسٌ يُرِيدُونَهُ، فَقَرَأَ «يس» وَذَرّ [ (4) ] عَلَى رُءُوسِهِمْ التّرَابَ، فَمَا انْفَلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا قُتِلَ إلّا حَكِيمٌ، وَوَرَدَ الْحَوْضَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَا وَرَدَ الْحَوْضَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلّا قُتِلَ إلّا حَكِيمٌ.
__________
[ (1) ] فى ح: «فلبوه» .
[ (2) ] فى ح: «ولا يعرض» .
[ (3) ] فى ب، ت: «تخليتهم» ، وفى ح: «تنحّيهم» .
[ (4) ] فى ح: «ونثر» .(1/61)
قَالُوا: فَلَمّا اطْمَأَنّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ- وَكَانَ صَاحِبَ قِدَاحٍ- فَقَالُوا: احْزِرْ لَنَا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْمُعَسْكَرِ فَصَوّبَ فِي الْوَادِي وَصَعِدَ، يَقُولُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَدَدٌ أَوْ كَمِينٌ. ثُمّ رَجَعَ فقال: لا مدد ولا كمين، القوم ثلاثمائة إنْ زَادُوا قَلِيلًا، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَمَعَهُمْ فَرَسَانِ. ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، الْبَلَايَا [ (1) ] تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ! أَلَا تَرَوْنَهُمْ خُرْسًا لَا يَتَكَلّمُونَ، يَتَلَمّظُونَ تَلَمّظَ الْأَفَاعِي! وَاَللهِ، مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتّى يَقْتُلَ مِنّا رَجُلًا، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَمَا خَيْرٌ فِي العيش بعد ذلك! فارتأوا رَأْيَكُمْ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا قَالَ لَهُمْ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَرْسَلُوا أَبَا أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ- وَكَانَ فَارِسًا- فَأَطَافَ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: مَا رَأَيْت؟ قَالَ: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت جَلَدًا، وَلَا عَدَدًا، وَلَا حَلْقَةً، وَلَا كُرَاعًا. وَلَكِنّي وَاَللهِ رَأَيْت قَوْمًا لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَئُوبُوا [ (2) ] إلَى أَهْلِيهِمْ، قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ، لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ، زُرْقُ الْعُيُونِ كَأَنّهُمْ الْحَصَى تَحْتَ الْحَجَفِ [ (3) ] . ثُمّ قَالَ:
أَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ. فَصَوّبَ فِي الْوَادِي ثُمّ صَعِدَ، ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ، ثُمّ قَالَ: لَا كَمِينَ وَلَا مَدَدَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بن عبد الله،
__________
[ (1) ] البلايا: جمع بلية، وهي الناقة أو الدابة تربط على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت.
(شرح أبى ذر، ص 156) .
[ (2) ] فى ح: «أن يردوا» .
[ (3) ] الحجف: جمع الحجفة، وهي الترس. (الصحاح، ص 1341) .(1/62)
عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَمُحَمّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ رُومَانَ، قَالُوا: [لَمّا] [ (1) ] سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ مَشَى فِي النّاسِ، وَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا، وَالْمُطَاعُ فِيهَا، فَهَلْ لَك أَلّا تَزَالَ مِنْهَا بِخَيْرٍ آخِرَ الدّهْرِ، مَعَ مَا فَعَلْت يَوْمَ عُكَاظٍ! وَعُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ رَئِيسُ النّاسِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنّاسِ وَتَحْمِلُ دَمَ حَلِيفِك، وَمَا أَصَابَ مُحَمّدٌ مِنْ تِلْكَ الْعِيرِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ. إنّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمّدٍ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا الدّمِ وَالْعِيرِ.
فَقَالَ عُتْبَةُ: قَدْ فَعَلْت وَأَنْتَ عَلَيّ بِذَلِكَ. قَالَ: ثُمّ جَلَسَ عُتْبَةُ عَلَى جَمَلِهِ، فَسَارَ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي وَلَا تُقَاتِلُوا هَذَا الرّجُلَ وَأَصْحَابَهُ، وَاعْصِبُوا هَذَا الْأَمْرَ بِرَأْسِي وَاجْعَلُوا جُبْنَهَا بِي، فَإِنّ مِنْهُمْ رِجَالًا قَرَابَتُهُمْ قَرِيبَةٌ، وَلَا يَزَالُ الرّجُلُ مِنْكُمْ يَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، فَيُورِثُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ [ (2) ] شَحْنَاءَ وَأَضْغَانًا، وَلَنْ تَخْلُصُوا إلَى قَتْلِهِمْ حَتّى يُصِيبُوا مِنْكُمْ عَدَدَهُمْ، مَعَ أَنّي لَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدّائِرَةُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَطْلُبُونَ إلّا دَمَ هَذَا الرّجُلِ [ (3) ] وَالْعِيرَ الّتِي أَصَابَ، وَأَنَا أَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَيّ! يَا قَوْمِ، إنْ يَكُ مُحَمّدٌ كَاذِبًا يَكْفِيكُمُوهُ ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ- ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ صَعَالِيكُ الْعَرَبِ- وَإِنْ يَكُ مَلِكًا أَكَلْتُمْ [ (4) ] فِي مُلْكِ ابْنِ أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُ نَبِيّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ! يَا قَوْمِ، لَا تَرُدّوا نَصِيحَتِي، وَلَا تُسَفّهُوا رَأْيِي! قَالَ: فَحَسَدَهُ أَبُو جَهْلٍ حِينَ سَمِعَ خُطْبَتَهُ وَقَالَ: إنْ يرجع الناس عن
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (2) ] فى ت: «منهم» ، وفى ح: «بينكم» .
[ (3) ] فى ح: «إلا دم القتيل منكم» .
[ (4) ] فى ح: «كنتم» .(1/63)
خُطْبَةِ عُتْبَةَ يَكُنْ سَيّدَ الْجَمَاعَةِ- وَعُتْبَةُ أَنْطَقُ النّاسِ، وَأَطْوَلُهُمْ [ (1) ] لِسَانًا، وَأَجْمَلُهُمْ جَمَالًا. ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ: أَنْشُدُكُمْ اللهَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا الْمَصَابِيحُ، أَنْ تَجْعَلُوهَا أَنْدَادًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا وُجُوهُ الْحَيّاتِ! فَلَمّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلَامِهِ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إنّ عُتْبَةَ يُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ لِأَنّ ابْنَهُ مَعَ مُحَمّدٍ، وَمُحَمّدٌ ابْنُ عَمّهِ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ وَابْنَ عَمّهِ. امْتَلَأَ، وَاَللهِ، سَحْرُك [ (2) ] يَا عُتْبَةُ، وَجَبُنْت حِينَ الْتَقَتْ حَلَقَتَا الْبِطَانِ! الْآنَ تُخَذّلُ بَيْنَنَا وَتَأْمُرُنَا بِالرّجُوعِ؟ لَا وَاَللهِ، لَا نَرْجِعُ حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ! قَالَ: فَغَضِبَ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُصَفّرَ اسْتِهِ، سَتَعْلَمُ أَيّنَا أَجْبَنُ وَأَلْأَمُ، وَسَتَعْلَمُ قُرَيْشٌ مَنْ الْجَبَانُ الْمُفْسِدُ لِقَوْمِهِ! [وَأَنْشَدَ ... ] [ (3) ]
هَلْ جَبَانٌ [ (4) ] وَأَمَرْت أَمْرِي ... فَبَشّرِي [ (5) ] بِالثّكْلِ أُمّ عَمْرِو
ثُمّ ذَهَبَ أَبُو جَهْلٍ إلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ أَخِي الْمَقْتُولِ بِنَخْلَةَ، فَقَالَ، هَذَا حَلِيفُك- يَعْنِي عُتْبَةَ- يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنّاسِ وَقَدْ رَأَيْت ثَأْرَك بِعَيْنَيْك، وَيُخَذّلَ بَيْنَ النّاسِ، قَدْ تَحَمّلَ دَمَ أخيك وزعم أنّك قابل الدية. ألا تستحي [ (6) ] تَقْبَلُ الدّيَةَ، وَقَدْ قَدَرْت عَلَى قَاتِلِ أَخِيك؟ قُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ. [ (7) ]
فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَاكْتَشَفَ، ثُمّ حَثَا عَلَى رَأْسِهِ [ (8) ] التّرَابَ، ثُمّ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وطواله لسانا» . وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] السحر، ويحرك ويضم: الرئة. وانتفخ سحره، عدا طوره وجاوز قدره. (القاموس المحيط، ج 2، ص 45) .
[ (3) ] الزيادة عن ح.
[ (4) ] فى ت: «هذا جناي» ، وفى ح: «هذا حيائى» .
[ (5) ] فى الأصل، ت: «وبشرا» : وما أثبتناه عن ب، ح.
[ (6) ] يقال استحيت بياء واحدة، وأصله استحييت مثل استعييت، فأعلوا الياء الأولى وألقوا حركتها على الحاء. (الصحاح، ص 2324) .
[ (7) ] انشد خفرتك: أى اذكرها، والحفرة: الذمة. (لسان العرب، ج 4، ص 253) .
[ (8) ] فى ت، ح: «استه» .(1/64)
صرخ: وا عمراه! يُخْزِي بِذَلِكَ عُتْبَةَ لِأَنّهُ حَلِيفُهُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ، فَأَفْسَدَ عَلَى النّاسِ الرّأْيَ الّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ عُتْبَةُ، وَحَلَفَ عَامِرٌ لَا يَرْجِعُ حَتّى يَقْتُلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ. وَقَالَ [ (1) ] لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: حَرّشْ بَيْنَ النّاسِ! فَحَمَلَ عُمَيْرٌ، فَنَاوَشَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنْ يَنْقُضَ الصّفّ، فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَفّهِمْ وَلَمْ يَزُولُوا، وَتَقَدّمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيّ، فَشَدّ عَلَى الْقَوْمِ فَنَشِبَتْ الْحَرْبُ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: لَمّا أَفْسَدَ الرّأْيَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى النّاسِ، وَحَرّشَ بَيْنَهُمْ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَأَقْحَمَ فَرَسَهُ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مَهْجَعُ مَوْلَى عُمَرَ، فَقَتَلَهُ عَامِرٌ.
وَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، قَتَلَهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ- وَيُقَالُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ- قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيّ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: مَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ الْمَكّيّينَ يَقُولُ إلّا حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ.
قَالُوا: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي مَجْلِسِ وِلَايَتِهِ: يَا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ، أَنْتَ حَازِرُنَا لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، تُصَعّدُ فِي الْوَادِي وَتُصَوّبُ، كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى فَرَسِك [ (2) ] تَحْتَك، تُخْبِرُ الْمُشْرِكِينَ أَنّهُ لَا كَمِينَ لَنَا وَلَا مَدَدَ! قَالَ:
إي وَاَللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَأُخْرَى، أَنَا وَاَللهِ الّذِي حَرّشْتُ بَيْنَ النّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَلَكِنّ اللهَ جَاءَ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ، فَمَا كَانَ فِينَا مِنْ الشّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَرُ: صَدَقْت! قَالُوا: كَلّمَ عُتْبَةُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ فَقَالَ: لَيْسَ عند أحد خلاف إلّا
__________
[ (1) ] أى وقال أبو جهل.
[ (2) ] فى الأصل: «قريش تحتك جوا» . وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/65)
عِنْدَ ابْنِ الْحَنْظَلِيّةِ، اذْهَبْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ «إنّ عُتْبَةَ يَحْمِلُ دَمَ حَلِيفِهِ وَيَضْمَنُ الْعِيرَ» . قَالَ حَكِيمٌ: فَدَخَلْت عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَتَخَلّقُ بِخَلُوقٍ [ (1) ] ، وَدِرْعُهُ مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْت: إنّ عُتْبَةَ بَعَثَنِي إلَيْك. فَأَقْبَلَ عَلَيّ مُغْضَبًا فَقَالَ: أَمَا وَجَدَ عُتْبَةُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك؟ فَقُلْت: أَمَا وَاَللهِ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَرْسَلَنِي مَا مَشَيْت فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَشَيْت فِي إصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ، وَكَانَ أَبُو الْوَلِيدِ سَيّدَ. الْعَشِيرَةِ. فَغَضِبَ غَضْبَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَتَقُولُ أَيْضًا سَيّدَ الْعَشِيرَةِ؟ فَقُلْت: أَنَا أَقُولُهُ؟ قُرَيْشٌ كُلّهَا تَقُولُهُ! فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَصِيحَ بِخَفْرَتِهِ، وَاكْتُشِفَ وَقَالَ: إنّ عُتْبَةَ جَاعَ فَاسْقُوهُ سَوِيقًا! وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: إنّ عُتْبَةَ جَاعَ فَاسْقُوهُ سَوِيقًا! وَجَعَلَ أَبُو جَهْلٍ يُسَرّ بِمَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِعُتْبَةَ. قَالَ حَكِيمٌ: فَجِئْت إلَى مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، فَقُلْت لَهُ مِثْلَ مَا قُلْت لِأَبِي جَهْلٍ، فَوَجَدْته خَيْرًا مِنْ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ: نِعْمَ مَا مَشَيْت فِيهِ وَمَا دَعَا إلَيْهِ عُتْبَةُ! فَرَجَعْت إلَى عُتْبَةَ فَوَجَدْته [ (2) ] قَدْ غَضِبَ مِنْ كَلَامِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ جَمَلِهِ، وَقَدْ طَافَ عَلَيْهِمْ فِي عَسْكَرِهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ عَنْ الْقِتَالِ، فَيَأْبَوْنَ. فَحَمِيَ، فَنَزَلَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ، وَطَلَبُوا لَهُ بَيْضَةً تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعُ رَأْسَهُ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ [ (3) ] ثُمّ بَرَزَ [ (4) ] بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَبَيْنَ ابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَبَيْنَا أَبُو جَهْلٍ فِي الصّفّ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، حَاذَاهُ عُتْبَةُ وَسَلّ عُتْبَةُ سَيْفَهُ، فَقِيلَ: هُوَ وَاَللهِ يَقْتُلُهُ! فَضَرَبَ بِالسّيْفِ عُرْقُوبَيْ فَرَسِ أَبِي جَهْلٍ، فَاكْتَسَعَتْ [ (5) ] الْفَرَسُ، فَقُلْت: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ! قَالُوا: قَالَ عُتْبَةُ: انْزِلْ، فَإِنّ هَذَا اليوم ليس
__________
[ (1) ] الخلوق: ضرب من الطيب. (القاموس المحيط، ج 3، ص 229) .
[ (2) ] فى ت: «فأجده» .
[ (3) ] الاعتجار: لف العمامة دون التلحي. (القاموس المحيط، ج 2، ص 85) .
[ (4) ] فى ح: «ثم برز راجلا» .
[ (5) ] اكتسعت الفرس: سقطت من ناحية مؤخرها ورمت بما عليها. (النهاية، ج 4، ص 20) .(1/66)
بِيَوْمِ رُكُوبٍ، لَيْسَ كُلّ قَوْمِك رَاكِبًا. فَنَزَلَ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ يَقُولُ:
سَتَعْلَمُ أَيّنَا أَشْأَمَ عَشِيرَتَهُ الْغَدَاةَ! ثُمّ
دَعَا عُتْبَةُ إلَى الْمُبَارَزَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَاضْطَجَعَ فَغَشِيَهُ النّوْمُ [ (1) ] ، وَقَالَ: لَا تُقَاتِلُوا حَتّى أُوذِنَكُمْ، وَإِنْ كَثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ وَلَا تَسُلّوا السّيُوفَ حَتّى يَغْشَوْكُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ دَنَا الْقَوْمُ وَقَدْ نَالُوا مِنّا. فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ، وَقَدْ أَرَاهُ اللهُ إيّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، وَقَلّلَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْيُنِ بَعْضٍ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ، وَيَقُولُ: اللهُمّ، إنْ تَظْهَرْ عَلَيّ هَذِهِ الْعِصَابَةُ يَظْهَرْ الشّرْكُ، وَلَا يَقُمْ لَك دِين. وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاَللهِ، لَيَنْصُرَنك اللهُ وَلَيُبَيّضَن وَجْهَك. وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أُشِيرُ عَلَيْك- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ وَأَعْلَمُ بِاَللهِ مِنْ أَنْ يُشَارَ عَلَيْهِ- إنّ اللهَ أَجَلّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَنْشُدَهُ وَعْدَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، أَلَا أَنْشُدُ اللهَ وَعْدَهُ؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ! *
وَأَقْبَلَ عُتْبَةُ يَعْمِدُ إلَى الْقِتَالِ، فَقَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: أَبَا الْوَلِيدِ، مَهْلًا، مَهْلًا! تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ وَتَكُونُ أَوّلَهُ! وَقَالَ خِفَافُ بْنُ إيمَاءٍ: فَرَأَيْت أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ تَصَافّ النّاسُ وَتَزَاحَفُوا [ (2) ] ، فَرَأَيْت أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسُلّونَ السّيُوفَ، وَقَدْ أَنْبَضُوا [ (3) ] الْقِسِيّ، وَقَدْ تَرّسَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِصُفُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ، لَا فُرَجَ بَيْنَهَا، وَالْآخَرُونَ قَدْ سَلّوا السّيُوفَ حِينَ طَلَعُوا. فَعَجِبْت مِنْ ذَلِكَ فَسَأَلْت بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ، أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ألّا نسل
__________
[ (1) ] فى ت: «فغشيه نوم غلبه» .
[ (2) ] فى ت: «وتراجعوا» .
[ (3) ] أنبض القوس: حرك وترها. (القاموس المحيط، ج 2، ص 345) .(1/67)
السّيُوفَ حَتّى يَغْشَوْنَا.
قَالُوا: فَلَمّا تَزَاحَفَ النّاسُ قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ حِينَ دَنَا مِنْ الْحَوْضِ: أُعَاهِدُ اللهَ لَأَشْرَبَن مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لَأَهْدِمَنهُ، أَوْ لَأَمُوتَن دُونَهُ. فَشَدّ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ حَتّى دَنَا مِنْ الحوض، فاستقبله حمزة ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَضَرَبَهُ فَأَطَنّ [ (1) ] قَدَمَهُ، فَزَحَفَ الْأَسْوَدُ حَتّى وَقَعَ فِي الْحَوْضِ فَهَدَمَهُ بِرِجْلِهِ الصّحِيحَةِ، وَشَرِبَ مِنْهُ، وَأَتْبَعَهُ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ فِي الْحَوْضِ فَقَتَلَهُ.
وَالْمُشْرِكُونَ يَنْظُرُونَ عَلَى صُفُوفِهِمْ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنّهُمْ ظَاهِرُونَ، فَدَنَا النّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَخَرَجَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ حَتّى فَصَلُوا مِنْ الصّفّ، ثُمّ دَعَوْا إلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِتْيَانٌ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ:
معاذ ومعوّذ وعوف، بدو الْحَارِثِ- وَيُقَالُ ثَالِثُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، والثبت عندنا أنّهم بنو عفراء- فاستحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ أَوّلَ قِتَالٍ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَنْصَارِ، وَأَحَبّ أَنْ تَكُونَ الشّوْكَةُ لِبَنِي عَمّهِ وَقَوْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ فَرَجَعُوا إلَى مَصَافّهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ خَيْرًا. ثُمّ
نَادَى مُنَادِي الْمُشْرِكِينَ: يَا مُحَمّدُ، أَخْرِجْ لَنَا الْأَكْفَاءَ مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، قُومُوا فَقَاتَلُوا بِحَقّكُمْ الّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيّكُمْ، إذْ جَاءُوا بِبَاطِلِهِمْ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ.
فَقَامَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طالب، وعبيدة بن الحارث ابن الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَمَشَوْا إلَيْهِمْ، فَقَالَ عُتْبَةُ: تَكَلّمُوا نَعْرِفْكُمْ- وَكَانَ عَلَيْهِمْ الْبِيضُ فَأَنْكَرُوهُمْ- فَإِنْ كُنْتُمْ أَكْفَاءَ قَاتَلْنَاكُمْ. فَقَالَ حَمْزَةُ:
أَنَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ. قَالَ عُتْبَةُ: كُفْءٌ كَرِيمٌ. ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ: وَأَنَا أَسَدُ الْحُلَفَاءِ، وَمَنْ هَذَانِ مَعَك؟ قال: علىّ
__________
[ (1) ] أطن: أطار. (شرح أبى ذر، ص 157) .(1/68)
ابن أبى طالب وعبيدة بن الحارث. قال: كفآن كَرِيمَانِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ لِعُتْبَةَ كَلِمَةً قَطّ أَوْهَنَ مِنْ قَوْلِهِ «أَنَا أَسَدُ الْحُلَفَاءِ» ، يَعْنِي بِالْحُلَفَاءِ الْأَجَمَةَ [ (1) ] . ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ لِابْنِهِ: قُمْ يَا وَلِيدُ. فَقَامَ الْوَلِيدُ، وَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ، وَكَانَ أَصْغَرَ النّفَرِ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. ثُمّ قَامَ عُتْبَةُ، وَقَامَ إلَيْهِ حَمْزَةُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَقَتَلَهُ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ثُمّ قَامَ شَيْبَةُ، وَقَامَ إلَيْهِ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَسَنّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَرَبَ شَيْبَةُ رِجْلَ عُبَيْدَةَ بِذُبَابِ السّيْفِ، فَأَصَابَ عَضَلَةَ سَاقِهِ فَقَطَعَهَا. وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ عَلَى شَيْبَةَ فَقَتَلَاهُ، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ فَحَازَاهُ إلَى الصّفّ، وَمُخّ سَاقِهِ يَسِيلُ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْت شَهِيدًا؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ، لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيّا لَعَلِمَ أَنّا أَحَقّ بِمَا قَالَ مِنْهُ [ (2) ] حين يقول:
__________
[ (1) ] قال ابن أبى الحديد: قد رويت هذه الكلمة على صيغة أخرى: «وأنا أسد الحلفاء» ، وروى:
«أنا أسد الأحلاف» . قالوا فى تفسيرهما: أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين، وكان الذين حضروه بنى عبد مناف، وبنى أسد بن عبد العزى، وبنى تيم، وبنى زهرة، وبنى الحارث بن فهر، خمس قبائل. ورد قوم هذا التأويل فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء ولا الأحلاف وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم، وهم بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو سهم، بنو جمح، وبنو عدى بن كعب، خمس قبائل. وقال قوم فى تفسيرهما: إنما عنى حلف الفضول، وكان بعد حلف المطيبين بزمان، وشهد حلف الفضول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير فى دار ابن جدعان، وكان سببه أن رجلا من اليمين قدم مكة بمتاع، فاشتراه العاص بن وائل السهمي، ومطله بالثمن حتى أتعبه، فقام بالحجر وناشد قريشا ظلامته، فاجتمع بنو هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيمم فى دار ابن جدعان، فتحالفوا وغمسوا أيديهم فى ماء زمزم بعد أن غسلوا به أركان البيت، أن ينصروا كل مظلوم بمكة ويردوا ظلامته، ويأخذوا على يد الظالم، وينهوا عن كل منكر، ما بل بحر صوفة، فسمى حلف الفضول لفضله ... وهذا التفسير أيضا غير صحيح لأن بنى عبد الشمس لم يكونوا فى حلف الفضول، فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح وأثبت. (نهج البلاغة، ج 3، ص 334) .
[ (2) ] فى ح: «لعلم أنى أحق بما قال حين يقول» .(1/69)
كَذَبْتُمْ وَبَيْتُ اللهِ نُخْلِي مُحَمّدًا ... وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ [ (1) ]
ونسلمه [ (2) ] حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [ (3) ] .
حَمْزَةُ أَسَنّ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْعَبّاسُ أَسَنّ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ سِنِينَ.
قَالُوا: وَكَانَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ دَعَا إلَى الْبِرَازِ قَامَ إلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو حُذَيْفَةَ يُبَارِزُهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ! فَلَمّا قَامَ إلَيْهِ النّفَرُ أَعَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى أَبِيهِ بِضَرْبَةٍ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَيْبَةُ أَكْبَرُ مِنْ عُتْبَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قَالَ: وَاسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: اللهُمّ، أَقْطَعُنَا لِلرّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَأَحِنْهُ [ (4) ] الْغَدَاةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... [ (5) ] الْآيَةَ.
فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: لَمّا تَوَاقَفَ النّاسُ أُغْمِيَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمّ كُشِفَ عَنْهُ فَبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِجِبْرِيلَ فى جند من الملائكة فى ميمنة
__________
[ (1) ] ونناضل: نرامى بالسهام. (شرح أبى ذر، ص 88) .
[ (2) ] فى ح: «وننصره» .
[ (3) ] سورة 22 الحج 19.
[ (4) ] فأحنه: فأهلكه. (القاموس المحيط، ج 4، ص 218) .
[ (5) ] سورة 8 الأنفال 19(1/70)
النّاسِ، وَمِيكَائِيلَ فِي جُنْدٍ آخَرَ فِي مَيْسَرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْرَافِيلَ فِي جُنْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ. وَإِبْلِيسُ قَدْ تَصَوّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيّ يُذَمّرُ [ (1) ] الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُهُمْ أَنّهُ لَا غَالِبَ لَهُمْ مِنْ النّاسِ، فَلَمّا أَبْصَرَ عَدُوّ اللهِ الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَالَ: إِنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ [ (2) ] ! فَتَشَبّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ يَرَى أَنّهُ سُرَاقَةُ لِمَا سَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَسَقَطَ الْحَارِثُ، وَانْطَلَقَ إبْلِيسُ لَا يُرَى حَتّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: يَا رَبّ، مَوْعِدُك الّذِي وَعَدْتنِي! وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَحَضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَقَالَ: لَا يَغُرّنكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ إيّاكُمْ، فَإِنّمَا كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، سَيَعْلَمُ إذَا رَجَعْنَا إلَى قُدَيْدٍ [ (3) ] مَا نَصْنَعُ بِقَوْمِهِ! لَا يَهُولَنكُمْ مَقْتَلُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، فَإِنّهُمْ عَجّلُوا وَبَطِرُوا حِينَ قَاتَلُوا! وَأَيْمُ اللهِ، لَا نَرْجِعُ الْيَوْمَ حَتّى نَقْرِنَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْحِبَالِ، فَلَا أُلْفِيَن أَحَدًا مِنْكُمْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا، نُعَرّفُهُمْ بِاَلّذِي صَنَعُوا لِمُفَارَقَتِهِمْ دِينَكُمْ وَرَغْبَتَهُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ! وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ:
يَا بَنِي عَبْدِ اللهِ! وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللهِ! حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بن
__________
[ (1) ] يذمر: يحض. (القاموس المحيط، ج 2، ص 36) .
[ (2) ] انظر سورة 8 الأنفال 48
[ (3) ] قديد: قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه. (وفاء الوفا، ج 2، ص 36) .(1/71)
عُمَرَ بْنِ عَلِيّ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيّ، قَالَ: كَانَ شِعَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بَدْرٍ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ! قَالُوا: وَكَانَ فِتْيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ سَبْعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا، فَاحْتَبَسَهُمْ آبَاؤُهُمْ فخرجوا معهم إلى بدروهم على الشكّ والارتياب: قيس [ (1) ] بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وَعَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ. فَلَمّا قَدِمُوا بَدْرًا، وَرَأَوْا قِلّةَ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: غرّ هولاء دِينُهُمْ! يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ (2) ] . وَهُمْ مَقْتُولُونَ الْآنَ. يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [ (2) ] ، ثُمّ ذَكَرَ الّذِينَ كَفَرُوا شَرّ الذّكْرِ فَقَالَ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ [ (3) ] إلَى قَوْلِهِ: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [ (4) ] . يَقُولُ: يُقْبِلُونَ، نَكَلَ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ كُلّهَا. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ (5) ] . يَقُولُ: وَإِنْ قَالُوا قَدْ أَسْلَمْنَا عَلَانِيَةً، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [ (6) ] . يَقُولُ: أَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أبو قيس» .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 49
[ (3) ] سورة 8 الأنفال 55/ 56
[ (4) ] سورة 8 الأنفال 57
[ (5) ] سورة 8 الأنفال 61
[ (6) ] سورة 8 الأنفال 62/ 63(1/72)
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ (1) ] .
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي الرّجَالِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْقُوّةِ أَنْ يَغْلِبَ الْعِشْرُونَ إذَا كَانُوا صَابِرِينَ مِائَتَيْنِ، وَيَمُدّهُمْ يَوْمَ بَدْر بِأَلْفَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمّا عَلِمَ أَنّ فِيهِمْ الضّعْفَ خَفّفَ عَنْهُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ، مَرْجَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ، فِيمَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ مِمّنْ يَدّعِي الْإِسْلَامَ عَلَى الشّكّ وَقُتِلَ مَعَ المشركين يومئذ- وكانوا سَبْعَةَ نَفَرٍ حَبَسَهُمْ آبَاؤُهُمْ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، وَفِيهِمْ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَفِيمَنْ أَقَامَ بِمَكّةَ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [ (2) ] إلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ. قَالَ: وَكَتَبَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ إلَى مَنْ بِمَكّةَ مُسْلِمًا، فَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ ضَمْرَةَ الْجُنْدُعِيّ [ (3) ] : لَا عُذْرَ لِي وَلَا حُجّةَ فِي مُقَامِي بِمَكّةَ.
وَكَانَ مَرِيضًا، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: اخرجوا بى لعلّى أجد روحا. قالوا: أَيّ وَجْهٍ أَحَبّ إلَيْك؟ قَالَ: نَحْوَ التّنْعِيمِ. قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ- وَبَيْنَ التّنْعِيمِ وَمَكّةَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ- فَقَالَ: اللهُمّ إنّي خَرَجْت إلَيْك مُهَاجِرًا! فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (4) ] ، إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِمَكّةَ مِمّنْ يُطِيقُ الْخُرُوجَ خَرَجُوا، فَطَلَبَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَرَدّوهُمْ وَسَجَنُوهُمْ، فَافْتُتِنَ مِنْهُمْ نَاسٌ، فَكَانَ الّذِينَ اُفْتُتِنُوا حِينَ أَصَابَهُمْ الْبَلَاءُ. فأنزل الله
__________
[ (1) ] سورة 8 الأنفال 63
[ (2) ] سورة 16 النحل 28
[ (3) ] فى الأصل: «الخندعى» . وما أثبتناه عن سائر النسخ، والبلاذري عن الواقدي. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 265) .
[ (4) ] سورة 4 النساء 100(1/73)
عَزّ وَجَلّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ ... [ (1) ] ، إلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَآيَتَيْنِ بَعْدَهَا. فَكَتَبَ بِهَا الْمُهَاجِرُونَ إلَى مَنْ بِمَكّةَ مُسْلِمًا، فَلَمّا جَاءَهُمْ الْكِتَابُ بِمَا نَزَلَ فِيهِمْ قَالُوا:
اللهُمّ، إنّ لَك عَلَيْنَا إنْ أَفْلَتْنَا أَلّا نَعْدِلَ بِك أَحَدًا! فَخَرَجُوا الثّانِيَةَ، فَطَلَبَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَأَعْجَزُوهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ حَتّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ. وَاشْتَدّ الْبَلَاءُ عَلَى مَنْ رَدّوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبُوهُمْ وَآذَوْهُمْ، وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ. وَرَجَعَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَقَالَ لِقُرَيْشٍ: مَا كَانَ يُعَلّمُهُ إلّا ابْنُ قَمّطَةَ، عَبْدٌ نَصْرَانِيّ، قَدْ كُنْت أَكْتُبُ لَهُ فَأُحَوّلُ مَا أَرَدْت.
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ... [ (2) ] وَاَلّتِي تَلِيهَا، وَأَنْزَلَ اللهُ فِيمَنْ رَدّ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِمّنْ أَصَابَهُ الْبَلَاءُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... [ (3) ] وَثَلَاثَ آيَاتٍ بَعْدَهَا. وَكَانَ مِمّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ. ثُمّ أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي الّذِينَ فَرّوا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الّذِينَ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ بَعْدَ الْفِتْنَةِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ... [ (4) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ أَبِي حَيّةَ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: نَادَى يَوْمَئِذٍ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيّةِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ
__________
[ (1) ] سورة 29 العنكبوت 10
[ (2) ] سورة 16 النحل 103
[ (3) ] سورة 16 النحل 106
[ (4) ] سورة 16 النحل 110(1/74)
سُرَاقَةَ [ (1) ] قَدْ عَرَفْتُمْ قَوْمَهُ وَخِذْلَانَهُمْ لَكُمْ فِي كُلّ مَوْطِنٍ، فَاصْدُقُوا الْقَوْمَ الضّرْبَ فَإِنّي أَعْلَمُ أَنّ ابْنَيْ رَبِيعَةَ قَدْ عَجِلَا فِي مُبَارَزَتِهِمَا مَنْ بَارَزَا.
أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة ابن رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنْ كُنّا لَنَسْمَعُ لِإِبْلِيسَ يَوْمَئِذٍ خُوَارًا، وَدَعَا بِالثّبُورِ وَالْوَيْلِ، وَتَصَوّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، حَتّى هَرَبَ فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا يَقُولُ: يَا رَبّ، مَا وَعَدْتنِي! وَلَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ تُعَيّرُ سُرَاقَةَ بِمَا صَنَعَ يَوْمَئِذٍ، فَيَقُولُ: وَاَللهِ، مَا صَنَعْت مِنْهُ شَيْئًا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ، قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ الْأَسْلَمِيّ. عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ حنين مولى بنى العبّاس، عن عمارة ابن أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي شَيْخٌ عَرّاكٌ- عَرّاكٌ: صَيّادٌ مِنْ الْحَيّ- كَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى السّاحِلِ مُطِلّا عَلَى الْبَحْرِ، قَالَ: سَمِعْت صِيَاحًا: يَا وَيْلَاه! مَلَأَ الْوَادِيَ! يَا حُزْنَاهُ [ (2) ] ! فَنَظَرْت فَإِذَا سراقة بن جعشم، فدنوت منه فقلت: مالك فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيّ شَيْئًا، ثُمّ أَرَاهُ اقْتَحَمَ الْبَحْرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدّا يَقُولُ: يَا رَبّ، مَا وَعَدْتنِي! فَقُلْت فِي نَفْسِي: جُنّ وَبَيْتِ اللهِ سُرَاقَةُ! وَذَلِكَ حِينَ زَاغَتْ الشّمْسُ، وَذَاكَ عِنْدَ [ (3) ] انْهِزَامِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالُوا: وَكَانَ سِيمَاءُ الْمَلَائِكَةِ عَمَائِمَ قَدْ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، خُضْرًا وَصُفْرًا وَحُمْرًا مِنْ نُورٍ، وَالصّوفُ فِي نَوَاصِي خَيْلِهِمْ
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «إن سراقة لا سراقة» .
[ (2) ] فى ت: «يا حسرتاه» .
[ (3) ] فى ث: «بعد انهزامهم» .(1/75)
عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إنّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَوّمَتْ فَسَوّمُوا. فَأَعْلَمُوا بِالصّوفِ فِي مَغَافِرِهِمْ وَقَلَانِسِهِمْ.
أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يُعْلِمُونَ فِي الزّحُوفِ:
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطلب معلم يوم بدر بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مُعْلِمًا بِصُوفَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ الزّبَيْرُ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ. وَكَانَ الزّبَيْرُ يُحَدّثُ: إنّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، عَلَيْهَا عَمَائِمُ صُفْرٌ.
فَكَانَ عَلَى الزّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ عِصَابَةٌ صَفْرَاءُ، وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ يُعْلِمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ.
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قال: حدّثنى عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عبد الله ابن أَبِي أُمَيّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مَوْلًى لِسُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْت سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، مُعْلِمِينَ، يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ. وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ يُحَدّثُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَالَ: لَوْ كنت معكم الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمْ الشّعْبَ- وَهُوَ الْمَلْصُ [ (1) ]- الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكّ فِيهِ وَلَا أَمْتَرِي. فَكَانَ يُحَدّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ حَدّثَهُ، قَالَ: أَقْبَلْت وَابْنُ عَمّ لِي يَوْمَ بَدْرٍ حَتّى صَعِدْنَا عَلَى جَبَلٍ، وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ، وَنَحْنُ عَلَى إحْدَى عُجْمَتَيْ بَدْرٍ- الْعُجْمَةُ الشّامِيّةُ، الْعُجْمَةُ مِنْ رَمْلٍ- نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدّائِرَةُ [ (2) ] فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ، إذْ رَأَيْت سَحَابَةً دَنَتْ مِنّا، فَسَمِعْت فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ وَقَعْقَعَةَ اللّجُمِ وَالْحَدِيدِ، وسمعت قائلا يقول:
__________
[ (1) ] ملص بفتح أوله وإسكان ثانية: موضع بعينه، أنشد أبو حنيفة ...
فما زال يسقى بطن ملص وعرعرا* وأرضهما حتى اطمأن جسيمها (لسان العرب، ج 7، ص 95) .
[ (2) ] فى ب، ت، ح: «الديرة» .(1/76)
أَقْدِمْ حَيْزُومُ! فَأَمّا ابْنُ عَمّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ، وَأَمّا أَنَا فَكِدْت أَهْلَكَ، فَتَمَاسَكْت وَأَتْبَعْت الْبَصَرَ حَيْثُ تَذْهَبُ السّحَابَةُ، فَجَاءَتْ إلَى النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، ثُمّ رَجَعَتْ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمّا كُنْت أَسْمَعُ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الواقدىّ قال: فحدّثنى خارجة بن إبراهيم ابن مُحَمّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ: مَنْ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ «أَقْدِمْ حَيْزُومُ» ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمّدُ، مَا كُلّ أَهْلِ السّمَاءِ أَعْرِفُ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جدة عبيد ابن أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ، عَنْ ابْنِ عَمّ لَهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَابْنُ عَمّ لِي عَلَى مَاءِ بَدْرٍ، فَلَمّا رَأَيْنَا قِلّةَ مَنْ مَعَ مُحَمّدٍ وَكَثْرَةَ قُرَيْشٍ، قُلْنَا: إذَا الْتَقَتْ الْفِئَتَانِ عَمَدْنَا إلَى عَسْكَرِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَحْوَ الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَى مِنْ أَصْحَابِ محمّد، ونحن نقول: هولاء ربع قريش! فبينما نحن نمشي فى المسيرة، إذْ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَغَشِيَتْنَا، فَرَفَعْنَا أَبْصَارَنَا إلَيْهَا فَسَمِعْنَا أَصْوَاتَ الرّجَالِ وَالسّلَاحِ، وَسَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ لِفَرَسِهِ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ! وَسَمِعْنَاهُمْ يَقُولُونَ: رُوَيْدًا، تَتَامّ أُخْرَاكُمْ! فَنَزَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، ثُمّ جَاءَتْ أُخْرَى مِثْلَ تِلْكَ، وَكَانَتْ مع النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَنَظَرْنَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَإِذَا هُمْ الضّعْفُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَمَاتَ ابْنُ عَمّي، وَأَمّا أَنَا فَتَمَاسَكْت وَأَخْبَرْت النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ. وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ.
قَالُوا: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما رؤي [ (1) ] الشيطان يوما هو
__________
[ (1) ] فى الأصل: «مارى» .(1/77)
فِيهِ أَصْغَرُ، وَلَا أَحْقَرُ [ (1) ] ، وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ- وَمَا ذَاكَ إلّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزّلِ الرّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنْ الذّنُوبِ الْعِظَامِ- إلّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ. قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: أَمَا إنّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ.
قَالُوا: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ: هذا جبرئيل يَسُوقُ الرّيحَ كَأَنّهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ، إنّي نُصِرْت بِالصّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدّبُورِ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، قَالَ:
كَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُولُ: رَأَيْت يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلَيْنِ، عَنْ يَمِينِ النّبِيّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا، وَعَنْ يَسَارِهِ أَحَدُهُمَا، يُقَاتِلَانِ أَشَدّ الْقِتَالِ، ثُمّ ثَلّثَهُمَا ثَالِثٌ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمّ رَبّعَهُمَا، رَابِعٌ أَمَامَهُ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ زِيَادٍ، مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْت رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلَانِ عَنْ النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنّي لَأَرَاهُ يَنْظُرُ إلَى ذَا مَرّةً وَإِلَى ذَا مَرّةً، سُرُورًا بِمَا ظَفّرَهُ [ (2) ] اللهُ تَعَالَى.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا أَدْرِي كَمْ يَدٍ مَقْطُوعَةٍ وَضَرْبَةٍ جَائِفَةٍ [ (3) ] لَمْ يَدْمَ كَلْمُهَا يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ رَأَيْتهَا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أبى بردة بن نيار، قال: جئت
__________
[ (1) ] فى ب: «ولا أحقر ولا أدخر ولا أغيظ» ، وفى ح: «ولا أدحر ولا أغضب» .
[ (2) ] فى ح: «بما فتحه» .
[ (3) ] جائفة: طعنة تبلغ الجوف. (القاموس المحيط، ج 3، ص 125) .(1/78)
يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثَةِ رُءُوسٍ، فَوَضَعْتهَا بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمّا رَأْسَانِ فَقَتَلْتهمَا، وَأَمّا الثّالِثُ فَإِنّي رَأَيْت رَجُلًا أَبْيَضَ طَوِيلًا ضَرَبَهُ فَتَدَهْدَى [ (1) ] أَمَامَهُ، فَأَخَذْت رَأْسَهُ. فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: ذَاكَ فُلَانٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ.
وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ:
لَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ إلّا يَوْمَ بَدْرٍ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوّرُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْرِفُونَ مِنْ النّاسِ يُثَبّتُونَهُمْ، فَيَقُولُ: إنّي قَدْ دَنَوْت مِنْهُمْ فَسَمِعْتهمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا، لَيْسُوا بِشَيْءٍ. وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... [ (2) ] ، إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ السّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ الْأَسَدِيّ يُحَدّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ يَقُولُ: وَاَللهِ، مَا أَسَرَنِي أَحَدٌ مِنْ النّاسِ. فَيُقَالُ: فَمَنْ؟ فَيَقُولُ: لَمّا انْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ انْهَزَمْت مَعَهَا، فَيُدْرِكُنِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَوْثَقَنِي رِبَاطًا، وَجَاءَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَجَدَنِي مَرْبُوطًا، وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يُنَادِي فِي الْمُعَسْكَرِ: مَنْ أَسَرَ هَذَا؟ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ أَسَرَنِي، حَتّى انْتَهَى بِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ أَبِي حُبَيْشٍ، مَنْ أَسَرَك؟ فَقُلْت: لَا أَعْرِفُ. وَكَرِهْت أَنْ أُخْبِرَهُ بِاَلّذِي رَأَيْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: أَسَرَهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ كَرِيمٌ، اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ بِأَسِيرِك!
فَذَهَبَ بِي عَبْدُ الرحمن.
__________
[ (1) ] تدهدى: تدحرج. (النهاية، ج 2، ص 37) .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 12(1/79)
فَقَالَ السّائِبُ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ أَحْفَظُهَا، وَتَأَخّرَ إسْلَامِي حَتّى كَانَ مَا كَانَ مِنْ إسْلَامِي.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ بَدْرٍ وقد وقع بوادي خلص بجاد [ (1) ] من المساء قَدْ سَدّ الْأُفُقَ- وَوَادِي خَلْصٍ نَاحِيَةَ الرّوَيْثَةِ- فَإِذَا الْوَادِي يَسِيلُ نَمْلًا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّ هَذَا شَيْءٌ مِنْ السّمَاءِ أُيّدَ بِهِ مُحَمّدٌ، فَمَا كَانَتْ إلّا الْهَزِيمَةُ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ.
قَالُوا: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيّ، وَكَانَ قَدْ لَبِسَ السّلَاحَ يَوْمًا بِمَكّةَ فِي بَعْضِ مَا كَانَ بَلَغَ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْأَذَى، فَقَالَ: لَا يَعْتَرِضُ الْيَوْمَ أَحَدٌ لِمُحَمّدٍ بِأَذًى إلّا وَضَعْت فِيهِ السّلَاحَ. فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ:
فَلَحِقْته فَقُلْت: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِك إنْ أَعْطَيْت بِيَدِك. قَالَ:
وَمَا تُرِيدُ إلَيّ؟ إنْ كَانَ نَهَى عَنْ قَتْلِي قَدْ كُنْت أبليته ذلك، فأمّا أن أعطى بيدي، فو اللّات وَالْعُزّى لَقَدْ عَلِمَ نِسْوَةٌ بِمَكّةَ أَنّي لَا أُعْطِي بِيَدِي، وَقَدْ عَرَفْت أَنّك لَا تَدَعَنِي، فَافْعَلْ الّذِي تُرِيدُ. وَرَمَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَهْمٍ، وَقَالَ: اللهُمّ سَهْمُك، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ عَبْدُك، فَضَعْهُ فى مقتل! وأبو البخترىّ دارع، فقتق السّهْمُ الدّرْعَ فَقَتَلَهُ. وَيُقَالُ إنّ الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ [ (2) ] قَتَلَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ وَلَا يَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْمُجَذّرُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا [ (3) ] عَرّفَ أَنّهُ قَتَلَهُ. ونهى النبىّ صلّى
__________
[ (1) ] البجاد: الكساء. وفى حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوى من السماء، أراد الملائكة. (النهاية، ج 1، ص 60) .
[ (2) ] فى ت: «المحذر بن زياد» بالزاي، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وهكذا ذكره ابن سعد أيضا. (الطبقات، ج 2، ص 30) .
[ (3) ] ذكر ابن إسحاق أبيات المجذر. (السيرة النبوية، ج 2، ص 282) .(1/80)
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قَتْلِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَقَالَ: ائْسِرُوهُ وَلَا تَقْتُلُوهُ! وَكَانَ كَارِهًا لِلْخُرُوجِ إلَى بَدْرٍ، فَلَقِيَهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ فَقَتَلَهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، فَبَلَغَ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ وَجَدْته قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ لَتَرَكْته لِنِسَائِهِ.
وَنَهَى عَنْ قَتْلِ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَقَتَلَهُ ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ [ (1) ] وَلَا يَعْرِفُهُ.
قَالُوا: وَلَمّا لَحِمَ الْقِتَالُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى النّصْرَ وَمَا وَعَدَهُ. يَقُولُ: اللهُمّ إنْ ظُهِرَ عَلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ ظَهَرَ الشّرْكُ، وَلَا يَقُومُ لَك دين! وأبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاَللهِ، لَيَنْصُرَنك اللهُ وَلَيُبَيّضَن وَجْهَك. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ عِنْدَ أَكْنَافِ الْعَدُوّ. قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَبْشِرْ، هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ، بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمّا نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ تَغَيّبَ عَنّي سَاعَةً ثُمّ طَلَعَ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ، يَقُولُ: أَتَاك نَصْرُ اللهِ إذْ دَعَوْته.
قَالُوا: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ مِنْ الْحَصْبَاءِ كَفّا فَرَمَاهُمْ بِهَا، وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ! اللهُمّ، أَرْعِبْ قُلُوبَهُمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ! فَانْهَزَمَ أَعْدَاءُ اللهِ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا امْتَلَأَ وَجْهُهُ وَعَيْنَاهُ، مَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجّهُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَقْتُلُونَهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَقَالَ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ:
أَنَا عَدِيّ وَالسّحْلِ ... أَمْشِي بِهَا مَشْيَ الْفَحْلِ
يَعْنِي دِرْعَهُ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلّم: من عدى؟ فقال رجل
__________
[ (1) ] فى ب: «ثابت بن الجدع» بالدال المهملة، وما أثبتناه عن سائر النسخ وابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 74) .(1/81)
مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَدِيّ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ: ابْنَ فُلَانٍ. قَالَ:
لَسْت أَنْتَ عَدِيّا! فَقَالَ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَدِيّ. قَالَ:
وَمَاذَا؟ قَالَ: وَالسّحْلُ أَمْشِي بِهَا مَشْيَ الْفَحْلِ. قَالَ النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: وَمَا السّحْلُ؟ قَالَ: الدّرْعُ. قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ:
نِعْمَ الْعَدِيّ، عَدِيّ بْنَ أَبِي الزّغْبَاءِ! وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكّةَ، وَالنّبِيّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مُهَاجِرٌ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَقُولُ [ (1) ] :
يَا رَاكِبَ النّاقَةِ الْقَصْوَاءِ هَاجَرْنَا ... عَمّا قَلِيلٍ تَرَانِي رَاكِبَ الْفَرَسِ
أُعِلّ رُمْحِي فِيكُمْ ثُمّ أُنْهِلُهُ ... وَالسّيْفُ يَأْخُذُ مِنْكُمْ كُلّ مُلْتَبِسِ
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّناد. فقال النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَلَغَهُ قَوْلُهُ:
اللهُمّ أَكِبّهُ لِمَنْخَرِهِ وَاصْرَعْهُ!
قَالَ: فَجَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلَانِيّ، فَأَمَرَ بِهِ النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ [ (2) ] ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا.
وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُولُ: إنّي لَأَجْمَعُ أَدْرَاعًا لِي يَوْمَ بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ وَلّى النّاسُ، فَإِذَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سُمّيت عَبْدَ الرّحْمَنِ، فَكَانَ يَلْقَانِي فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَا أُجِيبُهُ. فَيَقُولُ: إنّي لَا أَقُولُ لَك عَبْدَ الرّحْمَنِ، إنّ مُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ يَتَسَمّى بِالرّحْمَنِ فَأَنَا لَا أَدْعُوك إلَيْهِ. فَكَانَ يَدْعُونِي عَبْدَ الْإِلَهِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ رَأَيْته عَلَى [ (3) ] جَمَلٍ أَوْرَقَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَلِيّ،
__________
[ (1) ] فى ت: «كان يقول بمكة» .
[ (2) ] فى الأصل: «الأفلح» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، والبلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 54) .
[ (3) ] هكذا فى الأصل. وفى ب، ت: «رأيته كأنه جمل أورق» ، وفى ح: «كأنه جمل يساق» .(1/82)
فَنَادَانِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو. فَأَبَيْت أَنْ أُجِيبَهُ، فَنَادَى: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ. فَأَجَبْته، فَقَالَ: أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللّبَنِ [ (1) ] ؟ نَحْنُ خَيْرٌ لَك مِنْ أَدْرَاعِك هَذِهِ. فَقُلْت:
امْضِيَا! فَجَعَلْت أَسُوقُهُمَا أَمَامِي. وَقَدْ رَأَى أُمَيّةُ أَنّهُ قَدْ أَمِنَ بَعْضَ الْأَمْنِ، فَقَالَ لِي أُمَيّةُ: رَأَيْت رَجُلًا فِيكُمْ الْيَوْمَ مُعْلِمًا، فِي صَدْرِهِ رِيشَةُ نَعَامَةٍ، مَنْ هُوَ؟ قُلْت: حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. فَقَالَ: ذَاكَ الّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ.
ثُمّ قَالَ: فَمَنْ رَجُلٌ دَحْدَاحٌ قَصِيرٌ، مُعْلِمٌ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ؟ قَالَ، قُلْت:
ذَاكَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ [ (2) ] . فَقَالَ: وَبِذَاكَ أَيْضًا يَا عَبْدَ الْإِلَهِ صِرْنَا الْيَوْمَ جُزُرًا لكم! قال: فبينا هو معنى أُزْجِيهِ أَمَامِي، وَمَعَهُ ابْنُهُ، إذْ بَصُرَ بِهِ بَلَالٌ وَهُوَ يَعْجِنُ عَجِينًا لَهُ، [فَتَرَكَ الْعَجِينَ] [ (3) ] وَجَعَلَ يَفْتِلُ يَدَيْهِ مِنْ الْعَجِينِ فَتْلًا ذَرِيعًا، وَهُوَ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ رَأْسُ الْكُفْرِ، لَا نَجَوْت إنْ نَجَا! قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ: فَأَقْبَلُوا كَأَنّهُمْ عُوذٌ [ (4) ] حَنّتْ إلَى أَوْلَادِهَا، حَتّى طُرِحَ أُمَيّةُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَاضْطَجَعْت عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَأَدْخَلَ سَيْفَهُ فَاقْتَطَعَ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ، فَلَمّا فَقَدَ أُمَيّةُ أَنْفَهُ قَالَ: إيه عَنْك! أَيْ خَلّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ:
فَذَكَرْت قَوْلَ حَسّانٍ* أَوْ عَنْ ذَلِكَ الْأَنْفِ جَادِع* وَأَقْبَلَ إلَيْهِ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافٍ فَضَرَبَهُ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ ضَرَبَ أُمَيّةُ خُبَيْبَ بْنَ يَسَافٍ حَتّى قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَنْكِبِ، فَأَعَادَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ [ (5) ] فَالْتَحَمَتْ وَاسْتَوَتْ، فَتَزَوّجَ خُبَيْبٌ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنَةَ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَرَأَتْ تِلْكَ الضّرْبَةَ فقالت:
__________
[ (1) ] قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرنى افتديت منه بإبل كثيرة اللبن. (السيرة النبوية، ج 2، ص 284) .
[ (2) ] وهو أبو دجانة.
[ (3) ] الزيادة عن ب، ت، ح.
[ (4) ] العوذ: الحديثات النتاج من الظباء وكل أنثى. (القاموس المحيط، ج 1، ص 356) .
[ (5) ] فى ب، ت: «فأعادها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيده» .(1/83)
لَا يُشِلّ اللهُ يَدَ رَجُلٍ [فَعَلَ] [ (1) ] هَذَا! فَقَالَ خُبَيْبٌ: وَأَنَا وَاَللهِ قَدْ أَوْرَدَتْهُ شَعُوبٌ.
فَكَانَ خُبَيْبٌ يُحَدّثُ قَالَ: فَأَضْرِبُهُ فَوْقَ الْعَاتِقِ، فَأَقْطَعُ عَاتِقَهُ حَتّى بَلَغْت مُؤْتَزَرَهُ وَعَلَيْهِ الدّرْعُ. وَأَنَا أَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ يَسَافٍ! وَأَخَذْت سِلَاحَهُ، وَدِرْعَهُ مَقْطُوعَةٌ. وَأَقْبَلَ عَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ، فَيَعْتَرِضُ لَهُ الْحُبَابُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، فَصَاحَ صَيْحَةً مَا سُمِعَ مِثْلُهَا قَطّ جَزَعًا، وَلَقِيَهُ عَمّارٌ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَقَتَلَهُ. وَيُقَالُ إنّ عَمّارًا لَاقَاهُ قَبْلَ الضّرْبَةِ [ (2) ] ، فَاخْتَلَفَا ضَرَبَاتٍ فَقَتَلَهُ.
وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ أَنّهُ ضَرَبَهُ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ رِجْلُهُ، وَقَدْ سَمِعْنَا فِي قَتْلِ أُمَيّةَ غَيْرَ ذَلِكَ.
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَأَحْدَقْنَا بِأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ لَهُ فِيهِمْ شَأْنٌ، وَمَعِي رُمْحِي وَمَعَهُ رُمْحُهُ، فَتَطَاعَنَا حَتّى سَقَطَتْ رِمَاحُنَا [ (3) ] ثُمّ صِرْنَا إلَى السّيْفَيْنِ فَتَضَارَبْنَا بِهِمَا حَتّى انْثَلَمَا، ثُمّ بَصُرْت بِفَتْقٍ فِي دِرْعِهِ تَحْتَ إبِطِهِ، فَخَشَشْت [ (4) ] السّيْفَ فِيهِ حَتّى قَتَلْته، وَخَرَجَ السيف وعليه والودك. وَقَدْ سَمِعْنَا وَجْهًا آخَرَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، قَالَتْ: قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ لِقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ: يَا قُدَامَةُ، أَنْتَ الْمُشْلِي بِأَبِي يَوْمَ بَدْرٍ النّاسَ! فَقَالَ قُدَامَةُ: لَا وَاَللهِ، مَا فَعَلْت، وَلَوْ فَعَلْت مَا اعْتَذَرْت مِنْ قَتْلِ مُشْرِكٍ. قَالَ صَفْوَانُ: فمن يا قدام المشلى به يوم
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت، ح.
[ (2) ] أى قبل ضربة الحباب.
[ (3) ] فى ب، ت، ح: «أزجتهما» .
[ (4) ] فى ب، ح: «حششت» ، وخششت: أدخلت. (النهاية، ج 1، ص 295) .(1/84)
بَدْرٍ النّاسَ؟ قَالَ: رَأَيْت فِتْيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ أَقْبَلُوا إلَيْهِ، فِيهِمْ مَعْمَرُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، يَرْفَعُ سَيْفَهُ وَيَضَعُهُ [فِيهِ] . فَيَقُولُ صَفْوَانُ:
أَبُو قِرْدٍ! وَكَانَ مَعْمَرٌ رَجُلًا دَمِيمًا، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ فَغَضِبَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمّ صَفْوَانَ، وَهِيَ كَرِيمَةُ بِنْتُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ، فَقَالَ:
مَا يَدَعُنَا صفوان من الأذى فى الجاهليّة وو الإسلام! فَقَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟
فَأَخْبَرَهَا بِمَقَالَةِ صَفْوَانَ لِمَعْمَرٍ حِينَ قَالَ «أَبُو قِرْدٍ» . فَقَالَتْ أُمّ صَفْوَانَ:
يَا صَفْوَانُ، تَنْتَقِصُ مَعْمَرَ بْنَ حَبِيبٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَاَللهِ، لَا أَقْبَلُ لَك كَرَامَةً سَنَةً. قَالَ صَفْوَانُ: يَا أُمّهُ، وَاَللهِ لَا أَعُودُ أَبَدًا، تَكَلّمْت بِكَلِمَةٍ لَمْ أُلْقِ بِهَا بَالًا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنِي الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِأُمّ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَنَظَرَتْ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بمكّة: هذا الذي قطع رج عَلِيّ بْنِ أُمَيّةَ، يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَتْ: دَعُونَا مِنْ ذِكْرِ مَنْ قُتِلَ عَلَى الشّرْكِ! قَدْ أَهَانَ اللهُ عَلِيّا بِضَرْبَةِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَكْرَمَ اللهُ الْحُبَابَ بِضَرْبِهِ عَلِيّا، قَدْ كَانَ على الإسلام حين خرج من ها هنا، فَقُتِلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ لَقِيت عُبَيْدَةَ بن سعيد ابن الْعَاصِ عَلَى فَرَسٍ، عَلَيْهِ لَأْمَةٌ كَامِلَةٌ لَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ- وَقَدْ كَانَتْ لَهُ صَبِيّةٌ صَغِيرَةٌ يَحْمِلُهَا، وَكَانَ لَهَا بطين وكانت مسقمة- أما أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ! أَنَا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ! قال: وفي يدي عنزة [1]
__________
[ (1) ] العنزة: الرمح الصغير. قال القالي: قال أبو العباس ثعلب: سميت العنزة عنزة من قولهم اعتنز الرجل إذا تنحى، وذلك أن الإمام يجعلها بين يديه إذا صلى ويقف دونها فتكون ناحية عنه. (ذيل الأمامى والنوادر، ص 162) .(1/85)
فَأَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَوَقَعَ، وَأَطَأُ بِرِجْلِي عَلَى خَدّهِ حَتّى أَخْرَجْت الْعَنَزَةَ مِنْ حَدَقَتِهِ [ (1) ] وَأَخْرَجْت حَدَقَتَهُ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ الْعَنَزَةَ، فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاخْتَلَطُوا، أَقْبَلَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ السّهْمِيّ كَأَنّهُ ذِئْبٌ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلَيْكُمْ بِالْقَاطِعِ، مُفَرّقِ الْجَمَاعَةِ، الْآتِي بِمَا لَا يُعْرَفُ. مُحَمّدٍ! لَا نَجَوْت إنْ نَجَا! وَيَعْتَرِضُهُ أَبُو دُجَانَةَ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ وضربه أبو دجانة فقتاه. وَوَقَفَ عَلَى سَلَبِهِ يَسْلُبُهُ، فَمَرّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: دَعْ سَلَبَهُ حَتّى يُجْهَضَ [ (2) ] الْعَدُوّ، وَأَنَا أَشْهَدُ لَك بِهِ. وَيُقْبِلُ مَعْبَدُ بْنُ وَهْبٍ، فَضَرَبَ أَبَا دُجَانَةَ ضَرْبَةً، بَرَكَ أَبُو دُجَانَةَ كَمَا يَبْرُكُ الْجَمَلُ، ثُمّ انْتَهَضَ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ لَمْ يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا، حَتّى يَقَعُ مَعْبَدٌ بِحُفْرَةٍ أَمَامَهُ لَا يَرَاهَا، وَبَرَكَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ، فَذَبَحَهُ ذَبْحًا، وَأَخَذَ سَلَبَهُ.
قَالُوا: وَلَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ، وَرَأَتْ بَنُو مَخْزُومٍ مَقْتَلَ مَنْ قُتِلَ، قَالُوا:
أَبُو الْحَكَمِ، لَا يَخْلُصُ إلَيْهِ، فَإِنّ ابْنَيْ رَبِيعَةَ قَدْ عَجّلَا وَبَطِرَا، وَلَمْ تُحَامِ عَلَيْهِمَا عَشِيرَتُهُمَا. فَاجْتَمَعَتْ بَنُو مَخْزُومٍ فَأَحْدَقُوا بِهِ، فَجَعَلُوهُ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [ (3) ] . وَأَجْمَعُوا أَنْ يَلْبَسُوا لَأْمَةَ أَبِي جَهْلٍ رَجُلًا منهم، فألبسوها عبد الله ابن الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي رِفَاعَةَ، فَصَمَدَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرَاهُ أَبَا جَهْلٍ، وَمَضَى عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ! ثُمّ أَلْبَسُوهَا أَبَا قَيْسِ بْنَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: فَصَمَدَ لَهُ حَمْزَةُ وهو يراه أبا جهل فضربه
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ب، ت: «منعقفه» ، وفى ح: «متعقفة» .
[ (2) ] فى ت: «نجهض» .
[ (3) ] قال ابن هشام: الحرجة الشجر الملتف. وفى الحديث عن عمر بن الخطاب أنه سأل أعرابيا عن الحرجة فقال: هي شجرة بين الأشجار لا يوصل إليها. (السيرة النبوية، ج 2، ص 287)(1/86)
فَقَتَلَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ! ثُمّ أَلْبَسُوهَا حَرْمَلَةَ بْنَ عَمْرٍو، فَصَمَدَ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَتَلَهُ، وَأَبُو جَهْلٍ فِي أَصْحَابِهِ. ثُمّ أَرَادُوا أَنْ يُلْبِسُوهَا خَالِدَ بْنَ الْأَعْلَمِ، فَأَبَى أَنْ يَلْبَسَهَا يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ معاذ بن عمرو ابن الْجَمُوحِ: نَظَرْت إلَى أَبِي جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
أَبُو الْحَكَمِ، لَا يَخْلُصُ إلَيْهِ! فَعَرَفْت أَنّهُ هُوَ، فَقُلْت: وَاَللهِ لَأَمُوتَن دونه اليوم أو لا أخلصنّ إلَيْهِ! فَعَرَفْت أَنّهُ هُوَ، فَقُلْت: وَاَللهِ لَأَمُوتَن دونه عَلَيْهِ. فَضَرَبْته ضَرْبَةً وَطَرَحْت رِجْلَهُ مِنْ السّاقِ، فَشَبّهْتهَا بِالنّوَاةِ تَنْزُو مِنْ تَحْتِ الْمَرَاضِخِ [ (1) ] . ثُمّ أَقْبَلَ ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَيّ، فَضَرَبَنِي عَلَى عَاتِقِي، وَطَرَحَ يَدِي مِنْ الْعَاتِقِ، إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَتْ جِلْدَةٌ، فَإِنّي أَسْحَبُ يَدِي بِجِلْدَةٍ مِنْ خَلْفِي، فَلَمّا آذَتْنِي وَضَعْت عَلَيْهَا رِجْلِي، فَتَمَطّيْت عَلَيْهَا حَتّى قَطَعْتهَا.
ثُمّ لَاقَيْت عِكْرِمَةَ وَهُوَ يَلُوذُ كُلّ مَلَاذٍ، فَلَوْ كَانَتْ يَدِي مَعِي لَرَجَوْت يَوْمَئِذٍ أَنْ أُصِيبَهُ. وَمَاتَ مُعَاذٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ نَفّلَ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ- وَهُوَ عِنْدَ آلِ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو الْيَوْمَ، بِهِ فَلّ- بَعْدَ أَنْ أرسل النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَسَأَلَهُ: مَنْ قَتَلَ أَبَاك؟ قَالَ: الّذِي قَطَعْت يَدَهُ. فدفعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ عِكْرِمَةُ قَدْ قَطَعَ يَدَهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
حَدّثَنِي ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ:
مَا كَانَ بَنُو المغيرة يشكّون أنّ سيف أبى الحكم صار إلى معاذ بن عمرو بن
__________
[ (1) ] المراضخ: جمع المرضخة، والمرضخة حجر يرضخ به النوى، أى يكسر. (النهاية، ج 2، ص 84.(1/87)
الْجَمُوحِ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ حَدّثَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو أَنّهُ قَضَى لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِسَلَبِ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ: فَأَخَذْت دِرْعَهُ وَسَيْفَهُ، فَبِعْت سَيْفَهُ بَعْدُ. وَقَدْ سَمِعْت فِي قَتْلِهِ غَيْرَ هَذَا وَأَخْذِ سَلَبِهِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: عَبّأَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِلَيْلٍ فَصَفّنَا، فَأَصْبَحْنَا وَنَحْنُ عَلَى صُفُوفِنَا، فَإِذَا بِغُلَامَيْنِ لَيْسَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ إلّا وَقَدْ رُبِطَتْ حَمَائِلُ [ (1) ] سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَالْتَفَتَ إلَيّ أَحَدُهُمَا فَقَالَ:
يَا عَمّ، أَيّهُمْ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ، قُلْت: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ:
بَلَغَنِي أَنّهُ يَسُبّ رَسُولَ اللهِ، فَحَلَفْت لَئِنْ رَأَيْته لَأَقْتُلَنهُ أَوْ لَأَمُوتَن دُونَهُ.
فَأَشَرْت لَهُ إلَيْهِ، وَالْتَفَتَ إلَيّ الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَشَرْت لَهُ إلَيْهِ فَقُلْت: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: ابْنَا الْحَارِثِ. قَالَ: فَجَعَلَا لَا يَطْرِفَانِ عَنْ أَبِي جَهْلٍ حَتّى إذَا كَانَ الْقِتَالُ خَلَصَا إلَيْهِ فَقَتَلَاهُ وَقَتَلَهُمَا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ وَلَدِ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
لَمّا كَانَ يَوْمَئِذٍ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ، وَنَظَرَ إلَيْهِمَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ: لَيْتَهُ كَانَ إلَى جَنْبِي مَنْ هُوَ آيَدُ [ (2) ] مِنْ هَذَيْنِ الْفَتَيَيْنِ. فَلَمْ أَنْشِبْ أَنْ الْتَفَتَ إلَيّ عَوْفٌ، فَقَالَ: أَيّهُمْ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقُلْت: ذاك حيث ترى. فخرج بعدو إلَيْهِ كَأَنّهُ سَبُعٌ، وَلَحِقَهُ أَخُوهُ، فَأَنَا أَنْظُرُ إليهما يضطربان بالسيوف،
__________
[ (1) ] أى قد ربطت حمائل سيفه فى عنقه لصغره.
[ (2) ] فى ح: «أبدن من» .(1/88)
ثُمّ نَظَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَرّ بِهِمَا فِي الْقَتْلَى وَهُمَا إلَى جَنْبِهِ [ (1) ] .
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يُنْكِرُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي ابْنَيْ عَفْرَاءَ مِنْ صِغَرِهِمْ، وَيَقُولُ: كَانَا يَوْمَ بَدْرٍ أَصْغَرُهُمَا ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَهَذَا يَرْبِطُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ؟ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الله بن أبى عبيده، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ رُبَيّعَ بِنْتِ مُعَوّذٍ، قَالَتْ: دَخَلْت فِي نِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتَ مُخَرّبَةَ [ (2) ] أُمّ أَبِي جَهْلٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، وَكَانَ ابْنُهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ يَبْعَثُ إلَيْهَا بِعِطْرٍ مِنْ اليمن، وكانت تبيعة إلى لأعطية، فَكُنّا نَشْتَرِي مِنْهَا، فَلَمّا جَعَلَتْ لِي فِي قَوَارِيرِي، وَوَزَنَتْ لِي كَمَا وَزَنَتْ لِصَوَاحِبِي، قَالَتْ: اُكْتُبْنَ لِي عَلَيْكُنّ حَقّي. فَقُلْت: نَعَمْ، أَكْتُبُ لَهَا عَلَى الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ. فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: حَلْقَى، وَإِنّك لَابْنَةُ قَاتِلِ سَيّدِهِ؟
قَالَتْ، قُلْت: لَا، وَلَكِنْ ابْنَةُ قَاتِلِ عَبْدِهِ. قَالَتْ: وَاَللهِ، لَا أَبِيعُك شَيْئًا أَبَدًا. فَقُلْت: وَأَنَا، وَاَللهِ، لا أشترى منك شيئا أبدا! فو الله، مَا هُوَ بِطِيبٍ وَلَا عَرْفٍ [ (3) ] ! وَاَللهِ يَا بُنَيّ مَا شَمَمْت عِطْرًا قَطّ كَانَ أَطْيَبَ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَا بُنَيّ، غَضِبْت! قَالُوا: وَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يُلْتَمَسَ أَبُو جَهْلٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْته فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَوَضَعْت رِجْلِي
__________
[ (1) ] فى ح: «وهما إلى جانب أبى جهل» .
[ (2) ] فى الأصل: «مخرمة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 194) .
[ (3) ] فى الأصل وب: «ولا عرق» ، وما أثبتناه عن ت، ح.(1/89)
على عتقه فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَخْزَاك! قَالَ: إنّمَا أخرى اللهُ عَبْدَ ابْنِ أُمّ عَبْدٍ! لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ، لِمَنْ الدّائِرَةُ [ (1) ] ؟ قُلْت:
لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَأَقْتَلِعُ بَيْضَتَهُ عَنْ قَفَاهُ، فَقُلْت: إنّي قَاتِلُك يَا أَبَا جَهْلٍ! قَالَ: لَسْت بِأَوّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيّدَهُ! أَمَا إنّ أَشَدّ مَا لَقِيته الْيَوْمَ فِي نَفْسِي لِقَتْلِك إيّايَ، أَلَا يَكُونُ وَلِيَ قَتْلِي رَجُلٌ مِنْ الْأَحْلَافِ أَوْ مِنْ الْمُطَيّبِينَ!
فَضَرَبَهُ عَبْدُ اللهِ ضَرْبَةً، وَوَقَعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ سَلَبُهُ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى جَسَدِهِ، نَظَرَ إلَى حُصُرِهِ [ (2) ] كَأَنّهَا السّيَاطُ. وَأَقْبَلَ بِسِلَاحِهِ، وَدِرْعِهِ، وَبَيْضَتِهِ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ:
أَبْشِرْ، يَا نَبِيّ اللهِ بِقَتْلِ عَدُوّ اللهِ أَبِي جَهْلٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أحقّا، يا عبد الله؟ فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُوَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ حُمُرِ النّعَمِ- أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ: وَذَكَرْت لِلنّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنْ الْآثَارِ، فَقَالَ: ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ:
قَدْ أَصَابَهُ جَحْشٌ [ (3) ] مِنْ دُفَعٍ دَفَعَتْهُ فِي مَأْدُبَةِ ابْنِ جُدْعَانَ، فَجَحَشَتْ رُكْبَتَهُ.
فَالْتَمِسُوهُ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الْأَثَرَ. وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ كَانَ عِنْدَ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ تِلْكَ السّاعَةَ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَنْتَ قَتَلْته؟ قَالَ: نَعَمْ، اللهُ قَتَلَهُ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَنْتَ وَلِيت قَتْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ شَاءَ لجعلك فى كمّه.
فقال ابن مسعود: فَقَدْ وَاَللهِ قَتَلْته وَجَرّدْته. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا عَلَامَتُهُ؟
قَالَ: شَامَةٌ سَوْدَاءُ بِبَطْنِ فَخِذِهِ اليمنى. فعرف أبو سلمة النعت، وقال:
__________
[ (1) ] فى ب، ح: «الدبرة» .
[ (2) ] فى الأصل: «حفرة» ، وفى ب، ت: «خصره» . ولعل الصواب ما أثبتناه.
والحصر جمع الحصير وهو جنب الجسم. (مقاييس اللغة، ج 2، ص 72) .
[ (3) ] الجحش: سحج الجلد، أى قشره. (الصحاح، ص 997) .(1/90)
جَرّدْته! وَلَمْ يُجَرّدْ قُرَشِيّ غَيْرُهُ! قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللهِ، إنّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي حُلَفَائِهَا أَحَدٌ أَعْدَى لِلّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ مِنْهُ، وَمَا أَعْتَذِرُ مِنْ شَيْءٍ صَنَعْته بِهِ.
فَأُسْكِتَ أَبُو سَلَمَةَ، فَسُمِعَ أَبُو سَلَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي أَبِي جَهْلٍ.
وَفَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ: اللهُمّ، قَدْ أَنْجَزْت مَا وَعَدْتنِي، فَتَمّمْ عَلَيّ نِعْمَتَك!
وَقَالَ: فال ابن مسعود يَقُولُونَ:
سَيْفُ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَنَا، مُحَلّى بِفِضّةٍ، غَنِمَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَئِذٍ.
فَاجْتَمَعَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو وَابْنَيْ عفراء أثبتوه، وضرب ابن مسعود عُنُقَهُ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَكُلّ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ.
قَالُوا: وَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللهُ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، فَإِنّهُمَا قَدْ شَرِكَا فِي قَتْلِ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَرَأْسِ أَئِمّةِ الْكُفْرِ! فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةَ، وَذَافّهُ [ (1) ] ابْنُ مَسْعُودٍ، فَكُلّ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: اللهُمّ، اكْفِنِي نَوْفَلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ!
وَأَقْبَلَ نَوْفَلٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مَرْعُوبٌ، قَدْ رَأَى قَتْلَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ فِي أَوّلِ مَا الْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ، يَصِيحُ بِصَوْتٍ لَهُ زَجَلٌ، رَافِعًا صَوْتَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ الْعَلَاءِ وَالرّفْعَةِ! فَلَمّا رَأَى قُرَيْشًا قَدْ انْكَسَرَتْ [ (2) ] جَعَلَ يَصِيحُ بِالْأَنْصَارِ: مَا حَاجَتُكُمْ إلَى دِمَائِنَا؟ أَمَا تَرَوْنَ مَا تَقْتُلُونَ؟ أَمَا لَكُمْ فِي اللّبن ما حَاجَةٍ؟ فَأَسَرَهُ جَبّارُ بْنُ [ (3) ] صَخْرٍ فَهُوَ يَسُوقُهُ أمامه، فجعل
__________
[ (1) ] ذافّة: أجهز عليه. (الصحاح، ص 1360) .
[ (2) ] فى ب، ت، ح: «انكشفت» .
[ (3) ] فى الأصل: «حيان بن صخر» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد.
(الطبقات، ج 3، ص 114) .(1/91)
نَوْفَلٌ يَقُولُ لِجَبّارٍ- وَرَأَى عَلِيّا مُقْبِلًا نَحْوَهُ- قال: يا أخا الأنصار، من هذا؟ واللّات وَالْعُزّى، إنّي لَأَرَى رَجُلًا، إنّهُ لَيُرِيدُنِي! قَالَ: هَذَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَسْرَعَ فِي قَوْمِهِ [مِنْهُ.
فَيَصْمُدُ لَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ] [ (1) ] فَيَضْرِبُهُ، فَنَشِبَ سَيْفُ عَلِيّ فِي حَجَفَتِهِ سَاعَةً، ثُمّ نَزَعَهُ فَيَضْرِبُ سَاقَيْهِ، وَدِرْعُهُ مُشَمّرَةٌ، فَقَطَعَهُمَا، ثُمّ أَجْهَزَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِنَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ؟ فَقَالَ عَلِيّ:
أَنَا قَتَلْته. قَالَ: فَكَبّرَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَجَابَ دَعْوَتِي فِيهِ!
وَأَقْبَلَ الْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ يُحِثّ [ (2) ] لِلْقِتَالِ، فالنقى هُوَ وَعَلِيّ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ لِابْنِهِ سَعِيدِ [بْنِ الْعَاصِ] [ (3) ] : إنّي لَأَرَاك مُعْرِضًا، تَظُنّ أَنّي قَتَلْت أَبَاك؟ [فِي أَصْلِ ابْنِ أَبِي حَيّةَ، وَاَللهِ مَا قَتَلْت أَبَاك] [ (4) ] وَلَا أَعْتَذِرُ مِنْ قَتْلِ مُشْرِكٍ، وَلَقَدْ قَتَلْت خَالِي بِيَدَيّ، الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: لَوْ قَتَلْته لَكَانَ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنْتَ عَلَى الْحَقّ. قَالَ: قُرَيْشٌ أَعْظَمُ النّاسِ أَحْلَامًا، وَأَعْظَمُهَا أَمَانَةً، لَا يَبْغِيهِمْ أَحَدٌ الْغَوَائِلَ إلّا كَبّهُ اللهُ لِفِيهِ [ (5) ] .
وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَقُولُ: إنّي يَوْمَئِذٍ بَعْدَ مَا ارْتَفَعَ [ (6) ] النّهَارُ، وَنَحْنُ وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ اخْتَلَطَتْ صُفُوفُنَا وَصُفُوفُهُمْ، خَرَجْت فِي إثْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كَثِيبِ رَمْلٍ وَسَعْدُ بن خيثمة، وهما
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت، ح.
[ (2) ] فى الأصل: «يبحث» ، والمثبت من ب، ت.
[ (3) ] الزيادة عن ب، ت، ج.
[ (4) ] وهو فى الأصل فقط.
[ (5) ] فى الأصل: «لغيّه» ، والمثبت من سائر النسخ.
[ (6) ] فى ح: «بعد ما متع» .(1/92)
يَقْتَتِلَانِ حَتّى قَتَلَ الْمُشْرِكُ سَعْدَ بْنَ خَيْثَمَةَ. وَالْمُشْرِكُ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ، وَكَانَ فَارِسًا، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ، فَعَرَفَنِي وَهُوَ مُعْلِمٌ وَلَا أَعْرِفُهُ، فَنَادَانِي:
هَلُمّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لِلْبِرَازِ! قَالَ: فَعَطَفْت عَلَيْهِ فَانْحَطّ. إلَيّ مُقْبِلًا، وَكُنْت رَجُلًا قَصِيرًا، فَانْحَطَطْت رَاجِعًا لِكَيْ يَنْزِلَ إلَيّ، فَكَرِهْت أَنْ يَعْلُوَنِي بِالسّيْفِ.
فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَرَرْت؟ فَقُلْت: قَرِيبًا مَفَرّ [ (1) ] ، ابْنَ الشّتْرَاءِ! قَالَ: فَلَمّا اسْتَقَرّتْ قَدَمَايَ وَثَبُتّ أَقْبَلَ، فَلَمّا دَنَا مِنّي ضَرَبَنِي، فَاتّقَيْت بِالدّرَقَةِ فَوَقَعَ سَيْفُهُ فَلَحِجَ- يَعْنِي لَزِمَ- فَأَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ دَارِعٌ، فَارْتَعَشَ، وَلَقَدْ فَضّ [ (2) ] سَيْفِي دِرْعَهُ، فَظَنَنْت أَنّ سَيْفِي سَيَقْتُلُهُ، فَإِذَا بَرِيقُ سَيْفٍ مِنْ وَرَائِي، فَطَأْطَأْت رَأْسِي وَيَقَعُ السّيْفُ فَأَطَنّ [ (3) ] قِحْفَ رَأْسِهِ بِالْبَيْضَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ! فَالْتَفَتّ مِنْ وَرَائِي فَإِذَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ [ (4) ] .
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّتِهِ، قَالَتْ: قَالَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فأعطانى رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عُودًا، فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَقَاتَلْت بِهِ حَتّى هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ- فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى هَلَكَ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ، حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ:
عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بنى عبد الأشهل عِدّةٍ، قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سلاح معه،
__________
[ (1) ] فى ت: «مقرّ» .
[ (2) ] هكذا فى الأصل، وفى سائر النسخ: «قطّ» . والفضّ: الكسر بالتفرقة.
(الصحاح، ص 1098) .
[ (3) ] فى ت: «فيطن» .
[ (4) ] فى ح: «فإذا هو حمزة عمى والمقتول طعيمة بن عدىّ» .(1/93)
فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَضِيبًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينِ [ (1) ] ابْنِ طَابٍ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ! فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ جَيّدٌ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ: بَيْنَا حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَارِعٌ فِي الْحَوْضِ، إذْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ [ (2) ] فَوَقَعَ فِي نَحْرِهِ، فَلَقَدْ شَرِبَ الْقَوْمُ آخِرَ النّهَارِ مِنْ دَمِهِ.
فَبَلَغَ أُمّهُ وَأُخْتَه وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ مَقْتَلَهُ، فَقَالَتْ أُمّهُ: وَاَللهِ، لَا أَبْكِي عَلَيْهِ حَتّى يَقْدَمَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ، فَإِنْ كَانَ ابْنِي فِي الْجَنّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ابْنِي فِي النّارِ بَكَيْته لَعَمْرِ اللهِ فَأَعْوَلْتُهُ! فَلَمّا قَدِمَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ جَاءَتْ أُمّهُ إلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْت مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَأَرَدْت أَنْ أَبْكِيَ عَلَيْهِ فَقُلْت:
لَا أَفْعَلُ حَتّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي النّارِ بَكَيْته فَأَعْوَلْتُهُ. فقال النبىّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: هَبِلْت، أَجَنّةٌ وَاحِدَةٌ؟ إنّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى
قَالَتْ: فَلَا أَبْكِي عَلَيْهِ أَبَدًا! وَدَعَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ وَمَضْمَضَ فَاهُ، ثُمّ نَاوَلَ أُمّ حَارِثَةَ فَشَرِبَتْ، ثُمّ نَاوَلَتْ ابْنَتَهَا فَشَرِبَتْ، ثُمّ أَمَرَهُمَا فَنَضَحَتَا فِي جُيُوبِهِمَا، فَفَعَلَتَا فَرَجَعَتَا مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ امْرَأَتَانِ أَقَرّ أَعْيُنًا مِنْهُمَا وَلَا أَسَرّ.
قَالُوا: وَكَانَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وهب لمّا رأى الهزيمة انحزل [ (3) ] ظهره فعقر [ (4) ]
__________
[ (1) ] فى ت: «عراجين أرطاب» . وعراجين: جمع عرجون، والعرجون: العذق، أو إذا يبس واعوج، أو أصله، أو عود الكباشة. وابن طاب: ضرب من الرطب.
(القاموس المحيط، ج 4، ص 248، ج 1، ص 98) .
[ (2) ] سهم غرب: أى لا يعرف رامية. (النهاية، ج 3، ص 153) .
[ (3) ] انخزل الشيء: انقطع. (الصحاح، ص 1684) .
[ (4) ] عقر: كفرح، فجئه الروع فلم يقدر أن يتقدم أو يتأخر. (القاموس المحيط، ج 2، ص 94) .(1/94)
فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ، فَأَتَاهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ حَلِيفُهُ، فَفَتَقَ دِرْعَهُ عَنْهُ وَاحْتَمَلَهُ. وَيُقَالُ ضَرَبَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ بِالسّيْفِ فَقَطّ. دِرْعَهُ، وَوَقَعَ لِوَجْهِهِ وَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَجَاوَزَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَبَصُرَ بِهِ ابْنَا زُهَيْرٍ الْجُشَمِيّانِ، أَبُو أُسَامَةَ وَمَالِكٌ وَهُمَا حَلِيفَاهُ، فَذَبّا عَنْهُ حَتّى نَجَوْا بِهِ، وَاحْتَمَلَهُ أَبُو أُسَامَةَ فَنَجَا بِهِ، وَجَعَلَ مَالِكٌ يَذُبّ عَنْهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
حَمَاهُ كَلْبَاهُ! الْحَلِيفُ مِثْلُ أَبِي أُسَامَةَ كَأَنّهُ رَقْلٌ!
- الرّقْلُ النّخْلَةُ الطّوِيلَةُ وَيُقَالُ إنّ الّذِي ضَرَبَهُ مُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّهِ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: سَمِعْت مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ يَسْأَلُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، فَجَعَلَ الشّيْخُ يَكْرَهُ ذَلِكَ حَتّى أَلَحّ عَلَيْهِ. فَقَالَ حَكِيمٌ: الْتَقَيْنَا فَاقْتَتَلْنَا، فَسَمِعْت صَوْتًا وَقَعَ مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ مِثْلَ وَقْعِ الْحَصَاةِ فِي الطّسْتِ، وَقَبَضَ النّبِيّ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْقَبْضَةَ فَرَمَى بِهَا فَانْهَزَمْنَا.
حَدّثَنَا مُحَمّدٌ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي أَبُو إسْحَاقَ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بن صغير، قَالَ: سَمِعْت نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةِ الدّيلِيّ يَقُولُ: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع كوقع الحصا فِي الطّسَاسِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدّ الرّعْبِ عَلَيْنَا.
وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقُولُ: انْهَزَمْنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَجَعَلْت أَسْعَى وَأَقُولُ:
قَاتَلَ اللهُ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ! يَزْعُمُ أَنّ النّهَارَ قَدْ ذَهَبَ، وَاَللهِ إنّ النّهَارَ لَكَمَا هُوَ! قَالَ حَكِيمٌ: وَمَا ذَاكَ بِي إلّا حُبّا أَنْ يَأْتِيَ اللّيْلُ فَيَقْصُرُ عَنّا طَلَبُ الْقَوْمِ.
فَيُدْرِكُ حَكِيمًا عُبَيْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ ابْنَا الْعَوّامِ عَلَى جَمَلٍ لَهُمَا، فَقَالَ(1/95)
عَبْدُ الرّحْمَنِ لِأَخِيهِ: انْزِلْ فَاحْمِلْ أَبَا خَالِدٍ. وَكَانَ عُبَيْدُ اللهِ رَجُلًا أَعْرَجَ لَا رُجْلَةَ بِهِ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: إنّهُ لَا رُجْلَةَ بِي كَمَا تَرَى. قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ:
وَاَللهِ إنّ مِنْهُ بُدّ [ (1) ] ، أَلَا نَحْمِلُ رَجُلًا إنْ مُتْنَا كَفَانَا مَا خَلْفَنَا مِنْ عِيَالِنَا، وَإِنْ عِشْنَا حَمَلَ [ (2) ] كَلّنَا! فَنَزَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَأَخُوهُ وَهُوَ أَعْرَجُ، فَحَمَلَاهُ، فَكَانُوا يَتَعَاقَبُونَ الْجَمَلَ، فَلَمّا دَنَا مِنْ مَكّةَ فَكَانَ بِمَرّ الظّهْرَانِ، قَالَ:
وَاَللهِ، لَقَدْ رَأَيْت هَا هُنَا أَمْرًا مَا كَانَ يَخْرُجُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ لَهُ رَأْيٌ، وَلَكِنّهُ شُؤْمُ ابْنِ الْحَنْظَلِيّةِ! إنّ جَزُورًا نُحِرَتْ هَا هُنَا فَلَمْ يَبْقَ خِبَاءٌ إلّا أَصَابَهُ مِنْ دَمِهَا. فَقَالَا: قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ رَأَيْنَاك وَقَوْمَنَا مَضَيْتُمْ فَمَضَيْنَا مَعَكُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَمْرٌ مَعَكُمْ.
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، قُرِئَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي حَيّةَ، قَالَ:
حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خِفَافٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ الدّرُوعُ فِي قُرَيْشٍ كَثِيرَةً، فَلَمّا انْهَزَمُوا جَعَلُوا يُلْقُونَهَا، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَهُمْ وَيَلْقُطُونَ مَا طَرَحُوا، وَلَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ أَلْتَقِطُ ثَلَاثَةَ أَدْرُعٍ جِئْت بِهَا أَهْلِي، كَانَتْ عِنْدَنَا بَعْدُ، فَزَعَمَ لِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ- وَرَأَى دِرْعًا مِنْهَا عِنْدَنَا فَعَرَفَهَا- فَقَالَ: هَذِهِ دِرْعُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عن عبد الله بن عمرو ابن أُمَيّةَ، قَالَ: سَمِعْت أَبِي عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ انْكَشَفَ يَوْمَئِذٍ مُنْهَزِمًا، وَإِنّهُ لَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الأمر فرّ منه إلّا النساء!
__________
[ (1) ] فى الأصل: «إن لا بد منه» ، وما أثبتناه من ب، ت.
[ (2) ] فى ح: «حملنا» .(1/96)
قَالُوا: وَكَانَ قُبَاثُ [ (1) ] بْنُ أَشْيَمَ الْكِنَانِيّ يَقُولُ: شَهِدْت مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى قِلّةِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ فِي عَيْنِي وَكَثْرَةِ مَا مَعَنَا مِنْ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ [ (2) ] ، فَانْهَزَمْت فِيمَنْ انْهَزَمَ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَإِنّي لَأَقُولُ فِي نَفْسِي: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرّ مِنْهُ إلّا النّسَاءُ! وَصَاحَبَنِي رَجُلٌ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعِي إذْ لَحِقَنَا مَنْ خَلْفَنَا، فَقُلْت لِصَاحِبِي: أَبِك نُهُوضٌ؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ، مَا هُوَ بِي. قَالَ: وَعَقِرَ، وَتَرَفّعْت، [ (3) ] فَلَقَدْ صَبّحْت غَيْقَةَ [ (4) ]- عَنْ يَسَارِ السّقْيَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَرَعِ لَيْلَةٌ، وَالْمَدِينَةُ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ- قَبْلَ الشّمْسِ، كُنْت هَادِيًا بِالطّرِيقِ وَلَمْ أَسْلُكْ الْمَحَاجّ، وَخِفْت مِنْ الطّلَبِ فَتَنَكّبْت عَنْهَا، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي بِغَيْقَةَ فَقَالَ: مَا وَرَاءَك؟ قُلْت: لَا شَيْءَ! قُتِلْنَا وَأُسِرْنَا وَانْهَزَمْنَا، فَهَلْ عِنْدَك مِنْ حُمْلَانٍ؟
فَقَالَ: فَحَمَلَنِي عَلَى بَعِيرٍ، وَزَوّدَنِي زَادًا حَتّى لَقِيت الطّرِيقَ بالجحفة، ثم مضيت حَتّى دَخَلْت مَكّةَ، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَيْسُمَانِ بْنِ حَابِسٍ الْخُزَاعِيّ بِالْغَمِيمِ [ (5) ] ، فَعَرَفْت أَنّهُ يَقْدَمُ يَنْعَى قُرَيْشًا بِمَكّةَ، فَلَوْ أَرَدْت أَنْ أَسْبِقَهُ لَسَبَقْته، فَتَنَكّبْت عَنْهُ حَتّى سَبَقَنِي بِبَعْضِ النّهَارِ، فَقَدِمْت وَقَدْ انْتَهَى إلَى مَكّةَ خَبَرُ قَتْلَاهُمْ. وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْخُزَاعِيّ وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا بِخَيْرٍ! فَمَكَثْت بِمَكّةَ،
فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ قُلْت: لَوْ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَنَظَرْت مَا يَقُولُ مُحَمّدٌ! وَقَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ. فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فسألت عن رسول الله
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قثات» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر.
(الاستيعاب، ص 1303) .
[ (2) ] فى ح: «والرحل» .
[ (3) ] ترفعت: من رفع البعير فى السير، أى بالغ. (الصحاح، ص 1221) .
[ (4) ] فى الأصل: «عيفة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن السمهودي. قال: موضع بساحل البحر قرب الجار، يصب فيها وادي ينبع ورضوى. (وفاء الوفا، ج 2، ص 354) .
[ (5) ] الغميم: موضع بين رابغ والجحفة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 353) .(1/97)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلّ الْمَسْجِدِ مَعَ مَلَإٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
فَأَتَيْته، وَأَنَا لَا أَعْرِفُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَسَلّمْت فَقَالَ: يَا قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ، أَنْتَ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ «مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرّ مِنْهُ إلّا النّسَاءُ» ؟ قُلْت:
أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ، وَأَنّ هَذَا الْأَمْرَ مَا خَرَجَ مِنّي إلَى أَحَدٍ قَطّ، وَمَا تَرَمْرَمْت [ (1) ] بِهِ إلّا شَيْئًا حَدّثْت بِهِ نَفْسِي، فَلَوْلَا أَنّك نَبِيّ مَا أَطْلَعَك اللهُ عَلَيْهِ، هَلُمّ حَتّى أُبَايِعَك. فَعَرَضَ عَلَيّ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْت.
قَالُوا: فَلَمّا تَصَافّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا.
فَلَمّا انْهَزَمُوا كَانَ النّاسُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ قَامَتْ عِنْدَ خَيْمَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَهُ فِي الْخَيْمَةِ- وَفِرْقَةٌ أَغَارَتْ عَلَى النّهْبِ، وَفِرْقَةٌ طَلَبَتْ الْعَدُوّ فَأَسَرُوا وَغَنِمُوا. فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ مِمّنْ أَقَامَ عَلَى خَيْمَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مَنَعَنَا أَنْ نَطْلُبَ الْعَدُوّ زَهَادَةٌ فِي الْأَجْرِ، وَلَا جُبْنٌ عَنْ الْعَدُوّ وَلَكِنّا خِفْنَا أَنْ يُعْرَى مَوْضِعُك فَتَمِيلُ عَلَيْك خَيْلٌ مِنْ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرِجَالٌ مِنْ رِجَالِهِمْ، وَقَدْ أَقَامَ عِنْدَ خَيْمَتِك وُجُوهُ النّاسِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَشِذّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَالنّاسُ يَا رَسُولَ اللهِ كَثِيرٌ، وَمَتَى تُعْطِ هَؤُلَاءِ لَا يَبْقَ لِأَصْحَابِك شَيْءٌ، وَالْأَسْرَى وَالْقَتْلَى كَثِيرٌ وَالْغَنِيمَةُ قَلِيلَةٌ. فَاخْتَلَفُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ (2) ] ، فَرَجَعَ النّاسُ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ. ثُمّ أَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ (3) ] ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ.
__________
[ (1) ] ترمرم: حرك فاه للكلام. (الصحاح، ص 1937) .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 1
[ (3) ] سورة 8 الأنفال 41(1/98)
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ أَبُو حَزْرَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قَالَ: سَلّمْنَا الْأَنْفَالَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَمْ يُخَمّسْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا، وَنَزَلَتْ بَعْدُ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ الْخُمُسَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَوّلِ غَنِيمَةٍ بَعْدَ بَدْرٍ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ، مِثْلَهُ.
وَحَدّثْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: اخْتَلَفَ النّاسُ فِي الْغَنَائِمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ أَنْ تُرَدّ فِي الْمَقْسَمِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إلّا رُدّ. فَظَنّ أَهْلُ الشّجَاعَةِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصّهُمْ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضّعْفِ.
ثُمّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُعْطَى فَارِسُ الْقَوْمِ الّذِي يَحْمِيهِمْ مِثْلَ مَا يُعْطَى الضّعِيفُ؟ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ثَكِلَتْك أُمّك، وَهَلْ تُنْصَرُونَ إلّا بِضُعَفَائِكُمْ؟
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْت مُوسَى بْنَ سَعْدِ بْنِ زيد ابن ثَابِتٍ: كَيْفَ فَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأَسْرَى، وَالْأَسْلَابِ، وَالْأَنْفَالِ؟ فَقَالَ: نَادَى مُنَادِيهِ يَوْمَئِذٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ! فَكَانَ يُعْطِي مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا سَلَبَهُ. وَأَمَرَ بِمَا وُجِدَ فِي الْعَسْكَرِ وَمَا أَخَذُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَنْ فَوَاق [ (1) ] .
فَقُلْت لِعَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ: فَمَنْ أُعْطِيَ سَلَبُ أَبِي جهل؟ قال: اختلف
__________
[ (1) ] فى ح: «عن فراق» . وعن فواق: معناه جعل بعضهم فوق بعض فى القسم ممن رأى تفضيله، أو يعنى سرعة القسم، من فواق الناقة. (شرح على المواهب اللدنية، ج 1، ص 542) .(1/99)
فِيهِ عِنْدَنَا، فَقَالَ قَائِلٌ: أَخَذَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَقَالَ قَائِلٌ:
أَعْطَاهُ ابْنَ مَسْعُودٍ.. فَقُلْت لِعَبْدِ الْحَمِيدِ: مَنْ أَخْبَرَك؟ قَالَ: أَمّا الّذِي قَالَ دَفَعَهُ إلَى مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو فَأَخْبَرَنِيهِ خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَمّا الّذِي قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنّهُ حَدّثَنِيهِ سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَارِظِيّ. قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ دِرْعَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ، وَأَخَذَ حَمْزَةُ سِلَاحَ عُتْبَةَ، وَأَخَذَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ دِرْعَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ حَتّى وَقَعَتْ [ (1) ] إلَى وَرَثَتِهِ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَمّهِ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَدّ الْأَسْرَى وَالْأَسْلَابُ وَمَا أَخَذُوا فِي الْمَغْنَمِ، ثُمّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَسْرَى، وَقَسَمَ الْأَسْلَابَ الّتِي نَفّلَ الرّجُلُ نَفْسَهُ فِي الْمُبَارَزَةِ، وَمَا أَخَذَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ عَنْ فُوَاقٍ.
وَالثّبْتُ عِنْدَنَا مِنْ هَذَا أَنّ كُلّ مَا جَعَلَهُ لَهُمْ فَإِنّهُ قَدْ سَلّمَهُ لَهُمْ، وَمَا لَمْ يَجْعَلْ فَقَدْ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ. فَقَدْ جُمِعَتْ الْغَنَائِمُ وَاسْتَعْمَلَ [عَلَيْهَا] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ عمرو الْمَازِنِيّ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَسَمَهَا بِسَيَرٍ- سَيَرٌ شِعْبٌ بِمَضِيقِ الصّفْرَاءِ. وَقَدْ قِيلَ إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا خَبّابَ بْنَ الْأَرَتّ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُكْنِفٍ الْحَارِثِيّ- مِنْ حَارِثَةِ الْأَنْصَارِ- قَالَ: لَمّا جُمِعَتْ الْغَنَائِمُ كَانَ فِيهَا إبِلٌ وَمَتَاعٌ وَأَنْطَاعٌ وَثِيَابٌ، فَقَسَمَهَا الْوَالِي [ (2) ] فَجَعَلَ يُصِيبُ الرّجُلَ الْبَعِيرُ وَرِثّةٌ [ (3) ] مَعَهُ، وَآخَرَ بَعِيرَانِ، وآخر أنطاع. وكانت السّهمان على ثلاثمائة
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حتى وقعت إلى ورأيته» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] فى ت: «الموالي» .
[ (3) ] الرثة: متاع البيت. (النهاية، ج 2، ص 68) .(1/100)
وَسَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالرّجَالُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالْخَيْلُ فَرَسَانِ لَهُمَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ. وَثَمَانِيَةُ نَفَرٍ لَمْ يَحْضُرُوا وَضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ، فَكُلّهُمْ مُسْتَحِقّ فِي بَدْرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَا اخْتِلَافَ فِيهِمْ عِنْدَنَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، خَلّفَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَتِهِ رُقَيّةَ، وَمَاتَتْ يَوْمَ قُدُومِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَسّسَانِ الْعِيرَ، بَلَغَا الْحَوْرَاءَ- الْحَوْرَاءُ وَرَاءَ ذِي الْمَرْوَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا لَيْلَتَانِ عَلَى السّاحِلِ، وَبَيْنَ ذِي الْمَرْوَةِ وَالْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ أَوْ أَكْثَرُ قَلِيلًا. وَمِنْ الْأَنْصَارِ:
أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، خَلّفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيّ، خَلّفَهُ عَلَى قُبَاءٍ [ (1) ] وَأَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، أَمَرَهُ بِأَمْرِهِ فى بنى عمرو ابن عَوْفٍ، وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ- فَهَؤُلَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِمْ عِنْدَنَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَقَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْ الْقِتَالِ بِبَدْرٍ: لَئِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِدَهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، لَقَدْ كَانَ فِيهَا رَاغِبًا.
وَذَلِكَ أَنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمّا أَخَذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْجِهَادِ، كَانَ يَأْتِي دُورَ الْأَنْصَارِ يَحُضّهُمْ عَلَى الخروج، فنهش فى بعض تلك الأماكن ومنعه ذَلِكَ مِنْ الْخُرُوجِ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. وَضَرَبَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ السّاعِدِيّ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَكَانَ تَجَهّزَ إلَى بَدْرٍ فَمَرِضَ بِالْمَدِينَةِ فَمَاتَ خِلَافَهُ [ (2) ] وَأَوْصَى إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَرَبَ لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَضَرَبَ لِرَجُلٍ آخَرَ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَ بِمُجْتَمَعٍ عَلَيْهِمْ كَاجْتِمَاعِهِمْ على الثمانية.
__________
[ (1) ] قباء: قرية بعوالي المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 357) .
[ (2) ] فى ح: «خلاف رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .(1/101)
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِقَتْلَى بَدْرٍ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا قُتِلُوا بِبَدْرٍ.
قَالَ زَيْدُ بْنُ طَلْحَةَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ قَالَ: أَخَذْنَا سَهْمَ أَبِي الّذِي ضَرَبَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ قَسَمَ الْغَنَائِمَ، وَحَمَلَهُ إلَيْنَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بن رفاعة، عن عبد الله بن مكنف، قَالَ: سَمِعْت السّائِبَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ يُخْبِرُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِمُبَشّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَقَدِمَ بِسَهْمِهِ عَلَيْنَا مَعْنُ بْنُ عَدِيّ.
وَكَانَتْ الْإِبِلُ الّتِي أَصَابُوا يَوْمَئِذٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَخَمْسِينَ بَعِيرًا، وَكَانَ مَعَهُمْ أَدَمٌ كَثِيرٌ حَمَلُوهُ لِلتّجَارَةِ، فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ. وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ فِيمَا أَصَابُوا قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا لَنَا لَا نَرَى الْقَطِيفَةَ؟ مَا نَرَى رَسُولَ اللهِ إلّا أَخَذَهَا. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ (1) ] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ فُلَانًا غَلّ قَطِيفَةً. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّجُلَ، فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ يَا رَسُولَ اللهِ! فقال الدالّ: يا رسول الله، احفروا ها هنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَفَرُوا [ (2) ] هُنَاكَ فَاسْتُخْرِجَتْ الْقَطِيفَةُ.
فَقَالَ قَائِلٌ:
يَا رَسُولَ الله، اسْتَغْفِرْ لِفُلَانٍ! مَرّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعُونَا مِنْ آتِي جُرْمٍ [ (3) ] !
وَكَانَتْ الْخَيْلُ فَرَسَيْنِ، فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ يُقَالُ لَهَا سَبْحَةُ، وَفَرَسٌ لِلزّبَيْرِ، وَيُقَالُ لِمَرْثَدٍ. فَكَانَ الْمِقْدَادُ يَقُولُ:
ضَرَبَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بسهم ولفرسى بسهم. وقائل
__________
[ (1) ] سورة 3 آل عمران 161.
[ (2) ] فى ب، ت: «فحفر هناك» .
[ (3) ] هكذا فى الأصل، وفى ب، ت: «من أبى خر» .(1/102)
يَقُولُ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ يَوْمَئِذٍ لِلْفَرَسِ بِسَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ بِسَهْمٍ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسٍ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: رَجَعَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ بِفَرَسٍ قَدْ غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ لِزَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، صَارَ فِي سَهْمِهِ. وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خُيُولِهِمْ عَشَرَةَ أَفْرَاسٍ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سِلَاحًا وَظَهْرًا. وكان جمل أبى جهل يَوْمَئِذٍ فِيهَا، فَغَنِمَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَضْرِبُ عَلَيْهِ فِي إبِلِهِ وَيَغْزُو عَلَيْهِ حَتّى سَاقَهُ فِي هَدْيِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَسَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ الْجَمَلَ بِمِائَةِ بَعِيرٍ، فَقَالَ:
لَوْلَا أَنَا سَمّيْنَاهُ فِي الْهَدْيِ لَفَعَلْنَا. وَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيّ [ (1) ] مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ مِنْهَا شَيْءٌ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عَبّاسٍ، وَمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَا: تَنَفّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لِمُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غَزَا إلَى بَدْرٍ بِسَيْفٍ وَهَبَهُ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يُقَالُ لَهُ الْعَضْبُ، وَدِرْعِهِ ذَاتِ الْفُضُولِ. فَسَمِعْت ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْت صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا مَعَهُ سَيْفٌ. وَكَانَ أَوّلُ سَيْفٍ تَقَلّدَهُ سَيْفَ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ يُحَدّثُ فِيمَا حَدّثَنِي بِهِ عبد المهيمن بن عبّاس ابن سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، وَكَانَ إذا ذكر أرقم بن أبى الأرقم
__________
[ (1) ] الصفي: ما اختاره الرئيس لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. (القاموس المحيط، ج 4، ص 352) .(1/103)
قَالَ: مَا يَوْمِي [ (1) ] مِنْهُ بِوَاحِدٍ! فَيُقَالُ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِمّا أَخَذُوا مِنْ الْأَنْفَالِ. قَالَ:
فَرَدَدْت سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيّ، وَاسْمُ السّيْفِ الْمَرْزُبَانُ، وَكَانَ لَهُ قِيمَةٌ وَقَدْرٌ، وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ يَرُدّهُ إلَيّ. فَكَلّمَ رَسُولَ اللهِ [فِيهِ] ، وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ، فَأَعْطَاهُ [ (2) ] السّيْفَ. وَخَرَجَ بُنَيّ لِي يَفَعَةٌ، فَاحْتَمَلَتْهُ الْغُولُ فَذَهَبَتْ بِهِ مُتَوَرّكَةً [ (3) ] ظَهْرًا. فَقِيلَ لِأَبِي أُسَيْدٍ:
وَكَانَتْ الْغِيلَانُ ذَلِكَ الزّمَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنّهَا قَدْ هَلَكَتْ، فَلَقِيَ ابْنِي ابْنَ الْأَرْقَمِ، فَبَهَشَ [ (4) ] إلَيْهِ ابْنِي وَبَكَى مُسْتَجِيرًا بِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَتْ الْغُولُ: أَنَا حَاضِنَتُهُ. فَلَهَا عَنْهُ، وَالصّبِيّ يُكَذّبُهَا، فَلَمْ يُعَرّجْ عَلَيْهِ [ (5) ] . وَخَرَجَ مِنْ دَارِي فَرَسٌ لِي فَقَطَعَ رَسَنَهُ، فَلَقِيَهُ بِالْغَابَةِ [ (6) ] فَرَكِبَهُ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ أَفْلَتْ مِنْهُ، فَتَعَذّرَ إلَيّ أَنّهُ أَفْلَتْ مِنّي، فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتّى السّاعَةِ.
حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ [بْنُ مُحَمّدٍ] [ (7) ] ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم سيف العاص ابن منبّه يوم بدر فأعطانيه، ونزلت فىّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... [ (8) ] .
قالوا: وَأَحْذَى [ (9) ] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مماليك حضروا بدرا ولم
__________
[ (1) ] فى ت: «ما بؤسى منه» .
[ (2) ] أى أرقم بن أبى الأرقم.
[ (3) ] فى ت: «فتوركته» .
[ (4) ] بهش إليه: أسرع إليه. (النهاية، ج 1، ص 101) .
[ (5) ] فى ح: «فلم يعرج عليه حتى الساعة» .
[ (6) ] الغابة: على بريد من المدينة طريق الشام كما ذكر ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 58) .
[ (7) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (8) ] سورة 8 الأنفال 1.
[ (9) ] فى الأصل، ح: «فأخذ» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. وأحذاء من الغنيمة: أعطاه.
(الصحاح، ص 2311) .(1/104)
يُسْهِمْ لَهُمْ، ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ: غُلَامٌ لِحَاطِبِ بْنِ أبى بلتعة، وغلام لعبد الرحمن ابن عوف، وَغُلَامٌ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَاسْتُعْمِلَ شُقْرَانُ غُلَامُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَسْرَى، فَأَحْذَوْهُ [ (1) ] مِنْ كُلّ أَسِيرٍ مَا لَوْ كَانَ حُرّا مَا أَصَابَهُ فِي الْمَقْسَمِ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَمَيْت يَوْمَ بَدْرٍ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَقَطَعْت نَسَاهُ [ (2) ] ، فَأَتْبَعْت أَثَرَ الدّمِ حَتّى وَجَدْته قَدْ أَخَذَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ، وَهُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ.
فَقُلْت: أَسِيرِي، رَمَيْته! فَقَالَ مَالِكٌ: أَسِيرِي، أَخَذْته! فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا جميعا. فأفلت سهيل بالرّوحاء من مالك ابن الدّخْشُمِ، فَصَاحَ فِي النّاسِ فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَجَدَهُ فَلْيَقْتُلْهُ!
فَوَجَدَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ.
فَحَدّثَنِي عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَصَابَ أَبُو بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ أَسِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُ مَعْبَدُ بْنُ وَهْبٍ، مِنْ بَنِي سَعْدِ ابن لَيْثٍ. فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَحُضّ عَلَى قَتْلِ الْأَسْرَى، لَا يَرَى أَحَدًا فِي يَدَيْهِ أَسِيرًا إلّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرّقَ النّاسُ. فَلَقِيَهُ مَعْبَدٌ، وَهُوَ أَسِيرٌ مَعَ أَبِي بُرْدَةَ، فَقَالَ: أَتَرَوْنَ يَا عُمَرُ أَنّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمْ؟ كَلّا وَاللّاتِ وَالْعُزّى! فَقَالَ عُمَرُ: عِبَادَ اللهِ الْمُسْلِمِينَ! أَتَكَلّمُ وَأَنْتَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِينَا؟ ثُمّ أَخَذَهُ مِنْ أَبِي بُرْدَةَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ إنّ أَبَا بُرْدَةَ قَتَلَهُ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سعد، قال:
__________
[ (1) ] فى ح: «فأخذوا» .
[ (2) ] النسا: عرق من الورك إلى الكعب. (القاموس المحيط، ج 4، ص 395) .(1/105)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تُخْبِرُوا سَعْدًا بِقَتْلِ أَخِيهِ [ (1) ] ، فَيَقْتُلَ كُلّ أَسِيرٍ فِي أَيْدِيكُمْ.
فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ الْهَيْثَمِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ أَخِيهِ فَيَقْتُلَهُ. وَلَمّا أُتِيَ بِالْأَسْرَى كَرِهَ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، كَأَنّهُ شَقّ عليك الأسرى اين يُؤْسَرُوا. قَالَ:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ أَوّلَ وَقْعَةٍ الْتَقَيْنَا فِيهَا وَالْمُشْرِكُونَ، فَأَحْبَبْت أَنْ يُذِلّهُمْ اللهُ وَأَنْ يُثْخَنَ فِيهِمْ الْقَتْلُ.
وَكَانَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ أَسَرَهُ الْمِقْدَادُ يَوْمَئِذٍ، فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ بَدْرٍ- وَكَانَ بِالْأُثَيْلِ [ (2) ]- عَرَضَ عَلَيْهِ الْأَسْرَى فَنَظَرَ إلَى النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَأَبَدّهُ [ (3) ] الْبَصَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ:
مُحَمّدٌ وَاَللهِ قَاتِلِي، لَقَدْ نَظَرَ إلَيّ بِعَيْنَيْنِ فِيهِمَا الْمَوْتُ! فَقَالَ لرجل إلَى جَنْبِهِ:
وَاَللهِ مَا هَذَا مِنْك إلّا رُعْبٌ. فَقَالَ النّضْرُ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: يَا مُصْعَبُ، أَنْتَ أَقْرَبُ مَنْ هَا هُنَا بِي رَحِمًا. كَلّمْ صَاحِبَك أَنْ يَجْعَلَنِي كَرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي، هُوَ وَاَللهِ قَاتِلِي إنْ لَمْ تَفْعَلْ. قَالَ مُصْعَبٌ: إنّك كُنْت تَقُولُ فِي كِتَابِ اللهِ كَذَا وَكَذَا، [وَتَقُولُ فِي نَبِيّهِ كَذَا وَكَذَا] [ (4) ] . قَالَ: يَا مُصْعَبُ فَلْيَجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَصْحَابِي، إنْ قُتِلُوا قُتِلْت، وَإِنْ مَنّ عَلَيْهِمْ مَنّ عَلَيّ. قَالَ مُصْعَبٌ: إنّك كُنْت تُعَذّبُ أَصْحَابَهُ. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ، لَوْ أَسَرَتْك قُرَيْشٌ مَا قُتِلْتَ أَبَدًا وَأَنَا حَيّ. قَالَ مُصْعَبٌ: وَاَللهِ، انى لاراك صادقا، ولكن
__________
[ (1) ] يعنى عميرا.
[ (2) ] الأثيل: موضع بين بدر والصفراء. (وفاء الوفا، ج 2، ص 242) .
[ (3) ] اى إعطاء بدته من النظر، اى حظه. (النهاية، ج 1، ص 56) .
[ (4) ] الزيادة عن ب، ت، ح.(1/106)
[لَسْت] [ (1) ] مِثْلَك قَطَعَ الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ! فَقَالَ الْمِقْدَادُ: أَسِيرِي!
قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اضْرِبْ عُنُقَهُ، اللهُمّ أَغْنِ الْمِقْدَادَ مِنْ فَضْلِك! فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ صَبْرًا بِالسّيْفِ بِالْأُثَيْلِ.
وَلَمّا أُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْزِعْ ثَنِيّتَيْهِ! يُدْلَعُ [ (2) ] لِسَانُهُ فَلَا يَقُومُ عَلَيْك خَطِيبًا أَبَدًا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُمَثّلُ بِهِ فَيُمَثّلَ اللهُ بِي وَإِنْ كُنْت نَبِيّا، وَلَعَلّهُ يَقُومُ مَقَامًا لَا تَكْرَهُهُ. فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو حِينَ جَاءَهُ وَفَاةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَكّةَ- كَأَنّهُ كَانَ يَسْمَعُهَا. قَالَ عُمَرُ حِينَ بَلَغَهُ كَلَامُ سُهَيْلٍ: أَشْهَدُ إنّك لَرَسُولُ اللهِ! يُرِيدُ حَيْثُ قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَلّهُ يَقُومُ مَقَامًا لَا تَكْرَهُهُ» .
وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يُحَدّثُ يَقُولُ: أَتَى جِبْرِيلُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخَيّرَهُ فِي الْأَسْرَى أَنْ يَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي قَابِلٍ عِدّتُهُمْ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ يُخَيّرُكُمْ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ أَنْ نَضْرِبَ رِقَابَهُمْ، أَوْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدْيَةَ وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي قَابِلٍ عِدّتُهُمْ. قَالُوا: بَلْ نَأْخُذُ الْفِدْيَةَ وَنَسْتَعِينُ بِهَا، وَيُسْتَشْهَدُ مِنّا فَنَدْخُلُ الْجَنّةَ. فَقَبِلَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي قَابِلٍ عِدّتُهُمْ بِأُحُدٍ.
قَالُوا: وَلَمّا حُبِسَ الْأَسْرَى بِبَدْرٍ- اُسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ شُقْرَانُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِمْ- طَمِعُوا [ (3) ] فى الحياة فَقَالُوا لَوْ بَعَثْنَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَإِنّهُ أوصل قريش لارحامنا، ولا نعلم آثَرُ عِنْدَ مُحَمّدٍ مِنْهُ! فَبَعَثُوا إلَى أَبِي بكر،
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ح.
[ (2) ] ادلع: اخرج. (لسان العرب، ج 8، ص 90) .
[ (3) ] فى ب: «طمعا» .(1/107)
فَأَتَاهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إنّ فِينَا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ وَالْإِخْوَانَ وَالْعُمُومَةَ وَبَنِي الْعَمّ، وَأَبْعَدُنَا قريب. كلّم صاحبك فليمنّ علينا أو يُفَادِنَا. فَقَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ اللهُ، لَا آلُوكُمْ خَيْرًا! ثُمّ انْصَرَفَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالُوا: وَابْعَثُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَإِنّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَلَا نَأْمَنُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكُمْ، لَعَلّهُ يَكُفّ عَنْكُمْ. فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ فَجَاءَهُمْ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَنْ آلُوكُمْ شَرّا! ثُمّ انْصَرَفَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَالنّاسَ حَوْلَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُلَيّنُهُ وَيَفْثَؤُهُ [ (1) ] وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قَوْمُك فِيهِمْ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْعُمُومَةُ وَالْإِخْوَانُ وَبَنُو الْعَمّ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْك قَرِيبٌ، فَامْنُنْ عَلَيْهِمْ مَنّ اللهُ عَلَيْك، أَوْ فَادِهِمْ يَسْتَنْقِذْهُمْ اللهُ بِك مِنْ النّارِ فَتَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا أَخَذْت قُوّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَعَلّ اللهَ يُقْبِلُ بِقُلُوبِهِمْ إلَيْك! ثُمّ قَامَ فَتَنَحّى نَاحِيَةً، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمّ جَاءَ عُمَرُ فَجَلَسَ مَجْلِسَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ أَعْدَاءُ اللهِ، كَذّبُوك وَقَاتَلُوك وَأَخْرَجُوك! اضْرِبْ رِقَابَهُمْ، هُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ وَأَئِمّةُ الضّلَالَةِ، يُوَطّئُ اللهُ عَزّ وَجَلّ بِهِمْ الْإِسْلَامَ وَيُذِلّ بِهِمْ أَهْلَ الشّرْكِ! فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَعَادَ أَبُو بَكْرٍ إلَى مَقْعَدِهِ الْأَوّلِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قَوْمُك فِيهِمْ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْعُمُومَةُ وَالْإِخْوَانُ وَبَنُو الْعَمّ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْك قَرِيبٌ، فَامْنُنْ عَلَيْهِمْ أَوْ فَادِهِمْ، هُمْ عِتْرَتُك [ (2) ] وَقَوْمُك، لَا تَكُنْ أَوّلَ مَنْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، يَهْدِيهِمْ اللهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُهْلِكَهُمْ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَتَنَحّى نَاحِيَةً، فَقَامَ عُمَرُ فَجَلَسَ مَجْلِسَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تَنْتَظِرُ بِهِمْ؟ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، يُوَطّئُ اللهُ بِهِمْ الْإِسْلَامَ وَيُذِلّ أَهْلَ الشرك، هم أعداء
__________
[ (1) ] فى ح: «ويغشاه» . وفثأت الرجل إذا سكنت غضبه. (الصحاح، ص 62) .
[ (2) ] فى ح: «هم عشيرتك» . وعترة الرجل: أخص أقاربه. (النهاية، ج 3، ص 65) .(1/108)
اللهِ، كَذّبُوك وَقَاتَلُوك وَأَخْرَجُوك! يَا رَسُولَ اللهِ، اشْفِ صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ قَدَرُوا عَلَى مِثْلِ هَذَا مِنّا مَا أَقَالُونَاهَا أَبَدًا! فَسَكَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فَقَامَ نَاحِيَةً فَجَلَسَ، وَعَادَ أَبُو بَكْرٍ فَكَلّمَهُ مِثْلَ كَلَامِهِ الّذِي كَلّمَهُ بِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ فَتَنَحّى نَاحِيَةً، ثُمّ قَامَ عُمَرُ فَكَلّمَهُ كَلَامَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ.
ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ قُبّتَهُ فَمَكَثَ فِيهَا سَاعَةً، ثُمّ خَرَجَ وَالنّاسُ يَخُوضُونَ فِي شَأْنِهِمْ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ! وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ عُمَرُ! فَلَمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي صَاحِبَيْكُمْ هَذَيْنِ؟ دَعُوهُمَا فَإِنّ لَهُمَا مَثَلًا، مَثَلُ أَبِي بَكْرٍ كَمَثَلِ مِيكَائِيلَ يَنْزِلُ بِرِضَاءِ اللهِ وَعَفْوِهِ عَنْ عِبَادِهِ، وَمَثَلُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ إبْرَاهِيمَ، كَانَ أَلْيَنَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْعَسَلِ، أَوْقَدَ لَهُ قَوْمُهُ النار وطرحود فِيهَا، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ (1) ] . وَقَالَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (2) ] وَمَثَلُهُ مَثَلُ عِيسَى إذْ يَقُولُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ (3) ] . وَمَثَلُ عُمَرَ فِي الْمَلَائِكَةِ كَمَثَلِ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ بِالسّخْطَةِ مِنْ اللهِ وَالنّقْمَةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ، وَمَثَلُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ نُوحٍ، كَانَ أَشَدّ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ إذْ يَقُولُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [ (4) ] فَدَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً أَغْرَقَ اللهُ الْأَرْضَ جَمِيعَهَا، وَمَثَلِ مُوسَى إذْ يَقُولُ:
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [ (5) ] ، وَإِنّ بِكُمْ عَيْلَةً، فَلَا يَفُوتَنّكُمْ رجل من هؤلاء إلّا بفداء أو
__________
[ (1) ] سورة 21 الأنبياء 67
[ (2) ] سورة 14 إبراهيم 36
[ (3) ] سورة 5 المائدة 118
[ (4) ] سورة 71 نوح 26
[ (5) ] سورة 10 يونس 88(1/109)
ضَرْبَةِ عُنُقٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إلّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ [- قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: هَذَا وَهْمٌ، سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، مَا شَهِدَ بَدْرًا، إنّمَا هُوَ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ سَهْلٌ-] [ (1) ] ، فَإِنّي رَأَيْته يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِمَكّةَ.
فَسَكَتَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَمَا مَرّتْ عَلَيّ سَاعَةٌ قَطّ كَانَتْ أَشَدّ عَلَيّ مِنْ تِلْكَ السّاعَةِ، فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَى السّمَاءِ أَتَخَوّفُ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيّ الْحِجَارَةُ، لِتَقَدّمِي بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْكَلَامِ.
فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَقَالَ: إلّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ! قَالَ:
فَمَا مَرّتْ عَلَيّ سَاعَةٌ أَقَرّ لَعَيْنَيّ مِنْهَا، إذْ قَالَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ لَيُشَدّدُ الْقَلْبَ فِيهِ حَتّى يَكُونَ أَشَدّ مِنْ الْحِجَارَةِ، وَإِنّهُ لَيُلَيّنُ الْقَلْبَ فِيهِ حَتّى يَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ الزّبْدِ. وَقَبِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ يَوْمَ بَدْرٍ مَا نَجَا مِنْهُ إلّا عُمَرُ.
كَانَ يَقُولُ:
اُقْتُلْ وَلَا تَأْخُذْ الْفِدَاءَ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: اُقْتُلْ وَلَا تَأْخُذْ الْفِدَاءَ.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَو كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ حَيّا لَوَهَبْت لَهُ هَؤُلَاءِ النّتْنَى.
وَكَانَتْ لِمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ عِنْدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجَارَةٌ [ (2) ] حِينَ رَجَعَ مِنْ الطّائِفِ.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: أَمّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَسْرَى يوم بدر أبا عزّة عمرو ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ الْجُمَحِيّ، وَكَانَ شَاعِرًا، فأعتقه رسول الله صلّى الله
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (2) ] فى ح: «يد أجاره» .(1/110)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لِي خَمْسُ بَنَاتٍ لَيْسَ لَهُنّ شَيْءٌ، فَتَصَدّقْ بِي عَلَيْهِنّ يَا مُحَمّدُ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو عَزّةَ: أُعْطِيك مَوْثِقًا لَا أُقَاتِلُك وَلَا أُكْثِرُ عَلَيْك أَبَدًا. فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ جَاءَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فَقَالَ: اُخْرُجْ مَعَنَا! فَقَالَ: إنّي قَدْ أَعْطَيْت مُحَمّدًا مَوْثِقًا أَلّا أُقَاتِلَهُ وَلَا أُكْثِرَ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَقَدْ مَنّ عَلَيّ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي حَتّى قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ الْفِدَاءَ. فَضَمِنَ صَفْوَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَنَاتَه مَعَ بَنَاتِهِ إنْ قُتِلَ، وَإِنْ عَاشَ أَعْطَاهُ مَالًا كَثِيرًا لَا يَأْكُلُهُ عِيَالُهُ.
فَخَرَجَ أَبُو عَزّةَ يَدْعُو الْعَرَبَ وَيَحْشُرُهَا، ثُمّ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأُسِرَ وَلَمْ يُوسَرْ غَيْرُهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّمَا خَرَجْت [ (1) ] مُكْرَهًا، وَلِي بَنَاتٌ فَامْنُنْ عَلَيّ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ مَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ؟ لَا وَاَللهِ، لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ تَقُولُ «سَخِرْت بِمُحَمّدٍ مَرّتَيْنِ» !
حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن لا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ، يَا عَاصِمُ بْنَ ثَابِتٍ، قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ! فَقَدّمَهُ عَاصِمٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
قَالُوا: وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْقُلُبِ أَنْ تُغَوّرَ، ثم أمر بالقتلى فطرحوا فِيهَا كُلّهُمْ إلّا أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، فَإِنّهُ كَانَ مُسَمّنًا انْتَفَخَ مِنْ يَوْمِهِ، فَلَمّا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ تَزَايَلَ لَحْمُهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُتْرُكُوهُ! وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُتْبَةَ يُجَرّ إلَى الْقَلِيبِ، وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا، فِي وَجْهِهِ أثر الجدرىّ، فتغيّر وجه ابنه
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «أخرجت» بالبناء للمفعول.(1/111)
أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا حُذَيْفَةَ كَأَنّك سَاءَك مَا أَصَابَ أَبَاك. قَالَ: لَا وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَكِنّي رَأَيْت لِأَبِي عَقْلًا وَشَرَفًا، كُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ [ (1) ] إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمّا أَخْطَأَهُ ذَلِكَ وَرَأَيْت مَا أَصَابَهُ غَاظَنِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْقَى فِي الْعَشِيرَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ كَارِهًا لِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ الْحَيْنُ وَمَصَارِعُ السّوءِ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ [خَدّ] [ (2) ] أَبِي جَهْلٍ الْأَسْفَلَ، وَصَرَعَهُ وَشَفَانَا مِنْهُ! فَلَمّا تَوَافَوْا [ (3) ] فِي الْقَلِيبِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُصَرّعُونَ، وَأَبُو بكر يُخْبِرُهُ بِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْجَزَ مَا وَعَدَنِي، فَقَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ.
قَالَ: ثُمّ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ، فَنَادَاهُمْ رَجُلًا رَجُلًا: يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا؟ فَإِنّي قَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا. بِئْسَ الْقَوْمُ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ، كَذّبْتُمُونِي وَصَدّقَنِي النّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النّاسُ! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، تُنَادِي قَوْمًا قَدْ مَاتُوا! قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عَلِمُوا أَنّ مَا وَعَدَهُمْ رَبّهُمْ حَقّ! قَالُوا: وَكَانَ انْهِزَامُ الْقَوْمِ وَتَوَلّيهِمْ حِينَ زَالَتْ الشّمْسُ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ وَأَمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ بِقَبْضِ الْغَنَائِمِ وَحَمْلِهَا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يُعِينُوهُ،
__________
[ (1) ] فى ح: «أن يهديه ذلك» .
[ (2) ] الزيادة عن ب، ت، ح.
[ (3) ] فى الأصل: «تواروا» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/112)
فَصَلّى الْعَصْرَ بِبَدْرٍ ثُمّ رَاحَ فَمَرّ بِالْأُثَيْلِ [- الْأُثَيْلُ وَادٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدْرٍ مِيلَانِ، فَكَأَنّهُ بَاتَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَدْرٍ-] [ (1) ] قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ فَنَزَلَ بِهِ، وَبَاتَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ جِرَاحٌ، وَلَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَجُلٌ اللّيْلَةَ يَحْفَظُنَا؟ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ: اجْلِسْ. ثُمّ عَادَ النّبِيّ [ (2) ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسْ. ثُمّ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمّ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو سَبُعٍ [ (3) ] . ثُمّ مَكَثَ سَاعَةً وَقَالَ:
قُومُوا ثَلَاثَتُكُمْ. فَقَامَ ذَكْوَانُ بْنُ عبد قيس وَحْدَهُ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ صَاحِبَاك؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا الّذِي أَجَبْتُك اللّيْلَةَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَفِظَك اللهُ! فَكَانَ يَحْرُسُ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللّيْلَةَ، حَتّى كَانَ آخِرَ اللّيْلِ، فَارْتَحَلَ. قَالَ [ (4) ] : وَيُقَالُ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بِالْأُثَيْلِ فَلَمّا صَلّى رَكْعَةً تَبَسّمَ، فَلَمّا سَلّمَ سُئِلَ عَنْ تَبَسّمِهِ، فَقَالَ: مَرّ بِي مِيكَائِيلُ وَعَلَى جَنَاحِهِ النّقْعُ، فَتَبَسّمَ إلَيّ وَقَالَ «إنّي كُنْت فِي طَلَبِ القوم» . وأتاه جبرئيل حِينَ فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ، عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى مَعْقُودِ النّاصِيَةِ، قَدْ عَصَمَ ثَنِيّتَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّ رَبّي بَعَثَنِي إلَيْك وَأَمَرَنِي أَلّا أُفَارِقَك حَتّى تَرْضَى، هَلْ رَضِيت؟. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ.
وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسْرَى، حَتّى إذَا كَانَ بِعِرْقِ
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (2) ] فى ح: «ثم أعاد القول الثانية» .
[ (3) ] فى ح: «أبو سبيع» بصيغة التصغير.
[ (4) ] أى قال الواقدي.(1/113)
الظّبْيَةِ أَمَرَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلَانِيّ، فَجَعَلَ عُقْبَةُ يَقُولُ: يَا وَيْلِي، عَلَامَ أُقْتَلُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مِنْ بَيْنِ مَنْ هاهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: لِعَدَاوَتِك لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَنّك أَفْضَلُ، فَاجْعَلْنِي كَرَجُلٍ مِنْ قَوْمِي، إنْ قَتَلْتهمْ قَتَلْتنِي وَإِنْ مَنَنْت عَلَيْهِمْ مَنَنْت عَلَيّ، وَإِنْ أَخَذْت مِنْهُمْ الْفِدَاءَ كُنْت كَأَحَدِهِمْ، يَا مُحَمّدُ، مَنْ لِلصّبْيَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النّارُ، قَدّمْهُ يَا عَاصِمُ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ! فَقَدّمَهُ عَاصِمٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ الرّجُلُ كُنْت وَاَللهِ مَا عَلِمْت، كَافِرًا بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ، مُؤْذِيًا لِنَبِيّهِ، فَأَحْمَدُ اللهَ الّذِي هُوَ قَتَلَك وَأَقَرّ عَيْنِي مِنْك! وَلَمّا نَزَلُوا سَيّرَ- شِعْبٌ بِالصّفْرَاءِ- قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ مِنْ الْأُثَيْلِ، فَجَاءُوا يَوْمَ الْأَحَدِ شَدّ الضّحَى [ (1) ] ، وَفَارَقَ عَبْدُ اللهِ زَيْدًا بِالْعَقِيقِ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللهِ يُنَادِي عَلَى رَاحِلَتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَبْشِرُوا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِهِمْ! قُتِلَ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَقُتِلَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْأَنْيَابِ فِي أَسْرَى كَثِيرَةٍ. قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ: فَقُمْت إلَيْهِ فَنَحَوْته فَقُلْت: أَحَقّا مَا تَقُولُ، يَا ابْنَ رَوَاحَةَ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ، وَغَدًا يَقْدَمُ رَسُولُ اللهِ إنْ شَاءَ اللهُ وَمَعَهُ الْأَسْرَى مُقَرّنِينَ [ (2) ] . ثُمّ اتّبَعَ دور الأنصار
__________
[ (1) ] شد الضحى: ارتفاعه. (أساس البلاغة، ص 483) .
[ (2) ] فى ت: «مقرونين» .(1/114)
بِالْعَالِيَةِ- الْعَالِيَةُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ، مَنَازِلُهُمْ بِهَا- فَبَشّرَهُمْ دَارًا دَارًا، وَالصّبْيَانُ يَشْتَدّونَ مَعَهُ وَيَقُولُونَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ! حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ.
وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءِ يُبَشّرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمّا جَاءَ الْمُصَلّى صَاحَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْأَنْيَابِ فِي أَسْرَى كَثِيرَةٍ.
فَجَعَلَ النّاسُ لَا يُصَدّقُونَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إلّا فَلّا! [ (1) ] حَتّى غَاظَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ وَخَافُوا. وَقَدِمَ زَيْدٌ حِينَ سَوّوْا عَلَى رُقَيّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّرَابَ بِالْبَقِيعِ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: قُتِلَ صَاحِبُكُمْ وَمَنْ مَعَهُ.
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِأَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ: قَدْ تَفَرّقَ أَصْحَابُكُمْ تَفَرّقًا لَا يَجْتَمِعُونَ مِنْهُ أَبَدًا، وَقَدْ قُتِلَ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ وَقُتِلَ مُحَمّدٌ، هَذِهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وَهَذَا زَيْدٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنْ الرّعْبِ، وَجَاءَ فَلّا. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يُكَذّبُ اللهُ قَوْلَك! وَقَالَتْ يَهُودُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إلّا فَلّا! قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَجِئْت حَتّى خَلَوْت بِأَبِي، فَقُلْت: يَا أَبَهْ، أَحَقّ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ حَقّا يَا بُنَيّ! فَقَوِيَتْ فِي نَفْسِي، فَرَجَعْت إلَى ذَلِكَ الْمُنَافِقِ فَقُلْت: أَنْتَ الْمُرْجِفُ بِرَسُولِ اللهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، لَيُقَدّمَنّكَ رَسُولُ اللهِ إذَا قَدِمَ فَلَيَضْرِبَنّ عُنُقَك! فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، إنّمَا هُوَ شَيْءٌ سَمِعْت النّاسَ يَقُولُونَهُ.
فَقَدِمَ بِالْأَسْرَى وَعَلَيْهِمْ شُقْرَانُ، وَهُمْ تِسْعَةٌ وأربعون رجلا الذين أحصوا
__________
[ (1) ] الفل: القوم المنهزمون، ويقع على الواحد والاثنين والجميع. (النهاية، ج 3، ص 215) .(1/115)
- وَهُمْ سَبْعُونَ فِي الْأَصْلِ، مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ، لَا شَكّ فِيهِ. وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ شُقْرَانُ غُلَامُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَلَمْ يُعْتِقْهُ يَوْمَئِذٍ، وَلَقِيَهُ النّاسُ يُهَنّئُونَهُ بِالرّوْحَاءِ بِفَتْحِ اللهِ. فَلَقِيَهُ وُجُوهُ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: مَا الّذِي تُهَنّئُونَنَا به؟ فو الله مَا قَتَلْنَا إلّا عَجَائِزَ صُلْعًا.
فَتَبَسّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ، لَوْ رَأَيْتهمْ لَهِبْتهمْ، وَلَوْ أَمَرُوك لَأَطَعْتهمْ، وَلَوْ رَأَيْت فِعَالَك مَعَ فِعَالِهِمْ لَاحْتَقَرْته، وَبِئْسَ الْقَوْمُ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ لِنَبِيّهِمْ فَقَالَ سَلَمَةُ: أَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، إنّك يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ تَزَلْ عَنّي مُعْرِضًا مُنْذُ كُنّا بِالرّوْحَاءِ فِي بَدْأَتِنَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمّا مَا قُلْت لِلْأَعْرَابِيّ «وَقَعْت عَلَى نَاقَتِك فَهِيَ حُبْلَى مِنْك» ، فَفَحّشْت وَقُلْت مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ! وَأَمّا مَا قُلْت فِي الْقَوْمِ، فَإِنّك عَمَدْت إلَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ تُزَهّدُهَا.
فَاعْتَذَرَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْذِرَتَهُ، فَكَانَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: وَلَقِيَهُ أَبُو هِنْدٍ الْبَيَاضِيّ مَوْلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَمَعَهُ حَمِيتٌ [ (1) ] مَمْلُوءٌ حَيْسًا [ (2) ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّمَا أَبُو هِنْدٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَنْكِحُوهُ! وَأَنْكِحُوا إلَيْه.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: وَلَقِيَهُ أسيد ابن حُضَيْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي ظَفّرَك وَأَقَرّ عَيْنَك! وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ تَخَلّفِي عَنْ بَدْرٍ وَأَنَا أظنّ أنّك تلقى عدوّا، ولكنى
__________
[ (1) ] قال ابن هشام: الحميت: الزق. (السيرة النبوية، ج 2، ص 298) .
[ (2) ] الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديدا ثم يندر منه نواه. (القاموس المحيط، ج 2، ص 209) .(1/116)
ظَنَنْت أَنّهَا الْعِيرُ، وَلَوْ ظَنَنْت أَنّهُ عَدُوّ مَا تَخَلّفْت. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، قَالَ: لَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِتُرْبَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى سَلَامَتِك وَمَا ظَفّرَك! كُنْت يَا رَسُولَ اللهِ لَيَالِيَ خَرَجْت مَوْرُودًا [ (1) ] ، فَلَمْ يُفَارِقْنِي حَتّى كَانَ بِالْأَمْسِ فَأَقْبَلْت إلَيْك. فَقَالَ: آجَرَك الله!
وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لَمّا كَانَ بِشَنُوكَةَ [ (2) ] [- شَنُوكَةُ فِيمَا بَيْنَ السّقْيَا وَمَلَل-] [ (3) ] كَانَ مَعَ مَالِكِ بْنِ الدّخْشُمِ [الّذِي أَسَرَهُ] [ (4) ] فَقَالَ: خَلّ سَبِيلِي لِلْغَائِطِ. فَقَامَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: إنّي أَحْتَشِمُ فَاسْتَأْخِرْ عَنّي! فَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ، وَمَضَى سُهَيْلٌ عَلَى وَجْهِهِ، انْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ الْقِرَانِ [ (5) ] وَمَضَى، فَلَمّا أَبْطَأَ سُهَيْلٌ عَلَى مَالِكٍ أَقْبَلَ فَصَاحَ فِي النّاسِ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ. وَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ، فَقَالَ: مَنْ وَجَدَهُ فَلْيَقْتُلْهُ! فَوَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَفَنَ نَفْسَهُ بَيْن [ (6) ] سَمُرَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُبِطَتْ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، ثُمّ قَرَنَهُ إلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَرْكَبْ خُطْوَةً حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ.
فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عن جابر بن
__________
[ (1) ] قال الجوهري: الورد يوم الحمى، إذا أخذت صاحبها لوقت، تقول: وردته الحمى فهو مورود.
(الصحاح: ص 546) .
[ (2) ] فى الأصل: «بسوكة» ، وفى ح: «بتنوكة» . وما أثبتناه عن ب، والبكري. (معجم ما استعجم، ص 815) .
[ (3) ] الزيادة عن ب، ت، ح.
[ (4) ] الزيادة عن ح.
[ (5) ] القران: الحبل. (النهاية، ج 3، ص 248) .
[ (6) ] فى ب، ت: «فَوَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه بين سمرات» ، وفى ح: «أخفى نفسه بين شجرات» . والسمر، بضم الميم، اسم شجر. (القاموس المحيط، ج 2، ص 51) .(1/117)
عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَرَسُولُ اللهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُهَيْلٌ مَجْنُوبٌ، وَيَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، فَلَمّا نَظَرَ أُسَامَةُ إلَى سُهَيْلٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو يَزِيدَ! قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الّذِي كَانَ يُطْعِمُ بِمَكّةَ الْخُبْزَ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى بن عبد الله، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قال:
قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدِمَ بِالْأَسْرَى حِينَ قَدِمَ بِهِمْ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ فِي مَنَاحِتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ وَمُعَوّذٍ [ (1) ] ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ. قَالَتْ سَوْدَةُ: فَأَتَيْنَا فَقِيلَ لَنَا: هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى قَدْ أُتِيَ بِهِمْ. فَخَرَجْت إلَى بَيْتِي وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إلَى عنقه فى ناحية البيت، فو الله إنْ مَلَكْت [ (2) ] حِينَ رَأَيْته مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت: أَبَا يَزِيدَ، أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ! ألا متّم كراما؟ فو الله ما راعني إلّا قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيْتِ:
يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ؟
فَقُلْت: يَا نَبِيّ اللهِ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا مَا مَلَكْت نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت مَا قُلْت.
فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ قَالَ: دَخَلَ خَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي مَنْزِلِ أُمّ سَلَمَةَ، وَأُمّ سَلَمَةَ فِي مَنَاحَةِ آلِ عَفْرَاءَ، فَقِيلَ لَهَا: أُتِيَ بِالْأَسْرَى.
فَخَرَجَتْ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تُكَلّمْهُمْ حَتّى رَجَعَتْ، فَتَجِدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله
__________
[ (1) ] وهما ابنا عفراء، قتلا يوم بدر.
[ (2) ] فى ح: «ما ملكت نفسي» .(1/118)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بَنِي عَمّي طَلَبُوا أَنْ يُدْخَلَ بِهِمْ عَلَيّ فَأُضِيفَهُمْ، وَأَدْهُنَ رُءُوسَهُمْ، وَأَلُمّ مِنْ شَعَثِهِمْ، وَلَمْ أُحِبّ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ حَتّى أَسْتَأْمِرَك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَسْت أَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ! فَافْعَلِي مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَكِ.
فَحَدّثَنِي محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسْتَوْصُوا بِالْأَسْرَى خَيْرًا.
فَقَالَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ:
كُنْت مَعَ رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ جَزَاهُمْ اللهُ خَيْرًا، كُنّا إذَا تَعَشّيْنَا أَوْ تَغَدّيْنَا آثَرُونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ، وَالْخُبْزُ مَعَهُمْ قَلِيلٌ وَالتّمْرُ زَادُهُمْ، حَتّى إنّ الرّجُلَ لَتَقَعُ فِي يَدِهِ الْكِسْرَةُ فَيَدْفَعُهَا إلَيّ. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَزِيدُ: وَكَانُوا يَحْمِلُونَنَا وَيَمْشُونَ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: قَدِمَ بِالْأَسْرَى قَبْلَ مَقْدَمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمٍ. وَيُقَالُ قَدِمُوا فِي آخِرِ النّهَارِ مِنْ الْيَوْمِ الّذِي قَدِمَ فِيهِ.
قَالُوا: وَلَمّا تَوَجّهَ الْمُشْرِكُونَ إلَى بَدْرٍ كَانَ فِتْيَانٌ مِمّنْ تَخَلّفَ عَنْهُمْ سُمّارًا، يَسْمُرُونَ بِذِي طُوًى فِي الْقَمَرِ حَتّى يَذْهَبَ اللّيْلُ، يَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ وَيَتَحَدّثُونَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ لَيْلَةً إلَى أَنْ سَمِعُوا [ (1) ] صَوْتًا قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَلَا يَرَوْنَ الْقَائِلَ، رَافِعًا صَوْتَهُ يَتَغَنّى:
أَزَارَ [ (2) ] الْحَنِيفِيّونَ بَدْرًا مُصِيبَةً ... سَيَنْقَضّ مِنْهَا رُكْنُ كِسْرَى وَقَيْصَرَا
أَرَنّتْ لَهَا صُمّ [ (3) ] الْجِبَالِ وَأَفْزَعَتْ ... قبائل ما بين الوتير [ (4) ] وخيبرا
__________
[ (1) ] هكذا فى كل النسخ، وقد يكون «إذ سمعوا» أفصح.
[ (2) ] فى ح: «أزاد» .
[ (3) ] صم الجبال: صخر الجبال. (القاموس المحيط، ج 4، ص 140) .
[ (4) ] الوتير: موضع فى ديار خزاعة. (معجم ما استعجم، ص 836) .(1/119)
أَجَازَتْ جِبَالَ الْأَخْشَبَيْنِ [ (1) ] وَجُرّدَتْ ... حَرَائِرُ يَضْرِبْنَ التّرَائِبَ [ (2) ] حسّرا
أنشدنيه عبد اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ. فَاسْتَمَعُوا لِلصّوْتِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا، فَخَرَجُوا فَزِعِينَ حَتّى جَازُوا الْحِجْرَ [ (3) ] فَوَجَدُوا مَشْيَخَةً مِنْهُمْ جِلّةً سُمّارًا، فَأَخْبَرُوهُمْ الْخَبَرَ فَقَالُوا لَهُمْ: إنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقّا، إنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يُسَمّوْنَ الْحَنِيفِيّةَ- وَمَا يَعْرِفُونَ اسْمَ الْحَنِيفِيّةِ يَوْمَئِذٍ. فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْفِتْيَانِ الّذِينَ كَانُوا بِذِي طُوًى إلّا وُعِكَ، فَمَا مَكَثُوا إلّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتّى قَدِمَ الْحَيْسُمَانُ بن حابس الخزاعىّ بخبر أَهْلِ بَدْر وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَهُوَ يُخْبِرُهُمْ قَتْلَ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَابْنَيْ الْحَجّاجِ، وَأَبِي الْبَخْتَرِيّ، وَزَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ.
قَالَ: وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ جَالِسٌ [ (4) ] يَقُول: لَا يَعْقِلُ هَذَا شَيْئًا مِمّا يَتَكَلّمُ بِهِ، سَلُوهُ عَنّي [ (5) ] ! فَقَالُوا: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، لَك بِهِ عِلْمٌ؟
قَالَ: نَعَمْ، ذَاكَ فِي الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْت أَبَاهُ وَأَخَاهُ مَقْتُولَيْنِ [ (6) ] . قَالَ:
وَرَأَيْت سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أُسِرَ، وَالنّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ. قَالُوا: وَمَا يُدْرِيك؟
قَالَ: رَأَيْتهمَا مَقْرُونَيْنِ فِي الْحِبَالِ.
قَالُوا: بَلَغَ النّجَاشِيّ مَقْتَلُ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ وَمَا ظَفّرَ اللهُ بِهِ نَبِيّهُ، فَخَرَجَ فِي ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، ثُمّ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ: أَيّكُمْ يَعْرِفُ بَدْرًا؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ النّجَاشِيّ: أَنَا عَارِفٌ بها، قد
__________
[ (1) ] الأخشبان: جبلا مكّة، أبو قبيس والأحمر. (القاموس المحيط، ج 1، ص 61) .
[ (2) ] الترائب: عظام الصدر. (الصحاح، ص 91) .
[ (3) ] الحجر: حجر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالبيت جانب الشمال. (الصحاح، ص 623) .
[ (4) ] فى الطبري عن الواقدي: «قاعد فى الحجر» . (تاريخ الرسل والملوك، ص 1338) .
[ (5) ] فى الطبري عن الواقدي: «والله إن يعقل هذا فسلوه عنى» . (تاريخ الرسل والملوك، ص 1338) .
[ (6) ] فى الطبري عن الواقدي: «حين قتلا» . (تاريخ الرسل والملوك، ص 1338) .(1/120)
رَعَيْت الْغَنَمَ فِي جَوَانِبِهَا، هِيَ مِنْ السّاحِلِ عَلَى بَعْضِ نَهَارٍ، وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ أَتَثَبّتَ مِنْكُمْ، قَدْ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِبَدْرٍ، فَأَحْمَدُ [ (1) ] اللهَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ بَطَارِقَتُهُ: أَصْلَحَ اللهُ الْمَلِكَ! إنّ هَذَا لَشَيْءٌ لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ، تَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ وَتَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ! فَقَالَ: إنّي مِنْ قَوْمٍ إذَا أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ نِعْمَةً ازْدَادُوا بِهَا تَوَاضُعًا. وَيُقَالُ إنّهُ قَالَ: إنّ عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ إذَا حَدَثَتْ لَهُ نِعْمَةٌ ازْدَادَ بِهَا تَوَاضُعًا.
وَلَمّا رَجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى مَكّةَ قَامَ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تَبْكُوا عَلَى قَتْلَاكُمْ، وَلَا تَنُحْ عَلَيْهِمْ نَائِحَةٌ، وَلَا يَبْكِهِمْ شَاعِرٌ، وَأَظْهِرُوا الْجَلَدَ وَالْعَزَاءَ، فَإِنّكُمْ إذَا نُحْتُمْ عَلَيْهِمْ وَبَكَيْتُمُوهُمْ بِالشّعْرِ أَذْهَبَ ذَلِكَ غَيْظَكُمْ، فَأَكَلَكُمْ ذَلِكَ عَنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ أَنّهُ إنْ بَلَغَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ شَمِتُوا بِكُمْ، فَيَكُونُ أَعْظَمُ الْمُصِيبَتَيْنِ شَمَاتَتَهُمْ، وَلَعَلّكُمْ تُدْرِكُونَ ثَأْرَكُمْ، وَالدّهْنُ وَالنّسَاءُ عَلَيّ حَرَامٌ حَتّى أَغْزُوَ مُحَمّدًا. فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ شَهْرًا لَا يَبْكِيهِمْ شَاعِرٌ وَلَا تَنُوحُ عَلَيْهِمْ نَائِحَةٌ.
فَلَمّا قَدِمَ بِالْأَسْرَى أَذَلّ اللهُ بِذَلِكَ رِقَابَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَلَمْ يَبْقَ بالمدينة يَهُودِيّ وَلَا مُنَافِقٌ إلّا خَضَدَ [ (2) ] عُنُقَهُ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلٍ: لَيْتَ أَنّا كُنّا خَرَجْنَا مَعَهُ حَتّى نُصِيبَ مَعَهُ غَنِيمَةً! وَفَرّقَ اللهُ فِي صُبْحِهَا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَقَالَتْ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهَا: هُوَ الّذِي نَجِدُهُ مَنْعُوتًا، وَاَللهِ لَا تُرْفَعُ لَهُ رَايَةٌ بَعْدَ الْيَوْمِ إلّا ظَهَرَتْ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ:
بَطْنُ الْأَرْضِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ النّاسِ وَسَادَاتُهُمْ، وَمُلُوكُ الْعَرَبِ، وَأَهْلُ الْحَرَمِ وَالْأَمْنِ، قَدْ أُصِيبُوا. فَخَرَجَ إلَى مَكّةَ فنزل على أبى
__________
[ (1) ] فى ح: «فاحمدوا» .
[ (2) ] كذا فى الأصل وب، وفى ت: «خضع» . وخضد عنقه: ثناه. (القاموس المحيط، ج 1، ص 291) .(1/121)
وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ هِجَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَرِثَاءَ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَرْسَلَ أَبْيَاتَهُ هَذِهِ، يَقُولُ:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ [ (1) ]
قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِ ... لَا تَبْعَدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ
ويقول أقوام أذل بسخطهم [ (2) ] ... إن ابن أشرف ظَلّ كَعْبًا يَجْزَعُ
صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتّلُوا ... ظَلّتْ تَسِيخُ بِأَهْلِهَا [ (3) ] وَتُصَدّعُ
نُبّئْت أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِهِمْ ... فِي النّاسِ يَبْنِي الصّالِحَاتِ وَيَجْمَعُ
لِيَزُورَ يَثْرِبَ بِالْجُمُوعِ وَإِنّمَا ... يَسْعَى عَلَى الْحَسَبِ الْقَدِيمُ الْأَرْوَعُ [ (4) ]
قَالَ الْوَاقِدِيّ: أَمْلَاهَا عَلَيّ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ، قَالُوا: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ فَأَخْبَرَهُ بِمَنْزِلِهِ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ، فَجَعَلَ يَهْجُو مَنْ نَزَلَ عِنْدَهُ حَتّى رَجَعَ كَعْبٌ إلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمّا أَرْسَلَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَخَذَهَا الناس معه وَأَظْهَرُوا الْمَرَاثِيَ وَجَعَلَ مَنْ لَقِيَ مِنْ الصّبْيَانِ وَالْجَوَارِي يُنْشِدُونَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بِمَكّةَ، ثُمّ إنّهُمْ رَثَوْا بِهَا، فَنَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا شَهْرًا، وَلَمْ تَبْقَ دَارٌ بِمَكّةَ إلّا فِيهَا نَوْحٌ، وَجَزّ النّسَاءُ شَعْرَ الرّءُوسِ، وَكَانَ يُؤْتَى بِرَاحِلَةِ الرّجُلِ مِنْهُمْ أَوْ بِفَرَسِهِ فَتُوقَفُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَنُوحُونَ حَوْلَهَا، وَخَرَجْنَ إلَى السّكَكِ فَسَتَرْنَ السّتُورَ [ (5) ] فِي الْأَزِقّةِ وَقَطَعْنَ الطّرُقَ فَخَرَجْنَ يَنُحْنَ، وَصَدّقُوا رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَجُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ.
وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَقَدْ كَمِدَ على من قتل من
__________
[ (1) ] فى ح: «يستهل ويدمع» .
[ (2) ] فى ح: «بعزهم» .
[ (3) ] ساخت الأرض بهم: انخسفت. (القاموس المحيط، ج 1، ص 262) .
[ (4) ] الأروع: الذي يروع لحسنه وجماله. (شرح أبى ذر، ص 212) .
[ (5) ] يريد أن النساء يضعن الستور على الطرق ويقطعنها ليجعلن مكانا للنوح.(1/122)
وَلَدِهِ، كَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَكَانَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ: احْمِلْ مَعِي خَمْرًا وَاسْلُكْ بِي الْفَجّ الّذِي سَلَكَ أَبُو حُكَيْمَةَ. فَيَأْتِي بِهِ عَلَى الطّرِيقِ عِنْدَ فَجّ، فَيَجْلِسُ فَيَسْقِيهِ حَتّى يَنْتَشِيَ، ثُمّ يَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ وَإِخْوَتِهِ، ثُمّ يَحْثِي التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُول لِغُلَامِهِ:
وَيْحَك! اُكْتُمْ عَلَيّ أَنْ تَعْلَمَ بِي قُرَيْشٌ، فَإِنّي أَرَاهَا لَمْ تُجْمِعْ الْبُكَاءَ عَلَى قَتْلَاهَا.
فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ رَجَعُوا إلَى مَكّةَ وَقُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ: لَا تَبْكُوا عَلَى قَتْلَاكُمْ فَيَبْلُغَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ، وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ فَيَأْرَبَ [ (1) ] بِكُمْ الْقَوْمُ، أَلَا فَأَمْسِكُوا عَنْ الْبُكَاءِ! قَالَتْ: وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ- زَمْعَةُ، وَعُقَيْلٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ- فَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى قَتْلَاهُ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟ لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ- يَعْنِي زَمْعَةَ- فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ! فَذَهَبَ الْغُلَامُ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرِهَا قَدْ أَضَلّتْهُ. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:
تُبَكّي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَصَاغَرَتْ الْخُدُودُ [ (2) ]
فَبَكّي إنْ بَكَيْت عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
__________
[ (1) ] فيأرب: فيشتد. (شرح أبى ذر، ص 163) . أى يشتدون فى طلب الفداء.
[ (2) ] كذا فى الأصل، وب، ت. وفى البلاذري عن الواقدي: «تصاغرت الجدود» . (أنساب الأشراف، ج 1، ص 149) . وفى ابن إسحاق: «تقاصرت الجدود» . والجدود: جمع جد [بفتح الجيم] وهو هنا السعد والبخت. (شرح أبى ذر، ص 163) .(1/123)
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي [ (1) ] جَمِيعًا ... وَمَا لِأَبِي حُكَيْمَةَ مِنْ نَدِيدِ [ (2) ]
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ ... وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لَمْ يَسُودُوا
أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزّنَادِ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يُنْشِدُ: تَصَاغَرَتْ الْخُدُودُ.
وَلَا يُنْكِرُ الْجُدُودُ.
قَالُوا: وَمَشَى نِسَاءُ قُرَيْشٍ إلَى هِنْدِ بنت عتبة فقأن: أَلَا تَبْكِينَ عَلَى أَبِيك وَأَخِيك وَعَمّك وَأَهْلِ بَيْتِك؟ فَقَالَتْ: حَلْقَى [ (3) ] ، أَنَا أَبْكِيهِمْ فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِنَا، وَنِسَاءُ بَنِي الْخَزْرَجِ! لَا وَاَللهِ، حَتّى أَثْأَرَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَالدّهْنُ عَلَيّ حَرَامٌ إنْ دَخَلَ رَأْسِي حَتّى نَغْزُوَ مُحَمّدًا. وَاَللهِ، لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الْحُزْنَ يُذْهِبُ مِنْ قَلْبِي بَكَيْت، وَلَكِنْ لَا يُذْهِبُهُ إلّا أَنْ أَرَى ثَأْرِي بِعَيْنِي مِنْ قَتَلَةِ الْأَحِبّةِ. فَمَكَثَتْ عَلَى حَالِهَا لَا تَقْرَبُ الدّهْنَ، وَمَا قَرِبَتْ فِرَاشَ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ يَوْمِ حَلَفَتْ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ.
وَبَلَغَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، وَهُوَ فِي أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَ شَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا، أَنّ قُرَيْشًا بَكَتْ عَلَى قَتْلَاهَا، فَقَدِمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ خَفّتْ أَحْلَامُكُمْ، وَسَفِهَ رَأْيُكُمْ، وَأَطَعْتُمْ نِسَاءَكُمْ، وَمِثْلُ قَتْلَاكُمْ يُبْكَى عَلَيْهِمْ؟
هُمْ أَجَلّ مِنْ الْبُكَاءِ، مَعَ أَنّ ذَلِكَ يُذْهِبُ غَيْظَكُمْ عَنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ الْغَيْظُ عَنْكُمْ إلّا أَنْ تُدْرِكُوا ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ. فَسَمِعَ أبو سفيان بن حرب كَلَامَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ، غُلِبْت وَاَللهِ! مَا نَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى قَتِيلٍ لَهَا إلَى الْيَوْمِ، وَلَا بَكَاهُنّ شاعر إلّا
__________
[ (1) ] لا تسمى: أراد «لا تسأمى» فنقل حركة الهمزة إلى السين ثم حذف الهمزة (شرح أبى ذر، ص 163) .
[ (2) ] النديد: الشبيه والمثل. (شرح أبى ذر، ص 163) .
[ (3) ] حلقى: أى حلقها الله، يعنى أصابها وجع فى حلقها خاصة. (النهاية، ج 1، ص 251) .(1/124)
نَهَيْته، حَتّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَإِنّي لَأَنّا الْمَوْتُورُ الثّائِرُ، قُتِلَ ابْنِي حَنْظَلَةُ وَسَادَةُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، أَصْبَحَ هَذَا الْوَادِي مُقْشَعِرّا لِفَقْدِهِمْ.
فَحَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ الْأَنْصَارِيّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ إلَى مَكّةَ وَقُتِلَ صَنَادِيدُهُمْ وأشرافهم، أقبل عمير ابن وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ الْجُمَحِيّ حَتّى جَلَسَ إلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: قَبّحَ اللهُ الْعَيْشَ بَعْدَ قَتْلَى بَدْرٍ. قَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ: أَجَلْ وَاَللهِ، مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ، وَلَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ لَا أَجِدُ لَهُ قَضَاءً، وَعِيَالٌ لَا أَدَعُ لَهُمْ شَيْئًا، لَرَحَلْت إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ إنْ مَلَأْت عَيْنَيّ مِنْهُ. فَإِنّهُ بَلَغَنِي أَنّهُ يَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، فَإِنّ لِي عِنْدَهُمْ عِلّةً، أَقُولُ: قَدِمْت عَلَى ابْنِي هَذَا الْأَسِيرِ. فَفَرِحَ صَفْوَانُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ وَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيّةَ، وَهَلْ نَرَاك فَاعِلًا؟ قَالَ: إي وَرَبّ هَذِهِ الْبَنِيّةِ! قَالَ صَفْوَانُ: فَعَلَيّ دَيْنُك، وَعِيَالُك أُسْوَةُ عِيَالِي، فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنّهُ لَيْسَ بِمَكّةَ رَجُلٌ أَشَدّ تَوَسّعًا عَلَى عِيَالِهِ مِنّي.
فَقَالَ عُمَيْرٌ: قَدْ عَرَفْت بِذَلِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ. قَالَ صَفْوَانُ: فَإِنّ عِيَالَك مَعَ عِيَالِي، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجَزُ عَنْهُمْ، وَدَيْنُك عَلَيّ. فَحَمَلَهُ صَفْوَانُ عَلَى بَعِيرٍ وَجَهّزَهُ، وَأَجْرَى عَلَى عِيَالِهِ مِثْلَ مَا يُجْرِي عَلَى عِيَالِ نَفْسِهِ. وَأَمَرَ عُمَيْرٌ بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ [ (1) ] وَسُمّ، ثُمّ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ لِصَفْوَانَ: اُكْتُمْ عَلَيّ أَيّامًا حَتّى أَقْدَمَهَا. وَخَرَجَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ صَفْوَانُ، وَقَدِمَ عُمَيْرٌ فَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخَذَ السّيْفَ فَتَقَلّدَهُ. ثُمّ عَمَدَ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَحَدّثُونَ وَيَذْكُرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ فى بدر، فرأى عميرا وعليه السيف،
__________
[ (1) ] شحذ السيف: أحده. (القاموس المحيط، ج 1، ص 354) .(1/125)
فَفَزِعَ عُمَرُ مِنْهُ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمْ الْكَلْبَ! هَذَا عَدُوّ اللهِ الّذِي حَرّشَ بَيْنَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَحَزَرْنَا لِلْقَوْمِ، وَصَعّدَ فِينَا وَصَوّبَ، يُخْبِرُ قُرَيْشًا أَنّهُ لَا عَدَدَ لَنَا وَلَا كَمِينَ. فَقَامُوا إلَيْهِ فَأَخَذُوهُ،
فَانْطَلَقَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَمَعَهُ السّلَاحُ، وَهُوَ الْغَادِرُ الْخَبِيثُ الّذِي لَا نَأْمَنُهُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدْخِلْهُ علىّ! فخرج عمر فأخذ بخمالة سَيْفِهِ فَقَبَضَ بِيَدِهِ عَلَيْهَا، وَأَخَذَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى قَائِمَةَ السّيْفِ، ثُمّ أَدْخَلَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَا عُمَرُ، تَأَخّرْ عَنْهُ! فَلَمّا دَنَا عُمَيْرٌ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا! قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ عَنْ تَحِيّتِك وَجَعَلَ تَحِيّتَنَا «السّلَامَ» ، وَهِيَ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ. قَالَ عُمَيْرٌ: إنّ عَهْدَك بِهَا لَحَدِيثٌ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَبْدَلَنَا اللهُ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَمَا أَقْدَمَك يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ: قَدِمْت فِي أَسِيرِي عِنْدَكُمْ تُقَارِبُونَنَا فِيهِ، فَإِنّكُمْ الْعَشِيرَةُ وَالْأَهْلُ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا بَالُ السّيْفِ؟
قَالَ: قَبّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ مِنْ شَيْءٍ؟ وَإِنّمَا نَسِيته حِينَ نَزَلَتْ وَهُوَ فِي رَقَبَتِي، وَلَعَمْرِي إنّ لِي لَهَمّا غَيْرَهُ! فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اُصْدُقْ، مَا أَقْدَمَك؟ قَالَ: مَا قَدِمْت إلّا فِي أَسِيرِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا شَرَطْت لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ؟
فَفَزِعَ عُمَيْرٌ فَقَالَ: مَاذَا شَرَطْت لَهُ؟ قَالَ: تَحَمّلْت لَهُ بِقَتْلِي عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَك وَيَعُولَ عِيَالَك، وَاَللهُ حَائِلٌ بَيْنِي وَبَيْنَك [ (1) ] . قَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ وَأَنّك صَادِقٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا الله! كنّا يا رسول الله نكذّبك
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «بينك وبين ذلك» .(1/126)
بِالْوَحْيِ وَبِمَا يَأْتِيك مِنْ السّمَاءِ. وَإِنّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَفْوَانَ كَمَا قُلْت، فَلَمْ يَطّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، وَقَدْ أَمَرْته أَنْ يَكْتُمَ عَنّي لَيَالِيَ مَسِيرِي فَأَطْلَعَك اللهُ عَلَيْهِ، فَآمَنْت بِاَللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدْت أَنّ مَا جِئْت بِهِ حَقّ، الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ! وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ هَدَاهُ اللهُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَخِنْزِيرٌ كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ حِينَ طَلَعَ، وَهُوَ السّاعَةَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ بَعْضِ وَلَدِي. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَلّمُوا أَخَاكُمْ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ.
فَقَالَ عُمَيْرٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي كُنْت جَاهِدًا عَلَى إطْفَاءِ نُورِ اللهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ أَنْ هَدَانِي، فَائْذَنْ لِي فَأَلْحَقُ قُرَيْشًا فَأَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَعَلّ اللهَ يَهْدِيهِمْ وَيَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ الْهَلَكَةِ.
فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ فَلَحِقَ بِمَكّةَ، فَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْ عُمَيْرٍ كُلّ رَاكِبٍ يَقْدَمُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَيَقُولُ: هَلْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ حَدَثٍ؟ وَيَقُولُ لِقُرَيْشٍ:
أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ. فَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ صَفْوَانُ عَنْ عُمَيْرٍ فَقَالَ: أَسْلَمَ. فَلَعَنَهُ صَفْوَانُ وَلَعَنَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكّةَ وَقَالُوا: صَبَأَ عُمَيْرٌ! فَحَلَفَ صَفْوَانُ أَلّا يُكَلّمَهُ أَبَدًا وَلَا يَنْفَعَهُ، وَطَرَحَ عِيَالَهُ. وَقَدِمَ عُمَيْرٌ عَلَيْهِمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَخَبّرَهُمْ بِصِدْقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ، قَالَ:
لَمّا قَدِمَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ نَزَلَ فِي أَهْلِهِ وَلَمْ يَقْرَبْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَدَعَا إلَيْهِ، فَبَلَغَ صَفْوَانَ فَقَالَ: قَدْ عَرَفْت حِينَ لَمْ يَبْدَأْ بِي قَبْلَ مَنْزِلِهِ، وَإِنّمَا رَحَلَ مِنْ عِنْدِي، أَنّهُ قَدْ [ (1) ] ارْتَكَسَ، وَلَا أُكَلّمُهُ مِنْ رَأْسِي أَبَدًا، وَلَا أَنْفَعُهُ وَلَا عِيَالَهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا. فَوَقَفَ عَلَيْهِ عُمَيْرٌ، وَهُوَ فى
__________
[ (1) ] فى ح: «وقد كان رجل أخبرنى أنه ارتكس» .(1/127)
الْحِجْرِ، فَقَالَ: أَبَا وَهْبٍ! فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَنْتَ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، أَرَأَيْت الّذِي كُنّا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ حَجَرٍ وَالذّبْحِ لَهُ، أَهَذَا دِينٌ؟
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَلَمْ يُجِبْهُ صفوان بكلمة.
المطعون مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ
وَكَانَ الْمُطْعِمُونَ فِي عَبْدِ مَنَافٍ: الْحَارِثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَشَيْبَةَ وعُتْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: زَمْعَةَ بن الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بْنَ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيّةِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلٍ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهَ وَمُنَبّهَ ابْنَا الْحَجّاجِ. قَالَ [ (1) ] :
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: مَا أَطْعَمَ أَحَدٌ بِبَدْرٍ إلّا قُتِلَ. قَالَ: وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيهِمْ، وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا. وَقَدْ ذَكَرُوا عِدّةً، مِنْهُمْ سُهَيْلٌ وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ وَغَيْرُهُمَا.
فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْت عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي فِدَاءِ الْأَسْرَى، فَاضْطَجَعْت فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ أَصَابَنِي الْكَرَى فَنِمْت، فَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَقُمْت فَزِعًا بِقِرَاءَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغْرِبِ وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [ (2) ] ، فَاسْتَمَعْت قِرَاءَتَهُ حَتّى خَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَوّلُ مَا دَخَلَ الْإِسْلَامُ قَلْبِي.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: قدم من
__________
[ (1) ] أى قال الواقدي.
[ (2) ] سورة 52 الطور 1- 2.(1/128)
قُرَيْشٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِي فِدَاءِ أَصْحَابِهِمْ.
وَحَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَدِمَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، ثُمّ قَدِمُوا بَعْدَهُ بِثَلَاثِ لَيَالٍ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ يزيد ابن النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ لِكُلّ رَجُلٍ.
فَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَأَلْت نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ: كَمْ [ (1) ] كَانَ الْفِدَاءُ؟ قَالَ: أَرْفَعُهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، إلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، إلَى أَلْفَيْنِ، إلَى أَلْفٍ، إلَى قَوْمٍ [ (2) ] لَا مَالَ لَهُمْ، مَنّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَبِي وَدَاعَةَ: إنّ لَهُ بِمَكّةَ ابْنًا كَيّسًا لَهُ مَالٌ، وَهُوَ مُغْلٍ فِدَاءَهُ.
فَافْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ أَوّلَ أَسِيرٍ اُفْتُدِيَ.
وَذَلِكَ أَنّ قُرَيْشًا قَالَتْ لِابْنِهِ الْمُطّلِبِ وَرَأَتْهُ يَتَجَهّزُ، يَخْرُجُ إلَى أَبِيهِ، فَقَالُوا:
لَا تَعْجَلْ، فَإِنّا نَخَافُ أَنْ تُفْسِدَ عَلَيْنَا فِي أُسَارَانَا، وَيَرَى مُحَمّدٌ تَهَالُكَنَا فَيُغْلِيَ عَلَيْنَا الْفِدْيَةَ، فَإِنْ كُنْت تَجِدُ فَإِنّ كُلّ قَوْمِك لَا يَجِدُونَ مِنْ السّعَةِ مَا تَجِدُ. فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتّى تَخْرُجُوا. فَخَادَعَهُمْ حَتّى إذَا غَفَلُوا خَرَجَ مِنْ اللّيْلِ مُشْرِقًا [ (3) ] عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَسَارَ أَرْبَعَ لَيَالٍ إلَى الْمَدِينَةِ، فَافْتَدَى أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. فَلَامَتْهُ فى دلك قريش فَقَالَ: مَا كُنْت لِأَتْرُكَ أَبِي أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْقَوْمِ وَأَنْتُمْ مُتَضَجّعُونَ [ (4) ] . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بن حرب: إنّ هذا غلام حدث،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «كيف كان» ، وما أثبتناه عن ب، ت.
[ (2) ] فى ح: «إلا قوما» .
[ (3) ] فى الأصل: «منسرفا» ، وفى ت: «متشرقا» ، وما أثبتناه قراءة ب. والتشريق: الأخذ فى ناحية الشرق. (القاموس المحيط، ج 3، ص 249) .
[ (4) ] تضجع فى الأمر: أى تقعد ولم يقم به. (الصحاح، ص 1248) .(1/129)
مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ، وَهُوَ مُفْسِدٌ عَلَيْكُمْ! إنّي وَاَللهِ غَيْرُ مُفْتَدٍ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَلَوْ مَكَثَ سَنَةً أَوْ يُرْسِلُهُ مُحَمّدٌ! وَاَللهِ مَا أَنَا بِأَعْوَزِكُمْ، وَلَكِنّي أَكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيّ أَوْ أُدْخِلَ عَلَيْكُمْ مَا يَشُقّ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ عَمْرٌو كَأُسْوَتِكُمْ.
أَسَمَاءُ النّفَرِ الّذِينَ قَدِمُوا فِي الأسرى
من بنى عبد شمس: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُو أَبِي الْعَاصِ، وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَمِنْ عَبْدِ الدّارِ: طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ، ومن بنى محزوم: عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَفَرْوَةُ بْنُ السّائِبِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ [ (1) ] .
فَحَدّثَنِي الْمُنْذِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمّا بَعَثَ أَهْلُ مَكّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لِخَدِيجَةَ- يُقَالُ: إنّهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ [ (2) ] ، كَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَدَخَلْتهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى بِهَا.
فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِلَادَةَ عَرَفَهَا وَرَقّ لَهَا،
__________
[ (1) ] فى ح: «مكرز بن حفص بن الأحنف» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد.
(الطبقات، ج 2، ص 70) .
[ (2) ] قال الفيروزآباذي: ظفار باليمن قرب صنعاء، إليه ينسب الجزع. (القاموس المحيط، ج 2، ص 81) .(1/130)
وَذَكَرَ خَدِيجَةَ وَرَحّمَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا إلَيْهَا مَتَاعَهَا فَعَلْتُمْ.
فَقَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَطْلَقُوا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ وَرَدّوا عَلَى زَيْنَبَ مَتَاعَهَا. وَأَخَذَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ أَنْ يُخَلّيَ سَبِيلَهَا، فَوَعَدَهُ ذَلِكَ، وَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُوهُ. وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ أَخُو خَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ.
ذكر سورة الأنفال
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قَالَ: لَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ اخْتَلَفُوا، فَادّعَتْ كُلّ طَائِفَةٍ أَنّهُمْ أَحَقّ بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً يَقُولُ: زَادَتْهُمْ يَقِينًا. وَفِي قَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يَقُولُ: يَقِينًا. وَفِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ يَقُولُ: لِمَا أَمَرَك رَبّك أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَدْرٍ هُوَ الْحَقّ.
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيّ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْتِكَ قال: من المدينة. وفى قوله: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
كَرِهَ خُرُوجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَى بَدْرٍ، قَالُوا:
نَحْنُ قَلِيلٌ وَمَا الْخُرُوجُ بِرَأْيٍ! حَتّى كَانَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ. وَفِي قَوْلِهِ:
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ لَمّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جبرئيل عَلَيْهِ السّلَامُ فَخَبّرَهُ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ يُرِيدُ عِيرَهَا، فَوَعَدَهُ اللهُ إمّا الْعِيرَ وَإِمّا لِقَاءَ قُرَيْشٍ فَيُصِيبُهُمْ. فَلَمّا كَانَ(1/131)
ببدر أخذوا السّقاء، وسألوهم عن العير يُخْبِرُونَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَلَا يُحِبّ ذَلِك الْمُسْلِمُونَ لِأَنّهَا شَوْكَةٌ، وَيُحِبّونَ الْعِيرَ. وَفِي قَوْلِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ يَقُولُ: يُظْهِرُ الدّينَ. وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ يَعْنِي مِنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ يَعْنِي لِيُظْهِرَ الْحَقّ، وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الّذِي جَاءُوا بِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ يَعْنِي قُرَيْشًا، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يَعْنِي بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى يَعْنِي عَدَدَ الْمَلَائِكَةِ الّذِينَ أَخْبَرَهُمْ بِهَا، وَلِيَعَلَمُنّ أَنّ اللهَ يَنْصُرُكُمْ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ يَقُولُ أَلْقَى عَلَيْكُمْ النّوْمَ أَمْنًا مِنْهُ فَقَذَفَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ أَجْنَبَ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يَقُولُ: يُصَلّي وَلَا يَغْتَسِلُ! وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بِالطّمَأْنِينَةِ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ كَانَ الْمَوْضِعُ دَهْسًا فَلَبّدَهُ [ (1) ] . إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فَكَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوّرُ فِي صُورَةِ الرّجُلِ فَيَقُولُ: اُثْبُتْ فَإِنّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَكَانَتْ أَفْئِدَتُهُمْ [ (2) ] تَخْفِقُ، لَهَا وَجَبَانٌ كَالْحَصَاةِ يُرْمَى بِهَا فِي الطّسْتِ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يَعْنِي الْأَعْنَاقَ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يَدًا ورجلا. لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يَقُولُ كَفَرُوا بِاَللهِ وجحدوا رسوله. وفى قوله ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ يَعْنِي الْقَتْلَ بِبَدْرٍ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ. إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً إلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصّةً. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ قَوْلُ الرّجُلِ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا قَتَلْت فُلَانًا،
__________
[ (1) ] لبد الشيء: ألزق بعضه ببعض حتى صار يشبه اللبدة. (النهاية، ج 4، ص 45) .
[ (2) ] فى ت: «أيديهم» .(1/132)
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى حِينَ رَمَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَبْضَةِ تُرَابًا: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً يَعْنِي نَصْرَهُ إيّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: اللهُمّ، أَقْطَعُنَا لِلرّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَأَحِنْهُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا لِمَنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يَعْنِي تُسْلِمُوا، وَإِنْ تَعُودُوا لِلْقِتَالِ، نَعُدْ بِالْقَتْلِ لَكُمْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً قَالُوا: لَنَا جَمَاعَةٌ بِمَكّةَ نَغْزُوهُ غَزْوَةً تُصِيبُهُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يَعْنِي الدعاء، هذه الآية فى يوم أُحُدٍ، عَاتَبَهُمْ عَلَيْهَا. لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ يَقُولُ: لَا تُنَافِقُوا وَأَدّوا كُلّ مَا اُسْتُوْدِعْتُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
يَقُولُ: إذَا كَثُرَ مَالُهُ عَظُمَتْ فِتْنَتُهُ وَتَطَاوَلَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ وَلَدُهُ كَثِيرًا رَأَى أَنّهُ عَزِيزٌ. وَفِي قَوْلِهِ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً يَعْنِي مَخْرَجًا. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ هَذَا بِمَكّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. (وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قَالَ: الْمُتَكَلّمُ بِهَذَا النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [ (1) ] يَوْمَ بَدْرٍ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكّةَ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي يُصَلّونَ. ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَعْنِي الْهَزِيمَةَ وَالْقَتْلَ. وَفِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يَوْمَ بدر. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
__________
[ (1) ] سورة 37 الصافات 176، 177(1/133)
لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ يُغْلَبُونَ حَيْثُ خَرَجُوا إلَى بَدْرٍ حَسْرَةً وَنَدَامَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ، يَقُولُ: ثُمّ إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ يَقُولُ: إنْ يُسْلِمُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ رَأَيْتُمْ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ.
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ* يَعْنِي لَا يَكُونَ شِرْكٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا يُذْكَرُ إِسَافُ وَلَا نَائِلَةُ. وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. قَالَ: الّذِي لِلّهِ هُوَ لِلرّسُولِ، وَاَلّذِي لِذِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فُرّقَ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِلِ.
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا يَعْنِي أَصْحَابَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلُوا بِبَدْرٍ، وَالْمُشْرِكُونَ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، بَيْنَهُمْ قَوْزٌ مِنْ رَمْلٍ، وَالرّكْبُ رَكْبُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ لَصِقَ بِالْبَحْرِ أَسْفَلَ مِنْ بَدْرٍ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لَا مَحَالَةَ يَأْتِي رَكْبٌ قَبْلَ رَكْبٍ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا قَتْلُ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ يَقُولُ: يُقْتَلُ مَنْ قُتِلَ عَنْ عُذْرٍ وَحُجّةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيّ مِنْهُمْ عَنْ عُذْرٍ وَحُجّةٍ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا قَالَ: نَامَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فَقُلّلُوا فِي عَيْنِهِ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ يَقُولُ: رُعِبْتُمْ، وَلَتَنازَعْتُمْ يَقُولُ:
اخْتَلَفْتُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ يَعْنِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَكُمْ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْنِي ضَعْفَ قُلُوبِكُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً يَعْنِي جَمِيعًا، فَلَا تَفِرّوا وَكَبّرُوا. وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا يَعْنِي عَلَى السّيْفِ، يَقُولُ: كَبّرُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَلَا تُظْهِرُوا التّكْبِيرَ، فَإِنّ إظْهَارَهُ فِي الْحَرْبِ فَشَلٌ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ(1/134)
خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يَعْنِي مَخْرَجَ قُرَيْشٍ إلَى بَدْرٍ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ هَذَا كُلّهُ كَلَامُ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ، يَقُولُ فِيمَا يَرْوُونَ: تَصَوّرَ إبْلِيسُ فِي صُورَتِهِ يَوْمَئِذٍ. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ يَعْنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشًا نَكَصَ إبْلِيسُ وَهُوَ يَرَى الْمَلَائِكَةَ تَقْتُلُ وَتَأْسِرُ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ. إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ نَفَرٌ كَانُوا أَقَرّوا بِالْإِسْلَامِ، فَلَمّا قُلّلَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْيُنِهِمْ فُلّوا [ (1) ] ، وَقَالُوا هَذَا الْكَلَامَ فَقُتِلُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ يَعْنِي أَسْتَاههمْ وَلَكِنّهُ كَنّى. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ الثّوْرِيّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَفِي قَوْلِهِ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى قَوْلِهِ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ يعنى قينقاع، بنى النّضير، وَقُرَيْظَةَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ اُقْتُلْهُمْ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً إلَى آخِرِ الْآيَةِ، نَزَلَتْ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ، سَارَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قَالَ: الرّمْيُ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يَقُول: ارْتَبِطُوا لِخَيْلٍ تَصْهَلُ وَتُرَى، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ.
يَعْنِي خَيْبَرَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَعْنِي قُرَيْظَةَ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ يَعْنِي قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرَ حِينَ قَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ وَنَتّبِعُك. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ
__________
[ (1) ] فى الأصل، ب، ح: «قلوا» والمثبت من ت(1/135)
نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ ثُمّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَصَارَ الرّجُلُ يَغْلِبُ الرّجُلَيْنِ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَعْنِي أَخْذَ الْمُسْلِمِينَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا يَقُولُ الْفِدَاءَ، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يُرِيدُ أَنْ يُقْتَلُوا. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ قَالَ سَبَقَ إحْلَالُ الْغَنِيمَةِ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً قَالَ: إحْلَالُ الْغَنَائِمِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا يَعْنِي قُرَيْشًا الّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ بَدْرٍ، وَآوَوْا وَنَصَرُوا الْأَنْصَارَ، وَأَمّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا يَقُولُ: لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وِرَاثَةٌ حَتّى يُهَاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يَعْنِي مُدّةٌ وَعَهْدٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ يَقُولُ: لَا تَوَلّوْا أَحَدًا مِنْ الْكَافِرِينَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض، ثم نسخ آية الميراث. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَفِي قَوْلِهِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [ (1) ] يَوْمَ بَدْرٍ. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [ (2) ] يَوْمَ بَدْرٍ. أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ (3) ] يَوْمَ بَدْرٍ. حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ [ (4) ] يَوْمَ بَدْرٍ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
__________
[ (1) ] سورة 44 الدخان 16
[ (2) ] سورة 25 الفرقان 77
[ (3) ] سورة 22 الحج 55
[ (4) ] سورة 23 المؤمنون 77(1/136)
الدُّبُرَ [ (1) ] يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [ (2) ] فَلَمْ يَكُنْ إلّا يَسِيرًا حَتّى كَانَ وَقْعَةُ بَدْرٍ. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [ (3) ] نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [ (4) ] يوم بدر. فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ (بَيْنَنا) وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [ (5) ] مِنْ قَبْلِ يَوْمِ بَدْرٍ.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [ (6) ] قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ خَاصّةً، وَكَانَ قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ إذَا لَقِيَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ لَا يَفِرّونَ، فَإِنّهُمْ إذَا لَمْ يَفِرّوا غَلَبُوا. ثُمّ خُفّفَ عَنْهُمْ فَقَالَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [ (7) ] فَنَسَخَتْ الْأُولَى، فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُول: مَنْ فَرّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرّ، وَمَنْ فَرّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرّ. وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [ (8) ] يَعْنِي قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [ (9) ] قَالَ بِالسّيُوفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [ (10) ] يَقُولُ: السّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ قال: يوم بدر.
حَدّثَنَا الثّوْرِيّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ مجاهد، قال: بالسيوف
__________
[ (1) ] سورة 54 القمر 45
[ (2) ] سورة 7 الأعراف 185
[ (3) ] سورة 73 المزمل 11
[ (4) ] سورة 17 الإسراء 80
[ (5) ] سورة 10 يونس 109
[ (6) ] سورة 8 الأنفال 16
[ (7) ] سورة 8 الأنفال 66
[ (8) ] سورة 14 إبراهيم 28
[ (9) ] سورة 23 المؤمنون 64
[ (10) ] سورة 32 السجدة 21(1/137)
يَوْمَ بَدْرٍ. حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ عن عبد الملك بن عبيد، عن مجاهد، عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ (1) ] قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ أُسِرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وحدّثنى محمّد ابن صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَا:
أُسِرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ مَحْمُودٌ: أَسَرَهُ عُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ الظّفَرِيّ. وَأَسَرَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَعُتْبَةُ حَلِيفٌ لِبَنِي هَاشِمٍ مِنْ بَنِي فِهْرٍ.
حَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أُسِرَ مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رَجُلَانِ: السّائِبُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، أَسَرَهُمَا سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ الْأَشْهَلِيّ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّ. وَلَمْ يَقْدَمْ لَهُمَا أَحَدٌ، وَكَانَا لَا مَالَ لَهُمَا، فَفَكّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا بِغَيْرِ فِدْيَةٍ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، قُتِلَ صَبْرًا بِالصّفْرَاءِ [ (2) ] قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلَانِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي
__________
[ (1) ] سورة 22 الحج 55
[ (2) ] الصفراء من المدينة على ثلاث ليال كما ذكر ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 11) .(1/138)
وَجْزَةَ [ (1) ] ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقّاص، فقدم فى فدائه الوليد ابن عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَافْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. فحدّثنى محمّد بن يحيى ابن سهل، عن أبى عفير، أنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، لَمّا [ (2) ] أَمَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَدّ الْأَسْرَى، كَانَ الّذِي [رَدّهُ] ، أَسَرَهُ سَعْدٌ أَوّلَ مَرّةٍ، ثُمّ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ فَصَارَ أَيْضًا لَهُ. وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، صَارَ فِي سَهْمِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْعَةِ، كَانَ أَسَرَهُ عَلِيّ، وَأَرْسَلَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ لِسَعْدِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ أَكّالٍ مِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ، خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَحُبِسَ بِمَكّةَ، وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ الرّبِيعِ، أَسَرَهُ خِرَاشُ بْنُ الصّمّة. حدّثنيه إسحاق ابن خَارِجَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُوهُ. وَحَلِيفٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو رِيشَةَ، افْتَدَاهُ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ. وَعَمْرُو بْنُ الْأَزْرَقِ افْتَكّهُ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ، وَكَانَ الّذِي صَارَ فِي سَهْمِهِ تَمِيمٌ مَوْلَى خِرَاشِ بْنِ الصّمّةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، فَصَارَ فِي الْقُرْعَةِ لِأُبَيّ بن كعب، افتداه عمرو بن سفيان ابن أُمَيّةَ، وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَسَرَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ ابْنُ عَمّهِ.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عَدِيّ بْنُ الْخِيَارِ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ خِرَاشُ بْنُ الصّمّةِ- حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ- وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، حَلِيفٌ لَهُمْ، أَسَرَهُ حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، افْتَدَاهُمْ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَ أَبَا ثَوْرٍ أبو مرثد الغنوىّ فى ثلاثة.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وخزة» ، وفى ت: «وحرة» ، وما أثبتناه عن ب، وعن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 4) .
[ (2) ] فى ب: «قال لما» .(1/139)
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ، أَسَرَهُ أَبُو الْيَسَرِ ثُمّ اُقْتُرِعَ عَلَيْهِ فَصَارَ لِمُحْرِزِ بْنِ نَضْلَةَ، وَأَبُو عَزِيزٍ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِأُمّهِ وَأَبِيهِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ لِمُحْرِزٍ: اُشْدُدْ يَدَيْك بِهِ، فَإِنّ لَهُ أُمّا بِمَكّةَ كَثِيرَةَ الْمَالِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ: هَذِهِ وَصَاتُك بِي يَا أَخِي؟ فَقَالَ مُصْعَبٌ: إنّهُ أَخِي دُونَك! فَبَعَثَتْ أُمّهُ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَأَلَتْ أَغْلَى مَا تُفَادِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَقِيلَ لَهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ ابن السّبّاقِ، أَسَرَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِمَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: السّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، أَسَرَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَائِذِ بْنِ أَسَدٍ، أَسَرَهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَسَالِمُ بْنُ شَمّاخٍ، أَسَرَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ لِكُلّ رَجُلٍ- ثَلَاثَةٌ. وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، أَسَرَهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَسِيرًا.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: خَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَسَرَهُ سَوَادُ بْنُ غَزِيّةَ [ (1) ] ، وَأُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَسَرَهُ بِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَكَانَ أَفْلَتَ يَوْمَ نَخْلَةَ، فَأَسَرَهُ واقد بن عبد الله بن التّمِيمِيّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَنِي مِنْك، فَقَدْ كُنْت أَفْلَتّ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى يَوْمَ نَخْلَةَ. فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَافْتَدَاهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ. وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَسَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ أَخُوهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَتَمَنّعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ
__________
[ (1) ] فى ت: «عزمة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 2، ص 362) .(1/140)
حَتّى افْتَكّاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَجَعَلَ هِشَامٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ، يُرِيدُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَقَالَ خَالِدٌ لِهِشَامٍ: إنّهُ لَيْسَ بِابْنِ أُمّك، وَاَللهِ لَوْ أَبَى [ (1) ] فِيهِ إلّا كَذَا وَكَذَا لَفَعَلْت. ثُمّ خَرَجَا بِهِ حَتّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ [ (2) ] ، فَأَفْلَتَ فَأَتَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا أَسْلَمْت قَبْلَ أَنْ تُفْتَدَى؟
قَالَ: كَرِهْت أَنْ أُسْلِمَ حَتّى أُفْتَدَى [ (3) ] بِمِثْلِ مَا اُفْتُدِيَ بِهِ قَوْمِي. فَأَسْلَمَ- وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّهُ أَخْبَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إلّا أَنّهُ قَالَ:
أَسَرَهُ سَلِيطُ. بْنُ قَيْسٍ الْمَازِنِيّ- وَقَيْسُ بْنُ السّائِبِ، كَانَ أَسَرَهُ عَبْدَةُ بْنُ الْحَسْحَاسِ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ حِينًا وَهُوَ يَظُنّ أَنّ لَهُ مَالًا، وَقَدِمَ أَخُوهُ فَرْوَةُ بْنُ السّائِبِ فِي فِدَائِهِ، فَأَقَامَ أَيْضًا حِينًا، ثُمّ افْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فِيهَا عَرْضٌ.
وَمِنْ بَنِي أَبِي رِفَاعَةَ: صَيْفِيّ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ بْنِ عَابِدِ [ (4) ] بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرو بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَ لَا مَالَ لَهُ، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ ثُمّ أَرْسَلَهُ، وَأَبُو الْمُنْذِرِ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ اُفْتُدِيَ بِأَلْفَيْنِ، وَعَبْدُ اللهِ، وَهُوَ أَبُو عَطَاءِ بْنُ السّائِبِ بْنِ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، اُفْتُدِيَ بِأَلْفِ درهم، أسره سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ، وَالْمُطّلِبُ بْنُ حَنْطَبِ [ (5) ] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ أَبُو أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَأَرْسَلَهُ بَعْدَ حِينٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ حَلِيفٌ لَهُمْ عُقَيْلِيّ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لو أتى فيه» ، وفى ت: «لو أبى فيه إلى» ، والمثبت من ب، ح.
[ (2) ] ذو الحليفة: ماء بينها وبين المدينة ستة أميال. (معجم ما استعجم، ص 259) .
[ (3) ] فى ح: «حتى أكون أسوة بقومي» .
[ (4) ] فى ت: ح: «عائذ» . قال أبو ذر: قال الزبير بن بكار: من كان من ولد عمر بن مخزوم فهو عابد ومن كان من ولد عمران بن مخزوم فهو عائذ. (شرح أبى ذر، ص 167) .
[ (5) ] فى ت: «حيطب» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1401) .(1/141)
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدّمَا
قَدِمَ فِي فِدَائِهِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، كَانَ الّذِي أَسَرَهُ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ بْنِ خَلَفٍ، وَاَلّذِي أَسَرَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَيَاضِيّ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ أَبُوهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ، فَتَمَنّعَ بِهِ فَرْوَةُ حِينًا، وَأَبُو عَزّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ، مَنّ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْلَفَهُ أَلّا يُكْثِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَأَرْسَلَهُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، فَأُسِرَ يَوْمَ أُحُدٍ فَضُرِبَ عُنُقُهُ، وَوَهْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ، قَدِمَ أَبُوهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ فِي فِدَائِهِ حِينَ بَعَثَهُ صَفْوَانُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ فَأَرْسَلَ لَهُ ابْنَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الزّرَقِيّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ دَرّاجِ بْنِ الْعَنْبَسِ [ (1) ] بْنِ وَهْبَانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، وَكَانَ لَا مَالَ لَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا [ (2) ] وَأَرْسَلَهُ، وَالْفَاكِهُ مَوْلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، أَسَرَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ- أَرْبَعَةٌ وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ، وَكَانَ أَوّلَ أَسِيرٍ اُفْتُدِيَ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ ابْنُهُ الْمُطّلِبُ، افْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَفَرْوَةُ بْن خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، افْتَدَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ قَبِيصَةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، كَانَ الّذِي أسره عثمان ابن مَظْعُونٍ، وَالْحَجّاجُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدٍ، أَسَرَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَأَفْلَتْ فَأَخَذَهُ أَبُو داود المازنىّ- أربعة.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «العبيس» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 6) .
[ (2) ] فى ح: «بشيء يسير» .(1/142)
وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ ابن نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، قَدِمَ فِي فِدَائِهِ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ، فَقَالَ مَالِكٌ:
أَسَرْت سُهَيْلًا فَلَمْ أَبْتَغِ [ (1) ] ... بِهِ غَيْرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمْ
وَخِنْدِفُ تَعْلَمُ أَنّ الْفَتَى ... سُهَيْلًا فَتَاهَا إذَا تُظّلَمْ
ضَرَبْت بِذِي السّيْفِ حَتّى انْحَنَى [ (2) ] ... وَأَكْرَهْت نَفْسِي عَلَى ذِي الْعَلَمْ [ (2) ]
فَلَمّا قَدِمَ مِكْرَزٌ انْتَهَى إلَى رِضَاهُمْ فِي سُهَيْلٍ وَدَفَعَ الْفِدَاءَ، أَرْبَعَةَ آلَافٍ، قَالُوا: هَاتِ مَالَنَا. قَالَ: نَعَمْ، اجْعَلُوا رَجُلًا مَكَانَ رَجُلٍ وَخَلّوا سَبِيلَهُ.
فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ: رَجُلًا بِرَجُلٍ! وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ يقولان: رجلا برجل! فخلّوا سبيل سهيل وحبسوا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَبَعَثَ سُهَيْلٌ بِالْمَالِ مَكَانَهُ مِنْ مَكّةَ. وَعَبْدُ [ (3) ] بْنُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، أَسَرَهُ عُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ مَوْلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ الْعُزّى بْنُ مَشْنُوءِ بْنِ وَقْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ، فَسَمّاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ النّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ- ثَلَاثَةٌ.
ومن بنى فهر: الطّفيل بن أبى فنيع، وَابْنُ جَحْدَمٍ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ محمّد بن يحيى بن حبّان، قال:
__________
[ (1) ] فى ح: «فلا أبتغى» ، وهكذا فى البلاذري عن الواقدي. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 303) .
[ (2) ] كذا فى الأصل، ب، ت. وفى ح: «ضربت بذي الشفر حتى انثنى» ، وهكذا فى ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 2، ص 304) . وقال ابن أبى الحديد: ذى العلم بسكون اللام، ولكنه حركه للضرورة، وكان سهيل أعلم مشقوق الشفة العليا. (نهج البلاغة، ج 3، ص 350) .
[ (3) ] فى ب: «عبد الرحمن» ، وفى ح: «عبد الله» . وما أثبتناه عن الأصل وت، وهكذا فى ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 3، ص 7) .(1/143)
كَانَ الْأَسْرَى الّذِينَ يُحْصَوْنَ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ.
فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: كَانَ الْأَسْرَى سَبْعِينَ وَالْقَتْلَى سَبْعِينَ.
فَحَدّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، مِثْلَهُ.
وَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: كَانَ الْأَسْرَى زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ وَالْقَتْلَى زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ.
فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، قال: أسر يوم بدر أربعة وسبعون.
تِسمية المطعين فِي طَرِيقِ بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْيَرْبُوعِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، قَالَ: كَانَ الْمُطْعِمُونَ فِي بَدْرٍ تِسْعَةً، مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ ثَلَاثَةٌ: الْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: زَمْعَةُ بْنُ الأسود بن المطلب بن أسد، ونوفل بن خويلد ابن الْعَدَوِيّةِ- اثْنَانِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ- وَاحِدٌ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ- وَاحِدٌ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهُ وَمُنَبّهُ ابْنَا الْحَجّاجِ- رَجُلَانِ.
فَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: أَوّلُ من نحر لهم أبو جهل بِمَرّ الظّهْرَانِ عَشْرًا، ثُمّ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ بِعُسْفَانَ تِسْعًا، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِقُدَيْدٍ عَشْرًا. وَمَالُوا إلَى الْمِيَاهِ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ، ضَلّوا(1/144)
الطّرِيقَ، فَأَقَامُوا بِهَا يَوْمًا فَنَحَرَ لَهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تِسْعَةً، ثُمّ أَصْبَحُوا بِالْجُحْفَةِ فَنَحَرَ لَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَشْرًا، ثُمّ أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسٌ الْجُمَحِيّ تِسْعًا، ثُمّ نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُمْ الْحَارِثُ بن ماء بدر تِسْعًا، ثُمّ نَحَرَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ عَلَى مَاءِ بدر عشرا، ونحر له مِقْيَسٌ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ تِسْعًا، ثُمّ شَغَلَتْهُمْ الْحَرْبُ فَأَكَلُوا مِنْ أَزْوَادِهِمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّناد:
والله، ما أظنّ مقيس كَانَ يَقْدِرُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَا يَعْرِفُ الْوَاقِدِيّ قَيْسَ الْجُمَحِيّ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أُمّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: كَانَ النّفَرُ يَشْتَرِكُونَ فِي الطّعَامِ، فَيُنْسَبُ إلَى الرّجُلِ الْوَاحِدِ وَيُسْكَتُ عَنْ سَائِرِهِمْ.
تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزّهْرِيّ: كَمْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرٍ؟ قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. ثُمّ عَدّهُمْ عَلَيّ، فَهُمْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ سَمّيْت. وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ مِثْلَهُ، سِتّةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ:
عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَفَنَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّفْرَاءِ. وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: عُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ- أَخْبَرَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ- وَعُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو ذُو الشّمَالَيْنِ، قَتَلَهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ. وَمِنْ بَنِي عدىّ بن كعب: عاقل ابن أَبِي الْبُكَيْرِ [ (1) ] حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بن بكر، قتله مالك بن زهير
__________
[ (1) ] فى ب: «عاقل بن البكير» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 282) .(1/145)
الْجُشَمِيّ، وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، أَخْبَرَنِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ. وَيُقَالُ أَوّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: صَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، قَتَلَهُ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ، وَحَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحْرِزُ بْنُ جَعْفَرِ [ (1) ] بْنِ عَمْرٍو، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو. وَمِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: مُبَشّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، قَتَلَهُ أَبُو ثَوْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ، وَيُقَال طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ. وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، رَمَاهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ حَنْجَرَتَهُ فَقَتَلَهُ. [قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَسَمِعْت الْمَكّيّينَ يَقُولُونَ ابْنُ الْعَرِقَةِ] [ (2) ] .
وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: عَوْفُ وَمُعَوّذُ ابْنَا عَفْرَاءَ، قَتَلَهُمَا أَبُو جَهْلٍ. وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ حَرَامٍ: عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: أَوّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ من الأنصار فى الإسلام عمير ابن الْحُمَامِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، وَيُقَالُ حَارِثَةُ بن سراقة، رماه حبّان ابن الْعَرِقَةِ. وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: رَافِعُ بْنُ الْمُعَلّى، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ فُسْحُمٍ [ (3) ] ، قَتَلَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ. حَدّثَنِي ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: قَتَلَ أَنَسَةَ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ. حَدّثَنِي الثّوْرِيّ، عَنْ الزّبَيْرِ بْنِ عَدِيّ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ ربّه [ (4) ] بن عبد الله،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «محرز بن حفص بن عمرو» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] الزيادة عن ت.
[ (3) ] فى الأصل: «الحارث بن سحم» ، وفى ب، ت: «يسحم» ، وفى ح: «قشحم» . وما أثبتناه عن ث، وعن البلاذري عن الواقدي. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 296) .
[ (4) ] فى الأصل: «عبد الله بن عبد الله» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/146)
عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، مِثْلَهُ.
حَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ قَالَ: أَرَانِي أَبِي أَرْبَعَةَ قُبُورٍ بِسَيّرَ- شِعْبٌ مِنْ مَضِيقِ الصّفْرَاءِ- فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَثَلَاثَةٌ بِالدّبّةِ- أَسْفَلَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُسْتَعْجِلَةِ. وَأَرَانِي قَبْرَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بِذَاتِ أَجْدَالٍ- بِالْمَضِيقِ أَسْفَلَ مِنْ الْجَدْوَلِ. وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ أَنّ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ جُرِحَ بِبَدْرٍ فَمَاتَ مِنْ جُرْحِهِ بِالْمَدِينَةِ.
وَعُبَيْدَ بْنَ السّكَنِ، اشْتَكَى فَمَاتَ حِينَ قَدِمَ.
حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَوّلُ أَنْصَارِيّ قُتِلَ فِي الْإِسْلَامِ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ بِبَدْرٍ، وَأَوّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِهْجَعٌ، قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ. وَيُقَالُ أَوّلُهُمْ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، قَتَلَهُ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ.
تَسْمِيَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ
مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِذَلِكَ. وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ. قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ. وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، قَتَلَهُ عمّار ابن يَاسِرٍ. وَعَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ.
حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ. وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ(1/147)
وَابْنُهُ، وَمَوْلَيَانِ لَهُمْ، قَتَلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ عُمَيْرَ بْنَ أَبِي عُمَيْرٍ.
وَعُبَيْدَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ. [قَالَ ابْنُ حَيّوَيْهِ: رَأَيْت فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ: أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْمُونٍ] [ (1) ] .
وَحَدّثَنِيهِ مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ. وَالْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. حَدّثَنِي بِذَلِك مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ. وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّفْرَاءِ صَبْرًا بِالسّيْفِ. وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَذَفّفَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ وَعَلِيّ. وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَنْمَارَ [ (2) ] ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ- اثْنَا عَشَرَ.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، قَتَلَهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافَ. وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدٍ: رَبِيعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَتَلَهُ أَبُو دجانة، أخبرنيه عبد الله ابن جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَتَلَهُ ثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ. وَالْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَعَقِيلُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ، قَتَلَهُ حمزة وعلىّ،
__________
[ (1) ] الزيادة عن ت.
[ (2) ] أى من بنى أنمار بن بغيض.(1/148)
شَرِكَا فِي قَتْلِهِ. وَحَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ قَالَ: قَتَلَهُ عَلِيّ وَحْدَهُ. وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، وَهُوَ الْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ. وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، عَنْ عَبّادِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: قَتَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ. وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بن أبى صعصعة، عن أيّوب ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، قَالَ: قَتَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ. وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَتَلَهُ أَبُو الْيَسَرِ. وَنَوْفَلُ بن خويلد ابن أَسَدٍ، وَهُوَ ابْنُ الْعَدَوِيّةِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ، قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: النّضْرُ بن الحارث بن كلدة، قتله علىّ ابن أَبِي طَالِبٍ صَبْرًا بِالسّيْفِ بِالْأُثَيْلِ بِأَمْرِ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، وزيد ابن مُلَيْصٍ مَوْلَى عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف بن عبد الدار، قتله علىّ ابن أَبِي طَالِبٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ مُصْعَبٍ الْعَبْدِيّ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قَالَ: قَتَلَهُ بِلَالٌ.
وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ: عُمَيْرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كعب بن سعد ابن تَيْمٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَعُثْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، قَتَلَهُ صُهَيْبٌ.
حَدّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ بن عبد الله بن عمرو بْنِ مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلٍ، ضَرَبَهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَوّذُ وَعَوْفُ ابْنَا(1/149)
عَفْرَاءَ، وَذَفّفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. حَدّثَنِيهِ إبْرَاهِيمُ بن سعد، عن محمّد ابن عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رُومَانَ، مِثْلَهُ. وَيَزِيدُ بْنُ تَمِيمٍ التّمِيمِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَيُقَالُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَأَبُو مُسَافِعٍ الْأَشْعَرِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ. وَحَرْمَلَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ- أَصْحَابُنَا جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ بَنِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ، قَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. أَخْبَرَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو.
وَمِنْ بَنِي الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. وَقَالَ لِي إسحاق بن خارجة: إنّ حباب بْنِ الْمُنْذِرِ قَتَلَهُ.
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَسْعُودُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَمِنْ بَنِي عَابِدِ [ (1) ] بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي رِفَاعَةَ، وَهُوَ أُمَيّةُ بْنُ عَابِدٍ: رِفَاعَةُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ.
وَأَبُو الْمُنْذِرِ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ مَعْنُ بْنُ عَدِيّ الْعَجْلَانِيّ. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ قَتَلَهُ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ.
حَدّثَنِي بِذَلِكَ أُبَيّ بْنُ الْعَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَالسّائِبُ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عوف.
__________
[ (1) ] كذا فى الأصل، وفى سائر النسخ: «عائذ» . قال أبو ذر: قال الزبير بن بكار: من كان من ولد عمر بن مخزوم فهو عابد، ومن كان من ولد عمران بن مخزوم فهو عائذ. (شرح أبى ذر، ص 167) .(1/150)
وَمِنْ بَنِي أَبِي السّائِبِ، وَهُوَ صَيْفِيّ بْنُ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ: السّائِبُ بْنُ أَبِي السّائِبِ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَخْبَرَنَا أصحابنا جميعا بذلك. وحليفان لهم من طيّء: عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ، قَتَلَهُ يَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَأَخُوهُ جَبّارُ [ (1) ] بْنُ سُفْيَانَ، قَتَلَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ [ (2) ] وَمِنْ بَنِي عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ: حَاجِزُ بْنُ السّائِبِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ عَائِذٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَعُوَيْمِرُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، قَتَلَهُ النّعْمَانُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ- تِسْعَةَ عَشَرَ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ: أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، قَتَلَهُ خُبَيْبُ بْنُ يَسَافَ وَبِلَالٌ، شَرِكَا فِيهِ. أَخْبَرَنِيهِ ابْنُ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صالح، عن عاصم بن عمر، ويزيد بن رُومَانَ، بِذَلِكَ. وَحَدّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ:
قَتَلَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ. وَعَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، قَتَلَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ. وَأَوْسُ بْنُ الْمِعْيَرِ [ (3) ] بْنِ لُوذَانَ، قَتَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، شَرِكَا فِيهِ. وَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ، قَالَتْ: قَتَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ. وَمُنَبّهُ بْنُ الْحَجّاجِ، قَتَلَهُ أَبُو الْيَسَرِ، وَيُقَالُ:
عَلِيّ، وَيُقَالُ: أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ. حَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: أَنَا قَتَلْت مُنَبّهَ بْنَ الْحَجّاجِ. وَنُبَيْهُ بن الحجّاج، قتله
__________
[ (1) ] فى ب: «حبان بن سفيان» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، والبلاذري عن الواقدي. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 300) .
[ (2) ] فى ت: «أبو بردة بن ينار» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 1، ص 174) .
[ (3) ] فى الأصل: «المغيرة» ، وفى ت: «المعبر» . وما أثبتناه عن ب، والبلاذري عن الواقدي.
(أنساب الأشراف، ج 1، ص 300) .(1/151)
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَأَبُو الْعَاصِ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ.
وَحَدّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ أَصْحَابِهِ، قَالُوا: قَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَحَدّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلام بذلك. وعاصم ابن أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ- سَبْعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. وَمَعْبَدُ بْنُ وَهْبٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ كَلْبٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَخِي يَحْيَى. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة.
وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: قتله أبو دجانة. فجميع من يحصى فتله تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
[مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَشَرِكَ فِي قَتْلِهِ- اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا] [ (1) ]
تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ
مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَمَنْ ضرب له رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِسَهْمٍ وَهُوَ غَائِبٌ، ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ. وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ محمّد،
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.(1/152)
عَنْ أَبِيهِ، بِذَلِكَ: ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ.
وَحَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَوَالِي عِشْرُونَ رجلا. وحدّثنى عبد الله ابن جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللهِ بْنَ حَسَنٍ يَقُولُ: مَا شَهِدَ بَدْرًا إلّا قُرَشِيّ أَوْ أَنْصَارِيّ، أَوْ حَلِيفٌ لِقُرَشِيّ أَوْ حَلِيفٌ لِأَنْصَارِيّ، أَوْ مَوْلًى لَهُمْ.
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: مُحَمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب الْمُبَارَكُ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ حُصَيْنٍ الْغَنَوِيّ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، حَلِيفَانِ لِحَمْزَةَ، وَأَنَسَةُ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو كَبْشَةَ مَوْلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَشَهِدَهَا شُقْرَانُ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ بِشَيْءٍ، وَكَانَ عَلَى الْأَسْرَى فَأَحْذَاهُ [ (1) ] كُلّ رَجُلٍ لَهُ أَسِيرٌ، فَأَصَابَ أَكْثَرَ مِمّا أَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ- ثَمَانِيَةٌ سِوَى شُقْرَانَ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ- أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ- وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا، وَلَيْسَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ تَسْمِيَتُهُ.
وَمِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عبد المطّلب ابن عَبْدِ مَنَافٍ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَالطّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بن أبى العاص
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فأخذ له» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/153)
ابن أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمْ يَحْضُرْ، تَخَلّفَ عَلَى ابْنَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُقَيّةَ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره- ذَكَرَهُ الْقَوْمُ جَمِيعًا- وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بن ربيعة، وسالم مولى أبى حُذَيْفَةَ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ دُودَانَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَأَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ، وسنان ابن أَبِي سِنَانِ بْنِ مِحْصَنٍ، وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ، وعتبة بن وهب. وربيعة ابن أَكْثَمَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَمِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو، وثقف بن عمرو، وحليف لهم من طيّء سُوَيْدُ بْنُ مَخْشِيّ. حَدّثَنِي بِهِ أَبُو مَعْشَرٍ، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قَالَ: وَزَعَمَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ أَرْبَدُ بْنُ حُمَيْرَةَ، وَأَنّهُ يُكَنّى أَبَا مَخْشِيّ، وَأَنّهُ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنّ صُبَيْحًا مَوْلَى الْعَاصِ تَجَهّزَ إلَى بَدْرٍ فَاشْتَكَى، فَحَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، ثُمّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُمْ سِتّةَ عَشَرَ سِوَى صُبَيْحٍ.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ أهيب ابن نُسَيْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ، أَخُوهُ سُلَيْمٌ. وَمِنْ بَنِي مَازِنٍ: حُبَابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَسَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ: طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَحَدّثَنِيهِ قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ.(1/154)
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وعمير ابن أَبِي وَقّاصٍ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيّ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ مطرود بن زهير بن ثعلبة ابن مَالِكِ بْنِ الشّرِيدِ بْنِ فَأْسِ بْنِ ذُرَيْمِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ أَهُودَ بْنِ بَهْرَاءَ، وَهُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَخَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ بْنِ جَنْدَلَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ مَوْلَى أُمّ سِبَاعِ بِنْتِ أَنْمَارَ. أَخْبَرَنِي بِنَسَبِ خَبّابٍ، مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى يَتِيمُ عُرْوَةَ. وَمَسْعُودُ بْنُ الرّبِيعِ مِنْ الْقَارّةِ، وَذُو الْيَدَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَضْلَةَ بْنِ غبشان بن سليم ابن مَالِكِ بْنِ أَفْصَى مِنْ خُزَاعَةَ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو عبد الله بن عثمان ابن عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره، وبلال ابن رَبَاحٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَشَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ، وَأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ، وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَمُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْحَمْرَاءِ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ- خَمْسَةٌ.(1/155)
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ: عُمَرُ بْنُ الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى ابن رِيَاحٍ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ هُوَ وَطَلْحَةَ يَتَحَسّبَانِ الْعِيرَ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَعَمْرُو بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ أَذَاةَ [ (1) ] بْنِ رِيَاحٍ.
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: عَاقِلُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ، قُتِلَ يَوْمَ الرّجيع، وإياس [ (2) ] بن أبى البكير، وعامر ابن أَبِي الْبُكَيْرِ، وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ مِنْ الْيَمَنِ، وَخَوْلِيّ وَابْنُهُ حَلِيفَانِ لَهُمْ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيّ- عَنْزٌ بَطْنٌ مِنْ رَبِيعَةَ- حَلِيفٌ لَهُمْ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التّمِيمِيّ، حَلِيفٌ لَهُمْ- ثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو: عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ الله ابن مَظْعُونٍ، وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو: خُنَيْسُ [ (3) ] بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مخرمة بن عبد العزّى، وعبد الله ابن سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ أَقْبَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَانْحَازَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَوَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. حَدّثَنِي بِهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قَالَ: وَحَدّثَنِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنَ مُحَمّدٍ. وَأَبُو سَبْرَةَ ابْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ مَوْلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ يَمَانِيّ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عبد ودّ. حدّثنى به
__________
[ (1) ] كذا فى الأصل، وفى سائر النسخ: «أداة» . قال أبو ذر: كذا وقع بالدال المهملة، وأذاة بالذال المعجمة ذكره أبو عبيد عن ابن الكلبي. (شرح أبى ذر، ص 172) .
[ (2) ] فى ت: «أناس بن أبى البكير» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 282) .
[ (3) ] فى ت: «خنيش بن حذافة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ وعن ابن حزم. (جوامع السيرة، ص 33) .(1/156)
عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، بِذَلِكَ- وَهُمْ سِتّةٌ سِوَى حَاطِبٍ. حَدّثَنِي عَطَاءُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلٍ مَعَ أَبِيهِ فِي نَفَقَتِهِ، وَخَرَجَ وَلَا يَشُكّ أَبُوهُ أَنّهُ عَلَى دِينِهِ، فَلَمّا قَرّبُوا انْحَازَ حَتّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَغَاظَ أَبَاهُ ذَلِكَ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: فَجَعَلَ اللهُ لِي وَلَهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْجَرّاحِ، وَصَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، وَهُمْ مِنْ بَنِي ضَبّةَ- وَهُمْ سِتّةٌ.
فَحَدّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ أَبُو الْحُصَيْبِ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عن هشام ابن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ سُهْمَانُ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِائَةَ سَهْمٍ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ سِتّةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَالْأَنْصَارُ مِائَتَيْنِ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، وَالْأَنْصَارُ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَعَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ: وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بنى زعورا: سعد بن مالك(1/157)
ابن عَبْدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، وَرَافِعُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ كُرْزِ بْنِ سَكَنِ بْنِ زَعُورَا بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَالْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ بْنِ عَدِيّ بن أبى غنم بن سالم ابن عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ مِنْ الْقَوَاقِلَةِ، دَارُهُ فِيهِمْ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَدِيّ بن مجدعة بن حارثة ابن الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَجْدَعَةَ، قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ، وَعُبَيْدُ بْنُ التّيّهَانِ، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ- خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ:
مَسْعُودُ بْنُ عَبْدِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ جُشَمِ بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمِ بْنِ حَارِثَةَ. وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ مِنْ بَلِيّ- وَهُمْ ثَلَاثَةٌ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ مِثْلَهُ- عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ.
وَمِنْ بَنِي ظَفَرٍ، مِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ كَعْبٍ: قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَوَادٍ.
وَمِنْ بَنِي رِزَاحِ بْنِ كَعْبٍ: نَصْرُ [ (1) ] بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ رِزَاحِ بْنِ ظَفَرِ بْنِ كَعْبِ، وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيّ، عَبْدُ الله بن طارق بن مالك
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «نضر بن الحارث» ، وما أثبتناه عن الأصل، وعن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 2، ص 344) .(1/158)
ابن تَيْمِ بْنِ شُعْبَةَ بْنِ سَعْدِ اللهِ بْنِ فَرَانَ [ (1) ] بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ، قُتِلَ بِالرّجِيعِ [ (2) ] ، وَأَخُوهُ لِأُمّهِ مُعَتّبُ بن عبيد بن أناس بن تيم ابن شُعْبَةَ بْنِ سَعْدِ اللهِ بْنِ فَرَانَ بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ- ثَمَانِيَةٌ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي عبس، عن أبيه، ومحمّد ابن صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ. وَحَدّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، مِثْلَهُ.
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: مُبَشّرُ بن عبد المنذر ابن زَنْبَرَ [ (3) ] ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيّةَ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَرَافِعُ بْنُ عَنْجَدَةَ- اسْمُ أُمّهِ عَنْجَدَةُ- وَعُبَيْدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، اسْتَعْمَلَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، رَدّهُ مِنْ الرّوْحَاءِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، رَدّهُ مِنْ الرّوحاء، ضرب له بسهمه وأجره- نسعة.
وَمِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عَاصِمُ ابن ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ- وَقَيْسٌ أَبُو الْأَقْلَحِ، كُنْيَتُهُ ابْنُ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ، قُتِلَ بِالرّجِيعِ، وَالْأَحْوَصُ الشّاعِرُ مِنْ وَلَدِهِ- وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرِ بْنِ مُلَيْلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْعَطّافِ، وَأَبُو مُلَيْلِ بْنُ الْأَزْعَرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْعَطّافِ، لَا عَقِبَ لَهُ، وَعُمَيْرُ بْنُ مَعْبَدِ بْنِ الْأَزْعَرِ، لَا عَقِبَ لَهُ، وسهل ابن حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبِ بْنِ عُكَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بن ثعلبة- خمسة.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فزار» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. وفران يروى بتخفيف الراء وتشديدها، وذكره ابن دريد بتخفيف الراء. (شرح أبى ذر، ص 173) .
[ (2) ] الرجيع: واد قرب خيبر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 310) .
[ (3) ] فى الأصل: «زبير» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 294) .(1/159)
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: أُنَيْسُ بْنُ قَتَادَةَ ابن رَبِيعَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ زَوْجُ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، لَا عَقِبَ لَهُ. وَمِنْ حلفائهم: معن بن عدىّ ابن الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَرِبْعِيّ بْنُ رَافِعٍ، وَثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، قُتِلَ يَوْمَ طُلَيْحَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عدىّ بن الجدّ ابن الْعَجْلَانِ، لَا عَقِبَ لَهُ. وَخَرَجَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ، فَرَدّهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَرَبَ لَهُ بِأَجْرِهِ وَسَهْمِهِ- إلَى مَسْجِدِ الضّرَارِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ، وَسَالِمٌ مَوْلَى ثُبَيْتَةَ بِنْتِ يَعَارَ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
حَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِي الْبَدّاحِ بْنِ عَاصِمٍ بِذَلِكَ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، أَمِيرُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد على الرّماة، وعاصم ابن قَيْسٍ، وَأَبُو ضَيّاحِ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو حَنّةَ- وليس فى بدر أبو حَنّةَ- وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكّائِينَ، وَالْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ أَبِي خَذْمَةَ [ (1) ] وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ. حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ خَوّاتِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، ذَلِكَ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بن عوف: المنذر ابن مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ حَرِيشِ بْنِ جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ، وَيُكْنَى أَبَا عَبْدَةَ، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ، وَلِأُحَيْحَةَ عَقِبٌ من غيره
__________
[ (1) ] فى الأصل: «حدمة» ، وفى ب: «حزمة» ، وفى ت: «خزمة» . وما أثبتناه عن ابن سعد، عن الواقدي. (الطبقات، ج 3، ص 45) .(1/160)
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي أُنَيْفٍ: أَبُو عَقِيلِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ بَيْحَانَ، وَكَانَ اسْمُ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدَ الْعُزّى فَسَمّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرّحْمَنِ عَدُوّ الْأَوْثَانِ، قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ، وَهُوَ أَبُو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة ابن بَيْحَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ تَيْمِ بْنِ يَرَاشَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُبَيْلَةَ [ (1) ] بْنِ قَسْمِيلَ بْنِ فَرَانَ بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ: سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ قُدَامَةَ، وَمَالِكُ بْنُ قُدَامَةَ، وَابْنُ عَرْفَجَةَ، وَتَمِيمٌ مَوْلَى بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلْمِ- خَمْسَةٌ. فَهَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَمِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: جَابِرُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمَالِكُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ نُمَيْلَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَصَرٍ [ (2) ] ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيّةَ، لَيْسَ ثَبْتٌ.
وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بن غنم: أبو أيّوب، واسمه خالد ابن زَيْدِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ ثَعْلَبَة، مَاتَ بِأَرْضِ الرّومِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ.
وَمِنْ بَنِي عُسَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ: ثَابِتُ بْنُ خَالِدِ بْنِ النّعْمَانِ بن خنساء بن عسيرة.
__________
[ (1) ] فى ت: «عقيلة بن قسميل بن قرام» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر.
(الاستيعاب، ص 1718) .
[ (2) ] فى الأصل: «نعمان بن غصن» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن حزم. (جوامع السيرة، ص 128) .(1/161)
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، عُمَارَةُ بْنُ حَزْمِ بْنِ زَيْدِ، وَسُرَاقَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ غَزِيّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ.
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ: حَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وسليم ابن قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ، وَاسْمُ قَهْدٍ خَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة ابن غَنْمٍ.
وَمِنْ بَنِي عَائِذِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمٍ: سُهَيْلُ بْنُ رَافِعِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بن عائذ ابن ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمٍ، وَعَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ، واسم أبى الزّغباء سنان بن سبيع ابن ثَعْلَبَة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ بُدَيْلِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَصْرِ بْنِ كَاهِلِ بْنِ نصر ابن مَالِكِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمٍ: مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو خزيمة ابن أَوْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة، وَرَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ: عَوْفُ وَمُعَوّذُ وَمُعَاذُ، بَنُو الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بَنُو عَفْرَاءَ، وَهِيَ ابْنَةُ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة، ونعيمان ابن عَمْرِو بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ، وَعَامِرُ بْنُ مُخَلّدِ بْنِ سَوَادٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ سَوَادٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَوَادٍ، وَثَابِتُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَوَادٍ، وَعُصَيْمَةُ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ وَدِيعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جُرَادِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ طحيل بن عمرو بن غنم ابن الرّبَعَةِ بْنِ رُشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ. فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْت الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ تَقُولُ: أَبُو الْحَمْرَاءِ مَوْلًى لِلْحَارِثِ بْنِ رفاعة قد شهدا بدرا.(1/162)
قَالَ: فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، مِثْلَهُ- اثْنَا عَشَرَ بِأَبِي الْحَمْرَاءِ. فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ بِأَبِي الْحَمْرَاءِ.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: ثَعْلَبَة بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنِ بْنِ عَمْرِو ابن عَتِيكٍ، وَسَهْلُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ عمرو بن عتيك، والحارث ابن الصّمّةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَتِيكٍ، كُسِرَ بِالرّوْحَاءِ، ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره- حدّثينه أَصْحَابُنَا جَمِيعًا- وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهُمْ بَنُو حُدَيْلَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ عبيد ابن زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ: أُبَيّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ ابن عُبَيْدٍ، وَأَنَسُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدٍ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ: أَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَخُو حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبُو شَيْخٍ، وَاسْمُهُ أُبَيّ بن ثابت ابن الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبُو طَلْحَةَ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكٍ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ وَهْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ، وَيُكْنَى عَمْرٌو أَبَا حَكِيمَةَ، وَسَلِيطُ بن قيس بن عمرو بن عبيد ابن مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو سَلِيطٍ، واسمه أسيرة بن عمرو بن عامر ابن مَالِكٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَمْرٌو يُكْنَى أَبَا خارجة بن قيس بن مالك ابن عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ،(1/163)
وَعَامِرُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسْحَاسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ، وَمُحْرِزُ ابن عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ، وَثَابِتُ بْنُ خَنْسَاءَ ابن عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرٍ، قتل يوم أحد، وسواد بن غزيّة ابن أُهَيْبٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غنم بن عدىّ بن النّجّار: قيس ابن السّكَنِ بْنِ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَيُكْنَى قَيْسٌ أَبَا زَيْدٍ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ ظَالِمِ بْنِ عَبْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدُبٍ، وَسُلَيْمُ بْنُ مِلْحَانَ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ: قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَاسْمُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ. فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمُشَاةِ. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ، وَهُوَ كَانَ عَامِلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَغَانِمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعُصَيْمٌ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي أَسَدٍ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ: عُمَيْرٌ، وَيُكْنَى.
أَبَا دَاوُدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَسُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ ابن مَبْذُولٍ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ مَازِنٍ: قَيْسُ بْنُ مُخَلّدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ صَخْرِ بن حبيب ابن الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ مَازِنٍ.
وَمِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارٍ النّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عبد الأشهل، والضّحّاك(1/164)
ابن عَبْدِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَسُلَيْمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَة، وَهُوَ أَخٌ لِلنّعْمَانِ وَالضّحّاكِ ابْنَيْ عَبْدِ عَمْرٍو لِأُمّهِمَا، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ، قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَارْتُثّ [ (1) ] يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ مِنْ الْقَتْلَى، وَجَابِرُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارٍ.
وَمِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كعب بن حارثة بن دينار: كعب بن زيد ابن مَالِكٍ وَبُجَيْرُ بْنُ أَبِي بُجَيْرٍ حَلِيفٌ لَهُمْ- وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَة.
سَعْدُ بْنُ رَبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْن مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَخَلّادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، قُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ صِهْرًا لِأَبِي بَكْرٍ، ابْنَتُهُ خَارِجَةُ امْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ ابن الْخَزْرَجِ: بَشِيرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ جُلَاسٍ، قُتِلَ يَوْمَ عَيْنِ التّمْرِ [ (2) ] مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَسُبَيْعُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْشَةَ بن أميّة بن عامر بن عدىّ ابن كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَعُبَادَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسِمَاكُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَة بن كعب بن الخزرج، وهو الذي يُقَالُ لَهُ فُسْحُمٌ- سِتّةٌ.
وَمِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَمِنْ بَنِي أَخِيهِ، وأخوه زيد
__________
[ (1) ] ارتث: أى حمل من المعركة رثيثا، أى جريحا وبه رمق. (الصحاح، ص 283) .
[ (2) ] عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة بقربها ... افتتحها المسلمون فى أيام أبى بكر على يد خالد بن الوليد فى سنة 12 للهجرة. (معجم البلدان، ج 6، ص 253) .(1/165)
ابن الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَهُمَا التّوْأَمَانِ: خُبَيْبُ بْنُ يساف بن عنبة ابن عَمْرِو بْنِ خَدِيجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جُشَمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ الّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ [ (1) ] ، وَأَخُوهُ حُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ، حَدّثَنِي بِهِ شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ حُرَيْثًا شَهِدَ بَدْرًا، وَأَصْحَابُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَسُفْيَانُ بْنُ بِشْرٍ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي جُدَارَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: تَمِيمُ بْنُ يعار ابن قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ جُدَارَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ بَنِي جُدَارَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُزَيّنِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُرْفُطَةَ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي الْأَبْجَرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الرّبِيعِ ابن قَيْسِ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْأَبْجَرِ- وَاحِدٌ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ بَنُو الْحُبْلَى، وَإِنّمَا كَانَ سالم عظيم البطن فسمّى الحلبي: عبد الله بن عبد الله بن أبي بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكٍ، [ابْنِ السّلُولِ] ، وَإِنّمَا السّلُولُ امْرَأَةٌ [وَهِيَ] أُمّ أُبَيّ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكٍ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي جَزْءِ [ (2) ] بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ: زَيْدُ بْنُ وديعة ابن عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ جَزْءٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَة ابن مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ، وَعَامِرُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، حَلِيفٌ
__________
[ (1) ] انظر ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 913) .
[ (2) ] قال السهيلي: وذكر أبو بحر أنه قيده عن أبى الوليد جزء بسكون الزاى وأنه لم يجده عن غيره إلا بكسر الزاى. (الروض الأنف، ج 2، ص 97) .(1/166)
لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَمَعْبَدُ بْنُ عَبّادِ بْنِ قَشْعَرَ بْنِ الْقَدْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ، وَيُكْنَى أَبَا خَمِيصَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ الْعُكَيْرِ [ (1) ] حَلِيفٌ لَهُمْ- سِتّةٌ.
وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ العجلان، وغسّان ابن مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَجْلَانِ، وَمُلَيْلُ بْنُ وَبْرَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَعِصْمَةُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَجْلَانِ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ أَصْرَمَ، وَأَخُوهُ أَوْسُ بْنُ الصّامِتِ.
وَمِنْ بَنِي دَعْدِ بْنِ فِهْرِ بْنِ غَنْمٍ: النّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ دَعْدٍ، وَهُوَ الّذِي يُسَمّى قَوْقَلًا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: إنّمَا سُمّيَ قَوْقَلًا لِأَنّهُ كَانَ إذَا اسْتَجَارَ بِهِ رَجُلٌ قَالَ لَهُ: قَوْقِلْ [ (2) ] بِأَعْلَا يَثْرِبَ وَأَسْفَلِهَا فَأَنْتَ آمِنٌ، فَسُمّيَ الْقَوْقَلَ.
وَمِنْ بَنِي قُرْيُوش بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: أُمَيّةُ بْنُ لُوذَانَ بن سالم بن ثابت ابن هَزّالِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قُرْيُوش بْنِ غَنْمٍ.
وَمِنْ بَنِي دَعْدٍ رَجُلَانِ.
وَمِنْ بَنِي مَرْضَخَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ: مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ- وَاحِدٌ.
وَمِنْ بَنِي لُوذَانَ بْنِ غَنْمٍ: رَبِيعُ بْنُ إيَاسٍ، وَأَخُوهُ وَرَقَةُ بْنُ إيَاسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ، وَعَمْرُو بْنُ إيَاسٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ بَلِيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ: الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادِ بن عمرو بن زمرة بن عمرو
__________
[ (1) ] فى ب: «عاصم بن العكين» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 782) .
[ (2) ] قوقل: أى ارتق. (القاموس المحيط، ج 4، ص 39) .(1/167)
ابن عَمّارَةَ، [ (1) ] وَعَبْدَةُ بْنُ الْحَسْحَاسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زمرة، وبحّاث بن ثعلبة ابن خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَارَةَ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ خَزْمَةَ ابن أَصْرَمَ، وَحَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَهْرَاءَ، يُقَالُ لَهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِذَلِكَ.
قَالَ: وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا أَنّ الْحَلِيفَ ثَبَتَ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي زيد بن ثعلبة ابن الْخَزْرَجِ: أَبُو دُجَانَةَ، وَهُوَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ بن لوذان بن عبد ودّ ابن ثَعْلَبَة، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، مِنْ بَنِي الْبَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ: أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْبَدِيّ، وَمَالِكُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو الْبَدِيّ.
حَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: تجهّز سعد ابن مَالِكٍ يَخْرُجُ إلَى بَدْرٍ فَمَرِضَ فَمَاتَ، فَمَوْضِعُ قبره عنده دَارِ ابْنِ فَارِطٍ، فَأَسْهَمَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: مَاتَ بِالرّوْحَاءِ، وَأَسْهَمَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْبَدِيّ.
وَمِنْ بَنِي طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ: عَبْدُ رَبّهِ بن حقّ بن أوس ابن قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ طَرِيفٍ، وَكَعْبُ بْنُ جَمّازِ [ (2) ] بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ غَسّانَ، وَضَمْرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ مَرْدَغَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بن الرّبعة بن رشدان بن
__________
[ (1) ] فى الأصل وت: «عمرو بن مرة» ، وما أثبتناه عن ب، وابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1459) .
[ (2) ] فى ت: «كعب بن جمان» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب. ص 1312) .(1/168)
قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ، وَبَسْبَسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ خَرَشَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ رُشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ [ (1) ] بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمٍ، مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ: خِرَاشُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ حَرَامٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ حَرَامٍ، وَتَمِيمٌ مَوْلَى خِرَاشِ بْنِ الصّمّةِ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَمُعَاذُ بْنُ الْجَمُوحِ، وَمُعَوّذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَة، قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَهُوَ أَبُو جَابِرٍ، وَحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَلّادُ ابن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، وَحَبِيبُ بْنُ الْأَسْوَدِ مَوْلًى لَهُمْ، وَثَابِتُ بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة الّذِي يُقَالُ لَهُ الْجِذْعُ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ حَرَامٍ- أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا.
حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، أَنّ مُعَاذَ بْنَ الصّمّةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ شَهِدَ بَدْرًا، وَلَيْسَ بِمُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ.
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ سِنَانِ بْنِ صَيْفِيّ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْجَدّ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيّ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَحَمْزَةُ بْنُ الْحُمَيّرِ- قَالَ: وَسَمِعْت أنّه خارجة بن الحميّر- وعبد الله ابن الْحُمَيّرِ، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ أَشْجَعَ مِنْ بَنِي دهمان.
__________
[ (1) ] فى ت: «شاردة بن يزيد» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 245) .(1/169)
وَمِنْ بَنِي نُعْمَانَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمٍ: عَبْدُ الله ابن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ سِنَانٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ سِنَانٍ مَوْلًى لَهُمْ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النّعْمَانِ، وَخُلَيْدَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ سِنَانٍ، وَيُقَالُ لَبْدَةُ بْنُ قَيْسٍ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي خُنَاسِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ: يَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحِ بْنِ خُنَاسٍ، وَأَخُوهُ مَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحِ بْنِ خُنَاسٍ، وَعَبْدُ الله ابن النّعْمَانِ بْنِ بَلْذَمَةَ بْنِ خُنَاسٍ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي خَنْسَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ: جَبّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ- وَاحِدٌ.
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدٍ: الضّحّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدٍ، وَسَوَادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ عُبَيْدٍ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرَامِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمٍ، وأخوه معبد بن قيس بن صخر ابن حَرَامِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمٍ.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ، ثُمّ مِنْ بَنِي حَدِيدَةَ: يَزِيدُ ابن عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَيُكْنَى يَزِيدُ أَبَا الْمُنْذِرِ، وَسُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعَنْتَرَةُ مَوْلَى سُلَيْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ نَابِي بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادٍ: عَبْسُ بْنُ عامر بن عدىّ ابن ثَعْلَبَة بْنِ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَأَبُو الْيَسَرِ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادٍ، وَسَهْلُ بن قيس بن أبى كعب ابن الْقَيْنِ، قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ وَثَعْلَبَةُ وَعَبْدُ اللهِ ابْنَا أُنَيْسٍ اللّذَانِ كَسّرَا أَصْنَامَ بَنِي سلمة.(1/170)
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ ابن الْخَزْرَجِ، ثُمّ مِنْ بَنِي مُخَلّدِ بْنِ عَامِرِ بن زريق: قيس بن محصن ابن خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ إيَاسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُخَلّدٍ، وَيُكْنَى أَبَا عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قيس بن خالد ابن مُخَلّدٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُخَلّدٍ- سَبْعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي خَالِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ: عَبّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بن خالد ابن عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ- وَاحِدٌ.
وَمِنْ بَنِي خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ: أَسْعَدُ بْنُ يَزِيدَ بن الفاكه بن زيد ابن خَلَدَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالْفَاكِهُ بْن بِشْرِ بْنِ الفاكه بن زيد بن خلدة، ومعاذ ابن مَاعِصِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ، وَأَخُوهُ عَائِذُ بن ماعص، ومسعود بن سعد ابن قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ، قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ: رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَخَلّادُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مالك بن العجلان، وعبيد بن زيد ابن عَامِرِ بْنِ الْعَجْلَانِ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ:
رَافِعُ بْنُ الْمُعَلّى بْنِ لُوذَانَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حارثة بن ثعلبة بن عدىّ ابن مَالِكٍ، وَأَخُوهُ هِلَالُ بْنُ الْمُعَلّى، قُتِلَ بِبَدْرٍ- اثْنَانِ.
وَمِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ سِنَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ بَيَاضَةَ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَذْفَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَامِرٍ، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بن العجلان(1/171)
ابن عَلِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، وَرُحَيْلَةُ [ (1) ] بْنُ ثَعْلَبَة بْنِ خَالِدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ بَيَاضَةَ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ بَيَاضَةَ: حُلَيْفَةُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، وَغَنّامُ بْنُ أَوْسِ بْنِ غَنّامِ بْنِ أَوْسِ ابن عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، وَعَطِيّةُ بْنُ نُوَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَطِيّةَ ابن عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ. حَدّثَنِي بِذَلِكَ خَالِدُ بْنُ القاسم، عن زرعة بن عبد الله ابن زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ أَنّ الرّجُلَيْنِ ثَبَتَ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَلَيْسَ بِمُجْتَمَعٍ عَلَيْهِمَا.
ذكر سَرِيّةِ قَتْلِ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ، كَانَتْ تَحْتَ يَزِيدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِصْنٍ الْخَطْمِيّ، وَكَانَتْ تُؤْذِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَتُحَرّضُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ شِعْرًا:
فَبِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ والنّبِيتِ [ (2) ] ... وَعَوْفٍ وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ
أَطَعْتُمْ أَتَاوِيّ [ (3) ] مِنْ غَيْرِكُمْ ... فَلَا مِنْ مُرَادٍ وَلَا مُذْحِجِ [ (4) ]
تَرَجّوْنَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرّءُوسِ ... كَمَا يُرْتَجَى مَرَقُ الْمُنْضَجِ
قَالَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ أميّة الخطمىّ [ (5) ] حين بلغه قولها
__________
[ (1) ] كذا فى الأصل، وفى ب، ت: «رخيلة» . قال ابن عبد البر: قال ابن إسحاق: رجيلة بالجيم، وقال ابن هشام: رحيلة بالحاء المهملة. وقال ابن عقبة فيما قيدناه فى كتابه: رخيلة بالخاء المنقوطة. (الاستيعاب، ص 183) .
[ (2) ] فى ت: «والبيت» .
[ (3) ] الأتاوى: الغريب. (شرح أبى ذر، ص 458) .
[ (4) ] مراد ومذحج: قبيلتان من قبائل اليمن. (شرح أبى ذر، ص 458) .
[ (5) ] فى ت: «عدى بن حارثة» .(1/172)
وَتَحْرِيضُهَا: اللهُمّ، إنّ لَك عَلَيّ نَذْرًا لَئِنْ رَدَدْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ لَأَقْتُلَنّهَا- وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِبَدْرٍ- فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من بدر جَاءَهَا عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ فِي جَوْفِ اللّيْلِ حَتّى دَخَلَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا، وَحَوْلَهَا نَفَرٌ مِنْ وَلَدِهَا نِيَامٌ، مِنْهُمْ مَنْ تُرْضِعُهُ فِي صَدْرِهَا، فَجَسّهَا بِيَدِهِ، فَوَجَدَ الصّبِيّ تُرْضِعُهُ فَنَحّاهُ عَنْهَا، ثُمّ وَضَعَ سَيْفَهُ عَلَى صَدْرِهَا حَتّى أَنْفَذَهُ مِنْ ظَهْرِهَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى صَلّى الصّبْحَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ.
فَلَمّا انْصَرَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى عُمَيْرٍ فَقَالَ: أَقَتَلْت بِنْتَ مَرْوَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله. وخشي عمير أن يكون فتات عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا فَقَالَ: هَلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ [ (1) ] ، فَإِنّ أَوّلَ مَا سَمِعْت هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُمَيْرٌ:
فَالْتَفَتَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إلَى رَجُلٍ نَصَرَ اللهَ وَرَسُولَهُ بِالْغَيْبِ، فَانْظُرُوا إلَى عُمَيْرِ بْنِ عَدِيّ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْأَعْمَى الّذِي تَشَدّدَ [ (2) ] فِي طَاعَةِ اللهِ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ الْأَعْمَى، وَلَكِنّهُ الْبَصِيرُ!
فَلَمّا رَجَعَ عُمَيْرٌ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ بَنِيهَا فِي جَمَاعَةٍ يَدْفِنُونَهَا، فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ حِينَ رَأَوْهُ مُقْبِلًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: يَا عُمَيْرُ، أَنْتَ قَتَلْتهَا؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُمْ بِأَجْمَعِكُمْ مَا قَالَتْ لَضَرَبْتُكُمْ بِسَيْفِي هَذَا حَتّى أَمُوتَ أَوْ أَقْتُلَكُمْ. فيومئذ ظهر الإسلام
__________
[ (1) ] لا ينتطح فيها عنزان: معناه أن شأن قتلها هين، لا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف.
(شرح أبى ذر، ص 458) .
[ (2) ] هكذا فى الأصل، وفى سائر النسخ: «تشرّى» .(1/173)
فِي بَنِي خَطْمَةَ، وَكَانَ مِنْهُمْ رِجَالٌ يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِمْ، فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَمْدَحُ عُمَيْرَ بْنَ عَدِيّ، أَنْشَدَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ:
بَنِي وَائِلٍ وَبَنِي وَاقِف ... وخطمة دون بنى الخزرج
مَتَى مَا دَعَتْ أُخْتُكُمْ وَيْحَهَا ... بِعَوْلَتِهَا وَالْمَنَايَا تَجِي
فَهَزّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ ... كَرِيمَ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ
فَضَرّجَهَا [ (1) ] مِنْ نَجِيعِ الدّمَاءِ [ (2) ] ... قُبَيْلَ الصّبَاحِ وَلَمْ يَحْرَجِ
فَأَوْرَدَك اللهُ بَرْدَ الْجِنَا ... نِ جَذْلَانَ فِي نِعْمَةِ الْمَوْلِجِ
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ قَتْلُ عَصْمَاءَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، مَرْجِعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا.
سَرِيّةُ قَتْلِ أَبِي عَفَكٍ
حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ [ (3) ] ، وَحَدّثَنَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَا:
إنّ شَيْخًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَفَكٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ حِينَ [ (4) ] قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، كَانَ يُحَرّضُ عَلَى عَدَاوَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ.
فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ رَجَعَ وَقَدْ ظفّره الله بما ظفّره،
__________
[ (1) ] ضرجها: لطخها. (شرح أبى ذر، ص 458) .
[ (2) ] النجيع من الدم: ما كان إلى السواد، أو دم الجوف. (القاموس المحيط، ج 3، ص 87) .
[ (3) ] فى ت: «عمارة بن غزمة» .
[ (4) ] فى الأصل: «حتى» ، والتصحيح عن سائر النسخ.(1/174)
فَحَسَدَهُ وَبَغَى فَقَالَ:
قَدْ عِشْت حِينًا وَمَا إنْ أَرَى ... مِنْ النّاسِ دَارًا وَلَا مَجْمَعَا
أَجَمّ [ (1) ] عُقُولًا وَآتَى إلَى ... مُنِيبٍ [ (2) ] سِرَاعًا إذَا مَا دَعَا
فَسَلّبَهُمْ أَمْرَهُمْ رَاكِبٌ ... حَرَامًا حَلَالًا لِشَتّى مَعَا
فَلَوْ كَانَ بِالْمُلْكِ صَدّقْتُمُ ... وَبِالنّصْرِ تَابَعْتُمُ تُبّعَا
فَقَالَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكّائِينَ مِنْ بَنِي النّجّارِ: عَلَيّ نَذْرٌ أَنْ أَقْتُلَ أَبَا عَفَكٍ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ. فَأَمْهَلَ فَطَلَبَ لَهُ غِرّةً، حَتّى كَانَتْ لَيْلَةٌ صَائِفَةٌ، فَنَامَ أَبُو عَفَكٍ بِالْفِنَاءِ فِي الصّيْفِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقْبَلَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَوَضَعَ السّيْفَ عَلَى كَبِدِهِ حَتّى خَشّ فِي الْفِرَاشِ، وَصَاحَ عَدُوّ اللهِ فَثَابَ إلَيْهِ أُنَاسٌ مِمّنْ هُمْ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَقَبَرُوهُ. وَقَالُوا: مَنْ قَتَلَهُ؟ وَاَللهِ لَوْ نَعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ لَقَتَلْنَاهُ بِهِ! فَقَالَتْ النّهْدِيّةُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
تُكَذّبُ [ (3) ] دِينَ اللهِ وَالْمَرْءَ أَحْمَدَا ... لَعَمْرُ الّذِي أَمْنَاكَ [ (4) ] إذْ بِئْسَ مَا يُمْنَى
حَبَاك حَنِيفٌ آخِرَ اللّيل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السّنّ
فإنى وإن أعلم بقاتلك الّذي أ ... باتك حِلْسَ اللّيْلِ مِنْ إنْسٍ اوْ جِنّي
فَحَدّثَنِي مَعْنُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ رُقَيْشٍ قَالَ: قُتِلَ أَبُو عَفَكٍ فِي شَوّالٍ عَلَى رأس عشرين شهرا.
__________
[ (1) ] أجم عقولا: أكثر عقولا. (الصحاح، ص 1889) .
[ (2) ] فى ت: «مثبت» .
[ (3) ] فى ب، ت: «يكذب» .
[ (4) ] فى الأصل، ث: «لعمري والذي أمناك» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن إسحاق.
(السيرة النبوية، ج 4، ص 285) . وأمناك: أنساك. (شرح أبى ذر، ص 458) .(1/175)
غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ
غَزْوَةُ قَيْنُقَاعَ يَوْمَ السّبْتِ لِلنّصْفِ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا، حَاصَرَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عن الحارث بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَادَعَتْهُ يَهُودُ كُلّهَا، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كِتَابًا. وَأَلْحَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّ قَوْمٍ بِحُلَفَائِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانًا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا، فَكَانَ فِيمَا شَرَطَ أَلّا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ عَدُوّا.
فَلَمّا أَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ بَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، بَغَتْ يَهُودُ وَقَطَعَتْ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَهْدِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ فَجَمَعَهُمْ، ثُمّ قال: يا معشر يهود، أسلموا، فو الله إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللهِ، قَبْلَ أَنْ يُوقِعَ اللهُ بِكُمْ مِثْلَ وَقْعَةِ قُرَيْشٍ.
فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، لَا يَغُرّنّكَ مَنْ لَقِيت، إنّك قَهَرْت قَوْمًا أَغْمَارًا [ (1) ] . وَإِنّا وَاَللهِ أَصْحَابُ الْحَرْبِ، وَلَئِنْ قَاتَلْتنَا لَتَعْلَمَنّ أَنّك لَمْ تُقَاتِلْ مِثْلَنَا. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إظْهَارِ الْعَدَاوَةِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ، جَاءَتْ امْرَأَةٌ نَزِيعَةٌ [ (2) ] مِنْ الْعَرَبِ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَتْ عِنْدَ صَائِغٍ فِي حُلِيّ لَهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ مِنْ وَرَائِهَا وَلَا تَشْعُرُ، فَخَلّ [ (3) ] دِرْعَهَا إلَى ظَهْرِهَا بِشَوْكَةٍ، فَلَمّا قَامَتْ الْمَرْأَةُ بَدَتْ عورتها فضحكوا منها. فقام إليه
__________
[ (1) ] الأغمار: جمع غمر بالضم والتسكين وهو الجاهل. (النهاية، ج 3، ص 170) .
[ (2) ] فى الأصل: «ربعة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. والنزيعة: المرأة التي تزوج فى غير عشيرتها فتنقل. (القاموس المحيط، ج 3، ص 88) .
[ (3) ] فى ت: «فحل» . وخل: جمع بين طرفي الشيء. (النهاية، ج 1، ص 318) .(1/176)
رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاتّبَعَهُ فَقَتَلَهُ، فَاجْتَمَعَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَتَحَايَشُوا فَقَتَلُوا الرّجُلَ، وَنَبَذُوا الْعَهْدَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوا، وَتَحَصّنُوا فِي حِصْنِهِمْ، فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ، فَكَانُوا أَوّلَ مَنْ سَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أوّل بهود حَارَبَتْ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [ (1) ] ، فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
قَالُوا: فَحَصَرَهُمْ فِي حِصْنِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً أَشَدّ الْحِصَارِ حَتّى قَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ. قَالُوا: أَفَنَنْزِلُ وَنَنْطَلِقُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، إلّا عَلَى حُكْمِي! فَنَزَلُوا عَلَى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِمْ فَرُبِطُوا. قَالَ: فَكَانُوا يُكَتّفُونَ كِتَافًا. قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى كِتَافِهِمْ الْمُنْذِرَ بْنَ قُدَامَةَ السّالِمِيّ [ (2) ] . قَالَ: فَمَرّ بِهِمْ ابْنُ أُبَيّ وَقَالَ: حُلّوهُمْ! فَقَالَ الْمُنْذِرُ: أَتَحُلّونَ قَوْمًا رَبَطَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاَللهِ لَا يَحُلّهُمْ رَجُلٌ إلّا ضَرَبْت عُنُقَهُ. فَوَثَبَ ابْنُ أُبَيّ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَنْبِ دِرْعِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيّ! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضْبَانَ، مُتَغَيّرَ الْوَجْهِ، فَقَالَ: وَيْلَك، أَرْسِلْنِي! فَقَالَ: لَا أُرْسِلُك حَتّى تُحْسِنَ فى موالىّ، أربع مائة دارع وثلاثمائة حَاسِرٍ، مَنَعُونِي يَوْمَ الْحَدَائِقِ وَيَوْمَ بُعَاثٍ مِنْ الأحمر والأسود، تريد أن تحصدهم
__________
[ (1) ] سورة 8 الأنفال 58
[ (2) ] هكذا فى كل النسخ. وفى ابن سعد: «السلمى» ، وكذا فى البلاذري أيضا. (الطبقات، ج 2، ص 19) ، (أنساب الأشراف، ج 1، ص 309)(1/177)
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ يَا مُحَمّدُ، إنّي امْرُؤٌ أَخْشَى الدّوَائِرَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَلّوهُمْ، لَعَنَهُمْ اللهُ، وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ!
فَلَمّا تَكَلّمَ ابْنُ أُبَيّ فِيهِمْ تَرَكَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَتْلِ، وَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُجْلَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ ابْنُ أُبَيّ بِحُلَفَائِهِ مَعَهُ، وَقَدْ أَخَذُوا بِالْخُرُوجِ، يُرِيدُ أَنْ يُكَلّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرّهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، فَيَجِدُ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ، فَذَهَبَ لِيَدْخُلَ فَرَدّهُ عُوَيْمٌ وَقَالَ: لَا تَدْخُلْ حَتّى يُؤْذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك. فَدَفَعَهُ ابْنُ أُبَيّ، فَغَلُظَ عَلَيْهِ عُوَيْمٌ حَتّى جَحَشَ وَجْهَ ابْنِ أُبَيّ الْجِدَارُ فَسَالَ الدّمُ، فَتَصَايَحَ حَلْفَاؤُهُ مِنْ يَهُودَ، فَقَالُوا: أَبَا الْحُبَابِ، لَا نُقِيمُ أَبَدًا بِدَارٍ أَصَابَ وَجْهَك فِيهَا هَذَا، لَا نقدر أن نغيّر. فَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ يَصِيحُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ، يَقُولُ: وَيْحَكُمْ، قِرّوا! فَجَعَلُوا يَتَصَايَحُونَ: لَا نُقِيمُ أَبَدًا بِدَارٍ أَصَابَ وَجْهَك [فِيهَا] هَذَا، لَا نَسْتَطِيعُ لَهُ غَيْرًا! وَلَقَدْ كَانُوا أَشْجَعَ يَهُودَ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أُبَيّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَصّنُوا، وَزَعَمَ أَنّهُ سَيَدْخُلُ مَعَهُمْ، فَخَذَلَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ، وَلَزِمُوا حِصْنَهُمْ فَمَا رَمَوْا بِسَهْمٍ وَلَا قَاتَلُوا حَتّى نَزَلُوا عَلَى صُلْحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمِهِ، وَأَمْوَالُهُمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا نَزَلُوا وَفَتَحُوا حِصْنَهُمْ، كَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ هُوَ الّذِي أَجْلَاهُمْ وَقَبَضَ أَمْوَالَهُمْ. وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سِلَاحِهِمْ ثَلَاثَ قِسِيّ، قَوْسٌ تُدْعَى الْكَتُومَ كُسِرَتْ بِأُحُدٍ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الرّوْحَاءَ، وَقَوْسٌ تُدْعَى الْبَيْضَاءَ، وَأَخَذَ دِرْعَيْنِ مِنْ سِلَاحِهِمْ، دِرْعًا يُقَالُ لَهَا الصّغْدِيّةُ وَأُخْرَى فِضّةُ، وَثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ، سَيْفٌ قلعىّ [ (1) ] ، وسيف يقال له بتّار [ (2) ] ،
__________
[ (1) ] قال الجوهري: القلعة بالتحريك موضع بالبادية، والقلعي سيف منسوب إليه. (الصحاح، ص 1271) .
[ (2) ] فى ت: «بيار» .(1/178)
وَسَيْفٌ آخَرُ، وَثَلَاثَةَ أَرْمَاحٍ. قَالَ: وَوَجَدُوا فِي حُصُونِهِمْ سِلَاحًا كَثِيرًا وَآلَةً لِلصّيَاغَةِ، وَكَانُوا صَاغَةً.
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَوَهَبَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا مِنْ دُرُوعِهِمْ، وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ دِرْعًا لَهُ مَذْكُورَةً، يُقَالُ لَهَا السّحْلُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَرَضُونَ وَلَا قِرَابٌ-[يَعْنِي مَزَارِعَ] [ (1) ] . وَخَمّسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ مِنْهُمْ، وَقَسّمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ، فَجَعَلَتْ قَيْنُقَاعُ تَقُولُ:
يَا أَبَا الْوَلِيدِ، مِنْ بَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- وَنَحْنُ مَوَالِيك- فَعَلْت هَذَا بِنَا؟
قَالَ لَهُمْ عُبَادَةُ: لَمّا حَارَبْتُمْ جِئْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت:
يَا رَسُولَ اللهِ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِنْهُمْ وَمِنْ حِلْفِهِمْ. وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحِلْفِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ: تَبَرّأْت مِنْ حِلْفِ مَوَالِيك؟ مَا هَذِهِ بِيَدِهِمْ عِنْدَك [ (2) ] ! فَذَكّرَهُ مَوَاطِنَ قَدْ أَبْلَوْا فِيهَا، فَقَالَ عُبَادَةُ: أَبَا الْحُبَابِ، تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ وَمَحَا الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ، أَمَا وَاَللهِ إنّك لَمُعْصِمٌ بِأَمْرٍ سَتَرَى غِبّهُ غَدًا!
فَقَالَتْ قَيْنُقَاعُ: يَا مُحَمّدُ، إنّ لَنَا دَيْنًا فِي النّاسِ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجّلُوا وَضَعُوا!
وَأَخَذَهُمْ عُبَادَةُ بِالرّحِيلِ وَالْإِجْلَاءِ، وَطَلَبُوا التّنَفّسَ فَقَالَ لَهُمْ: وَلَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَكُمْ ثَلَاثٌ لَا أَزِيدُكُمْ عَلَيْهَا! هَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كُنْت أَنَا مَا نَفّسْتُكُمْ. فَلَمّا مَضَتْ ثَلَاثٌ خَرَجَ فِي آثَارِهِمْ حَتّى سَلَكُوا إلَى الشّامِ، وَهُوَ يَقُولُ: الشّرَفَ الْأَبْعَدَ، الْأَقْصَى، فَأَقْصَى! وَبَلَغَ خَلْفَ ذُبَابٍ، ثم
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (2) ] فى ب: «ما هذه بيد فيهم عنك» ، وفى ت: «ما هذه بيد عندك» ، وما أثبتناه هو قراءة ب.(1/179)
رَجَعَ وَلَحِقُوا بِأَذْرِعَاتٍ [ (1) ] . وَقَدْ سَمِعْنَا فِي إجْلَائِهِمْ حَيْثُ نَقَضُوا الْعَهْدَ غَيْرَ حَدِيثِ ابْنِ كَعْبٍ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ حَسَدُوا فَأَظْهَرُوا الْغِشّ، فنزل عليه جبرئيل عَلَيْهِ السّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [ (2) ] . قَالَ: فَلَمّا فَرَغَ جِبْرِيلُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنَا أَخَافُهُمْ.
فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَلِرَسُولِ اللهِ أَمْوَالُهُمْ، وَلَهُمْ الذّرّيّةُ وَالنّسَاءُ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إنّي لَبِالفَلْجَتَيْنِ [ (3) ] مُقْبِلٌ مِنْ الشّامِ، إذْ لَقِيت بَنِي قَيْنُقَاعَ يَحْمِلُونَ الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ، قَدْ حَمَلُوهُمْ عَلَى الْإِبِلِ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَسَأَلْتهمْ فَقَالُوا: أَجْلَانَا مُحَمّدٌ وَأَخَذَ أَمْوَالَنَا. قُلْت: فَأَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الشّامَ. قَالَ سَبْرَةُ:
فَلَمّا نَزَلُوا بِوَادِي الْقُرَى أَقَامُوا شَهْرًا، وَحَمَلْت يَهُودُ وَادِي الْقُرَى مَنْ كَانَ رَاجِلًا مِنْهُمْ، وَقَوّوْهُمْ، وَسَارُوا إلَى أَذْرِعَاتٍ فَكَانُوا بِهَا، فَمَا كَانَ أَقَلّ بَقَاءَهُمْ.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ المنذر على المدينة ثلاث مرّات: بدر القتال، وبنى قينقاع، وغزوة السّويق.
__________
[ (1) ] أذرعات: بلد فى أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان. (معجم البلدان، ج 1، ص 162) .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 58.
[ (3) ] الفلجة: من أودية العقيق كما ذكر السمهودي. (وفاء الوفا، ج 2، ص 356) .(1/180)
غَزْوَةُ السّوِيق
غَزْوَةُ السّوِيقِ فِي ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ، فَغَابَ خَمْسَةَ أَيّامٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ الزّهْرِيّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَا: لَمّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ إلَى مَكّةَ مِنْ بَدْرٍ حَرّمَ أَبُو سُفْيَانَ الدّهْنَ حَتّى يَثْأَرَ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ بِمَنْ أُصِيبَ مِنْ قَوْمِهِ فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ- فِي حَدِيثِ الزّهْرِيّ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ كَعْبٍ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا- حَتّى سَلَكُوا النّجْدِيّةَ. فَجَاءُوا بَنِي النّضير لَيْلًا، فَطَرَقُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ لِيَسْتَخْبِرُوهُ مِنْ أَخْبَارِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ، وَطَرَقُوا سَلّامَ بْنَ مِشْكَمٍ فَفَتَحَ لَهُمْ فَقَرَاهُمْ، وَسَقَى أَبَا سُفْيَانَ خَمْرًا، وَأَخْبَرَهُ مِنْ أَخْبَارِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَلَمّا كَانَ بِالسّحَرِ خَرَجَ فَمَرّ بِالْعُرَيْضِ [ (1) ] ، فَيَجِدُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَ أَجِيرٍ لَهُ فِي حَرْثِهِ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَجِيرَهُ، وَحَرّقَ بَيْتَيْنِ بِالْعُرَيْضِ وَحَرّقَ حَرْثًا لَهُمْ، وَرَأَى أَنّ يَمِينَهُ قَدْ حُلّتْ، ثُمّ ذَهَبَ هَارِبًا، وَخَافَ الطّلَبَ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ، وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يَتَخَفّفُونَ فَيُلْقُونَ جُرُبَ السّوِيقِ [ (2) ]- وَهِيَ عَامّةُ زَادِهِمْ- فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَمُرّونَ
__________
[ (1) ] العريض: واد بالمدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 344) .
[ (2) ] السويق: قمح أو شعير يقلى ثم يطحن فيتزود به ملتوتا بماء أو سمن أو عسل. (شرح على المواهب اللدنية، ج 1، ص 553) .(1/181)
بِهَا فَيَأْخُذُونَهَا، فَسُمّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ السّوِيقِ لِهَذَا الشّأْنِ، حَتّى انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ [أَبُو سُفْيَانَ] ، [ (1) ] فِي حَدِيثِ الزّهْرِيّ، هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
سَقَانِي فَرَوّانِي كُمَيْتًا مُدَامَةً [ (2) ] ... عَلَى ظَمَأٍ مِنّي سَلَامُ بْنُ مِشْكَمِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو يَجُودُ وَدَارُهُ ... بِيَثْرِبَ مَأْوَى كُلّ أَبْيَضَ خِضْرِمِ [ (3) ]
كَانَ الزّهْرِيّ يُكَنّيهِ أَبَا عَمْرٍو، وَالنّاسُ يُكَنّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: كَانَتْ فِي ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
غزوة قرارة الكدر [ (4) ]
إلى بنى سليم وَغَطَفَانَ لِلنّصْفِ مِنْ الْمُحَرّمِ، عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، غَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْمَدِينَةِ إلَى قَرَارَةَ الْكُدْرِ، وَكَانَ الّذِي هَاجَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ وَسُلَيْمٍ. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الطّرِيقَ حَتّى جَاءَ فَرَأَى آثَارَ النّعَمِ وَمَوَارِدَهَا، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْمَجَالِ أَحَدًا، فَأَرْسَلَ فِي أَعْلَى الْوَادِي نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَقْبَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الْوَادِي،
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت، ث.
[ (2) ] الكميت والمدامة من أسماء الحمر. (كتاب نظام الغريب، ص 59) .
[ (3) ] الخضرم: الجواد المعطاء. (القاموس المحيط، ج 4، ص 108) .
[ (4) ] ويقال قرقرة الكدر، وهي بناحية معدن بنى سليم قريب من الأخضية وراء سد معونة، وبين المعدن وبين المدينة ثمانية برد. (الطبقات، ج 2، ص 21) .(1/182)
فَوَجَدَ رِعَاءً فِيهِمْ غُلَامٌ يُقَال لَهُ يَسَارٌ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ النّاسِ فَقَالَ يَسَارٌ:
لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ، إنّمَا أُورَدُ [ (1) ] لِخَمْسٍ وَهَذَا يَوْمٌ رِبْعِيّ، وَالنّاسُ قَدْ ارْتَبَعُوا إلَى الْمِيَاهِ، وَإِنّمَا نَحْنُ عُزّابٌ [ (2) ] فِي النّعَمِ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ظَفِرَ بِنَعَمٍ، فَانْحَدَرَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى إذَا صَلّى الصّبْحَ فَإِذَا هُوَ بِيَسَارٍ فَرَآهُ يُصَلّي. فَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ يُقَسّمُوا غَنَائِمَهُمْ،
فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَقْوَى لَنَا أَنْ نَسُوقَ النّعَمَ جَمِيعًا، فَإِنّ فِينَا مَنْ يَضْعُفُ عَنْ حَظّهِ الّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَسِمُوا! فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كَانَ أَنْمَا بِك [ (3) ] الْعَبْدُ الّذِي رَأَيْته يُصَلّي، فَنَحْنُ نُعْطِيكَهُ فِي سَهْمِك. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد طِبْتُمْ بِهِ نَفْسًا؟
قَالُوا: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَقَهُ، وَارْتَحَلَ النّاسُ فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَاقْتَسَمُوا غَنَائِمَهُمْ فَأَصَابَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَبْعَةُ أَبْعِرَةٍ، وَكَانَ الْقَوْمُ مِائَتَيْنِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ السّعْدِيّ، عَنْ. حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَمّنْ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي أَرْوَى الدّوْسِيّ، قَالَ: كُنْت فِي السّرِيّةِ، وَكُنْت مِمّنْ يَسُوقُ النّعَمَ، فَلَمّا كُنّا بِصِرَار- عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ- خَمّسَ النّعَمَ، وَكَانَ النّعَمُ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ، فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ وَقَسّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَهُمْ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ.
حَدّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ أبى عفير، قال: استخلف رسول الله
__________
[ (1) ] فى ت: «ورد» .
[ (2) ] عزب الرجل بإبله إذا رعاها بعيدا من الدار التي حل بها الحي. (لسان العرب، ج 1، ص 597) .
[ (3) ] فى الأصل: «يا رسول الله إنما بك» ، وما أثبتناه عن ب، ت، ث.(1/183)
صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أُمّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ يُجَمّعُ بِهِمْ وَيَخْطُبُ إلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، يَجْعَلُ الْمِنْبَرَ عَنْ يَسَارِهِ [ (1) ]
قَتْلُ ابْنِ الْأَشْرَفِ
وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، وَمَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ، فَكَانَ الّذِي اجْتَمَعُوا لَنَا عَلَيْهِ قَالُوا: إنّ ابْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيُحَرّضُ عَلَيْهِمْ كُفّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ- مِنْهُمْ الْمُسْلِمُونَ الّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فِيهِمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَمِنْهُمْ حُلَفَاءُ لِلْحَيّيْنِ جَمِيعًا الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ كُلّهُمْ وَمُوَادَعَتَهُمْ، وَكَانَ الرّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكًا [ (2) ] . فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَمَرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ نَبِيّهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
__________
[ (1) ] فى الأصل وب: «يجعل المدينة» . وما أثبتناه عن ت، ث، وهو أقرب إلى السياق.
[ (2) ] فى ث: «وبالعكس» .(1/184)
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ (1) ] . وَفِيهِمْ أَنَزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... [ (2) ] الْآيَةَ.
فَلَمّا أَبَى ابْنُ الْأَشْرَفِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْ أَذَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُمْ، فَلَمّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ مِنْ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، فَرَأَى الْأَسْرَى مُقَرّنِينَ [ (3) ] ، كُبّتْ وَذَلّ، ثُمّ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَيْلَكُمْ، وَاَللهِ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا الْيَوْمَ! هَؤُلَاءِ سَرَاةُ النّاسِ قَدْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: عَدَاوَتُهُ مَا حَيِينَا.
قَالَ: وَمَا أَنْتُمْ وَقَدْ وَطِئَ قَوْمَهُ وَأَصَابَهُمْ؟ وَلَكِنّي أَخْرُجُ إلَى قُرَيْشٍ فَأَحُضّهُمْ وَأَبْكِي قَتْلَاهُمْ، فَلَعَلّهُمْ يَنْتَدِبُونَ فَأَخْرُجَ مَعَهُمْ. فَخَرَجَ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ وَوَضَعَ رَحْلَهُ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ، وَتَحْتَهُ عَاتِكَةُ بنت أسيد ابن أبى العيص، فجعل يرثى قريشا ويقول:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ [ (4) ]
قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِ ... لَا تَبْعَدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أذل بسخطهم [ (5) ] ... إن ابن أشرف ظل كعبا يَجْزَعُ
صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتّلُوا ... ظَلّتْ تَسِيخُ بِأَهْلِهَا [ (6) ] وَتُصَدّعُ
كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهَا مِنَ ابْيَضَ مَاجِدٍ ... ذِي بَهْجَةٍ يَأْوِي إلَيْهِ الضّيّع [ (7) ]
__________
[ (1) ] سورة 3 آل عمران 186.
[ (2) ] سورة 2 البقرة 109.
[ (3) ] قرن الشيء بالشيء: شده إليه، وقرنت الأسارى بالحبال شدد للكثرة. (لسان العرب، ج 13، ص 335) .
[ (4) ] فى ح: «يستهل ويدمع» .
[ (5) ] فى ح: «بعزهم» .
[ (6) ] ساخت الأرض بهم: انخسفت. (القاموس المحيط، ج 1، ص 262) .
[ (7) ] الضيع: جمع الضائع وهو الجائع. (لسان العرب، ج 8، ص 232) .(1/185)
طَلْقِ الْيَدَيْنِ إذَا الْكَوَاكِبُ أَخْلَفَتْ [ (1) ] ... حَمّالِ أَثْقَالٍ يَسُودُ وَيَرْبَعُ [ (2) ]
نُبّئْت أَنّ بَنِي الْمُغِيرَةِ كُلّهُمْ ... خَشَعُوا لِقَتْلِ أَبِي الْحَكِيمِ وَجُدّعُوا [ (3) ]
وَابْنَا رَبِيعَةَ عِنْدَهُ وَمُنَبّهٌ ... هَلْ نَالَ مِثْلَ الْمُهْلَكِينَ التّبّعُ
فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، يَقُولُ:
أَبَكَى لِكَعْبٍ [ (4) ] ثُمّ عُلّ بِعَبْرَةٍ ... مِنْهُ وَعَاشَ مُجَدّعًا لَا يَسْمَعُ
وَلَقَدْ رَأَيْت بِبَطْنِ بَدْرٍ مِنْهُمُ ... قَتْلَى تَسُحّ لَهَا الْعُيُونُ وَتَدْمَعُ
فَابْكِي فَقَدْ أَبْكَيْتِ عَبْدًا رَاضِعًا ... شِبْهَ الْكُلَيْبِ لِلْكُلَيْبَةِ يَتْبَعُ
وَلَقَدْ شَفَى الرّحْمَنُ مِنْهُمْ سَيّدًا ... وَأَحَانَ [ (5) ] قَوْمًا قَاتَلُوهُ وَصُرّعُوا
وَنَجَا وَأَفْلَتْ مِنْهُمْ مَنْ قَلْبُهُ ... شَغَفٌ [ (6) ] يَظَلّ لِخَوْفِهِ يَتَصَدّعُ
وَنَجَا وَأَفْلَتْ مِنْهُمْ مُتَسَرّعًا ... فَلّ فَلِيلٌ هَارِبٌ يَتَهَزّعُ
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حسّبان، فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ كَعْبٍ عَلَى مَنْ نَزَلَ، فَقَالَ حَسّانُ:
أَلَا أَبْلِغُوا [ (7) ] عَنّي أَسِيدًا رِسَالَةً ... فَخَالُك عبد بالسّراب مجرّب.
__________
[ (1) ] أخلفت الكواكب: أخلت فلم يكن فيها مطر. (القاموس المحيط، ج 3، ص 138) .
[ (2) ] يربع: يأخذ الربع، وكان رئيس القوم فى الجاهلية يأخذ الربع مما كانوا يغنمون. (شرح أبى ذر، ص 212) .
[ (3) ] فى الأصل: «وجزعوا» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 56) . وجدعوا: قطعت آنافهم، وأراد هنا ذهاب عزهم. (شرح أبى ذر، ص 212) .
[ (4) ] فى كل النسخ: «بكت عين كعب» ، والمثبت من ابن إسحاق. (ج 3، ص 56) .
وانظر الكلام عن وزن الأبيات السهيلي. (الروض الأنف ج 2، ص 123) .
[ (5) ] فى الأصل: «وأخان» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. وأحان: أهلك. (القاموس المحيط، ج 4، ص 218) .
[ (6) ] فى ب: «شعف» . قال أبو ذر: ومن رواه بالعين فمعناه محترق ملتهب، ومن رواه بالغين المعجمة فمعناه بلغ الحزن إلى شغاف قلبه، والشغاف حجاب القلب. (شرح أبى ذر، ص 213) .
[ (7) ] فى ب، ت، ث: «أبلغا» .(1/186)
لَعَمْرُك مَا أَوْفَى أَسِيدٌ بِجَارِهِ [ (1) ] ... وَلَا خَالِدٌ وَلَا الْمُفَاضَةُ [ (2) ] زَيْنَبُ
وَعَتّابُ عَبْدٌ غَيْرُ مُوفٍ بذمّة ... كذوب شؤون الرّأْسِ قِرْدٌ مُدَرّبُ
فَلَمّا بَلَغَهَا [ (3) ] هِجَاؤُهُ نَبَذَتْ رَحْلَهُ وَقَالَتْ: مَا لَنَا وَلِهَذَا الْيَهُودِيّ؟ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ بِنَا حَسّانُ؟ فَتَحَوّلَ، فَكُلّمَا تَحَوّلَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسّانَ فَقَالَ: ابْنُ الْأَشْرَفِ نَزَلَ عَلَى فُلَانٍ. فَلَا يَزَالُ يَهْجُوهُمْ حَتّى نُبِذَ رَحْلُهُ، فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مَأْوًى قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
فَلَمّا بَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدُومُ ابْنِ الْأَشْرَفِ قَالَ: اللهُمّ، اكْفِنِي ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْت فِي إعْلَانِهِ الشّرّ وَقَوْلِهِ الْأَشْعَارَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ، فَقَدْ آذَانِي؟ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَقْتُلُهُ. قَالَ: فَافْعَلْ! فَمَكَثَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَيّامًا لَا يَأْكُلُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، تَرَكْت الطّعَامَ وَالشّرَابَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْت لَك قَوْلًا فَلَا أَدْرِي أَفِي لَك بِهِ أَمْ لَا.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْك الْجَهْدُ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: شاور سعد بن معاذ فى أمره. فاجتمع محمّد بن مسلمة وَنَفَرٌ مِنْ الْأَوْسِ مِنْهُمْ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ أوس، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ نَقْتُلُهُ، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَقُلْ [ (4) ] ، فَإِنّهُ لَا بُدّ لَنَا مِنْهُ. قَالَ: قُولُوا
! فَخَرَجَ أَبُو نَائِلَةَ إلَيْهِ، فَلَمّا رَآهُ كَعْبٌ أَنْكَرَ شَأْنَهُ، وَكَادَ يُذْعَرُ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ كمين،
__________
[ (1) ] فى ت: «بجارة» .
[ (2) ] فى الأصل: «المعاضة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. والمفاضة من النساء الضخمة البطن.
(القاموس المحيط، ج 2، ص 341) .
[ (3) ] الضمير يرجع إلى عاتكة بنت أسيد.
[ (4) ] فى الأصل: «فلنقتله» ، وفى ت: «فليقل» . وما أثبتناه عن ب، ث.(1/187)
فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: حَدَثَتْ لَنَا حَاجَةٌ إلَيْك. قَالَ. وَهُوَ فِي نَادِي قَوْمِهِ وَجَمَاعَتِهِمْ:
اُدْنُ إلَيّ فَخَبّرْنِي بِحَاجَتِك. وَهُوَ مُتَغَيّرُ اللّوْنِ مَرْعُوبٌ- فكان أبو نائلة ومحمّد ابن مَسْلَمَةَ أَخَوَيْهِ مِنْ الرّضَاعَةِ- فَتَحَدّثَا سَاعَةً وَتَنَاشَدَا الْأَشْعَارَ، وَانْبَسَطَ كَعْبٌ وَهُوَ يَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: حَاجَتُك! وَأَبُو نَائِلَةَ يُنَاشِدُهُ الشّعْرَ- وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشّعْرَ- فَقَالَ كَعْبٌ: حَاجَتُك، لَعَلّك أَنْ تُحِبّ أَنْ يَقُومَ مَنْ عِنْدَنَا؟ فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ قَامُوا. قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: إنّي كَرِهْت أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْمُ ذَرْوَ [ (1) ] كَلَامِنَا، فَيَظُنّونَ! كَانَ قُدُومُ هَذَا الرّجُلِ عَلَيْنَا مِنْ الْبَلَاءِ، وَحَارَبَتْنَا الْعَرَبُ وَرَمَتْنَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَتَقَطّعَتْ السّبُلُ عَنّا حَتّى جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَضَاعَ الْعِيَالُ، أَخَذَنَا بِالصّدَقَةِ وَلَا نَجِدُ مَا نَأْكُلُ.
فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ وَاَللهِ كُنْت أُحَدّثُك بِهَذَا يَا ابْنَ سَلَامَةَ، أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: وَمَعِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ آتِيَك بِهِمْ فَنَبْتَاعَ مِنْك طَعَامًا أَوْ تَمْرًا وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ إلَيْنَا، وَنَرْهَنُك مَا يَكُونُ لَك فِيهِ ثِقَةٌ. قَالَ كَعْبٌ: أَمَا إنّ رِفَافِي تَقْصِفُ تَمْرًا، مِنْ عَجْوَةٍ تَغِيبُ فِيهَا الضّرْسُ، أَمَا وَاَللهِ مَا كُنْت أُحِبّ يَا أَبَا نائلة أن أرى هذه الخصاصة بك، وَإِنْ كُنْت مِنْ أَكْرَمِ النّاسِ عَلَيّ، أَنْتَ أَخِي، نَازَعْتُك الثّدْيَ! قَالَ سِلْكَانُ: اُكْتُمْ عَنّا مَا حَدّثْتُك مِنْ ذِكْرِ مُحَمّدٍ. قَالَ كَعْبٌ:
لَا أَذْكُرُ مِنْهُ حَرْفًا. ثُمّ قَالَ كَعْبٌ: يَا أَبَا نَائِلَةَ، اُصْدُقْنِي ذَاتَ نَفْسِك، مَا الّذِي تُرِيدُونَ فِي أَمْرِهِ؟ قَالَ: خِذْلَانَهُ وَالتّنَحّيَ عَنْهُ. قَالَ: سَرَرْتنِي يَا أَبَا نَائِلَةَ! فَمَاذَا تَرْهَنُونَنِي، أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ؟ فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تَفْضَحَنَا وَتُظْهِرَ أَمْرَنَا! وَلَكِنّا نَرْهَنُك مِنْ الْحَلْقَةِ مَا تَرْضَى بِهِ. قَالَ كَعْبٌ:
إنّ فِي الْحَلْقَةِ لَوَفَاءً. وَإِنّمَا يَقُولُ ذَلِكَ سِلْكَانُ لِئَلّا ينكرهم إذا جاءوا بالسلاح.
__________
[ (1) ] ذرو القول: طرفه. (أساس البلاغة، ص 297) .(1/188)
فَخَرَجَ أَبُو نَائِلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى مِيعَادٍ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ إذَا أَمْسَى لِمِيعَادِهِ.
ثُمّ أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءً فَأَخْبَرُوهُ، فَمَشَى مَعَهُمْ حَتّى أَتَى الْبَقِيعَ [ (1) ] ، ثُمّ وَجّهَهُمْ، ثُمّ قَالَ: امْضُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ وَعَوْنِهِ!
وَيُقَال: وَجّهَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَلّوْا الْعِشَاءَ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ مِثْلِ النّهَارِ، فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
قَالَ: فَمَضَوْا حَتّى أَتَوْا ابْنَ الْأَشْرَفِ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى حِصْنِهِ هَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْرَفِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَوَثَبَ فَأَخَذَتْ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَةِ مِلْحَفَتِهِ وَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إنّك رَجُلٌ مُحَارَبٌ، وَلَا يَنْزِلُ مِثْلُك فِي هَذِهِ السّاعَةِ. فَقَالَ: مِيعَادٌ، إنّمَا هُوَ أَخِي أَبُو نَائِلَةَ، وَاَللهِ لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا مَا أَيْقَظَنِي. ثُمّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْمِلْحَفَةَ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ. ثُمّ نَزَلَ إلَيْهِمْ فَحَيّاهُمْ، ثُمّ جَلَسُوا فَتَحَدّثُوا سَاعَةً حَتّى انْبَسَطَ إلَيْهِمْ، ثُمّ قَالُوا لَهُ: يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ، هَلْ لَك أَنْ تَتَمَشّى إلَى شَرْجِ الْعَجُوزِ [ (2) ] فَنَتَحَدّثَ فِيهِ بَقِيّةَ لَيْلَتِنَا؟ قَالَ: فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ حَتّى وَجّهُوا قِبَلَ الشّرْجِ، فَأَدْخَلَ أَبُو نَائِلَةَ يَدَهُ فِي رَأْسِ كَعْبٍ ثُمّ قَالَ: وَيْحَك، مَا أَطْيَبَ عِطْرِك هَذَا يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ! وَإِنّمَا كَانَ كَعْبٌ يَدّهِنُ بِالْمِسْكِ الْفَتِيتِ بِالْمَاءِ وَالْعَنْبَرِ حَتّى يَتَلَبّدَ فِي صُدْغَيْهِ، وَكَانَ جَعْدًا جَمِيلًا. ثُمّ مَشَى سَاعَةً فَعَادَ بِمِثْلِهَا حَتّى اطْمَأَنّ إلَيْهِ، وَسُلْسِلَتْ يَدَاهُ فِي شَعْرِهِ وَأَخَذَ بِقُرُونِ رَأْسِهِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
اُقْتُلُوا عَدُوّ اللهِ! فَضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَالْتَفّتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَرَدّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَصِقَ بِأَبِي نَائِلَةَ. قال محمّد بن مسلمة: فذكرت مغولا [ (3) ]
__________
[ (1) ] أى بقيع الغرقد، وهو مقبرة المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 265) .
[ (2) ] شرج العجوز: موضع قرب المدينة كما ذكر السمهودي. (وفاء الوفا، ج 2، ص 328) .
[ (3) ] المغول: حديدة دقيقة لها حد ماض. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 15) .(1/189)
مَعِي كَانَ فِي سَيْفِي فَانْتَزَعْته فَوَضَعْته فِي سُرّتِهِ، ثُمّ تَحَامَلْت عَلَيْهِ فَقَطَطْته حَتّى انْتَهَى إلَى عَانَتِهِ، فَصَاحَ عَدُوّ اللهِ صَيْحَةً مَا بَقِيَ أُطْمٌ مِنْ آطَامِ يَهُودَ إلّا قَدْ أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ. فَقَالَ ابْنُ سُنَيْنَةَ، يَهُودِيّ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَبَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ: إنّي لَأَجِدُ رِيحَ دَمٍ بِيَثْرِبَ مَسْفُوحٍ. وَقَدْ كَانَ أَصَابَ بَعْضُ الْقَوْمِ الْحَارِثَ بْنَ أَوْسٍ بِسَيْفِهِ وَهُمْ يَضْرِبُونَ كَعْبًا، فَكَلَمَهُ فِي رِجْلِهِ. فَلَمّا فَرَغُوا احْتَزّوا رَأْسَهُ ثُمّ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ، ثُمّ خَرَجُوا يَشْتَدّونَ وَهُمْ يَخَافُونَ مِنْ يَهُودَ الْأَرْصَادَ، حَتّى أَخَذُوا عَلَى بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ثُمّ عَلَى قُرَيْظَةَ، وَإِنّ نِيرَانَهُمْ فِي الْآطَامِ لَعَالِيَةٌ، ثُمّ عَلَى بُعَاثٍ [ (1) ] ، حَتّى إذَا كانوا بِحَرّةِ الْعُرَيْضِ نَزَفَ الْحَارِثُ الدّمَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فناداهم: أقرءوا رَسُولَ اللهِ مِنّي السّلَامَ! فَعَطَفُوا عَلَيْهِ فَاحْتَمَلُوهُ حَتّى أَتَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلمّا بلغوا بقيع الغرقد كَبّرُوا.
وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللّيْلَةَ يُصَلّي،
فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَهُمْ بِالْبَقِيعِ كَبّرَ وَعَرَفَ أَنْ قَدْ قَتَلُوهُ. ثُمّ انْتَهَوْا يَعْدُونَ حَتّى وَجَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَفْلَحَتْ الْوُجُوهُ!
فَقَالُوا: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! وَرَمَوْا بِرَأْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَى قَتْلِهِ. ثُمّ أَتَوْا بِصَاحِبِهِمْ الْحَارِثِ فَتَفَلَ فِي جُرْحِهِ فَلَمْ يُؤْذِهِ، فَقَالَ فِي ذَلِك عبّاد بن بشر:
صَرَخْت بِهِ فَلَمْ يَجْفِلْ [ (2) ] لِصَوْتِي ... وَأَوْفَى [ (3) ] طَالِعًا مِنْ فَوْقِ قَصْرِ
فَعُدْت فَقَالَ مَنْ هَذَا المنادى ... فقلت أخوك عبّاد بن بشر
__________
[ (1) ] قال السمهودي: بعاث من ضواحي المدينة، ويقال حصن، ويقال مزرعة عند بنى قريظة على ميلين من المدينة، ويقال موضع عند أعلى القرورا. (وفاء الوفا، ج 2، ص 262) .
[ (2) ] فى ت: «يحفل» . وجفل: أسرع. (الصحاح، ص 1657) .
[ (3) ] فى الأصل: «ووافى» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 374) .(1/190)
فَقَالَ مُحَمّدٌ أَسْرِعْ إلَيْنَا ... فَقَدْ جِئْنَا لِتَشْكُرَنَا [ (1) ] وَتَقْرِي
وَتَرْفِدَنَا فَقَدْ جِئْنَا سِغَابًا ... بِنِصْفِ الْوَسْقِ [ (2) ] مِنْ حَبّ وَتَمْرٍ
وَهَذِي دِرْعُنَا رَهْنًا فَخُذْهَا ... لِشَهْرٍ إنْ وَفّى أَوْ نِصْفِ شَهْرِ
فَقَالَ مَعَاشِرٌ سَغِبُوا وَجَاعُوا ... لَقَدْ عَدِمُوا الْغِنَى مِنْ غَيْرِ فَقْرِ
وَأَقْبَلَ نَحْوَنَا يَهْوِي سَرِيعًا ... وَقَالَ لَنَا لَقَدْ جِئْتُمْ لِأَمْرِ
وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ حِدَادٌ ... مُجَرّبَةٌ بِهَا الْكُفّارُ نَفْرِي
فَعَانَقَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْمُرَادِي [ (3) ] ... بِهِ الْكَفّانِ كَاللّيْثِ الْهِزَبْرِ
وَشَدّ بِسَيْفِهِ صَلْتًا عَلَيْهِ ... فَقَطّرَهُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرِ
وَصَلْت وَصَاحِبَايَ فَكَانَ لَمّا ... قَتَلْنَاهُ الْخَبِيثَ كَذِبْحِ عِتْرِ [ (4) ]
وَمَرّ بِرَأْسِهِ نَفَرٌ كِرَامٌ ... هُمُ نَاهُوك مِنْ صِدْقٍ وَبِرّ
وَكَانَ اللهُ سَادِسَنَا فَأُبْنَا ... بِأَفْضَلِ نِعْمَةٍ وَأَعَزّ نَصْرِ
قَالَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ: أَنَا رَأَيْت قَائِلَ هَذَا الشّعْرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ:
لَوْلَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ لَظَنَنْت أَنّهَا ثَبْتٌ.
قَالُوا: فَلَمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ اللّيْلَةِ الّتِي قُتِلَ فِيهَا ابْنُ الْأَشْرَفِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ.
فَخَافَتْ الْيَهُودُ فَلَمْ يَطْلُعْ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ وَلَمْ يَنْطِقُوا، وَخَافُوا أَنْ يُبَيّتُوا كَمَا بُيّتَ ابْنُ الْأَشْرَفِ.
وَكَانَ ابْنُ سُنَيْنَةَ مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لِحُوَيّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ،
__________
[ (1) ] على هامش ت: «تشكرنا: تمنحنا الشكر العطية» .
[ (2) ] الوسق: ستون صاعا، أو حمل بعير. (القاموس المحيط، ج 3، ص 289) .
[ (3) ] رادى الرجل عن قومه إذا ناضل عنهم. (أساس البلاغة، ص 335) .
[ (4) ] العتر: العتيرة، وهي شاة كانوا يذبحونها فى رجب لآلهتهم. (الصحاح، ص 736) .(1/191)
قَدْ أَسْلَمَ، فَعَدَا مُحَيّصَةُ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ حُوَيّصَةُ يَضْرِبُ مُحَيّصَةَ، وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ، يَقُولُ: أَيْ عَدُوّ اللهِ، أَقَتَلْته؟ أَمَا وَاَللهِ لَرُبّ شَحْمٍ فِي بَطْنِك مِنْ مَالِهِ! فَقَالَ مُحَيّصَةُ: وَاَللهِ، لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِك الّذِي أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُك. قَالَ: وَاَللهِ، لَوْ أَمَرَك محمّد أن تقتلني؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ حُوَيّصَةُ: وَاَللهِ، إنّ دِينًا يَبْلُغُ هَذَا لَدِينٌ مُعْجِبٌ. فَأَسْلَمَ حُوَيّصَةُ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ مُحَيّصَةُ- وَهِيَ ثَبْتٌ، لَمْ أَرَ أَحَدًا يَدْفَعُهَا- يَقُولُ:
يَلُومُ ابْنُ أُمّي لَوْ أُمِرْت بِقَتْلِهِ ... لَطَبّقْت ذِفْرَاهُ [ (1) ] بِأَبْيَضَ قَاضِبِ
حُسَامٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ ... مَتَى مَا تُصَوّبُهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ
وَمَا سَرّنِي أَنّي قَتَلْتُك طَائِعًا ... وَلَوْ أَنّ لِي مَا بَيْنَ بُصْرَى [ (2) ] وَمَأْرِبِ
فَفَزِعَتْ الْيَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ،
فَجَاءُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا: قَدْ طُرِقَ صَاحِبُنَا اللّيْلَةَ وَهُوَ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا قُتِلَ غِيلَةً بِلَا جُرْمٍ وَلَا حَدَثٍ عَلِمْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنّهُ لَوْ قَرّ كَمَا قَرّ غَيْرُهُ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ مَا اُغْتِيلَ، وَلَكِنّهُ نَالَ مِنّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشّعْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إلّا كَانَ لَهُ السّيْفُ [ (3) ] .
وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا تَحْتَ الْعِذْقِ فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. فَحَذِرَتْ الْيَهُودُ وَخَافَتْ وَذَلّتْ مِنْ يَوْمِ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ.
فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ ابْنُ يَامِينَ النّضْرِيّ: كيف كان قتل ابن الأشرف؟
__________
[ (1) ] لطبقت: معناه لقطعت. والذفرى: عظم ناتئ خلف الأذن. (شرح أبى ذر، ص 216) .
[ (2) ] فى الأصل: «رضوى» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 63) .
[ (3) ] فى ب، ت: «إلا كان السيف» .(1/192)
قَالَ ابْنُ يَامِينَ: كَانَ غَدْرًا. وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَالِسٌ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ:
يَا مَرْوَانُ، أَيَغْدِرُ [ (1) ] رَسُولُ اللهِ عِنْدَك؟ وَاَللهِ، مَا قَتَلْنَاهُ إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللهِ، لَا يُؤْوِينِي وَإِيّاكَ سَقْفُ بَيْتٍ إلّا الْمَسْجِدَ. وَأَمّا أَنْتَ يَا ابْنَ يَامِينَ، فَلِلّهِ عَلَيّ إنْ أَفْلَتّ، وَقَدَرْت [ (2) ] عَلَيْك وَفِي يَدِي سَيْفٌ إلّا ضَرَبْت بِهِ رَأْسَك! فَكَانَ ابْنُ يَامِينَ لَا يَنْزِلُ فِي بَنِي قُرَيْظَة حتى يبعث له رسول يَنْظُرُ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ضِيَاعِهِ نَزَلَ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمّ صَدَرَ، وَإِلّا لَمْ يَنْزِلْ. فَبَيْنَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي جِنَازَةٍ وَابْنُ يَامِينَ بِالْبَقِيعِ، فَرَأَى نَعْشًا عَلَيْهِ جَرَائِدُ رَطْبَةٌ لِامْرَأَةٍ، جَاءَ فَحَلّهُ. فَقَامَ النّاسُ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ، مَا تَصْنَعُ؟ نَحْنُ نَكْفِيك! فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهُ بِهَا جَرِيدَةً جَرِيدَةً حَتّى كَسَرَ تِلْكَ الْجَرَائِدَ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ حَتّى لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ مَصَحّا، ثُمّ أَرْسَلَهُ وَلَا طَبَاخَ [ (3) ] بِهِ، ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ، لَوْ قَدَرْت عَلَى السّيْفِ لَضَرَبْتُك بِهِ.
شَأْنُ غَزْوَةِ غَطَفَانَ بِذِي أَمَر [ (4) ]
وَكَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وعشرين شهرا. خرج رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ من ربيع، فغاب أحد عشر يوما.
__________
[ (1) ] فى ب: «أتغدر» .
[ (2) ] فى ب، ت: «ولا قدرت» .
[ (3) ] فى الأصل: «ولا طياح» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. والطباخ: القوة. (القاموس المحيط، ج 1، ص 264) .
[ (4) ] ذو أمر: واد بطريق فيد إلى المدينة على نحو ثلاث مراحل من المدينة بقرية النخيل. (وفاء الوفا، ج 2، ص 249) .(1/193)
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَتّابٍ، وَحَدّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ الضّحّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بن محمد بن أبي بكر، عن عبد اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَزَادَ بَعْضُهُمْ [عَلَى بَعْضٍ] [ (1) ] فِي الْحَدِيثِ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنَا أَيْضًا، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ ثَعْلَبَة وَمُحَارِبٍ بِذِي أَمَرّ، قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْ أَطْرَافِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جمعهم رجل منهم يقال له دعثور ابن الْحَارِثِ بْنِ مُحَارِبٍ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ وَخَمْسِينَ، وَمَعَهُمْ أَفْرَاسٌ، فَأَخَذَ عَلَى الْمُنَقّى [ (2) ] ، ثم سلك مضيق الخبيث [ (3) ] ، ثُمّ خَرَجَ إلَى ذِي الْقَصّةِ [ (4) ] ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ بِذِي الْقَصّةِ يُقَالُ لَهُ جَبّارٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَة، فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ:
أُرِيدُ يَثْرِبَ [ (5) ] . قَالُوا: وَمَا حَاجَتُك بِيَثْرِبَ؟ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَرْتَادَ لِنَفْسِي وَأَنْظُرَ. قَالُوا: هَلْ مَرَرْت بِجَمْعٍ، أَوْ بَلَغَك [خَبَرٌ] لِقَوْمِك؟ قَالَ: لَا، إلّا أَنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ دُعْثُورَ بْنَ الْحَارِثِ فِي أُنَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ عُزْلٌ. فَأَدْخَلُوهُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ:
يَا مُحَمّدُ، إنّهُمْ لَنْ يُلَاقُوك، إنْ سَمِعُوا [ (6) ] بِمَسِيرِك هَرَبُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأَنَا سَائِرٌ مَعَك وَدَالّك عَلَى عَوْرَتِهِمْ [ (7) ] . فَخَرَجَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَمّهُ إلَى بِلَالٍ، فَأَخَذَ بِهِ طَرِيقًا أَهْبَطَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَثِيبٍ [ (8) ] ، وَهَرَبَتْ مِنْهُ
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (2) ] المنقى: اسم للأرض التي بين أحد والمدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 379) .
[ (3) ] الخبيث: على بريد من المدينة. (معجم ما استعجم، ص 306) .
[ (4) ] ذو القصة: موضع على بريد من المدينة تلقاء نجد. (وفاء الوفا، ج 2، ص 362) .
[ (5) ] فى ب، ت، ث: «أردت يثرب» .
[ (6) ] فى ب، ت: «لو يسمعوا» .
[ (7) ] فى ث: «عوراتهم» .
[ (8) ] فى ب، ت، ث: «من كثب» .(1/194)
الْأَعْرَابُ فَوْقَ الْجِبَالِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَدْ غيّبوا سرحهم فى ذرى الجبال وذراريّهم، فَلَمْ يُلَاقِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا، إلّا أَنّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا أَمَرّ وَعَسْكَرَ مُعَسْكَرَهُمْ [ (1) ] فَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ كَثِيرٌ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَطَرُ فَبَلّ ثَوْبَهُ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ ذِي أَمَرّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ. ثُمّ نَزَعَ ثِيَابَهُ فَنَشَرَهَا لِتَجِفّ، وَأَلْقَاهَا عَلَى شَجَرَةٍ ثُمّ اضْطَجَعَ تَحْتَهَا [ (2) ] وَالْأَعْرَابُ يَنْظُرُونَ إلَى كُلّ مَا يَفْعَلُ، فَقَالَتْ الْأَعْرَابُ لِدُعْثُور، وكان سيّدها وأشجعها: قد أمكنت مُحَمّدٌ، وَقَدْ انْفَرَدَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَيْثُ إنْ غَوّثَ بِأَصْحَابِهِ لَمْ يُغَثْ حَتّى تَقْتُلَهُ. فَاخْتَارَ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِهِمْ صَارِمًا،
ثُمّ أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ حَتّى قَامَ عَلَى رَأْسِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّيْفِ مَشْهُورًا، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مَنْ يَمْنَعُك مِنّي الْيَوْمَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُ! قَالَ: وَدَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صَدْرِهِ وَوَقَعَ السّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ بِهِ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُك مِنّي الْيَوْمَ؟ قَالَ: لَا أَحَدَ. قَالَ:
فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَاَللهِ، لَا أُكْثِرُ عَلَيْك جَمْعًا أَبَدًا! فَأَعْطَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، ثُمّ أَدْبَرَ، ثُمّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ لِأَنْتَ خَيْرٌ مِنّي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَحَقّ بِذَلِكَ مِنْك.
فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا: أَيْنَ مَا كُنْت تَقُولُ وَقَدْ أَمْكَنَك وَالسّيْفُ فِي يَدِك؟ قَالَ: وَاَللهِ، كَانَ ذَلِكَ وَلَكِنّي نَظَرْت إلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ، دَفَعَ فِي صَدْرِي فَوَقَعْت لِظَهْرِي، فعرفت أنه ملك وشهدت
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «معسكره» .
[ (2) ] فى ت: «بجنبها» .(1/195)
أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَاَللهِ لَا أُكْثِرُ عَلَيْهِ! وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [ (1) ] الْآيَةَ. وَكَانَتْ غَيْبَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَاسْتَخْلَفَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ [ (2) ] بِنَاحِيَةِ الْفُرْعِ
لِلَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى [ (3) ] ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا، غَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا.
حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: لَمّا بَلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بنى سليم كثيرا [ (4) ] ببحران، تَهَيّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ وَلَمْ يُظْهِرْ وَجْهًا، فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَغَذّوا [ (5) ] السّيْرَ حَتّى إذَا كَانُوا دُونَ بُحْرَانَ بِلَيْلَةٍ، لَقِيَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَاسْتَخْبَرُوهُ عَنْ الْقَوْمِ وَعَنْ جَمْعِهِمْ. فَأَخْبَرَهُ أَنّهُمْ قَدْ افْتَرَقُوا أَمْسِ وَرَجَعُوا إلَى مَائِهِمْ [ (6) ] ، فَأَمَرَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُبِسَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ، ثُمّ سَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى ورد بحران، وليس به أحد، وأقام
__________
[ (1) ] سورة 5 المائدة 11.
[ (2) ] فى الأصل: «بنجران» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وفى كل حديث الغزوة «بحران» .
[ (3) ] فى ب: «جمادى الآخرة» .
[ (4) ] فى ت: «كبيرا» .
[ (5) ] أغذ السير: أسرع. (القاموس المحيط، ج 1، ص 356) .
[ (6) ] فى ت: «ماء بهم» .(1/196)
أَيّامًا ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّجُلَ.
وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَشْرَ لَيَالٍ.
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نُوحٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.
شَأْنُ سَرِيّةِ الْقَرَدَةِ [ (1) ]
فِيهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهِيَ أَوّلُ سَرِيّةٍ خَرَجَ فِيهَا زَيْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمِيرًا، وَخَرَجَ لِهِلَالِ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَهْلِهِ، قَالُوا: كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ حَذِرَتْ طَرِيقَ الشّامِ أَنْ يَسْلُكُوهَا، وَخَافُوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَكَانُوا قَوْمًا تُجّارًا، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: إنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ عَوّرُوا عَلَيْنَا مَتْجَرَنَا، فَمَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَصْحَابِهِ، لَا يَبْرَحُونَ السّاحِلَ، وَأَهْلُ السّاحِلِ قَدْ وَادَعَهُمْ وَدَخَلَ عَامّتُهُمْ مَعَهُ، فَمَا نَدْرِي أَيْنَ نَسْلُك، وَإِنْ أَقَمْنَا نَأْكُلُ رُءُوسَ أَمْوَالِنَا وَنَحْنُ فِي دَارِنَا هَذِهِ، مَا لَنَا بِهَا نِفَاقٌ [ (2) ] ، إنّمَا نَزَلْنَاهَا عَلَى التّجَارَةِ، إلَى الشّامِ فِي الصّيْفِ وَفِي الشّتَاءِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ. قَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ: فَنَكّبْ [ (3) ] عَنْ السّاحِلِ، وَخُذْ طَرِيقَ الْعِرَاقِ. قَالَ صَفْوَانُ: لَسْت بِهَا عَارِفًا. قَالَ أَبُو زَمْعَةَ: فَأَنَا أَدُلّك عَلَى أَخْبَرِ [ (4) ] دَلِيلٍ بِهَا يَسْلُكُهَا وَهُوَ مُغْمَضُ الْعَيْنِ إنْ شَاءَ الله. قال:
__________
[ (1) ] القردة: من أرض نجد بين الربذة والغمرة، ناحية ذات عرق. (طبقات ابن سعد، ج 2، ص 24) .
[ (2) ] فى ب، ت: «ما لنا بها بقاء» . والنفاق: جمع النفقة. (القاموس المحيط، ج 3، ص 286) .
[ (3) ] فى الأصل: «فنكف عن» ، وما أثبتناه عن ب، ت.
[ (4) ] فى ت: «أجير» .(1/197)
مَنْ هُوَ؟ قَالَ: فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ الْعِجْلِيّ. قَدْ دَوّخَهَا وَسَلَكَهَا. قَالَ صَفْوَانُ:
فَذَلِكَ وَاَللهِ! فَأَرْسَلَ إلَى فُرَاتٍ. فَجَاءَهُ فَقَالَ: إنّي أُرِيدُ الشّامَ وَقَدْ عَوّرَ عَلَيْنَا مُحَمّدٌ مَتْجَرَنَا لِأَنّ طَرِيقَ عِيرَاتِنَا عَلَيْهِ. فَأَرَدْت طَرِيقَ الْعِرَاقِ. قَالَ فُرَاتٌ: فَأَنَا أَسْلُكُ بِك فِي طَرِيقِ الْعِرَاقِ. ليس يطأها أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ- إنّمَا هِيَ أَرْضُ نَجْدٍ وَفَيَافٍ. قَالَ صَفْوَانُ: فَهَذِهِ حَاجَتِي، أَمّا الْفَيَافِي فَنَحْنُ شَاتُونَ وَحَاجَتُنَا إلَى الْمَاءِ الْيَوْمَ قَلِيلٌ. فَتَجَهّزَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ أَبُو زَمْعَةَ بِثَلَاثِمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَنُقَرِ [ (1) ] فِضّةٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ بِبَضَائِعَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ بِمَالٍ كَثِيرٍ- نُقَرِ فِضّةٍ وَآنِيَةِ فِضّةٍ وَزْنِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَخَرَجُوا عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ [ (2) ] .
وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَنَزَلَ عَلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فِي بَنِي النّضِيرِ فَشَرِبَ مَعَهُ، وَشَرِبَ مَعَهُ سَلِيطُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ أَسْلَمَ- وَلَمْ تُحَرّمْ الْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ- وَهُوَ يَأْتِي بَنِي النّضِيرِ وَيُصِيبُ مِنْ شَرَابِهِمْ. فَذَكَرَ نُعَيْمٌ خُرُوجَ صَفْوَانَ فِي عِيرِهِ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حَارِثَةَ فِي مِائَةِ رَاكِبٍ، فَاعْتَرَضُوا لَهَا فَأَصَابُوا الْعِيرَ. وَأَفْلَتْ أَعْيَانُ الْقَوْمِ وَأَسَرُوا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ، وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَمّسَهَا، فَكَانَ الْخُمُسُ يَوْمَئِذٍ قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَسَمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَهْلِ السّرِيّةِ. وَكَانَ فِي الْأَسْرَى فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ، فَأُتِيَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَسْلِمْ، إنْ تُسْلِمْ نَتْرُكْكَ مِنْ الْقَتْلِ، فَأَسْلَمَ فَتَرَكَهُ مِنْ القتل.
__________
[ (1) ] النقرة: القطعة المذابة من الذهب والفضة. (القاموس المحيط، ج 2، ص 147) .
[ (2) ] ذات عرق: مهل أهل العراق، وهو الحد بين نجد وتهامة. (معجم البلدان، ج 6، ص 154) .(1/198)
غَزْوَةُ أُحُدٍ
يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا.
وَاسْتَخْلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ قَالَ:
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، وَمُعَاذُ ابن مُحَمّدٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزّنَادِ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، فِي رِجَالٍ لَمْ أُسَمّ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وقد جمعت كلّ الذي دّثونى، قالوا:
لمّا رجع من حضر بدرا من الْمُشْرِكِينَ إلَى مَكّةَ، وَالْعِيرُ الّتِي قَدِمَ بِهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مِنْ الشّامِ مَوْقُوفَةٌ فِي دَارِ النّدْوَةِ- وَكَذَلِك كَانُوا يَصْنَعُونَ- فَلَمْ يُحَرّكْهَا أَبُو سُفْيَانَ وَلَمْ يُفَرّقْهَا لِغَيْبَةِ أَهْلِ العير، مشت أشراف قريش إلى أبو سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وعبد الله ابن أَبِي رَبِيعَةَ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى، وَحُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ، فَقَالُوا:
يَا أَبَا سُفْيَانَ، اُنْظُرْ هَذِهِ الْعِيرَ الّتِي قَدِمْت بِهَا فَاحْتَبَسْتهَا [ (1) ] ، فَقَدْ عَرَفْت أَنّهَا أَمْوَالُ أَهْلِ مَكّةَ وَلَطِيمَةُ قريش، وهم طيّبو الأنفس، يجهّزون بهذه
__________
[ (1) ] فى ت: «فاحتبسها» .(1/199)
الْعِيرِ جَيْشًا [ (1) ] إلَى مُحَمّدٍ، وَقَدْ تَرَى مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِنَا، وَأَبْنَائِنَا، وَعَشَائِرِنَا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَقَدْ طَابَتْ أَنْفُسُ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَا أَوّلُ مَنْ أَجَابَ إلَى ذَلِكَ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَعِي، فَأَنَا وَاَللهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ، قَدْ قُتِلَ ابْنِي حَنْظَلَةُ بِبَدْرٍ وَأَشْرَافُ قَوْمِي. فَلَمْ تَزَلْ الْعِيرُ مَوْقُوفَةً حَتّى تَجَهّزُوا لِلْخُرُوجِ إلَى أُحُدٍ، فَبَاعُوهَا وَصَارَتْ ذَهَبًا عَيْنًا، فَوُقِفَ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ.
وَيُقَالُ إنّمَا قَالُوا: يَا أَبَا سُفْيَانَ، بِعْ الْعِيرَ ثُمّ اعْزِلْ أَرْبَاحَهَا. وَكَانَتْ الْعِيرُ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَ الْمَالُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانُوا يَرْبَحُونَ فِي تِجَارَتِهِمْ.
لِلدّينَارِ دِينَارًا، وَكَانَ مَتْجَرُهُمْ مِنْ الشّامِ غَزّةَ، لَا يَعْدُونَهَا إلَى غَيْرِهَا. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ حَبَسَ عِيرَ زُهْرَةَ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا مِنْ طَرِيقِ بَدْرٍ، وَسَلّمَ مَا كَانَ لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَلِبَنِي أَبِيهِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، فَأَبَى مَخْرَمَةُ أَنْ يَقْبَلَ عِيرَهُ حَتّى يُسَلّمَ إلَى بَنِي زُهْرَةَ جَمِيعًا. وَتَكَلّمَ الْأَخْنَسُ فَقَالَ: مَا لِعِيرِ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ بَيْنِ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لِأَنّهُمْ رَجَعُوا عَنْ قُرَيْشٍ.
قَالَ الْأَخْنَسُ: أَنْتَ أَرْسَلْت إلَى قُرَيْشٍ أَنْ ارْجِعُوا فَقَدْ أَحْرَزْنَا الْعِيرَ، لَا تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ شَيْءٍ، فَرَجَعْنَا. فَأَخَذَتْ زُهْرَةُ عِيرَهَا، وَأَخَذَ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ- أَهْلُ ضَعْفٍ، لَا عَشَائِرَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ- كُلّ مَا كَانَ لَهُمْ فِي الْعِيرِ. فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّمَا أَخْرَجَ الْقَوْمُ أَرْبَاحَ الْعِيرِ. وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ (2) ] الْآيَةَ.
فَلَمّا أَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ قَالُوا: نَسِيرُ فِي الْعَرَبِ فَنَسْتَنْصِرُهُمْ فَإِنّ عَبْدَ مَنَاةَ غَيْرُ مُتَخَلّفِينَ عَنّا، هُمْ أَوْصَلُ العرب لأرحامنا، ومن اتّبعنا من الأحابيش [ (3) ] .
__________
[ (1) ] فى ب، ت، ح: «جيشا كثيفا» .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 36.
[ (3) ] فى الأصل: «من الأجانيس» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وهو الصواب.(1/200)
فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ يَسِيرُونَ فِي الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلَى نَصْرِهِمْ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ، وَابْنَ الزّبَعْرَى، وَأَبَا عَزّةَ الْجُمَحِيّ، فَأَطَاعَ النّفَرُ وَأَبَى أَبُو عَزّةَ أَنْ يَسِيرَ، وَقَالَ: مَنّ عَلَيّ مُحَمّدٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي، وَحَلَفْت لَا أُظَاهِرُ عَلَيْهِ عَدُوّا أَبَدًا. فَمَشَى إلَيْهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فَقَالَ: اُخْرُجْ! فأبى فقال: عاهدت محمّدا يوم بدر لَا أُظَاهِرُ عَلَيْهِ عَدُوّا أَبَدًا، وَأَنَا أَفِي [ (1) ] لَهُ بِمَا عَاهَدْته عَلَيْهِ، مَنّ عَلَيّ وَلَمْ يَمُنّ عَلَى غَيْرِي حَتّى قَتَلَهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ الْفِدَاءَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اُخْرُجْ مَعَنَا، فَإِنْ تُسْلِمْ أُعْطِك مِنْ الْمَالِ مَا شِئْت، وَإِنْ تُقْتَلْ كَانَ عِيَالُك مَعَ عِيَالِي.
فَأَبَى أَبُو عَزّةَ حَتّى كَانَ الْغَدُ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ آيِسًا مِنْهُ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ صَفْوَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ الْكَلَامَ الْأَوّلَ فَأَبَى، فَقَالَ جُبَيْرٌ: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّي أَعِيشُ حَتّى يَمْشِي إلَيْك أَبُو وَهْبٍ فِي أَمْرٍ تَأْبَى عَلَيْهِ! فَأَحْفَظُهُ، فَقَالَ: فَأَنَا أَخْرُجُ! قَالَ: فَخَرَجَ فِي الْعَرَبِ يَجْمَعُهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا [ (2) ] بَنِي عَبْدِ مناة الرّزّام [ (3) ] ... أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ
لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلّ إِسْلَامْ ... لَا تَعِدُونِي [ (4) ] نَصْرَكُمْ بَعْدَ الْعَامْ
قَالَ: وَخَرَجَ مَعَهُ النّفَرُ فَأَلّبُوا الْعَرَبَ وَجَمَعُوهَا، وَبَلَغُوا ثَقِيفًا فَأَوْعَبُوا [ (5) ] .
فَلَمّا أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ وَتَأَلّبَ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَحَضَرُوا، اخْتَلَفَتْ قريش
__________
[ (1) ] فى ت: «أو فى له» .
[ (2) ] فى ح: «ايه» .
[ (3) ] الرزام: جمع رازم وهو الذي يثبت فى مكانه لا يبرحه. يريد أنهم يثبتون فى الحرب ولا ينهزمون. (شرح أبى ذر، ص 216) .
[ (4) ] فى ح: «لا يعدوني» .
[ (5) ] فى ح: «فأرغبوا» . وأوعبوا: جمعوا. (القاموس المحيط، ج 1، ص 137) .(1/201)
فِي إخْرَاجِ الظّعُنِ [ (1) ] مَعَهُمْ.
فَحَدّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ نِسْطَاسٍ، قَالَ:
قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: اُخْرُجُوا بِالظّعُنِ، فَأَنَا أَوّلُ مَنْ فَعَلَ، فَإِنّهُ أَقْمَنُ أَنْ يُحْفِظْنَكُمْ وَيُذَكّرْنَكُمْ قَتْلَى بَدْرٍ، فَإِنّ الْعَهْدَ حَدِيثٌ وَنَحْنُ قَوْمٌ مُسْتَمِيتُونَ لَا نُرِيدُ أَنْ نَرْجِعَ إلَى دَارِنَا حَتّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا أَوْ نَمُوتَ دُونَهُ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ: أَنَا أَوّلُ مَنْ أَجَابَ إلَى مَا دَعَوْت إلَيْهِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمَشَى فِي ذَلِكَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا لَيْسَ بِرَأْيٍ، أَنْ تُعَرّضُوا حُرَمَكُمْ عَدُوّكُمْ، وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدّائِرَةُ [ (2) ] لَهُمْ، فَتَفْتَضِحُوا فِي نِسَائِكُمْ. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: لَا كَانَ غَيْرُ هَذَا أَبَدًا! فَجَاءَ نَوْفَلٌ إلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فَصَاحَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ: إنّك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلَى نِسَائِك، نَعَمْ، نَخْرُجُ فَنَشْهَدُ الْقِتَالَ، فَقَدْ رُدّتْ الْقِيَانُ مِنْ الْجُحْفَةِ فِي سَفَرِهِمْ إلَى بَدْرٍ فَقُتِلَتْ الْأَحِبّةُ يَوْمَئِذٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَسْت أُخَالِفُ قُرَيْشًا، أَنَا رَجُلٌ مِنْهَا، مَا فَعَلَتْ فَعَلْت. فَخَرَجُوا بِالظّعُنِ.
قَالُوا: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِامْرَأَتَيْنِ- هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَأُمَيْمَةَ [ (3) ] بِنْتِ سَعْدِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَشْيَمَ بْنِ كِنَانَةَ. وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بِامْرَأَتَيْنِ، بَرْزَةَ بِنْتِ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَفْوَانَ الْأَصْغَرِ.
وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بِامْرَأَتِهِ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، وَهِيَ مِنْ الْأَوْسِ، وَهِيَ أُمّ بَنِي طلحة، أمّ مسافع، والحارث، وكلاب، وجلاس،
__________
[ (1) ] الظعن: هنا النساء، وأصل الظعن الهوادج فسميت النساء بها. (شرح أبى ذر، ص 217) .
[ (2) ] فى ب، ت، ح: «الدبرة» .
[ (3) ] فى ب: «آمنة» .(1/202)
بَنِي طَلْحَةَ. وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ بِامْرَأَتِهِ أُمّ جُهَيْمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ بِامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِامْرَأَتِهِ هِنْدِ بِنْتِ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ الْمُضَرّبِ مَعَ ابْنِهَا أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيّ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بِامْرَأَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ طَارِقِ بْنِ عَلْقَمَةَ. وَخَرَجَ كِنَانَةُ بن علىّ بن ربيعة ابن عَبْدِ الْعُزّى بِامْرَأَتِهِ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتِ طَارِقٍ. وَخَرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ بِامْرَأَتِهِ قَتِيلَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ هِلَالٍ. وَخَرَجَ النّعْمَانُ وَجَابِرٌ ابْنَا مَسْكِ الذّئْبِ بِأُمّهِمَا الدّغُنّيّةِ. وَخَرَجَ غُرَابُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ بِامْرَأَتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَهِيَ الّتِي رَفَعَتْ لِوَاءَ قُرَيْشٍ حِينَ سَقَطَ.
حَتّى تَرَاجَعَتْ قُرَيْشٌ إلَى لِوَائِهَا. قَالُوا: وَخَرَجَ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ بِعَشَرَةٍ مِنْ وَلَدِهِ، وَحَشَدَتْ بَنُو كِنَانَةَ. وَكَانَتْ الْأَلْوِيَةُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مَكّةَ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ عَقَدُوهَا فِي دَارِ النّدْوَةِ- لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ، وَلِوَاءٌ فِي الْأَحَابِيشِ [ (1) ] يَحْمِلُهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلِوَاءٌ يَحْمِلُهُ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَيُقَالُ:
خَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَلَفّهَا عَلَى لِوَاءٍ وَاحِدٍ يَحْمِلُهُ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ بِمَنْ ضَوَى [ (2) ] إلَيْهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ ثَقِيفٍ مِائَةُ رَجُلٍ، وَخَرَجُوا بِعُدّةٍ وَسِلَاحٍ كَثِيرٍ، وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دَارِعٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ. فَلَمّا أَجْمَعُوا الْمَسِيرَ كَتَبَ الْعَبّاسُ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أجانيس» ، وفى ت: «الأجايش» . وما أثبتناه عن ب، ح.
[ (2) ] فى ت: «ضموا إليها» . وضوى: انضم. (القاموس المحيط، ج 4، ص 355) .(1/203)
ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ كِتَابًا وَخَتَمَهُ، وَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخْبِرَهُ أَنْ قُرَيْشًا قَدْ أَجْمَعَتْ الْمَسِيرَ [ (1) ] إلَيْك فَمَا كُنْت صَانِعًا إذَا حَلّوا بِك فَاصْنَعْهُ. وَقَدْ تَوَجّهُوا إلَيْك [ (2) ] ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَادُوا مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَفِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دَارِعٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ، وَأَوْعَبُوا مِنْ السّلَاحِ.
فَقَدِمَ الْغِفَارِيّ فَلَمْ يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وَوَجَدَهُ بِقُبَاءَ [ (3) ] ، فَخَرَجَ حَتّى يَجِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ قُبَاءَ يَرْكَبُ حِمَارَهُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَاسْتَكْتَمَ أُبَيّا مَا فِيهِ، فَدَخَلَ مَنْزِلَ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ فَقَالَ: فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: لَا، فَتَكَلّمْ بِحَاجَتِك. فَأَخْبَرَهُ بِكِتَابِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ، وَقَدْ أَرْجَفَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا:
مَا جَاءَ مُحَمّدًا شَيْءٌ يُحِبّهُ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَكْتَمَ سَعْدًا الْخَبَرَ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ إليه فقال: مَا قَالَ لَك رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ: مَا لَك وَلِذَلِكَ، لَا أُمّ لَك؟ قَالَتْ: قَدْ كُنْت أَسْمَعُ عَلَيْك. وَأَخْبَرَتْ سَعْدًا الْخَبَرَ، فَاسْتَرْجَعَ سَعْدٌ وَقَالَ: لَا أَرَاك تَسْتَمِعِينَ عَلَيْنَا وَأَنَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلّمْ بِحَاجَتِك! ثُمّ أَخَذَ يَجْمَعُ لَبّتَهَا [ (4) ] ، ثُمّ خَرَجَ يَعْدُو بِهَا حَتّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِسْرِ [ (5) ] وَقَدْ بَلَحَتْ [ (6) ] ، فقال: يا رسول
__________
[ (1) ] فى ح: «قد اجتمعت للمسير» .
[ (2) ] فى ب، ت، ح: «وقد وجهوا» .
[ (3) ] قباء: قرية بعوالي المدينة أو متصلة بالمدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 357) .
[ (4) ] هكذا فى الأصل. وفى ب: «لببها» ، وفى ت: «لمتها» ، وفى ح: «بجمع ملتها» .
[ (5) ] لعله يريد جسر بطحان، وهو عند أعلى بطحان بناحية الموضع المعروف بزقاق البيض.
(وفاء الوفا، ج 2، ص 281) .
[ (6) ] بلحت: انقطعت من الإعياء فلم تقدر أن تتحرك. (النهاية، ج 1، ص 92) .(1/204)
اللهِ، إنّ امْرَأَتِي سَأَلَتْنِي عَمّا قُلْت، فَكَتَمْتهَا فَقَالَتْ قَدْ سَمِعْت قَوْلَ رَسُولِ اللهِ! فَجَاءَتْ بِالْحَدِيثِ كُلّهِ، فَخَشِيت يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَتَظُنّ أَنّي أَفْشَيْت سِرّك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَلّ سَبِيلَهَا.
وَشَاعَ الْخَبَرُ فِي النّاسِ بِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، وَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، سَارُوا مِنْ مَكّةَ أَرْبَعًا، فَوَافَوْا قُرَيْشًا وَقَدْ عَسْكَرُوا بِذِي طُوًى، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، ثُمّ انْصَرَفُوا فَوَجَدُوا قُرَيْشًا بِبَطْنِ رَابِغٍ فَنَكّبُوا عَنْ قُرَيْشٍ- وَرَابِغٌ عَلَى لَيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمَةَ الْأَسْلَمِيّ، قَالَ: لَمّا أَصْبَحَ أَبُو سفيان بالأبواء أخبر أنّ عمرو ابن سَالِمٍ وَأَصْحَابَهُ رَاحُوا أَمْسِ مُمْسِينَ إلَى مَكّةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحْلِفُ بِاَللهِ أَنّهُمْ جَاءُوا مُحَمّدًا فَخَبّرُوهُ بِمَسِيرِنَا، وَحَذّرُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِعَدَدِنَا، فَهُمْ الْآنَ يَلْزَمُونَ صَيَاصِيَهُمْ، فَمَا أَرَانَا نُصِيبُ مِنْهُمْ شَيْئًا فِي وَجْهِنَا. فَقَالَ صَفْوَانُ:
إنْ لَمْ يَصْحَرُوا [ (1) ] لَنَا عَمَدْنَا إلَى نَخْلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطَعْنَاهُ، فَتَرَكْنَاهُمْ وَلَا أَمْوَالَ لَهُمْ فَلَا يَجْتَبِرُونَهَا [ (2) ] أَبَدًا، وَإِنْ أَصْحَرُوا لَنَا فَعَدَدُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَسِلَاحُنَا أَكْثَرُ مِنْ سِلَاحِهِمْ، وَلَنَا خَيْلٌ وَلَا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نُقَاتِلُ عَلَى وِتْرٍ عِنْدَهُمْ وَلَا وِتْرَ لَهُمْ عِنْدَنَا.
وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ قَدْ خَرَجَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ أَوْسِ [ (3) ] اللهِ حَتّى قَدِمَ بِهِمْ مَكّةَ حِينَ قَدِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَقَامَ مَعَ قُرَيْشٍ وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ فَقَالَ لَهُمْ: إنّ مُحَمّدًا ظَاهِرٌ فَاخْرُجُوا بِنَا إلى قوم نوازرهم.
__________
[ (1) ] أصحر الرجل: أى خرج إلى الصحراء. (الصحاح، ص 708) .
[ (2) ] فى ح: «فلا يختارونها» . واجتبره: أحسن إليه. (القاموس المحيط، ج 1، ص 384) .
[ (3) ] فى ح: «من الأوس» .(1/205)
فَخَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ يُحَرّضُهَا وَيُعْلِمُهَا أَنّهَا عَلَى الْحَقّ، وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ بَاطِلٌ، فَسَارَتْ قُرَيْشٌ إلَى بَدْرٍ وَلَمْ يَسِرْ مَعَهَا، فَلَمّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إلَى أُحُدٍ سَارَ مَعَهَا، وَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: إنّي لَوْ قَدِمْت عَلَى قَوْمِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، وَهَؤُلَاءِ مَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا. فَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ وَطَمِعُوا بِنَصْرِهِ.
وَخَرَجَ النّسَاءُ مَعَهُنّ الدّفوف، يحرّضن الرجال ويذكّرنهم قتلى بدر فى كُلّ مَنْزِلٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ يَنْزِلُونَ كُلّ مَنْهَلٍ، يَنْحَرُونَ مَا نَحَرُوا مِنْ الْجُزُرِ مِمّا كَانُوا جَمَعُوا [ (1) ] مِنْ الْعِيرِ وَيَتَقَوّوْنَ بِهِ فِي مَسِيرِهِمْ، وَيَأْكُلُونَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ مِمّا جَمَعُوا مِنْ الْأَمْوَالِ. وكانت قريش لَمّا مَرّتْ بِالْأَبْوَاءِ قَالَتْ: إنّكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ بِالظّعُنِ مَعَكُمْ، وَنَحْنُ نَخَافُ عَلَى نِسَائِنَا. فَتَعَالَوْا نَنْبُشُ قَبْرَ أُمّ مُحَمّدٍ، فَإِنّ النّسَاءَ عَوْرَةٌ، فَإِنْ يُصِبْ مِنْ نِسَائِكُمْ أَحَدًا قُلْتُمْ هَذِهِ رِمّةُ أُمّك، فَإِنْ كَانَ بَرّا بِأُمّهِ كَمَا يَزْعُمُ، فَلَعَمْرِي لَيُفَادِيَنّكُمْ بِرِمّةِ أُمّهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِأَحَدٍ مِنْ نِسَائِكُمْ، فَلَعَمْرِي لَيَفْدِيَن رِمّةَ أُمّهِ بِمَالٍ كَثِيرٍ إنْ كَانَ بِهَا بَرّا.
وَاسْتَشَارَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَهْلَ الرّأْيِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا:
لَا تَذْكُرْ مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَلَوْ فَعَلْنَا نَبَشَتْ بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةُ مَوْتَانَا.
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، صَبِيحَةَ عَشْرٍ مِنْ مَخْرَجِهِمْ مِنْ مَكّةَ، لِخَمْسِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَمَعَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ وَمِائَتَا فَرَسٍ. فَلَمّا أَصْبَحُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ خَرَجَ فُرْسَانٌ فَأَنْزَلَهُمْ [ (2) ] بِالْوِطَاءِ. وَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنَيْنِ لَهُ، أَنَسًا وَمُؤْنِسًا ابْنَيْ فَضَالَةَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، فَاعْتَرَضَا لِقُرَيْشٍ بِالْعَقِيقِ، فسارا معهم حتى نزلوا
__________
[ (1) ] فى ت: «مما جمعوا من العير» .
[ (2) ] أى فأنزلهم أبو سفيان.(1/206)
بِالْوِطَاءِ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ ازْدَرَعُوا الْعِرْضَ- وَالْعِرْضُ مَا بَيْنَ الْوِطَاءِ بِأُحُدٍ إلَى الْجُرُفِ، إلَى الْعَرْصَةِ، عَرْصَةِ الْبَقْلِ الْيَوْمَ- وَكَانَ أَهْلُهُ بَنُو سَلَمَةَ، وَحَارِثَةَ، وَظَفَرٍ، وَعَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكَانَ الْمَاءُ يَوْمَئِذٍ بِالْجُرُفِ أَنْشَاطًا [ (1) ] ، لَا يَرِيمُ سَائِقُ النّاضِحِ [ (2) ] مَجْلِسًا وَاحِدًا، يَنْفَتِلُ [ (3) ] الْجَمَلُ فِي سَاعَةٍ [ (4) ] ، حتى ذهب بِمِيَاهِهِ عُيُونُ الْغَابَةِ الّتِي حَفَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَكَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا آلَةَ زَرْعِهِمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الْمَدِينَةَ فَقَدِمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى زَرْعِهِمْ وَخَلّوْا فِيهِ إبِلَهُمْ وَخُيُولَهُمْ- وَقَدْ شَرِبَ الزّرْعُ فِي الدّقِيقِ [ (5) ] ، وَكَانَ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي الْعِرْضِ عِشْرُونَ نَاضِحًا يَسْقِي شَعِيرًا- وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ حَذِرُوا عَلَى جِمَالِهِمْ وَعُمّالِهِمْ وَآلَةِ حَرْثِهِمْ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْعَوْنَ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَتّى أَمْسَوْا، فَلَمّا أَمْسَوْا جَمَعُوا الْإِبِلَ وَقَصَلُوا [ (6) ] عَلَيْهَا الْقَصِيلَ، وَقَصَلُوا عَلَى خُيُولِهِمْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمّا أَصْبَحُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلّوْا ظَهْرَهُمْ فِي الزّرْعِ وَخَيْلَهُمْ حَتّى تَرَكُوا الْعِرْضَ لَيْسَ بِهِ خَضْرَاءُ.
فَلَمّا نَزَلُوا وَحَلّوا الْعَقْدَ وَاطْمَأَنّوا، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ إلَى الْقَوْمِ، فَدَخَلَ فِيهِمْ وَحَزَرَ ونظر إلى جمع مَا يُرِيدُ، وَبَعَثَهُ سِرّا وَقَالَ لِلْحُبَابِ: لَا تخبرني بين أحد من المسلمين
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بسطه» ، وفى سائر النسخ: «نشطة» ، ولعل الصواب ما أثبتناه. وبئر أنشاط: قريبة القعر، يخرج دلوها بجذبة. (مقاييس اللغة، ج 5، ص 426) .
[ (2) ] فى ت: «لم تر ثم سابق الناضح مجلسا واحدا» . ولا يريم: لا يبرح. (مقاييس اللغة، ج 2، ص 470) .
[ (3) ] انفتل: انصرف. (الصحاح، ص 1788)
[ (4) ] فى ح: «فى ساعته» .
[ (5) ] فى ت: «وقد شرب الزرع فى الدفيف» .
[ (6) ] قصلوا على الدواب: علفوها القصيل، وهو ما اقتصل من الزرع أحضر. (القاموس المحيط، ج 4، ص 37) .(1/207)
إلّا أَنْ تَرَى قِلّةً [ (1) ] . فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ خَالِيًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْت؟ قَالَ: رَأَيْت يَا رَسُولَ اللهِ عَدَدًا، حَزْرَتُهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَرَأَيْت دُرُوعًا ظَاهِرَةً، حَزَرْتهَا سَبْعمِائَةٍ دِرْعٍ. قَالَ: هَلْ رَأَيْت ظُعُنًا؟ قَالَ: رَأَيْت النّسَاءَ مَعَهُنّ الدّفَافُ وَالْأَكْبَارُ- الْأَكْبَارُ يَعْنِي الطّبُولَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَدْنَ أَنْ يُحَرّضْنَ الْقَوْمَ وَيُذَكّرْنَهُمْ قَتْلَى بَدْرٍ، هَكَذَا جَاءَنِي خَبَرُهُمْ، لَا تَذْكُرْ مِنْ شَأْنِهِمْ حَرْفًا، حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللهُمّ بِك أَجُولُ وَبِك أَصُولُ.
وَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتّى إذَا كَانَ بِأَدْنَى الْعِرْضِ إذَا طَلِيعَةُ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَةُ أَفْرَاسٍ، فَرَكَضُوا فِي أَثَرِهِ فَوَقَفَ لَهُمْ عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْحَرّةِ، فَرَاشَقَهُمْ بِالنّبْلِ مَرّةً وَبِالْحِجَارَةِ مَرّةً حَتّى انْكَشَفُوا عَنْهُ. فَلَمّا وَلّوْا جَاءَ إلَى مَزْرَعَتِهِ بِأَدْنَى الْعِرْضِ، فَاسْتَخْرَجَ سَيْفًا كَانَ لَهُ وَدِرْعَ حَدِيدٍ كَانَا دُفِنَا فِي نَاحِيَةِ الْمَزْرَعَةِ، فَخَرَجَ بِهِمَا يَعْدُو حَتّى أَتَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَخَبّرَ قَوْمَهُ بِمَا لَقِيَ مِنْهُمْ. وَكَانَ مَقْدَمُهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، وَكَانَتْ الْوَقْعَةُ يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ.
وَبَاتَتْ وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ: سَعْدُ بْنُ معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، فِي عِدّةٍ، لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، عَلَيْهِمْ السّلَاحُ، فِي الْمَسْجِدِ بِبَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا مِنْ بَيَاتِ [ (2) ] الْمُشْرِكِينَ، وَحَرَسَتْ الْمَدِينَةَ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى أَصْبَحُوا. وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع المسلمون خطب [ (3) ] .
__________
[ (1) ] فى ح: «إلا أن ترى فى القوم قلة» .
[ (2) ] فى ح: «من تبييت» .
[ (3) ] فى ح: «خطبهم» .(1/208)
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر بن قتادة، عن محمود ابن لَبِيدٍ، قَالَ: ظَهَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّي رَأَيْت فِي مَنَامِي رُؤْيَا، رَأَيْت كَأَنّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَرَأَيْت كَأَنّ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ انْقَصَمَ [ (1) ] مِنْ عِنْدِ ظُبَتِهِ [ (2) ] ، وَرَأَيْت بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْت كَأَنّي مُرْدِفٌ كَبْشًا. فَقَالَ النّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا أَوّلْتهَا؟ قَالَ: أَمّا الدّرْعُ الْحَصِينَةُ فَالْمَدِينَةُ، فَامْكُثُوا فِيهَا، وَأَمّا انْقِصَامُ [ (3) ] سَيْفِي مِنْ عِنْدِ ظُبَتِهِ فَمُصِيبَةٌ فِي نَفْسِي، وَأَمّا الْبَقَرُ الْمُذَبّحُ.
فَقَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَأَمّا مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَكَبْشُ الْكَتِيبَةِ نَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللهُ
وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ:
قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَمّا انْقِصَامُ [ (3) ] سَيْفِي، فَقَتْلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عن الزّهرىّ، عن عروة، عن المسور ابن مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَأَيْت فِي سَيْفِي فَلّا فَكَرِهْته، فَهُوَ الّذِي أَصَابَ وَجْهَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا عَلَيّ!
وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا يَخْرُجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لِهَذِهِ الرّؤْيَا، فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ أَنْ يُوَافَقَ عَلَى مِثْلِ مَا رَأَى وَعَلَى [ (4) ] مَا عَبّرَ عَلَيْهِ الرّؤْيَا. فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنّا نقاتل فى الجاهليّة فيها، ونجعل
__________
[ (1) ] فى ح: «انفصم» . وانقصم: تكسر. (الصحاح، ص 2013) .
[ (2) ] ظبة السيف: طرفه. (لسان العرب، ج 1، ص 568) .
[ (3) ] فى ح: «انفصام» .
[ (4) ] فى ت: «وعلى مثل ما عبر» .(1/209)
النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ فِي هَذِهِ الصّيَاصِي، وَنَجْعَلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ. وَاَللهِ، لَرُبّمَا مَكَثَ الْوِلْدَانُ شَهْرًا يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ إعْدَادًا لِعَدُوّنَا، وَنَشْبِكُ الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ فَتَكُونُ كَالْحِصْنِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَتَرْمِي الْمَرْأَةُ وَالصّبِيّ مِنْ فَوْقِ الصّيَاصِي وَالْآطَامِ، وَنُقَاتِلُ بِأَسْيَافِنَا فِي السّكَكِ. يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ مَدِينَتَنَا عَذْرَاءُ مَا فُضّتْ عَلَيْنَا قَطّ، وَمَا خَرَجْنَا إلَى عَدُوّ قَطّ إلّا أَصَابَ مِنّا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا قَطّ إلّا أَصَبْنَاهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنّهُمْ إنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ [ (1) ] ، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. يَا رَسُولَ اللهِ، أَطِعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ وَاعْلَمْ أَنّي وَرِثْت هَذَا الرّأْيَ مِنْ أَكَابِرِ قَوْمِي وَأَهْلِ الرّأْيِ مِنْهُمْ، فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَالتّجْرِبَةِ.
وَكَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ رَأْيِ ابْنِ أُبَيّ، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم:
امكثوا فِي الْمَدِينَةِ، وَاجْعَلُوا النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِي الْأَزِقّةِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ، وَارْمُوا مِنْ فَوْقِ الصّيَاصِي وَالْآطَامِ.
فَكَانُوا قَدْ شَبّكُوا الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ فَهِيَ كَالْحِصْنِ. فَقَالَ فِتْيَانٌ أَحْدَاثٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، وَطَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ إلَى عَدُوّهِمْ، وَرَغِبُوا فِي الشّهَادَةِ، وَأَحَبّوا لِقَاءَ الْعَدُوّ: اُخْرُجْ بِنَا إلَى عَدُوّنَا! وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ السّنّ وَأَهْلِ النّيّةِ [ (2) ] ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فِي غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ:
إنّا نَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظُنّ عَدُوّنَا أَنّا كَرِهْنَا الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ جُبْنًا عَنْ لِقَائِهِمْ، فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً [ (3) ] مِنْهُمْ عَلَيْنَا، وَقَدْ كنت يوم بدر فى ثلاثمائة
__________
[ (1) ] فى ت: «مغلولين» ، وفى ح: «خاسرين مغلوبين» .
[ (2) ] فى ح: «النبه» .
[ (3) ] فى ت: «أجرة» .(1/210)
رَجُلٍ فَظَفّرَك اللهُ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ بَشَرٌ كثير، وقد كُنّا نَتَمَنّى هَذَا الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللهَ بِهِ، فَقَدْ سَاقَهُ اللهُ إلَيْنَا فِي سَاحَتِنَا. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَرَى مِنْ إلْحَاحِهِمْ كَارِهٌ، وَقَدْ لَبِسُوا السّلَاحَ يَخْطِرُونَ بِسُيُوفِهِمْ، يَتَسَامَوْنَ [ (1) ] كَأَنّهُمْ الْفُحُولُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: يَا رَسُولَ الله، نحن والله بين إحدى الحسنين- إمّا يُظَفّرُنَا اللهُ بِهِمْ فَهَذَا الّذِي نُرِيدُ، فَيُذِلّهُمْ اللهُ لَنَا فَتَكُونُ هَذِهِ وَقْعَةً مَعَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَا يَبْقَى [ (2) ] مِنْهُمْ إلّا الشّرِيدُ، وَالْأُخْرَى يَا رَسُولَ اللهِ، يَرْزُقُنَا اللهُ الشّهَادَةَ، وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أُبَالِي [ (3) ] أَيّهُمَا كَانَ، إنّ كُلّا لَفِيهِ الْخَيْرُ! فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إلَيْهِ قَوْلًا، وَسَكَتَ. فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَاَلّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ، لَا أَطْعَمُ الْيَوْمَ طَعَامًا حَتّى أُجَالِدَهُمْ بِسَيْفِي خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ يُقَالُ كَانَ حَمْزَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَائِمًا، وَيَوْمَ السّبْتِ صَائِمًا، فَلَاقَاهُمْ وَهُوَ صَائِمٌ.
قَالُوا: وَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَشْهَدُ أَنّ الْبَقَرَ الْمُذَبّحَ قَتْلَى مِنْ أَصْحَابِك وَأَنّي مِنْهُمْ، فَلِمَ تَحْرِمُنَا الجنّة؟ فو الذي لَا إلَهَ إلّا هُوَ لَأَدْخُلَنهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بِمَ؟ قَالَ: إنّي أُحِبّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا أَفِرّ يَوْمَ الزّحْفِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت!
فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذ. وَقَالَ إيَاسُ [ (4) ] بْنُ أوس ابن عَتِيكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ بَنُو عَبْدِ الأشهل من البقر المذبّح، نرجو
__________
[ (1) ] يتسامون: يتبارون. (القاموس المحيط، ج 4، ص 344) .
[ (2) ] فى ت: «فلا نبقى» .
[ (3) ] فى ح: «نبالى» .
[ (4) ] فى الأصل: «أناس» ، والتصحيح عن سائر النسخ، وعن ابن الأثير. (أسد الغابة، ج 1، ص 153) .(1/211)
يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نُذَبّحَ فِي الْقَوْمِ وَيُذَبّحَ فِينَا، فَنَصِيرُ إلَى الْجَنّةِ وَيَصِيرُونَ إلَى النّارِ، مَعَ أَنّي يَا رَسُولَ اللهِ لَا أُحِبّ أَنْ تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلَى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ:
حَصَرْنَا مُحَمّدًا فِي صَيَاصِي يَثْرِبَ وَآطَامِهَا! فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةً [ (1) ] لِقُرَيْشٍ، وَقَدْ وَطِئُوا سَعَفَنَا فَإِذَا لَمْ نَذُبّ عَنْ عِرْضِنَا لَمْ نَزْرَعْ [ (2) ] ، وَقَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللهِ فِي جَاهِلِيّتِنَا وَالْعَرَبُ يَأْتُونَنَا، وَلَا يَطْمَعُونَ بِهَذَا مِنّا حَتّى نَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا حَتّى نَذُبّهُمْ عَنّا، فَنَحْنُ الْيَوْمَ أَحَقّ إذْ أَيّدَنَا [ (3) ] اللهُ بِك، وَعَرَفْنَا مَصِيرَنَا، لَا نَحْصُرُ أَنْفُسَنَا فِي بُيُوتِنَا. وَقَامَ خَيْثَمَةُ أَبُو سَعْدِ بْنُ خَيْثَمَةَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ قُرَيْشًا مَكَثَتْ حَوْلًا تَجْمَعُ الْجُمُوعَ وَتَسْتَجْلِبُ الْعَرَبَ فِي بَوَادِيهَا وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَحَابِيشِهَا، ثُمّ جَاءُونَا قَدْ قَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا [ (4) ] الْإِبِلَ حَتّى نَزَلُوا بِسَاحَتِنَا فَيَحْصُرُونَنَا فِي بُيُوتِنَا وَصَيَاصِيِنَا، ثُمّ يَرْجِعُونَ وَافِرِينَ لَمْ يُكْلَمُوا، فَيُجَرّئُهُمْ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَتّى يَشُنّوا الْغَارَاتِ عَلَيْنَا، وَيُصِيبُوا أَطْرَافَنَا [ (5) ] ، وَيَضَعُوا الْعُيُونَ وَالْأَرْصَادَ عَلَيْنَا، مَعَ مَا قَدْ صَنَعُوا بِحُرُوثِنَا، وَيَجْتَرِئُ عَلَيْنَا الْعَرَبُ حَوْلَنَا حَتّى يَطْمَعُوا فِينَا إذَا رَأَوْنَا لَمْ نَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَنَذُبّهُمْ عَنْ جِوَارِنَا [ (6) ] وَعَسَى اللهُ أَنْ يُظَفّرَنَا بِهِمْ فَتِلْكَ عَادَةُ اللهِ عِنْدَنَا، أَوْ تَكُونَ الْأُخْرَى فَهِيَ الشّهَادَةُ. لَقَدْ أَخْطَأَتْنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقَدْ كُنْت عَلَيْهَا حَرِيصًا، لَقَدْ بَلَغَ مِنْ حِرْصِي أَنْ سَاهَمْت ابْنِي فِي الْخُرُوجِ فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ الشّهَادَةَ، وَقَدْ كُنْت حَرِيصًا عَلَى الشّهَادَةِ. وَقَدْ رَأَيْت ابْنِي الْبَارِحَةَ فِي النّوْمِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، يَسْرَحُ فِي ثِمَارِ الْجَنّةِ وَأَنْهَارِهَا وَهُوَ يَقُولُ: الْحَقْ بِنَا تُرَافِقْنَا فى الجنّة،
__________
[ (1) ] فى ت: «أجرة» .
[ (2) ] فى ت: «لم يزرع» ، وفى ح. «لم ندرع» .
[ (3) ] فى ح: «أمدنا» .
[ (4) ] فى ح: «واعتلوا» .
[ (5) ] فى ح: «فى أطلالنا» .
[ (6) ] فى ح: «حريمنا» .(1/212)
فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا! وَقَدْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْت مُشْتَاقًا إلَى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنّةِ، وَقَدْ كَبِرَتْ سِنّي، وَرَقّ [ (1) ] عَظْمِي، وَأَحْبَبْت لِقَاءَ رَبّي، فَادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقَنِي الشّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍ فِي الْجَنّةِ.
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا.
وَقَالُوا: قَالَ أَنَسُ بْنُ قَتَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إمّا الشّهَادَةُ وَإِمّا الْغَنِيمَةُ وَالظّفْرُ فِي قَتْلِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْهَزِيمَةَ.
قَالُوا: فَلَمّا أَبَوْا إلّا الْخُرُوجَ [ (2) ] صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ بِالنّاسِ، ثُمّ وَعَظَ النّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالْجِهَادِ [ (3) ] ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ لَهُمْ النّصْرَ مَا صَبَرُوا. فَفَرِحَ النّاسُ بِذَلِكَ حَيْثُ أَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشّخُوصِ إلَى عَدُوّهِمْ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْمَخْرَجَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتّهَيّؤِ لِعَدُوّهِمْ. ثُمّ صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بِالنّاسِ، وَقَدْ حَشَدَ النّاسُ وَحَضَرَ أَهْلُ الْعَوَالِي، وَرَفَعُوا النّسَاءَ فِي الْآطَامِ، فَحَضَرَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلِفّهَا وَالنّبِيتُ [وَلِفّهَا] [ (4) ] وَتَلَبّسُوا السّلَاحَ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، وَدَخَلَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَعَمّمَاهُ وَلَبِسَاهُ، وَصَفّ النّاسُ لَهُ مَا بَيْنَ حُجْرَتِهِ إلَى مِنْبَرِهِ، يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، فَجَاءَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَا: قُلْتُمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُلْتُمْ، وَاسْتَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَالْأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ السّمَاءِ، فردّوا الأمر إليه، فما أمركم
__________
[ (1) ] فى الأصل وح: «ودق» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] فى ح: «إلا الخروج والجهاد» .
[ (3) ] فى ح: «الاجتهاد» .
[ (4) ] الزيادة عن ب، ت.(1/213)
فافعلوه وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ هَوًى أَوْ رَأْيٌ فَأَطِيعُوهُ. فَبَيْنَا الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَقُولُ: الْقَوْلُ مَا قَالَ سَعْدٌ! وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْبَصِيرَةِ عَلَى الشّخُوصِ، وَبَعْضُهُمْ لِلْخُرُوجِ كَارِهٌ، إذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَقَدْ لَبِسَ الدّرْعَ فَأَظْهَرَهَا، وَحَزَمَ وَسَطَهَا بِمِنْطَقَةٍ مِنْ حَمَائِلِ سَيْفٍ مِنْ أَدَمٍ، كَانَتْ عِنْدَ آلِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ، وَاعْتَمّ، وَتَقَلّدَ السّيْفَ. فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدِمُوا جَمِيعًا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَقَالَ الّذِينَ يُلِحّونَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُلِحّ عَلَى رَسُولِ اللهِ فِي أَمْرٍ يَهْوَى خِلَافَهُ.
وَنَدّمَهُمْ أَهْلُ الرّأْيِ الّذِينَ كَانُوا يُشِيرُونَ بِالْمُقَامِ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَك فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك، [وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَسْتَكْرِهَك وَالْأَمْرُ إلَى اللهِ ثُمّ إلَيْك] [ (1) ] . فَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.
وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إذَا لَبِسَ النّبِيّ لَأْمَتَهُ لَمْ يَضَعْهَا حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتّبِعُوهُ، امْضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ فَلَكُمْ النّصْرُ مَا صَبَرْتُمْ.
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو النّجّارِيّ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ ثُمّ خَرَجَ- وَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ- صَلّى عَلَيْهِ، ثُمّ دَعَا بِدَابّتِهِ فَرَكِبَ إلَى أُحُدٍ.
حَدّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لَهُ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ وَهُوَ مُوَجّهٌ إلَى أُحُدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّهُ قِيلَ لى إنك تقتل غدا! وهو يتنفّس
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب، ت، ح.(1/214)
مَكْرُوبًا، فَضَرَبَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أَلَيْسَ الدّهْرُ كُلّهُ غَدًا؟
ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَرْمَاحٍ، فَعَقَدَ ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ، فَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ- وَيُقَالُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ- وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَيُقَالُ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. ثُمّ دَعَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَأَخَذَ [ (1) ] النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْسَ وَأَخَذَ قَنَاةً بِيَدِهِ- زُجّ الرّمْحِ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَبَهٍ [ (2) ]- وَالْمُسْلِمُونَ مُتَلَبّسُونَ السّلَاحَ قَدْ أَظْهَرُوا الدّرُوعَ، فِيهِمْ مِائَةُ دَارِعٍ. فَلَمّا رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ السّعْدَانِ أَمَامَهُ يَعْدُوَانِ- سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ- كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارِعٌ، وَالنّاسُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتّى سَلَكَ عَلَى الْبَدَائِعِ [ (3) ] ، ثُمّ زُقَاقِ الْحِسْيِ [ (4) ] ، حَتّى أَتَى الشّيْخَيْنِ [ (5) ]- وَهُمَا أُطُمَانِ كَانَا فِي الْجَاهِلِيّةِ فِيهِمَا شَيْخٌ أَعْمَى وَعَجُوزٌ عَمْيَاءُ يَتَحَدّثَانِ، فَسُمّيَ الْأُطُمَانِ الشّيْخَيْنِ- حَتّى انْتَهَى إلَى رَأْسِ الثّنِيّةِ، الْتَفَتَ فَنَظَرَ إلَى كَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ لَهَا زَجَلٌ [ (6) ] خَلْفَهُ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَؤُلَاءِ حُلَفَاءُ ابْنِ أُبَيّ مِنْ يَهُودَ.
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يستنصر [ (7) ] بأهل الشرك على
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل، وفى سائر النسخ: «وتقلد القوس» .
[ (2) ] الشبه: ضرب من النحاس. (الصحاح، ص 2236) .
[ (3) ] البدائع: موضع من ديار خثعم. (معجم ما استعجم، ص 244) .
[ (4) ] الحسى: ببطن الرمة. (معجم ما استعجم، ص 247) .
[ (5) ] الشيخان: موضع بين المدينة وجبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد. (وفاء الوفا، ج 2، ص 333) .
[ (6) ] الزجل: الصوت الرفيع العالي. (النهاية، ج 2، ص 122) .
[ (7) ] فى ح: «لا نستنصر» .(1/215)
أَهْلِ الشّرْكِ.
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَتَى الشّيْخَيْنِ فَعَسْكَرَ بِهِ. وَعُرِضَ عَلَيْهِ غِلْمَانٌ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَعَرَابَةُ [ (1) ] بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَرَدّهُمْ. قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ:
يَا رَسُولَ اللهِ إنّهُ رَامٍ [ (2) ] ! وَجَعَلْت أَتَطَاوَلُ وَعَلَيّ خُفّانِ لِي، فَأَجَازَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا أَجَازَنِي قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِرَبِيبِهِ مُرَيّ بْنِ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ، وَهُوَ زَوْجُ أُمّهِ: يا أبة، أَجَازَ رَسُولُ اللهِ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدّنِي، وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ.
فَقَالَ مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ:
يَا رَسُولَ اللهِ رَدَدْت ابْنِي وَأَجَزْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَابْنِي يَصْرَعُهُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَصَارَعَا!
فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ.
وَأَقْبَلَ ابْنُ أُبَيّ فَنَزَلَ نَاحِيَةً مِنْ الْعَسْكَرِ، فَجَعَلَ حُلَفَاؤُهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ لِابْنِ أُبَيّ: أَشَرْت عَلَيْهِ بِالرّأْيِ وَنَصَحْته وَأَخْبَرْته أَنّ هَذَا رَأْيُ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِك، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيَهُ مَعَ رأيك فأنى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَأَطَاعَ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانَ الّذِينَ مَعَهُ! فَصَادَفُوا مِنْ ابْنِ أُبَيّ نِفَاقًا وَغِشّا.
فَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشّيْخَيْنِ، وبات ابن أبىّ فى صحابه، وَفَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرْضِ أَصْحَابِهِ [ (3) ] . وَغَابَتْ الشّمْسُ فَأَذّنَ بَلَالٌ بِالْمَغْرِبِ، فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بأصحابه،
__________
[ (1) ] فى ت: «عزاية بن أوس» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1238) .
[ (2) ] فى ح: «إنه رام يعينى» .
[ (3) ] فى ب: «من عرض من عرض من أصحابه» .(1/216)
ثُمّ أَذّنَ بِالْعِشَاءِ فَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلٌ فِي بَنِي النّجّارِ. واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَرَسِ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، يَطُوفُونَ بِالْعَسْكَرِ حَتّى أَدْلَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أدلج، ونزل بالشيخين، فجمعوا خَيْلَهُمْ وَظَهْرَهُمْ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى حَرَسِهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَبَاتَتْ صَاهِلَةُ خَيْلِهِمْ لَا تَهْدَأُ، وَتَدْنُو طَلَائِعُهُمْ حَتّى تُلْصَقَ بِالْحَرّةِ، فَلَا تُصَعّدُ فِيهَا حَتّى تَرْجِعَ خَيْلُهُمْ، وَيَهَابُونَ مَوْضِعَ الْحَرّةِ وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ صَلّى الْعِشَاءَ: مَنْ يَحْفَظُنَا اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ: اجْلِسْ.
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو سَبُعٍ. قَالَ: اجْلِسْ.
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: ابْنَ عَبْدِ قَيْسٍ. قَالَ:
اجْلِسْ. وَمَكَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثُمّ قَالَ: قُومُوا ثَلَاثَتَكُمْ.
فَقَامَ ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ صَاحِبَاك؟
فَقَالَ ذَكْوَانُ: أَنَا الّذِي كُنْت أَجَبْتُك اللّيْلَةَ. قَالَ: فَاذْهَبْ، حَفِظَك اللهُ! قَالَ: فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ دَرَقَتَهُ، وَكَانَ يَطُوفُ بِالْعَسْكَرِ تِلْكَ اللّيْلَةَ، وَيُقَالُ كَانَ يَحْرُسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُفَارِقْهُ.
وَنَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى أَدْلَجَ، فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ الْأَدِلّاءُ؟ مَنْ رَجُلٌ يَدُلّنَا عَلَى الطّرِيقِ(1/217)
وَيُخْرِجُنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ؟ فَقَامَ أَبُو حَثْمَةَ [ (1) ] الْحَارِثِيّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
وَيُقَالُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ [ (2) ] ، وَيُقَالُ مُحَيّصَةُ- وَأَثْبَتُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَبُو حَثْمَةَ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ، فَسَلَكَ بِهِ فِي بَنِي حَارِثَةَ، ثُمّ أَخَذَ فِي الْأَمْوَالِ حَتّى يَمُرّ بِحَائِطِ مِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيّ، وَكَانَ أَعْمَى الْبَصَرِ مُنَافِقًا، فَلَمّا دَخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حَائِطَهُ قَامَ يَحْثِي التّرَابَ فِي وُجُوهِهِمْ وَجَعَلَ يَقُولُ: إنْ كُنْت رَسُولَ اللهِ، فَلَا تَدْخُلْ حَائِطِي. فَيَضْرِبُهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ بِقَوْسٍ فِي يَدِهِ، فَشَجّهُ فِي رَأْسِهِ فَنَزَلَ الدّمُ، فَغَضِبَ لَهُ بَعْضُ بَنِي حَارِثَةَ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ، فَقَالَ: هِيَ عَدَاوَتُكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، لَا تَدْعُونَهَا أَبَدًا لَنَا. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: لَا وَاَللهِ، وَلَكِنّهُ نِفَاقُكُمْ. وَاَللهِ، لَوْلَا أَنّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ لَضَرَبْت عُنُقَهُ وَعُنُقَ مَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ! فَأُسْكِتُوا [ (3) ] .
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مَسِيرِهِ إذْ ذَبّ فَرَسُ أَبِي بَرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كُلّابَ [ (4) ] سَيْفِهِ فَسَلّ سَيْفَهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صَاحِبَ السّيْفِ، شِمْ سَيْفَك، فَإِنّي إخَال السّيُوفَ سَتُسَلّ فَيَكْثُرُ سَلّهَا!
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطّيَرَةَ.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أبو خيثمة» ، وفى ح: «أبو خيثمة» . وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 27) .
[ (2) ] فى الأصل: «قبطى» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 8، ص 240) .
[ (3) ] فى ح: «ونهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكلام فأسكتوا» .
[ (4) ] الكلاب: مسمار يكون فى قائم السيف، وقيل هي الحلقة التي تكون فى مسمار قائم السيف.
(شرح أبى ذر، ص 217) .(1/218)
ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الشّيْخَيْنِ دِرْعًا وَاحِدَةً، حَتّى انْتَهَى إلَى أُحُدٍ، فَلَبِسَ دِرْعًا أُخْرَى، وَمِغْفَرًا وَبَيْضَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ. فَلَمّا نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشّيْخَيْنِ زَحَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى تَعْبِيَةٍ [ (1) ] حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَوْضِعِ أَرْضِ ابْنِ عَامِرٍ الْيَوْمَ. فَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ- إلَى مَوْضِعِ الْقَنْطَرَةِ الْيَوْمَ- جَاءَ وَقَدْ حَانَتْ الصّلَاةُ، وَهُوَ يَرَى الْمُشْرِكِينَ، أَمَرَ بَلَالًا فَأَذّنَ وَأَقَامَ وَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الصّبْحَ صُفُوفًا، وَارْتَحَلَ [ (2) ] ابْنُ أُبَيّ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي كَتِيبَةٍ كَأَنّهُ هَيْقٌ [ (3) ] يَقْدُمُهُمْ، فَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ: أُذَكّرُكُمْ اللهَ وَدِينَكُمْ وَنَبِيّكُمْ، وَمَا شَرَطْتُمْ لَهُ أَنْ تَمْنَعُوهُ مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ. فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ: مَا أَرَى يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَلَئِنْ أَطَعْتنِي يَا أَبَا جابر لترجعنّ، فإنّ أهل الرأى والحجى قَدْ رَجَعُوا، وَنَحْنُ نَاصِرُوهُ فِي مَدِينَتِنَا، وَقَدْ خَالَفْنَا وَأَشَرْت عَلَيْهِ بِالرّأْيِ، فَأَبَى إلّا طَوَاعِيَةَ الْغِلْمَانِ. فَلَمّا أَبَى عَلَى عَبْدِ اللهِ أَنْ يَرْجِعَ وَدَخَلُوا أَزِقّةَ الْمَدِينَةِ، قَالَ لَهُمْ أَبُو جَابِرٍ: أَبْعَدَكُمْ اللهُ، إنّ اللهَ سَيُغْنِي النّبِيّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ نَصْرِكُمْ! فَانْصَرَفَ ابْنُ أُبَيّ وَهُوَ يَقُولُ: أَيَعْصِينِي وَيُطِيعُ الْوِلْدَانَ؟
وَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَعْدُو حَتّى لَحِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُسَوّي الصّفُوفَ. فَلَمّا أُصِيبَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرّ ابْنُ أُبَيّ، وَأَظْهَرَ الشّمَاتَةَ وَقَالَ: عَصَانِي وَأَطَاعَ مَنْ لَا رَأْيَ لَهُ! وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُفّ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ الرّمَاةَ خَمْسِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنَيْنِ، [ (4) ] عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وقيل عليهم سعد
__________
[ (1) ] قال الجوهري: عبيت الجيش تعبية وتعبئة إذا هيأته فى مواضعه. (الصحاح، ص 2418) .
[ (2) ] فى ب، ح: «وانخذل» .
[ (3) ] قال ابن دريد: الهيق: الظليم، وهو الذكر من النعام، والأنثى هيقة. (جمهرة اللغة، ج 3، ص 360 و 1690) . ويريد هنا سرعة ذهابه.
[ (4) ] عينان: جبل بأحد. (معجم ما استعجم، ص 688) .(1/219)
ابن أَبِي وَقّاصٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالثّبْتُ عِنْدَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ. وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يصفّ أصحابه، فجعل أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْمَدِينَةَ، وَجَعَلَ عَيْنَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَدْبَرُوا الْمَدِينَةَ فِي الْوَادِي وَاسْتَقْبَلُوا أُحُدًا. وَيُقَالُ جَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنَيْنِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَاسْتَدْبَرَ الشّمْسَ وَاسْتَقْبَلَهَا الْمُشْرِكُونَ- وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، أَنّ أُحُدًا خَلْفَ ظَهْرِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَدِينَةَ.
حدّثنى يعقوب بن محمّد بن الظّفَرِيّ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السّكَنِ [ (1) ] ، قَالَ: لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ، وَالْقَوْمُ نُزُولٌ بِعَيْنَيْنِ، أَتَى أُحُدًا حَتّى جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ. قَالَ: وَنَهَى أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ حَتّى يأمره، فلمّا سمع بذلك عمارة بن زياد بْنِ السّكَنِ قَالَ: أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ [ (2) ] ، وَلَمّا نُضَارِبْ؟
وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ، قَدْ صَفّوا صُفُوفَهُمْ وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى الْمَيْمَنَةِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ. وَلَهُمْ مُجَنّبَتَانِ مِائَتَا فَرَسٍ، وَجَعَلُوا عَلَى الْخَيْلِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ- وَيُقَالُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- وَعَلَى الرّمَاةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانُوا مِائَةَ رَامٍ. وَدَفَعُوا اللّوَاءَ إلَى طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ- وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ. وَصَاحَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: يَا بنى عبد الدار، نحن نعرف أنّكم
__________
[ (1) ] فى الأصل: «المسكر» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وهو يزيد بن السكن بن رافع الأنصارى الأشهلى. أو من المحتمل أنه يزيد بن السكن الأنصارى أخو زياد، ذكرهما ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1576) .
[ (2) ] فى ح: «أنى تغير على زرع بنى قيلة» . وبنو قيلة: هم الأوس والخزرج. (شرح أبى ذر، ص 218) .(1/220)
أَحَقّ بِاللّوَاءِ مِنّا! إنّا إنّمَا أَتَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ اللّوَاءِ، وَإِنّمَا يُؤْتَى الْقَوْمُ مِنْ قِبَلِ لِوَائِهِمْ، فَالْزَمُوا لِوَاءَكُمْ وَحَافِظُوا عَلَيْهِ، وَخَلّوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنّا قَوْمٌ مُسْتَمِيتُونَ مَوْتُورُونَ، نَطْلُبُ ثَأْرًا حَدِيثَ الْعَهْدِ. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ:
إذَا زَالَتْ الْأَلْوِيَةُ فَمَا قِوَامُ النّاسِ وَبَقَاؤُهُمْ بَعْدَهَا! فَغَضِبَ بَنُو عَبْدِ الدّارِ وَقَالُوا: نَحْنُ نُسَلّمُ لِوَاءَنَا؟ لَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، فَأَمّا الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ [ (1) ] ، فَسَتَرَى! ثُمّ أَسْنَدُوا الرّمَاحَ إلَيْهِ، وَأَحْدَقَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ بِاللّوَاءِ، وَأَغْلَظُوا لِأَبِي سُفْيَانَ بَعْضَ الْإِغْلَاظِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَنَجْعَلُ لِوَاءً آخَرَ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، وَلَا يَحْمِلُهُ إلّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ، لَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَبَدًا!
وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ يُسَوّي تِلْكَ الصّفُوفَ، وَيُبَوّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ [ (2) ] يَقُولُ: تَقَدّمْ يَا فُلَانٌ! وَتَأَخّرْ يَا فُلَانٌ! حَتّى إنّهُ لَيَرَى مَنْكِبَ الرّجُلِ خَارِجًا فَيُؤَخّرُهُ، فَهُوَ يُقَوّمُهُمْ كَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهِمْ الْقِدَاحَ، حَتّى إذَا اسْتَوَتْ الصّفُوفُ سَأَلَ: مَنْ يَحْمِلُ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ؟ قِيلَ: بَنُو عَبْدِ الدّارِ. قَالَ: نَحْنُ أَحَقّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ. أَيْنَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ؟ قَالَ:
هَا أَنَا ذَا! قَالَ: خُذْ اللّوَاءَ. فَأَخَذَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَتَقَدّمَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النّاسُ، أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَانِي اللهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالتّنَاهِي عَنْ مَحَارِمِهِ.
ثُمّ إنّكُمْ الْيَوْمَ بِمَنْزِلِ أَجْرٍ وَذُخْرٍ لِمَنْ ذَكَرَ الّذِي عَلَيْهِ ثُمّ وَطّنَ نَفْسَهُ لَهُ عَلَى الصّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالْجِدّ وَالنّشَاطِ، فَإِنّ جِهَادَ الْعَدُوّ شَدِيدٌ، شَدِيدٌ كَرْبُهُ [ (3) ] ،
__________
[ (1) ] فى ت: «فأما محافظة عليه» .
[ (2) ] فى ح: «ويبوئ أصحابه مقاعد للقتال» . قال الجوهري: بوأت الرجل منزلا: هيأته ومكنت له فيه. (الصحاح، ص 37) .
[ (3) ] فى ح، ب: «كريه» .(1/221)
قَلِيلٌ مَنْ يَصْبِرُ [ (1) ] عَلَيْهِ إلّا مَنْ عَزَمَ اللهُ رُشْدَهُ، فَإِنّ اللهَ مَعَ مَنْ أَطَاعَهُ، وَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ مَنْ عَصَاهُ، فَافْتَتِحُوا [ (2) ] أَعْمَالَكُمْ بِالصّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْتَمِسُوا بِذَلِكَ مَا وَعَدَكُمْ اللهُ، وَعَلَيْكُمْ بِاَلّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، فَإِنّي حَرِيصٌ عَلَى رُشْدِكُمْ، فَإِنّ الِاخْتِلَافَ وَالتّنَازُعَ وَالتّثْبِيطَ [ (3) ] مِنْ أَمْرِ الْعَجْزِ وَالضّعْفِ مِمّا لَا يُحِبّ اللهُ، وَلَا يُعْطِي عَلَيْهِ النّصْرَ وَلَا الظّفَرَ. يَا أَيّهَا النّاسُ، جُدّدَ فِي صَدْرِي [ (4) ] أَنّ مَنْ كَانَ عَلَى حَرَامٍ فَرّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمَنْ [ (5) ] رَغِبَ لَهُ عَنْهُ غَفَرَ اللهُ ذَنْبَهُ، وَمَنْ صَلّى عَلَيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ عَشْرًا، وَمَنْ أَحْسَنَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ أَوْ آجِلِ آخِرَتِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلّا صَبِيّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَرِيضًا أَوْ عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا اسْتَغْنَى اللهُ عَنْهُ، وَاَللهُ غَنِيّ حَمِيدٌ. مَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى اللهِ إلّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى النّارِ إلّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. وَإِنّهُ قَدْ نَفَثَ [ (6) ] فِي رُوعِي الرّوحُ الْأَمِينُ، أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَوْفِيَ أَقْصَى رِزْقِهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا. فَاتّقُوا اللهَ رَبّكُمْ وَأَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الرّزْقِ، وَلَا يَحْمِلَنكُمْ اسْتِبْطَاؤُهُ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ رَبّكُمْ، فَإِنّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ إلّا بِطَاعَتِهِ.
قَدْ بَيّنَ لَكُمْ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، غَيْرَ أَنّ بَيْنَهُمَا شَبَهًا مِنْ الْأَمْرِ لَمْ يَعْلَمْهَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ إلّا مَنْ عَصَمَ، فَمَنْ تَرَكَهَا حَفِظَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهَا كَانَ كَالرّاعِي إلى جنب الحمى أو شك أن يقع فيه. وليس ملك إلّا
__________
[ (1) ] فى ح: «يصير» .
[ (2) ] فى ح: «فاستفتحوا» .
[ (3) ] فى ت: «والتثبيت» .
[ (4) ] فى ح: «قذف فى قلبي» .
[ (5) ] فى ت: «ورغب له» . وفى ح: «فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله ذنبه» .
[ (6) ] فى ت: «بعث» .(1/222)
وَلَهُ حِمًى، أَلَا وَإِنّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ. وَالْمُؤْمِنُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَالرّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ، إذَا اشْتَكَى تَدَاعَى عَلَيْهِ سَائِرُ الْجَسَدِ. وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ!
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إنّ أَوّلَ مَنْ أَنْشَبَ الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ أَبُو عَامِرٍ، طَلَعَ فِي خَمْسِينَ مِنْ قَوْمِهِ مَعَهُ عَبِيدُ قُرَيْشٍ، فَنَادَى أَبُو عَامِرٍ، وَهُوَ عَبْدُ عَمْرٍو: يَا آلَ [ (1) ] أَوْسٍ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ! فَقَالُوا: لَا مَرْحَبًا بِك وَلَا أَهْلًا يَا فَاسِقُ! فَقَالَ:
لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرّ! وَمَعَهُ عَبِيدُ أَهْلِ مَكّةَ، فَتَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى تَرَاضَخُوا [ (2) ] بِهَا سَاعَةً، حَتّى وَلّى أَبُو عَامِرٍ وَأَصْحَابُهُ وَدَعَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ إلَى الْبِرَازِ. وَيُقَالُ: إنّ الْعَبِيدَ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَأَمَرُوهُمْ بِحِفْظِ عَسْكَرِهِمْ.
قَالَ: وَجَعَلَ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْجَمْعَانِ أَمَامَ صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ يَضْرِبْنَ بِالْأَكْبَارِ وَالدّفَافِ وَالْغَرَابِيلِ [ (3) ] ، ثُمّ يَرْجِعْنَ فَيَكُنّ فِي مُؤَخّرِ الصّفّ، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنّا [ (4) ] تَأَخّرَ النّسَاءُ يَقُمْنَ خَلْفَ الصّفُوفِ، فَجَعَلْنَ كُلّمَا وَلّى رَجُلٌ حَرّضْنَهُ وَذَكّرْنَهُ قَتْلَاهُمْ بِبَدْرٍ.
وَكَانَ قُزْمَانُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ قَدْ تَخَلّفَ عَنْ أُحُدٍ، فَلَمّا أَصْبَحَ عَيّرَهُ نِسَاءُ بَنِي ظَفَرٍ فَقُلْنَ: يَا قُزْمَانُ، قَدْ خَرَجَ الرّجَالُ وبقيت! يا قزمان، ألا تستحي مِمّا صَنَعْت؟ مَا أَنْتَ إلّا امْرَأَةٌ، خَرَجَ قَوْمُك فَبَقِيت فِي الدّارِ! فَأَحْفَظَنهُ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَخْرَجَ قَوْسَهُ وَجَعْبَتَهُ وَسَيْفَهُ- وَكَانَ يُعْرَفُ بِالشّجَاعَةِ-
__________
[ (1) ] فى ت: «يالأوس» .
[ (2) ] تراضخوا: أى تراموا بالحجارة، وأصل المراضخة الرمى بالسهم. (شرح أبى ذر، ص 218) .
[ (3) ] الغرابيل: جمع غربال، وهو الدف. (النهاية، ج 3، ص 154) .
[ (4) ] فى ح: «من المسلمين» .(1/223)
فَخَرَجَ يَعْدُو حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسَوّي صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَاءَ مِنْ خَلْفِ الصّفُوفِ حَتّى انْتَهَى إلَى الصّفّ الْأَوّلِ فَكَانَ فِيهِ. وَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ نَبْلًا كَأَنّهَا الرّمَاحُ، وَإِنّهُ لَيَكِتّ [ (1) ] كَتِيتَ الْجَمَلِ. ثُمّ صَارَ إلَى السّيْفِ فَفَعَلَ الْأَفَاعِيلَ، حَتّى إذَا كَانَ آخِرَ ذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذَكَرَهُ قَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَلَمّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ كَسَرَ جَفْنَ [ (2) ] سَيْفِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: الْمَوْتُ أَحْسَنُ مِنْ الْفِرَارِ! يَا آلَ أَوْسٍ، قَاتِلُوا عَلَى الْأَحْسَابِ وَاصْنَعُوا مِثْلَ مَا أَصْنَعُ! قَالَ: فَيَدْخُلُ بِالسّيْفِ وَسْطَ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُقَالَ قَدْ قُتِلَ، ثُمّ يَطْلُعُ وَيَقُولُ: أَنَا الْغُلَامُ الظّفَرِيّ! حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةً، وَأَصَابَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَكَثُرَتْ بِهِ فَوَقَعَ. فَمَرّ بِهِ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ فَقَالَ:
أَبَا الْغَيْدَاقُ! قَالَ لَهُ قُزْمَانُ: يَا لَبّيْكَ! قَالَ: هَنِيئًا لَك الشّهَادَةَ! قَالَ قُزْمَانُ: إنّي وَاَللهِ مَا قَاتَلْت يَا أَبَا عَمْرٍو عَلَى دِينٍ، مَا قَاتَلْت إلّا عَلَى الْحِفَاظِ أَنْ تَسِيرَ قُرَيْشٌ إلَيْنَا حَتّى تَطَأَ سَعَفَنَا. فذٍكر لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَاحَتُهُ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَأَنْدَبَتْهُ [ (3) ] الْجِرَاحَةُ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ اللهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ.
قَالُوا: وَتَقَدّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الرّمَاةِ فَقَالَ: احْمُوا لَنَا ظُهُورَنَا، فَإِنّا نَخَافُ أَنْ نُؤْتَى مِنْ وَرَائِنَا، وَالْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوا مِنْهُ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نَهْزِمُهُمْ، حَتّى نَدْخُلَ عَسْكَرَهُمْ، فَلَا تُفَارِقُوا مَكَانَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تُعِينُونَا وَلَا تَدْفَعُوا عنّا، اللهمّ، إنّى أشهدك عليهم!
__________
[ (1) ] يقال: كت البعير يكت إذا صاح صياحا لينا. (الصحاح، ص 262) .
[ (2) ] الجفن: غمد السيف. (القاموس المحيط، ج 4، ص 209) .
[ (3) ] فى ح: «فآذته» . وأندبته الجراحة: صارت فيه الندوب. (القاموس المحيط، ج 1، ص 131) .(1/224)
وَارْشُقُوا خَيْلَهُمْ بِالنّبْلِ، فَإِنّ الْخَيْلَ لَا تُقْدِمُ عَلَى النّبْلِ.
وَكَانَ لِلْمُشْرِكِينَ مُجَنّبَتَانِ، مَيْمَنَةٌ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَمَيْسَرَةٌ عَلَيْهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
قَالُوا: وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ الْأَعْظَمَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْأَوْسِ إلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَلِوَاءَ الْخَزْرَجِ إلَى سَعْدٍ أَوْ حُبَابٍ. وَالرّمَاةُ يَحْمُونَ ظُهُورَهُمْ، يَرْشُقُونَ خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ بِالنّبْلِ، فَتُوَلّي هَوَارِبَ [ (1) ] . قَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ: لَقَدْ رَمَقْت نَبْلَنَا [ (2) ] ، مَا رَأَيْت سَهْمًا وَاحِدًا مِمّا نَرْمِي بِهِ خَيْلَهُمْ يَقَعُ بِالْأَرْضِ إلّا فِي فَرَسٍ أَوْ رَجُلٍ. قَالُوا: وَدَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدّمُوا صَاحِبَ لِوَائِهِمْ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ، وَصَفّوا صُفُوفَهُمْ، وَأَقَامُوا النّسَاءَ خَلْفَ الرّجَالِ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ يَضْرِبْنَ بِالْأَكْبَارِ وَالدّفُوفِ، وَهِنْدٌ وَصَوَاحِبُهَا يُحَرّضْنَ وَيَذْمُرْنَ [ (3) ] الرّجَالَ وَيُذَكّرْنَ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ وَيَقُلْنَ:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النّمَارِقْ
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ
فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ [ (4) ]
وَصَاحَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ:
هَلْ لَك فِي الْبِرَازِ [ (5) ] ؟ قَالَ طَلْحَةُ: نَعَمْ. فَبَرَزَا بَيْنَ الصّفّيْنِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ تَحْتَ الرّايَةِ عَلَيْهِ دِرْعَانِ وَمِغْفَرٌ وبيضة، فالتقيا
__________
[ (1) ] فى ح: «فولت هاربة» .
[ (2) ] فى ح: «لقد رمقت نبلنا يومئذ» .
[ (3) ] ذمره على الأمر: حضه مع لوم ليجد فيه. (أساس البلاغة، ص 302) .
[ (4) ] الوامق: المحب. (شرح أبى ذر، ص 219) . ويقال إن هذا الرجز لهند بنت طارق ابن بياضة الإيادية فى حرب الفرس. (الروض الأنف، ج 2، ص 129) .
[ (5) ] فى ح: «فى مبارزتي» .(1/225)
فَبَدَرَهُ [ (1) ] عَلِيّ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَمَضَى السّيْفُ حَتّى فَلَقَ هَامَتَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى لِحْيَتِهِ [ (2) ] ، فَوَقَعَ طَلْحَةُ وَانْصَرَفَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ. فَقِيلَ لِعَلِيّ: أَلَا ذَفّفْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إنّهُ لَمّا صُرِعَ اسْتَقْبَلَتْنِي عَوْرَتُهُ فَعَطَفَنِي عَلَيْهِ الرّحِمُ [ (3) ] ، وَقَدْ عَلِمْت أَنّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَقْتُلُهُ- هُوَ كَبْشُ الْكَتِيبَةِ.
وَيُقَالُ حَمَلَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ، فَاتّقَاهُ عَلِيّ بِالدّرَقَةِ فَلَمْ يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا.
وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعَلَى طَلْحَةَ دِرْعٌ مُشَمّرَةٌ، فَضَرَبَ سَاقَيْهِ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمّ أَرَادَ أَنْ يُذَفّفَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ بِالرّحِمِ فَتَرَكَهُ عَلِيّ فَلَمْ يُذَفّفْ عَلَيْهِ، حَتّى مَرّ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ إنّ عَلِيّا ذَفّفَ عَلَيْهِ.
فَلَمّا قُتِلَ طَلْحَةُ سُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَ التّكْبِيرَ، وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ. ثُمّ شَدّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَتَائِبِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ حَتّى نُقِضَتْ [ (4) ] صُفُوفُهُمْ، وَمَا قُتِلَ إلّا طَلْحَةُ. ثُمّ حَمَلَ لِوَاءَهُمْ بَعْدَ طَلْحَةَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، أَبُو شَيْبَةَ، وَهُوَ أَمَامَ النّسْوَةِ، يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
إنّ عَلَى أَهْلِ [ (5) ] اللّوَاءِ حَقّا ... أَنْ تُخْضَبَ الصّعْدَةُ [ (6) ] أَوْ تَنْدَقّا
فَتَقَدّمَ بِاللّوَاءِ، وَالنّسَاءُ يُحَرّضْنَ وَيَضْرِبْنَ بِالدّفُوفِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده
__________
[ (1) ] فى ح: «فبرزه» .
[ (2) ] فى ت: «لحييه» .
[ (3) ] ويروى أيضا مثل ذلك عن على مع عمرو بن العاص يوم صفين. (الروض الأنف، ج 2، ص 133) .
[ (4) ] فى ح: «فجعلوا يضربون وجوههم حتى انتقضت الصفوف» .
[ (5) ] فى ح: «رب اللواء» .
[ (6) ] الصعدة: القناة. (شرح أبى ذر، ص 221) .(1/226)
وَكَتِفَهُ، حَتّى انْتَهَى إلَى مُؤْتَزَرِهِ [ (1) ] حَتّى بَدَا سَحْرُهُ، ثُمّ رَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ سَاقِي الْحَجِيجَ! ثُمّ حَمَلَهُ [ (2) ] أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي [ (3) ] طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فَأَصَابَ حَنْجَرَتَهُ، وَكَانَ دَارِعًا وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ لَا رَفْرَفَ [ (4) ] لَهُ، فَكَانَتْ حَنْجَرَتُهُ بَادِيَةً، فَأَدْلَعَ لِسَانَهُ إدْلَاعَ الْكَلْبِ. وَيُقَالُ: إنّ أَبَا سَعْدٍ لَمّا حَمَلَ اللّوَاءَ قَامَ النّسَاءُ خَلْفَهُ يَقُلْنَ:
ضَرْبًا بَنِي عَبْدِ الدّارْ ... ضَرْبًا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ
ضَرْبًا بِكُلّ بَتّارْ [ (5) ]
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: فَأَضْرِبُهُ فَأَقْطَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى، فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِالْيُسْرَى، فَأَحْمِلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فَضَرَبْتهَا [ (6) ] فَقَطَعْتهَا، فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِذِرَاعَيْهِ جَمِيعًا فَضَمّهُ إلَى صَدْرِهِ، ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، قَالَ سَعْدٌ: فَأَدْخَلَ سِيَةَ [ (7) ] الْقَوْسِ بَيْنَ الدّرْعِ وَالْمِغْفَرِ فَأَقْلَعُ الْمِغْفَرَ فَأَرْمِي بِهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، ثُمّ ضَرَبْته حَتّى قَتَلْته، ثُمّ أَخَذْت أَسْلُبُهُ دِرْعَهُ، فَنَهَضَ إلَيّ سُبَيْعُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَنَفَرٌ مَعَهُ فَمَنَعُونِي سَلَبَهُ. وَكَانَ سَلَبُهُ أَجْوَدَ سَلَبِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ- دِرْعٌ فَضْفَاضَةٌ، وَمِغْفَرٌ، وَسَيْفٌ جَيّدٌ، وَلَكِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَهَذَا أَثْبَتُ الْقَوْلَيْنِ، وَهَكَذَا اُجْتُمِعَ عَلَيْهِ، أَنّ سَعْدًا قَتَلَهُ.
ثُمّ حَمَلَهُ مُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ عَاصِمُ بن ثابت بن
__________
[ (1) ] فى ح: «مؤزره» .
[ (2) ] فى ح «ثم حمل اللواء» .
[ (3) ] فى الأصل: «أبو سعد بن طلحة» . وما أثبتناه عن سائر النسخ وابن سعد. (الطبقات.
ج 2، ص 28) .
[ (4) ] الرفرف: زرد يشد بالبيضة يطرحه الرجل على ظهره. (القاموس المحيط، ج 3، ص 146)
[ (5) ] فى ح: «ضربا يصل بالثار» .
[ (6) ] فى ت: «فأضربها» .
[ (7) ] سية القوس: ما عطف من طرفيها. (القاموس المحيط، ج 4، ص 346) .(1/227)
أَبِي الْأَقْلَحِ وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ! فَقَتَلَهُ، فَحُمِلَ إلَى أُمّهِ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الشّهِيدِ وَهِيَ مَعَ النّسَاءِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَصَابَك؟ قَالَ، لَا أَدْرِي، سَمِعْته يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ! قَالَتْ سُلَافَةُ: أَقْلَحِيّ وَاَللهِ! أَيْ مِنْ رَهْطِي.
وَيُقَالُ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ- كَانُوا يُقَالُ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ بَنُو كِسَرِ الذّهَبِ. فَقَالَ لِأُمّهِ حِينَ سَأَلَتْهُ مَنْ قَتَلَك؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، سَمِعْته يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ! قَالَتْ سُلَافَةُ: إحْدَى وَاَللهِ [ (1) ] كِسْرَى! تَقُولُ: إنّهُ رَجُلٌ مِنّا. فَيَوْمَئِذٍ نَذَرَتْ أَنْ تَشْرَبَ فِي قِحْفِ رَأْسِ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَمْرَ، وَجَعَلَتْ تَقُولُ: لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ.
ثُمّ حَمَلَهُ كِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، ثُمّ حَمَلَهُ الْجُلّاسُ [ (2) ] بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، ثُمّ حَمَلَهُ أَرْطَاةُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، ثُمّ حَمَلَهُ شُرَيْحُ بْنُ قَارِظٍ [ (3) ] ، فَلَسْنَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ، ثُمّ حَمَلَهُ صُؤَابٌ غُلَامُهُمْ، فَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ، فَقَائِلٌ قَالَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، وَقَائِلٌ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَقَائِلٌ قُزْمَانُ- وَكَانَ أَثْبَتَهُمْ عِنْدَنَا قُزْمَانُ. قَالَ: انْتَهَى إلَيْهِ قُزْمَانُ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى، فَاحْتَمَلَ اللّوَاءَ بِالْيُسْرَى، ثُمّ قَطَعَ الْيُسْرَى فَاحْتَضَنَ اللّوَاءَ بِذِرَاعَيْهِ وَعَضُدَيْهِ، ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، وَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ، هَلْ أُعْذِرْت [ (4) ] ؟ فَحَمَلَ عَلَيْهِ قُزْمَانُ فقتله
__________
[ (1) ] فى ح: «أوسى والله كسرى» .
[ (2) ] فى الأصل: «خلاس» ، والتصحيح عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 28) .
[ (3) ] فى الأصل وت: «فارظ» ، وفى ح: «قانط» ، وما أثبتناه عن ب، وعن ابن سعد.
(الطبقات، ج 2، ص 29) .
[ (4) ] فى ح: «هل اعتذرت» .(1/228)
وَقَالُوا: مَا ظَفّرَ اللهُ نَبِيّهُ فِي مَوْطِنٍ قَطّ مَا ظَفّرَهُ وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتّى عَصَوْا الرّسُولَ وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ. لَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُ اللّوَاءِ وَانْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ مُنْهَزِمِينَ [ (1) ] ، لَا يَلْوُونَ، وَنِسَاؤُهُمْ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ بَعْدَ ضَرْبِ الدّفَافِ وَالْفَرَحِ حَيْثُ الْتَقَيْنَا. [قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَقَدْ رَوَى كَثِيرٌ مِنْ الصّحَابَةِ مِمّنْ شَهِدَ أُحُدًا، قَالَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ:] [ (2) ] وَاَللهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى هِنْدٍ وَصَوَاحِبِهَا مُنْهَزِمَاتٍ، مَا دُونَ أَخْذِهِنّ شَيْءٌ لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ. وَكُلّمَا أَتَى خَالِدٌ مِنْ قِبَلِ مَيْسَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَجُوزُ حَتّى يَأْتِيَ مِنْ قِبَلِ السّفْحِ فَيَرُدّهُ الرّمَاةُ، حَتّى فَعَلُوا ذَلِكَ مِرَارًا، وَلَكِنّ الْمُسْلِمِينَ أُتُوا مِنْ قِبَلِ الرّمَاةِ.
إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْعَزَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: قُومُوا عَلَى مَصَافّكُمْ هَذَا، فَاحْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا لَا تَشْرَكُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا. فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، يَضَعُونَ السّلَاحَ فِيهِمْ حَيْثُ شَاءُوا حَتّى أَجْهَضُوهُمْ [ (3) ] عَنْ الْعَسْكَرِ، وَوَقَعُوا يَنْتَهِبُونَ الْعَسْكَرَ، قَالَ بَعْضُ الرّماة لبعض: لم تقيمون ها هنا فِي غَيْرِ شَيْءٍ؟ قَدْ هَزَمَ اللهُ الْعَدُوّ وَهَؤُلَاءِ إخْوَانُكُمْ يَنْتَهِبُونَ عَسْكَرَهُمْ، فَادْخُلُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ فَاغْنَمُوا مَعَ إخْوَانِكُمْ فَقَالَ بَعْضُ الرّمَاةِ لِبَعْضٍ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَكُمْ: «احْمُوا ظُهُورَنَا فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا، احْمُوا ظُهُورَنَا» ؟
فَقَالَ الْآخَرُونَ لَمْ يُرِدْ رَسُولُ اللهِ هَذَا، وَقَدْ أَذَلّ اللهُ الْمُشْرِكِينَ وَهَزَمَهُمْ، فَادْخُلُوا الْعَسْكَرَ فَانْتَهِبُوا مَعَ إخْوَانِكُمْ. فَلَمّا اخْتَلَفُوا خَطَبَهُمْ أَمِيرُهُمْ عبد الله بن جبير- وكان
__________
[ (1) ] فى ح: «وانكشف المشركون منهم» .
[ (2) ] زيادة مبينة من ابن أبى الحديد عن الواقدي. (نهج البلاغة، ج 3، ص 367) .
[ (3) ] فى ح: «حتى أجهزوهم عن المعسكر» . وأجهضوهم: أى غلبوهم ونحوهم عنه. (القاموس المحيط، ج 2، ص 326) .(1/229)
يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِثِيَابٍ بِيضٍ- فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ أَمَرَ بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلّا يُخَالَفَ لِرَسُولِ اللهِ أَمْرٌ [ (1) ] ، فَعَصَوْا وَانْطَلَقُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الرّمَاةِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ إلّا نُفَيْرٌ مَا يَبْلُغُونَ الْعَشَرَةَ، فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ، اُذْكُرُوا عَهْدَ نَبِيّكُمْ إلَيْكُمْ، وَأَطِيعُوا أَمِيرَكُمْ. قَالَ: فَأَبَوْا [ (2) ] وَذَهَبُوا إلَى عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَ، وَخَلّوْا الْجَبَلَ وَجَعَلُوا يَنْتَهِبُونَ، وَانْتَقَضَتْ صُفُوفُ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَدَارَتْ رِجَالُهُمْ [ (3) ] ، وَحَالَتْ الرّيحُ [ (4) ] ، وَكَانَتْ أَوّلَ النّهَارِ إلَى أَنْ رَجَعُوا صَبّا، فَصَارَتْ دَبُورًا حَيْثُ كَرّ الْمُشْرِكُونَ، بَيْنَا الْمُسْلِمُونَ قَدْ شُغِلُوا بِالنّهْبِ وَالْغَنَائِمِ.
قَالَ نِسْطَاسٌ [ (5) ] مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَكَانَ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ:
كُنْت مَمْلُوكًا فَكُنْت فِيمَنْ خُلّفَ فِي الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ يَوْمَئِذٍ مَمْلُوكٌ إلّا وَحْشِيّ، وَصُؤَابٌ غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الدّارِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، خَلّفُوا غِلْمَانَكُمْ عَلَى مَتَاعِكُمْ يَكُونُونَ هُمْ الّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى رِحَالِكُمْ. فَجَمَعْنَا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَعَقَلْنَا الْإِبِلَ، وَانْطَلَقَ الْقَوْمُ عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ [ (6) ] مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَأَلْبَسْنَا الرّحَالَ الْأَنْطَاعَ. وَدَنَا [ (7) ] الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً ثُمّ إذَا أَصْحَابُنَا مُنْهَزِمُونَ، فَدَخَلَ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ عَسْكَرَنَا ونحن فى
__________
[ (1) ] فى ح: «وأن لا يخالف أمره» .
[ (2) ] فى ت: «فأتوا» .
[ (3) ] فى ح: «استدارت رحاهم» .
[ (4) ] فى ح: «ودارت الريح» .
[ (5) ] فى الأصل: «بسطام» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ وعن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 181) . وقد ذكر ابن أبى الحديد أنه مولى ضرار بن أمية. (نهج البلاغة، ج 3، ص 368) .
[ (6) ] فى ت: «بعضهم» .
[ (7) ] فى ت: «وذب» .(1/230)
الرّحَالِ، فَأَحْدَقُوا بِنَا، فَكُنْت فِيمَنْ أُسِرُوا. وَانْتَهَبُوا الْعَسْكَرَ أَقْبَحَ انْتِهَابٍ، حَتّى إنّ رَجُلًا مِنْهُمْ قَالَ: أَيْنَ مَالُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ؟ فَقُلْت: مَا حَمَلَ إلّا نَفَقَةً، هِيَ فِي الرّحْلِ. فَخَرَجَ يَسُوقُنِي حَتّى أَخْرَجْتهَا مِنْ الْعَيْبَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةَ مِثْقَالٍ. وَقَدْ وَلّى أَصْحَابُنَا وَأَيِسْنَا مِنْهُمْ، وَانْحَاشَ [ (1) ] النّسَاءُ، فَهُنّ فِي حُجَرِهِنّ سَلْمٌ لِمَنْ أَرَادَهُنّ. وَصَارَ النّهْبُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ، فَإِنّا لَعَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ إلَى أَنْ نَظَرْت إلَى الْجَبَلِ [ (2) ] ، فَإِذَا الْخَيْلُ مُقْبِلَةٌ فَدَخَلُوا الْعَسْكَرَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرُدّهُمْ، قَدْ ضُيّعَتْ الثّغُورُ الّتِي كَانَ بِهَا الرّمَاةُ وَجَاءُوا إلَى النّهْبِ وَالرّمَاةُ يَنْتَهِبُونَ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِمْ مُتَأَبّطِي قِسِيّهِمْ وَجِعَابِهِمْ، كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي يَدَيْهِ أَوْ حِضْنِهِ شَيْءٌ قَدْ أَخَذَهُ، فَلَمّا دَخَلَتْ خَيْلُنَا دَخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ غَارّينَ [ (3) ] آمِنِينَ، فَوَضَعُوا فِيهِمْ السّيُوفَ فَقَتَلُوا فِيهِمْ قَتْلًا ذَرِيعًا.
وَتَفَرّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَتَرَكُوا مَا انْتَهَبُوا وَأَجْلَوْا [ (4) ] عَنْ عَسْكَرِنَا، فَرَجَعْنَا مَتَاعَنَا بَعْدُ فَمَا فَقَدْنَا مِنْهُ شَيْئًا، وَخَلّوْا أَسْرَانَا، وَوَجَدْنَا الذّهَبَ فِي الْمَعْرَكِ. وَلَقَدْ رَأَيْت رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ضَمّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ إلَيْهِ ضَمّةً ظَنَنْت أَنّهُ سَيَمُوتُ حَتّى أَدْرَكْته بِهِ رَمَقٌ، فَوَجَأْته [ (5) ] بِخَنْجَرٍ مَعِي فَوَقَعَ، فَسَأَلْت عَنْهُ بَعْدُ فَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ. ثُمّ هَدَانِي اللهُ عَزّ وَجَلّ بَعْدُ لِلْإِسْلَامِ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم الذين
__________
[ (1) ] انحاش النساء: أى نفرن. (القاموس المحيط، ج 2، ص 270) .
[ (2) ] فى ت: «إلى الخيل» .
[ (3) ] غارون: غافلون. (النهاية، ج 3، ص 156) .
[ (4) ] فى ت: «فأخلوا» .
[ (5) ] فى ح: «فوجأت ذلك المسلم» .(1/231)
أغاروا على النّهب، فأخذوا مِنْ الذّهَبِ، بَقِيَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ رجع به حيث غشنا الْمُشْرِكُونَ وَاخْتَلَطُوا إلّا رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَاصِمُ بْنُ ثابت ابن أَبِي الْأَقْلَحِ، جَاءَ بِمِنْطَقَةٍ وَجَدَهَا فِي الْعَسْكَرِ فِيهَا خَمْسُونَ دِينَارًا، فَشَدّهَا عَلَى حِقْوَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، وَجَاءَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ بِصُرّةٍ فِيهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا، أَلْقَاهَا فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَالدّرْعُ فَوْقَهَا قَدْ حَزَمَ وَسْطَهُ. فَأَتَيَا بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَلَمْ يُخَمّسْهُ وَنَفّلَهُمَا إيّاهُ.
قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: فَلَمّا انْصَرَفَ الرّمَاةُ وَبَقِيَ مَنْ بَقِيَ، نَظَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى خَلَاءِ الْجَبَلِ وَقِلّةِ أَهْلِهِ، فَكَرّ بِالْخَيْلِ وَتَبِعَهُ عِكْرِمَةُ فِي الْخَيْلِ، فَانْطَلَقَا إلَى بَعْضِ الرّمَاةِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ. فَرَامُوا الْقَوْمَ حَتّى أُصِيبُوا، وَرَامَى عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، ثُمّ طَاعَنَ بِالرّمْحِ حَتّى انْكَسَرَ، ثُمّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتّى قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَقْبَلَ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَكَانَا قَدْ حَضَرَا قَتْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُمَا آخِرُ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْجَبَلِ حَتّى لَحِقَا الْقَوْمَ، وَإِنّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَانْتَقَضَتْ صُفُوفُنَا. وَنَادَى إبْلِيسُ وَتَصَوّرَ فِي صُورَةِ جُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ: إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ! ثَلَاثَ صَرَخَاتٍ. فَابْتُلِيَ يَوْمَئِذٍ جُعَالُ بْنُ سُرَاقَةَ بِبَلِيّةٍ عَظِيمَةٍ حِينَ تَصَوّرَ إبْلِيسُ فِي صُورَتِهِ، وَإِنّ جُعَالَ لَيُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدّ الْقِتَالِ، وَإِنّهُ إلَى جَنْبِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَخَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، فو الله مَا رَأَيْنَا دُولَةً كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ دُولَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْنَا. وَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جُعَالِ بْنِ سُرَاقَةَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ يَقُولُونَ: هَذَا الّذِي صَاحَ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» . فَشَهِدَ لَهُ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ أَنّهُ كَانَ إلَى جَنْبِهِمَا حِينَ صَاحَ الصّائِحُ، وَأَنّ الصّائِحَ غَيْرُهُ. قَالَ رَافِعٌ: وَشَهِدْت لَهُ بَعْدُ.(1/232)
يَقُولُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: فَكُنّا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا وَمَعْصِيَةِ نَبِيّنَا، وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ، وَصَارُوا يُقْتَلُونَ وَيَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَا يَشْعُرُونَ بِهِ [ (1) ] مِنْ الْعَجَلَةِ وَالدّهَشِ، وَلَقَدْ جُرِحَ يَوْمَئِذٍ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ جُرْحَيْنِ، ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَمَا يَدْرِي، يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ! قَالَ: وَكَرّ أَبُو زَعْنَةَ فِي حَوْمَةِ الْقِتَالِ فَضَرَبَ أَبَا بُرْدَةَ ضَرْبَتَيْنِ مَا يَشْعُرُ، إنّهُ لَيَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا أَبُو زَعْنَةَ! حَتّى عَرَفَهُ بَعْدُ. فَكَانَ إذَا لَقِيَهُ قَالَ:
اُنْظُرْ إلَى مَا صَنَعْت بِي. فَيَقُولُ لَهُ أَبُو زَعْنَةَ: أَنْتَ ضَرَبْت أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَلَا تَشْعُرُ، وَلَكِنّ هَذَا الْجُرْحَ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَذُكِرَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَا أَبَا بُرْدَةَ، لَك أَجْرُهُ حَتّى كَأَنّهُ ضَرَبَك أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ.
وَكَانَ الْيَمَانُ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ وَقْشٍ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، قَدْ رُفِعَا فِي الْآطَامِ مَعَ النّسَاءِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا أَبَا لَك، مَا نَسْتَبْقِي مِنْ أنفسنا، فو الله مَا نَحْنُ إلّا هَامَةً الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، فَمَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِنَا قَدْرُ ظِمْءِ [ (2) ] دَابّةٍ. فَلَوْ أَخَذْنَا أَسْيَافَنَا فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقُنَا الشّهَادَةَ. قَالَ: فَلَحِقَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ مِنْ النّهَارِ. فَأَمّا رِفَاعَةُ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ فَالْتَقَتْ عَلَيْهِ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، حِينَ اخْتَلَطُوا، وَحُذَيْفَةُ يَقُولُ: أَبِي! أَبِي! حَتّى قُتِلَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ، مَا صَنَعْتُمْ! فَزَادَتْهُ [ (3) ] عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ أَنْ تُخْرَجَ. ويقال إنّ الذي أصابه عتبة بن
__________
[ (1) ] فى ح: «وما يشعرون بما يصنعون من الدهش والعجل» .
[ (2) ] الظمء: العطش، أى الشيء اليسير. (النهاية، ج 3، ص 57) .
[ (3) ] فى ح: «فزاد به» .(1/233)
مَسْعُودٍ، فَتَصَدّقَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِدَمِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وأقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة! فأقبلوا عنقا [ (1) ] واحدة: لبيك داعي الله! لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة [ (2) ] وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون: أمت! أمت! فكف بعضهم عن بعض.
فَحَدّثَنِي الزّبَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ اللّوَاءَ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ فَأَخَذَهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ مُصْعَبٍ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِمُصْعَبٍ فِي آخِرِ النّهَارِ: تَقَدّمْ يَا مُصْعَبُ!
فَالْتَفَتَ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَقَالَ: لَسْت بِمُصْعَبٍ فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ مَلَكٌ أُيّدَ بِهِ. وَسَمِعْت أبا معشر يقول مثل ذلك.
فحدّثنى عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَائِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عن أبيها سعد ابن أَبِي وَقّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَرْمِي بِالسّهْمِ يَوْمَئِذٍ فَيَرُدّهُ عَلَيّ رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ، لَا أَعْرِفُهُ حَتّى كَانَ بَعْدُ فَظَنَنْت أَنّهُ مَلَكٌ.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، يُقَاتِلَانِ أَشَدّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتهمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.
حَدّثَنِي عبد الملك بن سليم [ (3) ] ، عن قطعن بن وهب، عن عبيد بن
__________
[ (1) ] العنق: الجماعة من الناس. (أساس البلاغة، ص 608) .
[ (2) ] فى ب: «منقلة» .
[ (3) ] فى ب: «عبد الملك بن سليمان» .(1/234)
عمير، قال: لمّا رجعت قريش بن أحد جعلوا يَتَحَدّثُونَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ بِمَا ظَفِرُوا وَيَقُولُونَ: لَمْ نَرَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ وَلَا الرّجَالَ الْبِيضَ الّذِينَ كُنّا نَرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَلَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: لَمْ يُمَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد بملك وَاحِدٍ، إنّمَا كَانُوا يَوْمَ بَدْر.
حَدّثَنِي ابْنُ خَدِيجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ.
حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي لُحَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ تُقَاتِلْ.
حَدّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:
لَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ إلّا يَوْمَ بَدْر.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَدْ وَعَدَهُمْ اللهُ أَنْ يَمُدّهُمْ لَوْ صَبَرُوا، فَلَمّا انْكَشَفُوا لَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ.
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ، قَالَ: لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ أَزَبّ الْعَقَبَةَ [ (1) ] إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ، لِمَا أَرَادَ اللهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ ذَلِكَ، سَقَطَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَصْعَدُوا فِي الْجَبَلِ. فَكَانَ أَوّلُ مَنْ بَشّرَهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم سلام كعب بن مالك. قال كعب:
__________
[ (1) ] أزب العقبة: من أسماء الشياطين. (النهاية، ج 1، ص 28) . وذكره السهيلي بكسر الهمزة وسكون الزاى. (الروض الأنف، ج 1، ص 278) .(1/235)
فَجَعَلْت أَصِيحُ، وَيُشِيرُ إلَيّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ عَلَى فِيهِ أَنْ اسكت.
فحدّثنى مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُمَيْرَةَ بِنْتِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: لَمّا انْكَشَفَ النّاسُ كُنْت أَوّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَشّرْت بِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَيّا سَوِيّا. قَالَ كَعْبٌ: وَأَنَا فِي الشّعْبِ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا بِلَأْمَتِهِ- وَكَانَتْ صَفْرَاءَ أَوْ بَعْضَهَا- فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ فَلَبِسَهَا كَعْبٌ. وَقَاتَلَ كَعْبٌ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى جُرِحَ سَبْعَةَ عَشَرَ جُرْحًا.
حَدّثَنِي مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْت أَوّلَ مَنْ عَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فَعَرَفْت عَيْنَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْت: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَبْشِرُوا! هَذَا رَسُولُ اللهِ! فَأَشَارَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ اُصْمُتْ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، قَالَ:
لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَيّكُمْ قَتَلَ مُحَمّدًا؟ قَالَ ابْنُ قَمِيئَةَ: أَنَا قَتَلْته. قَالَ:
نُسَوّرُك [ (1) ] كَمَا تَفْعَلُ الْأَعَاجِمُ بِأَبْطَالِهَا. وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَطُوفُ بِأَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ فِي الْمَعْرَكِ هَلْ يَرَى مُحَمّدًا [بَيْنَ الْقَتْلَى] ، [ (2) ] فَمَرّ بِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، هَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الْقَتِيلُ؟
قَالَ: لَا. قَالَ: هَذَا خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الْخَزْرَجِيّ، هَذَا سيّد
__________
[ (1) ] سوره: ألبسه السوار. (الصحاح، ص 690) .
[ (2) ] الزيادة عن ب، ح.(1/236)
بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَمَرّ بِعَبّاسِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ:
هَذَا ابْنُ قَوْقَلٍ، هَذَا الشّرِيفُ فِي بَيْتِ الشّرَفِ. قَالَ: ثم مرّ بذكوان ابن عَبْدِ قَيْسٍ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ سَادَاتِهِمْ. وَمَرّ بِابْنِهِ حَنْظَلَةَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا ابْنَ عامر؟ قال: هذا أعزّ من ها هنا عَلَيّ، هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا نَرَى مَصْرَعَ مُحَمّدٍ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَهُ لَرَأَيْنَاهُ، كَذَبَ ابْنُ قَمِيئَةَ! وَلَقِيَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَالَ: هَلْ تَبَيّنَ عِنْدَك قَتْلُ مُحَمّدٍ؟ قَالَ خَالِدٌ: رَأَيْته أَقْبَلَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مُصْعِدِينَ فِي الْجَبَلِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا حَقّ! كَذَبَ ابْنُ قَمِيئَةَ، زَعَمَ أَنّهُ قَتَلَهُ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، قَالَ: سَمِعْت مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ انْكَشَفَ النّاسُ إلَى الْجَبَلِ وَهُمْ لَا يَلْوُونَ عَلَيْهِ، وَإِنّهُ لَيَقُولُ: إلَيّ يَا فُلَانُ، إلَيّ يَا فُلَانُ، أَنَا رَسُولُ اللهِ!
فلما عَرّجَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ عَلَيْهِ وَمَضَيَا.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ، وَاسْمُ أَبِي جَهْمٍ عُبَيْدٌ، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُحَدّثُ وَهُوَ بِالشّامِ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ! لَقَدْ رَأَيْتنِي وَرَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَحِمَهُ اللهُ حِينَ جَالُوا وَانْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، وَإِنّي لَفِي كَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ فَمَا عَرَفَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، فَنَكَبْت عَنْهُ وَخَشِيت إنْ أَغْرَيْت بِهِ مَنْ مَعِي أَنْ يَصْمُدُوا لَهُ، فَنَظَرْت إلَيْهِ مُوَجّهًا إلَى الشّعْبِ.
حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ:(1/237)
شَهِدْت أُحُدًا فَنَظَرْت إلَى النّبْلِ تَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَهَا، كُلّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ. وَلَقَدْ رَأَيْت عَبْدَ اللهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ، فَلَا نَجَوْت إنْ نَجَا! وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَنْبِهِ، مَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمّ جاوزه، ولقى عبد الله ابن شِهَابٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، فَقَالَ صَفْوَانُ: تَرِحْت [ (1) ] ، أَلَمْ يُمْكِنْك أَنْ تَضْرِبَ مُحَمّدًا فَتَقْطَعَ هَذِهِ الشّأْفَةَ [ (2) ] ، فَقَدْ أَمْكَنَك اللهُ مِنْهُ؟ قَالَ:
وَهَلْ رَأَيْته؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ إلَى جَنْبِهِ. قَالَ: وَاَللهِ مَا رَأَيْته. أَحْلِفُ بِاَللهِ إنّهُ مِنّا مَمْنُوعٌ، خَرَجْنَا أَرْبَعَةً تَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمْ نَخْلُصْ إلَى ذَلِكَ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ نَمْلَةَ بْنِ أَبِي نَمْلَةَ- وَاسْمُ أَبِي نَمْلَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مُعَاذٌ أَخًا لِلْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ لِأُمّهِ- فَقَالَ: لَمّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ نَظَرْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ إلّا نُفَيْرٌ، فَأَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى الشّعْبِ، وَمَا لِلْمُسْلِمِينَ لِوَاءٌ قَائِمٌ، وَلَا فِئَةٌ، وَلَا جَمْعٌ، وَإِنّ كَتَائِبَ الْمُشْرِكِينَ لَتَحُوشُهُمْ [ (3) ] مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً فِي الْوَادِي، يَلْتَقُونَ وَيَفْتَرِقُونَ، مَا يَرَوْنَ أَحَدًا مِنْ النّاسِ يَرُدّهُمْ.
فَاتّبَعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْظُرُ إلَيْهِ وَهُوَ يَؤُمّ أَصْحَابَهُ، ثُمّ رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ عَسْكَرِهِمْ وَتَآمَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي طَلَبِنَا، فَالْقَوْمُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إلى أصحابه،
__________
[ (1) ] فى ت: «نزحت» .
[ (2) ] فى ت: «هذه الشاقة» . والشأفة: قرحة. قال الزمخشري: ومن المجاز: استأصل الله تعالى شأفتهم: عداوتهم وأذاهم. (أساس البلاغة، ص 474) .
[ (3) ] فى ح: «لتحوسهم» .(1/238)
فَكَأَنّهُمْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ حِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا.
حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْعَبْدَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
حَمَلَ مُصْعَبٌ اللّوَاءَ فَلَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ ثَبَتَ بِهِ، فَأَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ وَهُوَ فَارِسٌ فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَهَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ (1) ] . وَأَخَذَ اللّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَحَنَى عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى، فَحَنَى عَلَى اللّوَاءِ وَضَمّهُ بِعَضُدَيْهِ إلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... الْآيَةَ. ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ الثّالِثَةَ فَأَنْفَذَهُ وَانْدَقّ الرّمْحُ، وَوَقَعَ مُصْعَبٌ وَسَقَطَ اللّوَاءُ، وَابْتَدَرَهُ رجلان من بنى عبد الدار، سُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ وَأَبُو الرّومِ، وَأَخَذَهُ أَبُو الرّومِ فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتّى دَخَلَ بِهِ الْمَدِينَةَ حِينَ انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ.
وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمّتِهِ، عَنْ أُمّهَا، عَنْ الْمِقْدَادِ، قَالَ: لَمّا تَصَافَفْنَا لِلْقِتَالِ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ رَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَلَمّا قُتِلَ أَصْحَابُ اللّوَاءِ وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ الْهَزِيمَةَ الْأُولَى، وَأَغَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَسْكَرِهِمْ فَانْتَهَبُوا، ثُمّ كَرّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَتَوْا مِنْ خَلْفِهِمْ فَتَفَرّقَ النّاسُ [ (2) ] ، وَنَادَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِ الْأَلْوِيَةِ، فَأَخَذَ اللّوَاءَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ثُمّ قُتِلَ. وَأَخَذَ رَايَةَ الْخَزْرَجِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ تَحْتَهَا، وَأَصْحَابُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي الرّومِ الْعَبْدَرِيّ آخِرَ النّهَارِ، وَنَظَرْت إلَى لِوَاءِ الْأَوْسِ مَعَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، فَنَاوَشُوهُمْ سَاعَةً وَاقْتَتَلُوا عَلَى الِاخْتِلَاطِ مِنْ الصّفُوفِ.
وَنَادَى الْمُشْرِكُونَ بِشِعَارِهِمْ: يَا لَلْعُزّى، يَا آلَ هُبَلَ! فأوجعوا والله فينا قتلا
__________
[ (1) ] سورة 3 آل عمران 144.
[ (2) ] فى ت: «فيضروا الناس» .(1/239)
ذَرِيعًا، وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَالُوا. لَا وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، إنْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَالَ شِبْرًا وَاحِدًا، إنّهُ لَفِي وَجْهِ الْعَدُوّ، وَتُثَوّبُ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرّةً وَتَتَفَرّقُ عَنْهُ مَرّةً، فَرُبّمَا رَأَيْته قَائِمًا يَرْمِي عَنْ قَوْسِهِ أَوْ يَرْمِي بِالْحَجَرِ حَتّى تَحَاجَزُوا. وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ فِي عِصَابَةٍ صَبَرُوا مَعَهُ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ من الأنصار: أبو بكر، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وأبو دجانة، وعاصم بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمّد ابن مَسْلَمَةَ، فَيَجْعَلُونَهُمَا مَكَانَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَبَايَعَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ عَلَى الْمَوْتِ- ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: عَلِيّ، وَالزّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَالْحَارِثُ بن الصّمّة، وحباب ابن المنذر، وعاصم بن ثابت، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ، حَتّى انْتَهَى مَنْ انْتَهَى مِنْهُمْ إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمِهْرَاسِ [ (1) ] .
وَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جبيرة، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: ثَبَتَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُونَ رَجُلًا كُلّهُمْ يَقُولُ: وَجْهِي دُونَ وَجْهِك، وَنَفْسِي دُونَ نَفْسِك، وَعَلَيْك السّلَامُ غَيْرَ مُوَدّعٍ.
وَقَالُوا: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا لَحَمَهُ القتال وخلص إليه،
__________
[ (1) ] قال السمهودي: مهراس ماء بجبل أحد، قاله المبرد، وهو معروف، أقصى شعب أحد، يجتمع من المطر فى نقر كبار وصغار، والمهراس اسم لتلك النقر. (وفاء الوفا، ج 2، ص 379) .(1/240)
وَذَبّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو دُجَانَةَ حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ، جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي نَفْسَهُ؟ فَوَثَبَ فِئَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ خَمْسَةٌ، مِنْهُمْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السّكَنِ، فَقَاتَلَ حَتّى أَثْبَتَ، وَفَاءَتْ فِئَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلُوا حَتّى أَجْهَضُوا أَعْدَاءَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَارَةَ بْنِ زِيَادٍ: اُدْنُ مِنّي! إلَيّ، إلَيّ! حَتّى وَسّدَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَمَهُ- وَبِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُرْحًا- حَتّى مَاتَ. وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَذْمُرُ النّاسَ وَيَحُضّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَذْلَقُوا [ (1) ] الْمُسْلِمِينَ بِالرّمْيِ، مِنْهُمْ حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، وَأَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ:
ارْمِ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي! وَرَمَى حِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَ أُمّ أَيْمَنَ- وَجَاءَتْ يَوْمَئِذٍ تَسْقِي الْجَرْحَى- فَعَقَلَهَا [ (2) ] وَانْكَشَفَ عَنْهَا، فَاسْتَغْرَبَ فِي الضّحِكِ، فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ سَهْمًا لَا نَصْلَ لَهُ فَقَالَ: ارْمِ! فَوَقَعَ السّهْمُ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِ حِبّانَ فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيًا وَبَدَتْ عَوْرَتُهُ. قَالَ سَعْدٌ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ يَوْمَئِذٍ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثُمّ قَالَ: اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ، أَجَابَ اللهُ دَعْوَتَك وَسَدّدَ رَمْيَتَك!
وَرَمَى يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ الْجُشَمِيّ أَخُو أَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، وَكَانَ هُوَ وَحِبّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ قَدْ أَسْرَعَا فِي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرَا فِيهِمْ الْقَتْلَ بِالنّبْلِ، يَتَسَتّرَانِ بِالصّخْرِ وَيَرْمِيَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ [ (3) ] أَبْصَرَ سَعْدُ بن أبى وقّاص مالك بن زهير
__________
[ (1) ] أذلقوا: أضعفوا. (القاموس المحيط، ج 3، ص 234) .
[ (2) ] فى ح: «فقلبها وانكشف ذيلها عنها» . وعقلها: صرعها. (القاموس المحيط، ج 4، ص 19) .
[ (3) ] فى ت: «إلى أن أبصر» .(1/241)
وَرَاءَ صَخْرَةٍ، قَدْ رَمَى وَأَطْلَعَ رَأْسَهُ، فَيَرْمِيهِ سَعْدٌ فَأَصَابَ السّهْمُ عَيْنَهُ حَتّى خَرَجَ مِنْ قَفَاهُ، فَنَزَا [ (1) ] فِي السّمَاءِ قَامَةً ثُمّ رَجَعَ فَسَقَطَ، فَقَتَلَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ.
وَرَمَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قَوْسِهِ حَتّى صَارَتْ شَظَايَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ وَكَانَتْ عِنْدَهُ. وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ حَتّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ. قَالَ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ: فَجِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: إي رَسُولَ اللهِ، إنّ تَحْتِي امْرَأَةً شَابّةً جَمِيلَةً أُحِبّهَا وَتُحِبّنِي وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقْذَرَ مَكَانَ عَيْنِي. فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدّهَا فَأَبْصَرَتْ [ (2) ] وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَلَمْ تَضْرِبْ عَلَيْهِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ أَسَنّ: هِيَ وَاَللهِ أَقْوَى عَيْنَيّ! وَكَانَتْ أَحْسَنَهُمَا.
وَبَاشَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ، فَرَمَى بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ وَتَكَسّرَتْ سِيَةُ قَوْسِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ انْقَطَعَ وَتَرُهُ، وَبَقِيَتْ فِي يَدِهِ قِطْعَةٌ تَكُونُ شِبْرًا فِي سِيَةِ الْقَوْسِ،
وَأَخَذَ الْقَوْسَ عُكّاشَةُ بْنُ محصن يُوتِرُهُ لَهُ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، لَا يَبْلُغُ الْوَتَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: مدّه، يبلغ! قال عكّاشة: فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، لَمَدَدْته حَتّى بَلَغَ وَطَوَيْت مِنْهُ لَيّتَيْنِ [ (3) ] أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى سِيَةِ الْقَوْسِ. ثُمّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسَهُ، فَمَا زَالَ يَرْمِي الْقَوْمَ، وَأَبُو طَلْحَة أَمَامَهُمْ يَسْتُرُهُ مُتَرّسًا عَنْهُ، حَتّى نَظَرْت إلَى قَوْسِهِ قَدْ تَحَطّمَتْ، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ. وكان
__________
[ (1) ] فى ت: «فترا» ، وفى ح: «فثرى» . ونزا: وثب. (القاموس المحيط، ج 4، ص 395)
[ (2) ] فى ح: «فانصرف بها» .
[ (3) ] فى ت: «اثنين أو ثلاثة» .(1/242)
أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ نَثَرَ [ (1) ] كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَامِيًا وَكَانَ صَيّتًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَكَانَ فِي كِنَانَتِهِ خَمْسُونَ سَهْمًا، فَنَثَرَهَا [ (2) ] بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جَعَلَ يَصِيحُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْسِي دُونَ نَفْسِك! فَلَمْ يَزَلْ يَرْمِي بِهَا سَهْمًا سَهْمًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع رأسه خلف أبى طلحة بَيْنَ رَأْسِهِ [ (3) ] وَمَنْكِبِهِ يَنْظُرُ إلَى مَوَاقِعِ النّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: نَحْرِي دُونَ نَحْرِك، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاك! فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَأْخُذُ الْعُودَ مِنْ الْأَرْضِ فَيَقُولُ: ارْمِ يَا أَبَا طَلْحَةَ! فَيَرْمِي بِهَا سَهْمًا جَيّدًا.
وَكَانَ الرّمَاةُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورُ مِنْهُمْ [ (4) ] :
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَخِرَاشُ بْنُ الصّمّةِ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ، وَأَبُو طلحة، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَقَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ.
وَرُمِيَ يَوْمَئِذٍ أَبُو رُهْمٍ الْغِفَارِيّ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ فِي نَحْرِهِ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَصَقَ عَلَيْهِ فَبَرَأَ، وَكَانَ أَبُو رُهْمٍ يُسَمّى الْمَنْحُور.
وَكَانَ أربعة من قريش قَدْ تَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهُمْ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ- عبد الله بن شهاب، وعتبة بن
__________
[ (1) ] فى ح: «قد نثل» .
[ (2) ] فى ح: «نثلها» .
[ (3) ] فى ح: «أذنه» .
[ (4) ] فى ح: «المذكورون منهم جماعة» .(1/243)
أَبِي وَقّاصٍ، وَابْنُ قَمِيئَةَ، وَأُبَيّ بْنُ خَلَفٍ. وَرَمَى عُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَحْجَارٍ وَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ- أَشْظَى [ (1) ] بَاطِنَهَا، الْيُمْنَى السّفْلَى- وَشُجّ فِي وَجْنَتَيْهِ [حَتّى غَابَ حَلَقُ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ] [ (2) ] وَأُصِيبَتْ رُكْبَتَاهُ فَجُحِشَتَا. وَكَانَتْ حُفَرٌ حَفَرَهَا أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِق كَالْخَنَادِقِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى بَعْضِهَا وَلَا يَشْعُرُ بِهِ. وَالثّبْتُ عِنْدَنَا أَنّ الّذِي رَمَى وَجْنَتَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قَمِيئَةَ، وَاَلّذِي رَمَى شَفَتَهُ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. وَأَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ وَهُوَ يقول:
دلّونى على محمّد، فو الذي يُحْلَفُ بِهِ [ (3) ] ، لَئِنْ رَأَيْته لَأَقْتُلَنهُ! فَعَلَاهُ بِالسّيْفِ، وَرَمَاهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ مَعَ تَجْلِيلِ السّيْفِ [ (4) ] ، وَكَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ، فَوَقَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ (5) ] فِي الْحُفْرَةِ الّتِي أَمَامَهُ فَجُحِشَتْ رُكْبَتَاهُ، وَلَمْ يَصْنَعْ سَيْفُ ابْنِ قَمِيئَةَ شَيْئًا إلّا وَهَنُ الضّرْبَةِ بِثِقَلِ السّيْفِ، فَقَدْ وَقَعَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةُ يَحْمِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَعَلِيّ آخِذٌ بِيَدَيْهِ حَتّى اسْتَوَى قَائِمًا.
حَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَضَرْت يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا غُلَامٌ، فَرَأَيْت ابْنَ قَمِيئَةَ عَلَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّيْفِ، فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي حُفْرَةٍ أَمَامَهُ حَتّى تَوَارَى، فَجَعَلْت أَصِيحُ- وَأَنَا غلام- حتى رأيت الناس
__________
[ (1) ] أشظى: كسر. (النهاية، ج 2، ص 222) .
[ (2) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (3) ] فى ب، ت: «يحلف له» .
[ (4) ] فى ح: «ورماه عتبة بن أبى وقاص فى الحال التي جلله ابن قميئة فيها السيف وكان عليه السّلام فارسا وهو لابس درعين» . وتجليل السيف من قولهم جلله أى علاه. (الصحاح، ص 1661) .
[ (5) ] فى ح: «فَوَقَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفرس فى حفرة» .(1/244)
ثَابُوا إلَيْهِ. قَالَ: فَأَنْظُرُ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ آخِذًا بِحِضْنِهِ حَتّى قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُقَالُ إنّ الّذِي شَجّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَبْهَتِهِ ابْنُ شِهَابٍ، وَاَلّذِي أَشْظَى رَبَاعِيَتَهُ وَأَدْمَى شَفَتَيْهِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَاَلّذِي رَمَى وَجْنَتَيْهِ حَتّى غَابَ الْحَلَقُ فِي وَجْنَتَيْهِ ابْنُ قَمِيئَةَ، وَسَالَ الدّمُ فِي شَجّتِهِ الّتِي فِي جَبْهَتِهِ حَتّى أَخْضَلَ الدّمُ لِحْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَغْسِلُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ... [ (1) ] الْآيَةَ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ: سَمِعْته يَقُولُ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا فَا رَسُولِ اللهِ، اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ، اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ! قَالَ سَعْدٌ: فَقَدْ شَفَانِي مِنْ عُتْبَةَ أَخِي دُعَاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حَرَصْت عَلَى قَتْلِهِ حِرْصًا مَا حَرَصْته عَلَى شَيْءٍ قَطّ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْته لَعَاقّا بالوالد سيّء الْخُلُقِ. وَلَقَدْ تَخَرّقْتُ صُفُوفَ الْمُشْرِكِينَ مَرّتَيْنِ أَطْلُبُ أخى لأقتله، ولكن راغ [ (2) ] منّى روعان الثّعْلَبِ، فَلَمّا كَانَ الثّالِثَةَ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا تُرِيدُ؟ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَك؟ فَكَفَفْت، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ لَا يَحُولَن الْحَوْلُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ! قَالَ: وَاَللهِ، مَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى أَحَدٍ مِمّنْ رَمَاهُ أَوْ جَرَحَهُ! مَاتَ عُتْبَةُ، وَأَمّا ابْنُ قَمِيئَةَ فَإِنّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ. فَقَائِلٌ يَقُولُ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ إنّهُ رمى يوم أحد
__________
[ (1) ] سورة 3 آل عمران 128.
[ (2) ] فى ت: «زاغ منى زوغان» .(1/245)
بِسَهْمٍ. فَأَصَابَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ قَمِيئَةَ! فَقَتَلَ مُصْعَبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْمَأَهُ [ (1) ] اللهُ! فَعَمَدَ إلَى شَاةٍ يَحْتَلِبُهَا فَنَطَحَتْهُ بِقَرْنِهَا وَهُوَ مُعْتَقِلُهَا فَقَتَلَتْهُ، فَوُجِدَ مَيّتًا بَيْنَ الْجِبَالِ، لِدَعْوَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عَدُوّ اللهِ قَدْ رَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْأَدْرَمِ [ (2) ] مِنْ بنى فهر.
وَيُقْبِلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرٍ حين رأى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، يَرْكُضُ فَرَسَهُ مُقَنّعًا فِي الْحَدِيدِ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ زُهَيْرٍ، دُلّونِي على محمّد، فو الله لَأَقْتُلَنهُ أَوْ لَأَمُوتَن دُونَهُ! فَتَعَرّضَ لَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَالَ: هَلُمّ إلَى مَنْ يَقِي نَفْسَ مُحَمّدٍ بِنَفْسِهِ! فَضَرَبَ فَرَسَهُ فَعَرْقَبَهَا [ (3) ] فَاكْتَسَعَتْ الْفَرَسُ، ثُمّ عَلَاهُ بِالسّيْفِ [ (4) ] وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ خَرَشَةَ! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ يَقُولُ: اللهُمّ ارْضَ عَنْ ابْنِ خَرَشَةَ كَمَا أَنَا عَنْهُ رَاضٍ.
حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قالت: سمعت أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَرُمِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ حَتّى دَخَلَتْ فِي وَجْنَتَيْهِ حَلَقَتَانِ مِنْ الْمِغْفَرِ، فَأَقْبَلْت أَسْعَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْسَانٌ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَطِيرُ طَيَرَانًا، فقلت: اللهمّ اجعله
__________
[ (1) ] أقمأه: صغره وذلله. (الصحاح، ص 66) .
[ (2) ] فى ت: «الأزرم» . والأدرم: تيم بن غالب، وهو بطن من قريش الظواهر كما ذكر البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 40) .
[ (3) ] عرقبها: قطع عرقوبها، وهو الوتر الذي خلف الكعبين بين مفصل القدم والساق من ذوات الأربع. (النهاية، ج 3، ص 88) .
[ (4) ] فى ت: «فقتله» .(1/246)
طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ! حَتّى تَوَافَيْنَا إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرّاحِ، فَبَدَرَنِي فَقَالَ: أَسْأَلُك بالله يا أبا بَكْر أَلّا تَرَكْتنِي، فَأَنْزِعُهُ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بكر: فتركته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم صاحبكم!
يعنى طلحة بن عبيد الله.
فأخذ أبو عُبَيْدَةَ بِثَنِيّتِهِ حَلَقَةَ الْمِغْفَرِ فَنَزَعَهَا، وَسَقَطَ عَلَى ظهره وسقطت ثنيّة أبى عُبَيْدَةَ، ثُمّ أَخَذَ الْحَلَقَةَ الْأُخْرَى بِثَنِيّتِهِ الْأُخْرَى، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النّاسِ أَثْرَمَ [ (1) ] .
وَيُقَالُ إنّ الّذِي نَزَعَ الْحَلَقَتَيْنِ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ، وَيُقَالُ أَبُو الْيُسْرِ- وَأَثْبَتُ ذلك عندنا عقبة ابن وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ.
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصِيبَ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَدَخَلَتْ الْحَلَقَتَانِ مِنْ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتَيْهِ، فَلَمّا نُزِعَتَا جَعَلَ الدّمُ يَسْرُبُ كَمَا يَسْرُبُ الشّنّ [ (2) ] ، فَجَعَلَ مَالِكُ بن سنان يَمْلُجُ [ (3) ] الدّمَ بِفِيهِ ثُمّ ازْدَرَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَنْ خَالَطَ دَمُهُ دَمِي فلينظر إلى مالك بن سنان. فَقِيلَ لِمَالِكٍ: تَشْرَبُ الدّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَشْرَبُ دَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَسّ دَمُهُ دَمِي، لَمْ تُصِبْهُ النّارُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:
فَكُنّا مِمّنْ رُدّ مِنْ الشّيْخَيْنِ، لَمْ نَجُزْ [ (4) ] مَعَ الْمُقَاتِلَةِ، فَلَمّا كَانَ من
__________
[ (1) ] رجل أثرم: أى به ثرم، وهو سقوط الثنية. (أساس البلاغة، ص 92) .
[ (2) ] الشن: القربة الحلق، وهي الشنة أيضا. (الصحاح، ص 2146) .
[ (3) ] ملج الصبى أمه إذا رضعها. (النهاية، ج 4، ص 105) .
[ (4) ] فى ب، ت: «لم نجئ» .(1/247)
النّهَارِ وَبَلَغَنَا مُصَابَ [ (1) ] رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرّقَ النّاسِ عَنْهُ، جِئْت مَعَ غِلْمَانٍ مِنْ بَنِي خَدِرَةَ نَعْتَرِضُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَنْظُرُ إلَى سَلَامَتِهِ فَنَرْجِعُ بِذَلِكَ إلَى أَهْلِنَا، فَلَقِينَا النّاسَ مُنْصَرِفِينَ بِبَطْنِ قَنَاةٍ [ (2) ] ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا هِمّةٌ إلّا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَنْظُرُ إلَيْهِ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيّ قَالَ: سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ؟ قُلْت: نَعَمْ، بِأَبِي وَأُمّي! فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَبّلْت رُكْبَتَهُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ. ثُمّ قَالَ: آجَرَك اللهُ فِي أَبِيك!
ثُمّ نَظَرْت إلَى وَجْهِهِ فَإِذَا فِي وَجْنَتَيْهِ مَوْضِعُ الدّرْهَمِ فِي كُلّ وَجْنَةٍ، وَإِذَا شَجّةٌ فِي جَبْهَتِهِ عِنْدَ أُصُولِ الشّعْرِ، وَإِذَا شَفَتُهُ السّفْلَى تَدْمَى، وَإِذَا رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى شَظِيّةٌ، فَإِذَا عَلَى جُرْحِهِ شَيْءٌ أَسْوَدُ. فَسَأَلْت: مَا هَذَا عَلَى وَجْهِهِ؟ فَقَالُوا: حَصِيرٌ مُحَرّقٌ.
وَسَأَلْت: مَنْ دَمّى وَجْنَتَيْهِ؟ فَقِيلَ: ابْنُ قَمِيئَةَ. فَقُلْت: مَنْ شَجّهُ فِي جَبْهَتِهِ؟
فَقِيلَ: ابْنُ شِهَابٍ. فَقُلْت: مَنْ أَصَابَ شَفَتَهُ؟ فَقِيلَ: عُتْبَةُ. فَجَعَلْت أَعْدُو بَيْنَ يَدَيْهِ حَتّى نَزَلَ بِبَابِهِ، فَمَا نَزَلَ إلّا حَمْلًا، وَأَرَى رُكْبَتَيْهِ مَجْحُوشَتَيْنِ، يَتّكِئُ عَلَى السّعْدَيْنِ- سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ.
فَلَمّا غَرَبَتْ الشّمْسُ وَأَذّنَ بَلَالٌ بِالصّلَاةِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ يَتَوَكّأُ عَلَى السّعْدَيْنِ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ، وَالنّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُوقِدُونَ النّيرَانَ يُكَمّدُونَ بِهَا الْجِرَاحَ. ثُمّ أَذّنَ بِلَالٌ بِالْعِشَاءِ حِينَ غَابَ الشّفَقُ، فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ بِلَالٌ عِنْدَ بَابِهِ حَتّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ ثُمّ نَادَاهُ: الصّلَاةَ، يَا رَسُولَ اللهِ! فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ نَائِمًا. قَالَ: فَرَمَقْته فَإِذَا هُوَ أَخَفّ فِي مِشْيَتِهِ مِنْهُ حِينَ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَصَلّيْت مَعَهُ الْعِشَاءَ ثم رجع إلى بيته، وقد صفّ
__________
[ (1) ] فى ت: «مضارب» .
[ (2) ] قناة: أحد أودية المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 363) .(1/248)
لَهُ الرّجَالُ مَا بَيْنَ بَيْتِهِ إلَى مُصَلّاهُ، يَمْشِي وَحْدَهُ حَتّى دَخَلَ، وَرَجَعْت إلَى أَهْلِي فَخَبّرْتهمْ بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدُوا اللهَ عَلَى ذَلِكَ وَنَامُوا، وَكَانَتْ وُجُوهُ الْخَزْرَجِ وَالْأَوْسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُسُونَهُ فَرَقًا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ تَكِرّ.
قَالُوا: وَخَرَجَتْ فَاطِمَةُ فِي نِسَاءٍ، وَقَدْ رَأَتْ الّذِي بِوَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَتْهُ وَجَعَلَتْ تَمْسَحُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ أَدْمَوْا وَجْهَ رَسُولِهِ! وَذَهَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَأْتِي بِمَاءٍ مِنْ الْمِهْرَاسِ، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: أَمِسْكِي هَذَا السّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمٍ.
فَأَتَى بِمَاءٍ فِي مِجَنّهِ [ (1) ] ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ- وَكَانَ قَدْ عَطِشَ- فَلَمْ يَسْتَطِعْ، وَوَجَدَ رِيحًا مِنْ الْمَاءِ كَرِهَهَا فَقَالَ: هَذَا مَاءٌ آجِنٌ [ (2) ] . فَمَضْمَضَ مِنْهُ فَاهُ لِلدّمِ فِي فِيهِ، وَغَسَلَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ عَنْ أَبِيهَا.
وَلَمّا أَبْصَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مُخْتَضِبًا قَالَ:
إنْ كُنْت أَحْسَنْت الْقِتَالَ، فَقَدْ أَحْسَنَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَسَيْفُ أَبِي دُجَانَةَ غَيْرُ مَذْمُومٍ. فَلَمْ يُطِقْ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ، فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مسلمة يَطْلُبُ مَعَ النّسَاءِ مَاءً، وَكُنّ قَدْ جِئْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، مِنْهُنّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْمِلْنَ الطّعَامَ وَالشّرَابَ عَلَى ظُهُورِهِنّ، وَيَسْقِينَ الْجَرْحَى وَيُدَاوِينَهُمْ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: رَأَيْت أُمّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ وَعَائِشَةَ عَلَى ظُهُورِهِمَا الْقِرَبُ يَحْمِلَانِهَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ [ (3) ] تَسْقِي الْعَطْشَى
__________
[ (1) ] فى ت: «فى فجنة» . والمجن: الترس. (القاموس المحيط، ج 4، ص 210) .
[ (2) ] الآجن: الماء المتغير الطعم واللون. (النهاية، ج 1، ص 18) .
[ (3) ] فى ت: «خمينة بنت جحش» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 81) .(1/249)
وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَكَانَتْ أُمّ أَيْمَنَ تَسْقِي الْجَرْحَى. فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عِنْدَهُمْ مَاءً- وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَطِشَ يَوْمَئِذٍ عَطَشًا شَدِيدًا- ذَهَبَ مُحَمّدٌ إلَى قَنَاةٍ وَأَخَذَ سِقَاءَهُ حَتّى اسْتَقَى مِنْ حِسْيٍ [ (1) ]- قَنَاةٍ عِنْدَ قُصُورِ التّيْمِيّينَ الْيَوْمَ- فَأَتَى بِمَاءٍ عَذْبٍ فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بِخَيْرٍ. وَجَعَلَ الدّمُ لَا يَنْقَطِعُ، وَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَهَا حَتّى تَسْتَلِمُوا الرّكْنَ.
فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ لَا يَرْقَأُ- وَهِيَ تَغْسِلُ الدّمَ، وَعَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَصُبّ الْمَاءَ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ- أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتّى صَارَ رَمَادًا، ثُمّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ. وَيُقَالُ إنّهَا دَاوَتْهُ بِصُوفَةٍ مُحْتَرِقَةٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ يُدَاوِي الْجُرْحَ الّذِي فِي وَجْهِهِ بِعَظْمٍ بَالٍ حَتّى يَذْهَبَ أَثَرُهُ، وَلَقَدْ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُ وَهَنَ ضَرْبَةِ ابْنِ قَمِيئَةَ عَلَى عَاتِقِهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، وَيُدَاوِي الْأَثَرَ الّذِي بِوَجْهِهِ بِعَظْمٍ بَالٍ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ:
لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ يَرْكُضُ فَرَسُهُ، حَتّى إذَا دَنَا مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَرَضَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَقْتُلُوهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْخِرُوا عَنْهُ!
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرْبَتُهُ فِي يَدِهِ فَرَمَاهُ مَا بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ وَالدّرْعِ فَطَعَنَهُ هُنَاكَ، فَوَقَعَ أُبَيّ عَنْ فَرَسِهِ، فَكُسِرَ ضِلَعٌ مِنْ أَضْلَاعِهِ، وَاحْتَمَلُوهُ ثَقِيلًا حَتّى وَلّوْا قَافِلِينَ فَمَاتَ بِالطّرِيقِ، وَنَزَلَتْ فِيهِ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] الحسى: حفيرة قريبة القعر، قيل إنه لا يكون إلا فى أرض أسفلها حجارة وفوقها رمل فإذا أمطرت نشفها الرمل فإذا انتهى إلى الحجارة أمسكه. (النهاية، ج 1، ص 228) .
[ (2) ] سورة 8 الأنفال 17.(1/250)
فَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ عَاصِمِ بن عمر، عن عبد الله ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ قَدِمَ فِي فِدَاءِ ابْنِهِ، وَكَانَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّ عِنْدِي فَرَسًا لِي أُجِلّهَا فَرَقًا [ (1) ] مِنْ ذُرَةٍ كُلّ يَوْمٍ، أَقْتُلُك عَلَيْهَا. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، أَنَا أَقْتُلُك عَلَيْهَا إنْ شَاءَ الله. وَيُقَالُ قَالَ ذَلِكَ بِمَكّةَ فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَهُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَنَا أَقْتُلُهُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ الله.
قَالُوا: وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْقِتَالِ لَا يَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ، فَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إنّي أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ مِنْ خَلْفِي، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَآذِنُونِي [ (2) ] بِهِ.
فَإِذَا بِأُبَيّ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسِهِ، وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَهُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مُحَمّدُ، لَا نَجَوْت إنْ نَجَوْت! فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كُنْت صَانِعًا حِينَ يَغْشَاك! فَقَدْ جَاءَك، وَإِنْ شِئْت عَطَفَ عَلَيْهِ بَعْضُنَا. فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَنَا أُبَيّ فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربة من الحارث ابن الصّمّةِ، ثُمّ انْتَفَضَ بِأَصْحَابِهِ كَمَا يَنْتَفِضُ الْبَعِيرُ، فَتَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشّعَارِيرِ [ (3) ] ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُشْبِهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدّ الْجِدّ. ثُمّ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْبَةِ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثّوْرُ. وَيَقُولُ لَهُ أَصْحَابُهُ:
أَبَا عَامِرٍ، وَاَللهِ مَا بِك بَأْسٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الّذِي بِك بِعَيْنِ أَحَدِنَا مَا ضَرّهُ.
__________
[ (1) ] فى ح: «أعلفها فرقا» . والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مدا وأجلها:
أى أعلفها، فوضع الإجلال موضع الإعطاء، وأصله من الشيء الجليل. (النهاية ج 3، ص 196، ج 1، ص 173) .
[ (2) ] فى ت: «فادنونى» .
[ (3) ] الشعارير: جمع الشعراء. وقال ابن هشام: الشعراء ذباب صغير له لذع. (السيرة النبوية، ج 3، ص 89) .(1/251)
قال: واللّات وَالْعُزّى، لَوْ كَانَ الّذِي بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ [ (1) ] لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ! أَلَيْسَ قَالَ: «لَأَقْتُلَنك» ؟ فَاحْتَمَلُوهُ وَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَلَبِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمِ أَصْحَابِهِ فِي الشّعْبِ. وَيُقَالُ تَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنْ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَاتَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ بِبَطْنِ رَابِغٍ [ (2) ] ، فَإِنّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هَوِيّ [ (3) ] مِنْ اللّيْلِ، إذَا نَارٌ تَأجّجُ، فَهِبْتهَا، وَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا [ (4) ] يَصِيحُ: الْعَطَشَ! وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ:
لَا تَسْقِهِ، فَإِنّ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللهِ، هَذَا أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ. فَقُلْت: أَلَا سُحْقًا! وَيُقَالُ مَاتَ بِسَرِفٍ [ (5) ] . وَيُقَالُ لَمّا تَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنْ الزّبَيْرِ حَمَلَ أُبَيّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَضْرِبَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَحُولُ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَجْهَهُ، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرْجَةً بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ وَالدّرْعِ فَطَعَنَهُ هُنَاكَ، فَوَقَعَ وَهُوَ يَخُورُ.
قَالَ: وَأَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ يُحْضِرُ فَرَسًا لَهُ أَبْلَقَ، يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ لَأْمَةٌ لَهُ كَامِلَةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَجّهٌ إلَى الشّعْبِ، وَهُوَ يَصِيحُ:
لَا نَجَوْت إنْ نَجَوْت!
فَيَقِفُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْثُرُ بِهِ فَرَسُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُفَرِ الّتِي كَانَتْ حَفَرَ أَبُو عَامِرٍ، فَيَقَعُ الْفَرَسُ لِوَجْهِهِ، وَخَرَجَ الْفَرَسُ عَائِرًا فَيَأْخُذُهُ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فيعقرونه،
__________
[ (1) ] كان ذو المجاز سوقا من أسواق العرب، وهو عن يمين الموقف بعرفة قريبا من كبكب. (معجم ما استعجم، ص 508) .
[ (2) ] أى فى منصرفهم إلى مكة.
[ (3) ] هوى من الليل: ساعة. (القاموس المحيط، ج 4، ص 404) .
[ (4) ] فى ت: «يحيد بها» .
[ (5) ] سرف: على ستة أميال من مكة. (معجم ما استعجم، ص 772) .(1/252)
وَيَمْشِي إلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ فَتَضَارَبَا سَاعَةً بِسَيْفَيْنِ، ثُمّ يَضْرِبُ الْحَارِثُ رِجْلَهُ- وَكَانَتْ الدّرْعُ مُشَمّرَةً- فَبَرَكَ وَذَفّفَ عَلَيْهِ. وَأَخَذَ الْحَارِثُ يَوْمَئِذٍ دِرْعًا جَيّدَةً وَمِغْفَرًا وَسَيْفًا جَيّدًا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأَحَدٍ سَلَبَ يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَى قِتَالِهِمَا
وَسَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّجُلِ، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَحَانَهُ [ (1) ] .
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنِ جَحْشٍ أَسَرَهُ بِبَطْنِ نَخْلَةَ حَتّى قَدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَافْتَدَى فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ حَتّى غَزَا أُحُدًا فَقُتِلَ بِهِ. وَيَرَى مَصْرَعَهُ عُبَيْدُ بْنُ حَاجِزٍ الْعَامِرِيّ- عَامِرُ بْنُ لُؤَيّ- فَأَقْبَلَ يَعْدُو كَأَنّهُ سَبُعٌ، فَيَضْرِبُ الْحَارِثَ بْنَ الصّمّة ضَرْبَةً جَرَحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَوَقَعَ الْحَارِثُ جَرِيحًا حَتّى احْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ. وَيُقْبِلُ أَبُو دُجَانَةَ عَلَى عُبَيْدٍ فَتَنَاوَشَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتّقِي بِالدّرَقَةِ ضَرْبَ السّيْفِ، ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَاحْتَضَنَهُ، ثُمّ جَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمّ ذَبَحَهُ بِالسّيْفِ كَمَا تُذْبَحُ الشّاةُ، ثُمّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالُوا: إنّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ جَعَلَ يَنْضَحُ بِالنّبْلِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَبّلُوا سَهْلًا فَإِنّهُ سَهْلٌ! وَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَبِي الدّرْدَاءِ، وَالنّاسُ مُنْهَزِمُونَ كُلّ وَجْهٍ، فَقَالَ: نِعْمَ الْفَارِسُ عُوَيْمِرٌ!
[قَالَ الْوَاقِدِيّ:] غَيْرَ أَنّهُ يُقَالُ لَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ نَظَرَ إلَى أَبِي أُسَيْرَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ وَلَقِيَ أَحَدَ بَنِي عوف فاختلفا
__________
[ (1) ] أحانه: أهلكه. (الصحاح، ص 2106) .(1/253)
ضَرَبَاتٍ، كُلّ ذَلِكَ يَرُوغُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ [ (1) ] . قَالَ: فَنَظَرَ إلَيْهِمَا كَأَنّهُمَا سَبُعَانِ ضَارِيَانِ، يَقِفَانِ مَرّةً وَيَقْتَتِلَانِ مَرّةً، ثُمّ تَعَانَقَا فَضَبَطَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَوَقَعَا لِلْأَرْضِ، فَعَلَاهُ أَبُو أُسَيْرَةَ فَذَبَحَهُ بِسَيْفِهِ كَمَا تُذْبَحُ الشّاةُ، وَنَهَضَ عَنْهُ. وَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ أَغَرّ مُحَجّلٍ، يَجُرّ قَنَاةً طَوِيلَةً، فَطَعَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَنَظَرْت إلَى سِنَانِ الرّمْحِ خَرَجَ مِنْ صَدْرِهِ، وَوَقَعَ أَبُو أُسَيْرَةَ مَيّتًا، وَانْصَرَفَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَقُولُ: أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ! قَالُوا: وَقَاتَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يَوْمَئِذٍ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَ طَلْحَةُ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَرّ [ (2) ] الْمُشْرِكُونَ وَأَحْدَقُوا بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، فَمَا أَدْرِي أَقُومُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، فَأَذُبّ بِالسّيْفِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَرّةً وَأُخْرَى مِنْ وَرَائِهِ حَتّى انْكَشَفُوا.
فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَقُولُ لِطَلْحَةَ: قَدْ أَنْحَبَ [ (3) ] !
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ وَذَكَرَ طَلْحَةَ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، إنّهُ كَانَ أَعْظَمَنَا غِنَاءً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ! قِيلَ: كَيْفَ يَا أَبَا إسْحَاقَ؟ قَالَ: لَزِمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنّا نَتَفَرّقُ عَنْهُ ثُمّ نَثُوبُ إلَيْهِ، لَقَدْ رَأَيْته يَدُورُ حَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتَرّسُ بِنَفْسِهِ.
وَسُئِلَ طَلْحَةُ: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، مَا أَصَابَ إصْبَعَك؟ قَالَ: رَمَى مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ الْجُشَمِيّ بِسَهْمٍ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُ رَمْيَتُهُ، فَاتّقَيْت بِيَدِي عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَ خِنْصَرِي، فَشُكّ فَشُلّ إصْبَعُهُ. وَقَالَ حِينَ رَمَاهُ. حَسّ [ (4) ] !
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قَالَ بِسْمِ اللهِ لَدَخَلَ الْجَنّةَ وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ! من أحبّ أن ينظر إلى
__________
[ (1) ] فى ح: «عن الآخر» .
[ (2) ] فى ح: «وكثر» .
[ (3) ] قال ابن أبى الحديد: وأنحب أى قضى نذره. (نهج البلاغة، ج 3، ص 372) .
[ (4) ] حس: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه غفلة كالجمرة والضربة ونحوهما. (النهاية، ج 1، ص 227) .(1/254)
رَجُلٍ يَمْشِي فِي الدّنْيَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، طَلْحَةُ مِمّنْ قَضَى نَحْبَه.
وَقَالَ طَلْحَةُ: لَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ ثُمّ تَرَاجَعُوا، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ مالك بن المضرّب يَجُرّ رُمْحًا لَهُ، عَلَى فَرَسٍ كُمَيْتٍ أَغَرّ، مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ، يَصِيحُ: أَنَا أَبُو ذَاتِ الْوَدَعِ [ (1) ] ، دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ! فَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ فانكسعت، ثم أتناول رمحه فو الله مَا أَخْطَأْت بِهِ عَنْ حَدَقَتِهِ، فَخَارَ كَمَا يَخُورُ الثّوْرُ، فَمَا بَرِحْت بِهِ وَاضِعًا رِجْلِي عَلَى خَدّهِ حَتّى أَزَرْته شَعُوبَ [ (2) ] . وَكَانَ طَلْحَةُ قَدْ أَصَابَتْهُ فِي رَأْسِهِ الْمُصَلّبَةِ [ (3) ] ، ضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَتَيْنِ، ضَرْبَةً وَهُوَ مُقْبِلٌ وَالْأُخْرَى وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ، وَكَانَ قَدْ نَزَفَ مِنْهَا الدّمُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جِئْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: عَلَيْك بِابْنِ عَمّك!
فَأَتَى طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ وَقَدْ نَزَفَ الدّمُ، فَجَعَلْت أَنْضَحُ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ وَهُوَ مَغْشِيّ عَلَيْهِ، ثُمّ أَفَاقَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ؟ فَقُلْت: خَيْرًا، هُوَ أَرْسَلَنِي إلَيْك. قَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ، كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَهُ جَلَلٌ.
وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ يَقُولُ: نَظَرْت إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ فِي عُمْرَةٍ، فَنَظَرْت إلَى الْمُصَلّبَةِ فِي رَأْسِهِ.
فَقَالَ ضِرَارٌ: أَنَا وَاَللهِ ضَرَبْته هَذِهِ، اسْتَقْبَلَنِي فَضَرَبْته ثُمّ أَكِرّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَعْرَضَ فَأَضْرِبُهُ أُخْرَى.
وَقَالُوا: لَمّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ وَقَتَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَام مَنْ قتل من الناس
__________
[ (1) ] فى ح: «ذات الوذع» . والودع: خرز بيض من البحر. (القاموس المحيط، ج 3، ص 92) .
[ (2) ] فى ح: «حتى أذرته شعوب» .
[ (3) ] أى صارت الضربة كالصليب. (النهاية، ج 1، ص 270) .(1/255)
وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ، جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَتَكَلّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَالَ مِنْ [ (1) ] طَلْحَةَ فَزَبَرَهُ عَلِيّ وَقَالَ: إنّك لَمْ تَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ وَعِظَمَ غِنَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَكَانِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْكَسَرَ الرّجُلُ وَسَكَتَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: وَمَا كَانَ غِنَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ يَوْمَ أُحُدٍ يَرْحَمُهُ اللهُ؟ فَقَالَ عَلِيّ: نَعَمْ، يَرْحَمُهُ اللهُ! فَلَقَدْ رَأَيْته وَإِنّهُ لَيُتَرّسُ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنّ السّيُوفَ لَتَغْشَاهُ وَالنّبْلَ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَإِنْ هُوَ إلّا جُنّةٌ بِنَفْسِهِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قَائِلٌ: إنْ كَانَ يَوْمًا قَدْ قُتِلَ فِيهِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَصَابَ رَسُولَ اللهِ فِيهِ الْجِرَاحَةُ.
فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
لَيْتَ أَنّي غُودِرْت مَعَ أَصْحَابِ نُحْصِ الْجَبَل. قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ: نُحْصِ الْجَبَلِ أَسْفَلَهُ. ثُمّ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ وَإِنّي لَأَذُبّهُمْ فِي نَاحِيَةٍ، وَإِنّ أَبَا دُجَانَةَ لَفِي نَاحِيَةٍ يَذُبّ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَإِنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ يَذُبّ طَائِفَةً مِنْهُمْ، حَتّى فَرّجَ اللهُ ذَلِكَ كُلّهُ. وَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَانْفَرَدْت مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ فِرْقَةٌ خَشْنَاءُ فِيهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَدَخَلْت وَسَطَهَا بِالسّيْفِ فَضَرَبْت بِهِ وَاشْتَمَلُوا عَلَيّ حَتّى أَفْضَيْت [ (2) ] إلَى آخِرِهِمْ، ثُمّ كَرَرْت فِيهِمْ الثّانِيَةَ حَتّى رَجَعْت مِنْ حَيْثُ جِئْت، وَلَكِنّ الْأَجَلَ اسْتَأْخَرَ وَيَقْضِي اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ نَظَرَ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَإِنّهُ لَيَحُوشُهُمْ يَوْمَئِذٍ كَمَا تُحَاشُ الْغَنَمُ، وَلَقَدْ اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ حَتّى قِيلَ قد
__________
[ (1) ] فى ت: «وقال من طلحة» .
[ (2) ] فى ت: «فضيت» .(1/256)
قُتِلَ. ثُمّ بَرَزَ وَالسّيْفُ فِي يَدِهِ وَافْتَرَقُوا عَنْهُ، وَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَهْرُبُونَ مِنْهُ إلَى جَمْعٍ مِنْهُمْ، وَصَارَ الْحُبَابُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحُبَابُ يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِعِصَابَةٍ خَضْرَاءَ فِي مِغْفَرِهِ.
وَطَلَعَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى فَرَسٍ، مُدَجّجًا لَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ أَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَتِيقٍ. قَالَ: فَنَهَضَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبَارِزُهُ. وَقَدْ جَرّدَ أَبُو بَكْرٍ سَيْفَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِمْ سَيْفَك، وَارْجِعْ إلَى مَكَانِك وَمَتّعْنَا بِنَفْسِك.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَجَدْت لِشَمّاسِ بْنِ عُثْمَانَ شَبَهًا إلّا الْجُنّةَ- يَعْنِي مِمّا يُقَاتِلُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْمِي [ (1) ] يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إلّا رَأَى شَمّاسًا فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ يَذُبّ بِسَيْفِهِ، حَتّى غُشِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرّسَ بِنَفْسِهِ دُونَهُ حَتّى قُتِلَ، فَذَلِكَ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَجَدْت لِشَمّاسٍ شَبَهًا إلّا الْجُنّةَ.
وَكَانَ أَوّلُ مَنْ أَقْبَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ التّوْلِيَةِ قَيْسَ بْنَ مُحَرّثٍ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ بَلَغُوا بَنِي حَارِثَةَ فَرَجَعُوا سِرَاعًا، فَصَادَفُوا الْمُشْرِكِينَ فِي كَرّتِهِمْ [ (2) ] فَدَخَلُوا فِي حَوْمَتِهِمْ، وَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتّى قُتِلُوا. وَلَقَدْ ضَارَبَهُمْ قَيْسُ بْنُ مُحَرّثٍ وَامْتَنَعَ بِسَيْفِهِ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ نَفَرًا، فَمَا قَتَلُوهُ إلّا بِالرّمَاحِ، نَظَمُوهُ [ (3) ] ، وَلَقَدْ وُجِدَ بِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ طَعْنَةً [ (4) ] قَدْ جَافَتْهُ،
__________
[ (1) ] فى ح: «لا يأخذ» .
[ (2) ] فى ح: «فى كثرتهم» .
[ (3) ] هكذا فى كل النسخ، ولعل نظم وانتظم بمعنى. وانتظمه: أى اختله. (الصحاح، ص 2041)
[ (4) ] فى ح: «أربع عشرة طعنة جائفة» .(1/257)
وَعَشْرُ ضَرَبَاتٍ فِي بَدَنِهِ.
وَكَانَ عَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَأَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبّاسٌ رَافِعٌ صَوْتَهُ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللهَ وَنَبِيّكُمْ [ (1) ] ! هَذَا الّذِي أَصَابَكُمْ بِمَعْصِيَةِ نَبِيّكُمْ، فَيُوعِدُكُمْ [ (2) ] النّصْرَ فَمَا صَبَرْتُمْ! ثُمّ نَزَعَ مِغْفَرَهُ عَنْ رَأْسِهِ وَخَلَعَ دِرْعَهُ فَقَالَ لِخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ:
هَلْ لَك فِي دُرْعِي وَمِغْفَرِي؟ قَالَ خَارِجَةُ: لَا، أَنَا أُرِيدُ الّذِي تُرِيدُ. فَخَالَطُوا الْقَوْمَ جَمِيعًا، وَعَبّاسٌ يَقُولُ: مَا عُذْرُنَا عِنْدَ رَبّنَا إنْ أُصِيبَ رَسُولُ اللهِ وَمِنّا عَيْنُ تَطْرِفُ؟ يَقُولُ خَارِجَةُ: لَا عُذْرَ لَنَا عِنْدَ رَبّنَا وَلَا حُجّةَ. فَأَمّا عَبّاسٌ فَقَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ السّلَمِيّ، وَلَقَدْ ضَرَبَهُ عَبّاسٌ ضَرْبَتَيْنِ فَجَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَظِيمَيْنِ، فَارْتُثّ يَوْمَئِذٍ جَرِيحًا فَمَكَثَ جَرِيحًا سَنَةً ثُمّ اسْتُبِلّ [ (3) ] .
وَأَخَذَتْ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ الرّمَاحُ فَجُرِحَ بَضْعَةَ عَشَرَ جُرْحًا، فمرّ به صفوان ابن أُمَيّةَ فَعَرَفَهُ فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَبِهِ رَمَقٌ! فَأَجْهَزَ عَلَيْهِ. وَقُتِلَ أَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ.
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: مَنْ رَأَى خُبَيْبَ بْنَ يَسَافٍ؟ وَهُوَ يَطْلُبُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَمَثّلَ يَوْمَئِذٍ بِخَارِجَةَ وَقَالَ: هَذَا مِمّنْ أَغْرَى بِأَبِي يَوْمَ بَدْرٍ- يَعْنِي أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ- الْآنَ شَفَيْت نَفْسِي حِينَ قَتَلْت الْأَمَاثِلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، قَتَلْت ابْنَ قَوْقَلٍ [ (4) ] ، وَقَتَلْت ابْنَ أَبِي زُهَيْرٍ، وَقَتَلْت أَوْسَ بْنَ أَرْقَمَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ
__________
[ (1) ] فى ب: «الله الله فى نبيكم» .
[ (2) ] فى ح: «وعدكم» .
[ (3) ] فى الأصل: «استقبل» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. واستبل: نجا من مرضه. (القاموس المحيط، ج 3، ص 337) .
[ (4) ] فى ب، ت: «ابن نوفل» ، وما أثبتناه عن الأصل وح، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 79) .(1/258)
بِحَقّهِ؟ قَالُوا: وَمَا حَقّهُ؟ قَالَ: يَضْرِبُ بِهِ الْعَدُوّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ عَرَضَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الشّرْطِ، فَقَامَ الزّبَيْرُ فَقَالَ: أَنَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وَجَدَ عُمَرُ وَالزّبَيْرُ فِي أَنْفُسِهِمَا. ثُمّ عَرَضَهُ الثالثة، فقال أبو دجانة: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ آخُذُهُ بِحَقّهِ. فَدَفَعَهُ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَدَقَ بِهِ حِينَ لَقِيَ الْعَدُوّ، وَأَعْطَى السّيْفَ حَقّهُ. فَقَالَ أَحَدُ الرّجُلَيْنِ- إمّا عُمَرُ وَإِمّا الزّبَيْرُ: وَاَللهِ لَأَجْعَلَن هَذَا الرّجُلَ مِنْ شَأْنِي، الّذِي أَعْطَاهُ النّبِيّ السّيْفَ وَمَنَعَنِيهِ [ (1) ] . قَالَ: فَاتّبَعْته [ (2) ] . قال: فو الله مَا رَأَيْت أَحَدًا قَاتَلَ أَفْضَلَ مِنْ قِتَالِهِ، لَقَدْ رَأَيْته يَضْرِبُ بِهِ حَتّى إذَا كَلّ عَلَيْهِ وَخَافَ أَلّا يَحِيكَ [ (3) ] عَمَدَ بِهِ إلَى الْحِجَارَةِ فَشَحَذَهُ، ثُمّ يَضْرِبُ بِهِ فِي الْعَدُوّ حَتّى رَدّهُ كَأَنّهُ مِنْجَلٌ. وَكَانَ حِينَ أَعْطَاهُ السّيْفَ مَشَى بَيْنَ الصّفّيْنِ وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ يَمْشِي تِلْكَ الْمِشْيَةَ: إنّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ إلّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ.
وَكَانَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُونَ فِي الزّحُوفِ، أَحَدُهُمْ أَبُو دُجَانَةَ، كَانَ يُعَصّبُ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ، وَكَانَ قَوْمُهُ يَعْلَمُونَ أَنّهُ إذَا اعْتَصَبَ بِهَا أَحْسَنَ الْقِتَالَ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يُعْلِمُ بِصُوفَةٍ بَيْضَاءَ، وَكَانَ الزّبَيْرُ يُعْلِمُ بِعِصَابَةٍ صَفْرَاءَ، وَكَانَ حَمْزَةُ يُعْلِمُ بِرَيْشِ نَعَامَةٍ.
قَالَ أَبُو دُجَانَةَ: إنّي لَأَنْظُرُ يَوْمَئِذٍ إلَى امْرَأَةٍ تَقْذِفُ النّاسَ وَتَحُوشُهُمْ حَوْشًا مُنْكَرًا، فَرَفَعْت عَلَيْهَا السّيْفَ وَمَا أَحْسِبُهَا إلّا رَجُلًا. قَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ أَضْرِبَ بِسَيْفِ رَسُولِ اللهِ امْرَأَةً! وَالْمَرْأَةُ عَمْرَةُ بنت الحارث.
__________
[ (1) ] فى ح: «ومنعني من شأنى» .
[ (2) ] فى ت: «فاتبعه» .
[ (3) ] لا يحيك: لا يؤثر. (النهاية، ج 1، ص 276) .(1/259)
وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: أَصَابَنِي الْجِرَاحُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمّا رَأَيْت مَثْلَ الْمُشْرِكِينَ [ (1) ] بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ أَشَدّ الْمَثْلِ وَأَقْبَحَهُ، قُمْت فَتَجَاوَزْت [ (2) ] عَنْ الْقَتْلَى حَتّى تَنَحّيْت، فَإِنّي لَفِي مَوْضِعِي، إذْ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيّ جَامِعُ اللّأْمَةِ يَحُوزُ [ (3) ] الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: اسْتَوْسِقُوا كَمَا يُسْتَوْسَقُ جُرْبُ الْغَنَمِ! مُدَجّجًا فِي الْحَدِيدِ يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قريش، لَا تَقْتُلُوا مُحَمّدًا، ائْسِرُوهُ أَسِيرًا حَتّى نُعَرّفُهُ بِمَا صَنَعَ. وَيَصْمُدُ لَهُ قُزْمَانُ، فَيَضْرِبُهُ بِالسّيْفِ ضَرْبَةً عَلَى عَاتِقِهِ رَأَيْت مِنْهَا سَحْرَهُ، ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَانْصَرَفَ. وَطَلَعَ عَلَيْهِ آخَرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ (4) ] مَا أَرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَيْهِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً حَتّى جَزَلَهُ [ (5) ] بِاثْنَيْنِ: قَالَ: قُلْنَا مَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ. ثُمّ يَقُولُ كَعْبٌ: إنّي لَأَنْظُرُ يَوْمَئِذٍ وَأَقُولُ: مَا رَأَيْت مِثْلَ هَذَا الرّجُلِ أَشْجَعَ بِالسّيْفِ! ثُمّ خُتِمَ لَهُ بِمَا خُتِمَ لَهُ بِهِ. فَيَقُولُ: مَا هُوَ وَمَا خُتِمَ لَهُ بِهِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ، قَتَلَ نَفْسَهُ يَوْمَئِذٍ.
قَالَ كَعْبٌ: وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَامِعُ اللّأْمَةِ يَصِيحُ: اسْتَوْسِقُوا كَمَا يُسْتَوْسَقُ جُرْبُ الْغَنَمِ. وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لَأْمَتُهُ، فَمَشَيْت حَتّى كُنْت مِنْ وَرَائِهِ ثُمّ قُمْت أُقَدّرُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ بِبَصَرِي [ (6) ] ، فَإِذَا الْكَافِرُ أَكْثَرُهُمَا عُدّةً وَأُهْبَةً، فَلَمْ أَزَلْ أَنْظُرُهُمَا حَتّى الْتَقَيَا، فضرب المسلم الكافر
__________
[ (1) ] فى ح: «فلما رأيت المشركين يمثلون أشد المثل» .
[ (2) ] فى ب: «فتجاوزت» ، وفى ح: «فتنحيت» .
[ (3) ] فى ح: «يحوش» . ويجوز: يجمع ويسوق. (النهاية، ج 1، ص 270) .
[ (4) ] فى ح: «وطلع عليه من المشركين فارس» .
[ (5) ] فى الأصل وت: «جذله» ، وما أثبتناه قراءة ب. وجزله: قطعه. (النهاية، ج 1، ص 162) .
[ (6) ] فى الأصل: «يبصرني» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/260)
عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسّيْفِ، فَمَضَى [السّيْفُ] [ (1) ] حَتّى بَلَغَ وَرِكَيْهِ، وَتَفَرّقَ الْمُشْرِكُ فِرْقَتَيْنِ. وَكَشَفَ الْمُسْلِمُ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا كَعْبُ؟ أَنَا أَبُو دُجَانَةَ.
قَالَ: وَكَانَ رُشَيْدٌ الْفَارِسِيّ مولى بنى معاوية لَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ مُقَنّعًا فِي الْحَدِيدِ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ عُوَيْمٍ! فَيَعْتَرِضُ لَهُ سَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً جَزَلَهُ بِاثْنَيْنِ [وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ رُشَيْدٌ فَيَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَطَعَ الدّرْعَ حَتّى جَزَلَهُ بِاثْنَيْنِ] [ (1) ] ، وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيّ! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى ذَلِكَ وَيَسْمَعُهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَا قُلْت خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ؟ فَيَعْتَرِضُ لَهُ أَخُوهُ، وَأَقْبَلَ يَعْدُو كَأَنّهُ كَلْبٌ، يَقُولُ: أَنَا ابْنُ عُوَيْمٍ! وَيَضْرِبُهُ رُشَيْدٌ عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَفَلَقَ رَأْسَهُ، يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيّ! فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْسَنْت يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! فَكَنّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو النّمِرِ الْكِنَانِيّ: أَقْبَلْت يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ حَضَرْت فِي عَشْرَةٍ مِنْ إخْوَتِي، فَقُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ. وَكَانَتْ الرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوّلَ مَا الْتَقَيْنَا، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَانْكَشَفْنَا مُوَلّينَ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَهَبْ الْعَسْكَرِ، حَتّى بَلَغْت عَلَى قَدَمَيّ الْجَمّاءَ، ثُمّ كَرّتْ خَيْلُنَا فَقُلْنَا: وَاَللهِ مَا كَرّتْ الْخَيْلُ إلّا عَنْ أَمْرٍ رَأَتْهُ. فَكَرَرْنَا عَلَى أَقْدَامِنَا كَأَنّنَا الْخَيْلُ، حَتّى نَجِدَ الْقَوْمَ قَدْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ صُفُوفٍ، مَا يَدْرِي بَعْضُهُمْ مَنْ يَضْرِبُ، وَمَا لِلْمُسْلِمِينَ لِوَاءٌ قَائِمٌ، وَمَعَ رَجُلٍ من بنى عبد الدار لواءنا. وأسمع شعار
__________
[ (1) ] الزيادة عن ب.(1/261)
أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بَيْنَهُمْ: أَمِتْ! أَمِتْ! فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: مَا «أَمِتْ» ؟
وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنّ أَصْحَابَهُ مُحْدِقُونَ بِهِ، وَإِنّ النّبْلَ لَتَمُرّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَتَقْصُرُ [ (1) ] بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَخْرُجُ مِنْ وَرَائِهِ، وَلَقَدْ رَمَيْت يَوْمَئِذٍ بِخَمْسِينَ مِرْمَاةً فَأَصَبْت مِنْهَا بِأَسْهُمٍ بَعْضَ أَصْحَابِهِ. ثُمّ هَدَانِي اللهُ إلَى الْإِسْلَامِ.
فَكَانَ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ شَاكّا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ قَوْمُهُ يُكَلّمُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَيَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ مَا تَقُولُونَ حَقّا مَا تَأَخّرْت عَنْهُ! حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَدَا لَهُ الْإِسْلَامُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَخَرَجَ حَتّى دَخَلَ فِي الْقَوْمِ، فَقَاتَلَ حَتّى أُثْبِتَ، فَوُجِدَ فِي الْقَتْلَى جَرِيحًا مَيّتًا، فَدَنَوْا مِنْهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ
فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِك يَا عَمْرُو؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ، آمَنْت بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ، ثُمّ أَخَذْت سَيْفِي وَحَضَرْت، فَرَزَقَنِي اللهُ الشّهَادَةَ. وَمَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ.
قَالُوا: قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَاوُدَ ابن الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ، وَالنّاسُ حَوْلَهُ: أَخْبِرُونِي بِرَجُلٍ يَدْخُلُ الْجَنّةَ لَمْ يُصَلّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ! فَيَسْكُتُ النّاسُ فَيَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُوَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ.
قَالُوا: وَكَانَ مُخَيْرِيقٌ [ (2) ] الْيَهُودِيّ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فقال يوم السبت
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وبعض» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] فى ح: «مخيرق» ، وما أثبتناه عن كل النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 1، ص 182) .(1/262)
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاَللهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ محمّدا نبىّ، وأنّ نصره عليكم لحقّ. قالوا: إنّ الْيَوْمَ يَوْمُ السّبْتِ.
قَالَ: لَا سَبْتَ! ثُمّ أَخَذَ سِلَاحَهُ
ثُمّ حَضَرَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَهُ [ (1) ] الْقَتْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ.
وَقَدْ كَانَ مُخَيْرِيقٌ حِينَ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ قَالَ: إنْ أَصَبْت فَأَمْوَالِي لِمُحَمّدٍ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللهُ! فَهِيَ عَامّةُ صَدَقَاتِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ مُنَافِقًا، وَكَانَ ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ رَجُلَ صِدْقٍ، شَهِدَ أُحُدًا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتُثّ جَرِيحًا، فَرَجَعَ بِهِ قَوْمُهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ أَبُوهُ، وَهُوَ يَرَى أَهْلَ الدّارِ يَبْكُونَ عِنْدَهُ، أَنْتُمْ وَاَللهِ صَنَعْتُمْ هَذَا بِهِ! قَالُوا: كَيْفَ؟ قَالَ: غَرَرْتُمُوهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتّى خَرَجَ فَقُتِلَ، ثُمّ صَارَ [ (2) ] مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ آخَرَ، تَعِدُونَهُ جَنّةً يَدْخُلُ فِيهَا، جَنّةً مِنْ حَرْمَلٍ [ (3) ] ! قَالُوا:
قَاتَلَك اللهُ! قَالَ: هُوَ ذَاكَ! وَلَمْ يُقِرّ بِالْإِسْلَامِ.
قَالُوا: وَكَانَ قُزْمَانُ عَدِيدًا [ (4) ] فِي بَنِي ظَفَرٍ لَا يُدْرَى مِمّنْ هُوَ، وَكَانَ لَهُمْ حَائِطًا مُحِبّا، وَكَانَ مُقِلّا لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا زَوْجَةَ، وَكَانَ شُجَاعًا يُعْرَفُ بِذَلِكَ فِي حُرُوبِهِمْ، تِلْكَ الّتِي كَانَتْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ. فَشَهِدَ أُحُدًا فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا فَقَتَلَ سِتّةً أَوْ سَبْعَةً، وَأَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ
فَقِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُزْمَانُ قَدْ أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ، فَهُوَ شَهِيدٌ! قَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ.
فَأُتِيَ [ (5) ] إلَى قُزْمَانُ فَقِيلَ لَهُ: هَنِيئًا لَك يَا أَبَا الْغَيْدَاقِ الشّهَادَةَ! قَالَ: بِمَ تُبَشّرُونِ؟ وَاَللهِ مَا قَاتَلْنَا إلّا على الأحساب. قالوا: بشّرناك بالجنّة. قال:
__________
[ (1) ] فى ح: «فأصيب» .
[ (2) ] فى ح: «ثم صرتم معه إلى شيء آخر» .
[ (3) ] الحرمل: حب نبات، وكانت العرب تجعل الحرمل فى القبور. وأراد هنا: ليس له جنة إلا ذاك.
[ (4) ] فى ب: «عابدا» ، وفى ح: «عسيفا» .
[ (5) ] فى ح: «فجاموا إلى» .(1/263)
جَنّةٌ مِنْ حَرْمَلٍ، وَاَللهِ مَا قَاتَلْنَا عَلَى جَنّةٍ وَلَا عَلَى نَارٍ، إنّمَا قَاتَلْنَا عَلَى أَحْسَابِنَا! فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَجَعَلَ يَتَوَجّأُ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمِشْقَصُ أَخَذَ السّيْفَ فَاتّكَأَ عَلَيْهِ حَتّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ النّارِ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَجُلًا أَعْرَجَ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ- وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ أَمْثَالَ الْأَسَدِ- أَرَادَ بَنُوهُ [ (1) ] أَنْ يَحْبِسُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ رَجُلٌ أَعْرَجُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْك، وَقَدْ ذَهَبَ بَنُوك مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: بَخٍ! يَذْهَبُونَ إلَى الْجَنّةِ وَأَجْلِسُ أَنَا عِنْدَكُمْ! فَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ امْرَأَتُهُ: كَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ مُوَلّيًا، قَدْ أَخَذَ دَرَقَتَهُ، يَقُولُ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي إلَى أَهْلِي خِزْيًا!
فَخَرَجَ وَلَحِقَهُ بَنُوهُ [ (2) ] يُكَلّمُونَهُ فِي الْقُعُودِ، فَأَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بَنِي [ (3) ] يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَك، وَاَللهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ الْجَنّةَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمّا أَنْتَ، فَقَدْ عَذَرَك اللهُ تَعَالَى وَلَا جِهَادَ عَلَيْك. [فَأَبَى] [ (4) ] فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِيهِ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَمْنَعُوهُ [ (5) ] ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقُهُ الشّهَادَةَ. فَخَلّوْا عَنْهُ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا.
فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: نَظَرْت إلَى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون،
__________
[ (1) ] فى ح: «قومه» .
[ (2) ] فى ح: «بعض قومه» .
[ (3) ] فى ح: «قومي» .
[ (4) ] الزيادة عن ح.
[ (5) ] فى ت: «ألا تمنعوه» .(1/264)
ثُمّ ثَابُوا وَهُوَ فِي الرّعِيلِ [ (1) ] الْأَوّلِ، لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى ضِلَعِهِ [ (2) ] فِي رِجْلِهِ، يَقُولُ: أَنَا وَاَللهِ مُشْتَاقٌ إلَى الْجَنّةِ! ثُمّ أَنْظُرُ إلَى ابْنِهِ يَعْدُو فِي أَثَرِهِ حَتّى قُتِلَا جَمِيعًا.
وَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَتْ فِي نِسْوَةٍ تَسْتَرْوِحُ الْخَبَرَ- وَلَمْ يُضْرَبْ الْحِجَابُ يَوْمَئِذٍ- حَتّى إذَا كَانَتْ بِمُنْقَطِعِ الحرّة وهي هابطة من بنى حارثة إلَى الْوَادِي، لَقِيَتْ هِنْدَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ حرام أخت عبد الله بن عمرو ابن حَرَامٍ تَسُوقُ بَعِيرًا لَهَا، عَلَيْهِ زَوْجُهَا عَمْرُو بن الجموح، وابنها خلّاد ابن عَمْرٍو، وَأَخُوهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
عِنْدَك الْخَبَرُ، فَمَا وَرَاءَكِ؟ فَقَالَتْ هِنْدٌ: خَيْرًا، أَمّا رَسُولُ اللهِ فَصَالِحٌ، وَكُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَهُ جَلَلٌ. وَاِتّخَذَ الله من المؤمنين شهداء، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (3) ] . قَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: أَخِي، وَابْنِي خَلّادٌ، وَزَوْجِي عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. قَالَتْ: فَأَيْنَ تَذْهَبِينَ بِهِمْ؟ قَالَتْ: إلَى الْمَدِينَةِ أَقْبُرُهُمْ فِيهَا ... حَلْ! تَزْجُرُ بَعِيرَهَا، ثُمّ بَرَكَ بَعِيرُهَا فَقُلْت: لِمَا عَلَيْهِ! قَالَتْ:
مَا ذَاكَ بِهِ، لَرُبّمَا حَمَلَ مَا يَحْمِلُ الْبَعِيرَانِ، وَلَكِنّي أَرَاهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَزَجَرَتْهُ فَقَامَ، فَلَمّا وَجّهَتْ بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بَرَكَ، فوجّهته راجعة إلى أحد فأسرع.
فَرَجَعَتْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ الْجَمَلَ مَأْمُورٌ، هَلْ قَالَ شيئا؟ قالت: إنّ عمرا لمّا
__________
[ (1) ] على هامش نسخة ب: «فى الرحيل» . والرعيل: الجماعة المتقدمة من الخيل: (أساس البلاغة، ص 350) .
[ (2) ] فى ت: «إلى ظلعة» ، وفى ح: «إلى ضلعه وهو يعرج فى مشيته وهو يقول» . والضلع:
الاعوجاج خلقة. (الصحاح، ص 1251) .
[ (3) ] سورة 33 الأحزاب 25.(1/265)
وجّه إلى أحد استقبل الْقِبْلَةَ وَقَالَ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي إلَى أَهْلِي خِزْيًا وَارْزُقْنِي الشّهَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِذَلِكَ الْجَمَلُ لَا يَمْضِي! إنّ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرّهُ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ.
يَا هِنْدُ، مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ مُظِلّةً عَلَى أَخِيك مِنْ لَدُنْ قُتِلَ إلَى السّاعَةِ يَنْظُرُونَ أَيْنَ يُدْفَنُ. ثُمّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى قَبَرَهُمْ، ثُمّ قَالَ:
يَا هِنْدُ، قَدْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنّةِ جَمِيعًا، عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَابْنُك خَلّادٌ، وَأَخُوك عَبْدُ اللهِ.
قَالَتْ هِنْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ، عَسَى أَنْ يَجْعَلَنِي مَعَهُمْ.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، مِنْهُمْ أَبِي، فَقُتِلُوا شُهَدَاءَ.
قَالَ جَابِرٌ: كَانَ أَبِي أَوّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو أَبِي الْأَعْوَرِ السّلَمِيّ، فَصَلّى عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الْهَزِيمَةِ.
قَالَ جَابِرٌ: لَمّا اُسْتُشْهِدَ أَبِي جَعَلَتْ عَمّتِي تَبْكِي، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيهَا؟ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تَظَلّ عَلَيْهِ بِأَجْنِحَتِهَا حَتّى دُفِنَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ: رَأَيْت فِي النّوْمِ قبل يوم أحد بأيّام وَكَأَنّي رَأَيْت مُبَشّرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا فِي أَيّامٍ. فَقُلْت:
وَأَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: فِي الْجَنّةِ، نَسْرَحُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ. قُلْت لَهُ: أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، ثُمّ أُحْيِيت. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذِهِ الشّهَادَةُ يَا أَبَا جَابِرٍ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، ادْفِنُوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بْنَ الْجَمُوحِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ إنّهُمَا وُجِدَا وَقَدْ مُثّلَ بِهِمَا كُلّ(1/266)
الْمَثْلِ، قُطِعَتْ آرَابُهُمَا- يَعْنِي عُضْوًا عُضْوًا- فَلَا تُعْرَفُ أَبْدَانُهُمَا، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفِنُوهُمَا جَمِيعًا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ إنّمَا أَمَرَ بِدَفْنِهِمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ الصّفَاءِ فَقَالَ: ادْفِنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابّيْنِ فِي الدّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ رَجُلًا أَحْمَرَ أَصْلَعَ [ (1) ] ، لَيْسَ بِالطّوِيلِ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ طَوِيلًا، فَعُرِفَا وَدَخَلَ السّيْلُ عَلَيْهِمَا- وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمّا يَلِي السّيْلَ [ (2) ]- فَحُفِرَ عَنْهُمَا، وَعَلَيْهِمَا نَمِرَتَانِ [ (3) ] ، وَعَبْدُ اللهِ قَدْ أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي وَجْهِهِ، فَيَدُهُ عَلَى وَجْهِهِ [ (4) ] ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ فَثَعَبَ [ (5) ] الدّمُ، فَرُدّتْ إلَى مَكَانِهَا فَسَكَنَ الدّمُ.
قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْت أَبِي فِي حُفْرَتِهِ فَكَأَنّهُ نَائِمٌ، وَمَا تَغَيّرَ مِنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْت أَكْفَانَهُ؟ فَقَالَ: إنّمَا كُفّنَ فِي نَمِرَةٍ خُمّرَ بِهَا وَجْهُهُ وَعَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلُ، فَوَجَدْنَا النّمِرَةَ كَمَا هِيَ وَالْحَرْمَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ وبين وقت دفنه ستّة وأربعون ستة. فَشَاوَرَهُمْ جَابِرٌ فِي أَنْ يُطَيّبَ بِمِسْكٍ، فَأَبَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَا تُحْدِثُوا فِيهِمْ [ (6) ] شَيْئًا. وَيُقَالُ إنّ مُعَاوِيَةَ لَمّا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ كِظَامَةَ [ (7) ]- وَالْكِظَامَةُ عَيْنٌ أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ- نَادَى مُنَادِيهِ بِالْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ بِأُحُدٍ فَلْيَشْهَدْ! فَخَرَجَ النّاسُ إلى قتلاهم فوجدوهم طرايا يتثنّون [ (8) ] ،
__________
[ (1) ] فى ت: «أضلع» .
[ (2) ] فى ح: «مما يلي الجبل» .
[ (3) ] النمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود. (القاموس المحيط، ج 2، ص 148) .
[ (4) ] فى ب، ت: «على جرحه» .
[ (5) ] ثعب: جرى. (النهاية، ج 1، ص 128) .
[ (6) ] فى الأصل وت: «فيها» ، وما أثبتناه عن ب، ح.
[ (7) ] قال ابن الأثير: الكظامة كالقناة، وجمعها كظائم، وهي آبار تحفر فى الأرض متناسقة ويخرق بعضها إلى بعض تحت الأرض، فتجتمع مياهها جارية ثم تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الأرض. (النهاية، ج 4، ص 22) .
[ (8) ] فى ب: «رطابا يبثثون» ، وفى ت، ح: «رطابا يتثنون» .(1/267)
فَأَصَابَتْ الْمِسْحَاةُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَثَعَبَ دَمًا. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: لَا يُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مُنْكِرٌ أَبَدًا. وَوُجِدَ عَبْدُ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَوُجِدَ خارجة بن زيد بن أبى زهير وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
فَأَمّا قبر عبد الله وَعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ فَحُوّلَ، وَذَلِك أَنّ الْقَنَاةَ كَانَتْ تَمُرّ عَلَى قَبْرِهِمَا، وَأَمّا قَبْرُ خَارِجَةَ وَسَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ فَتُرِكَا، وَذَلِك لِأَنّ مَكَانَهُمَا كَانَ مُعْتَزَلًا، وَسُوّيَ عَلَيْهِمَا التّرَابُ. وَلَقَدْ كَانُوا يَحْفِرُونَ التّرَابَ، فَكُلّمَا حَفَرُوا فِتْرًا [ (1) ] مِنْ تُرَابٍ فَاحَ عَلَيْهِمْ الْمِسْكُ.
وَقَالُوا: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرٍ: يَا جَابِرُ، أَلَا أُبَشّرْك؟ قَالَ، قُلْت: بَلَى بِأَبِي وَأُمّي! قَالَ: فَإِنّ اللهَ أَحْيَا أَبَاك. ثُمّ كَلّمَهُ كَلَامًا فَقَالَ: تَمَنّ عَلَى رَبّك مَا شِئْت. فَقَالَ: أَتَمَنّى أَنْ أَرْجِعَ فَأُقْتَلَ مَعَ نَبِيّك، ثُمّ أُحْيَا فَأُقْتَلَ مَعَ نَبِيّك. قَالَ: إنّي قَدْ قَضَيْت أَنّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.
قَالُوا: وَكَانَتْ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمّ عُمَارَةَ، وَهِيَ امرأة غزيّة بن عمرو [ (2) ] ، وشهدت أحدا هي وَزَوْجُهَا وَابْنَاهَا، وَخَرَجَتْ، مَعَهَا شَنّ لَهَا فِي أَوّلِ النّهَارِ تُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَ الْجَرْحَى، فَقَاتَلَتْ يَوْمَئِذٍ وَأَبْلَتْ بَلَاءً حَسَنًا، فَجُرِحَتْ اثْنَيْ عَشَرَ جُرْحًا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ أَوْ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ.
فَكَانَتْ أُمّ سَعْدٍ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ رَبِيع تَقُولُ: دَخَلْت عَلَيْهَا فَقُلْت لَهَا:
يَا خَالَةِ، حَدّثِينِي خَبَرَك. فَقَالَتْ: خَرَجْت أَوّلَ النّهَارِ إلَى أُحُدٍ، وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ، وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، فَانْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله
__________
[ (1) ] فى الأصل وح: «قبرة» ، وفى ب، ت: «قترة» . ولعل الصواب ما أثبتناه، والفتر ما بين طرف السبابة والإبهام إذا فتحتهما. (الصحاح، ص 777) .
[ (2) ] فى ت: «عزية بن عمرو» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 8، ص 301) .(1/268)
عليه وسلّم وهو فى أصحابه، والدّولة والريح لِلْمُسْلِمِينَ. فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْت أُبَاشِرُ القتال وأدبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالسّيْفِ وَأَرْمِي بِالْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ إلَيّ الْجِرَاحُ. فَرَأَيْت عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا لَهُ غَوْرٌ أَجْوَفُ [ (1) ] ، فَقُلْت: يَا أُمّ عُمَارَةَ، مَنْ أَصَابَك بِهَذَا؟ قَالَتْ: أَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ، وَقَدْ وَلّى النّاسُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَصِيحُ: دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ، فَلَا نَجَوْت إنْ نَجَا! فَاعْتَرَضَ لَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأُنَاسٌ مَعَهُ، فَكُنْت فِيهِمْ، فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ، وَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرَبَاتٍ، وَلَكِنّ عَدُوّ اللهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ. قُلْت: يَدَكِ، مَا أَصَابَهَا؟ قَالَتْ: أُصِيبَتْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ لَمّا جَعَلَتْ الْأَعْرَابُ يَنْهَزِمُونَ بِالنّاسِ، نَادَتْ [ (2) ] الْأَنْصَارُ: «أَخْلِصُونَا» ، فَأُخْلِصَتْ الْأَنْصَارُ، فَكُنْت مَعَهُمْ، حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى حَدِيقَةِ الْمَوْتِ [ (3) ] ، فَاقْتَتَلْنَا عَلَيْهَا سَاعَةً حَتّى قُتِلَ أَبُو دُجَانَةَ عَلَى بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَدَخَلْتهَا وَأَنَا أُرِيدُ عَدُوّ اللهِ مُسَيْلِمَةَ، فَيَعْتَرِضُ لِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَضَرَبَ يدي فقطعها، فو الله مَا كَانَتْ لِي نَاهِيَةً وَلَا عَرّجْت عَلَيْهَا حَتّى وَقَفْت عَلَى الْخَبِيثِ مَقْتُولًا، وَابْنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ الْمَازِنِيّ يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثِيَابِهِ. فَقُلْت: قَتَلْته؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسَجَدْت شُكْرًا لِلّهِ.
وَكَانَ ضَمْرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يُحَدّثُ عَنْ جَدّتِهِ، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا تَسْقِي الْمَاءَ،
قَالَتْ: سَمِعْت النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَمُقَامُ نُسَيْبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ!
وَكَانَ يَرَاهَا تُقَاتِلُ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ الْقِتَالِ، وَإِنّهَا لَحَاجِزَةٌ ثَوْبَهَا عَلَى وَسَطِهَا، حتى جرحت ثلاثة عشر
__________
[ (1) ] فى ح: «جرحا أجوف له غور» .
[ (2) ] فى ت: «ناديت» .
[ (3) ] حديقة الموت: بستان كان بقنا حجر من أرض اليمامة. (معجم البلدان، ج 3، ص 237)(1/269)
جُرْحًا. فَلَمّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ كُنْت فِيمَنْ غَسّلَهَا، فَعَدّدْت جِرَاحَهَا جُرْحًا جُرْحًا فَوَجَدْتهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا. وَكَانَتْ تَقُولُ: إنّي لَأَنْظُرُ إلَى ابْنِ قَمِيئَةَ وَهُوَ يَضْرِبُهَا عَلَى عَاتِقِهَا- وَكَانَ أَعْظَمَ جِرَاحِهَا، لَقَدْ دَاوَتْهُ سَنَةً- ثُمّ نَادَى مُنَادِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ! فَشَدّتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَمَا اسْتَطَاعَتْ مِنْ نَزْفِ الدّمِ. وَلَقَدْ مَكَثْنَا لَيْلَنَا نُكَمّدُ الْجِرَاحَ حَتّى أَصْبَحْنَا، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَمْرَاءِ، مَا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ حَتّى أَرْسَلَ إلَيْهَا عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ الْمَازِنِيّ يَسْأَلُ عَنْهَا، فَرَجَعَ إلَيْهِ يُخْبِرُهُ بِسَلَامَتِهَا فَسُرّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
حَدّثَنَا عَبْدُ الْجَبّارِ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ قَالَ: قَالَتْ أُمّ عُمَارَةَ: قَدْ رَأَيْتنِي وَانْكَشَفَ النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَقِيَ إلّا نُفَيْرٌ مَا يُتِمّونَ عَشْرَةً، وَأَنَا وَابْنَايَ وَزَوْجِي بَيْنَ يَدَيْهِ نَذُبّ عَنْهُ، وَالنّاسُ يَمُرّونَ بِهِ مُنْهَزِمِينَ. وَرَآنِي لَا تُرْسَ مَعِي، فَرَأَى رَجُلًا مُوَلّيًا مَعَهُ تُرْسٌ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ التّرْسِ، أَلْقِ تُرْسَك إلَى مَنْ يُقَاتِلُ! فَأَلْقَى تُرْسَهُ فَأَخَذْته فَجَعَلْت أُتَرّسُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنّمَا فَعَلَ بِنَا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رَجّالَةً مِثْلَنَا أَصَبْنَاهُمْ، إنْ شَاءَ اللهُ! فَيُقْبِلُ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ فَضَرَبَنِي، وَتَرّسْت لَهُ فَلَمْ يَصْنَعْ سَيْفُهُ شَيْئًا وَوَلّى، وَأَضْرِبُ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ. فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِيحُ: يَا ابْنَ أُمّ عُمَارَةَ، أُمّك، أُمّك! قَالَتْ: فَعَاوَنَنِي عَلَيْهِ حَتّى أَوْرَدْته شَعُوب.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: جُرِحْت يَوْمَئِذٍ جُرْحًا فِي عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرّقل [ (1) ]
__________
[ (1) ] الرقل: النخلة الطويلة. (النهاية، ج 2، ص 97) .(1/270)
وَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيّ وَمَضَى عَنّي، وَجَعَلَ الدّمُ لَا يَرْقَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْصِبْ جُرْحَك. فَتَقْبَلُ أُمّي إلَيّ وَمَعَهَا عَصَائِبُ فِي حَقْوَيْهَا قَدْ أَعَدّتْهَا لِلْجِرَاحِ، فَرَبَطَتْ جُرْحِي وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ يَنْظُرُ، ثُمّ قَالَتْ: انْهَضْ يَا بُنَيّ فَضَارِبْ الْقَوْمَ. فَجَعَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَمَنْ يُطِيقُ مَا تُطِيقِينَ يَا أُمّ عُمَارَةَ؟ قَالَتْ:
وَأَقْبَلَ الرّجُلُ الّذِي ضَرَبَنِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا ضَارِبُ ابْنِك. قَالَتْ: فَأَعْتَرِضُ لَهُ فَأَضْرِبُ سَاقَهُ فَبَرَكَ، فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسّمَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمّ قَالَ: اسْتَقَدْتِ يَا أُمّ عُمَارَةَ! ثُمّ أَقْبَلْنَا إلَيْهِ نَعْلُوهُ [ (1) ] بِالسّلَاحِ حَتّى أَتَيْنَا عَلَى نَفَسِهِ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي ظَفّرَك وَأَقَرّ عَيْنَك مِنْ عَدُوّك، وَأَرَاك ثَأْرَك بِعَيْنِك.
حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ [ (2) ] بِمُرُوطٍ [ (3) ] ، فَكَانَ فِيهَا مِرْطٌ وَاسِعٌ جَيّدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنّ هَذَا الْمِرْطَ لَثَمَنُ كَذَا وَكَذَا، فَلَوْ أَرْسَلْت بِهِ إلَى زَوْجَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ صَفِيّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ- وَذَلِك حِدْثَانَ مَا دَخَلَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ.
فَقَالَ: أَبْعَثُ بِهِ إلَى مَنْ هُوَ أَحَقّ مِنْهَا، أُمّ عمارة نسيبة بنت كعب.
سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ يَقُولُ: مَا الْتَفَتّ يَمِينًا وَلَا شمالا إلّا وأنا أراها تقاتل دوني.
__________
[ (1) ] فى ب: «نعله» .
[ (2) ] فى ح: «أتى عمر بن الخطاب فى أيام خلافته» .
[ (3) ] المروط: جمع المرط، وهو الكساء من صوف أو خز. (القاموس المحيط، ج 2، ص 385) .(1/271)
فَقَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ. عن مروان بن أبى سعيد ابن المعلّى، قال: قيل لأمّ عمارة: هل كنّ نساء قريش يَوْمَئِذٍ يُقَاتِلْنَ مَعَ أَزْوَاجِهِنّ؟ فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاَللهِ، مَا رَأَيْت امْرَأَةً مِنْهُنّ رَمَتْ بِسَهْمٍ وَلَا بِحَجَرٍ، وَلَكِنْ رَأَيْت مَعَهُنّ الدّفَافَ وَالْأَكْبَارَ، يَضْرِبْنَ وَيُذَكّرْنَ الْقَوْمَ قَتْلَى بَدْرٍ، وَمَعَهُنّ مَكَاحِلُ وَمَرَاوِدُ، فَكُلّمَا وَلّى رَجُلٌ أَوْ تَكَعْكَعَ [ (1) ] نَاوَلَتْهُ إحْدَاهُنّ مِرْوَدًا وَمُكْحُلَةً وَيَقُلْنَ: إنّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ! وَلَقَدْ رَأَيْتهنّ وَلّيْنَ مُنْهَزِمَاتٍ مُشَمّرَاتٍ- وَلَهَا عَنْهُنّ الرّجَالُ أَصْحَابُ الْخَيْلِ، وَنَجَوْا عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ- يَتْبَعْنَ الرّجَالَ عَلَى الْأَقْدَامِ، فَجَعَلْنَ يَسْقُطْنَ فِي الطّرِيقِ. وَلَقَدْ رَأَيْت هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ، وَكَانَتْ امْرَأَةً ثَقِيلَةً وَلَهَا خَلْقٌ، قَاعِدَةً خَاشِيَةً مِنْ الْخَيْلِ مَا بِهَا مَشْيٌ، وَمَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى، حَتّى كَرّ [ (2) ] الْقَوْمُ عَلَيْنَا فَأَصَابُوا مِنّا مَا أَصَابُوا، فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُ مَا أَصَابَنَا يَوْمَئِذٍ مِنْ قِبَلِ الرّمَاةِ وَمَعْصِيَتِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، قال: سمعت عبد الله بن زيد ابن عاصم يقول: شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمّا تَفَرّقَ النّاسُ عَنْهُ دَنَوْت مِنْهُ، وَأُمّي تَذُبّ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أُمّ عُمَارَةَ! قُلْت:
نَعَمْ. قَالَ: ارْمِ! فَرَمَيْت بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِحَجَرٍ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ، فَأَصَبْت [ (3) ] عَيْنَ الْفَرَسِ فَاضْطَرَبَ الْفَرَسُ حَتّى وَقَعَ هُوَ وَصَاحِبُهُ، وَجَعَلْت أَعْلُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى نَضَدْت عَلَيْهِ مِنْهَا
وِقْرًا [ (4) ] ، وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ وَيَتَبَسّمُ، فَنَظَرَ إلَى جُرْحٍ بِأُمّي على عاتقها فقال: أمّك، أمّك!
__________
[ (1) ] تكعكع: أحجم وتأخر إلى وراء. (النهاية، ج 4، ص 23) .
[ (2) ] فى ح: «حتى كثر القوم» .
[ (3) ] فى ح: «فأصيبت» .
[ (4) ] الوقر: الحمل. (النهاية، ج 4، ص 224) .(1/272)
اعْصِبْ جُرْحَهَا، بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ! مُقَامُ أُمّك خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَمُقَامُ رَبِيبِك- يَعْنِي زَوْجَ أُمّهِ- خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَمُقَامُك لَخَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، رَحِمَكُمْ اللهُ أَهْلَ الْبَيْتِ! قَالَتْ:
اُدْعُ اللهَ أَنْ نُرَافِقَك فِي الْجَنّةِ. قَالَ: اللهُمّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنّةِ.
قَالَتْ: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنْ الدّنْيَا.
قَالُوا: وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ تَزَوّجَ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولَ، فَأُدْخِلْت عَلَيْهِ فِي اللّيْلَةِ الّتِي فِي صُبْحِهَا قِتَالُ أُحُدٍ. وَكَانَ قَدْ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمّا صَلّى الصّبْحَ غَدًا يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَزِمَتْهُ جَمِيلَةُ فَعَادَ فَكَانَ مَعَهَا، فَأَجْنَبَ مِنْهَا ثُمّ أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَقَدْ أَرْسَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ قَوْمِهَا فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنّهُ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَقِيلَ لَهَا بَعْدُ: لِمَ أَشْهَدْت عَلَيْهِ؟ قَالَتْ:
رَأَيْت كَأَنّ السّمَاءَ فُرِجَتْ فَدَخَلَ فِيهَا حَنْظَلَةُ ثُمّ أُطْبِقَتْ، فَقُلْت: هَذِهِ الشّهَادَةُ! فَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ أَنّهُ قَدْ دَخَلَ بِهَا [ (1) ] . وَتَعْلَقُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، ثُمّ تَزَوّجَهَا ثَابِتُ بْنُ قيس بَعْدُ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ.
وَأَخَذَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ سِلَاحَهُ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ وَهُوَ يُسَوّي الصّفُوفَ. قَالَ: فَلَمّا انْكَشَفَ المشركون اعترض حنظلة ابن أبى عامر لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ فَرَسِهِ فَاكْتَسَعَتْ الْفَرَسُ، وَيَقَعُ أَبُو سُفْيَانَ إلَى الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَنَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ! وَحَنْظَلَةُ يُرِيدُ ذَبْحَهُ بِالسّيْفِ، فَأَسْمَعَ الصّوْتُ رِجَالًا لَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ مِنْ الْهَزِيمَةِ حَتّى عَايَنَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ شَعُوبَ، فَحَمَلَ [ (2) ] على حنظلة
__________
[ (1) ] فى ح: «أنه قد دخل بى» .
[ (2) ] فى ت: «فحمل عليه حنظلة» .(1/273)
بِالرّمْحِ فَأَنْفَذَهُ، فَمَشَى حَنْظَلَةُ إلَيْهِ بِالرّمْحِ وَقَدْ أَثْبَتَهُ، ثُمّ ضَرَبَهُ الثّانِيَةَ فَقَتَلَهُ. وَهَرَبَ أَبُو سُفْيَانَ يَعْدُو عَلَى قَدَمَيْهِ فَلَحِقَ بِبَعْضِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ صَدْرِ فَرَسِهِ وَرَدِفَ وَرَاءَ أَبِي [ (1) ] سُفْيَانَ- فَذَلِكَ قَوْلُ [ (2) ] أَبِي سُفْيَانَ. فَلَمّا قُتِلَ حَنْظَلَةُ مَرّ عَلَيْهِ أَبُوهُ، وَهُوَ مَقْتُولٌ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ، فَقَالَ: إنْ كُنْت لَأُحَذّرُك هَذَا الرّجُلَ [ (3) ] مِنْ قَبْلِ هَذَا الْمَصْرَعِ، وَاَللهِ إنْ كُنْت لَبَرّا بِالْوَالِدِ، شَرِيفَ الْخُلُقِ فِي حَيَاتِك، وَإِنّ مَمَاتَك لَمَعَ سَرَاةِ أَصْحَابِك وَأَشْرَافِهِمْ. وَإِنْ جَزَى اللهُ هَذَا الْقَتِيلَ- لِحَمْزَةَ- خَيْرًا، أَوْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، فَجَزَاك [ (4) ] اللهُ خَيْرًا. ثُمّ نَادَى:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، حَنْظَلَةُ لَا يُمَثّلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ خَالَفَنِي وَخَالَفَكُمْ، فَلَمْ يَأْلُ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرَى خَيْرًا. فَمُثّلَ بِالنّاسِ وَتُرِكَ فَلَمْ يُمَثّلْ بِهِ.
وَكَانَتْ هِنْدٌ أَوّلَ مَنْ مَثّلَ بِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَتْ النّسَاءَ بِالْمَثْلِ- جَدْعِ الْأُنُوفِ وَالْآذَانِ- فَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ إلّا عَلَيْهَا مِعْضَدَانِ [ (5) ] وَمَسَكَتَانِ وَخَدَمَتَانِ، وَمُثّلَ بِهِمْ كُلّهُمْ إلّا حَنْظَلَةَ.
وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِر بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَاءِ الْمُزْنِ فِي صِحَافِ الْفِضّةِ.
قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ: فَذَهَبْنَا فَنَظَرْنَا إلَيْهِ فَإِذَا رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً. قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته، فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنّهُ خَرَجَ وَهُوَ جُنُب.
وَأَقْبَلَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسٍ الْمُزَنِيّ، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بن عقبة بن
__________
[ (1) ] فى ح: «وردف وراءه أبا سفيان» .
[ (2) ] ذكره ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 80) .
[ (3) ] فى ح: «يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
[ (4) ] في ح: «فليجزك» .
[ (5) ] المعضد: الدملج، والمسك: أسورة من ذبل أو عاج، والخدمة: الخلخال. (الصحاح، ص 506، 1608، 1909) .(1/274)
قَابُوسٍ، بِغَنَمٍ لَهُمَا مِنْ جَبَلِ مُزَيْنَةَ، فَوَجَدَا الْمَدِينَةَ خُلُوفًا [ (1) ] فَسَأَلَا: أَيْنَ النّاسُ؟ فَقَالُوا: بِأُحُدٍ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَا: لَا نَبْتَغِي أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ. فَخَرَجَا حَتّى أَتَيَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ فَيَجِدَانِ الْقَوْمَ يَقْتَتِلُونَ، وَالدّوْلَةُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَغَارَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي النّهْبِ، وَجَاءَتْ الْخَيْلُ مِنْ وَرَائِهِمْ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَاخْتَلَطُوا، فَقَاتَلَا أَشَدّ الْقِتَالِ.
فَانْفَرَقَتْ فِرْقَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ؟ فَقَالَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَامَ فَرَمَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى انْصَرَفُوا ثُمّ رَجَعَ [ (2) ] ، فَانْفَرَقَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ الْمُزَنِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَامَ فَذَبّهَا بِالسّيْفِ حَتّى وَلّوْا، ثُمّ رَجَعَ الْمُزَنِيّ. ثُمّ طَلَعَتْ كَتِيبَةٌ أُخْرَى فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ؟
فَقَالَ الْمُزَنِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: قُمْ وَأَبْشِرْ بِالْجَنّةِ. فَقَامَ الْمُزَنِيّ مَسْرُورًا يَقُولُ: وَاَللهِ لَا أَقِيلُ وَلَا أَسْتَقِيلُ. فَقَامَ فَجَعَلَ يَدْخُلُ فِيهِمْ فَيَضْرِبُ بِالسّيْفِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتّى خَرَجَ مِنْ أَقْصَاهُمْ [ (3) ] ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللهُمّ ارْحَمْهُ! ثُمّ يَرْجِعُ فِيهِمْ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ، وَهُمْ مُحْدِقُونَ بِهِ، حَتّى اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ وَرِمَاحُهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَوُجِدَ بِهِ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، كُلّهَا قَدْ خَلَصَتْ إلَى مَقْتَلٍ، وَمُثّلَ بِهِ أَقْبَحَ الْمَثْلِ يَوْمَئِذٍ. ثُمّ قَامَ ابْنُ أَخِيهِ فَقَاتَلَ كَنَحْوِ قِتَالِهِ حَتّى قُتِلَ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ: إنّ أَحَبّ مِيتَةٍ أَمُوتُ عليها لما مات عليها المزنىّ.
__________
[ (1) ] فى ح: «خلوا» .
[ (2) ] فى ب: «ثم رجعت» .
[ (3) ] فى ح: «من أقصى الكتيبة» .(1/275)
وَكَانَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ: شَهِدْنَا الْقَادِسِيّةَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، فَلَمّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا وَقُسِمَتْ بَيْنَنَا غَنَائِمُنَا، فأسقط فتى من آل قابوس من مُزَيْنَةَ، فَجِئْت سَعْدًا حِينَ فَرَغَ [ (1) ] مِنْ نَوْمِهِ فَقَالَ:
بِلَالٌ؟ قُلْت: بِلَالٌ! قَالَ: مَرْحَبًا بِك، مَنْ هَذَا مَعَك؟ قُلْت: رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ آلِ قَابُوسٍ. قَالَ سَعْدٌ: مَا أَنْتَ يَا فَتًى مِنْ الْمُزَنِيّ الّذِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِيهِ. قَالَ سَعْدٌ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَنَعِمَ اللهُ بِك عَيْنًا [ (2) ] ، ذَلِكَ الرّجُلُ شَهِدْت مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ مَشْهَدًا مَا شَهِدْته مِنْ أَحَدٍ. لَقَدْ رَأَيْتنَا وَقَدْ أَحْدَقَ الْمُشْرِكُونَ بِنَا مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَنَا وَالْكَتَائِبُ تَطْلُعُ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرْمِي بِبَصَرِهِ فِي النّاسِ يَتَوَسّمُهُمْ [ (3) ] يَقُولُ: مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ؟ كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ الْمُزَنِيّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! كُلّ ذَلِكَ يَرُدّهَا [ (4) ] ، فَمَا أَنْسَى آخِرَ مَرّةٍ قَامَهَا [ (5) ] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ وَأَبْشِرْ بِالْجَنّةِ! قَالَ سَعْدٌ: وَقُمْت عَلَى أَثَرِهِ، يَعْلَمُ اللهُ أَنّي أَطْلُبُ مِثْلَ مَا يَطْلُبُ يَوْمَئِذٍ مِنْ الشّهَادَةِ، فَخُضْنَا حَوْمَتَهُمْ حَتّى رَجَعْنَا فِيهِمْ الثّانِيَةَ، وَأَصَابُوهُ رَحِمَهُ اللهُ، وَوَدِدْت وَاَللهِ أَنّي كُنْت أُصِبْت يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، وَلَكِنّ أَجَلِي اسْتَأْخَرَ. ثُمّ دَعَا سَعْدٌ مِنْ سَاعَتِهِ بِسَهْمِهِ فَأَعْطَاهُ وَفَضّلَهُ وَقَالَ: اخْتَرْ فِي الْمُقَامِ عِنْدَنَا أَوْ الرّجُوعِ إلَى أَهْلِك.
فَقَالَ بِلَالٌ: إنّهُ يَسْتَحِبّ الرّجُوعَ. فَرَجَعْنَا.
وَقَالَ سَعْدٌ: أَشْهَدُ لَرَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عليه وهو
__________
[ (1) ] فى ح: «فزع» .
[ (2) ] فى ح: «أنعم الله بك علينا» .
[ (3) ] توسم الشيء: تخيله وتفرسه. (القاموس المحيط، ج 4، ص 186) .
[ (4) ] فى ح: «كل ذلك يرد الكتيبة» .
[ (5) ] فى ح: «قالها» .(1/276)
مَقْتُولٌ، وَهُوَ يَقُولُ: رَضِيَ اللهُ عَنْك فَإِنّي عَنْك رَاضٍ. ثُمّ رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ- وَقَدْ نَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِرَاحِ [ (1) ] مَا نَالَهُ، وَإِنّي لَأَعْلَمُ أَنّ الْقِيَامَ لَيَشُقّ عَلَيْهِ- عَلَى قَبْرِهِ حَتّى وُضِعَ فِي لَحْدِهِ، وَعَلَيْهِ بُرْدَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ خُضْرٌ [ (2) ] ، فَمَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُرْدَةَ عَلَى رَأْسِهِ فَخَمّرَهُ، وَأَدْرَجَهُ فِيهَا طُولًا وَبَلَغَتْ نِصْفَ سَاقَيْهِ، وَأَمَرَنَا فَجَمَعْنَا الْحَرْمَلَ فَجَعَلْنَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَهُوَ فِي لَحْدِهِ، ثُمّ انْصَرَفَ. فَمَا حَالٌ أَمُوتُ عَلَيْهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ تَعَالَى عَلَى حَالِ الْمُزَنِيّ.
قَالُوا: وَلَمّا صَاحَ إبْلِيسُ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» تَفَرّقَ النّاسُ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَرَدَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أَوّلُ مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ يُخْبِرُ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قد قتل سَعْدَ بْنَ عُثْمَانَ أَبُو عُبَادَةَ. ثُمّ وَرَدَ بَعْدَهُ رِجَالٌ حَتّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِمْ، حَتّى جَعَلَ النّسَاءُ يَقُلْنَ: أَعَنْ رَسُولِ اللهِ تَفِرّونَ؟
قَالَ: يَقُولُ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ: أَعَنْ رَسُولِ اللهِ تَفِرّونَ؟ ثُمّ جَعَلَ يُؤَفّفُ [ (3) ] بِهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ بِالْمَدِينَةِ، يُصَلّي بِالنّاسِ، ثُمّ قَالَ: اعْدِلُونِي [ (4) ] عَلَى الطّرِيقِ- يَعْنِي طَرِيقَ أُحُدٍ- فَعَدَلُوهُ عَلَى الطّرِيقِ، فَجَعَلَ يَسْتَخْبِرُ كُلّ مَنْ لَقِيَ عَنْ طَرِيقِ أُحُدٍ حَتّى لَحِقَ الْقَوْمَ، فَعَلِمَ بِسَلَامَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ رَجَعَ. وَكَانَ ممّن ولّى فلان [ (5) ] ، والحارث ابن حَاطِبٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَسَوّادُ بْنُ غَزِيّةَ، وسعد بن عثمان، وعقبة
__________
[ (1) ] فى ح: «من ألم الجراح» .
[ (2) ] كذا فى الأصل، وفى سائر النسخ: «حمر» .
[ (3) ] فى ح: «يؤنب بهم» .
[ (4) ] فى ح: «دلوني على الطريق ... فدلوه» .
[ (5) ] فى ح: «عمر وعثمان» . وذكر البلاذري، عن الواقدي، عثمان ولم يذكر عمر. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 326) .(1/277)
ابن عُثْمَانَ، وَخَارِجَةُ بْنُ عَامِرٍ، بَلَغَ مَلَلَ [ (1) ] ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي حَارِثَة، بَلَغُوا الشّقْرَةَ [ (2) ] وَلَقِيَتْهُمْ أُمّ أَيْمَنَ تَحْثِي فِي وُجُوهِهِمْ التّرَابَ، وَتَقُولُ لِبَعْضِهِمْ: هَاكَ الْمِغْزَلُ فَاغْزِلْ بِهِ، وَهَلُمّ سَيْفَك! فَوَجّهَتْ إلَى أُحُدٍ مَعَ نُسَيّاتٍ مَعَهَا.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْدُوا الْجَبَلَ، وَكَانُوا فِي سَفْحِهِ، وَلَمْ يُجَاوِزُوهُ إلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ فِيهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ (3) ] .
وَيُقَالُ: إنّهُ كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَعُثْمَانَ كَلَامٌ، فَأَرْسَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى أَخِيك فَبَلّغْهُ عَنّي مَا أَقُولُ لَك، فَإِنّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُبَلّغُهُ غَيْرَك. قَالَ الْوَلِيدُ: أَفْعَلُ. قَالَ: قُلْ، يقول لك عبد الرحمن: شهدت بدرا ولم تشهد، وثبتّ يوم أحد وولّيت عَنْهُ، وَشَهِدْت بَيْعَةَ الرّضْوَانِ وَلَمْ تَشْهَدْهَا. فَجَاءَهُ [ (4) ] فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ أَخِي! تَخَلّفْت عَنْ بدر على ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مَرِيضَةٌ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِي وَأَجْرِي فَكُنْت بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَضَرَ. وَوَلّيْت يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَدْ عَفَا اللهُ ذَلِكَ عَنّي [ (5) ] ،
فَأَمّا بَيْعَةُ الرّضْوَانِ فَإِنّي خَرَجْت إلَى أَهْلِ [ (6) ] مَكّةَ، بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى
__________
[ (1) ] ملل: موضع فى طريق مكة بين الحرمين. قال ابن السكيت: هو منزل على طريق المدينة إلى مكة عن ثمانية وعشرين ميلا من المدينة. (معجم البلدان، ج 8، ص 153) .
[ (2) ] الشقرة: موضع بطريق فيد بين جبال حمر على نحو ثمانية عشر ميلا من النخيل، وعلى يوم من بئر السائب، ويومين من المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 330) .
[ (3) ] فى ب: «وكانوا فيه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، وفى ت: «وكانوا فئة النبي صلّى الله عليه وسلّم» .
[ (4) ] فى ح: «فلما أخبره» .
[ (5) ] فى ح: «فعفا الله عنى فى محكم كتابه» .
[ (6) ] فى الأصل: «إلى أهل بمكة» . والمثبت عن سائر النسخ.(1/278)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ عُثْمَانَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ.
وَبَايَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى يَدَيْهِ الْأُخْرَى [ (1) ] ، فَكَانَتْ شِمَالُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْ يَمِينِي. فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ حِينَ جَاءَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ:
صَدَقَ أَخِي! وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَقَالَ: هَذَا مِمّنْ عَفَا اللهُ عَنْهُ، وَاَللهِ مَا عَفَا اللهُ عَنْ شَيْءٍ فَرَدّهُ، وَكَانَ تَوَلّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.
وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنْ عثمان فقال: إنه أذنب يوم أحد ذنبا عَظِيمًا، فَعَفَا اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِمّنْ تَوَلّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَأَذْنَبَ فِيكُمْ ذَنْبًا صَغِيرًا فَقَتَلْتُمُوهُ!
وَقَالَ عَلِيّ: لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَجَالَ النّاسُ تِلْكَ الْجَوْلَةَ أَقْبَلَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ دَارِعٌ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ، مَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ. فَيَعْتَرِضُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ أُمَيّةُ. قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: وَأَصْمُدُ لَهُ فَأَضْرِبُهُ بِالسّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ- وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَتَحْتَ الْبَيْضَةِ مِغْفَرٌ- فَنَبَا سَيْفِي، وَكُنْت رَجُلًا قَصِيرًا. وَيَضْرِبُنِي بِسَيْفِهِ فَأَتّقِي بِالدّرَقَةِ، فَلَحِجَ سَيْفُهُ فَأَضْرِبُهُ، وَكَانَتْ دِرْعُهُ مُشَمّرَةً، فَأَقْطَعُ رِجْلَيْهِ، وَوَقَعَ فَجَعَلَ يُعَالِجُ سَيْفَهُ حَتّى خَلّصَهُ مِنْ الدّرَقَةِ، وَجَعَلَ يُنَاوِشُنِي وَهُوَ بَارِكٌ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتّى نَظَرْت إلَى فَتْقٍ تَحْتَ إبِطِهِ فَأَخُشّ بِالسّيْفِ فِيهِ، فَمَالَ وَمَاتَ وَانْصَرَفْت عنه.
__________
[ (1) ] فى ح: «بإحدى يديه على الأخرى» .(1/279)
وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ [ (1) ] . وَقَالَ أَيْضًا: أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ!
وَقَالُوا: أَتَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فِي رَهْطٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قُعُودًا، وَمَرّ بِهِمْ أَنَسُ بْنُ النّضْرِ بْنِ ضَمْضَمٍ عَمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: مَا يُقْعِدُكُمْ؟ قَالُوا:
قُتِلَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ! ثُمّ [ (2) ] جَالَدَ بِسَيْفِهِ حَتّى قُتِلَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَبْعَثَهُ اللهُ أُمّةً وَحْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَوُجِدَ بِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً فِي وَجْهِهِ. مَا عُرِفَ حَتّى عَرَفَتْ أُخْتُهُ حُسْنَ بَنَانِهِ، وَيُقَالُ حُسْنَ ثَنَايَاهُ [ (3) ] .
قَالُوا: وَمَرّ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي حَشْوَتِهِ، بِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا، كُلّهَا قَدْ خَلَصَتْ إلَى مَقْتَلٍ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ؟ قَالَ خَارِجَةُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَإِنّ اللهَ حَيّ لَا يَمُوتُ، فَقَدْ بَلّغَ مُحَمّدٌ، فَقَاتِلْ عَنْ دِينِك! وَمَرّ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ وَبِهِ اثْنَا عَشَرَ جُرْحًا، كُلّهَا قَدْ خَلَصَ إلَى مَقْتَلٍ، فَقَالَ: عَلِمْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ: أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ بَلّغَ رِسَالَةَ رَبّهِ، فَقَاتِلْ عَنْ دِينِك، فَإِنّ اللهَ حَيّ لَا يَمُوتُ! وَقَالَ مُنَافِقٌ: إنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قُتِلَ فَارْجِعُوا إلى قومكم، فإنهم داخلو البيوت.
__________
[ (1) ] العواتك: ثلاث نسوة كن من أمهات النبي صلّى الله عليه وسلّم، إحداهن عاتكة بنت هلال ابن فالج بن ذكوان وهي أم عبد مناف بن قصى، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج ابن ذكوان وهي أم هاشم بن عبد مناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال وهي أم وهب أبى آمنة أم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالأولى من العواتك عمة الثانية والثانية عمة الثالثة، وبنو سليم تفخر بهذه الولادة. (النهاية، ج 3، ص 66) .
[ (2) ] فى ح: «ثم قام فجالد» .
[ (3) ] فى الأصل: «ثيابه» ، والتصحيح عن سائر النسخ، وهو أقرب إلى السياق.(1/280)
حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمّارٍ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْخِطْمِيّ. قَالَ:
أَقْبَلَ ثَابِتُ بْنُ الدّحْدَاحَةِ يَوْمَئِذٍ وَالْمُسْلِمُونَ أَوْزَاعٌ، قَدْ سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَجَعَلَ يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إلَيّ! إلَيّ! أَنَا ثَابِتُ بْنُ الدّحْدَاحَةِ، إنْ كَانَ مُحَمّدٌ قَدْ قُتِلَ فَإِنّ اللهَ حَيّ لَا يَمُوتُ! فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنّ اللهَ مُظْهِرُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ! فَنَهَضَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَقَفَتْ لَهُمْ كَتِيبَةٌ خَشْنَاءُ، فِيهَا رُؤَسَاؤُهُمْ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، فَجَعَلُوا يُنَاوِشُونَهُمْ. وَحَمَلَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالرّمْحِ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَوَقَعَ مَيّتًا. وَقُتِلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَيُقَالُ إنّ هَؤُلَاءِ لَآخِرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَوَصَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الشّعْبِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِتَالٌ.
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أُحُدٍ قَدْ خَاصَمَ إلَيْهِ يَتِيمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَبَا لُبَابَةَ فِي عَذْقٍ بَيْنَهُمَا، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ، فَجَزَعَ الْيَتِيمُ عَلَى الْعَذْقِ،
وَطَلَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم العذق إلى أبى لبابة لِلْيَتِيمِ، فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَبِي لُبَابَةَ: لَك بِهِ عَذْقٌ فِي الْجَنّةِ [ (1) ] . فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ، فَقَالَ ابْنُ الدّحْدَاحَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أرأيت إن أعطيت اليتيم عذقه، ما لي [ (2) ] ؟ قَالَ:
عَذْقٌ فِي الْجَنّةِ. قَالَ: فَذَهَبَ ثَابِتُ بن الدّحداحة فاشترى من أبى لبابة ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ ذَلِكَ الْعَذْقَ بِحَدِيقَةِ نَخْلٍ، ثُمّ رَدّ عَلَى الْغُلَامِ الْعَذْقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبّ عَذْقٍ مُذَلّلٍ لابن الدّحداحة فى الجنّة.
__________
[ (1) ] فى ح: «ادفعه إليه ولك عذق فى الجنة» .
[ (2) ] فى ح: «من مالي» .(1/281)
فَكَانَتْ تُرْجَى لَهُ الشّهَادَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى قُتِلَ بِأُحُدٍ.
وَيُقْبِلُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ فَارِسًا، يَجُرّ قَنَاةً لَهُ طَوِيلَةً، فيطعن عمرو ابن مُعَاذٍ فَأَنْفَذَهُ، وَيَمْشِي عَمْرٌو إلَيْهِ حَتّى غُلِبَ، فَوَقَعَ لِوَجْهِهِ. يَقُولُ ضِرَارٌ:
لَا تَعْدَمَن رَجُلًا زَوّجَك مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. وَكَانَ يَقُولُ: زَوّجْت عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: سَأَلْت ابْنَ جَعْفَرٍ: هَلْ قَتَلَ عَشَرَةً؟
فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّهُ قَتَلَ إلّا ثَلَاثَةً. وَقَدْ ضَرَبَ يَوْمَئِذٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حَيْثُ جَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ بِالْقَنَاةِ. قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطّابِ، إنّهَا نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ، وَاَللهِ مَا كُنْت لِأَقْتُلَك! وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ يُحَدّثُ وَيَذْكُرُ وَقْعَةَ أُحُدٍ، وَيَذْكُرُ الْأَنْصَارَ وَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ غِنَاءَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَشَجَاعَتَهُمْ، وَتَقَدّمَهُمْ [ (1) ] عَلَى الْمَوْتِ، ثُمّ يَقُولُ: لَمّا قُتِلَ أَشْرَافُ قَوْمِي بِبَدْرٍ جَعَلْت أَقُولُ: مَنْ قَتَلَ أَبَا الْحَكَمِ؟ يُقَالُ: ابْنُ عَفْرَاءَ. مَنْ قَتَلَ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ؟ يقال: خبيب ابن يَسَافٍ. مَنْ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ؟ قَالُوا: عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. مَنْ قَتَلَ فُلَانًا؟ فَيُسَمّى لِي. مَنْ أَسَرَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو؟ قَالُوا:
مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ. فَلَمّا خَرَجْنَا إلَى أُحُدٍ وَأَنَا أَقُولُ: إنْ أَقَامُوا فِي صَيَاصِيِهِمْ فَهِيَ مَنِيعَةٌ، لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِمْ، نُقِيمُ أَيّامًا ثُمّ نَنْصَرِفُ، وَإِنْ خَرَجُوا إلَيْنَا مِنْ صَيَاصِيِهِمْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ- مَعَنَا عَدَدٌ كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَقَوْمٌ [ (2) ] مَوْتُورُونَ خَرَجْنَا بِالظّعُنِ يُذَكّرْنَنَا قَتْلَى بَدْرٍ، وَمَعَنَا كُرَاعٌ وَلَا كُرَاعَ مَعَهُمْ، وَمَعَنَا سِلَاحٌ أَكْثَرُ مِنْ سلاحهم. فقضى لهم أن خرجوا، فالتقينا، فو الله
__________
[ (1) ] فى ح: «وإقدامهم» .
[ (2) ] فى ح: «ونحن قوم» .(1/282)
مَا أَقَمْنَا لَهُمْ حَتّى هُزِمْنَا وَانْكَشَفْنَا مُوَلّينَ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: هَذِهِ أَشَدّ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ! وَجَعَلْت أَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: كُرّ عَلَى الْقَوْمِ! فَجَعَلَ يَقُولُ:
وَتَرَى وَجْهًا نَكُرّ فِيهِ؟ حَتّى نَظَرْت إلَى الْجَبَلِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ الرّمَاةُ خَالِيًا، فَقُلْت: أَبَا سُلَيْمَانَ، اُنْظُرْ وَرَاءَك! فَعَطَفَ عَنَانَ فَرَسِهِ، فَكّرَ وَكَرَرْنَا مَعَهُ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْجَبَلِ فَلَمْ نَجِدْ عَلَيْهِ أَحَدًا لَهُ بَالٌ، وَجَدْنَا نُفَيْرًا فَأَصَبْنَاهُمْ، ثُمّ دَخَلْنَا الْعَسْكَرَ، وَالْقَوْمُ غَارّونَ يَنْتَهِبُونَ الْعَسْكَرَ، فَأَقْحَمْنَا الْخَيْلَ عَلَيْهِمْ فَتَطَايَرُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَوَضَعْنَا السّيُوفَ فِيهِمْ حَيْثُ شِئْنَا. وَجَعَلْت أَطْلُبُ الْأَكَابِرَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَتَلَةَ الْأَحِبّةِ فَلَا أَرَى أَحَدًا، قَدْ هَرَبُوا، فَمَا كَانَ حَلْبَ نَاقَةٍ حَتّى تداعيت الْأَنْصَارُ بَيْنَهَا، فَأَقْبَلَتْ فَخَالَطُونَا وَنَحْنُ فُرْسَانٌ، فَصَبَرُوا لَنَا [ (1) ] ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ حَتّى عَقَرُوا فَرَسِي وَتَرَجّلْت، فَقَتَلْت مِنْهُمْ عَشَرَةً. وَلَقِيت مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ الْمَوْتَ النّاقِعَ حَتّى وَجَدْت رِيحَ الدّمِ، وَهُوَ مُعَانِقِي، مَا يُفَارِقُنِي حَتّى أَخَذَتْهُ الرّمَاحُ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَوَقَعَ، فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أُكْرِمهُمْ بِيَدِي وَلَمْ يُهِنّي بِأَيْدِيهِمْ.
وَقَالُوا: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَكْوَانِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ؟ قَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَنَا رَأَيْت يَا رَسُولَ اللهِ فَارِسًا يَرْكُضُ فِي أَثَرِهِ حَتّى لَحِقَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَجَوْت إنْ نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان رجل، فَضَرَبَهُ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ عِلَاجٍ! فَأَهْوَيْت إلَيْهِ وَهُوَ فَارِسٌ، فَضَرَبْت رِجْلَهُ بِالسّيْفِ حَتّى قَطَعْتهَا عَنْ نِصْفِ الْفَخِذِ، ثُمّ طَرَحْته مِنْ فَرَسِهِ فَذَفَفْت عَلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ أَبُو الحكم بن الأخنس بن شريق ابن علاج بن عمرو بن وهب الثّقفىّ.
__________
[ (1) ] فى ح: «فصبرنا لهم فصبروا لنا» .(1/283)
وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ خَوّاتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: قَالَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمّا كَرّ الْمُشْرِكُونَ انْتَهَوْا إلَى الْجَبَلِ، وَقَدْ عَرِيَ مِنْ الْقَوْمِ، وَبَقِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، فَهُمْ عَلَى رَأْسِ عَيْنَيْنِ. فلمّا طلع خالد ابن الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ فِي الْخَيْلِ [ (1) ] ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْبَسِطُوا نَشْرًا [ (2) ] لِئَلّا يَجُوزَ الْقَوْمُ! فَصَفّوا وَجْهَ الْعَدُوّ، وَاسْتَقْبَلُوا الشّمْسَ، فَقَاتَلُوا سَاعَةً حَتّى قُتِلَ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدْ جُرِحَ عَامّتُهُمْ. فَلَمّا وَقَعَ جَرّدُوهُ وَمَثّلُوا بِهِ أَقْبَحَ الْمَثْلِ، وَكَانَتْ الرّمَاحُ قَدْ شَرَعَتْ فِي بَطْنِهِ حَتّى خَرَقَتْ مَا بَيْنَ سُرّتِهِ إلَى خَاصِرَتِهِ إلَى عَانَتِهِ [ (3) ] ، فَكَانَتْ حَشْوَتُهُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا. فَلَمّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ مَرَرْت بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَلَقَدْ ضَحِكْت فِي مَوْضِعٍ مَا ضَحِكَ فِيهِ أَحَدٌ قَطّ، وَنَعَسْت فِي مَوْضِعٍ مَا نَعَسَ فِيهِ أَحَدٌ، وَبَخِلْت فِي مَوْضِعٍ مَا بَخِلَ فِيهِ أَحَدٌ. فَقِيلَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: حَمَلْته فَأَخَذْت بِضَبُعَيْهِ [ (4) ] ، وَأَخَذَ أَبُو حَنّةَ بِرِجْلَيْهِ، وَقَدْ شَدَدْت [ (5) ] جُرْحَهُ بِعِمَامَتِي، فَبَيْنَا نَحْنُ نَحْمِلُهُ وَالْمُشْرِكِينَ نَاحِيَةً إلَى أَنْ سَقَطَتْ عِمَامَتِي مِنْ جُرْحِهِ فَخَرَجَتْ حَشْوَتُهُ، فَفَزِعَ صَاحِبِي وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ يَظُنّ أَنّهُ الْعَدُوّ، فَضَحِكْت.
وَلَقَدْ شَرَعَ لِي رَجُلٌ بِرُمْحٍ يَسْتَقْبِلُ بِهِ ثُغْرَةَ نَحْرِي، فَغَلَبَنِي النّوْمُ وَزَالَ الرّمْحُ.
وَلَقَدْ رَأَيْتنِي حِينَ انْتَهَيْت إلَى الْحَفْرِ لَهُ، وَمَعِي قَوْسِي، وَغَلُظَ عَلَيْنَا الْجَبَلُ فَهَبَطْنَا بِهِ الْوَادِيَ، فَحَفَرْت بِسِيَةِ الْقَوْسِ وَفِيهَا الْوَتَرُ، فَقُلْت: لَا أُفْسِدُ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فى الجبل» ، والتصحيح عن سائر النسخ.
[ (2) ] أى منتشرين. (الصحاح، ص 828) .
[ (3) ] فى ت: «إلى عاتقه» .
[ (4) ] الضبع: العضد. (الصحاح، ص 1247) .
[ (5) ] فى ت: «سادت» .(1/284)
الْوَتَرَ! فَحَلَلْته ثُمّ حَفَرْت بِسِيَتِهَا حَتّى أَنْعَمْنَا، ثُمّ غَيّبْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا، وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدُ نَاحِيَةً، وَقَدْ تَحَاجَزْنَا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَلّوْا.
قَالُوا: وَكَانَ وَحْشِيّ عَبْدًا لِابْنَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ- وَيُقَالُ كَانَ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- فَقَالَتْ ابْنَةُ الْحَارِثِ: إنّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْت أَحَدَ الثّلَاثَةِ فَأَنْتَ حُرّ، إنْ قَتَلْت مُحَمّدًا، أَوْ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَوْ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنّي لَا أَرَى فِي الْقَوْمِ كُفُؤًا لِأَبِي غَيْرَهُمْ. قَالَ وَحْشِيّ: أَمّا رَسُولُ اللهِ فَقَدْ عَلِمْت [ (1) ] أَنّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَنّ أَصْحَابَهُ لَنْ يُسْلِمُوهُ. وَأَمّا حَمْزَةُ فَقُلْت: وَاَللهِ لَوْ وَجَدْته نَائِمًا مَا أَيْقَظْته مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَمّا عَلِيّ فَقَدْ كُنْت أَلْتَمِسُهُ [ (2) ] . قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي النّاسِ أَلْتَمِسُ عَلِيّا إلَى أَنْ طَلَعَ عَلَيّ، فَطَلَعَ رَجُلٌ حَذِرٌ مَرِسٌ، كَثِيرُ الِالْتِفَاتِ. فَقُلْت:
مَا هَذَا صَاحِبِي الّذِي أَلْتَمِسُ! إذْ رَأَيْت حَمْزَةَ يَفْرِي النّاسَ فَرْيًا، فَكَمَنْت إلَى صَخْرَةٍ، وَهُوَ مُكَبّسٌ، لَهُ كَثِيبٌ [ (3) ] ، فَاعْتَرَضَ لَهُ سِبَاعُ ابن أُمّ أَنْمَارٍ- وَكَانَتْ أُمّهُ خَتّانَةً بِمَكّةَ مَوْلَاةً لِشَرِيفِ بْنِ عِلَاجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ، وَكَانَ سِبَاعٌ يُكَنّى أَبَا نِيَارٍ- فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: وَأَنْتَ أَيْضًا يَا ابْنَ مُقَطّعَةِ الْبُظُورِ [ (4) ] مِمّنْ يُكْثِرُ عَلَيْنَا. هَلُمّ إلَيّ! فَاحْتَمَلَهُ حَتّى إذَا بَرَقَتْ [ (5) ] قَدَمَاهُ رَمَى بِهِ، فَبَرَكَ عَلَيْهِ فَشَحَطَهُ شَحْطَ الشّاةِ. ثُمّ أَقْبَلَ إلَيّ مِكْبَسًا [ (6) ] حِينَ رَآنِي، فَلَمّا بَلَغَ الْمَسِيلَ وَطِئَ على جرف [ (7) ] فزلّت قدمه، فهززت حربتي
__________
[ (1) ] فى ت: «عرفت» .
[ (2) ] فى ت: «التمسته» .
[ (3) ] فى ت: «له كثيث» .
[ (4) ] فى الأصل: «البطون» ، والتصحيح عن سائر النسخ.
[ (5) ] أى ضعفتا، وهو من قولهم برق بصره أى ضعف. (النهاية، ج 1، ص 74) .
[ (6) ] فى ح: «مكبا» .
[ (7) ] الجرف: المكان أصابه سيل. (القاموس المحيط، ج 3، ص 123) .(1/285)
حَتّى رَضِيت مِنْهَا، فَأَضْرِبُ بِهَا فِي خَاصِرَتِهِ حَتّى خَرَجْت مِنْ مَثَانَتِهِ. وَكَرّ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: أَبَا عُمَارَةَ! فَلَا يُجِيبُ، فَقُلْت: قَدْ، وَاَللهِ مَاتَ الرّجُلُ! وَذَكَرْت هِنْدًا وَمَا لَقِيَتْ عَلَى أَبِيهَا وَعَمّهَا وَأَخِيهَا، وَانْكَشَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ حِينَ أَيْقَنُوا مَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنِي، فَأَكُرّ عَلَيْهِ فَشَقَقْت بَطْنَهُ فَأَخْرَجْت كَبِدَهُ، فَجِئْت بِهَا إلَى هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ، فَقُلْت: مَاذَا لِي إنْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِيك؟ قَالَتْ: سَلَبِي! فَقُلْت: هَذِهِ كَبِدُ حَمْزَةَ. فَمَضَغَتْهَا ثُمّ لَفَظَتْهَا، فَلَا أَدْرِي لَمْ تُسِغْهَا أَوْ قَذَرَتْهَا. فَنَزَعَتْ ثِيَابَهَا وَحُلِيّهَا فَأَعْطَتْنِيهِ، ثُمّ قَالَتْ:
إذَا جِئْت مَكّةَ فَلَك عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. ثُمّ قَالَتْ: أَرِنِي مَصْرَعَهُ! فَأَرَيْتهَا مَصْرَعَهُ، فَقَطَعَتْ مَذَاكِيرَهُ، وَجَدَعَتْ أَنْفَهُ، وَقَطَعَتْ أُذُنَيْهِ، ثُمّ جَعَلَتْ مَسَكَتَيْنِ وَمِعْضَدَيْنِ وخدمتين حتى قدمت بذلك مكّة، وقدمت يكبده مَعَهَا.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: غَزَوْنَا الشّامَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَمَرَرْنَا بِحِمْصٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقُلْنَا: وَحْشِيّ! فَقَالُوا: لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، هُوَ الْآنَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتّى يُصْبِحَ. فَبِتْنَا مِنْ أَجْلِهِ وَإِنّا لَثَمَانُونَ رَجُلًا، فَلَمّا صَلّيْنَا الصّبْحَ جِئْنَا إلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، قَدْ طُرِحَتْ لَهُ زِرْبِيّةٌ [ (1) ] قَدْرَ مَجْلِسِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ وَعَنْ مُسَيْلِمَةَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا بِتْنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ إلّا مِنْ أَجْلِك. فَقَالَ: إنّي كُنْت عَبْدًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بن عدىّ، فَلَمّا خَرَجَ النّاسُ إلَى أُحُدٍ دَعَانِي فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت مَقْتَلَ طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ نِسَاؤُنَا فِي حُزْنٍ شَدِيدٍ إلَى يَوْمِي هذا،
__________
[ (1) ] الزربية: البساط. (النهاية، ج 3، ص 124) .(1/286)
فَإِنْ قَتَلْت حَمْزَةَ فَأَنْتَ حُرّ. قَالَ: فَخَرَجْت مَعَ النّاسِ وَلِي مَزَارِيقُ [ (1) ] ، وَكُنْت أَمُرّ بِهِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ فَتَقُولُ: إيه أَبَا دَسِمَةَ، اشْفِ وَاشْتَفِ! فَلَمّا وَرَدْنَا أُحُدًا نَظَرْت إلَى حَمْزَةَ يَقْدُمُ النّاسَ يَهُدّهُمْ [ (2) ] هَدّا فَرَآنِي وَأَنَا قَدْ كَمَنْت لَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَأَقْبَلَ نَحْوِي وَيَعْتَرِضُ لَهُ سِبَاعٌ الْخُزَاعِيّ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ فَقَالَ: وَأَنْتَ أَيْضًا [يَا] ابْنَ مُقَطّعَةِ الْبُظُورِ مِمّنْ يُكْثِرُ عَلَيْنَا، هَلُمّ إلَيّ! قَالَ: وَأَقْبَلَ حَمْزَةُ فَاحْتَمَلَهُ حَتّى رَأَيْت بَرَقَانَ رِجْلَيْهِ، ثُمّ ضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمّ قَتَلَهُ. وَأَقْبَلَ نَحْوِي سَرِيعًا حَتّى يَعْتَرِضَ لَهُ جُرُفٌ فَيَقَعُ فِيهِ، وَأَزْرُقُهُ بِمِزْرَاقِي فَيَقَعُ فِي ثُنّتِهِ [ (3) ] حَتّى خَرَجَ مِنْ بَيْن رِجْلَيْهِ، فَقَتَلْته، وَأَمُرّ بِهِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ [ (4) ] فَأَعْطَتْنِي حُلِيّهَا وَثِيَابَهَا.
وَأَمّا مُسَيْلِمَةُ، فَإِنّا دَخَلْنَا حَدِيقَةَ الْمَوْتِ، فَلَمّا رَأَيْته زَرَقْته بِالْمِزْرَاقِ وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِالسّيْفِ، فَرَبّك أَعْلَمُ أَيّنَا قَتَلَهُ إلّا أَنّي سَمِعْت امْرَأَةً تَصِيحُ فَوْقَ الدّيْرِ [ (5) ] : قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْحَبَشِيّ.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَقُلْت: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: فَأَكَرّ [ (6) ] بَصَرَهُ عَلَيّ، وَقَالَ:
ابْنُ عَدِيّ وَلِعَاتِكَةِ بِنْتِ أَبِي الْعِيصِ! قَالَ: قُلْت: نَعَمْ. قَالَ:
أَمَا وَاَللهِ مَا لِي بِك عَهْدٌ بَعْدَ أَنْ رَفَعْتُك إلَى أُمّك فِي مِحَفّتِهَا الّتِي تُرْضِعُك فِيهَا، وَنَظَرْت إلَى بَرَقَانِ قدميك حتى كأن الآن.
__________
[ (1) ] مزاريق: جمع مزارق، وهو رمح قصير. (القاموس المحيط، ج 3، ص 240) .
[ (2) ] فى ت: «يهزهم هزا» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. ويهذ الناس، من رواه بالذال المعجمة، فمعناه يسرع فى قطع لحوم الناس بسيفه، ومن رواه بالدال المهملة فمعناه يرديهم ويهلكهم. (شرح أبى ذر، ص 220) .
[ (3) ] فى ح: «فى لبته» . والثنة: ما بين السرة والعانة. (الصحاح، ص 2090) .
[ (4) ] فى ح: «ومررت بهند بنت عتبة فآذنتها فأعطتنى» .
[ (5) ] فى ح: «فوق جدار» .
[ (6) ] فى الأصل: «فأكره بصره» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/287)
وَكَانَ فِي سَاقَيْ هِنْدٍ خَدَمَتَانِ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ، وَمَسَكَتَانِ مِنْ وَرِقٍ [ (1) ] ، وَخَوَاتِمَ مِنْ وَرِقٍ، كُنّ فِي أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا، فَأَعْطَتْنِي ذَلِكَ.
وَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَقُولُ: رُفِعْنَا [ (2) ] فِي الْآطَامِ وَمَعَنَا حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَنَحْنُ فِي فَارِعٍ [ (3) ] ، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَهُودِ يَرْمُونَ الْأُطُمَ، فَقُلْت: عِنْدَك يَا ابْنَ الْفُرَيْعَةِ [ (4) ] ! فَقَالَ: لَا وَاَللهِ، مَا أَسْتَطِيعُ، مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَى أُحُدٍ! وَيَصْعَدُ يَهُودِيّ إلَى الْأُطُمِ فَقُلْت: شُدّ عَلَى يَدِي السّيْفَ، ثُمّ بَرِئَتْ! فَفَعَلَ. قَالَتْ: فَضَرَبْت عُنُقَهُ، ثُمّ رَمَيْت بِرَأْسِهِ إلَيْهِمْ، فَلَمّا رَأَوْهُ انْكَشَفُوا. قَالَتْ: وَإِنّي فِي فَارِعٍ أَوّلَ النّهَارِ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْأُطُمِ، فَرَأَيْت الْمِزْرَاقَ يزرق به، فقلت: أو من سِلَاحِهِمْ الْمَزَارِيقُ؟ أَفَلَا أَرَاهُ هَوَى إلَى أَخِي وَلَا أَشْعُرُ. قَالَتْ: ثُمّ خَرَجْت آخِرَ النّهَارِ حَتّى جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَتْ تُحَدّثُ تَقُولُ: كُنْت أَعْرِفُ انْكِشَافَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى الْأُطُمِ، يَرْجِعُ حَسّانٌ إلَى أَقْصَى الْأُطُمِ، فَإِذَا رَأَى الدّوْلَةَ لِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ حَتّى يَقِفَ عَلَى جِدَارِ الْأُطُمِ. قَالَتْ: وَلَقَدْ خَرَجْت وَالسّيْفُ فِي يَدِي، حَتّى إذَا كُنْت فِي بَنِي حَارِثَةَ أَدْرَكْت نِسْوَةً مِنْ الْأَنْصَارِ وَأُمّ أَيْمَنَ مَعَهُنّ، فكان الجمز [ (5) ] منّا حتى
__________
[ (1) ] الورق: الفضة. (النهاية، ج 4، ص 205) .
[ (2) ] فى ح: «رفعنا يوم أحد» .
[ (3) ] فارع: اسم أطم كان فى موضع دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 354) .
[ (4) ] فى الأصل: «القريعة» ، وكذا فى ح أيضا. وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 341) .
[ (5) ] الجمز: ضرب من العدو دون الحضر وفوق العنق. (القاموس المحيط، ج 2، ص 169) .(1/288)
انْتَهَيْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ أَوْزَاعٌ، فَأَوّلُ مَنْ لَقِيت عَلِيّ ابْنُ أَخِي، فَقَالَ: ارْجِعِي يَا عَمّةِ فَإِنّ فِي النّاسِ تَكَشّفًا فَقُلْت:
رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: صَالِحٌ بِحَمْدِ اللهِ! قُلْت: اُدْلُلْنِي عَلَيْهِ حَتّى أَرَاهُ. فَأَشَارَ لِي إلَيْهِ إشَارَةً خَفِيّةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَانْتَهَيْت إلَيْهِ وَبِهِ الْجِرَاحَةُ.
قَالَ: وَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَا فَعَلَ عَمّي؟ مَا فَعَلَ عَمّي حَمْزَةُ؟ فَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ فَأَبْطَأَ، فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
يَا رَبّ إنّ الْحَارِثَ بْنَ الصّمّهْ ... كَانَ رَفِيقًا وَبِنَا ذَا ذِمّهْ
قَدْ ضَلّ فِي مَهَامِهٍ مُهِمّهْ ... يَلْتَمِسُ الْجَنّةَ فِيمَا تَمّهْ [ (1) ]
قَالَ الْوَاقِدِيّ: سَمِعْتهَا مِنْ الْأَصْبَغِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَنَا غُلَامٌ، وَكَانَ بِسِنّ أَبِي الزّنَادِ- حَتّى انْتَهَى إلَى الْحَارِثِ وَوَجَدَ حَمْزَةَ مَقْتُولًا، فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا وَقَفْت مَوْقِفًا قَطّ أَغْيَظَ إلَيّ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ! فَطَلَعَتْ صَفِيّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زُبَيْرُ أَغْنِ عَنّي أُمّك، وَحَمْزَةُ يُحْفَرُ لَهُ. فَقَالَ: يَا أُمّهُ، إنّ فِي النّاسِ تَكَشّفًا [فَارْجِعِي] . فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِفَاعِلَةٍ حَتّى أَرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا رَأَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ ابْنَ أُمّي حَمْزَةَ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ فِي النّاسِ. قَالَتْ: لَا أَرْجِعُ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ. قَالَ الزّبَيْرُ:
فَجَعَلْت أَطِدُهَا [ (2) ] إلَى الْأَرْضِ حَتّى دُفِنَ حَمْزَةُ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنْ يُحْزِنَ ذَلِكَ نِسَاءَنَا، لَتَرَكْنَاهُ لِلْعَافِيَةِ- يَعْنِي السّبَاعَ وَالطّيْرَ- حَتّى يُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بُطُونِ السّبَاعِ وحواصل الطّير.
__________
[ (1) ] فى ت: «تمه» ، وفى البلاذري، عن الواقدي: «يمه» . (أنساب الأشراف، ج 1، ص 325) .
[ (2) ] وطد الشيء: أثبته. (القاموس المحيط، ج 1، ص 345) .(1/289)
وَنَظَرَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ إلَى حَمْزَةَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يَهُدّ [ (1) ] النّاسَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. فَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَسْرَعَ فِي قَوْمِهِ- وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُعْلِمًا بِرِيشَةِ نِسْرٍ. وَيُقَالُ: لَمّا أُصِيبَ حَمْزَةُ جَاءَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَطْلُبُهُ، فَحَالَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ الْأَنْصَارُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهَا! فَجَلَسَتْ عِنْدَهُ فَجَعَلَتْ إذَا بَكَتْ بَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا نَشَجَتْ يَنْشِجُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْكِي، وَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَكَتْ بَكَى، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِك [ (2) ] أَبَدًا! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم:
أبشرا! أتانى جبرئيل فَأَخْبَرَنِي أَنّ حَمْزَةَ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ السّمَوَاتِ السّبْعِ- حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ.
قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثْلًا شَدِيدًا فَأَحْزَنَهُ ذَلِكَ الْمَثْلُ، ثُمّ قَالَ: لَئِنْ ظَفِرْت بِقُرَيْشٍ لَأُمَثّلَن بِثَلَاثِينَ مِنْهُمْ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [ (3) ] فَعَفَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُمَثّلْ بِأَحَدٍ.
وَجَعَلَ أَبُو قَتَادَةَ يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ مِنْ قُرَيْش، لِمَا رَأَى مِنْ غَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ حَمْزَةَ وَمَا مُثّلَ بِهِ، كُلّ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اجْلِسْ ثَلَاثًا- وَكَانَ قَائِمًا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْتَسِبُك عِنْدَ اللهِ. ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا قتادة، إنّ قُرَيْشًا أَهْلُ أَمَانَةٍ، مَنْ بَغَاهُمْ الْعَوَاثِرَ كبّه الله لفيه، وعسى إن
__________
[ (1) ] فى ت: «يهز» . (انظر هامش ص 287) .
[ (2) ] فى ح: «بمثل حمزة أبدا» .
[ (3) ] سورة 16 النحل 126.(1/290)
طَالَتْ بِك مُدّةٌ أَنْ تَحْقِرَ [ (1) ] عَمَلَك مَعَ أَعْمَالِهِمْ وَفَعَالَك مَعَ فَعَالِهِمْ، لَوْلَا أَنْ تَبْطَرَ قُرَيْشٌ لَأَخْبَرْتهَا بِمَا لَهَا عِنْدَ اللهِ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا غَضِبْت إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ حِينَ نَالُوا مِنْهُ مَا نَالُوا! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت، بِئْسَ الْقَوْمُ كَانُوا لِنَبِيّهِمْ! وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ: يَا رَسُولَ الله، إنّ هولاء قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ سَأَلْت اللهَ عَزّ وَجَلّ وَرَسُولَهُ فَقُلْت: اللهُمّ إنّي أُقْسِمُ عَلَيْك أَنْ نَلْقَى الْعَدُوّ غَدًا فَيَقْتُلُونَنِي وَيَبْقُرُونَنِي وَيُمَثّلُونَ بِي، فَأَلْقَاك مَقْتُولًا قَدْ صُنِعَ هَذَا بِي، فَتَقُول: فِيمَ صُنِعَ بِك هَذَا؟ فَأَقُول: فِيك! وَأَنَا أَسْأَلُك أُخْرَى: أَنْ تَلِي تَرِكَتِي مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ وَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وَمُثّلَ بِهِ كُلّ الْمَثْلِ وَدُفِنَ، وَدُفِنَ هُوَ وَحَمْزَةُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَوَلِيَ تَرِكَتَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَى لِأُمّهِ مَالًا بِخَيْبَرَ.
وَأَقْبَلَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَهِيَ أُخْتُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا حَمْنُ، احْتَسِبِي! قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: خَالُك حَمْزَةُ. قَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، غفر الله له ورحمه، فهنيئا لَهُ الشّهَادَةَ! ثُمّ قَالَ لَهَا: احْتَسِبِي! قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَخُوك.
قَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، غَفَرَ اللهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، هَنِيئًا لَهُ الْجَنّةَ! ثُمّ قَالَ لَهَا: احْتَسِبِي! قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: مصعب بن عمير [ (2) ] . قالت: وا حزناه! ويقال إنها قالت: وا عقراه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ لِلزّوْجِ مِنْ الْمَرْأَةِ مَكَانًا مَا هُوَ لِأَحَدٍ. ثُمّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ قُلْت هَذَا؟ قَالَتْ: يا رسول الله،
__________
[ (1) ] فى ت: «أن يحقر» .
[ (2) ] فى ح: «بعلك مصعب» .(1/291)
ذَكَرْت يُتْمَ بَنِيهِ فَرَاعِنِي. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلَدِهِ أَنْ يُحْسَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَلَفِ،
فَتَزَوّجَتْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ طَلْحَةَ، وَكَانَ أَوْصَلَ النّاسِ لِوَلَدِهِ. وَكَانَتْ حَمْنَةُ خَرَجَتْ يَوْمَئِذٍ إلَى أُحُدٍ مَعَ النّسَاءِ يَسْقِينَ الْمَاءَ.
وَخَرَجَتْ السّمَيْرَاءُ بِنْتُ قَيْسٍ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ ابْنَاهَا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، النّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَسُلَيْمُ بْنُ الْحَارِثِ، فَلَمّا نُعِيَا لَهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالُوا: خَيْرًا، هُوَ بِحَمْدِ اللهِ صَالِحٌ عَلَى مَا تُحِبّينَ. قَالَتْ: أَرُونِيهِ أَنْظُرُ إلَيْهِ! فَأَشَارُوا لَهَا إلَيْهِ فَقَالَتْ: كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك يَا رَسُولَ اللهِ جَلَلٌ.
وَخَرَجَتْ تَسُوقُ بِابْنَيْهَا بَعِيرًا تَرُدّهُمَا إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَتْهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَتْ: أَمّا رَسُولُ اللهِ، بِحَمْدِ اللهِ فَبِخَيْرٍ، لَمْ يَمُتْ! واتخذ الله من المؤمنين شهداء وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [ (1) ] . قَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ مَعَك؟
قَالَتْ: ابْنَايَ ... حَلْ! حَلْ!
وَقَالُوا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَأْتِينِي بخبر سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ؟ فَإِنّي قَدْ رَأَيْته- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْوَادِي- وَقَدْ شَرَعَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ سِنَانًا.
قَالَ: فَخَرَجَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ- وَيُقَالُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ- فَخَرَجَ نَحْوَ تِلْكَ النّاحِيَةِ. قَالَ: وَأَنَا وَسْطَ الْقَتْلَى أَتَعَرّفُهُمْ، إذْ مَرَرْت بِهِ صَرِيعًا فِي الْوَادِي، فَنَادَيْته فَلَمْ يُجِبْ، ثُمّ قُلْت: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إلَيْك! فتنفّس كما يتنفّس الكير [ (2) ] ، ثم قال:
__________
[ (1) ] سورة 33 الأحزاب 25.
[ (2) ] فى ت: «المكير» ، وفى ب: «الطائر» . والكير: زق ينفخ فيه الحداد. (القاموس المحيط، ج 2، ص 130) .(1/292)
وَإِنّ رَسُولَ اللهِ لَحَيّ؟ قَالَ: قُلْت: نَعَمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنّهُ شُرِعَ لَك اثْنَا عَشَرَ سِنَانًا. قَالَ: طُعِنْت اثْنَتَيْ عَشْرَةَ طَعْنَةً، كُلّهَا أَجَافَتْنِي [ (1) ] ، أَبْلِغْ قَوْمَك الْأَنْصَارَ السّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ: اللهَ، اللهَ! وَمَا عَاهَدْتُمْ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ! وَاَللهِ مَا لَكُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللهِ إنْ خُلِصَ إلَى نَبِيّكُمْ وَمِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ! وَلَمْ أَرِمْ [ (2) ] مِنْ عِنْدِهِ حَتّى مَاتَ. قَالَ: فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته.
قَالَ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ: اللهُمّ الْقَ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ وَأَنْتَ عَنْهُ رَاضٍ!
قَالُوا: وَلَمّا صَاحَ إبْلِيسُ «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» يُحْزِنُهُمْ [ (3) ] بِذَلِكَ، تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ، وَجَعَلَ النّاسُ يَمُرّونَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَلْوِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ، حَتّى انْتَهَى مَنْ انْتَهَى مِنْهُمْ إلَى الْمِهْرَاسِ [ (4) ] ، وَوَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَصْحَابَهُ فِي الشّعْبِ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا صَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ كَانُوا فِئَتَهُ [ (5) ] .
وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمّا انْتَهَى إلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا [ (6) ] فِئَتَهُ، فَانْتَهَى إلَى الشّعْبِ وَأَصْحَابُهُ فِي الْجَبَلِ أَوْزَاعٌ، يَذْكُرُونَ مَقْتَل مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَيَذْكُرُونَ مَا جَاءَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ كَعْبٌ: وَكُنْت أَوّلَ مَنْ عَرَفَهُ وعليه
__________
[ (1) ] أجافه الطعن: وصل إلى جوفه. (أساس البلاغة، ص 142) .
[ (2) ] فى الأصل: «فلم أمر» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (3) ] فى ح: «يخزيهم» .
[ (4) ] فى ح: «حتى انتهت هزيمة قوم منهم إلى المهراس» .
[ (5) ] فى ب: «فتية» .
[ (6) ] فى الأصل: «كان فئته» ، وفى ب، ت: «كان فئتهم» . انظر هامش (3) ، ص 278.(1/293)
الْمِغْفَرُ. قَالَ: فَجَعَلْت أَصِيحُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ حَيّا سَوِيّا! وَأَنَا فِي الشّعْبِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُومِئُ إلَيّ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ أَنْ اُسْكُتْ، ثُمّ دَعَا بِلَأْمَتِي- وَكَانَتْ صَفْرَاءَ أَوْ بَعْضَهَا- فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَعَ لَأْمَتَهُ. قَالَ: وَطَلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الشّعْبِ بَيْنَ السّعْدَيْنِ، سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، يَتَكَفّأُ فِي الدّرْعِ، وَكَانَ إذَا مَشَى تَكَفّأَ تَكَفّؤًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَتَوَكّأُ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ- وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جُرِحَ يَوْمَئِذٍ، فَمَا صَلّى الظّهْرَ إلّا جَالِسًا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بِي قُوّةً! فَحَمَلَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى الصّخْرَةِ عَلَى طَرِيقِ أُحُدٍ- مَنْ أَرَادَ شِعْبَ الْجَزّارِينَ- لَمْ يَعْدُهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِهَا، ثُمّ حَمَلَهُ طَلْحَةُ حَتّى ارْتَفَعَ عَلَيْهَا، ثُمّ مَضَى إلَى أَصْحَابِهِ وَمَعَهُ النّفَرُ الّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ.
فَلَمّا نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ مَعَهُ جَعَلُوا يُوَلّونَ فِي الشّعْبِ، ظَنّوا أَنّهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، حَتّى جَعَلَ أَبُو دُجَانَةَ يُلِيحُ إلَيْهِمْ بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، فَعَرَفُوهُ فَرَجَعُوا، أَوْ بَعْضُهُمْ.
وَيُقَالُ إنّهُ لَمّا طَلَعَ فِي النّفَرِ الّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ- سَبْعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ- وَجَعَلُوا يُوَلّونَ فِي الْجَبَلِ،
جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسّمُ إلَى أَبِي بكر وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَلِحْ إلَيْهِمْ!
فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُلِيحُ، وَلَا يَرْجِعُونَ حَتّى نَزَعَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةً حَمْرَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَوْفَى [ (1) ] عَلَى الْجَبَلِ فَجَعَلَ يَصِيحُ وَيُلِيحُ، فَوَقَفُوا حَتّى تَلَاحَقَ [ (2) ] الْمُسْلِمُونَ. وَلَقَدْ وَضَعَ أَبُو بُرْدَةَ بن نيار سهما على كبد قوسه،
__________
[ (1) ] فى ت: «فأومى» .
[ (2) ] فى ح: «فوقفوا حتى عرفوهم» .(1/294)
فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ الْقَوْمَ [ (1) ] ، فَلَمّا تَكَلّمُوا وَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنّهُمْ [ (2) ] لَمْ يُصِبْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُصِيبَةٌ حِينَ أَبْصَرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ عَرَضَ الشّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَخْزِيَتِهِ [ (3) ] لَهُمْ حِينَ أَبْصَرُوا عَدُوّهُمْ قَدْ انْفَرَجُوا عَنْهُمْ. قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: إنّي إلَى جَنْبِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيّ وَهُوَ يَذْكُرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ قَوْمِهِ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ، فَيُخْبَرُ بِرِجَالٍ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ وَيَتَرَحّمُ عَلَيْهِمْ، وَبَعْضُهُمْ يَسْأَلُ بَعْضًا عَنْ حميمه، فهم يخبرون بعضهم بعضا. فبيناهم عَلَى ذَلِكَ رَدّ اللهُ الْمُشْرِكِينَ لِيَذْهَبَ بِالْحُزْنِ عَنْهُمْ، فَإِذَا عَدُوّهُمْ فَوْقَهُمْ قَدْ عَلَوْا، وَإِذَا كَتَائِبُ الْمُشْرِكِينَ. فَنَسُوا مَا كَانُوا يَذْكُرُونَ، وَنَدَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضّنَا عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي عُرْضِ الْجَبَلِ يَعْدُونَ.
فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَمّا صَاحَ الشّيْطَانُ «قُتِلَ مُحَمّدٌ» أَقْبَلْت أَرْقَى فِي الْجَبَلِ كَأَنّي أُرْوِيّةٌ [ (4) ] ،
فَانْتَهَيْت إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... [ (5) ] الْآيَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهُمّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُوَنَا [ (6) ] ! فَانْكَشَفُوا.
قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ: لَقَدْ رَأَيْتنَا قَبْلَ أَنْ يُلْقَى عَلَيْنَا النّعَاسُ، وَإِنّا لَسِلْمٌ لِمَنْ أَرَادَنَا، لِمَا بِنَا مِنْ الْحُزْنِ، فَأُلْقِيَ عَلَيْنَا النّعَاسُ فنمنا حتى
__________
[ (1) ] فى ح: «أن يرمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه» .
[ (2) ] فى ب: «فكأنه» .
[ (3) ] فى ب: «وتحزينه» .
[ (4) ] الأروية: الأنثى من الوعول. (الصحاح، ص 2363) .
[ (5) ] سورة 3 آل عمران 144.
[ (6) ] فى ح: «أن يعلوا» .(1/295)
تَنَاطَحَ الْحَجَفُ [ (1) ] ، وَفَزِعْنَا وَكَأَنّا لَمْ يُصِبْنَا قَبْلَ ذَلِكَ نَكْبَةٌ.
وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: غَشِيَنَا النّعَاسُ حَتّى كَانَ حَجَفُ الْقَوْمِ تَنَاطَحَ.
وَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ: غَشِيَنَا النّعَاسُ فَمَا مِنّا رَجُلٌ إلّا وَذَقَنُهُ فِي صَدْرِهِ مِنْ النّوْمِ، فَأَسْمَعُ مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ يَقُولُ- وَإِنّي لَكَالْحَالِمِ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [ (2) ] فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا [ (2) ] .
قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: لَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَصَابَنَا النّعَاسُ أَمَنَةً مِنْهُ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا يَغُطّ غَطِيطًا حَتّى إنّ الحجف التناطح. وَلَقَدْ رَأَيْت سَيْفَ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ، وَأَخَذَهُ بَعْدَ مَا تَثَلّمَ، وَإِنّ الْمُشْرِكِينَ لَتَحْتنَا.
وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أُلْقِيَ عَلَيْنَا النّعَاسُ، فَكُنْت أَنْعَسُ حَتّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي. وَكَانَ النّعَاسُ لَمْ يُصِبْ أَهْلَ النّفَاقِ وَالشّكّ يَوْمَئِذٍ، فَكُلّ مُنَافِقٍ يَتَكَلّمُ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَإِنّمَا أَصَابَ النّعَاسُ أَهْلَ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ.
وَقَالُوا: لَمّا تَحَاجَزُوا أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ الِانْصِرَافَ، وَأَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ حَوّاءُ [ (3) ] أُنْثَى، فَأَشْرَفَ [ (4) ] عَلَى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عُرْضِ الْجَبَلِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: اُعْلُ هُبَلُ! ثُمّ يَصِيحُ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطّابِ؟ يَوْمٌ بيوم بدر، ألا إنّ
__________
[ (1) ] الحجف: التروس من جلود بلا خشب ولا عقب. (القاموس المحيط، ج 3، ص 126) .
[ (2) ] سورة 3 آل عمران 154.
[ (3) ] فى ح: «حوراء» . والحوة: حمرة تضرب إلى السواد. (الصحاح، ص 2322) .
[ (4) ] فى ح: «فوقف على» .(1/296)
الْأَيّامَ دُوَلٌ، وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، وَحَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ [ (1) ] !
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُجِيبُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى، فَأَجِبْهُ!
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اُعْلُ هُبَلُ! فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلّ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّهَا قَدْ أَنْعَمَتْ، فَعَالِ [ (2) ] عَنْهَا! ثُمّ قَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطّابِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا عُمَرُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمُ بِيَوْمِ بَدْرٍ، أَلَا إنّ الْأَيّامَ دُوَلٌ، وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النّارِ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّكُمْ لَتَقُولُونَ ذَلِكَ! لَقَدْ خِبْنَا إذَنْ وَخَسِرْنَا! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزّى وَلَا عُزّى لَكُمْ! فَقَالَ عُمَرُ:
اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنّهَا قَدْ أَنْعَمَتْ يَا ابْنَ الْخَطّابِ، فَعَالِ عَنْهَا. ثُمّ قَالَ: قُمْ إلَيّ يَا ابْنَ الْخَطّابِ، أُكَلّمْك. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُك بِدِينِك، هَلْ قَتَلْنَا مُحَمّدًا؟ قَالَ عُمَرُ: اللهُمّ لَا، وَإِنّهُ لَيَسْمَعُ كَلَامَك الْآنَ. قَالَ: أَنْتَ عِنْدِي أَصْدَقُ مِنْ ابْنِ قَمِيئَةَ- وَكَانَ ابْنُ قَمِيئَةَ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَتَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ: إنّكُمْ وَاجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ عَيْثًا [ (3) ] وَمَثْلًا، أَلَا إنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا. ثُمّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيّةُ الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ: أَمّا إذْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمْ نَكْرَهْهُ. ثُمّ نَادَى: أَلَا إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ!
فَوَقَفَ عُمَرُ وَقْفَةً يَنْتَظِرُ مَا يَقُولُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! ثُمّ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ
__________
[ (1) ] يعنى حنظلة بن أبى عامر بحنظلة بن أبى سفيان.
[ (2) ] فعال عنها: تجاف عنها ولا تذكرها بسوء، يعنى آلهتهم. (النهاية، ج 3، ص 125) .
[ (3) ] فى الأصل: «عيبا» ، وفى ت: «عنتا» . وما أثبتناه قراءة ب. والعيث: الإفساد.
(الصحاح، ص 287) .(1/297)
إلَى أَصْحَابِهِ وَأَخَذُوا فِي الرّحِيلِ، فَأَشْفَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فَاشْتَدّتْ شَفَقَتُهُمْ مِنْ أَنْ يُغِيرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَتَهْلِكَ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ائْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، إنْ رَكِبُوا الْإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ فَهُوَ الظّعْنُ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَجَنّبُوا الْإِبِلَ فَهِيَ الْغَارَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ سَارُوا إلَيْهَا لَأَسِيرَن إلَيْهِمْ ثُمّ لَأُنَاجِزَنهُمْ.
قَالَ سَعْدٌ: فَوَجّهْت أَسْعَى، وَأَرْصَدْتُ فِي نَفْسِي إنْ أَفْزَعَنِي شَيْءٌ رَجَعَتْ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا أَسْعَى، فَبَدَأْت بِالسّعْيِ حِينَ ابْتَدَأْت، فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ حَتّى إذَا كَانُوا بِالْعَقِيقِ، وَكُنْت حَيْثُ أَرَاهُمْ وَأَتَأَمّلُهُمْ، فَإِذَا هُمْ قَدْ رَكِبُوا الْإِبِل وَجَنّبُوا الْخَيْلَ، فَقُلْت: إنّهُ الظّعْنُ إلَى بِلَادِهِمْ.
فَوَقَفُوا وَقْفَةً بِالْعَقِيقِ وَتَشَاوَرُوا فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ:
قَدْ أَصَبْتُمْ الْقَوْمَ، فَانْصَرِفُوا فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ وَأَنْتُمْ كَالّونَ، وَلَكُمْ الظّفَرُ، فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَغْشَاكُمْ. قَدْ وَلّيْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاَللهِ مَا تَبِعُوكُمْ وَالظّفَرُ لَهُمْ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَهَاهُمْ صَفْوَانُ! فَلَمّا رَآهُمْ سَعْدٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مُنْطَلِقِينَ، قَدْ دَخَلُوا فِي الْمُكَيْمِنِ [ (1) ] ، رَجَعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَالْمُنْكَسِرِ، فَقَالَ: وَجّهَ الْقَوْمُ يَا رَسُولَ اللهِ إلَى مَكّةَ، امْتَطَوْا الْإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟
فَقُلْت ذَلِكَ، ثُمّ خَلَا بِي فَقَالَ: حَقّا مَا تَقُولُ؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ: مَا لِي [ (2) ] رَأَيْتُك مُنْكَسِرًا؟ قَالَ، فَقُلْت: كَرِهْت أَنْ آتِيَ [ (3) ] الْمُسْلِمِينَ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «المكتمن» ، وفى ح: «المكمن» ، وما أثبتناه عن ب، ت. قال السمهودي:
مكيمن تصغير مكمن، ويقال مكيمن الجماء وهو الجبل المتصل بجماء تضارع ببطن العقيق.
(وفاء الوفا، ج 2، ص 376) .
[ (2) ] فى ح: «فما بالي» .
[ (3) ] فى ت: «كرهت أن يرى المسلمون» .(1/298)
فَرِحًا بِقُفُولِهِمْ إلَى بِلَادِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ سَعْدًا لَمُجَرّبٌ! وَيُقَالُ إنّ سَعْدًا لَمّا رَجَعَ جَعَلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِأَنْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلَى سَعْدٍ أَنْ اخْفِضْ صَوْتَك! قَالَ: ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ!
فَلَا تُرِي النّاسَ مِثْلَ هَذَا الْفَرَحَ بِانْصِرَافِهِمْ، فَإِنّمَا رَدّهُمْ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: إنْ رَأَيْت الْقَوْمَ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبِرْنِي فيما بنين وَبَيْنَك، وَلَا تَفُتّ أَعْضَادَ الْمُسْلِمِينَ.
فَذَهَبَ فَرَآهُمْ قَدْ امْتَطَوْا الْإِبِلَ فَرَجَعَ، فَمَا مَلَكَ أَنْ جَعَلَ يَصِيحُ سُرُورًا بِانْصِرَافِهِمْ.
فَلَمّا قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ لَمْ يَصِلْ إلَى بَيْتِهِ حَتّى أَتَى هُبَلَ فَقَالَ: قَدْ أَنْعَمَتْ وَنَصَرْتنِي وَشَفَيْت نَفْسِي مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ! وَحَلَقَ رَأْسَهُ.
وَقِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: كَيْفَ كَانَ افْتِرَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: مَا تُرِيدُ [ (1) ] إلَى ذَلِكَ؟ قَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ. ثُمّ قَالَ: لَمّا كَرَرْنَا عَلَيْهِمْ أَصَبْنَا مَنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ وَتَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ. وَفَاءَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعْدُ، فَتَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فَقَالُوا: لَنَا الْغَلَبَةُ، فَلَوْ انْصَرَفْنَا فَإِنّهُ بَلَغَنَا أَنّ ابْنَ أُبَيّ انْصَرَفَ بِثُلُثِ النّاسِ، وَقَدْ تَخَلّفَ نَاسٌ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُرّوا عَلَيْنَا وَفِينَا جِرَاحٌ، وَخَيْلُنَا عَامّتُهَا قَدْ عُقِرَتْ مِنْ النّبْلِ. فَمَضَوْا [ (2) ] ، فَمَا بَلَغْنَا الرّوْحَاءَ حَتّى قَامَ عَلَيْنَا عِدّةٌ مِنْهَا، ومضينا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] فى ت: «ما يريد» ، وفى ح: «ما تريدون» .
[ (2) ] فى ح: «فمضينا» .
[ (3) ] فى ح: «وانصرفنا» .(1/299)
ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حدّثنى سليمان ابن بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، قَالَ: قُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِأُحُدٍ سَبْعُونَ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ رُبَيْحِ بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري مِثْلَهُ. وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، أَرْبَعَةٌ من قريش وَسَائِرُهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ- الْمُزَنِيّ، وَابْنُ أَخِيهِ، وَابْنَا الْهَبِيتِ- أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ، هَذَا الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ.
وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، قَتَلَهُ وَحْشِيّ، هَذَا الْأَصَحّ لَا.
اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا.
ومن بنى أميّة: عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، قَتَلَهُ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ.
وَيُقَالُ خَمْسَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ- مِنْ بَنِي أَسَدٍ: سَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبٍ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: شَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ، قَتَلَهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ.
وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ أَصَابَهُ جُرْحٌ بِأُحُدٍ، فَلَمْ يَزَلْ جَرِيحًا حَتّى مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَغُسِلَ بِبَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَالِيَةِ بَيْنَ قَرْنَيْ [ (1) ] الْبِئْرِ الّتِي صَارَتْ لِعَبْدِ الصّمَدِ بْنِ عَلِيّ الْيَوْمَ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَتَلَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ.
وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: عَبْدُ الله وعبد الرحمن ابنا الهبيت.
__________
[ (1) ] القرنان: منارتان تبنيان على رأس البئر، ويوضع فوقهما خشبة فتعلق البكرة فيها. (الصحاح، ص 2180) .(1/300)
وَمِنْ مُزَيْنَةَ رَجُلَانِ: وَهْبُ بْنُ قَابُوسٍ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ قَابُوسٍ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا: عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ، وَعِمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السّكَنِ، وَسَلَمَةُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَتَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ حَرْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَرِفَاعَةُ ابْنُ وَقْشٍ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ، قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً، وَيُقَالُ عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ قَتَلَهُ خَطَأً، وَصَيْفِيّ بْنُ قَيْظِيّ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَالْحَبَابُ بْنُ قَيْظِيّ، وَعَبّادُ بْنُ سَهْلٍ، قَتَلَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ. وَمِنْ أَهْلِ رَاتِجَ [ (1) ] ، وَهُمْ إلَى عَبْدِ الْأَشْهَلِ: إيَاسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ ابْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمٍ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعُبَيْدُ بْنُ التّيْهَانِ، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَحَبِيبُ [ (2) ] بْنُ قِيَمٍ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ:
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ، وَهُوَ أَبُو الْبَنَاتِ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُقَاتِلُ ثُمّ أَرْجِعُ إلَى بَنَاتِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ اللهُ عَزّ وَجَل [ (3) ] .
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ: حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ ابْنُ شَعُوبٍ.
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ: أَنِيسُ بْنُ قَتَادَةَ، قَتَلَهُ أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ أَمِيرُ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على
__________
[ (1) ] راتج: أطم من آطام المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 309) .
[ (2) ] فى ب: «خبيب» .
[ (3) ] انظر البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 329) .(1/301)
الرّمَاةِ، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ: خَيْثُمَةُ أَبُو سَعْدٍ، قَتَلَهُ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ.
وَمِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَمَةَ، قَتَلَهُ ابْنُ الزّبَعْرَى.
وَمِنْ بَنِي معاوية: سيتق [ (1) ] بْنُ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هَيْشَةَ، قَتَلَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ- ثَمَانِيَةٌ.
وَمِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَتَلَهُ صَفْوَانُ ابْنُ أُمَيّةَ، وَسَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ، دُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَأَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبٍ- أَرْبَعَةٌ.
وَمِنْ بَنِي الْأَبْجَرِ، وَهُمْ بَنُو خَدِرَةَ [ (2) ] : مَالِكُ بْنُ سِنَانِ بْنِ الْأَبْجَرِ، وَهُوَ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَتَلَهُ غُرَابُ بْنُ سُفْيَانَ، وَسَعْدُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمّارِ بْنِ الْأَبْجَرِ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعِ بْنِ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ابن عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خَالِدِ بن نميلة، وحارثة ابن عَمْرٍو، وَنَفْثُ [ (3) ] بْنُ فَرْوَةَ بْنِ الْبَدِيّ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي طَرِيفٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَطَرِيفٌ، وَضَمْرَةُ، حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ جُهَيْنَةَ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْ بَنِي سَالِمٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بن
__________
[ (1) ] فى ب: «شبيق» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 330) .
[ (2) ] فى الأصل وت: «جدارة» . وفى ب: «خدارة. وما أثبتناه عن البلاذري. (أنساب الأشراف ج 1، ص 330) .
[ (3) ] هكذا فى كل النسخ. وقد ذكر البلاذري أن عبد الله بن فروة بن البدى يقال له «ثقب» .
أنساب الأشراف، ج 1، ص 331) .(1/302)
الْعَجْلَانِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُوَيْفٍ، وَالْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنُ نَضْلَةَ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ السّلَمِيّ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ، قَتَلَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ، وَعَبَدَةُ بْنُ الْحِسْحَاسِ، دُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ غِيلَةً.
حَدّثَنِي الْيَمَانُ بْنُ مَعَنٍ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ، قَالَ: دُفِنَ ثَلَاثَةُ نفر يوم أحد فى قَبْرٍ وَاحِدٍ- نُعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ وَالْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ، وَعَبَدَةُ بْنُ الْحِسْحَاسِ.
وَكَانَتْ قِصّةُ مُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ أَنّ حُضَيْرَ الْكَتَائِبِ جَاءَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَكَلّمَ سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ، وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ- وَيُقَالُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ- فَقَالَ: تَزُورُونِي فَأَسْقِيكُمْ مِنْ الشّرَابِ وَأَنْحَرُ لَكُمْ، وَتُقِيمُونَ عِنْدِي أَيّامًا. قَالُوا: نَحْنُ نَأْتِيك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا.
فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَاءُوهُ فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُورًا وَسَقَاهُمْ الْخَمْرَ، وَأَقَامُوا عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ حَتّى تَغَيّرَ اللّحْمُ، وَكَانَ سُوَيْدٌ يَوْمئِذٍ شَيْخًا كَبِيرًا. فَلَمّا مَضَتْ الثّلَاثَةُ الْأَيّامِ، قَالُوا: مَا نُرَانَا [ (1) ] إلّا رَاجِعِينَ إلَى أَهْلِنَا. فَقَالَ حُضَيْرٌ:
مَا أَحْبَبْتُمْ! إنْ أَحْبَبْتُمْ فَأَقِيمُوا، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ فَانْصَرِفُوا فَخَرَجَ الْفِتْيَانُ بِسُوَيْدٍ يَحْمِلَانِهِ حَمْلًا مِنْ الثّمْلِ، فَمَرّوا لَاصِقَيْنِ بِالْحَرّةِ حَتّى كَانُوا قَرِيبًا مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ [ (2) ]- وَهِيَ وِجَاهَ بَنِي سَالِمٍ إلَى مَطْلَعِ الشّمْسِ. فَجَلَسَ سُوَيْدٌ وَهُوَ يَبُولُ، وهو ممتلى سُكْرًا، فَبَصُرَ بِهِ [ (3) ] إنْسَانٌ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ حَتّى أَتَى الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ فَقَالَ: هَلْ لَك فِي الْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ؟ قَالَ: مَا هِيَ؟
قَالَ: سُوَيْدٌ! أَعَزْلُ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، ثَمِلٌ! قال: فخرج المجذّر
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «ما أرانا» .
[ (2) ] فى ح: «عيينة» .
[ (3) ] فى الأصل وت: «فيضربه» ، وما أثبتناه عن ب.(1/303)
ابن ذِيَادٍ بِالسّيْفِ صَلْتًا [ (1) ] ، فَلَمّا رَآهُ الْفَتَيَانِ وَلّيَا، وَهُمَا أَعَزَلَانِ لَا سِلَاحَ مَعَهُمَا- وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- فَانْصَرَفَا سَرِيعَيْنِ. وَثَبَتَ الشّيْخُ وَلَا حَرَاكَ بِهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ مُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ فَقَالَ: قَدْ أَمْكَنَ اللهُ مِنْك! فَقَالَ: مَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ: قَتْلَك. قَالَ: فَارْفَعْ عَنْ الطّعَامِ وَاخَفْضِ عَنْ الدّمَاغِ، وَإِذَا رَجَعْت إلَى أُمّك فَقُلْ: إنّي قَتَلْت سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ. وَكَانَ قَتْلُهُ هَيّجَ وَقْعَةَ بُعَاثَ، فَلَمّا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أَسْلَمَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ وَمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ، فَشَهِدَا بَدْرًا فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَطْلُبُ مُجَذّرًا لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، فَلَا يَقْدِرُ [ (2) ] عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْجَوْلَةَ أَتَاهُ الْحَارِثُ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ثُمّ خَرَجَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فلمّا رجع من حمراء الأسد أتاه جبرئيل عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ قَتَلَ مُجَذّرًا غِيلَةً، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ. فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قُبَاءٍ فِي الْيَوْمِ الّذِي أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ، فِي يَوْمٍ حَارّ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا لَا يَرْكَبُ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُبَاءٍ، إنّمَا كَانَتْ الْأَيّامُ الّتِي يَأْتِي فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَاءَ يَوْمَ السّبْتِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ. فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ صَلّى فِيهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلّيَ.
وَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ فَجَاءَتْ تُسَلّمُ [ (3) ] عَلَيْهِ، وَأَنْكَرُوا إتْيَانَهُ فِي تَلِك السّاعَةِ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ،
فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدّثُ وَيَتَصَفّحُ النّاسَ حَتّى طَلَعَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي مِلْحَفَةٍ مُوَرّسَةٍ [ (4) ] ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ
__________
[ (1) ] صلتا: أى مجردا. (النهاية، ج 2، ص 271) .
[ (2) ] فى ب: «فلا هدر عليه» .
[ (3) ] فى ح: «فجاموا يسلمون عليه» .
[ (4) ] الورس: نبت أصفر يصبغ به. (النهاية، ج 4، ص 204) .(1/304)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ فَقَالَ لَهُ: قَدِمَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ بِمُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ، فَإِنّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
فَأَخَذَهُ عُوَيْمٌ فَقَالَ الْحَارِثُ: دَعْنِي أُكَلّمْ رَسُولَ اللهِ! فَأَبَى عُوَيْمٌ عَلَيْهِ، فَجَابَذَهُ يُرِيدُ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ، وَدَعَا بِحِمَارِهِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَقُولُ: قَدْ وَاَللهِ قَتَلْته يَا رَسُولَ اللهِ. وَاَللهِ مَا كَانَ قَتْلِي إيّاهُ رُجُوعًا عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا ارْتِيَابًا فِيهِ، وَلَكِنّهُ حَمِيّةَ الشّيْطَانِ وَأَمْرٌ وُكِلْت فِيهِ إلَى نَفْسِي.
وَإِنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِمّا عَمِلْت، وَأُخْرِجُ دِيَتَهُ، وَأَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَأُعْتِقُ رِقْبَةً، وَأُطْعِمُ سِتّينَ مِسْكِينًا، إنّي أَتُوبُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ! وَجَعَلَ يُمْسِكُ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنُو الْمُجَذّرِ حُضُورٌ لَا يَقُولُ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا حَتّى إذَا اسْتَوْعَبَ كَلَامَهُ قَالَ:
قَدّمْهُ يَا عُوَيْمُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ!
وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِمَهُ عُوَيْمُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَيُقَالُ: إنّ خُبَيْبَ بْنَ يِسَافٍ، نَظَرَ إلَيْهِ حَيْنَ ضَرَبَ عُنُقَهُ فَجَاءَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ يَفْحَصُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ. فَبَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حِمَارِهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَخَبّرَهُ بِذَلِكَ فِي مَسِيرِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
يَا حَارِ فِي سِنَةٍ مِنْ نَوْمِ أوّلكم [ (1) ] ... أم كنت ويلك [ (2) ] مغترّا بجبريل
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أم لكم» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ديوان حسان. (ص 42) .
[ (2) ] فى الأصل: «أم كنت مغترا بجبريل» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ديوان حسان.
(ص 42) .(1/305)
وَأَنْشَدَنِي مُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ وَأَشْيَاخُهُمْ أَنّ سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ قَالَ عِنْدَ مَقْتَلِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
أَبْلِغْ جُلَاسًا [ (1) ] وَعَبْدَ اللهِ مَأْلُكَةً [ (2) ] ... وَإِنْ كَبِرَتْ [ (3) ] فَلَا تَخْذُلْهُمَا حَارِ
اُقْتُلْ جِدَارَةَ [ (4) ] إمّا كُنْت لَاقِيَهَا ... وَالْحَيّ عَوْفًا [ (5) ] عَلَى عُرْفٍ وَإِنْكَارِ
وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: عَنْتَرَةُ مَوْلَى بَنِي سَلِمَةَ، قَتَلَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ.
وَمِنْ بَلْحُبْلَى: رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَمِنْ بَنِي حَرَامٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، قَتَلَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَخَلّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ جَعُونَةَ- ثَلَاثَةٌ.
وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ: الْمُعَلّى بْنُ لَوْذَانَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ رُسْتُمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَتَلَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق.
وَمِنْ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَوَادٍ: عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، قَتَلَهُ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، وَابْنُهُ قَيْسُ بْنُ عَمْرٍو، وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَامِرُ بْنُ مُخَلّدٍ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: أَبُو أُسَيْرَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَمْرِو ابْنِ مَالِكٍ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ مُطَرّفِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَمْرٍو.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وهم بنو مغالة: أوس بن حرام.
__________
[ (1) ] جلاس هو أخوه.
[ (2) ] المألكة: الرسالة. (النهاية، ج 1، ص 39) .
[ (3) ] فى ح: «وإن دعيت» .
[ (4) ] فى ب: «خدارة» ، وفى ح: «اقتل جذارا إذا ما كنت لاقيهم» . وخدرة وجدارة أخوان، وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 333) .
[ (5) ] فى الأصل، ح: «عرفا» .(1/306)
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: أَنَسُ بْنُ النّضر بن ضمضم، قتله سفيان ابن عُوَيْفٍ.
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ: قَيْسُ بْنُ مُخَلّدٍ [ (1) ] ، وَكَيْسَانُ مَوْلَاهُمْ، وَيُقَالُ عَبْدٌ لَهُمْ لَمْ يَعْتِقْ.
وَمِنْ بَنِي دِينَارٍ: سُلَيْمُ بْنُ الحارث، والنعمان بن عبد عَمْرٍو، وَهُمَا ابْنَا السّمَيْرَاءِ بِنْتِ قَيْسٍ.
اُسْتُشْهِدَ مِنْ بَنِي النّجّارِ اثْنَا عَشَرَ.
تَسْمِيَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ بَنِي أَسَدٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ: طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ يَحْمِلُ لِوَاءَهُمْ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَعُثْمَانُ بن ابى طَلْحَةَ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَمُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُ الزّبَيْرُ ابْنُ الْعَوّامِ، وَالْجُلَاسُ [ (2) ] بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَأَرْطَاةُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ [ (3) ] ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السّلام، وقاسط [ (4) ] بن
__________
[ (1) ] فى ب: «قيس بن مجلد» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1299) .
[ (2) ] فى الأصل: «الخلاس بن طلحة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 28) .
[ (3) ] فى ث: «أرطاة بن شرحبيل» .
[ (4) ] كلمة غامضة فى الأصل. وفى ب: «قارظ» ، وفى ت: «فارط» ، وفى ث «فارص» . وما أثبتناه عن البلاذري. (أنساب الأشراف، ج 1، ص 334) .(1/307)
شُرَيْحِ بْنِ عُثْمَانَ- ثُمّ حَمَلَهُ صُؤَابٌ- فَيُقَالُ قَتَلَهُ قُزْمَانُ، وَأَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَسِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى الْخُزَاعِيّ، وَاسْمُ عَبْدِ الْعُزّى عَمْرُو بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبّاسِ بْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ ابْنُ أُمّ أَنْمَارٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: هِشَامُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بن المغيرة، قتله قزمان، والوليد ابن الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ، وَأُمَيّةُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيّ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ. حَدّثْنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلَ قُزْمَانُ يَشُدّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَلَقّاهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاجِلٌ، فَاضْطَرَبَا بِأَسْيَافِهِمَا.
فَيَمُرّ بِهِمَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَحَمَلَ الرّمْحَ عَلَى قُزْمَانَ، فَسَلَكَ الرّمْحُ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، شَطَبَ [ (1) ] الرّمْحَ، وَمَضَى خَالِدٌ وَهُوَ يَرَى أَنّهُ قَدْ قَتَلَهُ. فَضَرَبَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَطَعَنَهُ أُخْرَى فَلَمْ يُجْهِزْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَالَا يَتَجَاوَلَانِ حَتّى قَتَلَ قُزْمَانُ خَالِدَ بْنَ الْأَعْلَمِ، وَمَاتَ قُزْمَانُ مِنْ جِرَاحَةٍ بِهِ مِنْ سَاعَتِهِ. وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ- خَمْسَةٌ.
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: عُبَيْدُ بْنُ حَاجِزٍ، قَتَلَهُ أَبُو دُجَانَةَ، وشيبة ابن مَالِكِ بْنِ الْمُضَرّبِ، قَتَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أَبَيّ بْنُ خَلَفٍ، قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، وَهُوَ
__________
[ (1) ] شطب: مال وعدل عن المقتل. (النهاية، ج 2، ص 220) .(1/308)
أَبُو عَزّةَ، أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِيرًا يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَأْخُذْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أَسِيرًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، مُنّ علي!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مَرّتَيْنِ، وَلَا تَرْجِعْ إلَى مَكّةَ تَمْسَحْ عَارِضَيْك تَقُولُ: سَخِرْت بِمُحَمّدٍ مَرّتَيْنِ!
ثُمّ أَمَرَ بِهِ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْوَاقِدِيّ: وَسَمِعْنَا فِي أَسْرِهِ غَيْرَ ذَلِكَ. حَدّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ قَالَ: لَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ نَزَلُوا بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فِي أَوّلِ اللّيْلِ سَاعَةً، ثُمّ رَحَلُوا وَتَرَكُوا أَبَا عَزّةَ نَائِمًا مَكَانَهُ حَتّى ارْتَفَعَ النّهَارُ وَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مُسْتَنْبِهٌ يَتَلَدّدُ [ (1) ] ، وَكَانَ الّذِي أَخَذَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، فَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ َمنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ: خَالِدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ، وَأَبُو الشّعْثَاءِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ، وَأَبُو الْحَمْرَاءِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ، وَغُرَابُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ.
قَالُوا: فَلَمّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْوَاتِهِمْ، فَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِيمَنْ أُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوّلًا، صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ
إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُهُ، لِأَنّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ جُنُبًا ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَلَمْ يُغَسّلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّهَدَاءَ، وَقَالَ: لُفّوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَجِرَاحِهِمْ، فَإِنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُجْرَحُ فِي اللهِ إلّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِجُرْحِهِ، لَوْنُهُ لَوْنُ [ (2) ] دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ضَعُوهُمْ، أَنَا الشّهِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَة.
فَكَانَ حمزة أوّل من كبّر عليه
__________
[ (1) ] تلدد: تلفت يمينا وشمالا. (القاموس المحيط، ج 1، ص 335) .
[ (2) ] فى ح: «لون جرحه لون دم» .(1/309)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا. ثُمّ جَمَعَ إلَيْهِ الشّهَدَاءَ، فَكَانَ كُلّمَا أُتِيَ بِشَهِيدٍ وَضَعَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَصَلّى عَلَيْهِ وَعَلَى الشّهَدَاءِ، حَتّى صَلّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ مَرّةً لِأَنّ الشّهَدَاءَ سَبْعُونَ. وَيُقَالُ كَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ فَيُصَلّي عَلَيْهِمْ، ثُمّ يَرْفَعُ التّسْعَةَ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ، وَيُؤْتَى بِتِسْعَةٍ آخَرِينَ فَيُوضَعُونَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَيُصَلّي عَلَيْهِمْ، حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ سَبْعَ مَرّاتٍ.
وَيُقَالُ كَبّرَ عَلَيْهِمْ تِسْعًا وَسَبْعًا وَخَمْسًا.
وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَابْنُ عَبّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُونَ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ. فقال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسُوا إخْوَانَنَا، أَسْلَمُوا كَمَا أَسْلَمْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَلَا أَدْرِي مَا تحدثون بعدي.
فبكى أبو بكر وَقَالَ: إنّا لَكَائِنُونَ بَعْدَك؟
وَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
لَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ لِلْمُسْلِمِينَ: احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ، وَقَدّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَدّمُونَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا فِي الْقَبْرِ. وَكَانَ مِمّنْ يُعْرَفُ أَنّهُ دُفِنَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ، وَالنّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ الْحَسْحَاسِ، فِي(1/310)
قَبْرٍ وَاحِدٍ. فَلَمّا وَارَوْا [ (1) ] حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ تُمَدّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَبْرِ، فَجَعَلَتْ الْبُرْدَةُ إذَا خَمّرُوا رَأْسَهُ بَدَتْ قَدَمَاهُ، وَإِذَا خَمّرُوا رِجْلَيْهِ تَنْكَشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطّوا وَجْهَهُ! وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلَ، فَبَكَى الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَمّ رَسُولِ اللهِ، لَا نَجِدُ [ (2) ] لَهُ ثَوْبًا! فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَفْتَتِحُ- يَعْنِي الْأَرْيَافَ وَالْأَمْصَارَ- فَيَخْرُجُ إلَيْهَا النّاسُ، ثُمّ يُبْعَثُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ: إنّكُمْ بِأَرْضِ حِجَازٍ جَرْدِيّةٍ [الْجَرْدِيّةُ الّتِي لَيْسَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَشْجَارِ] [ (3) ] وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَصْبِرُ وَاحِدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدّتِهَا إلّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا- أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ!
قَالُوا: وَأَتَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ [ (4) ] بِطَعَامٍ، فَقَالَ: حَمْزَةُ- أَوْ رَجُلٌ آخَرُ- لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إلّا بُرْدَةٌ، وَكَانَا [ (5) ] خَيْرًا مِنّي. وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم على مصعب ابن عُمَيْرٍ، وَهُوَ مَقْتُولٌ [ (6) ] فِي بُرْدَةٍ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُك بِمَكّةَ وَمَا بِهَا أَحَدٌ أَرَقّ حُلّةً وَلَا أَحْسَنَ لِمّةً مِنْك، ثُمّ أَنْتَ شَعِثُ الرأس فى بردة. ثم أمر به ي بر، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ أَخُوهُ أَبُو الرّومِ، وَعَامِرُ بن ربيعة، وسويبط بن عمرو ابن حَرْمَلَةَ. وَنَزَلَ فِي قَبْرِ حَمْزَةَ عَلِيّ، وَالزّبَيْرُ، وأبو بكر، وَعُمَرُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس على حفرته.
__________
[ (1) ] فى الأصل: «فلما رأوا» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] فى ح: «فلا يوجد له ثوب» .
[ (3) ] الزيادة عن ت.
[ (4) ] فى ح: «فى خلافة عثمان بثياب وطعام» .
[ (5) ] فى الأصل، ب، ت: «وكان» . والمثبت من ح.
[ (6) ] فى ح: «مقتول مسجى» .(1/311)
وَكَانَ النّاسُ أَوْ عَامّتُهُمْ قَدْ حَمَلُوا قَتَلَاهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدُفِنَ بِبَقِيعِ الْجَبَلِ مِنْهُمْ عِدّةٌ، عِنْدَ دَارِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْيَوْمَ بِالسّوقِ، سُوقِ الظّهْرِ، وَدُفِنَ بِبَنِي سَلِمَةَ بَعْضُهُمْ، وَدُفِنَ مَالِكُ بْنُ سِنَانَ فِي مَوْضِعِ أَصْحَابِ الْعَبَاءِ الّذِي عِنْدَ دَارِ نَخْلَةَ. ثُمّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدّوا الْقَتْلَى إلَى مَضَاجِعِهِمْ! وَكَانَ النّاسُ قَدْ دَفَنُوا قَتَلَاهُمْ، فَلَمْ يُرَدّ أَحَدٌ إلّا رَجُلًا وَاحِدًا أَدْرَكَهُ الْمُنَادِي وَلَمْ يُدْفَنْ،
وَهُوَ شَمّاسُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ، كَانَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَبِهِ رَمَقٌ فَأُدْخِلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: ابْنُ عَمّي يُدْخَلُ عَلَى غَيْرِي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْمِلُوهُ إلَى أُمّ سَلَمَةَ.
فَحُمِلَ إلَيْهَا فَمَاتَ عِنْدَهَا، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَرُدّهُ إلَى أُحُدٍ، فَدُفِنَ هُنَاكَ كَمَا هُوَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي مَاتَ فِيهَا، وَكَانَ قَدْ مَكَثَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَكِنّهُ لَمْ يُذَقْ شَيْئًا، وَلَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُغَسّلْهُ.
قَالُوا: وَكَانَ مَنْ دُفِنَ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنّمَا دُفِنَ فِي الْوَادِي.
وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إذَا سُئِلَ عَنْ تِلْكَ الْقُبُورِ الْمُجْتَمِعَةِ بِأُحُدٍ يَقُولُ: قَوْمٌ مِنْ الْأَعْرَابِ كَانُوا زَمَانَ الرّمَادَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هُنَاكَ، فَمَاتُوا فَتِلْكَ قُبُورُهُمْ. وَكَانَ عَبّادُ بْنُ تَمِيمٍ الْمَازِنِيّ يُنْكِرُ تِلْكَ [ (1) ] الْقُبُورِ وَيَقُولُ: إنّمَا هُمْ قَوْمٌ مَاتُوا زَمَانَ الرّمَادَةِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ يَقُولَانِ: لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْقُبُورِ الْمُجْتَمِعَةِ، إنّمَا هِيَ قُبُورُ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَقُبُورٌ مَنْ قُبُورِ الشّهَدَاءِ قَدْ غُيّبَتْ، لَا نَعْرِفُهُمْ بِالْوَادِي وَبِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا، إلّا أَنّا نَعْرِفُ قَبْرَ حمزة بن عبد المطّلب، وقبر
__________
[ (1) ] فى ت: «ينكر ذلك ويقول» .(1/312)
سَهْلِ [ (1) ] بْنِ قَيْسٍ، وَقَبْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَقَدْ
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَزُورُهُمْ فِي كُلّ حَوْلٍ، وَإِذَا تَفَوّهَ [ (2) ] الشّعْبَ رَفَعَ صَوْتَهُ فَيَقُولُ: السّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ! ثُمّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كُلّ حَوْلٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ثُمّ مُعَاوِيَةُ حَيْنَ مَرّ حَاجّا أَوْ مُعْتَمِرًا.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْتَ أَنّي غُودِرْت مَعَ أَصْحَابِ الْجَبَلِ. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْتِيهِمْ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ وَالثّلَاثَةِ، فَتَبْكِي عِنْدَهُمْ وَتَدْعُو. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَذْهَبُ إلَى مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَيَأْتِي مِنْ خَلْفِ قُبُورِ الشّهَدَاءِ فَيَقُولُ: السّلَامُ عَلَيْكُمْ! ثَلَاثًا، ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: أَلَا تُسَلّمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَرُدّونَ عَلَيْكُمْ السّلَامَ؟ لَا يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إلّا رَدّوا عَلَيْهِ السّلَامَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، وَدَعَا، وَقَرَأَ:
رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ (3) ] ، أَشْهَدُ أَنّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ وَسَلّمُوا عَلَيْهِمْ! وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يسلّم عليهم أحدا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلّا رَدّوا عَلَيْه.
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ حَمْزَةَ فَيَدْعُو وَيَقُولُ لِمَنْ مَعَهُ: لَا يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ أحدا إلّا ردّوا عليه السّلام، فلا تدعوا
__________
[ (1) ] فى ب: «سهيل بن قيس» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 666) .
[ (2) ] فى الأصل: «وإذا تقرب» ، وفى ح: «وإذا لقوه بالشعب» ، وما أثبتناه قراءة ب. وتفوه الشعب: دخل فى أوله. (النهاية، ج 3، ص 219) .
[ (3) ] سورة 33 الأحزاب 24.(1/313)
السّلَامَ عَلَيْهِمْ وَزِيَارَتَهُمْ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ يُحَدّثُ أَنّهُ كَانَ يَذْهَبُ مَعَ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ فِي الْأَشْهُرِ إلَى أُحُدٍ، فَيُسَلّمَانِ عَلَى قَبْرِ حَمْزَةَ أَوّلَهَا، وَيَقِفَانِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ قبر عبد الله بن عمرو ابن حَرَامٍ مَعَ قُبُورِ مَنْ هُنَاكَ. وَكَانَتْ أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تَذْهَبُ فَتُسَلّمُ عَلَيْهِمْ فِي كُلّ شَهْرٍ فَتَظَلّ [ (1) ] يَوْمَهَا، فَجَاءَتْ يَوْمًا وَمَعَهَا غُلَامَهَا نَبْهَانُ [ (2) ] ، فَلَمْ يُسَلّمْ فَقَالَتْ: أَيْ لُكَعُ، أَلَا تُسَلّمُ عَلَيْهِمْ؟ وَاَللهِ لَا يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إلّا رَدّوا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ أَبُو هَرِيرَةَ يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَيْهِمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو إذَا رَكِبَ إلَى الْغَابَةِ فَبَلَغَ ذُبَابَ، عَدَلَ إلَى قُبُورِ الشّهَدَاءِ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمّ رَجَعَ إلَى ذُبَابَ حَتّى اسْتَقْبَلَ الطّرِيقَ- طَرِيقَ الْغَابَةِ- وَيَكْرَهُ أَنْ يَتّخِذَهُمْ طَرِيقًا، ثُمّ يُعَارِضُ الطّرِيقَ حَتّى يَرْجِعَ إلَى طَرِيقِهِ الْأُولَى. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ الْخُزَاعِيّةُ قَدْ أَدْرَكَتْ تَقُولُ: رَأَيْتنِي وَغَابَتْ الشّمْسُ بِقُبُورِ الشّهَدَاءِ وَمَعِي أُخْتٌ لِي، فَقُلْت لَهَا: تَعَالَيْ، نُسَلّمُ عَلَى قَبْرِ حَمْزَةَ وَنَنْصَرِفُ. قَالَتْ: نَعَمْ. فَوَقَفْنَا عَلَى قَبْرِهِ فَقُلْنَا: السّلَامُ عَلَيْك يَا عَمّ رَسُولِ اللهِ. فَسَمِعْنَا كَلَامًا رَدّ عَلَيْنَا: وَعَلَيْكُمَا السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ.
قَالَتَا: وَمَا قُرْبَنَا أَحَدٌ مِنْ النّاسِ.
قَالُوا: فَلَمّا فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دَفْنِ أَصْحَابِهِ دَعَا بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ عَامّتُهُمْ جَرْحَى، وَلَا مِثْلَ لِبَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَمَعَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَلَمّا كَانُوا بِأَصْلِ الْحَرّةِ قَالَ:
اصْطَفّوا فَنُثْنِيَ عَلَى اللهِ! فَاصْطَفّ النّاسُ صَفّيْنِ خَلْفَهُمْ النّسَاءُ، ثُمّ [ (3) ] دَعَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، لَك الْحَمْدُ كُلّهُ! اللهُمّ،
__________
[ (1) ] فى ب: «فتطل» ، وفى ت: «فتطيل» .
[ (2) ] فى ح: «أنبهان» ، وفى ت: «تيهان» . وما أثبتناه عن الأصل وب، وعن البلاذري، (أنساب الأشراف، ج 1، ص 513) .
[ (3) ] فى ح: «فرفع يديه فدعا» .(1/314)
لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْت، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَلْت، وَلَا مُضِلّ لِمَنْ هَدَيْت، وَلَا مُقَرّبَ لِمَا بَاعَدْت، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرّبْت! اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك مِنْ بَرَكَتِك وَرَحْمَتِك وَفَضْلِك وَعَافِيَتِك! اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك النّعِيمَ الْمُقِيمَ الّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ! اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ وَالْغِنَاءَ يَوْمَ الْفَاقَةِ، عَائِذًا بِك اللهُمّ مِنْ شَرّ مَا أَعْطَيْتنَا [ (1) ] وَشَرّ مَا مَنَعْت مِنّا! اللهُمّ تَوَفّنَا مُسْلِمِينَ! اللهُمّ حَبّبْ إلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرّهْ إلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الرّاشِدِينَ! اللهُمّ عَذّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الّذِينَ يُكَذّبُونَ رَسُولَك وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِك! اللهُمّ أَنْزِلْ عَلَيْهِمْ رِجْسَك وَعَذَابَك! إلَهَ الْحَقّ! آمِينَ!
وَأَقْبَلَ حَتّى نَزَلَ بِبَنِي حَارِثَةَ يَمِينًا حَتّى طَلَعَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَى قَتَلَاهُمْ، فَقَالَ: لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ.
فَخَرَجَ النّسَاءُ يَنْظُرْنَ إلَى سِلَامَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ أُمّ عَامِرٍ الْأَشْهَلِيّةُ تَقُولُ: قِيلَ لَنَا قَدْ أَقْبَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي النّوْحِ عَلَى قَتَلَانَا، فَخَرَجْنَا فَنَظَرْت إلَيْهِ فَإِذَا عَلَيْهِ الدّرْعُ كَمَا هِيَ، فَنَظَرْت إلَيْهِ فَقُلْت: كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ.
وَخَرَجَتْ أُمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ [ (2) ] بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ- تَعْدُو نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمّي! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَرْحَبًا بِهَا! فَدَنَتْ حَتّى تَأَمّلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فقالت: أمّا
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «أنطيتنا» .
[ (2) ] فى ح: «كبشة بنت عتبة» .(1/315)
إذْ رَأَيْتُك سَالِمًا، فَقَدْ أَشْوَتْ [ (1) ] الْمُصِيبَةُ. فَعَزّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ ابْنِهَا، ثُمّ قَالَ: يَا أُمّ سَعْدٍ، أَبْشِرِي وَبَشّرِي أَهْلِيهِمْ أَنّ قَتَلَاهُمْ قَدْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنّةِ جَمِيعًا- وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا- وَقَدْ شَفَعُوا فِي أَهْلِيهِمْ. قَالَتْ: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَبْكِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا؟ ثُمّ قَالَتْ: اُدْعُ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ خُلّفُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللهُمّ أَذْهِبْ حُزْنَ قُلُوبِهِمْ وَاجْبُرْ [ (2) ] مُصِيبَتَهُمْ، وَأَحْسِنْ الْخَلَفَ عَلَى مَنْ خُلّفُوا.
ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَلّ أَبَا عَمْرٍو الدّابّةَ. فَخَلّى [ (3) ] الْفَرَسَ وَتَبِعَهُ الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أَبَا عَمْرٍو، إنّ الْجِرَاحَ فِي أَهْلِ دَارِك فَاشِيَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْرُوحٌ إلّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُرْحُهُ كَأَغْزَرِ مَا كَانَ، اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرّيحُ رِيحُ مِسْكٍ [ (4) ] ، فَمَنْ كَانَ مَجْرُوحًا فَلْيَقِرّ فِي دَارِهِ وَلْيُدَاوِ جُرْحَهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَعِي بَيْتِي عَزْمَةً مِنّي. فَنَادَى فِيهِمْ سَعْدٌ: عَزْمَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا يَتّبِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرِيحٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَتَخَلّفَ كُلّ مَجْرُوحٍ، فَبَاتُوا يُوقِدُونَ النّيرَانَ وَيُدَاوُونَ الْجِرَاحَ، وَإِنّ فِيهِمْ لَثَلَاثِينَ جَرِيحًا. وَمَضَى سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِهِ، ثُمّ رَجَعَ إلَى نِسَائِهِ فَسَاقَهُنّ، وَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ إلّا جَاءَ بِهَا إلَى بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْنَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ فَرَغَ مِنْ النّوُمِ لثلث الليل،
__________
[ (1) ] فى الأصل: «أسوت» ، وفى ت: «استوت» ، وفى ح: «أشفت» . وما أثبتناه قراءة ب. ويقال: رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل. (النهاية، ج 2، ص 243) .
[ (2) ] فى ح: «وأجر» .
[ (3) ] فى ح: «ثم قال لسعد بن معاذ: حل أبا عمرو الدابة فحل الفرس» .
[ (4) ] فى الأصل: «المسك» .(1/316)
فَسَمِعَ الْبُكَاءَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ عَلَى حَمْزَةَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَضِيَ اللهُ عَنْكُنّ وَعَنْ أَوْلَادِكُنّ! وَأَمَرَنَا أَنْ نُرَدّ إلَى مَنَازِلِنَا [ (1) ] . قَالَتْ [ (2) ] : فَرَجَعْنَا إلَى بُيُوتِنَا بَعْدَ لَيْلٍ، مَعَنَا رِجَالُنَا، فَمَا بَكَتْ مِنّا امْرَأَةٌ قَطّ إلّا بَدَأَتْ بِحَمْزَةَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَيُقَالُ إنّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ جَاءَ بِنِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ، وَجَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِنِسَاءِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا أَرَدْت هَذَا!
وَنَهَاهُنّ الْغَدَ عَنْ النّوْحِ أَشَدّ النّهْيِ.
وَصَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ بِالْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ نَكْبَةٍ قَدْ أَصَابَتْ أَصْحَابَهُ، وَأُصِيبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ. فَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ وَالْمُنَافِقُونَ مَعَهُ يَشْمَتُونَ وَيُسَرّونَ بِمَا أَصَابَهُمْ وَيُظْهِرُونَ أَقْبَحَ الْقَوْلِ. وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَامّتُهُمْ جَرِيحٌ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ وَهُوَ جَرِيحٌ، فَبَاتَ يَكْوِي الْجِرَاحَةَ بِالنّارِ حَتّى ذَهَبَ اللّيْلُ، وَجَعَلَ أَبُوهُ يَقُولُ: مَا كَانَ خُرُوجُك مَعَهُ إلَى هَذَا الْوَجْهِ بِرَأْيٍ! عَصَانِي مُحَمّدٌ وَأَطَاعَ الْوِلْدَانَ، وَاَللهِ لَكَأَنّي كُنْت أَنْظُرُ إلَى هَذَا. فَقَالَ ابْنُهُ: الّذِي صَنَعَ اللهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ.
وَأَظْهَرَتْ الْيَهُودُ الْقَوْلَ السّيّئَ فَقَالُوا: مَا مُحَمّدٌ إلّا طَالِبُ مُلْكٍ، مَا أُصِيبَ هَكَذَا نَبِيّ قَطّ، أُصِيبَ فِي بَدَنِهِ وَأُصِيبَ فِي أَصْحَابِهِ! وَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يُخَذّلُونَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالتّفَرّقِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لِأَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كَانَ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ عِنْدَنَا مَا قُتِلَ. حتى سمع
__________
[ (1) ] فى ح: «وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهم» .
[ (2) ] أى قالت أم سعد بن معاذ.(1/317)
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ، فَمَشَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَأْذِنَهُ فِي قَتْلِ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ.
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عُمَرُ، إنّ اللهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ، وَلِلْيَهُودِ ذِمّةٌ فَلَا أَقْتُلُهُمْ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أليس يظهرون شهادة أن لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّي رَسُولُ اللهِ؟
قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَعَوّذًا مِنْ السّيْفِ، فَقَدْ بَانَ لَهُمْ أَمْرُهُمْ وَأَبْدَى اللهُ أَضْغَانَهُمْ عِنْدَ هَذِهِ النّكْبَةِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُهِيت عَنْ قَتْلِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ. يَا ابْنَ الْخَطّابِ، إنّ قُرَيْشًا لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَ هَذَا الْيَوْمِ حَتّى نَسْتَلِمَ الرّكْنَ.
قَالُوا: فَكَانَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلّ جُمُعَةٍ شَرَفًا لَهُ لَا يُرِيدُ تَرْكَهُ، فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ إلَى الْمَدِينَةِ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ ابْنُ أُبَيّ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَدْ أَكْرَمَكُمْ اللهُ بِهِ، اُنْصُرُوهُ وَأَطِيعُوهُ. فَلَمّا صَنَعَ بِأُحُدٍ مَا صَنَعَ قَامَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَامَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَقَالُوا: اجْلِسْ يَا عَدُوّ اللهِ! وَقَامَ إلَيْهِ أَبُو أَيّوبَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ، وَكَانَا أَشَدّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ مِمّنْ حَضَرَ، وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَجَعَلَ أَبُو أَيّوبَ يَأْخُذُ بِلِحْيَتِهِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ يَدْفَعُ فِي رَقَبَتِهِ، وَيَقُولَانِ لَهُ: لَسْت لِهَذَا الْمَقَامِ بِأَهْلٍ! فَخَرَجَ بَعْدَ مَا أَرْسَلَاهُ، وَهُوَ يَتَخَطّى رِقَابَ النّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: كَأَنّمَا قُلْت هُجْرًا [ (1) ] ، قُمْت لِأَشُدّ أَمْرَهُ! فَلَقِيَهُ مُعَوّذُ بْنُ عَفْرَاءَ فقال: مالك؟ قَالَ: قُمْت ذَلِكَ الْمَقَامَ الّذِي كُنْت أَقَوْمُ أَوّلًا، فَقَامَ إلَيّ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي، فَكَانَ أَشَدّهُمْ عَلَيّ عُبَادَةُ، وَخَالِدُ بْنُ زَيْدٍ. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَيَسْتَغْفِرَ لَك رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ:
__________
[ (1) ] الهجر: القبيح من الكلام. (القاموس المحيط، ج 2، ص 158) .(1/318)
وَاَللهِ مَا أَبْغِي يَسْتَغْفِرُ لِي. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ.. [ (1) ] الْآيَةُ. قَالَ: وَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى ابْنِهِ جَالِسٌ فِي النّاسِ، مَا يَشُدّ الطّرْفَ إلَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَخَرَجَنِي مُحَمّدٌ مِنْ مِرْبَدِ سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ [ (2) ] .
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ بِأُحُدٍ
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عن أمّ بكر بنت المسور ابن مَخْرَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ أَبِي الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ:
حَدّثْنَا عَنْ أُحُدٍ! فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي عُدّ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ فَكَأَنّك حَضَرْتنَا: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ..
إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ: غَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ فَجَعَلَ يَصُفّ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهِمْ الْقِدَاحَ، إنْ رَأَى صَدْرًا خَارِجًا قَالَ:
تَأَخّرْ!
وَفِي قَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ: هُمْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، هَمّوا أَلّا يَخْرُجُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ، ثُمّ عَزَمَ لَهُمَا فَخَرَجُوا. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، يَقُولُ: قَلِيلٌ، كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مَا أَبْلَاكُمْ بِبَدْرٍ مِنْ الظّفَرِ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ، أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
__________
[ (1) ] سورة 63 المنافقون 5.
[ (2) ] قال موسى بن عاقبة: كانا يتيمين فى حجر أسعد بن زرارة، وهما ابنا رافع بن عمرو بن أبى عمرو بن عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَة بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ بن النجار، شهد سهيل منهما بدرا والمشاهد كلها ومات فى خلافة عمر، ولم يشهد سهل بدرا وشهد غيرها ومات قبل أخيه سهيل. (الروض الأنف، ج 2، ص 12) .(1/319)
مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا.. الْآيَةُ، كَانَ نَزَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى أُحُدٍ: إنّي مُمِدّكُمْ بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ قَالَ: فَلَمْ يَصْبِرُوا وَانْكَشَفُوا فَلَمْ يُمَدّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَلَكٍ وَاحِدٍ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ مُسَوِّمِينَ قَالَ: مُعْلِمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِمْ وَلِتَطْمَئِنّوا إلَيْهِمْ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ يَقُولُ: نُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا وَيَنْقَلِبُونَ خَائِبِينَ.
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قَالَ: يَعْنِي الّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ. وَيُقَالُ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ حَيْنَ رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِهِ مِنْ الْمَثْلِ فَقَالَ: لَأُمَثّلَنّ بِهِمْ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَيُقَالُ نَزَلَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ رُمِيَ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ إذَا حَلّ حَقّ أَحَدِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ غَرِيمَهُ أَخّرَهُ عَنْهُ وَأَضْعَفَهُ عَلَيْهِ. وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: التّكْبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فَيُقَالُ الْجَنّةُ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ قَالَ:
السّرّاءُ الْيُسْرُ وَالضّرّاءُ الْعُسْرُ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يَعْنِي عَمّنْ آذَاهُمْ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ مَا أُوتِيَ إلَيْهِمْ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا فَكَانَ يُقَالُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ تَوْبَةٍ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ. هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ مِنْ الْعَمَى، وَهُدىً مِنْ الضّلَالَةِ، وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا يَقُولُ: فِي(1/320)
قِتَالِ الْعَدُوّ، وَلا تَحْزَنُوا عَلَى مَنْ أُصِيبَ مِنْكُمْ بِأُحُدٍ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يَقُولُ: قَدْ أَصَبْتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ضِعْفَ مَا أَصَابُوا مِنْكُمْ بِأُحُدٍ.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يَعْنِي جِرَاحٌ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يَعْنِي جِرَاحَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ يَقُولُ: لَهُمْ دَوْلَةٌ وَلَكُمْ دَوْلَةٌ، وَالْعَاقِبَةُ لَكُمْ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَقُولُ: مَنْ قَاتَلَ [مَعَ] نَبِيّهِ، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي يَبْلُوهُمْ- الّذِينَ قَاتَلُوا وَثَبَتُوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يَعْنِي مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ وَأَبْلَى فِيهِ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ مَنْ يَصْبِرُ يَوْمئِذٍ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قَالَ: السّيُوفُ فِي أَيَدِي الرّجَالِ، كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَخَلّفُوا عَنْ بَدْرٍ فَكَانُوا هُمْ الّذِينَ أَلَحّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى أُحُدٍ فَيُصِيبُونَ مِنْ الْأَجْرِ وَالْغَنِيمَةِ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلّى مِنْهُمْ مَنْ وَلّى. وَيُقَالُ هُوَ فِي نَفَرٍ كَانُوا تَكَلّمُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ فَقَالُوا: لَيْتَنَا نَلْقَى جَمْعًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِمّا أَنْ نَظْفَرَ بِهِمْ أَوْ نُرْزَقَ الشّهَادَةَ. فَلَمّا نَظَرُوا إلَى الْمَوْتِ يَوْمَ أُحُدٍ هَرَبُوا. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ..
إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: إنّ إبْلِيسَ تَصَوّرَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي صُورَةِ جُعَالَ بْنِ سُرَاقَةَ الثّعْلَبِيّ فَنَادَى «إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ» فَتَفَرّقَ النّاسُ فِي كُلّ وَجْهٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إنّي أَرْقَى فِي الْجَبَلِ كَأَنّي أُرْوِيّةً حَتّى انْتَهَيْت إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَنْزِلُ عَلَيْهِ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.. الْآيَةُ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ يَقُولُ: تَوَلّى. وَما كانَ(1/321)
لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا يَقُولُ: مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَمُوتَ دُونَ أَجَلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ حَيْنَ رَجَعَ بِأَصْحَابِهِ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا. فَأَخْبَرَهُ اللهُ أَنّهُ كِتَابٌ مُؤَجّلٌ، يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يَقُولُ: مَنْ يَعْمَلْ لِلدّنْيَا نُعْطِهِ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ يَقُولُ: يُرِيدُ الْآخِرَةَ، نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ قَالَ:
الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا يَقُولُ: مَا اسْتَسْلَمُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا ضَعُفَتْ نِيّاتُهُمْ، وَمَا اسْتَكانُوا يَقُولُ:
مَا ذَلّوا لِعَدُوّهِمْ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يُخْبِرُ أَنّهُمْ صَبَرُوا. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إلَى قَوْلِهِ وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ يَقُولُ: أَعْطَاهُمْ النّصْرَ وَالظّفَرَ وَأَوْجَبَ لَهُمْ الْجَنّةَ فِي الْآخِرَةِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ يَقُولُ: إنْ تُطِيعُوا الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا يَخْذُلُونَكُمْ تَرْتَدّوا عَنْ دِينِكُمْ. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: يَتَوَلّاكُمْ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرْت بِالرّعْبِ شَهْرًا أَمَامِي وَشَهْرًا خَلْفِي.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ وَالْحِسّ الْقَتْلُ، يَقُولُ: الّذِي خَبّرَكُمْ أَنّكُمْ إنْ صَبَرْتُمْ أَمَدّكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَهَنْتُمْ عَنْ الْعَدُوّ، وَتَنَازَعْتُمْ يَعْنِي اخْتِلَافَ الرّمَاةِ حَيْثُ وَضَعَهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْصِيَتَهُمْ وَتَقَدّمَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا تَبْرَحُوا وَلَا تُفَارِقُوا مَوْضِعَكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تُعِينُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا، مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ يَعْنِي هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَتَوَلّيْتُمْ هَارِبِينَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ(1/322)
الدُّنْيا يَعْنِي الْعَسْكَرَ وَمَا فِيهِ مِنْ النّهْبِ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ الّذِينَ ثَبَتُوا مِنْ الرّمَاةِ وَلَمْ يَغْنَمُوا [ (1) ]- عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدّنْيَا حَتّى سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ يَقُولُ:
حَيْثُ كَانَتْ الدّوْلَةُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ، لِيَبْتَلِيَكُمْ ليرجع المشركون فيقتلوا من قتلوا مِنْكُمْ وَيَجْرَحُوا مَنْ جُرِحُوا مِنْكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يَعْنِي عَمّنْ وَلّى يَوْمئِذٍ مِنْكُمْ وَمَنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ مِنْ النّهْبِ، فَعَفَا عَنْ ذَلِكَ كُلّهِ. إِذْ تُصْعِدُونَ يَعْنِي فِي الْجَبَلِ تَهْرُبُونَ، وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ
كَانُوا يَمُرّونَ مُنْهَزِمِينَ يَصْعَدُونَ إلَى الْجَبَلِ، وَرَسُولُهُمْ يُنَادِيهِمْ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنَا رَسُولُ اللهِ! إلَيّ! إلَيّ!
فَلَا يَلْوِي عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَعَفَا ذَلِكَ عَنْهُمْ.
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فالغمّ الأوّل الجراح والقتل، والغمّ الْآخِرُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْغَمّ الْأَوّلِ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ. وَيُقَالُ الْغَمّ الْأَوّلُ حَيْثُ صَارُوا إلَى الْجَبَلِ بِهَزِيمَتِهِمْ وَتَرْكِهِمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْغَمّ الْآخِرُ [حَيْنَ] [ (2) ] تَفَرّعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ [ (3) ] ، فَعَلَوْهُمْ مِنْ فَرْعِ الْجَبَلِ فَنَسُوا الْغَمّ الْأَوّلَ. وَيُقَالُ غَمًّا بِغَمٍّ بَلَاءً عَلَى أَثَرِ بَلَاءٍ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ يَقُولُ: لِئَلّا تَذْكُرُوا مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَهْبِ مَتَاعِهِمْ، وَلا مَا أَصابَكُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَوْ جُرِحَ.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً إلَى قَوْلِهِ مَا قُتِلْنا هاهُنا، قَالَ الزّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْت هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُعَتّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيّ
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «ولم يغنموا ولم يريموا» .
[ (2) ] الزيادة عن ب، ت.
[ (3) ] فى الأصل: «بفزعهم المشركون» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. وتفرع القوم: ركبهم وعلاهم. (القاموس المحيط، ج 3، ص 62) .(1/323)
النّعَاسُ وَإِنّي لَكَالْحَالِمِ، أَسْمَعُهُ يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَنّهُ صَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ. قَالَ اللهُ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدّ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا إلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ يَقُولُ:
يُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ وَغِشّهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَقُولُ: مَا يُكِنّونَ مِنْ نُصْحٍ أَوْ غِشّ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا يَعْنِي مَنْ انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ، يَقُولُ:
أَصَابَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْنِي انْكِشَافَهُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إلَى قَوْلِهِ مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيّ، يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِلْمُؤْمِنَيْنِ: لَا تَكَلّمُوا وَلَا تَقُولُوا كَمَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ. وَهُوَ الّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ كَالَّذِينَ كَفَرُوا، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ إلَى آخِرِ الْآيَةِ، يَقُولُ: مَنْ قُتِلَ بِالسّيْفِ أَوْ مَاتَ بِإِزَاءِ عَدُوّ أَوْ مُرَابِطٍ فَهُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُ مِنْ الدّنْيَا. وَقَوْلُهُ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ يَقُولُ: تَصِيرُونَ إلَيْهِ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ يَعْنِي أَصْحَابَهُ الّذِينَ انْكَشَفُوا بِأُحُدٍ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَمَرَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْحَرْبِ وَحْدَهُ، وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُشَاوِرُ أَحَدًا إلّا فِي الْحَرْبِ، فَإِذا عَزَمْتَ أَيْ جَمَعْت، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يوم بدر، كَانُوا قَدْ غَنِمُوا قَطِيفَةً حَمْرَاءَ، فَقَالُوا: مَا نَرَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا قَدْ أَخَذَهَا! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ:
مَنْ آمَنَ بِاَللهِ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللهِ؟ وَقَوْلُهُ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ: فَضَائِلُ(1/324)
بَيْنَهُمْ عِنْدَ اللهِ. قَوْلُهُ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي مُحَمّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ* الْقُرْآنَ وَالْحِكْمَةَ وَالصّوَابَ فِي الْقَوْلِ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ*، قَوْلُهُ أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ. قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بِمَعْصِيَتِكُمْ الرّسُولَ، يَعْنِي الرّمَاةَ، وَقَوْلُهُ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا يَعْلَمُ مَنْ أَبْلَى وَقَاتَلَ وَقَتَلَ، وَيَعْلَمُ الّذِينَ نَافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هَذَا ابْنُ أُبَيّ، وَقَوْلُهُ أَوِ ادْفَعُوا يَقُولُ: كَثّرُوا السّوَادَ وَيُقَالُ الدّعَاءَ. قَالَ ابْنُ أُبَيّ يَوْمَ أُحُدٍ:
لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتّبَعْنَاكُمْ، يَقُولُ اللهُ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيّ. وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا هذا ابن أبىّ، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيّ. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إلَى قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ إخْوَانَكُمْ لَمّا أُصِيبُوا بِأُحُدٍ جُعِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنَهَارَ الْجَنّةِ فَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلّ الْعَرْشِ، فَلَمّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ، وَرَأَوْا حُسْنَ مُنْقَلَبِهِمْ،
قَالُوا: لَيْتَ إخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا أَكْرَمَنَا اللهُ وَبِمَا نَحْنُ فِيهِ لِئَلّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أُبَلّغُهُمْ(1/325)
عَنْكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً..
الْآيَةُ. وَبَلَغَنَا عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشّهَدَاءَ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ فِي الْجَنّةِ فِي قُبّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيّا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إنّ أَرْوَاحَ الشّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلّقَةٌ بِالْعَرْشِ، فَتَسْرَحُ فِي أَيّ الْجَنّةِ شَاءَتْ، فَأَطْلَعَ رَبّك عَلَيْهِمْ إطْلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدَكُمُوهُ؟ قَالُوا: رَبّنَا، أَلَسْنَا فِي الْجَنّةِ نَسْرَحُ فِي أَيّهَا نَشَاءُ؟ فَأَطْلَعَ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ مِنْ شَيْءٍ فَأَزِيدَكُمُوهُ؟ قَالُوا: رَبّنَا، تُعِيدُ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا فَنُقْتَلُ فِي سَبِيلِك. وَقَوْلُهُ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ..
إلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَؤُلَاءِ الّذِينَ غَزَوْا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ.
حَدّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا كَانَ فِي الْمُحَرّمِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ إذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِلَالٌ جَالِسٌ عَلَى بَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَذّنَ بِلَالٌ وَهُوَ يَنْتَظِرُ خُرُوجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ خَرَجَ، فَنَهَضَ إلَيْهِ الْمُزَنِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْبَلْت مِنْ أَهْلِي حَتّى إذَا كُنْت بِمَلَلٍ فَإِذَا قُرَيْشٌ قَدْ نَزَلُوا، فَقُلْت: لَأَدْخُلَنّ فِيهِمْ وَلَأَسْمَعَنّ مِنْ أَخْبَارِهِمْ.
فَجَلَسْت مَعَهُمْ فَسَمِعْت أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، أَصَبْتُمْ شَوْكَةَ الْقَوْمِ وَحِدّتَهُمْ، فَارْجِعُوا نَسْتَأْصِلْ مَنْ بَقِيَ! وَصَفْوَانُ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أبا بكر وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَذَكَرَ لَهُمَا مَا أَخْبَرَهُ الْمُزَنِيّ، فَقَالَا: اُطْلُبْ الْعَدُوّ، وَلَا يَقْحَمُونَ عَلَى الذّرّيّةِ! فَلَمّا سَلّمَ ثَابَ النّاسُ، وَأَمَرَ بِلَالًا يُنَادِي يَأْمُرُ النّاسَ بِطَلَبِ(1/326)
عَدُوّهِمْ. وَقَالُوا: لَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ [ (1) ] أَمَرَ بِطَلَبِ عَدُوّهِمْ، فَخَرَجُوا وَبِهِمْ الْجِرَاحَاتُ.
وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً إلَى قَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ. فَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَعَدَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد بَدْرَ الْمَوْعِدِ الصّفْرَاءِ، عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ.
فَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: أَلَا تُوَافِي النّبِيّ؟ فَبَعَثَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ إلَى الْمَدِينَةِ يُثَبّطُ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ لَهُ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ إنْ هُوَ رَدّهُمْ، وَيَقُولُ إنّهُمْ قَدْ جَمَعُوا جَمُوعًا وَقَدْ جَاءُوكُمْ فِي دَارِكُمْ، لَا تَخْرُجُوا إلَيْهِمْ. حَتّى كَادَ ذَلِكَ يُثَبّطُهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ،
فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ لَخَرَجْت وَحْدِي.
فَأَنْهَجْتُ [ (2) ] لَهُمْ بَصَائِرَهُمْ، فَخَرَجُوا بِتِجَارَاتٍ وَكَانَ بَدْرُ مَوْسِمًا. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ فِي التّجَارَةِ، يَقُولُ: ارْبَحُوا، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا، وَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ ثُمّ انْصَرَفُوا. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ يَقُولُ: الشّيْطَانُ يُخَوّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَمَنْ أَطَاعَهُ. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يَقُولُ: اسْتَحَبّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ يَقُولُ: مَا يُصِحّ أَبْدَانَهُمْ، وَيَرْزُقُهُمْ وَيُرِيهِمْ الدّوْلَةَ عَلَى عَدُوّهِمْ، يَقُولُ: أُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا كُفْرًا. مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ يَعْنِي مُصَابَ أَهْلِ أُحُدٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي يُقَرّبُ مِنْ رُسُلِهِ. وَفِي قَوْلِهِ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
__________
[ (1) ] فى ت: «يوم أحد» .
[ (2) ] نهج الأمر وأنهج إذا وضح. (النهاية، ج 4، ص 185) .(1/327)
يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ إلَى قَوْلِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ* قَالَ:
يَأْتِي كَنْزُ الّذِي لَا يُؤَدّي حَقّهُ ثُعْبَانًا فِي عُنُقِهِ، يَنْهَشُ لِهْزِمَتَيْهِ [ (1) ] . يَقُولُ:
أَنَا كَنْزُك. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً* [ (2) ] قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيّ: اللهُ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ لِيَسْتَقْرِضَ مِنّا؟ .. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ* مِنْ كُفْرِكُمْ وَقَتْلِكُمْ الْأَنْبِيَاءَ. الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.. الْآيَةُ وَاَلّتِي تَلِيهَا، يَعْنِي يَهُودَ.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يَعْنِي الْيَهُودَ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا* يَعْنِي مِنْ الْعَرَبِ، أَذىً كَثِيراً.. إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ:
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ إلَى قَوْلِهِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قَالَ: أَخَذَ عَلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ [فِي أَمْرِ] صِفّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلّا يَكْتُمُوهُ. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاِتّخَذُوهُ مَأْكَلَةً وَغَيّرُوا صِفَتَهُ. وَقَوْلُهُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا فَقَدِمَ قَالُوا: إذَا غَزَوْت فَنَحْنُ نَخْرُجُ مَعَك. فَإِذَا غَزَا لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ، وَيُقَالُ هُمْ الْيَهُودُ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ قَالَ: يُصَلّونَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، يَعْنِي مُضْطَجِعِينَ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا قَالَ: الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلّهُمْ رَأَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ
__________
[ (1) ] لهزمتيه: أى شدقيه. (النهاية، ج 4، ص 71) .
[ (2) ] سورة 2 البقرة 245.(1/328)
دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ مَكّةَ. لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ يَقُولُ:
تِجَارَتُهُمْ وَحِرْفَتُهُمْ. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يَعْنِي عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِبَاطٌ، إنّمَا كَانَتْ الصّلَاةُ بَعْدَ الصّلَاةِ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: لَمّا قُتِلَ سَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ بِأُحُدٍ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمّ مَضَى إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. وَجَاءَ أَخُو سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ فَأَخَذَ مِيرَاثَ سَعْدٍ، وَكَانَ لِسَعْدٍ ابْنَتَانِ وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ حَامِلًا، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ عَلَى مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ حَتّى قُتِلَ سَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ.
فَلَمّا قَبَضَ عَمّهُنّ الْمَالَ- وَلَمْ تَنْزِلْ الْفَرَائِضُ- وَكَانَتْ امْرَأَةُ سَعْدٍ امْرَأَةً حَازِمَةً، صَنَعَتْ طَعَامًا- ثُمّ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خُبْزًا وَلَحْمًا وَهِيَ يَوْمئِذٍ بِالْأَسْوَافِ [ (1) ] . فَانْصَرَفْنَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصّبْحِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَنَحْنُ نَذْكُرُ وَقْعَةَ أُحُدٍ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَنَذْكُرُ سَعْدَ بْنَ رَبِيعٍ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا بِنَا!
فَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ عِشْرُونَ رَجُلًا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى الْأَسْوَافِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلْنَا مَعَهُ فَنَجِدُهَا قَدْ رَشّتْ مَا بَيْن صُورَيْنِ [ (2) ] وَطَرَحَتْ خَصَفَةً [ (3) ] .
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاَللهِ مَا ثَمّ وِسَادَةٌ ولا بساط، فجلسنا ورسول الله
__________
[ (1) ] الأسواف: اسم حرم المدينة، وقيل موضع بعينه بناحية البقيع. (معجم البلدان، ج 1، ص 248) .
[ (2) ] هكذا فى كل النسخ. وفى السمهودي عن الواقدي: «سورين» . (وفاء الوفا، ج 2، ص 245) . والصور: الجماعة من النخل. (النهاية، ج 3، ص 4) .
[ (3) ] فى الأصل: «خفصة» . والخصفة: الشيء المنسوج من الخوص. (النهاية، ج 1، ص 297) .(1/329)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدّثُنَا عَنْ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ، يَتَرَحّمُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْت الْأَسِنّةَ شَرَعَتْ إلَيْهِ يَوْمئِذٍ حَتّى قُتِلَ. فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ النّسْوَةُ بَكَيْنَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَهَاهُنّ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْبُكَاءِ. قَالَ جَابِرٌ: ثُمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. قَالَ: فَتَرَاءَيْنَا مَنْ يَطْلُعُ، فَطَلَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُمْنَا فَبَشّرْنَاهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ سَلّمَ ثُمّ رَدّوا عَلَيْهِ ثُمّ جَلَسَ. ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. فَتَرَاءَيْنَا مَنْ يَطْلُعُ مِنْ خِلَالِ السّعَفِ. فَطَلَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُمْنَا فَبَشّرْنَاهُ بِمَا قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلّمَ ثُمّ جَلَسَ. ثُمّ قَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. فَنَظَرْنَا مِنْ خِلَالِ السّعَفِ، فَإِذَا عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ طَلَعَ، فَقُمْنَا فَبَشّرْنَاهُ بِالْجَنّةِ، ثُمّ جَاءَ فَسَلّمَ ثُمّ جَلَسَ، ثُمّ أُتِيَ بِالطّعَامِ. قَالَ جَابِرٌ: فَأُتِيَ مِنْ الطّعَامِ بِقَدْرِ مَا يَأْكُلُ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ فَقَالَ: خُذُوا [ (1) ] بِسْمِ اللهِ! فَأَكَلْنَا مِنْهَا حَتّى نَهِلْنَا، وَاَللهِ مَا أُرَانَا حَرّكْنَا مِنْهَا شَيْئًا. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعُوا هَذَا الطّعَامَ! فَرَفَعُوهُ، ثُمّ أَتَيْنَا بِرُطَبٍ فِي طَبَقٍ فِي بَاكُورَةٍ أَوْ مُؤَخّرٍ قَلِيلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللهِ، كُلُوا! قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتّى نَهِلْنَا، وَإِنّي لَأَرَى فِي الطّبَقِ نَحْوًا مِمّا أُتِيَ بِهِ. وَجَاءَتْ الظّهْرُ فَصَلّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَمَسّ مَاءً، ثُمّ رَجَعَ إلَى مَجْلِسِهِ فَتَحَدّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ جَاءَتْ الْعَصْرُ فَأُتِيَ بِبَقِيّةِ الطّعَامِ يَتَشَبّعُ بِهِ، فَقَامَ النّبِيّ صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] فى السمهودي عن الواقدي: «كلوا» . (وفاء الوفا، ج 2، ص 246) .(1/330)
وسلم فَصَلّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يَمَسّ مَاءً، ثُمّ قَامَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ سَعْدَ بْنَ رَبِيعٍ قُتِلَ بِأُحُدٍ، فَجَاءَ أَخُوهُ فَأَخَذَ مَا تَرَكَ، وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَلَا مَالَ لَهُمَا، وَإِنّمَا يُنْكَحُ- يَا رَسُولَ اللهِ- النّسَاءُ عَلَى الْمَالِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:، اللهُمّ أَحْسِنْ الْخِلَافَةَ عَلَى تَرِكَتِهِ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَعُودِي إلَيّ إذَا رَجَعْت! فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِهِ جَلَسَ عَلَى بَابِهِ وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرَحَاءُ حَتّى ظَنَنّا أَنّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسُرّيَ عَنْهُ وَالْعَرَقُ يَتَحَدّرُ عَنْ جَبِينِهِ مِثْلَ الْجُمَانِ. فَقَالَ: عَلَيّ بِامْرَأَةِ سَعْدٍ! قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو حَتّى جَاءَ بِهَا. قَالَ: وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً جَلْدَةً، فَقَالَ: أَيْنَ عَمّ وَلَدِك؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِي مَنْزِلِهِ. قَالَ: اُدْعِيهِ لِي! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْلِسِي! فَجَلَسَتْ وَبَعَثَ رَجُلًا يَعْدُو إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ وَهُوَ فِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَأَتَى وَهُوَ مُتْعَبٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفَعْ إلَى بَنَاتِ أَخِيك ثُلُثَيْ مَا تَرَكَ أَخُوك.
فَكَبّرَتْ امْرَأَتُهُ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفَعْ إلَى زَوْجَةِ أَخِيك الثّمُنَ وَشَأْنُك وَسَائِرُ مَا بِيَدِك.
وَلَمْ يُوَرّثْ الْحَمْلَ يَوْمئِذٍ. وَهِيَ أُمّ سَعْدِ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ امْرَأَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أُمّ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَلَمّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَزَوّجَ زَيْدٌ أُمّ سَعْدِ بِنْتَ سَعْدٍ وَكَانَتْ حَامِلًا، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ لَك حَاجَةٌ أَنْ تَكَلّمِي فِي مِيرَاثِك مِنْ أَبِيك، فَإِنّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَرّثَ الْحَمْلَ الْيَوْمَ، وَكَانَتْ أُمّ سَعْدٍ يَوْمَ قُتِلَ أَبُوهَا سَعْدٌ حَمْلًا. فَقَالَتْ: مَا كُنْت لِأَطْلُبَ مِنْ أَخِي شَيْئًا.
وَلَمّا انْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ بِأُحُدٍ [ (1) ] كَانَ أوّل من قدم بخبر أحد وانكشاف
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «ولما انكشف المشركون بأحد حين انهزموا» .(1/331)
الْمُشْرِكِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَرِهَ أَنْ يَقْدَمَ مَكّةَ وَقَدِمَ الطّائِفَ فأخبر: إنّ أصحاب محمّد قَدْ ظَفِرُوا وَانْهَزَمْنَا، كُنْت أَوّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ! وَذَلِكَ حَيْنَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ الِانْهِزَامَةَ الْأُولَى، ثُمّ تَرَاجَعَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدُ فَنَالُوا مَا نَالُوا. وَكَانَ أَوّلُ مَنْ أَخْبَرَ قُرَيْشًا بِقَتْلِ أَصْحَابِ محمّد وَظَفَرِ قُرَيْشٍ وَحْشِيّ.
وَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ، عن قطن بْنِ وَهْبٍ اللّيْثِيّ، قَالَ: لَمّا قَدِمَ وَحْشِيّ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ بِمُصَابِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَرْبَعًا، فَانْتَهَى إلَى الثّنِيّةِ الّتِي تَطْلُعُ عَلَى الْحَجُونِ [ (1) ] ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! مِرَارًا، حَتّى ثَابَ النّاسُ إلَيْهِ وَهُمْ خَائِفُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ. فَلَمّا رَضِيَ مِنْهُمْ قال: أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمّد مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ مِثْلُهَا فِي زَحْفٍ قَطّ، وَجَرَحْنَا مُحَمّدًا فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْجِرَاحِ، وَقَتَلْت رَأْسَ الْكَتِيبَةِ حَمْزَةُ. وَتَفَرّقَ النّاسُ فِي كُلّ وَجْهٍ بِالشّمَاتَةِ بِقَتْلِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ وَإِظْهَارِ السّرُورِ، وَخَلَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ بِوَحْشِيّ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَا تَقُولُ! قَالَ وَحْشِيّ: قَدْ وَاَللهِ صَدَقْت. قَالَ: أَقَتَلَتْ حَمْزَةَ؟ قَالَ: قَدْ وَاَللهِ زَرَقْته بِالْمِزْرَاقِ فِي بَطْنِهِ حَتّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، ثُمّ نُودِيَ فَلَمْ يُجِبْ، فَأَخَذْت كَبِدُهُ وَحَمَلْتهَا إلَيْك لِتَرَاهَا. قَالَ: أَذْهَبْت حُزْنَ نِسَائِنَا [ (2) ] ، وَبَرّدْت حَرّ قُلُوبِنَا [ (3) ] ! فَأَمَرَ يَوْمئِذٍ نِسَاءَهُ بِمُرَاجَعَةِ الطّيبِ وَالدّهْنِ.
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قد انهزم يومئذ، فمضى على
__________
[ (1) ] قال البكري: الحجون موضع بمكة عند المحصب، وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شعب الجزارين إلى ما بين الحوضين اللذين فى حائط عوف. (معجم ما استعجم، ص 268) .
[ (2) ] فى ب، ت: «نسياتنا» .
[ (3) ] فى كل النسخ: «وقبلنا بهم أنفسنا» ، وما أثبتناه عن ح.(1/332)
وَجْهِهِ فَنَامَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ، فَلَمّا أَصْبَحَ دخل المدينة فأتى منزل عثمان ابن عفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَضَرَبَ بَابَهُ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا، هُوَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَرْسِلِي إلَيْهِ، فَإِنّ لَهُ عِنْدِي ثَمَنَ بَعِيرٍ اشْتَرَيْته عَامَ أَوّلٍ فَجِئْته بِثَمَنِهِ، وَإِلّا ذَهَبْت. قَالَ: فَأَرْسَلْت إلَى عُثْمَانَ فَجَاءَ، فَلَمّا رَآهُ قَالَ:
وَيْحَك، أَهْلَكْتنِي وَأَهْلَكْت نَفْسَك، مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: يَا ابْنَ عَمّ، لَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ أَقْرَبَ إلَيّ مِنْك وَلَا أَحَقّ. فَأَدْخَلَهُ عُثْمَانُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، ثُمّ خَرَجَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ أَمَانًا،
وَقَدْ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَنْ يَأْتِيَهُ عُثْمَانُ: إنّ مُعَاوِيَةَ قَدْ أَصْبَحَ بِالْمَدِينَةِ فَاطْلُبُوهُ.
فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اُطْلُبُوهُ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ عفّانَ فَدَخَلُوا بَيْتَ عُثْمَانَ فَسَأَلُوا أُمّ كُلْثُومٍ، فَأَشَارَتْ إلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ تَحْتِ حِمَارَةٍ [ (1) ] لَهُمْ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُثْمَانُ جَالِسٌ عِنْدً رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا رَآهُ عُثْمَانُ قَدْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، مَا جِئْتُك إلّا أَنْ أَسْأَلَك أَنْ تُؤَمّنَهُ، فَهَبْهُ لِي يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَهَبَهُ لَهُ وَأَمّنَهُ وَأَجّلَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ وُجِدَ بَعْدَهُنّ قُتِلَ. قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَاشْتَرَى لَهُ بَعِيرًا وَجَهّزَهُ، ثُمّ قَالَ: ارْتَحِلْ! فَارْتَحَلَ. وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَأَقَامَ مُعَاوِيَةُ حَتّى كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ، فَجَلَسَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ بِصُدُورِ الْعَقِيقِ
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ مُعَاوِيَةَ قَدْ أَصْبَحَ قَرِيبًا فَاطْلُبُوهُ.
فَخَرَجَ النّاسُ فِي طلبه فإذا هو قد أخطأ الطريق،
__________
[ (1) ] فى ت: «تحت خمارة» . والحمارة: ثلاثة أعواد يشد بعض أطرافها إلى بعض ويخالف بين أرجلها، وتعلق عليها الإداوة ليبرد الماء. (النهاية، ج 1، ص 258) .(1/333)
فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ حَتّى يُدْرِكُوهُ فِي يَوْمِ الرّابِعِ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَسْرَعَا فِي طَلَبِهِ، فَأَدْرَكَاهُ بِالْجَمّاءِ فَضَرَبَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَقَالَ عَمّارٌ:
إنّ لِي فِيهِ حَقّا! فَرَمَاهُ عَمّارٌ بِسَهْمٍ فَقَتَلَاهُ، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. وَيُقَالُ: أُدْرِكَ بِثَنِيّةِ الشّرِيدِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ أَخْطَأَ الطّرِيقَ، فَأَدْرَكَاهُ فَلَمْ يَزَالَا يَرْمِيَانِهِ بِالنّبْلِ [ (1) ] وَاِتّخَذَاهُ غَرَضًا حَتّى مَاتَ.
غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ [ (2) ]
وَكَانَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوّالٍ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَابَ خَمْسًا.
قَالُوا: لَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّبْحَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَمَعَهُ وُجُوهُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا بَاتُوا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بَابِهِ- سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ، وَقَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَعُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ فِي عِدّةٍ مِنْهُمْ. فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصّبْحِ أَمَرَ بلالا أن يُنَادِي: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وسلّم يَأْمُرُكُمْ بِطَلَبِ عَدُوّكُمْ، وَلَا يَخْرُجُ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِالْأَمْسِ.
قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَاجِعًا إلَى دَارِهِ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالْمَسِيرِ. قَالَ:
وَالْجِرَاحُ فِي النّاسِ فَاشِيَةٌ، عَامّةُ بنى عبد الأشهل جَرِيحٌ، بَلْ كُلّهَا، فَجَاءَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا
__________
[ (1) ] فى ب: «بالنبل والحجارة» .
[ (2) ] حمراء الأسد على ثمانية أميال- وقيل عشرة- من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 70) .(1/334)
عدوّكم. قال: يقول أسيد بن حضير، وَبِهِ سَبْعُ جِرَاحَاتٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُدَاوِيَهَا: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ! فَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَلَمْ يُعَرّجْ عَلَى دَوَاءِ جِرَاحِهِ، وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَوْمَهُ بَنِي سَاعِدَةَ فَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ، فَتَلَبّسُوا وَلَحِقُوا. وَجَاءَ أَبُو قَتَادَةَ أَهْلَ خُرْبَى، وَهُمْ يُدَاوُونَ الْجِرَاحَ، فَقَالَ: هَذَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ بِطَلَبِ عَدُوّكُمْ. فَوَثَبُوا إلَى سِلَاحِهِمْ وَمَا عَرّجُوا [ (1) ] عَلَى جِرَاحَاتِهِمْ. فَخَرَجَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَرْبَعُونَ جَرِيحًا، بِالطّفَيْلِ بن النّعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش ابن الصّمّةِ عَشْرُ جِرَاحَاتٍ، وَبِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بَضْعَةَ عشر جرحا، وبقطبة ابن عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةٍ تِسْعُ جِرَاحَاتٍ، حَتّى وَافَوْا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ إلَى رَأْسِ الثّنِيّةِ- الطّرِيقُ الْأُولَى يَوْمئِذٍ- عَلَيْهِمْ السّلَاحُ قَدْ صَفّوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَالْجِرَاحُ فِيهِمْ فَاشِيَةٌ قَالَ: اللهُمّ ارْحَمْ بَنِي سَلِمَةَ!
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: إنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَرَافِعَ بْنَ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجَعَا مِنْ أُحُدٍ وَبِهِمَا جِرَاحٌ كَثِيرَةٌ، وَعَبْدُ اللهِ أَثْقَلُهُمَا مِنْ الْجِرَاحِ، فَلَمّا أَصْبَحُوا وَجَاءَهُمْ سعد ابن مُعَاذٍ يُخْبِرُهُمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِطَلَبِ عَدُوّهِمْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَاَللهِ إنْ تَرْكَنَا غَزْوَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ لَغَبْنٌ! وَاَللهِ مَا عِنْدَنَا دَابّةٌ نَرْكَبُهَا وَمَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ! قَالَ عَبْدُ اللهِ: انْطَلِقْ بِنَا! قَالَ رَافِعٌ: لَا وَاَللهِ، مَا بِي مَشْيٌ. قَالَ أَخُوهُ، انْطَلِقْ بِنَا، نَتَجَارّ وَنَقْصِدْ [ (2) ] ! فَخَرَجَا يَزْحَفَانِ، فَضَعُفَ رَافِعٌ فَكَانَ عَبْدُ الله يحمله على ظهره عقبة [ (3) ] ويمشى
__________
[ (1) ] فى الزرقانى عن الواقدي: «وما عولوا» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 71) .
[ (2) ] فى ح: «نعضد ونخور» .
[ (3) ] العقبة: النوبة. (الصحاح، ص 185) .(1/335)
الْآخَرُ عُقْبَةً، حَتّى أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْعِشَاءِ وَهُمْ يُوقِدُونَ النّيرَانَ،
فَأُتِيَ بِهِمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى حَرَسِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ- فَقَالَ: مَا حَبَسَكُمَا؟ فَأَخْبَرَاهُ بِعِلّتِهِمَا، فَدَعَا لَهُمَا بِخَيْرٍ وَقَالَ: إنْ طَالَتْ لَكُمْ مُدّةٌ كَانَتْ لَكُمْ مَرَاكِبُ مِنْ خَيْلٍ وَبِغَالٍ وَإِبِلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ لَكُمْ!
حَدّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ:
هَذَانِ أَنَسٌ وَمُؤْنِسٌ وَهَذِهِ قِصّتُهُمَا.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ مُنَادِيًا نَادَى أَلّا يَخْرُجَ مَعَنَا إلّا مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ بِالْأَمْسِ. وَقَدْ كُنْت حَرِيصًا عَلَى الْحُضُورِ [ (1) ] ، وَلَكِنّ أَبِي خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي وَقَالَ: يَا بُنَيّ، لَا يَنْبَغِي لِي وَلَك أَنْ نَدَعَهُنّ وَلَا رَجُلَ عِنْدَهُنّ، وَأَخَافُ عَلَيْهِنّ وَهُنّ نَسِيَاتٌ ضِعَافٌ، وَأَنَا خَارِجٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلّ اللهَ يَرْزُقَنِي الشّهَادَةَ. فَتَخَلّفَتْ عَلَيْهِنّ فَاسْتَأْثَرَهُ اللهُ عَلَيّ بِالشّهَادَةِ وَكُنْت رَجَوْتهَا، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ أَسِيرَ مَعَك. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ جَابِرٌ: فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ لَمْ يَشْهَدْ الْقِتَالَ بِالْأَمْسِ غَيْرِي، وَاسْتَأْذَنَهُ رِجَالٌ لَمْ يَحْضُرُوا الْقِتَالَ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلِوَائِهِ، وَهُوَ مَعْقُودٌ لَمْ يُحَلّ مِنْ الْأَمْسِ، فَدَفَعَهُ إلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَيُقَالُ دَفَعَهُ إلى أبى بكر.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَجْرُوحٌ، فِي وَجْهِهِ أَثَرُ الْحَلَقَتَيْنِ، وَمَشْجُوجٌ فِي جَبْهَتِهِ فِي أُصُولِ الشّعَرِ، وَرَبَاعِيَتُهُ قَدْ شَظِيَتْ، وَشَفَتُهُ قَدْ كُلِمَتْ مِنْ بَاطِنهَا، وَهُوَ متوهّن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة،
__________
[ (1) ] فى ب: «على الخروج» .(1/336)
وَرُكْبَتَاهُ مَجْحُوشَتَانِ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، وَالنّاسُ قَدْ حُشِدُوا، وَنَزَلَ أَهْلُ الْعَوَالِي حَيْثُ جَاءَهُمْ الصّرِيخُ،
ثُمّ رَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فَدَعَا بِفَرَسِهِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَتَلَقّاهُ طَلْحَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَخَرَجَ يَنْظُرُ مَتَى يَسِيرُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الدّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَمَا يُرَى مِنْهُ إلّا عَيْنَاهُ، فَقَالَ: يَا طَلْحَةُ، سِلَاحَك! فَقُلْت:
قَرِيبًا. قَالَ طَلْحَةُ: فَأَخْرُجُ أَعْدُو فَأَلْبَسُ دِرْعِي، وَآخُذُ سَيْفِي، وَأَطْرَحُ دَرَقَتِي فِي صَدْرِي، وَإِنّ بِي لَتِسْعَ جِرَاحَاتٍ وَلَأَنَا أَهَمّ بِجِرَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنّي بِجِرَاحِي. ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلْحَةَ فَقَالَ: تُرَى الْقَوْمَ الْآنَ؟ قَالَ: هُمْ بِالسّيّالَةِ. قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الّذِي ظَنَنْت، أَمَا إنّهُمْ يَا طَلْحَةُ لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَ أَمْسَ حَتّى يَفْتَحَ اللهُ مَكّةَ عَلَيْنَا.
وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ثلاثة نفر من أَسْلَمَ طَلِيعَةً فِي آثَارِ الْقَوْمِ: سَلِيطًا وَنُعْمَانَ ابْنَيْ سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ دَارِمٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَمَعَهُمَا ثَالِثٌ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي عُوَيْرٍ [ (1) ] لَمْ يُسَمّ لَنَا. فَأَبْطَأَ الثّالِثُ عَنْهُمَا وَهُمَا يَجْمِزَانِ [ (2) ] ، وَقَدْ انْقَطَعَ قِبَالُ [ (3) ] نَعْلِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: أَعْطِنِي نَعْلَك. قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أَفْعَلُ! فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا بِرِجْلِهِ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ لِظَهْرِهِ وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ. وَلَحِقَ الْقَوْمُ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَلَهُمْ زَجَلٌ، وَهُمْ يَأْتَمِرُونَ بِالرّجُوعِ، وَصَفْوَانُ يَنْهَاهُمْ عَنْ الرّجُوعِ، فَبَصُرُوا بِالرّجُلَيْنِ فَعَطَفُوا عَلَيْهِمَا فَأَصَابُوهُمَا. فَانْتَهَى الْمُسْلِمُونَ إلَى مَصْرَعِهِمَا بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَعَسْكَرُوا، وَقَبَرُوهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. فقال ابن
__________
[ (1) ] فى ب: «بنى عويمر» .
[ (2) ] جمز: أسرع. (النهاية، ج 1، ص 175) .
[ (3) ] قبال النعل- بالكسر- الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي قلبها. (الصحاح، ص 1795) .(1/337)
عَبّاسٍ: هَذَا قَبْرُهُمَا وَهُمَا الْقَرِينَانِ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى عَسْكَرُوا بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ. قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ عَامّةُ زَادِنَا التّمْرَ، وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ثَلَاثِينَ جَمَلًا [ (1) ] حَتّى وَافَتْ الْحَمْرَاءَ، وَسَاقَ جُزُرًا فَنَحَرُوا فِي يَوْمٍ اثْنَيْنِ وَفِي يَوْمٍ ثَلَاثًا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ فِي النّهَارِ بِجَمْعِ الْحَطْبِ، فَإِذَا أَمْسَوْا أَمَرَنَا أَنْ نُوقِدَ النّيرَانَ.
فَيُوقِدُ كُلّ رَجُلٍ نَارًا، فَلَقَدْ كُنّا تِلْكَ اللّيَالِيَ نُوقِدُ خَمْسَمِائَةِ نَارٍ حَتّى تُرَى مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَذَهَبَ ذِكْرُ مُعَسْكَرِنَا وَنِيرَانِنَا فِي كُلّ وَجْهٍ حَتّى كَانَ مِمّا كَبَتَ اللهُ تَعَالَى عَدُوّنَا.
وَانْتَهَى مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُشْرِكٌ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ سَلَمًا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، لَقَدْ عَزّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَك [ (2) ] فِي أَصْحَابِك، وَلَوَدِدْنَا أَنّ اللهَ أَعْلَى كَعْبَك [ (3) ] ، وَأَنّ الْمُصِيبَةَ كَانَتْ بِغَيْرِك.
ثُمّ مَضَى مَعْبَدٌ [ (4) ] حَتّى يَجِدَ أَبَا سُفْيَانَ وَقُرَيْشًا بِالرّوْحَاءِ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
لَا مُحَمّدًا أَصَبْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، فَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ! فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الرّجُوعِ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَا صَنَعْنَا شَيْئًا، أَصَبْنَا أَشْرَافَهُمْ ثُمّ رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وَفْرٌ- وَالْمُتَكَلّمُ بِهَذَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. فلمّا جاء معبد إلى أبى سفيان قَالَ: هَذَا مَعْبَدٌ وَعِنْدَهُ الْخَبَرُ، مَا وَرَاءَك يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: تَرَكْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ خَلْفِي يَتَحَرّقُونَ عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ النّيرَانِ، وَقَدْ أَجْمَعَ مَعَهُ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ بِالْأَمْسِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَتَعَاهَدُوا أَلّا يَرْجِعُوا حَتّى يَلْحَقُوكُمْ فَيَثْأَرُوا مِنْكُمْ، وغضبوا لقومهم
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «ثلاثين بعيرا» .
[ (2) ] فى ب، ت: «ما أصابك فى نفسك وما أصابك فى أصحابك» .
[ (3) ] الكعب هنا الشرف. (النهاية، ج 4، ص 23) .
[ (4) ] فى ب، ت: «ثم مضى مغذا» .(1/338)
غَضَبًا شَدِيدًا وَلِمَنْ أَصَبْتُمْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ. قَالُوا: وَيْلَك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ:
وَاَللهِ مَا نَرَى أَنْ نَرْتَحِلَ حَتّى نَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ! ثُمّ قَالَ مَعْبَدُ: لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت مِنْهُمْ أَنْ قُلْت أَبْيَاتًا:
كَادَتْ تُهَدّ [ (1) ] مِنْ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتْ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ [ (2) ] الْأَبَابِيلِ
تَعْدُو [ (3) ] بِأُسْدٍ كَرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ [ (4) ] ... عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٍ [ (5) ] مَعَازِيلِ
فَقُلْت وَيْلَ ابْنَ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِهِمْ ... إذَا تَغَطْمَطَتْ [ (6) ] الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ
وَكَانَ مِمّا [ (7) ] رَدّ اللهُ تَعَالَى أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ كَلَامُ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيّةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ مَعْبَدُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ، لَا تَفْعَلُوا! فَإِنّ الْقَوْمَ قَدْ حَزِنُوا [ (8) ] وَأَخْشَى أَنْ يَجْمَعُوا عَلَيْكُمْ مَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَارْجِعُوا وَالدّوْلَةُ لَكُمْ، فَإِنّي لَا آمَنُ إنْ رَجَعْتُمْ أَنْ تَكُونَ الدّوْلَةُ عَلَيْكُمْ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْشَدُهُمْ صَفْوَانُ وَمَا كَانَ بِرَشِيدٍ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سُوّمَتْ [ (9) ] لَهُمْ الْحِجَارَةُ، وَلَوْ رَجَعُوا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذّاهِبِ!
فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ سِرَاعًا خَائِفِينَ مِنْ الطّلَبِ لَهُمْ، وَمَرّ بِأَبِي سفيان نفر من عبد القيس
__________
[ (1) ] تهد: تسقط لهول ما رأت من أصوات الجيش وكثرته. (شرح أبى ذر، ص 232) .
[ (2) ] الجرد: الخيل العتاق. والأبابيل: الجماعات. (شرح أبى ذر، ص 232) .
[ (3) ] فى الأصل: «تغدوا» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (4) ] فى الأصل: «كرار لا تنابلة» ، وفى ح: «ضراء لا تنابلة» ، وما أثبتناه قراءة ب، وكذا فى ابن إسحاق أيضا. (السيرة النبوية، ج 3، ص 109) ، والتنابلة: الفصار.
(شرح أبى ذر، ص 233) .
[ (5) ] الميل: جمع أميل وهو الذي لا رمح معه، وقيل هو الذي لا ترس معه، وقيل هو الذي لا يثبت على السرج. (شرح أبى ذر، ص 233) .
[ (6) ] فى ح: «تقططت» . وتغطمطت: اهتزت وارتجت. (شرح أبى ذر، ص 233) .
[ (7) ] فى ب: «ممن» .
[ (8) ] فى ت: «قد حربوا» .
[ (9) ] سومت: أعلمت، أى جعلت لها علامة يعرف بها أنها من عند الله تعالى. (شرح أبى ذر، ص 233) .(1/339)
يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: هَلْ مُبْلِغُو [ (1) ] مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ مَا أَرْسَلَكُمْ بِهِ، عَلَى أَنْ أُوَقّرَ لَكُمْ أَبَاعِرَكُمْ زَبِيبًا غَدًا بِعُكَاظٍ إنْ أَنْتُمْ جِئْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: حَيْثُمَا لَقِيتُمْ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَأَخْبِرُوهُمْ أَنّا قَدْ أَجَمَعْنَا الرّجْعَةَ إلَيْهِمْ، وَأَنّا آثَارَكُمْ. فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ، وَقَدِمَ الرّكْبُ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْحَمْرَاءِ، فَأَخْبَرُوهُمْ الّذِي أَمَرَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالُوا: حَسُبْنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! وَفِي ذَلِكَ أَنَزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ.. [ (2) ] الْآيَةُ. وَقَوْلَهُ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ.. [ (3) ] الْآيَةَ. وَكَانَ مَعْبَدٌ قَدْ أَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنْ قَدْ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ خَائِفِينَ وَجِلِينَ. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
سَرِيّةُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ إلَى قَطَنٍ [ (4) ] إلَى بَنِي أَسَدٍ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ.
وَغَيْرُهُ أَيْضًا قَدْ حَدّثَنِي مِنْ حَدِيثِ هَذِهِ السّرِيّةِ، وَعِمَادُ الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ ابن عُثْمَانَ، عَنْ سَلَمَةَ، قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ أَحَدًا، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَالِيَةِ حَيْنَ تَحَوّلَ مِنْ قُبَاءٍ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ. فَجُرِحَ بِأُحُدٍ جُرْحًا عَلَى عَضُدِهِ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَجَاءَهُ الْخَبَرُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ إلَى حمراء الأسد، فركب
__________
[ (1) ] فى ب: «هل من مبلغي محمدا» ، وفى ح: «هل أنتم مبلغو محمد» .
[ (2) ] سورة 3 آل عمران 172.
[ (3) ] سورة 3 آل عمران 173.
[ (4) ] قطن: جبل بناحية فيد، به ماء لبنى أسد بن خزيمة. (طبقات ابن سعد، ج 2، ص 35) .(1/340)
حِمَارًا وَخَرَجَ يُعَارِضُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى لَقِيَهُ حَيْنَ هَبَطَ مِنْ الْعَصْبَةِ [ (1) ] بِالْعَقِيقِ، فَسَارَ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ.
فَلَمّا رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ انْصَرَفَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَعَ مِنْ الْعَصْبَةِ، فَأَقَامَ شَهْرًا يُدَاوِي جُرْحَهُ حَتّى رَأَى أَنْ قَدْ بَرَأَ، وَدَمَلَ الْجُرْحُ عَلَى بَغْيٍ [ (2) ] لَا يُدْرَى بِهِ، فَلَمّا كَانَ هِلَالُ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ، دَعَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اُخْرُجْ فِي هَذِهِ السّرِيّةِ فَقَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَيْهَا. وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَقَالَ: سِرْ حَتّى تَرِدَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ، فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ تَلَاقَى عَلَيْك جَمُوعُهُمْ.
وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، فَخَرَجَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السّرِيّةِ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، مِنْهُمْ:
أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَهُوَ أَخُو أَبِي سَلَمَةَ لِأُمّهِ- أُمّهُ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَخْرَمَةَ الْعَامِرِيّ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: مُعَتّبُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ حَمْرَاءَ الْخُزَاعِيّ حَلِيفٌ فِيهِمْ، وَأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَمِنْ بَنِي فِهْرٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ.
وَمِنْ الْأَنْصَارِ: أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَأَبُو عَبْسٍ، وقتادة بن النّعمان، ونصر بْنُ الْحَارِثِ الظّفَرِيّ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، وَخُبَيْبُ بْنُ يِسَافٍ، وَمَنْ لَمْ يُسَمّ لَنَا.
وَاَلّذِي هَاجَهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ طَيّئ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ بِهِ مِنْ طَيّئ مُتَزَوّجَةً رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ عَلَى صِهْرِهِ الّذِي هُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّ طُلَيْحَةَ وَسَلَمَةَ ابْنَيْ خُوَيْلِدٍ تَرَكَهُمَا قَدْ سَارَا فِي قَوْمِهِمَا وَمَنْ أَطَاعَهُمَا بدعوتهما إلى حرب
__________
[ (1) ] العصبة: منزل بنى جحجبى غربي مسجد قباء. (وفاء الوفا، ج 2، ص 346) .
[ (2) ] على بغى: أى على فساد. (النهاية، ج 1، ص 88) .(1/341)
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا لِلْمَدِينَةِ، وَقَالُوا: نَسِيرُ إلَى مُحَمّدٍ فِي عُقْرِ دَارِهِ، وَنُصِيبُ مِنْ أَطْرَافِهِ، فإنّ لهم سرحا يرعى جوانب المدينة، وتخرج عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَقَدْ أَرْبَعْنَا [ (1) ] خَيْلَنَا، وَنَخْرُجُ عَلَى النّجَائِبِ الْمَخْبُورَةِ، فَإِنْ أَصَبْنَا نَهْبًا لَمْ نُدْرَك، وَإِنْ لَاقَيْنَا جَمْعَهُمْ كُنّا قَدْ أَخَذْنَا لِلْحَرْبِ عُدّتَهَا، مَعَنَا خَيْلٌ وَلَا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَمَعَنَا نَجَائِبُ أَمْثَالُ الْخَيْلِ، وَالْقَوْمُ مَنْكُوبُونَ قَدْ أَوْقَعَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ حَدِيثًا، فَهُمْ لَا يَسْتَبِلّونَ دَهْرًا، وَلَا يَثُوبُ لَهُمْ جَمْعٌ. فَقَامَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاَللهِ مَا هَذَا بِرَأْيٍ! مَا لَنَا قِبَلَهُمْ وِتْرٌ وَمَا هُمْ نُهْبَةٌ لِمُنْتَهِبٍ، إنّ دَارَنَا لَبَعِيدَةٌ مِنْ يَثْرِبَ وَمَا لَنَا جَمْعٌ كَجَمْعِ قُرَيْشٍ.
مَكَثَتْ قريش دَهْرًا تَسِيرُ فِي الْعَرَبِ تَسْتَنْصِرُهَا وَلَهُمْ وِتْرٌ يَطْلُبُونَهُ، ثُمّ سَارُوا وَقَدْ امْتَطُوا الْإِبِلَ وَقَادُوا الْخَيْلَ وَحَمَلُوا السّلَاحَ مَعَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ- ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ سِوَى أَتْبَاعِهِمْ- وَإِنّمَا جَهْدُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ إنْ كَمُلُوا، فَتُغَرّرُونَ بِأَنْفُسِكُمْ وَتَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدِكُمْ، وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدّائِرَةُ عَلَيْكُمْ. فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يُشَكّكَهُمْ فِي الْمَسِيرِ، وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ. فَخَرَجَ بِهِ الرّجُلُ الّذِي مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ مَا أَخْبَرَ الرّجُلُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سَلَمَةَ، فَخَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ الطّائِيّ دَلِيلًا فَأَغَذّوْا [ (2) ] السّيْرَ، وَنَكَبَ بِهِمْ عَنْ سَنَنِ الطّرِيقِ، وَعَارَضَ الطّرِيقَ وَسَارَ بِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَسَبَقُوا الْأَخْبَارَ وَانْتَهَوْا إلَى أَدْنَى قَطَنٍ- مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي أَسَدٍ، هُوَ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمْعُهُمْ- فَيَجِدُونَ سَرْحًا فَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِمْ فَضَمّوهُ، وَأَخَذُوا رِعَاءً لهم،
__________
[ (1) ] فى ت: «فقد رايعنا» . وأربع الخيل: أى رعاها فى الربيع. (الصحاح، ص 1214) .
[ (2) ] فى الأصل: «فأعدوا» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. والإغذاذ فى السير: الإسراع.
(الصحاح، ص 567) .(1/342)
مُمَالِيك ثَلَاثَةٍ، وَأَفْلَتْ سَائِرُهُمْ فَجَاءُوا جَمْعَهُمْ فَخَبّرُوهُمْ الْخَبَرَ وَحَذّرُوهُمْ جَمْعَ أَبِي سَلَمَةَ، وَكَثّرُوهُ عِنْدَهُمْ فَتَفَرّقَ الْجَمْعُ فِي كُلّ وَجْهٍ. وَوَرَدَ أَبُو سَلَمَةَ الْمَاءَ فَيَجِدُ الْجَمْعَ قَدْ تَفَرّقَ، فَعَسْكَرَ وَفَرّقَ أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِ النّعَمِ وَالشّاءِ، فَجَعَلَهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ- فِرْقَةٌ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَفِرْقَتَانِ أَغَارَتَا فِي نَاحِيَتَيْنِ شَتّى.
وَأَوْعَزَ إلَيْهِمَا أَلّا يُمْعِنُوا فِي طَلَبٍ وَأَلّا يَبِيتُوا إلّا عِنْدَهُ إنْ سَلّمُوا، وَأَمَرَهُمْ أَلّا يَفْتَرِقُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى كُلّ فِرْقَةٍ عَامِلًا مِنْهُمْ. فَآبُوا إلَيْهِ جَمِيعًا سَالِمِينَ، قَدْ أَصَابُوا إبِلًا وَشَاءً وَلَمْ يَلْقَوْا أَحَدًا، فَانْحَدَرَ أَبُو سَلَمَةَ بِذَلِكَ كُلّهِ إلَى الْمَدِينَةِ رَاجِعًا، وَرَجَعَ مَعَهُ الطّائِيّ، فَلَمّا سَارُوا لَيْلَةً قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: اقْتَسِمُوا غَنَائِمَكُمْ. فَأَعْطَى أَبُو سَلَمَةَ الطّائِيّ الدّلِيلَ رِضَاهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، ثُمّ أَخَرَجَ صَفِيّا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا، ثُمّ أَخْرَجَ الْخُمُسَ، ثُمّ قَسَمَ مَا بَقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَعَرَفُوا سُهْمَانَهُمْ، ثُمّ أَقْبَلُوا بِالنّعَمِ وَالشّاءِ يَسُوقُونَهَا حَتّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بن عمير، عن عبد الرحمن ابن سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ الّذِي جَرَحَ أَبَا سَلَمَةَ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ، رَمَاهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِمَعْبَلَةٍ فِي عَضُدِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يُدَاوِيهِ فَبَرَأَ فِيمَا نَرَى، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا إلَى قَطَنٍ، وَغَابَ بِضْعَ عَشْرَةٍ. فَلَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ انْتَقَضَ الْجُرْحُ، فَمَاتَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَغَسَلَ مِنْ الْيَسِيرَةِ- بِئْرِ بَنِي أُمَيّةَ- بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَكَانَ اسْمُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ الْعَبِيرُ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَسِيرَةَ، ثُمّ حُمِلَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ فَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ.(1/343)
قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: وَاعْتَدّتْ أُمّي حَتّى خَلَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمّ تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بِهَا فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوّالٍ، فَكَانَتْ أُمّي تَقُولُ: مَا بَأْسٌ فِي النّكَاحِ فِي شَوّالٍ وَالدّخُولِ فِيهِ، قَدْ تَزَوّجَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوّالٍ وَأَعْرَسَ بِي فِي شَوّالٍ. وَمَاتَتْ أُمّ سَلَمَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثْت عُمَرَ بْنَ عُثْمَانَ الْجَحْشِيّ، فَعَرَفَ السّرِيّةَ وَمَخْرَجَ أَبِي سَلَمَةَ إلَى قَطَنٍ، وَقَالَ: أَمَا سُمّيَ لَك الطّائِيّ؟ قُلْت:
لَا. قَالَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ طَرِيفٍ عَمّ زَيْنَبَ الطّائِيّةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ طُلَيْبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ الطّائِيّ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَذَهَبَ بِهِ طُلَيْبٌ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ خَبَرَ بَنِي أَسَدٍ وَمَا كَانَ مِنْ هُمُومِهِمْ بِالْمَسِيرِ.
وَرَجَعَ مَعَهُمْ الطّائِيّ دَلِيلًا وَكَانَ خِرّيتًا [ (1) ] ، فَسَارَ بِهِمْ أَرْبَعًا إلَى قَطَنٍ، وَسَلَكَ بِهِمْ غَيْرَ الطّرِيقِ، لِأَنْ يَعْمِيَ الْخَبَرَ عَلَى الْقَوْمِ. فَجَاءُوا الْقَوْمَ وَهُمْ غَارُونَ عَلَى صِرْمَةَ [ (2) ] ، فَوَجَدُوا الصّرْمَ قَدْ نَذِرُوا [ (3) ] بِهِمْ وَخَافُوهُمْ فَهُمْ مُعِدّونَ، فَاقْتَتَلُوا فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ جِرَاحَةٌ، وَافْتَرَقُوا. ثُمّ أَغَارَ الطّائِيّونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى بَنِي أَسَدٍ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَيْضًا جِرَاحٌ، وَأَصَابُوا لَهُمْ نَعَمًا وَشَاءً، فَمَا تَخَلّصُوا مِنْهُمْ شَيْئًا حَتّى دَخَلَ الْإِسْلَامُ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: أَبُو سلمة من شهداء أحد للجرح الّذِي جُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمّ انْتَقَضَ بِهِ. وَكَذَلِكَ أَبُو خَالِدٍ الزّرَقِيّ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، جُرِحَ بِالْيَمَامَةِ جُرْحًا، فَلَمّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عمر انتقض به الجرح
__________
[ (1) ] الخريت: الماهر الذي يهتدى لأخرات المفازة، وهي طرقها الحفية ومضايقها، وقيل إنه يهتدى لمثل خرت الإبرة من الطريق. (النهاية، ج 1، ص 286) .
[ (2) ] الصرمة: القطعة من الإبل نحو الثلاثين. (الصحاح، ص 1965) .
[ (3) ] نذر القوم بالعدو إذا علموا. (الصحاح، ص 286) .(1/344)
فَمَاتَ فِيهِ، فَصَلّى عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: هُوَ مِنْ شُهَدَاءِ الْيَمَامَةِ لِأَنّهُ جُرِحَ بِالْيَمَامَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَحَدّثْت يَعْقُوبَ بْنَ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ كُلّهُ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا سَلَمَةَ فِي الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فِي مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النّهَارَ حَتّى وَرَدُوا قَطَنٍ، فَوَجَدُوا الْقَوْمَ قَدْ جَمَعُوا جَمْعًا فَأَحَاطَ بِهِمْ أَبُو سَلَمَةَ فِي عَمَايَةِ الصّبْحِ، وَقَدْ وَعَظَ الْقَوْمَ وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَرَغّبَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَحَضّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ فِي الْإِمْعَانِ فِي الطّلَبِ، وَأَلّفَ بَيْنَ كُلّ رَجُلَيْنِ.
فَانْتَبَهَ الْحَاضِرُ قَبْلَ حَمْلَةِ الْقَوْمِ عَلَيْهِمْ، فَتَهَيّئُوا وَأَخَذُوا السّلَاحَ، أَوْ مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَصَفّوا لِلْقِتَالِ. وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ فَأَبَانَ رِجْلَهُ، ثُمّ ذَفّفَ عَلَيْهِ، وحمل رجل من الأعراب على مسعود ابن عُرْوَةَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ بِالرّمْحِ فَقَتَلَهُ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَاحِبِهِمْ أَنْ يُسْلَبَ مِنْ ثِيَابِهِ فَحَازُوهُ إلَيْهِمْ. ثُمّ صَاحَ سَعْدٌ: مَا يُنْتَظَرُ! فَحَمَلَ أَبُو سَلَمَةَ فَانْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى حَامِيَتِهِمْ، وَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، ثُمّ تَفَرّقَ الْمُشْرِكُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ، وَأَمْسَكَ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ الطّلَبِ فَانْصَرَفُوا إلَى الْمَحَلّةِ، فَوَارَوْا صَاحِبَهُمْ وَأَخَذُوا مَا خَفّ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الْقَوْمِ [ (1) ] ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلّةِ ذُرّيّةٌ، ثُمّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إلَى الْمَدِينَةِ، حَتّى إذَا كَانُوا مِنْ الْمَاءِ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَئُوا الطّرِيقَ، فَهَجَمُوا عَلَى نَعَمٍ لَهُمْ فِيهِمْ رِعَاؤُهُمْ، وَإِنّمَا نَكّبُوا عَنْ سَنَنِهِمْ، فَاسْتَاقُوا النّعَمَ وَاسْتَاقُوا الرّعَاءَ، فَكَانَتْ غَنَائِمُهُمْ سَبْعَةَ أَبْعِرَةٍ.
فَحَدّثَنِي ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: قال سعد
__________
[ (1) ] فى ب، ت: «متاع الصرم» .(1/345)
ابن أَبِي وَقّاصٍ: فَلَمّا أَخْطَأْنَا الطّرِيقَ اسْتَأْجَرْنَا رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ دَلِيلًا يَدُلّنَا عَلَى الطّرِيقِ، فَقَالَ: أَنَا أَهْجُمُ بِكَمْ عَلَى نَعَمٍ، فَمَا تَجْعَلُونَ لِي مِنْهُ؟
قَالُوا: الْخُمُسَ. قَالَ: فَدَلّهُمْ عَلَى النّعَمِ وَأَخَذَ خُمُسَهُ.
غَزْوَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَأَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمّينَ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: قَدِمَ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْبَرَاءِ مَلَاعِبَ الْأَسِنّةِ [ (1) ] عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَيْنِ وَرَاحِلَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ! فَعَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُبْعِدْ، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، إنّي أَرَى أَمْرَك هَذَا أَمْرًا حَسَنًا شَرِيفًا، وَقَوْمِي خَلْفِي، فَلَوْ أَنّك بَعَثْت نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك مَعِي لَرَجَوْت أَنْ يُجِيبُوا دَعْوَتَك وَيَتّبِعُوا أَمْرَك، فَإِنْ هُمْ اتّبَعُوك فَمَا أَعَزّ أَمْرَك! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ.
فَقَالَ عَامِرٌ: لَا تَخَفْ عَلَيْهِمْ، أَنَا لَهُمْ جَارٍ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
__________
[ (1) ] سمى ملاعب الأسنة يوم سوبان وهو يوم كانت فيه وقيعة [بالتصغير] فى أيام العرب بين قيس وتميم، وقد فر عنه أخوه يومئذ فقال شاعر:
فررت وأسلمت ابن أمك عامرا ... يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
(الروض الأنف، ج 2، ص 174) .(1/346)
نَجْدٍ. وَكَانَ مِنْ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا شَبَبَةً [ (1) ] يُسَمّونَ الْقُرّاءَ. كَانُوا إذَا أَمْسَوْا أَتَوْا نَاحِيَةً مِنْ الْمَدِينَةِ فَتَدَارَسُوا وَصَلّوْا، حَتّى إذَا كَانَ وِجَاهَ الصّبْحِ اسْتَعْذَبُوا مِنْ الْمَاءِ وَحَطِبُوا مِنْ الْحَطَبِ فَجَاءُوا بِهِ إلَى حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ يَظُنّونَ أَنّهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ. فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجُوا فَأُصِيبُوا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتَلَتِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: كَانُوا سَبْعِينَ، وَيُقَالُ إنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ، وَرَأَيْت الثّبْتَ عَلَى أَنّهُمْ أَرْبَعُونَ. فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ كِتَابًا، وَأَمّرَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو السّاعِدِيّ، فَخَرَجُوا حَتّى كَانُوا عَلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُوَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَبَنِي سُلَيْمٍ، وَكِلَا الْبَلَدَيْنِ يُعَدّ مِنْهُ.
فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَرَجَ الْمُنْذِرُ بِدَلِيلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ الْمُطّلِبُ، فَلَمّا نَزَلُوا عَلَيْهَا عَسْكَرُوا بِهَا وَسَرّحُوا ظَهْرَهُمْ، وَبَعَثُوا فِي سَرْحِهِمْ الْحَارِثَ بْنَ الصّمّةِ، وَعَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ.
وَقَدّمُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ. فَلَمّا انْتَهَى حَرَامٌ إلَيْهِمْ لم يقرأوا الْكِتَابَ، وَوَثَبَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ عَلَى حَرَامٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ فَأَبَوْا. وَقَدْ كَانَ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ أَبُو بَرَاءٍ خَرَجَ قَبْلَ الْقَوْمِ إلَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ قَدْ أَجَارَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ، فَلَا يَعْرِضُوا لَهُمْ، فَقَالُوا: لَنْ يُخْفَرَ جِوَارُ أَبِي بَرَاءٍ. وَأَبَتْ عَامِرٌ أَنْ تَنْفِرَ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ، فَلَمّا أَبَتْ عَلَيْهِ بَنُو عَامِرٍ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ سُلَيْمٍ- عُصَيّةَ وَرِعْلًا- فَنَفَرُوا مَعَهُ
__________
[ (1) ] الشببة: الشبان، واحدهم شاب (النهاية، ج 2، ص 201) .(1/347)
وَرَأّسُوهُ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: أَحْلِفُ بِاَللهِ مَا أَقْبَلُ هَذَا وَحْدَهُ! فَاتّبَعُوا إثْرَهُ حَتّى وَجَدُوا الْقَوْمَ، قَدْ اسْتَبْطَئُوا صَاحِبَهُمْ فَأَقْبَلُوا فِي إثْرِهِ، فَلَقِيَهُمْ الْقَوْمُ وَالْمُنْذِرُ مَعَهُمْ، فَأَحَاطَتْ بَنُو عَامِرٍ بِالْقَوْمِ وَكَاثَرُوهُمْ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ حَتّى قُتِلَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَبَقِيَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالُوا لَهُ: إنْ شِئْت آمَنّاك. فَقَالَ: لَنْ أُعْطِيَ بِيَدِي وَلَنْ أَقْبَلَ لَكُمْ أَمَانّا حَتّى آتِيَ مَقْتَلَ حَرَامٍ، ثُمّ بَرِئَ مِنّي جِوَارُكُمْ. فَآمَنُوهُ حَتّى أَتَى مَصْرَعَ حَرَامٍ، ثُمّ بَرِئُوا إلَيْهِ مِنْ جِوَارِهِمْ، ثُمّ قَاتَلَهُمْ حَتّى قُتِلَ، فَذَلِكَ
قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْنَقَ لِيَمُوتَ» [ (1) ] .
وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بِالسّرْحِ، وَقَدْ ارْتَابَا بِعُكُوفِ الطّيْرِ عَلَى مَنْزِلِهِمْ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، فَجَعَلَا يَقُولَانِ: قُتِلَ وَاَللهِ أَصْحَابُنَا، وَاَللهِ مَا قَتَلَ أَصْحَابَنَا إلّا أَهْلُ نَجْدٍ! فَأَوْفَى عَلَى نَشَزٍ مِنْ الْأَرْضِ فَإِذَا أَصْحَابُهُمْ مَقْتُولُونَ وَإِذَا الْخَيْلُ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ لعمرو بْنِ أُمَيّةَ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. فقال الْحَارِثُ: مَا كُنْت لِأَتَأَخّرَ عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ. فَأَقْبَلَا لِلْقَوْمِ [ (2) ] فَقَاتَلَهُمْ الْحَارِثُ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ، ثُمّ أَخَذُوهُ فَأَسَرُوهُ وَأَسَرُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ. وَقَالُوا لِلْحَارِثِ: مَا تُحِبّ أَنْ نَصْنَعَ بِك، فَإِنّا لَا نُحِبّ قَتْلَك؟ قتل: أَبْلِغُونِي مَصْرَعَ الْمُنْذِرِ وَحَرَامٍ، ثُمّ بَرِئَتْ مِنّي ذِمّتُكُمْ. قَالُوا: نَفْعَلُ. فَبَلَغُوا بِهِ ثُمّ أَرْسَلُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ ثُمّ قُتِلَ، فَمَا قَتَلُوهُ حَتّى شَرَعُوا لَهُ الرّمَاحَ فَنَظَمُوهُ فِيهَا. وقال عامر بن الطّفيل لعمرو من أُمَيّةَ، وَهُوَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْ: إنّهُ قَدْ كَانَتْ عَلَى أُمّي نَسَمَةٌ، فَأَنْتَ حُرّ عَنْهَا! وَجَزّ نَاصِيَتَهُ. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ
__________
[ (1) ] أعنق ليموت: أى إن المنية أسرعت به وساقته إلى مصرعه. (النهاية، ج 3، ص 133) .
[ (2) ] فى ب، ت: «فأقبلا فلقيا القوم» .(1/348)
الطّفَيْلِ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ، هَلْ تَعْرِفُ أَصْحَابَك؟ قَالَ، قُلْت: نَعَمْ. قَالَ:
فَطَافَ فِيهِمْ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَنْسَابِهِمْ فَقَالَ: هَلْ تفقد منهم من أَحَدٍ؟
قَالَ: أَفْقِدُ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ فِيكُمْ؟ قَالَ، قُلْت: كَانَ مِنْ أَفْضَلِنَا وَمِنْ أَوّلِ أَصْحَابِ نَبِيّنَا. قَالَ:
أَلَا أُخْبِرُك خَبَرَهُ؟ وَأَشَارَ إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: هَذَا طَعَنَهُ بِرُمْحِهِ، ثُمّ انْتَزَعَ رُمْحَهُ فَذَهَبَ بِالرّجُلِ عُلُوّا فِي السّمَاءِ حَتّى وَاَللهِ مَا أَرَاهُ. قَالَ عَمْرٌو، فَقُلْت: ذَلِكَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ! وَكَانَ الّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ يُقَالُ لَهُ جَبّارُ بْنُ سَلْمَى، ذَكَرَ أَنّهُ لَمّا طَعَنَهُ قَالَ، سَمِعْته يَقُولُ «فُزْت وَاَللهِ» ! قَالَ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: مَا قَوْلُهُ «فُزْت» ؟ قَالَ: فَأَتَيْت الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِهِ «فُزْت» ، فَقَالَ: الْجَنّةَ.
قَالَ: وَعَرَضَ عَلَيّ الْإِسْلَامَ. قَالَ: فَأَسْلَمْت، وَدَعَانِي إلَى الْإِسْلَامِ مَا رَأَيْت مِنْ مَقْتَلِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ مِنْ رَفْعِهِ إلَى السّمَاءِ عُلُوّا. قَالَ: وَكَتَبَ الضّحّاكُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِإِسْلَامِي وَمَا رَأَيْت مِنْ مَقْتَلِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنّ الْمَلَائِكَةَ وَارَتْ جُثّتَهُ! وَأَنْزَلَ عِلّيّينَ.
فَلَمّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ بِئْرِ مَعُونَةَ، جَاءَ مَعَهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُصَابُهُمْ وَمُصَابُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَبَعَثَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْت لِهَذَا كَارِهًا. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتَلَتِهِمْ بَعْدَ الرّكْعَةِ مِنْ الصّبْحِ، فِي صُبْحِ تِلْكَ اللّيْلَةِ الّتِي جَاءَهُ الْخَبَرُ، فَلَمّا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حمده! قال: اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللهُمّ، عَلَيْك بِبَنِي لِحْيَانَ وَزِعْبٍ وَرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيّةَ، فَإِنّهُمْ عَصَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ، اللهُمّ، عَلَيْك(1/349)
بِبَنِي لِحْيَانَ وَعَضَلَ وَالْقَارّةَ، اللهُمّ، أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ ابْنِ هِشَامٍ، وَعَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، غِفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمَ سَالَمَهَا اللهُ!
ثُمّ سجد. فقال ذلك خمس غشرة، وَيُقَالُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. [ (1) ] الْآيَةُ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: يَا رَبّ [ (2) ] ، سَبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ! وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: قَتَلْت من الأنصار فى مواطن سبعين سبعين- يوم أحد سبعون، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ سَبْعُونَ. وَلَمْ يَجِدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قَتْلَى مَا وَجَدَ عَلَى قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ. وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ قُرْآنًا قَرَأْنَاهُ حَتّى نُسِخَ: بَلّغُوا قَوْمَنَا أَنّا لَقِينَا رَبّنَا فَرَضِيَ عَنّا وَرَضِينَا عَنْهُ.
قَالُوا: وَأَقْبَلَ أَبُو بَرَاءٍ سَائِرًا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ هِمّ [ (3) ] ، فَبَعَثَ مِنْ الْعِيصِ ابْنَ أَخِيهِ لَبِيَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهَدِيّةٍ، فَرَسٍ، فَرَدّهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ! فَقَالَ لَبِيدٌ: مَا كُنْت أَظُنّ أَنّ أَحَدًا مِنْ مُضَرَ يَرُدّ هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَبِلْت هَدِيّةَ مُشْرِكٍ لَقَبِلْت هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ. قَالَ: فَإِنّهُ قَدْ بَعَثَ يَسْتَشْفِيكَ مِنْ وَجَعٍ بِهِ- وَكَانَتْ بِهِ الدّبَيْلَةُ. فَتَنَاوَلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبُوبَةً [ (4) ] مِنْ الْأَرْضِ فَتَفَلَ فِيهَا، ثُمّ نَاوَلَهُ وَقَالَ: دُفْهَا بِمَاءٍ ثُمّ اسْقِهَا إيّاهُ. فَفَعَلَ فَبَرِئَ. وَيُقَالُ إنّهُ
__________
[ (1) ] سورة 3 آل عمران 128.
[ (2) ] فى ت: «اللهم يا رب» .
[ (3) ] الهم: الشيخ الفاني. (الصحاح، ص 2062) .
[ (4) ] فى هامش نسخة ب: «الجبوبة المدرة» .(1/350)
بعث إليه بعكّة [ (1) ] عسل فَلَمْ يَزَلْ يَلْعَقُهَا حَتّى بَرِئَ. فَكَانَ أَبُو بَرَاءٍ يَوْمَئِذٍ سَائِرًا فِي قَوْمِهِ يُرِيدُ أَرْضَ بَلِيّ، فَمَرّ بِالْعِيصِ فَبَعَثَ ابْنَهُ رَبِيعَةَ مَعَ لَبِيدٍ يَحْمِلَانِ طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِيعَةَ: مَا فَعَلَتْ ذِمّةُ أَبِيك؟ قَالَ رَبِيعَةُ: نَقَضَتْهَا ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَخَرَجَ ابْنُ أَبِي بَرَاءٍ فَخَبّرَ أَبَاهُ، فَشَقّ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ وَمَا صَنَعَ بِأَصْحَابِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَرَكَةَ بِهِ مِنْ الْكِبَرِ وَالضّعْفِ، فَقَالَ: أَخْفِرنِي ابْنَ أَخِي مِنْ بَيْنِ بَنِي عَامِرٍ. وَسَارَ حَتّى كَانُوا عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ الْهَدْمُ [ (2) ] ، فَيَرْكَبُ رَبِيعَةُ فَرَسًا لَهُ وَيَلْحَقُ عَامِرًا وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَأَخْطَأَ مَقَاتِلَهُ.
وَتَصَايَحَ النّاسُ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: إنّهَا لَمْ تَضُرّنِي! إنّهَا لَمْ تَضُرّنِي! وَقَالَ: قَضَيْت ذِمّةَ أَبِي بَرَاءٍ. وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ: قَدْ عَفَوْت عَنْ عَمّي، هَذَا فِعْلَهُ! وَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ، اهْدِ بَنِي عَامِرٍ وَاطْلُبْ خُفْرَتِي [ (3) ] مِنْ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ.
وَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ حَتّى قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَارَ عَلَى رِجْلَيْهِ أَرْبَعًا، فَلَمّا كَانَ بِصُدُورِ قَنَاةٍ [ (4) ] لَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ، قَدْ كَانَا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَاهُمَا، وَلَهُمَا مِنْهُ أَمَانٌ.
وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ عَمْرٌو، فَقَايَلَهُمَا فَلَمّا نَامَا وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا لِلّذِي أَصَابَتْ بَنُو عَامِرٍ مِنْ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ. ثُمّ قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] العكة: وعاء من جلود مستدير يختص بالسمن والعسل. (النهاية، ج 3، ص 120) .
[ (2) ] الهدم وراء وادي القرى. (معجم البلدان، ج 8، ص 449) .
[ (3) ] الحفرة: الذمة. (النهاية، ج 1، ص 341) .
[ (4) ] فى الأصل: «مياة» . وقناة: أحد أودية المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 363) .(1/351)
فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَقَالَ: أَنْتَ مِنْ بَيْنِهِمْ! وَيُقَالُ إنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ رَجَعَ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَعَثْتُك قَطّ إلّا رَجَعْت إلَيّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِك.
وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي السّرِيّةِ إلّا أَنْصَارِيّ، وَهَذَا الثّبْتُ عِنْدَنَا. وَأَخْبَرَ عَمْرُو النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقْتَلِ الْعَامِرِيّيْنِ فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، قَتَلْت رَجُلَيْنِ كَانَ لَهُمَا مِنّي أَمَانٌ وَجِوَارٌ، لِأَدِيَنّهُمَا! فكتب إليه عامر بن الطّفيل وبعت ونفرا مِنْ أَصْحَابِهِ يُخْبِرُهُ: إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَجِوَارٌ. فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُمَا، دِيَةَ حُرّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ.
حَدّثَنِي مُصْعَبٌ، عَنْ أَبِي أَسْوَدَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: حَرَصَ الْمُشْرِكُونَ بِعُرْوَةَ بْنِ الصّلْتِ أَنْ يُؤَمّنُوهُ فَأَبَى- وَكَانَ ذَا خِلّةٍ بِعَامِرٍ- مَعَ أَنّ قَوْمَهُ بَنِي سُلَيْمٍ [ (1) ] حَرَصُوا عَلَى ذَلِكَ، فَأَبَى وَقَالَ: لَا أَقَبْلُ لَكُمْ أَمَانًا وَلَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ مَصْرَعِ أَصْحَابِي. وَقَالُوا حَيْنَ أُحِيطَ بِهِمْ: اللهُمّ، إنّا لَا نَجِدُ مَنْ يُبَلّغُ رَسُولَك السّلَامَ غَيْرَك، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السّلَامَ- فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ.
تَسْمِيَةُ من استشهد من قريش
مِنْ بَنِي تَيْمٍ: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نَافِعٌ مِنْ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ:
الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، أَمِيرُ الْقَوْمِ، وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ مُعَاذُ بْنُ مَاعِصٍ، وَمِنْ بَنِي النّجّارِ: حَرَامٌ وَسُلَيْمٌ [ (2) ] ابْنَا مِلْحَانَ، ومن بنى عمرو بن مبذول: الحارث
__________
[ (1) ] فى الأصل: «من بنى سليم» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.
[ (2) ] فى الأصل: «حرام وسليمان» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ، وعن ابن عبد البر. (الإستيعاب، ص 648) .(1/352)
ابن الصّمّةِ، وَسَهْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَالطّفَيْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بن مالك: أنس بن معاذ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبُو شَيْخٍ أُبَيّ بْنُ ثَابِتِ ابن الْمُنْذِرِ، وَمِنْ بَنِي دِينَارِ بْنِ النّجّارِ: عَطِيّةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَارْتُثّ مِنْ الْقَتْلَى كَعْبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ- قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: عُرْوَةُ بْنُ الصّلْتِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَمِنْ النّبِيتِ: مَالِكُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ ثَابِتٍ. فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِمّنْ يُحْفَظُ اسْمُهُ سِتّةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَرْثِي نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ، سَمِعْت أَصْحَابَنَا يَنْشُدُونَهَا:
رَحِمَ اللهُ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ ... رَحْمَةَ الْمُبْتَغِي ثَوَابَ الْجِهَادِ
صَارِمٌ صَادِقُ اللّقَاءِ إذَا مَا ... أَكْثَرَ النّاسُ قَالَ قَوْلَ السّدَادِ
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ عَبّاسٍ السّلَمِيّ، وَكَانَ خَالَ طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيّ، وَكَانَ طُعَيْمَةُ يُكْنَى أَبَا الرّيّانِ، خَرَجَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ يُحَرّضُ قَوْمَهُ يَطْلُبُ بِدَمِ ابْنِ أَخِيهِ، حَتّى قَتَلَ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَقَالَ:
تَرَكْت ابْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ ثَاوِيًا ... بِمُعْتَرَكٍ تَسْفِي عَلَيْهِ الْأَعَاصِرُ
ذَكَرْت أَبَا الرّيّانِ لَمّا عَرَفْته ... وَأَيْقَنْت أَنّي يَوْمَ ذَلِكَ ثَائِرُ [ (1) ]
سَمِعْت أَصْحَابَنَا يَثْبُتُونَهَا. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو:
صَلّى الْإِلَهُ على ابن عمرو إنّه ... صَدْقُ اللّقَاءِ وَصَدْقُ ذَلِكَ أَوْفَقُ
قَالُوا لَهُ أَمْرَيْنِ فَاخْتَرْ فِيهِمَا ... فَاخْتَارَ فِي الرّأْيِ الّذِي هُوَ أَرْفَقُ
أَنْشَدَنِي ابْنُ جَعْفَرٍ قَصِيدَةَ حَسّانٍ «سحّا غير نزر» . [ (2) ]
__________
[ (1) ] ثائر: بمعنى آخذ الثأر.
[ (2) ] انظر ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 198) .(1/353)
غَزْوَةُ الرّجِيعِ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ الرّجِيعِ عُيُونًا إلَى مَكّةَ لِيُخْبِرُوهُ خَبَرَ قُرَيْشٍ، فَسَلَكُوا عَلَى النّجْدِيّةِ حَتّى كَانُوا بِالرّجِيعِ فَاعْتَرَضَتْ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صالح، ومحمّد بن يحيى بن سهل ابن أَبِي حَثْمَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ مُحَمّدٍ، فِي رِجَالٍ مِمّنْ لَمْ أُسَمّ [ (1) ] ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِبَعْضِ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت الّذِي حَدّثُونِي، قَالُوا: لَمّا قُتِلَ سُفْيَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ مَشَتْ بَنُو لِحْيَانَ إلَى عَضَلٍ وَالْقَارّةِ، فَجَعَلُوا لَهُمْ فَرَائِضَ عَلَى أَنْ يَقْدَمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُكَلّمُوهُ، فَيُخْرِجَ إلَيْهِمْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ. فَنَقْتُلَ مَنْ قَتَلَ صَاحِبَنَا وَنَخْرُجَ بِسَائِرِهِمْ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ فَنُصِيبَ بِهِمْ ثَمَنًا، فَإِنّهُمْ لَيْسُوا لِشَيْءٍ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُؤْتَوْا بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، يُمَثّلُونَ بِهِ وَيَقْتُلُونَهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ.
فَقَدِمَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارّةِ- وَهُمَا حَيّانِ إلَى خُزَيْمَةَ [ (2) ]- مُقِرّيْنِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ فِينَا إسْلَامًا فَاشِيًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُفَقّهُونَنَا فِي الإسلام.
__________
[ (1) ] فى ت: «لم يسم» .
[ (2) ] قال ابن هشام: عضل والقارة من الهون بن خزيمة بن مدركة. (السيرة النبوية، ج 3، ص 178) .(1/354)
فَبَعَثَ مَعَهُمْ سَبْعَةَ نَفَرٍ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ طَارِقٍ البَلَوِيّ حَلِيفٌ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَأَخَاهُ لِأُمّهِ مُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَلِيفٌ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ بْنِ بلحارث بن الخزرج، وزيد ابن الدّثِنّة مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وَيُقَالُ كَانُوا عَشْرَةً وَأَمِيرُهُمْ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَيُقَالُ أَمِيرُهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. فَخَرَجُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِمَاءٍ لهُذَيْل- يُقَالُ لَهُ الرّجِيعُ قَرِيبٌ مِنْ الْهَدّةِ [ (1) ]- خَرَجَ النّفَرُ فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ الّذِينَ بَعَثَهُمْ اللّحْيَانِيّونَ، فَلَمْ يُرَعْ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا بِالْقَوْمِ، مِائَةُ رَامٍ وَفِي أَيْدِيهمْ السّيُوفُ. فَاخْتَرَطَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْيَافَهُمْ ثُمّ قَامُوا، فَقَالَ الْعَدُوّ: مَا نُرِيدُ قِتَالَكُمْ، وَمَا نُرِيدُ إلّا أَنْ نُصِيبَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ثَمَنًا، وَلَكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ لَا نقتلكم، فأما خبيب بن عدىّ، وزيد ابن الدّثِنّة، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ طَارِقٍ، فَاسْتَأْسَرُوا. وَقَالَ خُبَيْبٌ: إنّ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدًا. وَأَمّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَرْثَدٌ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي البكير، ومعتب ابن عُبَيْدٍ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا جِوَارَهُمْ وَلَا أَمَانَهُمْ. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: إنّي نَذَرْت أَلّا أَقْبَلَ جِوَارَ مُشْرِكٍ أَبَدًا. فَجَعَلَ عَاصِمٌ يُقَاتِلُهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:
مَا عِلّتِي وَأَنَا جَلْدٌ نَابِلُ ... النّبْلُ وَالْقَوْسُ لَهَا بَلَابِلُ [ (2) ]
تَزِلّ عَنْ صَفْحَتِهَا الْمَعَابِلُ ... الْمَوْتُ حَقّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلُ
وَكُلّ مَا حَمّ الْإِلَهُ نَازِلُ ... بِالْمَرْءِ وَالْمَرْءُ إلَيْهِ آئِلُ
إن لم أقاتلكم فأمّى هابل [ (3) ]
__________
[ (1) ] يروى بتخفيف الدال وتشديدها. قال ابن سراج: أراد الهدأة فنقل الحركة، فهو مخفف على هذا. (شرح أبى ذر، ص 276) .
[ (2) ] بلابل: جمع بلبلة وبلبال، وهو شدة الهم. (القاموس المحيط، ج 3، ص 337) .
[ (3) ] هابل: أى فاقدة، يقال هبلته أمه إذا فقدته. (شرح أبى ذر، ص 276) .(1/355)
قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَا رَأَيْت مِنْ أَصْحَابِنَا أَحَدًا يَدْفَعُهُ. قَالَ: فَرَمَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَتْ نَبْلُهُ، ثُمّ طَاعَنَهُمْ بِالرّمْحِ حَتّى كُسِرَ رُمْحُهُ، وَبَقِيَ السّيْفُ فَقَالَ:
اللهُمّ حَمَيْت دِينَك أَوّلَ نَهَارِي فَاحْمِ لِي لَحْمِي آخِرَهُ! وَكَانُوا يُجَرّدُونَ كُلّ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ: فَكُسِرَ غِمْدُ سَيْفِهِ ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ، وَقَدْ جَرَحَ رَجُلَيْنِ وَقَتَلَ وَاحِدًا. فَقَالَ عَاصِمٌ وَهُوَ يُقَاتِل:
أَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ وَمِثْلِي رَامَى ... وَرِثْت مَجْدًا مَعْشَرًا كِرَامًا
أَصَبْت مَرْثَدًا وَخَالِدًا قِيَامًا [ (1) ]
ثُمّ شَرَعُوا فِيهِ الْأَسِنّةَ حَتّى قَتَلُوهُ. وَكَانَتْ سُلَافَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الشّهِيدِ.
قَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَبَنُوهَا أَرْبَعَةٌ، قَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ، الْحَارِثُ، وَمُسَافِعًا، فَنَذَرَتْ لَئِنْ أَمْكَنَهَا اللهُ مِنْهُ أَنْ تَشْرَبَ فِي قِحْفِ [ (2) ] رَأْسِهِ الْخَمْرَ، وَجَعَلَتْ لِمَنْ جَاءَ بِرَأْسِ عَاصِمٍ مِائَةَ نَاقَةٍ، قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكَ الْعَرَبُ وَعَلِمَتْهُ بَنُو لِحْيَانَ فَأَرَادُوا أَنْ يَحْتَزّوا رَأْسَ عَاصِمٍ لِيَذْهَبُوا بِهِ إلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ لِيَأْخُذُوا مِنْهَا مِائَةَ نَاقَةٍ. فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الدّبْرَ فَحَمَتْهُ فَلَمْ يَدْنُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلّا لَدَغَتْ وَجْهَهُ، وَجَاءَ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِهِ. فَقَالُوا: دَعُوهُ إلَى اللّيْلِ، فَإِنّهُ إذَا جَاءَ اللّيْلُ ذَهَبَ عَنْهُ الدّبْرُ. فَلَمّا جَاءَ اللّيْلُ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِ سَيْلًا- وَكُنّا مَا نَرَى فِي السّمَاءِ سَحَابًا فِي وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ- فَاحْتَمَلَهُ فَذَهَبَ بِهِ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وَهُوَ يَذْكُرُ عَاصِمًا- وَكَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَلّا يَمَسّ مُشْرِكًا وَلَا يَمَسّهُ مُشْرِكٌ تَنَجّسًا بِهِ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ لَيَحْفَظُ. الْمُؤْمِنِينَ، فَمَنَعَهُ اللهُ عَزّ وجلّ أن
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وجلده قياما» ، وفى ت: «أصيب مرثد وخالد قياما» ، وما أثبتناه هو قراءة ب.
[ (2) ] القحف: العظم الذي فوق الدماغ. (الصحاح، ص 1413) .(1/356)
يَمَسّوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ فِي حَيَاتِهِ.
وَقَاتَلَ مُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ حَتّى جُرِحَ فِيهِمْ، ثُمّ خَلَصُوا إلَيْهِ فَقَتَلُوهُ.
وَخَرَجُوا بِخُبَيْبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ طَارِقٍ، وَزَيْدِ بْنِ الدّثِنّة حَتّى إذَا كَانُوا بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَهُمْ مُوثَقُونَ بِأَوْتَارِ قِسِيّهِمْ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ طَارِقٍ: هَذَا أَوّلُ الْغَدْرِ! وَاَللهِ لَا أُصَاحِبُكُمْ، إنّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةٌ- يَعْنِي الْقَتْلَى. فَعَالَجُوهُ فَأَبَى، وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ رِبَاطِهِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَانْحَازُوا عَنْهُ فَجَعَلَ يَشُدّ فِيهِمْ وَيَنْفَرِجُونَ عَنْهُ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قَتَلُوهُ- فَقَبْرُهُ بِمَرّ الظّهْرَانِ. وَخَرَجُوا بِخُبَيْبِ بْنِ عُدّيّ، وَزَيْدِ بْنِ الدّثِنّة حَتّى قَدِمُوا بِهِمَا مَكّةَ، فَأَمّا خُبَيْبٌ فَابْتَاعَهُ حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إهَابٍ بِثَمَانِينَ مِثْقَالِ ذَهَبٍ. وَيُقَالُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ فَرِيضَةً [ (1) ] ، وَيُقَالُ اشْتَرَتْهُ ابْنَةُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ.
وَكَانَ حُجَيْرُ إنّمَا اشْتَرَاهُ لِابْنِ أَخِيهِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَمّا زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، فَاشْتَرَاهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بِخَمْسِينَ فَرِيضَةً فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ، وَيُقَالُ إنّهُ شَرِكَ فِيهِ أُنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلَ بِهِمَا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَحُبِسَ حُجَيْرُ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيّ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا مَاوِيّةُ، مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَحَبَسَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ زَيْدَ بْنَ الدّثِنّة عِنْدَ نَاسٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، وَيُقَالُ عِنْدَ نِسْطَاسٍ غُلَامِهِ. وَكَانَتْ مَاوِيّةُ قَدْ أَسْلَمَتْ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ: وَاَللهِ مَا رَأَيْت أَحَدًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ. وَاَللهِ لَقَدْ اطّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ [ (2) ] الْبَابِ وَإِنّهُ لَفِي الْحَدِيدِ، مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ حَبّةَ عِنَبٍ تُؤْكَلُ، وَإِنّ فِي يَدِهِ لَقِطْفَ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَمَا هُوَ إلّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ. وَكَانَ خُبَيْبٌ يتهجّد بالقرآن،
__________
[ (1) ] الفريضة: البعير المأخوذ فى الزكاة، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة فى غير الزكاة. (النهاية، ج 3، ص 194) .
[ (2) ] الصير: شق الباب. (النهاية، ج 3، ص 8) .(1/357)
وَكَانَ يَسْمَعُهُ النّسَاءُ فَيَبْكِينَ وَيُرَقّقْنَ عَلَيْهِ. قَالَتْ، فَقُلْت لَهُ: يَا خُبَيْبُ، هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: لَا، إلّا أَنْ تَسْقِيَنِي الْعَذْبَ، وَلَا تُطْعِمِينِي مَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ، وَتُخْبِرِينِي إذَا أَرَادُوا قَتْلِي. قَالَتْ: فَلَمّا انْسَلَخَتْ الْأَشْهُرُ الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فو الله مَا رَأَيْته اكْتَرَثَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: ابْعَثِي لِي بِحَدِيدَةٍ أَسْتَصْلِحْ بِهَا. قَالَتْ: فَبَعَثْت إلَيْهِ مُوسَى مَعَ ابْنَيْ أَبِي حُسَيْنٍ، فَلَمّا وَلّى الْغُلَامُ قُلْت: أَدْرَكَ وَاَللهِ الرّجُلُ ثَأْرَهُ، أَيّ شَيْءٍ صَنَعْت؟ بَعَثْت هَذَا الْغُلَامَ بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ، فَيَقْتُلُهُ وَيَقُولُ «رَجُلٌ بِرَجُلٍ» .
فَلَمّا أَتَاهُ ابْنِي بِالْحَدِيدَةِ تَنَاوَلَهَا مِنْهُ ثُمّ قَالَ مُمَازِحًا لَهُ: وَأَبِيك إنّك لَجَرِيءٌ! أَمَا خَشِيَتْ أُمّك غَدِرِي حَيْنَ بَعَثْت مَعَك بِحَدِيدَةٍ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلِي؟
قَالَتْ مَاوِيّةُ: وَأَنَا أَسْمَعُ ذَلِكَ فَقُلْت: يَا خُبَيْبُ، إنّمَا أَمّنْتُك بِأَمَانِ اللهِ وَأَعْطَيْتُك بِإِلَهِك، وَلَمْ أُعْطِك لِتَقْتُلَ ابْنِي. فَقَالَ خُبَيْبٌ: مَا كُنْت لِأَقْتُلَهُ، وَمَا نَسْتَحِلّ فِي دِينِنَا الْغَدْرَ. ثُمّ أَخْبَرَتْهُ أَنّهُمْ مُخْرِجُوهُ فَقَاتَلُوهُ بِالْغَدَاةِ. قَالَ:
فَأَخْرَجُوهُ بِالْحَدِيدِ حَتّى انْتَهَوْا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ [ (1) ] ، وَخَرَجَ مَعَهُ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ أَحَدٌ، إمّا مَوْتُورٌ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَشَافَى بِالنّظَرِ مِنْ وِتْرِهِ، وَإِمّا غَيْرُ مَوْتُورٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. فَلَمّا انْتَهَوْا بِهِ إلَى التّنْعِيمِ، وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة، فَأَمَرُوا بِخَشَبَةٍ طَوِيلَةٍ فَحَفَرَ لَهَا، فَلَمّا انْتَهَوْا بِخُبَيْبٍ إلَى خَشَبَتِهِ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ تَارِكِيّ فَأُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ؟
قَالُوا: نَعَمْ. فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمّهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَوّلَ فِيهِمَا.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَوّلُ مَنْ سَنّ الرّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القتل خبيب.
__________
[ (1) ] التنعيم: هو عند طرف حرم مكة من جهة المدينة على ثلاثة أميال، وقيل أربعة، من مكّة. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 83) .(1/358)
قَالُوا: ثُمّ قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا أَنْ تَرَوْا أَنّي جَزِعْت مِنْ الْمَوْتِ لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الصّلَاةِ. ثُمّ قَالَ: اللهُمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا [ (1) ] ، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ حَضَرْت دَعْوَتَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ لَيُضْجِعَنِي إلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ، وَلَقَدْ جَبَذَنِي يَوْمَئِذٍ أَبُو سُفْيَانَ جَبْذَةً، فَسَقَطْت عَلَى عَجْبِ ذَنَبِي فَلَمْ أَزَلْ أَشْتَكِي السّقْطَةَ زَمَانًا.
وَقَالَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَدْخَلْت إصْبَعِي فِي أُذُنِي وَعَدَوْت هَرَبًا فَرَقًا أَنْ أَسْمَعَ دُعَاءَهُ.
وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَتَوَارَى بِالشّجَرِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْت جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمَئِذٍ أَتَسَتّرُ بِالرّجَالِ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُشْرِفَ لِدَعْوَتِهِ.
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ بَرْصَاءَ: وَاَللهِ مَا ظَنَنْت أَنْ تُغَادِرَ دَعْوَةُ خُبَيْبٍ مِنْهُمْ أَحَدًا.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمّدٍ الْأَخْنَسِيّ، قَالَ:
اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ [ (2) ] الْجُمَحِيّ عَلَى حِمْصَ، وَكَانَتْ تُصِيبُهُ، غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَسَأَلَهُ فِي قَدْمَةٍ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ حَمْصَ فَقَالَ: يا سعيد،
__________
[ (1) ] قال ابن الأثير: يروى بكسر الباء جمع بدة وهي الحصة والنصيب، أى اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد حصته ونصيبه. ويروى بالفتح، أى متفرقين فى القتل واحدا بعد واحد، من التبديد. (النهاية، ج 1، ص 65) .
[ (2) ] فى الأصل: «حديم» ، وفى ب: «جذيم» . ما أثبتناه عن ت، وعن ابن سعد. (الطبقات، ج 7، ص 125) .(1/359)
ما الّذِي يُصِيبُك؟ أَبِك جُنّةٌ؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنّي كُنْت فِيمَنْ حضر خبيبا حين قتل وسمعت دعوته، فو الله مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ إلّا غُشِيَ عَلَيّ. قَالَ: فَزَادَتْهُ عِنْدَ عُمَرَ خَيْرًا.
وَحَدّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُمّانَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، قَالَ: حَضَرْت يَوْمَئِذٍ دَعْوَةَ خُبَيْبٍ، فَمَا كُنْت أَرَى أَنّ أَحَدًا مِمّنْ حَضَرَ يَنْفَلِت مِنْ دَعْوَتِهِ، وَلَقَدْ كُنْت قَائِمًا فَأَخْلَدْت إلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَتِهِ، وَلَقَدْ مَكَثَتْ قُرَيْشٌ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ وَمَا لَهَا حَدِيثٌ فِي أَنْدِيَتِهَا إلّا دَعْوَةَ خُبَيْبٍ.
قَالُوا: فَلَمّا صَلّى الرّكْعَتَيْنِ حَمَلُوهُ إلَى الْخَشَبَةِ، ثُمّ وَجّهُوهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، ثُمّ قَالُوا: ارْجِعْ عَنْ الْإِسْلَامِ، نُخْلِ سَبِيلَك! قَالَ: لَا وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنّي رَجَعْت عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَنّ لِي مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا! قَالُوا: فَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا فِي مَكَانِك وَأَنْتَ جَالِسٌ فِي بَيْتِك؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنْ يُشَاكَ مُحَمّدٌ بِشَوْكَةٍ وَأَنَا جَالِسٌ فِي بَيْتِي. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: ارْجِعْ يَا خُبَيْبُ! قال: لا أرجع أبدا! قالوا: أما واللّات وَالْعُزّى، لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَقْتُلَنّكَ! فَقَالَ: إنّ قَتْلِي فِي اللهِ لَقَلِيلٌ! فَلَمّا أَبَى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَعَلُوا وَجْهَهُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، قَالَ: أَمّا صَرْفُكُمْ وَجْهِي عَنْ الْقِبْلَةِ، فَإِنّ اللهَ يَقُولُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ... [ (1) ] . ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّي لَا أَرَى إلّا وَجْهَ عَدُوّ، اللهُمّ إنّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ يُبَلّغُ رَسُولَك السّلَامَ عَنّي، فَبَلّغْهُ أَنْتَ عَنّي السّلَامَ!
فَحَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَتْهُ غَمْيَةٌ [ (2) ] كَمَا كَانَ يأخذه إذا أنزل عليه
__________
[ (1) ] سورة 2 البقرة 115.
[ (2) ] الغمية: الغشية. (القاموس المحيط، ج 4، ص 371) .(1/360)
الْوَحْيُ. قَالَ: ثُمّ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ «وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ» ، ثُمّ قَالَ «هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ السّلَامَ» .
قَالَ: ثُمّ دَعَوْا أَبْنَاءً مِنْ أَبْنَاءِ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ فَوَجَدُوهُمْ أَرْبَعِينَ غُلَامًا، فَأَعْطَوْا كُلّ غُلَامٍ رُمْحًا، ثُمّ قَالُوا: هَذَا الّذِي قَتَلَ آبَاءَكُمْ. فَطَعَنُوهُ بِرِمَاحِهِمْ طَعْنًا خَفِيفًا، فَاضْطَرَبَ عَلَى الْخَشَبَةِ فَانْقَلَبَ، فَصَارَ وَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ وَجْهِي نَحْوَ قِبْلَتِهِ الّتِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَلِنَبِيّهِ وَلِلْمُؤْمِنَيْنِ! وَكَانَ الّذِينَ أَجَلَبُوا عَلَى قَتْلِ خُبَيْبٍ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّ. وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ مِمّنْ حَضَرَ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاَللهِ مَا أَنَا قَتَلْت خُبَيْبًا إنْ كُنْت يَوْمَئِذٍ لَغُلَامًا صَغِيرًا. وَلَكِنّ رجلا من بنى عبد الدار يُقَالُ لَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ مِنْ عَوْفِ بْنِ السّبّاقِ أَخَذَ بِيَدِي فَوَضَعَهَا عَلَى الْحَرْبَةِ، ثُمّ أَمْسَكَ بِيَدِي ثُمّ جَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ حَتّى قَتَلَهُ، فَلَمّا طَعَنَهُ بِالْحَرْبَةِ أَفْلَتْ، فَصَاحُوا: يَا أَبَا سِرْوَعَةَ، بِئْسَ مَا طَعَنَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ! فَطَعَنَهُ أَبُو سِرْوَعَةَ حَتّى أَخَرَجَهَا مِنْ ظَهْرِهِ، فَمَكَثَ سَاعَةً يُوَحّدُ اللهَ وَيَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ.
يَقُولُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ: لَوْ تَرَكَ ذِكْرَ مُحَمّدٍ عَلَى حَالٍ لَتَرَكَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، مَا رَأَيْنَا قَطّ وَالِدًا يَجِدُ بِوَلَدِهِ مَا يَجِدُ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ بِمُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ الدّثِنّة عِنْدَ آلِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ مَحْبُوسًا فِي حَدِيدٍ، وَكَانَ يَتَهَجّدُ بِاللّيْلِ وَيَصُومُ النّهَارَ، وَلَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِمّا أُتِيَ بِهِ مِنْ الذّبَائِحِ. فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى صَفْوَانَ، وَكَانُوا قَدْ أَحْسَنُوا إسَارَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ صَفْوَانُ: فَمَا الّذِي تَأْكُلُ مِنْ الطّعَامِ؟ قَالَ: لَسْت آكُلُ مِمّا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَكِنّي أَشْرَبُ اللّبَنَ. وَكَانَ يَصُومُ، فَأَمَرَ لَهُ صَفْوَانُ بِعُسّ مِنْ لَبَنٍ(1/361)
عند فطره فيشرب منه حتى يكون بمثلها مِنْ الْقَابِلَةِ. فَلَمّا خَرَجَ بِهِ وَبِخُبَيْبٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ الْتَقَيَا، وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ [ (1) ] مِنْ النّاسِ، فَالْتَزَمَ كُلّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَأَوْصَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالصّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ، ثُمّ افْتَرَقَا. وَكَانَ الّذِي وَلِيَ قَتْلَ زَيْدٍ نِسْطَاسٌ غُلَامُ صَفْوَانَ، خَرَجَ بِهِ إلَى التّنْعِيمِ فَرَفَعُوا لَهُ جَذَعًا [ (2) ] ، فَقَالَ: أُصَلّي رَكْعَتَيْنِ! فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ حَمَلُوهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، ثُمّ جَعَلُوا يَقُولُونَ لِزَيْدٍ: ارْجِعْ عَنْ دِينِك الْمُحْدَثِ وَاتّبِعْ دِينَنَا، وَنُرْسِلَك! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أُفَارِقُ دِينِي أَبَدًا! قَالُوا: أَيَسُرّك أَنّ مُحَمّدًا فِي أَيْدِينَا مَكَانَك وَأَنْتَ فِي بَيْتِك؟ قَالَ: مَا يَسُرّنِي أَنّ مُحَمّدًا أُشِيكَ بِشَوْكَةٍ وَأَنّي فِي بَيْتِي! قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا، مَا رَأَيْنَا أَصْحَابَ رَجُلٍ قَطّ أَشَدّ لَهُ حُبّا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بِمُحَمّدٍ. وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، صَحِيحَةٌ سَمِعْتهَا مِنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ:
فَلَيْتَ خُبَيْبًا لَمْ تَخُنْهُ أَمَانَةٌ ... وَلَيْتَ خُبَيْبًا كَانَ بِالْقَوْمِ عَالِمًا
شَرَاهُ [ (3) ] زُهَيْرُ بْنُ الْأَغَرّ وَجَامِعٌ [ (4) ] ... وَكَانَا قديما يركبان المحار ما
أَجَرْتُمْ فَلَمّا أَنْ أَجَرْتُمْ غَدَرْتُمْ ... وَكُنْتُمْ بِأَكْنَافِ الرّجِيعِ اللهَازِمَا [ (5) ]
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثَبْتٌ قديمة [ (6) ] :
__________
[ (1) ] فى الأصل: «قيام» ، والتصحيح عن سائر النسخ. والفئام: الجماعة من الناس. (الصحاح،.
ص 2000) .
[ (2) ] فى ب: «جدعا» .
[ (3) ] شرى هنا بمعنى باع، وهو من الأضداد. (شرح أبى ذر، ص 281) .
[ (4) ] قال ابن هشام: زهير بن الأغر وجامع، الهذليان اللذان باعا خبيبا. (السيرة النبوية، ج 3، ص 188) .
[ (5) ] اللهازم: يعنى به الضعفاء الفقراء، وأصل اللهزمتين مضيغتان تكونان فى الحنك واحدتها لهزمة والجمع لهازم، فشبههم بها لحقارتها. (شرح أبى ذر، ص 281) .
[ (6) ] فى الأصل: «بيت قديمة» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ.(1/362)
لَوْ كَانَ فِي الدّارِ قَرْمٌ [ (1) ] ذُو مُحَافَظَةٍ ... حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاضٍ خَالُهُ أَنَسُ [ (2) ]
إذَنْ حَلَلْت خُبَيْبًا مَنْزِلًا فُسُحًا [ (3) ] ... وَلَمْ يُشَدّ عَلَيْك الْكَبْلُ [ (4) ] وَالْحَرَسُ
وَلَمْ تَقُدْك إلَى التّنْعِيمِ زِعْنِفَةٌ [ (5) ] ... مِنْ الْمَعَاشِرِ مِمّنْ قَدْ نَفَتْ عُدَس [ (6) ]
فَاصْبِرْ خُبَيْبُ فَإِنّ الْقَتْلَ مَكْرَمَةٌ ... إلَى جِنَانِ نَعِيمٍ تَرْجِعُ النّفْسُ
دَلّوك [ (7) ] غَدْرًا وَهُمْ فِيهَا أُولُو خُلُفٍ ... وَأَنْتَ ضَيْفٌ لَهُمْ فِي الدّارِ مُحْتَبَسُ
غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَهْلٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، فِي رِجَالٍ مِمّنْ لَمْ أُسَمّهِمْ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْت كُلّ الّذِي حَدّثُونِي، قالوا: أقبل عمرو ابن أُمَيّةَ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ حَتّى كَانَ بِقَنَاةٍ، فَلَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَنَسَبَهُمَا فَانْتَسَبَا، فَقَابَلَهُمَا [ (8) ] حَتّى إذَا نَامَا وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا. ثم خرج حتى
__________
[ (1) ] القوم: السيد، وأصله الفحل من الإبل. (شرح أبى ذر، ص 280) .
[ (2) ] قال ابن هشام: أنس الأصم السلمى، خال مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف. (السيرة النبوية، ج 3، ص 188) .
[ (3) ] فسح: واسع. (الصحاح، ص 391) .
[ (4) ] فى الأصل: «الكتل» ، وما أثبتناه عن سائر النسخ. والكبل: القيد الضخم. (النهاية، ج 4، ص 6) .
[ (5) ] الزعنفة: الذين ينتمون إلى القبائل ويكونون أتباعا لهم، وأصل الزعنفة الأطراف والأكارع التي تكون فى الجلد. (شرح أبى ذر، ص 280) .
[ (6) ] قال ابن هشام: يعنى حجير بن أبى إهاب، ويقال الأعشى بن زرارة بن النباش الأسدى، وكان حليفا البنى نوفل بن عبد مناف. (السيرة النبوية، ج 3، ص 188) .
[ (7) ] دلوك: أى غروك ومنه قوله تعالى (فدلاهما بغرور) . (شرح أبى ذر، ص 280) .
[ (8) ] فى ب: «فقايلهما» .(1/363)
وَرَدَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي قَدْرِ حَلْبِ شَاةٍ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، قَدْ كَانَ لَهُمَا مِنّا أَمَانٌ وَعَهْدٌ!
فَقَالَ: مَا شَعَرْت، كُنْت أَرَاهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا، وَكَانَ قَوْمُهُمَا قَدْ نَالُوا مِنّا مَا نَالُوا مِنْ الْغَدْرِ بِنَا. وَجَاءَ بِسَلَبِهِمَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُزِلَ سَلَبُهُمَا حَتّى بُعِثَ بِهِ مع ديتهما. وذلك أنّ عامر ابن الطّفَيْلِ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِي، وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَعَهْدٌ، فَابْعَثْ بِدِيَتِهِمَا إلَيْنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي دِيَتِهِمَا، وَكَانَتْ بَنُو النّضِيرِ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَامِرٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ السّبْتِ فَصَلّى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمّ جَاءَ بَنِي النّضِيرِ فَيَجِدُهُمْ فِي نَادِيهِمْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَكَلّمَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعِينُوهُ فِي دِيَةِ الْكِلَابِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ. فَقَالُوا: نَفْعَلُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا أَحْبَبْت.
قَدْ أَنَى لَك أَنْ تَزُورَنَا وَأَنْ تَأْتِيَنَا، اجْلِسْ حَتّى نُطْعِمَك! وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَنِدٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَتَنَاجَوْا، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمّدٌ فِي نَفِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَبْلُغُونَ عَشْرَةً- وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيّ، وَالزّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- فَاطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَاقْتُلُوهُ، فَلَنْ تَجِدُوهُ أَخْلَى مِنْهُ السّاعَةَ! فَإِنّهُ إنْ قُتِلَ تَفَرّقَ أَصْحَابُهُ، فَلَحِقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بِحَرَمِهِمْ، وَبَقِيَ مَنْ هَاهُنَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حُلَفَاؤُكُمْ، فَمَا كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ فَمِنْ الْآنَ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشٍ: أَنَا أَظْهَرُ عَلَى الْبَيْتِ(1/364)
فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي هَذِهِ الْمَرّةَ وَخَالِفُونِي الدّهْرَ! وَاَللهِ إنْ فَعَلْتُمْ لَيُخْبَرَنّ بِأَنّا قَدْ غَدَرْنَا بِهِ، وَإِنّ هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ الّذِي بَيْنَنَا وبينه، فلا تفعلوا! ألا فو الله لَوْ فَعَلْتُمْ الّذِي تُرِيدُونَ لَيَقُومَنّ بِهَذَا الدّينِ مِنْهُمْ قَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَسْتَأْصِلُ الْيَهُودَ وَيُظْهِرُ دِينَهُ! وَقَدْ هَيّأَ [ (1) ] الصّخْرَةَ لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْدُرَهَا، فَلَمّا أَشْرَفَ بِهَا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا هَمّوا بِهِ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا كَأَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً، وَتَوَجّهَ إلَى الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ يَتَحَدّثُونَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُ قَامَ يَقْضِي حَاجَةً، فَلَمّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا مُقَامُنَا هَا هُنَا بِشَيْءٍ، لَقَدْ وَجّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرٍ. فَقَامُوا، فَقَالَ حُيَيّ: عَجّلَ أَبُو الْقَاسِمِ! قَدْ كُنّا نُرِيدُ أَنْ نَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَنُغَدّيَهُ. وَنَدِمَتْ الْيَهُودُ عَلَى مَا صَنَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ كِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ [ (2) ] : هَلْ تَدْرُونَ لِمَ قَامَ مُحَمّدٌ؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ، مَا نَدْرِي وَمَا تَدْرِي أَنْتَ! قَالَ: بَلَى وَالتّوْرَاةِ، إنّي لَأَدْرِي، قَدْ أُخْبِرَ مُحَمّدٌ مَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ، فَلَا تَخْدَعُوا أَنَفْسَكُمْ، وَاَللهِ إنّهُ لَرَسُولُ اللهِ، وَمَا قَامَ إلّا أَنّهُ أُخْبِرَ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ. وَإِنّهُ لَآخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي هَارُونَ فَجَعَلَهُ اللهُ حَيْثُ شَاءَ. وَإِنّ كُتُبَنَا وَاَلّذِي دَرَسْنَا فِي التّوْرَاةِ التي لم غير وَلَمْ تُبَدّلْ أَنّ مَوْلِدَهُ بِمَكّةَ وَدَارَ هِجْرَتِهِ يَثْرِبُ، وَصِفَتُهُ بِعَيْنِهَا مَا تُخَالِفُ حَرْفًا مِمّا فِي كِتَابِنَا، وَمَا يَأْتِيكُمْ [بِهِ] أَوْلَى مِنْ مُحَارَبَتِهِ إيّاكُمْ، وَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْكُمْ ظَاعِنِينَ، يَتَضَاغَى [ (3) ] صبيانكم، قد تركتم دوركم خلوفا
__________
[ (1) ] أى وقد هيأ عمرو بن جحاش.
[ (2) ] فى الأصل: «صبورا» وفى ت: «صوير» . وما أثبتناه من نسخة ب، ومن الطبري عن الواقدي. (تاريخ الرسول والملوك، ص 1450) .
[ (3) ] التضاغى: الصياح. (النهاية، ج 3، ص 21) .(1/365)
وَأَمْوَالَكُمْ، وَإِنّمَا هِيَ شَرَفُكُمْ، فَأَطِيعُونِي فِي خُصْلَتَيْنِ، وَالثّالِثَةُ لَا خَيْرَ فِيهَا! قَالُوا: مَا هُمَا؟ قَالَ: تُسْلِمُونَ وَتَدْخُلُونَ مَعَ مُحَمّدٍ، فَتَأْمَنُونَ عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، وَتَكُونُونَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ، وَتَبْقَى بِأَيْدِيكُمْ أَمْوَالُكُمْ، وَلَا تُخْرَجُونَ [ (1) ] مِنْ دِيَارِكُمْ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَعَهْدَ مُوسَى! قَالَ: فَإِنّهُ مُرْسَلٌ إلَيْكُمْ: اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَقُولُوا نَعَمْ- فَإِنّهُ لَا يَسْتَحِلّ لَكُمْ دَمًا وَلَا مَالًا- وَتَبْقَى أَمْوَالُكُمْ، إنْ شِئْتُمْ بِعْتُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ.
قَالُوا: أَمّا هَذَا فَنَعَمْ. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ إنّ الْأُخْرَى خَيْرُهُنّ لِي. قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا [ (2) ] أَنّي أَفْضَحُكُمْ لَأَسْلَمْت. وَلَكِنْ وَاَللهِ لَا تُعَيّرُ شَعْثَاءُ بِإِسْلَامِي أَبَدًا حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكُمْ- وَابْنَتُهُ شَعْثَاءُ الّتِي كَانَ حَسّانٌ يَنْسِبُ [ (3) ] بِهَا.
فَقَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: قَدْ كُنْت لِمَا صَنَعْتُمْ كَارِهًا، وَهُوَ مُرْسِلٌ إلَيْنَا أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ دَارِي، فَلَا تُعَقّبْ يَا حُيَيّ كَلَامَهُ، وَأَنْعِمْ لَهُ بِالْخُرُوجِ، فَاخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ! قَالَ: أَفْعَلُ، أَنَا أَخْرُجُ! فَلَمّا رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَقَوْا رَجُلًا خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ: هَلْ لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: لَقِيته بِالْجِسْرِ دَاخِلًا. فَلَمّا انْتَهَى أَصْحَابُهُ إلَيْهِ وَجَدُوهُ قَدْ أَرْسَلَ إلى محمّد ابن مَسْلَمَةَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُمْت وَلَمْ نَشْعُرْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَمّتْ الْيَهُودُ بِالْغَدْرِ بِي، فَأَخْبَرَنِي اللهُ بِذَلِكَ فَقُمْت.
وَجَاءَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى يَهُودِ بَنِي النّضِيرِ فَقُلْ لَهُمْ، إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِه. فَلَمّا جَاءَهُمْ قَالَ: إنّ رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ بِرِسَالَةٍ، وَلَسْت أَذْكُرُهَا لَكُمْ حَتّى أُعَرّفَكُمْ شَيْئًا تَعْرِفُونَهُ.
__________
[ (1) ] فى كل النسخ: «ولا تخرجوا» ، والمثبت هو الصحيح.
[ (2) ] فى ت: «لولا أن» .
[ (3) ] فى ب، ت: «يشبب» .(1/366)
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِالتّوْرَاةِ الّتِي أَنَزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّي جِئْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَكُمْ التّوْرَاةُ، فَقُلْتُمْ لِي فِي مَجْلِسِكُمْ هَذَا: يَا ابْنَ مَسْلَمَةَ، إنْ شِئْت أَنْ نُغَدّيَك غَدّيْنَاك، وَإِنْ شِئْت أَنّ نُهَوّدَك هَوّدْنَاك. فَقُلْت لَكُمْ: غَدّونِي وَلَا تُهَوّدُونِي، فَإِنّي وَاَللهِ لَا أَتَهَوّدُ أَبَدًا! فَغَدّيْتُمُونِي فِي صَحْفَةٍ لَكُمْ، وَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهَا كَأَنّهَا جَزْعَةٌ [ (1) ] ، فَقُلْتُمْ لِي:
مَا يَمْنَعُك مِنْ دِينِنَا إلّا أَنّهُ دِينُ يَهُودَ. كَأَنّك تُرِيدُ الْحَنِيفِيّةَ الّتِي سَمِعْت بِهَا، أَمَا إنّ أَبَا عَامِرٍ قَدْ سَخِطَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا، أَتَاكُمْ صَاحِبُهَا الضّحُوكُ الْقَتّالُ، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، يَرْكَبُ الْبَعِيرَ وَيَلْبَسُ الشّمْلَةَ، وَيَجْتَزِئُ بِالْكِسْرَةِ، سَيْفُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، لَيْسَتْ مَعَهُ آيَةٌ، هُوَ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ، كَأَنّهُ وَشِيجَتُكُمْ [ (2) ] هَذِهِ، وَاَللهِ لَيَكُونَنّ بِقَرْيَتِكُمْ هَذِهِ سَلَبٌ وَقَتْلٌ وَمَثْلٌ! قَالُوا: اللهُمّ نَعَمْ، قَدْ قُلْنَاهُ لَك وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ. قَالَ: قَدْ فَرَغْت،
إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ يَقُولُ لَكُمْ: قَدْ نَقَضْتُمْ الْعَهْدَ الّذِي جَعَلْت لَكُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ بِي! وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا كَانُوا ارْتَأَوْا مِنْ الرّأْيِ وَظُهُورِ عَمْرِو بْنِ جَحّاشٍ عَلَى الْبَيْتِ يَطْرَحُ الصّخْرَةَ، فَأَسْكَتُوا فَلَمْ يَقُولُوا حَرْفًا. وَيَقُولُ: اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَقَدْ أَجّلْتُكُمْ عَشْرًا فَمَنْ رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْت عُنُقَهُ!
قَالُوا: يَا مُحَمّدُ، مَا كُنّا نَرَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا رَجُلٌ عن الْأَوْسِ. قَالَ مُحَمّدٌ: تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ. فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيّامًا يَتَجَهّزُونَ وَأَرْسَلُوا إلَى ظَهْرٍ لَهُمْ بذي المجدر [ (3) ] تجلب، وتكاروا من ناس من أشجع
__________
[ (1) ] الجزعة: الحرزة. (القاموس المحيط، ج 3، ص 13) .
[ (2) ] كلمة غامضة شكلها فى الأصل: «وسيحيكم» ، وفى ب، ت: «وسيختكم» .
ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات، والوشيجة: الرحم المشتبكة (تاج العروس، ج 2، ص 111) . ولعل أراد بها جماعة اليهود المتواشجة أو أصلها. قال زهير بن أبى سلمى: وهل ينبت الخطى إلا وشيجه* وتغرس إلا فى منابتها النخل.
(ديوانه، ص 115) .
[ (3) ] فى ت: «بذي الحدر» ، وما أثبتناه من سائر النسخ، وهو مسرح على ستة أميال من المدينة بناحية قباء كما قال السمهودي. (وفاء الوفا، ج 2، ص 279) .(1/367)
[إبِلًا] [ (1) ] وَأَخَذُوا [ (2) ] فِي الْجَهَازِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذلك إذا جَاءَهُمْ رَسُولُ ابْنِ أُبَيّ، أَتَاهُمْ سُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ فَقَالَا: يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ: لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ، فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ، وَتَمُدّكُمْ قُرَيْظَةُ فَإِنّهُمْ لَنْ يَخْذُلُوكُمْ، وَيَمُدّكُمْ حُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ. وَأَرْسَلَ ابْنُ أُبَيّ إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ يُكَلّمُهُ أَنْ يَمُدّ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: لَا يَنْقُضُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ رَجُلٌ وَاحِدٌ الْعَهْدَ. فَيَئِسَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ قُرَيْظَةَ وَأَرَادَ أَنْ يُلْحِمَ الْأَمْرَ فِيمَا بَيْنَ بَنِي النّضِيرِ وَرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ يُرْسِلُ إلَى حُيَيّ حَتّى قَالَ حُيَيّ: أَنَا أُرْسِلُ إلَى مُحَمّدٍ أُعْلِمُهُ أَنّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَلْيَصْنَعْ مَا بَدَا لَهُ. وَطَمِعَ حُيَيّ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَقَالَ حُيَيّ: نَرْمِ [ (3) ] حُصُونَنَا، ثُمّ نُدْخِلُ مَاشِيَتَنَا [ (4) ] ، وَنُدْرِبُ [ (5) ] أَزِقّتَنَا، وَنَنْقُلُ الْحِجَارَةَ إلَى حُصُونِنَا، وَعِنْدَنَا مِنْ الطّعَامِ مَا يكفينا سنة، وماءنا وَاتِنٌ [ (6) ] فِي حُصُونِنَا لَا نَخَافُ قَطْعَهُ. فَتَرَى مُحَمّدًا يَحْصُرُنَا سَنَةً؟ لَا نَرَى هَذَا. قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ: مَنّتْك نَفْسُك وَاَللهِ يَا حُيَيّ الْبَاطِلَ، إنّي وَاَللهِ لَوْلَا أَنْ يُسَفّهَ رَأْيُك أَوْ يُزْرَى بِك لَاعْتَزَلْتُك بِمَنْ أَطَاعَنِي من اليهود، فلا تفعل يا حيىّ، فو الله إنّك لَتَعْلَمُ وَنَعْلَمُ مَعَك أَنّهُ لَرَسُولُ اللهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا، فَإِنْ لَمْ نَتّبِعْهُ وَحَسَدْنَاهُ حَيْثُ خَرَجَتْ النّبُوّةُ مِنْ بَنِي هَارُونَ! فَتَعَالَ فنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج
__________
[ (1) ] الزيادة عن ابن سعد. (الطبقات، ج 2، ص 41) .
[ (2) ] فى ب، ت: «وأغدوا» .
[ (3) ] رمه: أصلحه. (القاموس المحيط، ج 4، ص 122) .
[ (4) ] فى ت: «ما شئنا» .
[ (5) ] ندرب: ندخل الدرب. انظر (النهاية، ج 2، ص 18) .
[ (6) ] وتن الماء إذا دام ولم ينقطع. (الصحاح، ص 2212) .(1/368)
مِنْ بِلَادِهِ، فَقَدْ عَرَفْت أَنّك خَالَفَتْنِي فِي الْغَدْرِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ أَوَانُ الثّمَرِ جِئْنَا أَوْ جَاءَ مَنْ جَاءَ مِنّا إلَى ثَمَرِهِ فَبَاعَ أَوْ صَنَعَ مَا بَدَا لَهُ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَيْنَا فَكَأَنّا لَمْ نَخْرُجْ مِنْ بِلَادِنَا إذَا كَانَتْ أَمْوَالُنَا بِأَيْدِينَا، إنّا إنّمَا شَرُفْنَا عَلَى قَوْمِنَا بِأَمْوَالِنَا وَفِعَالِنَا، فَإِذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالُنَا مِنْ أَيْدِينَا كُنّا كَغَيْرِنَا مِنْ الْيَهُودِ فِي الذّلّةِ وَالْإِعْدَامِ. وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ سَارَ إلَيْنَا فَحَصَرَنَا فِي هَذِهِ الصّيَاصِي يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمّ عَرَضْنَا عَلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ إلَيْنَا، لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَبَى عَلَيْنَا. قَالَ حُيَيّ: إنّ مُحَمّدًا لَا يَحْصُرُنَا [إلّا] [ (1) ] إنْ أَصَابَ مِنّا نُهْزَةً، وَإِلّا انْصَرَفَ، وَقَدْ وَعَدَنِي ابْنُ أُبَيّ مَا قَدْ رَأَيْت. فَقَالَ سَلّامٌ: لَيْسَ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ بِشَيْءٍ، إنّمَا يُرِيدُ ابْنُ أُبَيّ أَنْ يُوَرّطَك فِي الْهَلَكَةِ حَتّى تُحَارِبَ مُحَمّدًا، ثُمّ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيَتْرُكُك. قَدْ أَرَادَ مِنْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ النّصْرَ فَأَبَى كَعْبٌ وَقَالَ:
لَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا حَيّ. وَإِلّا فَإِنّ ابْنَ أُبَيّ قَدْ وَعَدَ حُلَفَاءَهُ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِثْلَ مَا وَعَدَك حَتّى حَارَبُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَحَصَرُوا أَنَفْسَهُمْ فِي صَيَاصِيِهِمْ وَانْتَظَرُوا نُصْرَةَ ابْنِ أُبَيّ، فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَسَارَ مُحَمّدٌ إلَيْهِمْ، فَحَصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَابْنُ أُبَيّ لَا يَنْصُرُ حُلَفَاءَهُ وَمَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ، وَنَحْنُ لَمْ نَزَلْ نَضْرِبُهُ بِسُيُوفِنَا مَعَ الْأَوْسِ فِي حَرْبِهِمْ كُلّهَا، إلَى أَنْ تَقَطّعَتْ حَرْبُهُمْ فَقَدِمَ مُحَمّدٌ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ. وَابْنُ أُبَيّ لَا يَهُودِيّ عَلَى دِينِ يَهُودَ، وَلَا عَلَى دِينِ مُحَمّدٍ، وَلَا هُوَ عَلَى دِين قَوْمِهِ، فَكَيْفَ تَقْبَلُ مِنْهُ قَوْلًا قَالَهُ؟ قَالَ حُيَيّ: تَأْبَى نَفْسِي إلّا عَدَاوَةَ مُحَمّدٍ وَإِلّا قِتَالَهُ.
قَالَ سلّام: فهو والله جلاؤنا مِنْ أَرْضِنَا، وَذَهَابُ أَمْوَالِنَا، وَذَهَابُ شَرَفِنَا، أَوْ سِبَاءُ ذَرَارِيّنَا مَعَ قَتْلِ مُقَاتِلِينَا. فَأَبَى حُيَيّ إلّا مُحَارَبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ سَارُوكُ [ (2) ] بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ- وكان ضعيفا عندهم فى عقله
__________
[ (1) ] فى كل النسخ: «إن أصاب، وما أثبتناه أقرب إلى السياق.
[ (2) ] فى ب: «ساذوك» .(1/369)
كَأَنّ بِهِ جِنّةٌ- يَا حُيَيّ، أَنْتَ رَجُلٌ مَشْئُومٌ، تُهْلِكُ بَنِي النّضِيرِ! فَغَضِبَ حُيَيّ وَقَالَ: كُلّ بَنِي النّضِيرِ قَدْ كَلّمَنِي حَتّى هَذَا الْمَجْنُونُ. فَضَرَبَهُ إخْوَتُهُ وَقَالُوا لِحُيَيّ: أَمْرُنَا لِأَمْرِك تَبَعٌ، لَنْ نُخَالِفَك.
فَأَرْسَلَ حُيَيّ أَخَاهُ جُدَيّ بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنّا لَا نَبْرَحُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ ابْنَ أُبَيّ فَيُخْبِرَهُ بِرِسَالَتِهِ إلَى مُحَمّدٍ، وَيَأْمُرَهُ بِتَعْجِيلِ مَا وَعَدَ مِنْ النّصْرِ.
فَذَهَبَ جدي بن أخطب إلى رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلّذِي أَرْسَلَهُ حُيَيّ، فَجَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّكْبِيرَ، وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ، وَقَالَ: حَارَبْت الْيَهُود!
وَخَرَجَ جُدَيّ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنِ أُبَيّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ مَعَ نَفِيرٍ مِنْ حُلَفَائِهِ، وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ، فَيَدْخُلُ عبد الله بن عبد الله بن أبي عَلَى عَبْدِ اللهِ أَبِيهِ وَعَلَى النّفَرِ مَعَهُ، وَعِنْدَهُ جُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ، فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَخَرَجَ يَعْدُو، فَقَالَ جُدَيّ: لَمّا رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ جَالِسًا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ وَابْنُهُ عَلَيْهِ السّلَاحُ، يَئِسْت مِنْ نَصْرِهِ فَخَرَجْت أَعْدُو إلَى حُيَيّ، فَقَالَ:
مَا وَرَاءَك؟ قُلْت: الشّرّ! سَاعَةَ أَخْبَرْت مُحَمّدًا بِمَا أَرْسَلْت بِهِ إلَيْهِ أَظْهَرَ التّكْبِيرَ وَقَالَ «حَارَبْت الْيَهُودَ» . فَقَالَ: هَذِهِ مَكِيدَةٌ مِنْهُ. قَالَ: وَجِئْت ابْنَ أُبَيّ فَأَعْلَمْته، وَنَادَى مُنَادِي مُحَمّدٍ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ. قَالَ: وَمَا رَدّ عَلَيْك ابْنُ أُبَيّ؟ فَقَالَ جُدَيّ: لَمْ أَرَ عِنْدَهُ خَيْرًا. قَالَ: أَنَا أُرْسِلُ إلَى حُلَفَائِي فَيَدْخُلُونَ مَعَكُمْ. وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَصَلّى الْعَصْرَ بِفَضَاءِ بَنِي النّضِيرِ، فَلَمّا رَأَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قَامُوا عَلَى جُدُرِ حُصُونِهِمْ، مَعَهُمْ النّبْلُ وَالْحِجَارَةُ. وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ فَلَمْ تُعِنْهُمْ(1/370)
بِسِلَاحٍ وَلَا رِجَالٍ وَلَمْ يَقْرَبُوهُمْ. وَجَعَلُوا يَرْمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتّى أَظَلَمُوا، وَجَعَلَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدَمُونَ [ (1) ] ، مَنْ كَانَ تَخَلّفَ فِي حَاجَتِهِ، حَتّى تَتَامّوا عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ الدّرْعُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ. وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْعَسْكَرِ، وَيُقَالُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَهُمْ، يُكَبّرُونَ حَتّى أَصْبَحُوا، ثُمّ أَذّنَ بِلَالٌ بِالْمَدِينَةِ، فَغَدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَصْحَابِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَصَلّى بِالنّاسِ بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، وَحُمِلَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبّةٌ مِنْ أَدَمٍ.
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَانَتْ الْقُبّةُ مِنْ غَرَبٍ [ (2) ] عَلَيْهَا مُسُوحٌ [ (3) ] ، أَرْسَلَ بِهَا سَعْدُ بْنُ عبادة، فأمره بِلَالًا فَضَرَبَهَا فِي مَوْضِعٍ الْمَسْجِدِ الصّغِيرِ الّذِي بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُبّةَ.
وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ عَزْوَك، وَكَانَ أَعْسَرَ رَامِيًا، فَرَمَى فَبَلَغَ نَبْلُهُ قُبّةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِقُبّتِهِ فَحُوّلَتْ إلَى مَسْجِدِ الْفَضِيخِ [ (4) ] وَتَبَاعَدَتْ مِنْ النّبْلِ.
وَأَمْسَوْا فَلَمْ يَقْرَبْهُمْ ابْنُ أُبَيّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ حُلَفَائِهِ وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ، وَيَئِسَتْ بَنُو النّضِيرِ مِنْ نَصْرِهِ، وَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَكِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ يقولان لحيىّ: أين نصر ابن أُبَيّ كَمَا زَعَمْت؟ قَالَ حُيَيّ: فَمَا أَصْنَعُ؟ هي
__________
[ (1) ] فى ب: «يثوبون» .
[ (2) ] الغرب: ضرب من الشجر. (الصحاح، ص 194) .
[ (3) ] المسوح: جمع مسح، وهو الكسا من الشعر. (لسان العرب، ج 3، ص 434) .
[ (4) ] قال السمهودي: ويعرف اليوم بمسجد الشمس، وهو شرق مسجد قباء على شفير الوادي على نشز من الأرض مرضوم بحجارة سود، وهو مسجد صغير. (وفاء الوفا، ج 2، ص 32) .(1/371)
مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَيْنَا. وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدّرْعُ وَبَاتَ، وَظَلّ مُحَاصِرَهُمْ،
فَلَمّا كَانَ لَيْلَةً مِنْ اللّيَالِي فُقِدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ حَيْنَ قَرُبَ الْعِشَاءُ، فَقَالَ النّاسُ: مَا نَرَى عَلِيّا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، فَإِنّهُ فِي بَعْضِ شَأْنِكُمْ!
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِرَأْسِ عَزْوَك، فَطَرَحَهُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي كَمَنْت لِهَذَا الْخَبِيثِ فَرَأَيْت رَجُلًا شُجَاعًا، فَقُلْت: مَا أَجْرَأَهُ أَنْ يَخْرُجَ إذَا أَمْسَيْنَا يَطْلُبُ مِنّا غِرّةً. فَأَقْبَلَ مُصْلِتًا سَيْفَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَقَتَلْته، وَأَجْلَى أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَبْرَحُوا قَرِيبًا، فَإِنْ بَعَثْت مَعِي نَفَرًا رَجَوْت أَنْ أَظْفَرَ بِهِمْ. فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْل أَنْ يَدْخُلُوا حِصْنَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَتَوْا بِرُءُوسِهِمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُءُوسِهِمْ فَطُرِحَتْ فِي بَعْضِ بِئَارِ بَنِي خَطْمَةَ.
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَحْمِلُ التّمْرَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَقَامُوا فِي حِصْنِهِمْ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ وَحُرِقَتْ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِهَا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ سَلّامٍ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ [ (1) ] ، فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو لَيْلَى: كَانَتْ الْعَجْوَةُ أَحْرَقَ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ: قَدْ عَرَفْت أَنّ اللهَ سَيُغْنِمُهُ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَتْ الْعَجْوَةُ خَيْرَ أَمْوَالِهِمْ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ رِضَاءً بِمَا صَنَعْنَا جَمِيعًا ... مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [ (2) ] أَلْوَانِ النّخْلِ، لِلّذِي فَعَلَ ابْنُ سَلّامٍ، أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها يَعْنِي الْعَجْوَةَ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَطَعَ أَبُو لَيْلَى الْعَجْوَةَ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يَعْنِي بَنِي النّضير،
__________
[ (1) ] اللون: نوع من النخل، وقيل هو الدقل، وقيل النخل كله ما خلا البرني والعجوة، ويسميه أهل المدينة الألوان، واحدته لينة، وأصله لونة فقلبت الواو ياء. (النهاية، ج 4، ص 70) .
[ (2) ] سورة 59 الحشر 5.(1/372)
رِضَاءً مِنْ اللهِ بِمَا صَنَعَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا.
فَلَمّا قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ شَقّ النّسَاءُ الْجُيُوبَ، وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ، وَدَعَوْنَ بِالْوَيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُنّ؟ فَقِيلَ: يَجْزَعْنَ عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ مِثْلَ الْعَجْوَةِ جُزِعَ عَلَيْهِ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَجْوَةُ وَالْعَتِيقُ- الْفَحْلُ الّذِي يُؤَبّرُ بِهِ النّخْلُ- مِنْ الْجَنّةِ، وَالْعَجْوَةُ شِفَاءٌ مِنْ السّمّ. فَلَمّا صِحْنَ صَاحَ بِهِنّ أَبُو رَافِعٍ سلّام: إن قطعت العجوة ها هنا فَإِنّ لَنَا بِخَيْبَرٍ عَجْوَةً. قَالَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنّ: خَيْبَرٌ، يُصْنَعُ بِهَا مِثْلُ هَذَا! فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَضّ اللهُ فَاك! إنّ حُلَفَائِي بِخَيْبَرٍ لَعَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ فَتَبَسّمَ. وَجَزِعُوا عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ فَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ يَقُولُ: يَا حُيَيّ، الْعَذْقُ خَيْرٌ مِنْ الْعَجْوَةِ، يُغْرَسُ فَلَا يُطْعِمُ ثَلَاثِينَ سَنَةً يُقْطَعُ! فَأَرْسَلَ حُيَيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمّدُ، إنّك كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ، لِمَ تَقْطَعُ النّخْلَ؟
نَحْنُ نُعْطِيك الّذِي سَأَلْت، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ، وَلَكِنْ اُخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ.
فَقَالَ سَلّامٌ: اقْبَلْ وَيْحَك، قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ شَرّا مِنْ هَذَا! فَقَالَ حُيَيّ: مَا يَكُونُ شَرّا مِنْ هَذَا؟ قَالَ سَلّامٌ: يَسْبِي الذّرّيّةَ وَيَقْتُلُ الْمُقَاتِلَةَ مَعَ الْأَمْوَالِ، فَالْأَمْوَالُ الْيَوْمَ أَهْوَنُ عَلَيْنَا إذَا لَحَمْنَا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسّبَاءِ.
فَأَبَى حُيَيّ أَنْ يَقْبَلَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ يَامِينُ بْنُ عمير وأبو سعد ابن وَهْبٍ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَإِنّك [ (1) ] لَتَعْلَمُ أَنّهُ لَرَسُولُ اللهِ، فَمَا تَنْتَظِرُ أَنْ نُسْلِمَ فَنَأْمَنَ عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ فَنَزَلَا مِنْ اللّيْلِ فَأَسْلَمَا فأحرزا دماءهما وأموالهما.
__________
[ (1) ] فى ب: «والله إنك» .(1/373)
ثُمّ نَزَلَتْ الْيَهُودُ عَلَى أَنّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ، فَلَمّا أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ يَامِينَ: أَلَمْ تَرَ إلَى ابْنِ عَمّك عَمْرِو ابن جِحَاشٍ وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ قَتْلِي؟ وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ، كَانَتْ الرّوَاعُ بِنْتُ عُمَيْرٍ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ. فَقَالَ ابْنُ يَامِينَ: أَنَا أَكْفِيكَهُ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَجَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، وَيُقَالُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ. فَاغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمّ جَاءَ ابْنُ يَامِينَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ، فَسُرّ بِذَلِكَ.
وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَجَلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَوَلِيَ إخْرَاجَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ.
فَقَالُوا: إنّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النّاسِ إلَى آجَالٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَجّلُوا وَضَعُوا. فَكَانَ لِأَبِي رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الحقيق على أسيد ابن حُضَيْرٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَى سَنَةٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ ثَمَانِينَ دِينَارًا، وَأَبْطَلَ مَا فَضَلَ. وَكَانُوا فِي حِصَارِهِمْ يُخَرّبُونَ بُيُوتَهُمْ مِمّا يَلِيهِمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرّبُونَ مَا يَلِيهِمْ وَيُحَرّقُونَ حَتّى وَقَعَ الصّلْحُ، فَتَحَمّلُوا، فَجَعَلُوا يَحْمِلُونَ الْخَشَبَ وَنُجُفَ [ (1) ] الْأَبْوَابِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ: لَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَشُدّ الرّحْلَ لِخَالِك بَحْرِيّ بْنِ عَمْرٍو وَأُجْلِيهِ مِنْهَا! وَحَمَلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ، فَخَرَجُوا عَلَى بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمّ عَلَى الْجَبَلِيّةِ، ثُمّ عَلَى الْجِسْرِ حَتّى مَرّوا بِالْمُصَلّى، ثُمّ شَقّوا سُوقَ الْمَدِينَةِ، وَالنّسَاءُ فِي الْهَوَادِجِ عَلَيْهِنّ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ، وَقُطُفُ الْخَزّ الْخُضْرُ وَالْحُمْرُ، وَقَدْ صَفّ لَهُمْ النّاسُ، فَجَعَلُوا يَمُرّونَ قِطَارًا [ (2) ] فِي أَثَرِ قِطَارٍ، فَحُمِلُوا عَلَى سِتّمِائَةِ بَعِيرٍ، يَقُولُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
__________
[ (1) ] نجف: جمع نجاف، وهو العتبة. (شرح أبى ذر، ص 286) .
[ (2) ] القطار أن تشد الإبل على نسق، واحدا بعد واحد. (النهاية، ج 3، ص 263) .(1/374)
هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ.
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَسَرَاةُ الرّجَالِ عَلَى الرّحَالِ: أَمَا وَاَللهِ إنّ لَقَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ لَنَائِلٌ لِلْمُجْتَدِي وَقِرًى حَاضِرٌ لِلضّيْفِ، وَسَقْيًا لِلْمُدَامِ، وَحِلْمٌ عَلَى مَنْ سَفِهَ عَلَيْكُمْ، وَنَجْدَةٌ إذَا اُسْتُنْجِدْتُمْ. فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ: وَاصَبَاحَاه، نَفْسِي فَدَاؤُكُمْ! مَاذَا تَحَمّلْتُمْ بِهِ مِنْ السّؤْدُدِ وَالْبَهَاءِ، وَالنّجْدَةِ وَالسّخَاءِ؟ قَالَ، يَقُولُ نعيم ابن مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ: فِدًى لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الّتِي كَأَنّهَا الْمَصَابِيحُ ظَاعِنِينَ مِنْ يَثْرِبَ. مَنْ لِلْمُجْتَدِي الْمَلْهُوفِ؟ وَمَنْ لِلطّارِقِ السّغْبَانِ؟ وَمَنْ يَسْقِي الْعُقَارَ؟
وَمَنْ يُطْعِمُ الشّحْمَ فَوْقَ اللّحْمِ؟ مَا لَنَا بِيَثْرِبَ بعدكم مقام. يقول أبو عبس ابن جَبْرٍ [ (1) ] وَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَهُ: نَعَمْ، فَالْحَقْهُمْ حَتّى تدخل معهم المار.
قَالَ نُعَيْمٌ: مَا هَذَا جَزَاؤُهُمْ مِنْكُمْ، لَقَدْ اسْتَنْصَرْتُمُوهُمْ فَنَصَرُوكُمْ عَلَى الْخَزْرَجِ، وَلَقَدْ اسْتَنْصَرْتُمْ [ (2) ] سَائِرَ الْعَرَبِ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ. قَالَ أَبُو عَبْسٍ: قَطَعَ الْإِسْلَامُ الْعُهُودَ. قَالَ: وَمَرّوا يَضْرِبُونَ بِالدّفُوفِ وَيُزَمّرُونَ بِالْمَزَامِيرِ، وَعَلَى النّسَاءِ الْمُعَصْفَرَاتُ وَحُلِيّ الذّهَبِ، مُظْهِرِينَ ذَلِكَ تَجَلّدًا. قَالَ: يَقُولُ جُبَارُ بْنُ صَخْرٍ: مَا رَأَيْت زُهَاءَهُمْ [ (3) ] لِقَوْمٍ زَالُوا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ. وَنَادَى أَبُو رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَرَفَعَ مَسْكَ الْجَمَلِ وَقَالَ: هَذَا مِمّا نَعُدّهُ لِخَفْضِ الْأَرْضِ وَرَفْعِهَا، فَإِنْ يَكُنْ النّخْلُ قَدْ تَرَكْنَاهَا فَإِنّا نَقْدَمُ عَلَى نَخْلٍ بِخَيْبَرٍ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ رَبِيحِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: لَقَدْ مَرّ يَوْمئِذٍ نِسَاءٌ مِنْ نِسَائِهِمْ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بن حير» . والتصحيح من ب، ومن ابن سعد. (الطبقات، ج 3، ص 23) .
[ (2) ] فى ب: «لقد استنصرتم فنصروكم سائر العرب» .
[ (3) ] فى هامش نسخة ب: «زهاءهم قدرهم وعدتهم» .(1/375)
فِي تِلْكَ الْهَوَادِجِ قَدْ سَفَرْنَ عَنْ الْوُجُوهِ، لَعَلَيّ لَمْ أَرَ مِثْلَ جَمَالِهِنّ لِنِسَاءٍ قَطّ.
لَقَدْ رَأَيْت الشّقْرَاءَ بِنْتَ كِنَانَةَ يَوْمَئِذٍ كَأَنّهَا لُؤْلُؤَةُ غَوّاصٍ، وَالرّوَاعَ بِنْتَ عُمَيْرٍ مِثْلَ الشّمْسِ الْبَازِغَةِ، فِي أَيْدِيهِنّ أَسْوِرَةُ الذّهَبِ، وَالدّرّ فِي رِقَابِهِنّ.
وَلَقِيَ الْمُنَافِقُونَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خَرَجُوا حُزْنًا شَدِيدًا، لَقَدْ لَقِيت زَيْدَ بْنَ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ وَهُوَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ، وَهُوَ يُنَاجِيهِ فِي بَنِي غَنْمٍ وَهُوَ يَقُولُ:
تَوَحّشْت بِيَثْرِبَ لِفَقْدِ بَنِي النّضِيرِ، وَلَكِنّهُمْ يَخْرُجُونَ إلَى عِزّ وَثَرْوَةٍ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، وَإِلَى حُصُونٍ مَنِيعَةٍ شَامِخَةٍ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ لَيْسَتْ كَمَا هَاهُنَا.
قَالَ: فَاسْتَمَعْت عَلَيْهِمَا سَاعَةً، وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاشّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ.
قَالُوا: وَمَرّتْ فِي الظّعُنِ يَوْمَئِذٍ سَلْمَى صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ الْعَبْسِيّ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَسَبَاهَا عُرْوَةُ مِنْ قَوْمِهَا فَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا وَنَزَلَتْ مِنْهُ مَنْزِلًا، فَقَالَتْ لَهُ، وَجَعَلَ وَلَدَهُ يُعَيّرُونَ بِأُمّهِمْ «يَا بَنِي الْأَخِيذَةِ!» ، فَقَالَتْ: أَلَا تَرَى وَلَدَك يُعَيّرُونَ؟
قَالَ: فَمَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: تَرُدّنِي إلَى قَوْمِي حَتّى يَكُونُوا هُمْ الّذِينَ يُزَوّجُونَك.
قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن القوم بِالْخَمْرِ ثُمّ اُتْرُكُوهُ حَتّى يَشْرَبَ وَيَثْمَلَ، فَإِنّهُ إذَا ثَمِلَ لَمْ يُسْأَلْ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ. فَلَقُوهُ وَنَزَلَ فِي بَنِي النّضِيرِ، فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ، فَلَمّا سَكِرَ سَأَلُوهُ سَلْمَى فَرَدّهَا عَلَيْهِمْ، ثُمّ أَنْكَحُوهُ بَعْدُ. وَيُقَالُ: إنّمَا جَاءَ بِهَا إلَى بَنِي النّضِيرِ وَكَانَ صُعْلُوكًا يُغِيرُ. فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ فَلَمّا انْتَشَى مَنَعُوهُ، وَلَا شَيْءَ مَعَهُ إلّا هِيَ، فَرَهَنَهَا فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَبُ حَتّى غَلِقَتْ فَلَمّا صَحَا قَالَ لَهَا: انْطَلِقِي. قَالُوا: لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ، قَدْ أَغْلَقْتهَا.
فَبِهَذَا صَارَتْ عِنْدَ بَنِي النّضِيرِ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ:
سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمّ تَكَنّفُونِي ... عُدَاةُ اللهِ مِنْ كذب وزور(1/376)
وَقَالُوا لَسْت بَعْدَ فِدَاءِ سَلْمَى ... بِمُغْنٍ [ (1) ] مَا لَدَيْك وَلَا فَقِيرِ
فَلَا وَاَللهِ لَوْ كَالْيَوْمِ أَمْرِي ... وَمَنْ لِي بِالتّدَبّرِ فِي الْأُمُورِ [ (2) ]
إذًا لَعَصَيْتهمْ فِي أَمْرِ سَلْمَى [ (3) ] ... وَلَوْ رَكِبُوا عِضَاهَ الْمُسْتَعْوِرِ [ (4) ]
أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ.
حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ: وَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَقَبَضَ الْحَلْقَةَ، فَوَجَدَ مِنْ الْحَلْقَةِ خَمْسِينَ دِرْعًا، وَخَمْسِينَ بَيْضَةً، وَثَلَاثَمِائَةِ سَيْفٍ، وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا. وَيُقَالُ غَيّبُوا بَعْضَ سِلَاحِهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ. وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الّذِي وَلِيَ قَبْضَ الْأَمْوَالِ وَالْحَلْقَةَ وَكَشْفَهُمْ عَنْهَا. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تُخَمّسُ مَا أَصَبْت مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَمَا خَمّسْت مَا أَصَبْت مِنْ بَدْرٍ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجْعَلُ شَيْئًا جَعَلَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِي دُونَ الْمُؤْمِنِينَ! بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... [ (5) ] الْآيَةُ، كَهَيْئَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ السّهْمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا، فكانت بنو
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بمفن» . والتصحيح من ب، وهكذا فى ديوان عروة (ص 48) ، وفى الكامل للمبرد. (ج 2، ص 40) .
[ (2) ] والمعنى كما قال ابن السكيت فى شرحه: لو كنت يومئذ مثل اليوم لملكت أمرى. (ديوان عروة بن الورد، ص 48) .
[ (3) ] فى ب: «إذا لعصيهم من حب سلمى» .
[ (4) ] فى الأصل: «المستغور» بالغين المعجمة، والتصحيح من ب. ويوجد على هامش ب:
«المستعور جبل بناحية قلهى» . ويروى أيضا عضاء اليستعور» كما قال ابن السكيت، واليستعور موضع قبل حرة المدينة. (ديوان عروة بن الورد، ص 48) .
[ (5) ] سورة 59 الحشر 7.(1/377)
النّضير حبسا [ (1) ] النوائبه، وَكَانَتْ فَدَكُ لِابْنِ السّبِيلِ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ قَدْ جَزّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجُزْءَانِ لِلْمُهَاجِرِينَ وَجُزْءٌ كَانَ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِنّ فَضْلَ رَدّهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِيّ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ، قَالَ: إنّمَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ بَنِي النّضِيرِ، كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً، فَأَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِنْهَا وَحَبَسَ مَا حَبَسَ. وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ زَرْعًا كَثِيرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْهَا قُوتُ أَهْلِهِ سَنَةً مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ لِأَزْوَاجِهِ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ [ (2) ] وَالسّلَاحِ، وَإِنّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السّلَاحُ الّذِي اُشْتُرِيَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى أَمْوَالِ بَنِي النّضِيرِ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَرُبّمَا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْبَاكُورَةِ مِنْهَا، وَكَانَتْ صَدَقَاتُهُ مِنْهَا وَمِنْ أَمْوَالِ مُخَيْرِيقٍ. وَهِيَ سَبْعَةُ حَوَائِطَ- الْمِيثَبُ، وَالصّافِيَةُ، وَالدّلّالُ، وَحُسْنَى، وَبُرْقَةُ، وَالْأَعْوَافُ، وَمَشْرَبَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ أُمّ إبْرَاهِيمَ تَكُون هُنَاكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهَا هُنَاكَ.
وَقَالُوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا تَحَوّلَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى الْمَدِينَةِ تَحَوّلَ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَنَافَسَتْ فِيهِمْ الْأَنْصَارُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِمْ حَتّى اقْتَرَعُوا فِيهِمْ بِالسّهْمَانِ، فَمَا نَزَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إلّا بِقُرْعَةِ سَهْمٍ.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمّ العلاء،
__________
[ (1) ] حبسا: أى وقفا. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 102) .
[ (2) ] الكراع: جماعة الخليل. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 102) .(1/378)
قَالَتْ: صَارَ [ (1) ] لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ، وَكَانَ فِي مَنْزِلِنَا حَتّى تُوُفّيَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَقَالَ: اُدْعُ لِي قَوْمَك! قَالَ ثَابِتٌ: الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَنْصَارَ كُلّهَا! فَدَعَا لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْزَالَهُمْ إيّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمّ قَالَ: إنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النّضِيرِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ. فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا:
يَا رَسُولَ اللهِ، بَلْ تَقْسِمُهُ لِلْمُهَاجِرِينَ [ (2) ] وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا.
وَنَادَتْ الْأَنْصَارُ: رَضِينَا وَسَلّمْنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ!
فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفئ شَيْئًا، إلّا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ- سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ. وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ. قَالُوا: وَكَانَ مِمّنْ أَعْطَى مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِئْرَ حِجْرٍ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِئْرَ جَرْمٍ، وأعطى عبد الرحمن ابن عَوْفٍ سُؤَالَةَ- وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ مَالُ سليم. وأعطى صهيب بن
__________
[ (1) ] فى ب: «طار لنا» .
[ (2) ] فى الزرقانى، يروى عن الواقدي: «تقسم بين المهاجرين» . (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 103) .(1/379)
سِنَانَ الضّرّاطَةَ، وَأَعْطَى الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْبُوَيْلَةَ.
وَكَانَ مَالُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَأَبِي دُجَانَةَ مَعْرُوفًا، يُقَالُ لَهُ مَالُ ابْنِ خَرَشَةَ، وَوَسّعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النّاسِ مِنْهَا.
ذِكْرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَنِي النّضير
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [ (1) ] قَالَ كُلّ شَيْءٍ سَبّحَ لَهُ، وَتَسْبِيحُ الْجُدُرِ النّقْضُ [ (2) ] . حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ حُيَيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [ (3) ] يعنى بنى النّضير حَيْنَ أَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الشّامِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ الْحَشْرِ فِي الدّنْيَا إلَى الشّامِ، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِلْمُؤْمِنَيْنِ:
مَا ظَنَنْتُمْ ذَلِكَ، كَانَ لَهُمْ عِزّ وَمَنَعَةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ حَيْنَ تَحَصّنُوا، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا قال ظُهُورِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَاؤُهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ رَعَبُوا وَأَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، وَكَانَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ لَهُ وَجَبَانٌ [ (4) ] ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قَالَ كَانُوا لَمّا حُصِرُوا وَالْمُسْلِمُونَ يَحْفِرُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ يَنْقُبُونَ مِمّا يَلِيهِمْ، فَيَأْخُذُونَ الْخَشَبَ وَالنّجُفَ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ قَالَ يعنى يا أهل
__________
[ (1) ] سورة 59 الحشر 1.
[ (2) ] فى ب: «النقيض» .
[ (3) ] سورة 59 الحشر 2.
[ (4) ] وجب القلب وجبانا، خفق واضطرب. (لسان العرب، ج 2، ص 294) .(1/380)
الْعُقُولِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [ (1) ] يَقُولُ فِي أُمّ الْكِتَابِ أَنْ يَجْلُوا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (2) ] يَقُولُ عَصَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ وَخَالَفُوهُ.
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها.. [ (3) ] الْآيَةُ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِ نَخْلِهِمْ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ سَلّامٍ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ، وَكَانَ ابْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو النّضِيرِ: أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مَا يَحِلّ لَكُمْ عَقْرُ النّخْلِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْطَعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَلْوَانِ النّخْلِ سِوَى الْعَجْوَةِ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها قَالَ الْعَجْوَةُ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يَقُولُ يَغِيظُهُمْ مَا قُطِعَ مِنْ النّخْلِ. مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ (4) ] قوله لله ولرسوله وَاحِدٌ وَلِذِي الْقُرْبى قَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَسَهْمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمْسُ الْخُمْسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْخُمْسِ وَيُزَوّجُ أَيَامَاهُمْ. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ دَعَاهُمْ إلَى أَنْ يُزَوّجَ أَيَامَاهُمْ وَيَخْدُمَ عَائِلَهُمْ وَيَقْضِيَ عَنْ غَارِمَهُمْ، فَأَبَوْا إلّا أَنْ يُسَلّمَهُ كُلّهُ، وَأَبَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيّا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ فِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ. وَقَوْلُهُ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يقول لا يستنّ بها
__________
[ (1) ] سورة 59 الحشر 3.
[ (2) ] سورة 59 الحشر 4.
[ (3) ] سورة 59 الحشر 5.
[ (4) ] سورة 59 الحشر 7.(1/381)
مِنْ بَعْدُ فَتُعْطَى الْأَغْنِيَاءَ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يَقُولُ مَا جَاءَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَزَلَ مِنْ الْوَحْيِ. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [ (1) ] يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ الّذِينَ هاجروا إلى المدينة قبل بدر. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [ (2) ] يَعْنِي الْأَنْصَارَ، يَقُولُ هُمْ أَهْلُ الدّارِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَدًا مِمّا أَعْطَى غَيْرَهُمْ، يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ حَيْنَ أَعْطَاهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُعْطِ الْأَنْصَارَ، فَهَذِهِ الْأَثَرَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَيْنَ قَالُوا لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَعْطِهِمْ وَلَا تُعْطِنَا وَهُمْ مُحْتَاجُونَ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قال ظلم الناس.
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [ (3) ] يَعْنِي الّذِينَ أَسْلَمُوا فَحَقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً [ (4) ] قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ حَيْنَ أَرْسَلَ سُوَيْدًا وَدَاعِسًا [ (5) ] إلَى بَنِي النّضِيرِ: أَقِيمُوا وَلَا تَخْرُجُوا فَإِنّ مَعِي مِنْ قَوْمِي وَغَيْرِهِمْ أَلْفَيْنِ، يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ فَيَمُوتُونَ عَنْ آخِرِهِمْ دُونَكُمْ. يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ وَأَصْحَابَهُ. لَئِنْ أُخْرِجُوا [ (6) ] حَيْنَ أَجْلَاهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَخْرُجْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إنْسَانٌ وَاحِدٌ مَعَهُمْ، وَقُوتِلُوا فلم يدخل
__________
[ (1) ] سورة 59 الحشر 8.
[ (2) ] سورة 59 الحشر 9.
[ (3) ] سورة 59 الحشر 10.
[ (4) ] سورة 59 الحشر 11.
[ (5) ] فى الأصل: «داعيا» . والتصحيح عن سائر النسخ.
[ (6) ] سورة 59 الحشر 12.(1/382)
الْحُصُنَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ يَعْنِي يَنْهَزِمُونَ مِنْ الرّعْبِ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [ (1) ] يَعْنِي ابْنَ أُبَيّ وَالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ مَعَهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً [ (2) ] يعنى بنى النّضير وَالْمُنَافِقِينَ، إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ يَقُولُ فِي حُصُونِهِمْ، أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَبَنِي النّضِيرِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ يَقُولُ دِينُ بَنِي النّضِيرِ مُخَالِفٌ دِينَ الْمُنَافِقِينَ [وَهُمْ] جَمِيعًا، فِي عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ مُجْتَمِعُونَ. كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ [ (3) ] قَالَ يَعْنِي قَيْنُقَاعَ حَيْنَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [ (4) ] قَالَ هَذَا مَثَلٌ لِابْنِ أُبَيّ وَأَصْحَابِهِ الّذِينَ جَاءُوا بَنِي النّضِيرَ فَقَالُوا: أَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ فَنَحْنُ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إنْ قُوتِلْتُمْ، وَنَخْرُجُ إنْ أُخْرِجْتُمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا، مَنّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [ (5) ] يَقُولُ مَا عَمِلَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [ (6) ] يَقُولُ أَعَرَضُوا عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فَأَضَلّهُمْ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَعْمَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. وَقَالَ الْقُدُّوسُ [ (7) ] الظّاهِرُ، والْمُهَيْمِنُ الشّهِيدُ.
__________
[ (1) ] سورة 59 الحشر 13.
[ (2) ] سورة 59 الحشر 14.
[ (3) ] سورة 59 الحشر 15.
[ (4) ] سورة 59 الحشر 16.
[ (5) ] سورة 59 الحشر 18.
[ (6) ] سورة 59 الحشر 19.
[ (7) ] سورة 59 الحشر 23.(1/383)
غَزْوَةُ بَدْرِ الْمَوْعِد
وَكَانَتْ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا، وَغَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا سِتّ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ رَوَاحَةَ.
حَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيّ، وَمُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَكُلّ قَدْ حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لَمْ أُسَمّ، قَالُوا: لَمّا أَرَادَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يَنْصَرِفَ يَوْمَ أُحُدٍ نَادَى: مَوْعِدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ رَأْسَ الْحَوْلِ، نَلْتَقِي فِيهِ فَنَقْتَتِلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قُلْ نَعَمْ إنْ شَاءَ اللهُ.
وَيُقَالُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا. فَافْتَرَقَ النّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ فَخَبّرُوا مَنْ قِبَلَهُمْ بِالْمَوْعِدِ وَتَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ وَأَجْلَبُوا [ (1) ] ، وَكَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ الْأَيّامِ لِأَنّهُمْ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ وَالدّوْلَةُ لَهُمْ، طَمِعُوا فِي بَدْرٍ الْمَوْعِدِ أَيْضًا بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الظّفَرِ. وَكَانَ بَدْرٌ الصّفْرَاءُ مَجْمَعًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَرَبُ، وَسُوقًا تَقُومُ لِهِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى ثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَمَانِي لَيَالٍ مِنْهُ تَفَرّقَ النّاسُ إلَى بِلَادِهِمْ. فَلَمّا دَنَا الْمَوْعِدُ كَرِهَ أبو سفيان الخروج إلى رسول
__________
[ (1) ] أجلبوا: تجمعوا وتألبوا. (النهاية، ج 1، ص 169) .(1/384)
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يُحِبّ أَنْ يُقِيمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يُوَافِقُونَ الْمَوْعِدَ. فَكَانَ كُلّ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مَكّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ أَظْهَرَ لَهُ: إنّا نُرِيدُ أَنْ نَغْزُوَ مُحَمّدًا فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ. فَيَقْدَمُ الْقَادِمُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمْ عَلَى تَجَهّزٍ فَيَقُولُ: تَرَكْت أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ الْجُمُوعَ، وَسَارَ فِي الْعَرَبِ لِيَسِيرَ إلَيْكُمْ لِمَوْعِدِكُمْ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَيَهِيبُهُمْ ذَلِكَ.
وَيَقْدَمُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ مَكّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو سفيان بن حرب في رجال من قريش فقال: يا نعيم، إنّي وَعَدْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ نَلْتَقِيَ نَحْنُ وَهُوَ بِبَدْرٍ الصّفْرَاءِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ. فَقَالَ نُعَيْمٌ:
مَا أَقْدَمَنِي إلّا مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ يَصْنَعُونَ مِنْ إعْدَادِ السّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَقَدْ تَجَلّبَ إلَيْهِ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ مِنْ بَلِيّ وَجُهَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَتَرَكْت الْمَدِينَةَ أَمْسَ وَهِيَ كَالرّمّانَةِ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَحَقّا مَا تَقُولُ؟ قَالَ: إي وَاَللهِ.
فَجَزَوْا نُعَيْمًا خَيْرًا وَوَصَلُوهُ وَأَعَانُوهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَسْمَعُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ، مَا قَدْ أَعَدّوا؟ وَهَذَا عَامُ جَدْبٍ- قَالَ نُعَيْمٌ: الْأَرْضُ مِثْلُ ظَهْرِ التّرْسِ، لَيْسَ فِيهَا لِبَعِيرٍ شَيْءٌ- وَإِنّمَا يُصْلِحُنَا عَامُ خِصْبٍ غَيْدَاقٍ [ (1) ] تَرْعَى فِيهِ الظّهْرُ وَالْخَيْلُ وَنَشْرَبُ اللّبَنَ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ وَلَا أَخْرُجُ فَيَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، وَيَكُونُ الْخُلْفُ مِنْ قِبَلِهِمْ أَحَبّ إلَيّ. وَنَجْعَلُ لَك عِشْرِينَ فَرِيضَةً، عَشْرًا جِذَاعًا [ (2) ] وَعَشْرًا حِقَاقًا [ (3) ] ، وَتُوضَعُ لك على يدي
__________
[ (1) ] غيداق: واسع مخصب. (لسان العرب، ج 12، ص 156) .
[ (2) ] الجذاع: جمع الجذع، وهو من الإبل ما دخل فى السنة الخامسة. ومن البقر والمعز ما دخل فى السنة الثانية. (النهاية، ج 1، ص 150) .
[ (3) ] الحقاق: جمع الحقة، وهو من الإبل ما دخل فى السنة الرابعة إلى آخرها وسمى بذلك لأنه استحق الركوب. (النهاية، ج 1، ص 244) .(1/385)
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَيَضْمَنُهَا لَك. قَالَ نُعَيْمٌ: رضيث. وَكَانَ سُهَيْلٌ صَدِيقًا لِنُعَيْمٍ فَجَاءَ سُهَيْلًا فَقَالَ: يَا أَبَا يَزِيدَ، تَضْمَنُ لِي عِشْرِينَ فَرِيضَةً عَلَى أَنْ أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْذُلَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. [قَالَ] : فَإِنّي خَارِجٌ.
فَخَرَجَ عَلَى بَعِيرٍ حَمَلُوهُ عَلَيْهِ، وَأَسْرَعَ السّيْرَ فَقَدِمَ وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ مُعْتَمِرًا، فَوَجَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهّزُونَ، فَقَالَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أَيْنَ يَا نُعَيْمُ؟ قَالَ: خَرَجْت مُعْتَمِرًا إلَى مَكّةَ.
فَقَالُوا: لَك عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرَكْت أَبَا سُفْيَانَ قَدْ جَمَعَ الْجُمُوعَ وَأَجْلَبَ مَعَهُ الْعَرَبَ، فَهُوَ جَاءَ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَأَقِيمُوا وَلَا تَخْرُجُوا فَإِنّهُمْ قَدْ أَتَوْكُمْ فِي دَارِكُمْ وَقَرَارِكُمْ، فَلَنْ يَفْلِتَ مِنْكُمْ إلّا الشّرِيدُ، وَقُتِلَتْ سَرَاتُكُمْ وَأَصَابَ مُحَمّدًا فِي نَفْسِهِ [ (1) ] مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجِرَاحِ. فَتُرِيدُونَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَيْهِمْ فَتَلْقَوْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ؟ بِئْسَ الرّأْيُ رَأَيْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ- وَهُوَ مَوْسِمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ النّاسُ- وَاَللهِ مَا أَرَى أَنْ يَفْلِتَ مِنْكُمْ أَحَدٌ! وَجَعَلَ يَطُوفُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى رَعَبَهُمْ وَكَرّهَ إلَيْهِمْ الْخُرُوجَ، حَتّى نَطَقُوا بِتَصْدِيقِ قَوْلِ نُعَيْمٍ، أَوْ مَنْ [ (2) ] نَطَقَ مِنْهُمْ. وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَقَالُوا: مُحَمّدٌ لَا يَفْلِتُ [ (3) ] مِنْ هَذَا الْجَمْعِ! وَاحْتَمَلَ الشّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ النّاسِ لِخَوْفِ الْمُسْلِمِينَ، حَتّى بَلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ، حَتّى خَافَ رَسُولُ اللهِ أَلّا يَخْرُجَ مَعَهُ أَحَدٌ.
فَجَاءَهُ أَبُو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ سَمِعَا مَا سَمِعَا فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ إنّ اللهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ وَمُعِزّ نَبِيّهُ، وَقَدْ وَعَدْنَا الْقَوْمَ مَوْعِدًا وَنَحْنُ لَا نُحِبّ أَنْ
__________
[ (1) ] فى ب: «وأصاب محمدا ما أصابه فى نفسه من الجراح» .
[ (2) ] فى ب: «أو نطق عنهم» .
[ (3) ] فى ب: «وما محمد يفلت» .(1/386)
نَتَخَلّفَ عَنْ الْقَوْمِ، فَيَرَوْنَ أَنّ هَذَا جُبْنٌ منّا عنهم، فسر لموعدهم، فو الله إنّ فِي ذَلِكَ لَخِيرَةٌ! فَسُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ثُمّ قَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرُجَن وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ!
قَالَ: فَلَمّا تَكَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلّمَ بِمَا بَصّرَ اللهُ عَزّ وَجَلّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَذْهَبَ مَا كَانَ رَعَبَهُمْ الشّيْطَانُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ بِتِجَارَاتٍ لَهُمْ إلَى بَدْرٍ.
فَحُدّثْت عَنْ يَزِيدَ، عَنْ خَصِيفَةَ، قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتنَا وَقَدْ قُذِفَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِنَا، فَمَا أَرَى أَحَدًا لَهُ نِيّةٌ فِي الْخُرُوجِ، حَتّى أَنْهَجَ اللهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بَصَائِرَهُمْ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ تَخْوِيفَ الشّيْطَانِ. فَخَرَجُوا فَلَقَدْ خَرَجْت بِبِضَاعَةٍ إلَى مَوْسِمِ بَدْرٍ، فَرَبِحْت لِلدّينَارِ دِينَارًا، فَرَجَعْنَا بِخَيْرٍ وَفَضْلٍ مِنْ رَبّنَا. فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ وَنَفَقَاتٍ، فَانْتَهَوْا إلَى بَدْرٍ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَامَ السّوقُ صَبِيحَةَ الْهِلَالِ، فَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ وَالسّوقُ قَائِمَةٌ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ الْخَيْلُ عَشْرَةَ أَفْرَاسٍ: فَرَسٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَسٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَفَرَسٌ لِعُمَرَ، وَفَرَسٌ لِأَبِي قَتَادَةَ، وَفَرَسٌ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، وَفَرَسٌ لِلْحُبَابِ، وَفَرَسٌ لِلزّبَيْرِ، وَفَرَسٌ لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ.
فَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ: شَهِدْت بَدْرَ الْمَوْعِدَ عَلَى فَرَسِي سُبْحَةً، أَرْكَبُ ظَهْرَهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. ثُمّ إنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ بَعَثْنَا نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ لِأَنْ يَخْذُلَ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ عَنْ الْخُرُوجِ وَهُوَ جَاهِدٌ، وَلَكِنْ نَخْرُجُ نَحْنُ فَنَسِيرُ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمّ نَرْجِعُ، فَإِنْ كَانَ مُحَمّدٌ لَمْ يَخْرُجْ بَلَغَهُ أَنّا خَرَجْنَا فَرَجَعْنَا لِأَنّهُ لَمْ يَخْرُجْ، فَيَكُونُ هَذَا لَنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَظْهَرَنَا أَنّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا(1/387)
إلّا عَامُ عُشْبٍ. قَالُوا: نَعَمْ مَا رَأَيْت. فَخَرَجَ فِي قُرَيْشٍ، وَهُمْ أَلْفَانِ وَمَعَهُمْ خَمْسُونَ فَرَسًا، حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَجَنّةَ [ (1) ] ثُمّ قَالَ: ارْجِعُوا، لَا يُصْلِحُنَا إلّا عَامُ خِصْبٍ غَيْدَاقٍ، نَرْعَى فِيهِ الشّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ اللّبَنَ، وَإِنّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، وَإِنّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا. فَسَمّى أَهْلُ مَكّةَ ذَلِكَ الْجَيْشَ جَيْشَ السّوِيقِ، يَقُولُونَ: خَرَجُوا يَشْرَبُونَ السّوِيقَ.
وَكَانَ يَحْمِلُ لِوَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْظَمَ يَوْمَئِذٍ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَخْشِيّ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الّذِي حَالَفَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمِهِ فِي غَزْوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُولَى إلَى وَدّانَ
فَقَالَ- وَالنّاسُ مُجْتَمِعُونَ فِي سُوقِهِمْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ- فَقَالَ:
يَا مُحَمّدُ، لَقَدْ أُخْبِرْنَا أَنّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَمَا أَعْلَمُكُمْ إلّا أَهْلَ الْمَوْسِمِ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليرفع ذلك إلى عدوّه من قريش: مَا أَخْرَجَنَا إلّا مَوْعِدُ أَبِي سُفْيَانَ وَقِتَالُ عَدُوّنَا، وَإِنْ شِئْت [ (2) ] مَعَ ذَلِكَ نَبَذْنَا إلَيْك وَإِلَى قَوْمِك الْعَهْدَ، ثُمّ جَالَدْنَاكُمْ قَبْلَ أَنْ نَبْرَحَ مِنْ مَنْزِلِنَا هَذَا.
فَقَالَ الضّمْرِيّ: بَلْ، نَكُفّ أَيْدِيَنَا عَنْكُمْ وَنَتَمَسّكُ بِحِلْفِك. وَسَمِعَ بِذَلِكَ معبد ابن أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ فَانْطَلَقَ سَرِيعًا، وَكَانَ مُقِيمًا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ، وَقَدْ رَأَى أَهْلَ الْمَوْسِمِ وَرَأَى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ كَلَامَ مَخْشِيّ، فَانْطَلَقَ حَتّى قَدِمَ مَكّةَ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ بِخَبَرِ مَوْسِمِ بَدْرٍ.
فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِكَثْرَةِ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ، وَأَنّهُمْ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، وَمَا سَمِعَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضّمْرِيّ، وَقَالَ: وافى محمّد فى ألفين من
__________
[ (1) ] مجنة: موضع على أميال يسيرة من مكة بناحية مر الظهران. (معجم البلدان، ج 7، ص 389) .
[ (2) ] فى ب: «وإن شئت نبذنا» .(1/388)
أَصْحَابِهِ، وَأَقَامُوا ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حَتّى تَصَدّعَ أَهْلُ الْمَوْسِمِ. فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ لِأَبِي سُفْيَانَ: قَدْ وَاَللهِ نَهَيْتُك يَوْمَئِذٍ أَنْ تَعِدَ الْقَوْمَ، وقد اجترأوا عَلَيْنَا وَرَأَوْا أَنْ قَدْ أَخْلَفْنَاهُمْ، وَإِنّمَا خَلّفَنَا الضّعْفُ عَنْهُمْ. فَأَخَذُوا فِي الْكَيْدِ وَالنّفَقَةِ فِي قِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَجْلَبُوا مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ الْعِظَامَ، وَضَرَبُوا الْبَعْثَ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ، فَلَمْ يُتْرَكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلّا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَلّ أَوْ كَثُرَ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَقَلّ مِنْ أُوقِيّةٍ لِغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ مَعْبَدٌ: لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت أَنْ قُلْت شِعْرًا:
تَهْوَى عَلَى دِينِ [ (1) ] أَبِيهَا الْأَتْلَدِ [ (2) ] ... إذْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ [ (3) ] مَوْعِدِ
وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الْغَدِ ... إذْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمّدِ
وَعَجْوَةٍ مَوْضُوعَةٍ كالعَنْجَدِ [ (4) ]
وَيَزْعُمُونَ أَنّ حُمّامًا [ (5) ] قَالَهَا.
وَأَنْزَلَ اللهُ عَزّ وَجَلّ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [ (6) ] الْآيَةَ، يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- قَالَ الْوَاقِدِيّ: أَنْشَدَنِيهَا مَشْيَخَةُ آلِ كَعْبٍ وَأَصْحَابُنَا جَمِيعًا:
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ نَجِدْ ... لِمَوْعِدِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا
فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتنَا فَلَقِيتنَا ... رَجَعْت ذَمِيمًا وَافْتَقَدْت الْمَوَالِيَا [ (7) ]
__________
[ (1) ] تهوى: أى تسرع. والدين هنا الدأب والعادة. (شرح أبى ذر، ص 296) .
[ (2) ] الأتلد: الأقدم. (الصحاح، ص 447) .
[ (3) ] القديد: قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه. (وفاء الوفا، ج 2، ص 360) .
[ (4) ] العنجد: حب الزبيب، ويقال هو الزبيب الأسود. (شرح أبى ذر، ص 295) .
[ (5) ] لعله يريد حمام بن حصين المري.
[ (6) ] سورة 3 آل عمران 173.
[ (7) ] افتقدت: معناه هنا فقدت: والموالي: القرابة. (شرح أبى ذر، ص 296) .(1/389)
تَرَكْنَا بِهَا أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِهِ ... وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا
عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ أُفّ لِدِينِكُمْ ... وَأَمْرُكُمْ السّيّئُ [ (1) ] الّذِي كَانَ غَاوِيَا
وَإِنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي [ (2) ] لَقَائِلٌ ... فِدًى لِرَسُولِ اللهِ أَهْلِي وَمَا لِيَا
أَطَعْنَا فَلَمْ نَعْدِلْ سِوَاهُ بِغَيْرِهِ ... شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ هَادِيَا
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ- ثَبَتَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا:
أَقَمْنَا عَلَى الرّسّ النّزُوعِ [ (3) ] ثَمَانِيَا ... بِأَرْعَنَ [ (4) ] جَرّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ
بِكُلّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ [ (5) ] نِصْفُ خَلْقِهِ ... وَأُدْمٍ [ (6) ] طُوّالٍ مُشْرِفَاتِ الْحَوَارِكِ [ (7) ]
تَرَى الْعَرْفَجَ [ (8) ] الْعَامِيّ تُبْدَى أُصُولَهُ ... مَنَاسِمُ [ (9) ] أَخْفَافِ الْمَطِيّ الرّوَاتِك [ (10) ]
إذَا هَبَطَتْ خَوْرَاتٍ [ (11) ] مِنْ رَمْلِ عَالِجٍ [ (12) ] ... فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطّرِيقُ هُنَالِكِ
ذَرُوا فَلَجَاتِ [ (13) ] الشّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا ... ضِرَابٌ كأفواه المخاض الأوارك [ (14) ]
__________
[ (1) ] فى ب: «الشيء» .
[ (2) ] عنفتموني: أى لمتمونى. (شرح أبى ذر، ص 296) .
[ (3) ] الرس النزوع: البئر التي يخرج ماؤها بالأيدى. (شرح أبى ذر، ص 296) .
[ (4) ] الأرعن: الجيش الكثير بالذي له أتباع وفضول. (شرح أبى ذر، ص 296) .
[ (5) ] جوزه: يعنى وسطه، وأراد به هنا بطنه. (شرح أبى ذر، ص 297) .
[ (6) ] أدم: جمع أدماء، والأدمة فى الإبل: البياض الشديد. (الصحاح، ص 1859) .
[ (7) ] الحوارك: جمع حارك، وهو أعلى الكتفين. (شرح أبى ذر، ص 297) .
[ (8) ] العرفج: شجر معروف صغير سريع الاشتعال بالنار، وهو من نبات الصيف. (النهاية ج 3، ص 86) .
[ (9) ] مناسم: جمع منسم، وهو طرف خف البعير. (شرح أبى ذر، ص 297) .
[ (10) ] الرواتك: المسرعة، والرتك ضرب من المشي فيه إسراع. (شرح أبى ذر، ص 297) .
[ (11) ] هكذا فى الأصل. وفى ب: «حوران» ، وكذا فى ديوان حسان أيضا (ص 19) .
وخورات: جمع خور، وهو المنخفض من الأرض. (القاموس المحيط، ج 2، ص 25) .
[ (12) ] عالج: موضع فى ديار كلب، ويقال لبنى بحتر من طىء. وقال أبو زياد الكلابي: رمل عالج يصل إلى الدهناء، والدهناء فيما بين اليمامة والبصرة. (معجم ما استعجم، ص 664) .
[ (13) ] فلجات: جمع فلج، وهو الماء الجاري. (الروض الألف، ج 2، ص 186) .
[ (14) ] المخاض: الحوامل من الإبل. والأوارك: التي ترعى الأراك، وهو شجر. (شرح أبى ذر، ص 296) .(1/390)
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبّهِمْ ... وَأَنْصَارِ حَقّ أُيّدُوا بِمَلَائِكِ
فَإِنْ نَلْقَ فِي تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا ... فُرَاتَ بْنَ حَيّانٍ يَكُنْ رَهْنَ هَالِكِ
وَإِنْ نَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ ... نَزِدْ فِي سَوَادِ وَجْهِهِ لَوْنَ حَالِكِ [ (1) ]
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ [ (2) ] . هَكَذَا كَانَ.
سَرِيّةُ ابْنِ عَتِيكٍ إلَى أَبِي رَافِعٍ
خَرَجُوا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ فِي السّحَرِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجّةِ، عَلَى رَأْسِ سِتّةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا، وَغَابُوا عَشْرَةَ أَيّامٍ.
حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَتّى أَتَيْنَا خَيْبَرَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ أُمّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَتِيكٍ بِخَيْبَرَ يَهُودِيّةً أَرْضَعَتْهُ، وَقَدْ بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ نَفَرٍ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيّ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ. قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إلَى خَيْبَرَ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللهِ إلَى أُمّهِ فَأَعْلَمَهَا بِمَكَانِهِ، فَخَرَجَتْ إلَيْنَا بِجِرَابٍ مَمْلُوءٍ تَمْرًا كَبِيسًا وَخُبْزًا، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمّ قَالَ لَهَا: يَا أُمّاهُ، إنّا قَدْ أَمْسَيْنَا، [ (3) ] بَيّتِينَا عِنْدَك فَأَدْخِلِينَا خَيْبَرَ. فَقَالَتْ أُمّهُ: كَيْفَ تُطِيقُ خَيْبَرَ وَفِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ؟ وَمَنْ تُرِيدُ فِيهَا؟ قَالَ: أَبَا رَافِعٍ. فَقَالَتْ: لا تقدر عليه.
__________
[ (1) ] الحالك: الشديد السواد. (شرح أبى ذر، ص 297) .
[ (2) ] ذكر ابن إسحاق أبيات أبى سفيان. (السيرة النبوية، ج 3، ص 222) .
[ (3) ] فى ب: «يا أمه إنا قد أمسينا لقد بتنا عندك» .(1/391)
قَالَ: وَاَللهِ لَأَقْتُلَنهُ أَوْ لَأُقْتَلَن دُونَهُ قَبْلَ ذلك. قالت: فادخلوا علىّ ليلا.
فدخلوا عَلَيْهَا فَلَمّا نَامَ أَهْلُ خَيْبَرَ، وَقَدْ قَالَتْ لَهُمْ: اُدْخُلُوا فِي خَمَرِ [ (1) ] النّاسِ، فَإِذَا هَدَأَتْ الرّجْلُ فَاكْمُنُوا! فَفَعَلُوا وَدَخَلُوا عَلَيْهَا ثُمّ قَالَتْ: إنّ الْيَهُودَ لَا تُغْلِقُ عَلَيْهَا أَبْوَابَهَا فَرَقًا أَنْ يَطْرُقَهَا ضَيْفٌ، فَيُصْبِحُ أَحَدُهُمْ بِالْفِنَاءِ وَلَمْ يُضَفْ، فَيَجِدُ الْبَابَ مَفْتُوحًا فَيَدْخُلُ فَيَتَعَشّى. فَلَمّا هَدَأَتْ الرّجْلُ قَالَتْ: انْطَلِقُوا حَتّى تَسْتَفْتِحُوا عَلَى أَبِي رَافِعٍ فَقُولُوا «إنّا جِئْنَا لِأَبِي رَافِعٍ بِهَدِيّةٍ» فَإِنّهُمْ سَيَفْتَحُونَ لَكُمْ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمّ خَرَجُوا لَا يَمُرّونَ بِبَابٍ مِنْ بُيُوتِ خَيْبَرَ إلّا أَغْلَقُوهُ حَتّى أَغْلَقُوا بُيُوتَ الْقَرْيَةِ كُلّهَا، حَتّى انْتَهَوْا إلَى عَجَلَةٍ [ (2) ] عِنْدَ قَصْرِ سَلّامٍ [ (3) ] . قَالَ: فَصَعِدْنَا وَقَدِمْنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَتِيكٍ، لِأَنّهُ كَانَ يَرْطُنُ بِالْيَهُودِيّةِ، ثُمّ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَبِي رَافِعٍ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَتِيكٍ وَرَطَنَ بِالْيَهُودِيّةِ: جِئْت أَبَا رَافِعٍ بِهَدِيّةٍ.
فَفَتَحَتْ لَهُ فَلَمّا رَأَتْ السّلَاحَ أَرَادَتْ تَصِيحُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ:
وَازْدَحَمْنَا عَلَى الْبَابِ أَيّنَا يَبْدُرُ إلَيْهِ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَصِيحَ. قَالَ: فَأَشَرْت إلَيْهَا السّيْفَ. قَالَ: وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَسْبِقَنِي أَصْحَابِي إلَيْهِ. قَالَ: فَسَكَنَتْ [ (4) ] سَاعَةً. قَالَ: ثُمّ قُلْت لَهَا: أَيْنَ أَبُو رَافِعٍ؟ وَإِلّا ضَرَبْتُك بِالسّيْفِ! فَقَالَتْ: هُوَ ذَاكَ فِي الْبَيْتِ. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَمَا عَرَفْنَاهُ إلّا بِبَيَاضِهِ كَأَنّهُ قُطْنَةٌ [ (5) ] مُلْقَاةٌ، فَعَلَوْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ، فَهَمّ بَعْضُنَا أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهَا ثُمّ ذَكَرْنَا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ قَتْلِ النساء. قال:
__________
[ (1) ] فى خمر الناس: أى فى جماعتهم وكثرتهم. (الصحاح، ص 649) .
[ (2) ] العجلة: درجة من النخل نحو النقير. (لسان العرب، ج 13، ص 456) .
[ (3) ] أى سلام بن أبى الحقيق.
[ (4) ] فى ب: «فسكنت شيئا» .
[ (5) ] فى ب: «قبطية» .(1/392)
فَلَمّا انْتَهَيْنَا جَعَلَ سَمْكُ [ (1) ] الْبَيْتِ يَقْصُرُ عَلَيْنَا، وَجَعَلَتْ سُيُوفُنَا تَرْجِعُ.
قَالَ ابْنُ أُنَيْسٍ: وَكُنْت رَجُلًا أَعْشَى لَا أُبْصِرُ بِاللّيْلِ إلّا بَصَرًا ضَعِيفًا.
قَالَ: فَتَأَمّلْته كَأَنّهُ قَمَرٌ. قَالَ: فَأَتّكِئُ بِسَيْفِي عَلَى بَطْنِهِ حَتّى سَمِعْت خَشّهُ [ (2) ] فِي الْفِرَاشِ وَعَرَفْت أَنّهُ قَدْ قَضَى. قَالَ: وَجَعَلَ الْقَوْمُ يَضْرِبُونَهُ جَمِيعًا، ثُمّ نَزَلْنَا وَنَسِيَ أَبُو قَتَادَةَ قَوْسَهُ فَذَكَرَهَا بَعْدَ مَا نَزَلَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ دَعْ الْقَوْسَ. فَأَبَى فَرَجَعَ فَأَخَذَ قَوْسَهُ، وَانْفَكّتْ رِجْلُهُ فَاحْتَمَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ، فَتَصَايَحَ أَهْلُ الدّارِ بَعْدَ مَا قُتِلَ. فَلَمْ يَفْتَحْ أَهْلُ الْبُيُوتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَيْلًا طَوِيلًا، وَاخْتَبَأَ الْقَوْمُ فِي بَعْضِ مَنَاهِرِ [ (3) ] خَيْبَرَ. وَأَقْبَلَتْ الْيَهُودُ وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ أَبُو زَيْنَبَ، فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ الْقَوْمُ الْآنَ. فَخَرَجَ الْحَارِثُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فِي آثَارِنَا، يَطْلُبُونَنَا بِالنّيرَانِ فِي شُعَلِ [ (4) ] السّعَفِ، وَلَرُبّمَا [ (5) ] وَطِئُوا فِي النّهْرِ، فَنَحْنُ فِي بَطْنِهِ وَهُمْ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا يَرَوْنَا، فَلَمّا أَوْعَبُوا فِي الطّلَبِ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا رجعوا إلَى امْرَأَتِهِ فَقَالُوا لَهَا: هَلْ تَعْرِفِينَ مِنْهُمْ أَحَدًا؟ قَالَتْ: سَمِعْت مِنْهُمْ كَلَامَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَتِيكٍ، فَإِنْ كَانَ فِي بِلَادِنَا هَذِهِ فَهُوَ مَعَهُمْ. فَكُرّوا الطّلَبَ الثّانِيَةَ، وَقَالَ الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: لَوْ أَنّ بَعْضَنَا أَتَاهُمْ فَنَظَرَ هَلْ مَاتَ الرّجُلُ أَمْ لَا. فَخَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيّ حَتّى دَخَلَ مَعَ الْقَوْمِ وَتَشَبّهَ بِهِمْ، فَجَعَلَ فِي يَدِهِ شُعْلَةً كَشُعَلِهِمْ حَتّى كَرّ الْقَوْمُ الثّانِيَةَ إلَى الْقَصْرِ وَكَرّ مَعَهُمْ، ويجد الدار قد
__________
[ (1) ] السمك: السقف. (القاموس المحيط، ج 3، ص 307) .
[ (2) ] فى الأصل: «جسه» ، والتصحيح عن نسخة ب. وخشه: أى شقه. (القاموس المحيط، ج 2، ص 272) .
[ (3) ] مناهر: جمع منهر، وهو خرق فى الحصن نافذ يجرى منه الماء. (لسان العرب، ج 7، ص 95) .
[ (4) ] الشعل: جمع شعلة، وهي قطعة من خشب تشعل فيها النار. والسعف: أغصان النخلة.
(لسان العرب، ج 13، ص 376، ج 11، ص 51) .
[ (5) ] فى الأصل: «ولزما وظنونا» ، وما أثبتناه هو قراءة ب.(1/393)
شُحِنَتْ [ (1) ] . قَالَ: فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا يَنْظُرُونَ إلَى أَبِي رَافِعٍ مَا فَعَلَ. قَالَ:
فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ مَعَهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ ثُمّ أَحْنَتْ عَلَيْهِ تَنْظُرُ أَحَيّ أَمْ مَيّتٌ هُوَ، فَقَالَتْ: فَاظَ [ (2) ] وَإِلَهِ مُوسَى! قَالَ: ثُمّ كَرِهْت أَنْ أَرْجِعَ إلّا بِأَمْرٍ بَيّنٍ.
قَالَ: فَدَخَلْت الثّانِيَةَ مَعَهُمْ، فَإِذَا الرّجُلُ لَا يَتَحَرّكُ مِنْهُ عِرْقٌ. قَالَ:
فَخَرَجَتْ الْيَهُودُ فِي صَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: وَأَخَذُوا فِي جَهَازِهِ يَدْفِنُونَهُ. قَالَ:
وَخَرَجْت مَعَهُمْ وَقَدْ أَبْطَأْت عَلَى أَصْحَابِي بَعْضَ الْإِبْطَاءِ. قَالَ: فَانْحَدَرْت عَلَيْهِمْ فِي النّهْرِ فَخَبّرْتهمْ، فَمَكَثْنَا فِي مَكَانِنَا يَوْمَيْنِ حَتّى سَكَنَ عَنّا الطّلَبُ، ثُمّ خَرَجْنَا مُقْبِلِينَ إلَى الْمَدِينَةِ، كُلّنَا يَدّعِي قَتْلَهُ،
فَقَدِمْنَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمّا رَآنَا قَالَ: أَفْلَحَتْ الْوُجُوهُ! فَقُلْنَا أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أَقَتَلْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَكُلّنَا يَدّعِي قَتْلَهُ.
قَالَ: عَجّلُوا عَلَيّ بِأَسْيَافِكُمْ. فَأَتَيْنَا بِأَسْيَافِنَا ثُمّ قَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، هَذَا أَثَرُ الطّعَامِ فِي سَيْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ.
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ أَجْلَبَ فِي غَطَفَانَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ الْجُعْلَ الْعَظِيمَ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ النّفَرَ.
فَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ قَالَ: حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ [ (3) ] قَالَ:
لَمّا انْتَهَوْا إلَى أَبِي رَافِعٍ تَشَاجَرُوا فِي قَتْلِهِ. قَالَ: فَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ. وَكَانَ رَجُلًا أَعْشَى فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟
قَالُوا: تَرَى بَيَاضَهُ كَأَنّهُ قَمَرٌ. قَالَ: قَدْ رَأَيْت. قَالَ: وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَقَامَ النّفَرُ مَعَ الْمَرْأَةِ يَفْرُقُونَ أن تصيح، قد شهروا سيوفهم عليها،
__________
[ (1) ] شحنت: أى ملئت. (الصحاح، ص 2143) .
[ (2) ] فاظ: مات. (شرح أبى ذر، ص 326) .
[ (3) ] أى خارجة بن عبد الله بن أنيس.(1/394)
وَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَضَرَبَ بِالسّيْفِ، فرجعت السّيْفُ عَلَيْهِ لِقِصَرِ السّمْكِ فَاتّكَأَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ خَمْرًا حَتّى سَمِعَ خَشّ السّيْفِ وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ.
وَيُقَالُ كَانَتْ السّرِيّةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ.
غَزْوَةُ ذَاتِ الرّقَاعِ
فَإِنّمَا سُمّيَتْ ذَاتِ الرّقَاعِ لِأَنّهُ جَبَلٌ فِيهِ بُقَعٌ حُمْرٌ وَسَوَادٌ وَبَيَاضٌ [ (1) ] خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ السّبْتِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. وَقَدِمَ صِرَارًا [ (2) ] يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ وَغَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ.
فَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مُقْسِمٍ، وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَمّدِ بن أبى بكر، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَدِيثِ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ حَدّثَنِي بِهِ، قَالُوا: قَدِمَ قَادِمٌ بِجَلَبٍ لَهُ فَاشْتَرَى بِسُوقِ النّبَطِ، وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ جَلَبْت جَلَبَك؟ قَالَ: جِئْت مِنْ نَجْدٍ وَقَدْ رَأَيْت أَنْمَارًا وَثَعْلَبَةَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جُمُوعًا، وَأَرَاكُمْ هَادِينَ [ (3) ] عَنْهُمْ. فَبَلَغَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[ (1) ] زاد السهيلي على ذلك فقال: سميت ذات الرقاع لأنهم رقعوا فيها راياتهم، ويقال ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع. (الروض الأنف، ج 2، ص 181) .
[ (2) ] صرار: بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة تلقاء حرة وأقم. (معجم ما استعجم، ص 601) .
[ (3) ] هكذا فى سائر النسخ، ولعله تسهيل أهل الحجاز للهمزة، فتكون الكلمة أصلا «هادئين» .(1/395)
قَوْلُهُ، فَخَرَجَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ أَوْ ثَمَانَمِائَةٍ.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ، حَتّى سَلَكَ عَلَى الْمَضِيقِ [ (1) ] ثُمّ أَفْضَى إلَى وَادِي الشّقَرَةِ فَأَقَامَ بِهِ يَوْمًا، وَبَثّ السّرَايَا فَرَجَعُوا إلَيْهِ مَعَ اللّيْلِ، وَخَبّرُوهُ أَنّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَحَدًا وَقَدْ وَطِئُوا آثَارًا حَدِيثَةً. ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أصحابه حتى أبى مَحَالّهُمْ، فَيَجِدُونَ الْمَحَالّ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَقَدْ ذَهَبَتْ الْأَعْرَابُ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَهُمْ مُطِلّونَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ خَافَ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ قَرِيبٌ وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارّونَ. وَخَافَتْ الْأَعْرَابُ أَلّا يَبْرَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى يَسْتَأْصِلَهُمْ.
وَفِيهَا صَلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف. فحدّثنى ربيعة ابن عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: فَكَانَ أَوّلَ مَا صَلّى يَوْمَئِذٍ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَخَافَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِ وَهُمْ فِي الصّلَاةِ وَهُمْ صُفُوفٌ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلّيْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَطَائِفَةٌ خَلْفَهُ وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوّ، فَصَلّى بِالطّائِفَةِ الّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ ثَبَتَ قَائِمًا فَصَلّوْا خَلْفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ سَلّمُوا، وَجَاءَتْ الطّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَالطّائِفَةُ الْأُولَى مُقْبِلَةٌ عَلَى الْعَدُوّ، فَلَمّا صَلّى بِهِمْ رَكْعَةً ثَبَتَ جَالِسًا حَتّى أَتَمّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وسجدتين ثم سلّم.
__________
[ (1) ] المضيق: قرية كبيرة قريبة من الفرع. (وفاء الوفا، ج 2، ص 239) .(1/396)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَصَابَ فِي مَحَالّهِمْ نِسْوَةً، وَكَانَ فِي السّبْيِ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ كَانَ زَوْجُهَا يُحِبّهَا، فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ حَلَفَ زَوْجُهَا لَيَطْلُبَن مُحَمّدًا، وَلَا يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ حَتّى يُصِيبَ مُحَمّدًا، أَوْ يُهْرِيقَ فِيهِمْ دَمًا، أَوْ تَتَخَلّصُ صَاحِبَتَهُ.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ عَشِيّةَ ذَاتِ رِيحٍ، فَنَزَلَ فِي شِعْبٍ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا اللّيْلَةَ؟
فَقَامَ رَجُلَانِ، عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ نَكْلَؤُك. وَجَعَلَتْ الرّيحُ لَا تَسْكُنُ، وَجَلَسَ الرّجُلَانِ عَلَى فَمِ الشّعْبِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَيّ اللّيْلِ أَحَبّ إلَيْك، أَنْ أَكْفِيَك أَوّلَهُ فَتَكْفِينِي آخِرَهُ؟ قَالَ: اكْفِنِي أَوّلَهُ.
فَنَامَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وقام عبّاد بن بشر [ (1) ] يُصَلّي، وَأَقْبَلَ عَدُوّ اللهِ يَطْلُبُ غِرّةً وَقَدْ سَكَنَتْ الرّيحُ، فَلَمّا رَأَى سَوَادَهُ مِنْ قَرِيبٍ قَالَ: يَعْلَمُ اللهُ إنّ هَذَا لَرَبِيئَةُ [ (2) ] الْقَوْمِ! فَفَوّقَ لَهُ سَهْمًا فَوَضَعَهُ فِيهِ فَانْتَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمّ رَمَاهُ بِآخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَانْتَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمّ رَمَاهُ الثّالِثَ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَلَمّا غَلَبَ عَلَيْهِ الدّمُ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: اجْلِسْ فَقَدْ أَتَيْت! فَجَلَسَ عَمّارٌ، فَلَمّا رَأَى الْأَعْرَابِيّ أَنّ عَمّارًا قَدْ قَامَ عَلِمَ أَنّهُمْ قَدْ نَذَرُوا بِهِ. فَقَالَ عَمّارٌ: أَيْ أَخِي، مَا مَنَعَك أَنْ تُوقِظَنِي بِهِ فِي أَوّلِ سَهْمٍ رَمَى بِهِ؟ قَالَ: كُنْت فِي سُورَةٍ أَقْرَأهَا وَهِيَ سُورَةُ الْكَهْفِ، فَكَرِهْت أَنْ أَقْطَعَهَا حَتّى أَفْرُغَ مِنْهَا، وَلَوْلَا أَنّي خَشِيت أَنْ أُضَيّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْصَرَفْت وَلَوْ أُتِيَ عَلَى نَفْسِي. وَيُقَالُ: الْأَنْصَارِيّ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ:
وَأَثْبَتُهُمَا عِنْدَنَا عَمّارُ بْنُ ياسر.
__________
[ (1) ] فى ب: «عبد الله بن بشر» .
[ (2) ] الربيئة: الطليعة الذي يحرس القوم، يقال ربأ القوم إذا حرسهم. (شرح أبى ذر، ص 295) .(1/397)
فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: إنّا لَمَعَ النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم إذا جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَرْخٍ طَائِرٍ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَأَقْبَلَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا حَتّى طَرَحَ نَفْسَهُ فِي يَدَيْ الّذِي أَخَذَ فَرْخَهُ. فَرَأَيْت النّاسَ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الطّائِرِ؟ أَخَذْتُمْ فَرْخَهُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ رَحْمَةً لِفَرْخِهِ! وَاَللهِ لَرَبّكُمْ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذَا الطّائِرِ بِفَرْخِهِ!
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فِي غَزْوَتِه.
قَالَ جَابِرٌ: فَإِنّا لَفِي مُنْصَرَفِنَا أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا تَحْتَ ظِلّ شَجَرَةٍ فَقُلْت: هَلُمّ إلَى الظّلّ يَا رَسُولَ اللهِ. فَدَنَا إلَى الظّلّ فَاسْتَظَلّ، فَذَهَبْت لِأُقَرّبَ إلَيْهِ شَيْئًا، فَمَا وَجَدْت إلّا جَرْوًا مِنْ قِثّاءٍ فِي أَسْفَلِ الْغِرَارَةِ.
قَالَ: فَكَسَرْته كَسْرًا ثُمّ قَرّبْته إلَيْهِ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَقُلْنَا: شَيْءٌ فَضَلَ مِنْ زَادِ الْمَدِينَةِ. فَأَصَابَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَهَرْنَا [ (1) ] صَاحِبًا لَنَا، يَرْعَى ظَهْرَنَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُتَخَرّقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا لَهُ غَيْرُ هَذَا؟
فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ لَهُ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ فِي الْعَيْبَةِ. فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذْ ثَوْبَيْك. فَأَخَذَ ثَوْبَيْهِ فَلَبِسَهُمَا ثُمّ أَدْبَرَ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ هَذَا أَحْسَنَ؟ مَا لَهُ ضَرَبَ اللهُ عُنُقَهُ؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ الرّجُلُ فَقَالَ: فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي سَبِيلِ اللهِ.
قَالَ جَابِرٌ: فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سبيل الله.
__________
[ (1) ] أى صبحناه. (الصحاح، ص 618) .(1/398)
قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدّثُ عِنْدَنَا إلَى أَنْ جَاءَنَا عُلْبَةُ [ (1) ] بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيّ بِثَلَاثِ بَيْضَاتٍ أَدَاحِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَجَدْت هَذِهِ الْبَيْضَاتِ فِي مَفْحَصِ نَعَامٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
دُونَك يَا جَابِرُ، فَاعْمَلْ هَذِهِ الْبَيْضَاتِ! فَوَثَبْت فَعَمِلْتهنّ، ثُمّ جِئْت بِالْبَيْضِ فِي قَصْعَةٍ، وَجَعَلْت أَطْلُبُ خُبْزًا فَلَا أَجِدُهُ. قَالَ: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْضِ بِغَيْرِ خُبْزٍ. قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمْسَكَ يَدَهُ وَأَنَا أَظُنّ أَنّهُ قَدْ انْتَهَى إلَى حَاجَتِهِ، وَالْبَيْضُ فِي الْقَصْعَةِ كَمَا هُوَ. قَالَ: ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ مِنْهُ عَامّةُ أَصْحَابِنَا، ثُمّ رُحْنَا مُبَرّدِينَ. قَالَ جَابِرٌ: وَإِنّا لَنَسِيرُ إلَى أَنْ أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لَك يا جابر؟
فقلت: أبى رَسُولَ اللهِ جَدّي [ (2) ] أَنْ يَكُونَ لِي بَعِيرُ سُوءٍ، وَقَدْ مَضَى النّاسُ وَتَرَكُونِي! قَالَ: فَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرَهُ فَقَالَ: أَمَعَك مَاءٌ؟
فَقُلْت: نَعَمْ. فَجِئْته بِقَعْبٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَفَثَ فِيهِ ثُمّ نَضَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ وَعَلَى عَجُزِهِ، ثُمّ قَالَ: أَعْطِنِي عَصًا. فَأَعْطَيْته عَصًا مَعِي- أَوْ قَالَ قَطَعْت لَهُ عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ. قَالَ: ثُمّ نَخَسَهُ، ثُمّ قَرَعَهُ بِالْعَصَا، ثُمّ قَالَ: ارْكَبْ يَا جَابِرُ. قَالَ: فَرَكِبْت. قَالَ: فَخَرَجَ، وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ [ (3) ] مُوَاهَقَةً مَا تَفُوتُهُ نَاقَتُهُ.
قَالَ: وَجَعَلْت أَتَحَدّثُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم ثم قال:
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عليه بن زيد» . وما أثبتناه من ب، ومن ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 1245) .
[ (2) ] فى الأصل: «خذنى ألا يكون» ،. وما أثبتناه هو قراءة ب.
[ (3) ] أى يباريها فى السير ويماشيها، ومواهقة الإبل مد أعناقها فى السير. (النهاية، ج 4، ص 234) .(1/399)
يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَتَزَوّجْت؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيّبًا؟ فَقُلْت:
ثَيّبًا. فَقَالَ: أَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك! فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي وَأُمّي إنّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، وَتَزَوّجْت امْرَأَةً جَامِعَةً تَلُمّ شَعَثَهُنّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنّ. قَالَ: أَصَبْت. ثُمّ قَالَ: إنّا لَوْ قَدِمْنَا صِرَارًا أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفّضَتْ نَمَارِقَهَا. قَالَ، قُلْت: وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا [ (1) ] نَمَارِقُ. قَالَ: أَمَا إنّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا قَدِمْت فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيّسًا. قَالَ، قُلْت: أَفْعَلُ مَا اسْتَطَعْت. قَالَ: ثُمّ قَالَ: بِعْنِي جَمَلَك هَذَا يَا جَابِرُ. قُلْت: بَلْ هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ:
لَا، بَلْ بِعْنِيهِ. قَالَ: قُلْت نَعَمْ، سُمْنِي بِهِ. قَالَ: فَإِنّي آخُذُهُ بِدِرْهَمٍ.
قَالَ قُلْت: تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: لَا، لَعَمْرِي! قَالَ جَابِرٌ: فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي دِرْهَمًا دِرْهَمًا حَتّى بَلَغَ بِهِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا- أُوقِيّةً- فَقَالَ: أَمَا رَضِيت؟ فَقُلْت:
هُوَ لَك. فَقَالَ: فَظَهْرُهُ لَك حَتّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ. قَالَ: وَيُقَالُ إنّهُ قَالَ «آخُذُهُ مِنْك بِأُوقِيّةٍ وَظَهْرُهُ لَك» فَبَاعَهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا صِرَارًا أَمَرَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، فَأَقَامَ بِهِ يَوْمَهُ ثُمّ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ.
قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْت لِلْمَرْأَةِ: قَدْ أَمَرَنِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا كَيّسًا. قَالَتْ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدُونَك فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمّ أَصْبَحْت فَأَخَذْت بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَانْطَلَقْت حَتّى أَنَخْته عِنْدَ حُجْرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْت حَتّى خَرَجَ، فَلَمّا خَرَجَ قَالَ: أَهَذَا الْجَمَلُ؟ قُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ الّذِي اشْتَرَيْت. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَعْطِهِ أُوقِيّةً، وَخُذْ بِرَأْسِ جَمَلِك يَا ابْنَ أَخِي فَهُوَ لَك. فَانْطَلَقْت مَعَ بِلَال فَقَالَ بِلَالٌ: أنت ابن
__________
[ (1) ] فى ب: «ما لها» .(1/400)
صَاحِبُ الشّعْبِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَقَالَ: وَاَللهِ لَأُعْطِيَنك وَلَأَزِيدَنك.
فَزَادَنِي قِيرَاطًا أَوْ قِيرَاطَيْنِ. قَالَ: فَمَا زَالَ ذَلِكَ [ (1) ] يُثْمِرُ وَيَزِيدُنَا اللهُ بِهِ:
وَنَعْرِفُ مَوْضِعَهُ حَتّى أُصِيبَ هَا هُنَا قَرِيبًا عِنْدَكُمْ- يَعْنِي الْجَمَلَ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَطِيّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمّا انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ، فَكُنّا بِالشّقْرَةِ، قَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جَابِرُ، مَا فَعَلَ دَيْنُ أَبِيك؟ فَقُلْت:
عَلَيْهِ انْتَظَرْت يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يُجَذّ نَخْلُهُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذَا جَذَذْت فَأَحْضِرْنِي قَالَ، قُلْت: نَعَمْ. ثُمّ قَالَ: مَنْ صَاحِبُ دَيْنِ أَبِيك؟ فَقُلْت: أَبُو الشّحْمِ الْيَهُودِيّ، لَهُ عَلَى أَبِي سِقَةُ [ (2) ] تَمْرٍ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَتَى تَجُذّهَا؟ قُلْت: غَدًا. قَالَ: يَا جَابِرُ، فَإِذَا جَذَذْتهَا فَاعْزِلْ الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَتِهَا، وَأَلْوَانَ التّمْرِ عَلَى حِدَتِهَا.
قَالَ: فَفَعَلْت، فَجَعَلْت الصّيْحَانِيّ عَلَى حِدَةٍ، وَأُمّهَاتَ الْجَرَادَيْنِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمّ عَمَدْت إلَى جُمّاعٍ مِنْ التّمْرِ مِثْلِ نُخْبَةٍ [ (3) ] وَقَرْنٍ وَشُقْحَةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَنْوَاعِ، وَهُوَ أَقَلّ التّمْرِ، فَجَعَلْته حَبْلًا [ (4) ] وَاحِدًا، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَبّرْته، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا الحائط وحضر أبو الشّحم. قال:
__________
[ (1) ] فى ب: «فما زال يثمر ذلك» .
[ (2) ] فى ب: «سقة من تمر» . قال ابن الأثير: السقة جمع وسق وهو الحمل وقدره الشرع بستين صاعا ... وقد صحفه بعضهم بالشين المعجمة وليس بشيء، والذي ذكره أبو موسى فى غريبه بالشين المعجمة وفسره بالقطعة من التمر. (النهاية، ج 2، ص 169) .
[ (3) ] فى ب: «نحفة» .
[ (4) ] هكذا فى النسخ. والحبل: قطعة من الرمل ضخمة ممتدة. (النهاية، ج 1، ص 197) .
وكأنه يريد به أن التمر كحبل الرمل.(1/401)
فَلَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى التّمْرِ مُصَنّفًا قَالَ: اللهُمّ بَارِكْ لَهُ! ثُمّ انْتَهَى إلَى الْعَجْوَةِ فَمَسّهَا بِيَدِهِ وَأَصْنَافَ التّمْرِ، ثُمّ جَلَسَ وَسَطَهَا ثُمّ قَالَ: اُدْعُ غَرِيمَك. فَجَاءَ أَبُو الشّحْمِ فَقَالَ: اكْتَلْ! فَاكْتَالَ حَقّهُ كُلّهُ مِنْ حَبْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْعَجْوَةُ، وَبَقِيّةُ التّمْرِ كَمَا هُوَ. ثُمّ قَالَ: يَا جَابِرُ، هَلْ بَقِيَ عَلَى أَبِيك شَيْءٌ؟ قَالَ، قُلْت: لَا. قَالَ: وَبَقِيَ سَائِرُ التّمْرِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ دَهْرًا وَبِعْنَا مِنْهُ حَتّى أَدْرَكَتْ الثّمَرَةُ مِنْ قَابِلَ، وَلَقَدْ كُنْت أَقُولُ:
لَوْ بِعْت أَصْلَهَا مَا بَلَغَتْ مَا كَانَ عَلَى أَبِي مِنْ الدّيْنِ، فَقَضَى اللهُ مَا كَانَ عَلَى أَبِي مِنْ الدّيْنِ. فَلَقَدْ رَأَيْتنِي وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُولُ: مَا فَعَلَ دَيْنُ أَبِيك؟ فَقُلْت: قَدْ قَضَاهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ. فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِجَابِرٍ!
فَاسْتَغْفَرَ لِي فِي لَيْلَةٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرّةً.
حَدّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
غِزِوِة دُومَةِ الْجَنْدَلِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَقَدِمَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ. وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، فَكِلَاهُمَا قَدْ حَدّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ حَدّثَنَا أيضا.(1/402)
قَالُوا: أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْنُوَ إلَى أَدْنَى الشّامِ، وَقِيلَ لَهُ إنّهَا طَرَفٌ مِنْ أَفْوَاهِ الشّامِ، فَلَوْ دَنَوْت لَهَا كَانَ ذَلِكَ مِمّا يُفْزِعُ قَيْصَرَ. وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَنّهُمْ يَظْلِمُونَ مَنْ مَرّ بِهِمْ مِنْ الضّافِطَةِ [ (1) ] ، وَكَانَ بِهَا سُوقٌ عَظِيمٌ وَتُجّارٌ، وَضَوَى إلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنْ الْمَدِينَةِ. فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، فَخَرَجَ فِي ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويمكن النّهَارَ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَذْكُورٌ، هَادٍ خِرّيتٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغِذّا لِلسّيْرِ، وَنَكَبَ عَنْ طَرِيقِهِمْ،
وَلَمّا دَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُومَةِ الْجَنْدَلِ- وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا يَوْمٌ أَوْ لَيْلَةٌ سَيْرَ الرّاكِبِ الْمُعْتِقِ [ (2) ]- قَالَ لَهُ الدّلِيلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ سَوَائِمَهُمْ تَرْعَى فَأَقِمْ لِي حَتّى أَطّلِعَ لَك. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ.
فَخَرَجَ الْعُذْرِيّ طَلِيعَةً حَتّى وَجَدَ آثَارَ النّعَمِ وَالشّاءِ وَهُمْ مُغَرّبُونَ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ وَقَدْ عَرَفَ مَوَاضِعَهُمْ، فَسَارَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى هَجَمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرِعَائِهِمْ، فَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ فِي كُلّ وَجْهٍ. وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ فَتَفَرّقُوا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ، فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيّامًا وَبَثّ السّرَايَا وَفَرّقَهَا حَتّى غَابُوا عَنْهُ يَوْمًا ثُمّ رَجَعُوا إلَيْهِ، وَلَمْ يُصَادِفُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، وَتَرْجِعُ السّرِيّةُ بِالْقِطْعَةِ مِنْ الْإِبِلِ،
__________
[ (1) ] الضافطة: جمع ضافط، وهو الذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الذي يكرى الأحمال وكانوا يومئذ قوما من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت. (النهاية، ج 3، ص 22) .
[ (2) ] أعتق الراكب فرسه إذا أعجلها. (القاموس المحيط، ج 3، ص 262) .(1/403)
إلّا أَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَتَى بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: هَرَبُوا أَمْسِ حَيْثُ سَمِعُوا بِأَنّك قَدْ أَخَذْت نَعَمَهُمْ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ أَيّامًا فَأَسْلَمَ، فَرَجَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباع بن عرفطة.
غِزوة المر يسيع [ (1) ]
فِي سَنَةِ خَمْسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِهِلَالِ رَمَضَانَ وَغَابَ شَهْرًا إلّا لَيْلَتَيْنِ.
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالح، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَخَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى، وَعُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي قَالُوا: إنّ بَلْمُصْطَلِقَ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَنْزِلُونَ نَاحِيَةَ الْفُرُعِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ فِي بنى مدلج، وَكَانَ رَأْسُهُمْ وَسَيّدُهُمْ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَرَبِ، فَدَعَاهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَاعُوا خَيْلًا وَسِلَاحًا وَتَهَيّئُوا لِلْمَسِيرِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُعِلَتْ الرّكْبَانُ تَقَدّمَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ فَيُخْبِرُونَ بِمَسِيرِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيّ يَعْلَمُ عِلْمَ ذَلِكَ، وَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ فَأَذِنَ له، فخرج حتى ورد
__________
[ (1) ] المريسيع: ماء لخزاعة بينه وبين الفرغ نحو يوم. (وفاء الوفا، ج 2، ص 373) .(1/404)
عَلَيْهِمْ مَاءَهُمْ، فَوَجَدَ قَوْمًا مَغْرُورِينَ قَدْ تَأَلّبُوا وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ، فَقَالُوا:
مَنْ الرّجُلُ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْكُمْ، قَدِمْت لِمَا بَلَغَنِي عَنْ جَمْعِكُمْ لِهَذَا الرّجُلِ، فَأَسِيرُ فِي قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي فَتَكُونُ يَدُنَا وَاحِدَةً حَتّى نَسْتَأْصِلَهُ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ: فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَجّلْ عَلَيْنَا. قَالَ بُرَيْدَةُ: أَرْكَبُ الْآنَ فَآتِيكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيفٍ مِنْ قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي. فَسَرّوا بِذَلِكَ مِنْهُ، وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوّهِمْ فَأَسْرَعَ النّاسُ لِلْخُرُوجِ، وَقَادُوا الْخُيُولَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَفِي الْأَنْصَارِ عِشْرُونَ، وَلِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَانِ، وَكَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَام فَارِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَالزّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو. وَفِي الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَقَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيّ، وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَزْمَةَ [ (1) ] ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَزِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَمُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ.
قَالُوا: وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَطّ مِثْلِهَا، لَيْسَ بِهِمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ إلّا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ عَرَضِ الدّنْيَا، وَقَرُبَ عَلَيْهِمْ السّفَرُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى سَلَكَ عَلَى الْحَلَائِقِ [ (2) ] فَنَزَلَ بِهَا. فَأُتِيَ يَوْمَئِذٍ بِرَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَسَلّمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
__________
[ (1) ] هكذا فى كل النسخ، ويروى أيضا بالخاء المعجمة. (الاستيعاب، ص 287) .
[ (2) ] يروى أيضا بالخاء المعجمة، وهو مكان به مزارع وآبار قرب المدينة. (شرح على المواهب اللدنية، ج 2، ص 116) .(1/405)
أَيْنَ أَهْلُك؟ قَالَ: بِالرّوْحَاءِ. قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: إيّاكَ جِئْت لِأُومِنَ بِك وَأَشْهَدُ أَنّ مَا جِئْت بِهِ الْحَقّ، وَأُقَاتِلَ مَعَك عَدُوّك قال له رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاك لِلْإِسْلَامِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيّ الْأَعْمَالِ أَحَبّ إلَى اللهِ؟ قَالَ: الصّلَاةُ فِي أَوّلِ وَقْتِهَا.
قَالَ: فَكَانَ الرّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلّي حِينَ تَزِيغُ الشّمْسُ، وَحِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَحِينَ تَغْرُب الشّمْسُ، لَا يُؤَخّرُ الصّلَاةَ إلَى الْوَقْتِ الْآخَرِ.
قَالَ: فَلَمّا نَزَلَ بِبَقْعَاءَ [ (1) ] أَصَابَ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا لَهُ: مَا وَرَاءَك؟
أَيْنَ النّاسُ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ.
فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَتَصْدُقَن أَوْ لَأَضْرِبَن عُنُقَك. قَالَ:
فَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَلْمُصْطَلِقَ، تَرَكْت الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ قَدْ جَمَعَ لَكُمْ الْجُمُوعَ، وَتَجَلّبَ إلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَبَعَثَنِي إلَيْكُمْ لِآتِيَهُ بِخَبَرِكُمْ وَهَلْ تَحَرّكْتُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ. فَأَتَى عُمَرُ بِذَلِكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَرَضَهُ عَلَيْهِ، فَأَبَى وَقَالَ: لَسْت بِمُتّبِعٍ دِينَكُمْ حَتّى أَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ قَوْمِي، إنْ دَخَلُوا فِي دِينِكُمْ كُنْت كَأَحَدِهِمْ، وَإِنْ ثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ فَأَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَضْرِبُ عُنُقَهُ! فَقَدّمَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عُنُقَه، فَذَهَبَ الْخَبَرُ إلَى بَلْمُصْطَلِقَ. فَكَانَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَقُولُ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ:
جَاءَنَا خَبَرُهُ وَمَقْتَلُهُ وَمَسِيرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْنَا النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فسئ [ (2) ] أَبِي وَمَنْ مَعَهُ وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَفَرّقَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ قَدْ اجْتَمَعَ إلَيْهِمْ مِنْ أَفْنَاءِ الْعَرَبِ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَاهُمْ.
__________
[ (1) ] بقعاء: موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة. (وفاء الوفاء ج 2، ص 264) .
[ (2) ] فى ب: «فسيء به» .(1/406)
ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُرَيْسِيعِ وَهُوَ الْمَاءُ فَنَزَلَهُ، وَضُرِبَ [ (1) ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة مِنْ أَدَمٍ، وَمَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ عَائِشَةُ وَأُمّ سَلَمَةَ. وَقَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى الْمَاءِ وَأَعَدّوا وَتَهَيّئُوا لِلْقِتَالِ، فَصَفّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَدَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَيُقَالُ كَانَ مَعَ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ.
ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَنَادَى فِي النّاسِ: قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللهُ، تَمْنَعُوا بِهَا أَنَفْسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ.
فَفَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَبَوْا. فَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَرَمَى الْمُسْلِمُونَ سَاعَةً بِالنّبْلِ، ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوا، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ، وَقُتِلَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ وَأُسِرَ سَائِرُهُمْ. وَسَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَالذّرّيّةَ، [وَغُنِمَتْ] النّعَمُ وَالشّاءُ، وَمَا قُتِلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَجُلٌ وَاحِدٌ.
وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ: حَمَلَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ ذُو الشّقْرِ، فَلَمْ تَكُنْ لِي بِأُهْبَةٍ حَتّى شَدَدْت عَلَيْهِ وَكَانَ الْفَتْحُ. وَكَانَ شَعَارُهُمْ:
يَا مَنْصُورُ، أَمِتْ أَمِتْ! وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدّثُ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارّونَ، وَنَعَمُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيّهُمْ. وَالْحَدِيثُ الْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ ضُبَابَةَ [ (2) ] قَدْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العدوّ، فرجع فى ريح
__________
[ (1) ] فى ب: «واضطرب» .
[ (2) ] هكذا فى النسخ. وفى كل مراجع السيرة الأخرى: «هشام بن صبابة» .(1/407)
شَدِيدَةٍ وَعَجَاجٍ [ (1) ] ، فَتَلْقَى رَجُلًا مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ يُقَالُ لَهُ أَوْسٌ، فَظَنّ أَنّهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَعَلِمَ بَعْدُ أَنّهُ مُسْلِمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُخْرَجَ دِيَتُهُ. وَيُقَالُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو ابْنِ عَوْفٍ، فَقَدِمَ أَخُوهُ مِقْيَسٌ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُ بِالدّيَةِ فَقَبَضَهَا، ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ مُرْتَدّا وَهُوَ يَقُولُ:
شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... يُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأخادع [ (2) ]
ثأرت به قهرا وَحَمّلْت عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ [ (3) ]
حَلَلْت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ رَاجِعِ
سَمِعْت عَبْدَ الرّحْمَنِ يَقُولُ: أَنْشَدَنِيهَا أَبِي. فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ حَتّى قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْأَبْيَضِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّتِهِ، وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ: سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ تَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عَلَى الْمُرَيْسِيعِ فَأَسْمَعُ أَبِي يَقُولُ: أَتَانَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ. قَالَتْ: فَكُنْت أَرَى مِنْ النّاسِ وَالْخَيْلِ مَا لَا أَصِفُ مِنْ الْكَثْرَةِ، فَلَمّا أَنْ أَسْلَمْت وَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَجَعْنَا جَعَلْت أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسُوا كَمَا كُنْت أرى، فعلمت أنه رغب من
__________
[ (1) ] العجاج: الغبار. (الصحاح، ص 327) .
[ (2) ] الأخادع: عروق فى القفا، وإنما هما أخدعان، فجمعهما مع ما يليهما. (شرح أبى ذر، ص 334) .
[ (3) ] فارع: أطم كان فى موضع دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 354) .(1/408)
اللهِ تَعَالَى يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ يَقُولُ: لَقَدْ كُنّا نَرَى رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، مَا كُنّا نَرَاهُمْ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.
حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضِيلِ، قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ مَسْعُودِ بْنُ هُنَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقْعَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا مَسْعُودُ؟. فَقُلْت: جِئْت لِأَنْ أُسَلّمَ عَلَيْك وَقَدْ أَعْتَقَنِي أَبُو تَمِيمٍ. قَالَ: بَارَكَ اللهُ عَلَيْك، أَيْنَ تَرَكْت أَهْلَك؟ قَالَ: تَرَكَتْهُمْ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالْخَذَوَاتِ [ (1) ] ، وَالنّاسُ صَالِحُونَ، وَقَدْ رَغِبَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَثُرَ حَوْلَنَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِلّهِ الْحَمْدُ الّذِي هَدَاهُمْ! ثُمّ قَالَ مَسْعُودٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَأَيْتنِي أَمْسِ وَلَقِيت رَجُلًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَدَعَوْته إلَى الْإِسْلَامِ فَرَغّبْته فِيهِ فَأَسْلَمَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَإِسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْك كَانَ خَيْرًا لَك مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ. ثُمّ قَالَ: كُنْ مَعَنَا حَتّى نَلْقَى عَدُوّنَا، فَإِنّي أَرْجُو أَنْ يُنَفّلَنَا اللهُ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ: فَسِرْت مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غَنّمَهُ اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ، فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةً مِنْ إبِلٍ وَقِطْعَةً مِنْ غَنَمٍ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَقْدِرُ أَنْ أَسُوقَ الْإِبِلَ وَمَعِي الْغَنَمُ؟ اجْعَلْهَا غَنَمًا كُلّهَا أَوْ إبِلًا كُلّهَا. فَتَبَسّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: أَيّ ذَلِكَ أَحَبّ إلَيْك؟ قُلْت: تَجْعَلُهَا إبِلًا. قَالَ: أَعْطِهِ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ.
قَالَ: فَأَعْطَيْتهَا. فَيُقَالُ لَهُ: قَارَعَهُ مِنْ الْمَالِ أَوْ مِنْ الْخُمُسِ؟
قَالَ: وَاَللهِ مَا أَدْرِي، فَرَجَعْت إلى أهلى، فو الله مَا زِلْنَا فِي خَيْرٍ مِنْهَا إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عبد الله
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بالجدرات» ، وما أثبتناه عن نسخة ب، وعن ياقوت. (معجم البلدان، ج 3، ص 406) .(1/409)
ابن أَبِي جَهْمٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسْرَى فَكُتِفُوا وَجُعِلُوا نَاحِيَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ [ (1) ] . وَأَمَرَ بِمَا وُجِدَ فِي رِحَالِهِمْ مِنْ رِثّةِ [الْمَتَاعِ] [ (2) ] وَالسّلَاحِ فَجُمِعَ، وَعُمِدَ إلَى النّعَمِ وَالشّاءِ فَسِيقَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ شُقْرَانَ مَوْلَاهُ، وَجَمَعَ الذّرّيّةَ نَاحِيَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَقْسَمِ- مَقْسَمِ الْخُمُسِ- وَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ، فَكَانَ يَلِيهِ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ.
وَحَدّثَنِي محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَا: جَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على خُمُسِ الْمُسْلِمِينَ مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزّبَيْدِيّ. قَالَا: وَكَانَ يَجْمَعُ الْأَخْمَاسَ وَكَانَتْ الصّدَقَاتُ عَلَى حِدَتِهَا، أهل الْفَيْءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ الصّدَقَةِ، وَأَهْلُ الصّدَقَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْفَيْءِ، وَكَانَ يُعْطِي مِنْ الصّدَقَةِ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَالضّعِيفَ. فَإِذَا احْتَلَمَ الْيَتِيمُ نُقِلَ إلَى الْفَيْءِ وَأُخْرِجَ مِنْ الصّدَقَةِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَإِنْ كَرِهَ الْجِهَادَ وَأَبَاهُ لَمْ يُعْطَ مِنْ الصّدَقَةِ شَيْئًا، وَخَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكْسِبَ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ سَائِلًا، فَأَتَاهُ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ مِنْ الْخُمُسِ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ، وَلَا حَظّ فِيهَا لِغَنِيّ وَلَا لِقَوِيّ مُكْتَسِبٍ.
قَالُوا: فَاقْتُسِمَ السّبْيُ وَفُرّقَ، فَصَارَ فِي أَيْدِي الرّجَالِ، وَقُسِمَتْ الرّثّةُ وَقُسِمَ النّعَمُ وَالشّاءُ، وَعُدِلَتْ الْجَزُورُ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ وَبِيعَتْ الرّثّةُ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَأُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ، وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ. وَكَانَتْ الْإِبِلُ أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَخَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ، وَكَانَ السّبْيُ مِائَتَيْ أَهْلِ بَيْتٍ. فَصَارَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قيس وابن عمّ
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بريدة بن الحصيب» بالحاء المعجمة، والتصحيح عن ب، وعن ابن سعد.
(الطبقات، ج 2، ص 45) .
[ (2) ] الزيادة من ب(1/410)
لَهُ، فَكَاتَبَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ذَهَبٍ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ جَارِيَةً حُلْوَةً، لَا يَكَادُ يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا ذَهَبَتْ بِنَفْسِهِ، فَبَيْنَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي وَنَحْنُ عَلَى الْمَاءِ إذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ جُوَيْرِيَةُ تَسْأَلُهُ فى كتابتها. قالت عائشة: فو الله مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا فَكَرِهْت دُخُولَهَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفْت أَنّهُ سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الّذِي رَأَيْت، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث ابن أَبِي ضِرَارٍ سَيّدِ قَوْمِهِ، أَصَابَنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا قَدْ عَلِمْت، وَوَقَعْت فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ وَابْنِ عَمّ لَهُ، فَتَخَلّصَنِي مِنْ ابْنِ عَمّهِ بِنَخَلَاتٍ لَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَكَاتَبَنِي ثَابِتٌ عَلَى مَا لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا يَدَانِ، وَمَا أَكْرَهَنِي عَلَى ذَلِكَ إلّا أَنّي رَجَوْتُك صَلّى اللهُ عَلَيْك فَأَعِنّي فى مكاتبى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو خير مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ:
أُؤَدّي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك.
قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ فَعَلْت! فَأَرْسَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثَابِتٍ فَطَلَبَهَا مِنْهُ، فَقَالَ ثَابِتٌ:
هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي وَأُمّي. فَأَدّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابَتِهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا. وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلى الناس، ورجال بنى المصطلق قَدْ اُقْتُسِمُوا وَمُلِكُوا وَوُطِئَ نِسَاؤُهُمْ، فَقَالُوا: أَصْهَارُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ السّبْيِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَأَعْتَقَ مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ بِتَزْوِيجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهَا، فَلَا أَعْلَمُ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا.
فَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ جُوَيْرِيَةُ: رَأَيْت(1/411)
قَبْلَ قُدُومِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَأَنّ الْقَمَرَ يَسِيرُ مِنْ يَثْرِبَ حَتّى وَقَعَ فِي حِجْرِي، فَكَرِهْت أَنْ أُخْبِرَهَا أَحَدًا مِنْ النّاسِ، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا سُبِينَا رَجَوْت الرّؤْيَا، فَلَمّا أَعْتَقَنِي وَتَزَوّجَنِي وَاَللهِ مَا كَلّمْته فِي قَوْمِي حَتّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمْ الّذِينَ أَرْسَلُوهُمْ، وَمَا شَعَرْت إلّا بِجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ عَمّي تُخْبِرُنِي الْخَبَرَ، فَحَمِدْت اللهَ عَزّ وَجَل.
وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ كُلّ أَسِيرٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَيُقَالُ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ أَرْبَعِينَ مِنْ قَوْمِهَا.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، قَالَ: كَانَ السّبْيُ مِنْهُمْ مَنْ مَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ اُفْتُدِيَ، وَذَلِك بَعْدَ مَا صَارَ السّبْيُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ، فَافْتُدِيَتْ الْمَرْأَةُ وَالذّرّيّةُ بِسِتّ فَرَائِضَ. وَكَانُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ بِبَعْضِ السّبْيِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أَهْلُوهُمْ فَافْتَدَوْهُمْ، فَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِق إلّا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا. وَهَذَا الثّبْتُ.
فَحَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عبيد، عن عبد الرحمن ابن سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَدِمَ الْوَفْدُ الْمَدِينَةَ فَافْتَدَوْا السّبْيَ بَعْدَ السّهْمَانِ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الْأَبْيَضِ، عَنْ جَدّتِهِ وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ، كَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِهِمْ، قَالَتْ: سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ تَقُولُ: افْتَدَانِي أَبِي مِنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ بِمَا اُفْتُدِيَ بِهِ امْرَأَةٌ مِنْ السّبْيِ، ثُمّ خَطَبَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى فأنكحنى. قالت: وكان اسمها برّة فَسَمّاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ «خَرَجَ مِنْ بَيْتِ بَرّةَ» . قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَأَثْبَتُ (مِنْ) هَذَا عِنْدَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَأَعْتَقَهَا وتزوّجها.(1/412)
وَحَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ لَهَا كَمَا كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ.
وَحَدّثَنِي الضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بن يحيى بن حبان، عن أبى محيرير، وَأَبِي ضَمْرَةَ [ (1) ] ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبَايَا، وَبِنَا شَهْوَةُ النّسَاءِ، وَاشْتَدّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ فَأَرَدْنَا الْعَزْلَ فَقُلْنَا:
نَعْزِلُ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَلّا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلّا هِيَ كَائِنَةٌ.
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: فَقَدِمَ عَلَيْنَا وُفُودُهُمْ فَافْتَدَوْا الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ، وَرَجَعُوا بِهِنّ إلَى بِلَادِهِمْ، وَخُيّرَ مَنْ خُيّرَ مِنْهُنّ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَ مَنْ صَارَتْ فِي سَهْمِهِ، فَأَبَيْنَ إلّا الرّجُوعَ.
قَالَ الضحّاك: فحدّثت هذا الحديث أبا النّصر فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عن أبن سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَخَرَجْت بِجَارِيَةٍ لِي أَبَيْعُهَا فِي السّوقِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَعَلّك تُرِيدُ بَيْعَهَا وَفِي بَطْنِهَا مِنْك سَخْلَةٌ! قَالَ: فَقُلْت كَلّا، إنّي كُنْت أَعْزِلُ عَنْهَا. فَقَالَ: تِلْكَ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى. قَالَ: فَجِئْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته ذَلِكَ، فَقَالَ: كَذَبَتْ الْيَهُودُ! كذبت اليهود!
تم بعون الله تعالى الجزء الأول من مغازي الواقدىّ ويليه الجزء الثاني وأوله «ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ أُبَيّ»
__________
[ (1) ] فى ب: «وأبى صرمة» .(1/413)
الجزء الثاني
ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ أُبَيّ
قَالُوا: فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَاءِ الْمُرَيْسِيعِ قَدْ انْقَطَعَتْ الْحَرْبُ، وَهُوَ مَاءٌ ظَنُونٌ [ (1) ] ، إنّمَا يَخْرُجُ فِي الدّلْوِ نِصْفُهُ، أَقْبَلَ سِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ- وَهُوَ حَلِيفٌ فِي بَنِي سَالِمٍ- وَمَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ يَسْتَقُونَ، فَيَجِدُونَ عَلَى الْمَاءِ جَمْعًا مِنْ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَ جَهْجَا [ (2) ] بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيّ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَأَدْلَى سِنَانٌ وَأَدْلَى جَهْجَا دَلْوَهُ، وَكَانَ جَهْجَا أَقْرَبَ السّقَاءِ إلَى سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ، فَالْتَبَسَتْ دَلْوُ سِنَانٍ وَدَلْوُ جَهْجَا، فَخَرَجَتْ إحْدَى الدّلْوَيْنِ وَهِيَ دَلْوُ سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ. قَالَ سِنَانٌ:
فَقُلْت: دَلْوِي. فَقَالَ جَهْجَا: وَاَللهِ، مَا هِيَ إلّا دَلْوِي. فَتَنَازَعَا إلَى أَنْ رَفَعَ جَهْجَا يَدَهُ فَضَرَبَ سِنَانًا فَسَالَ الدّمُ، فَنَادَى: يَا آلَ خَزْرَجٍ [ (3) ] ! وَثَارَتْ الرّجَالُ. قَالَ سِنَانٌ: وَأَعْجَزَنِي جَهْجَا هَرَبًا وَأَعْجَزَ أَصْحَابِي، وَجَعَلَ يُنَادِي فِي الْعَسْكَرِ: يَا آلَ قُرَيْشٍ! يَا آلَ كِنَانَةَ! فَأَقْبَلَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ سِرَاعًا.
قَالَ سِنَانٌ: فَلَمّا رَأَيْت مَا رَأَيْت نَادَيْت بِالْأَنْصَارِ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَشَهَرُوا السّلَاحَ حَتّى خَشِيت أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتّى جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُونَ: اُتْرُكْ حَقّك! [قَالَ سِنَانٌ] : وَإِذَا ضَرَبْته لَمْ يَضْرُرْنِي شَيْئًا. قَالَ سِنَانٌ: فَجَعَلْت لَا أَسْتَطِيعُ أَفْتَاتُ عَلَى حُلَفَائِي بِالْعَفْوِ لِكَلَامِ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَوْمِي يأبون أن
__________
[ (1) ] الماء الظنون: أى القليل. (النهاية، ج 3، ص 58) .
[ (2) ] هكذا فى النسخ، ويقال أيضا جهجاه، كما ذكر ابن عبد البر. (الاستيعاب، ص 268) .
[ (3) ] فى ب: «يا للخزرج» .(2/415)
أَعْفُو إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَقْتَصّ مِنْ جَهْجَا. ثُمّ إنّ الْمُهَاجِرِينَ كَلّمُوا حُلَفَائِي، فَكَلّمُوا عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ وَنَاسًا مِنْ حُلَفَائِي، فَكَلّمَنِي حُلَفَائِي فَتَرَكْت ذَلِكَ وَلَمْ أَرْفَعْهُ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ جَالِسًا فِي عَشَرَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ: ابْنُ أُبَيّ، وَمَالِكٌ، وَدَاعِسٌ، وَسُوَيْدٌ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ [ (1) ] ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ [ (2) ] ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نَبْتَلَ- وَفِي الْقَوْمِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ قَدْ بَلَغَ- فَبَلَغَهُ صِيَاحُ جَهْجَا: يَا آلَ قُرَيْشٍ! فَغَضِبَ ابْنُ أُبَيّ غَضَبًا شَدِيدًا، وَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ أَنْ قَالَ: وَاَللهِ، مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَذَلّةً! وَاَللهِ، إنْ كُنْت لَكَارِهًا لِوَجْهِي هَذَا وَلَكِنْ قَوْمِي غَلَبُونِي! قَدْ فَعَلُوهَا، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بَلَدِنَا، وَأَنْكَرُوا مِنّتَنَا [ (3) ] . وَاَللهِ، مَا صِرْنَا وَجَلَابِيبُ [ (4) ] قُرَيْشٍ هَذِهِ إلّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ «سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك» .
وَاَللهِ، لَقَدْ ظَنَنْت أَنّي سَأَمُوتُ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِمَا هَتَفَ بِهِ جَهْجَا وَأَنَا حَاضِرٌ، لَا يَكُونُ لِذَلِكَ مِنّي غِيَرٌ. وَاَللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينة لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ فَنَزَلُوا مَنَازِلَكُمْ، وَآسَيْتُمُوهُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ حَتّى اسْتَغْنَوْا! أَمَا وَاَللهِ، لَوْ أَمْسَكْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ، ثُمّ لَمْ يَرْضَوْا بِمَا فَعَلْتُمْ حَتّى جَعَلْتُمْ أَنَفْسَكُمْ أغراضا للمنايا، فقتلتم دونه، فأيتمتم
__________
[ (1) ] فى الأصل: «معتب بن قيس» . وما أثبتناه من ب، ومن البلاذري يروى عن الواقدي.
(أنساب الأشراف، ج 1، ص 276) .
[ (2) ] فى الأصل: «زيد بن الصلت» . وما أثبتناه من ب، ومن ابن الأثير. (أسد الغابة، ج 2، ص 239) .
[ (3) ] فى الأصل: «ملتنا» ، وما أثبتناه هو قراءة ب. والمنة: الإحسان. (النهاية، ج 4، ص 110) .
[ (4) ] الجلابيب: لقب لمن كان أسلم من المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون، وأصل الجلابيب الأزر الغلاظ، واحدها جلباب، وكانوا يلتحفون بها فلقبوهم بذلك. (شرح أبى ذر، ص 333) .(2/416)
أَوْلَادَكُمْ وَقَلَلْتُمْ وَكَثُرُوا. فَقَامَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ كُلّهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِدُ عِنْدَهُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ- أَبَا بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدًا، وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَأَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ، وَعَبّادَ بْنَ بِشْرٍ- فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ.
فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ وَتَغَيّرَ وَجْهَهُ، ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ، لَعَلّك غَضِبْت عَلَيْهِ! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ. قَالَ: لَعَلّهُ أَخْطَأَ سَمْعُك! قَالَ: لَا يَا نَبِيّ اللهِ! قَالَ: لَعَلّهُ شُبّهَ عَلَيْك! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ! وَشَاعَ فِي الْعَسْكَرِ مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَلَيْسَ لِلنّاسِ حَدِيثٌ إلّا مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ، وَجَعَلَ الرّهْطُ مِنْ الْأَنْصَارِ [ (1) ] يُؤَنّبُونَ الْغُلَامَ وَيَقُولُونَ:
عَمَدْت إلَى سَيّدِ قَوْمِك تَقُولُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَقَدْ ظَلَمْت وَقَطَعْت الرّحِمَ! فَقَالَ زَيْدٌ: وَاَللهِ لَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ! قَالَ: وو الله، مَا كَانَ فِي الْخَزْرَجِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ، وَاَللهِ، لَوْ سَمِعْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ أَبِي لَنَقَلْتهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يُنْزِلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ حَتّى يَعْلَمُوا أَنَا كَاذِبٌ أَمْ غَيْرِي، أَوْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقَ قَوْلِي. وَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: اللهُمّ، أَنْزِلْ عَلَى نَبِيّك مَا يُصَدّقُ حَدِيثِي! فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَأْتِك بِرَأْسِهِ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَيُقَالُ قَالَ: قُلْ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، يَأْتِك بِرَأْسِهِ. فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ: لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
وَقَامَ النّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ الّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدّهُ عَلَى الْغُلَامِ، فَجَاءُوا إلَى ابْنِ أُبَيّ فَأَخْبَرُوهُ، وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ: يَا أَبَا الْحُبَابِ، إنْ كنت قلته
__________
[ (1) ] فى ب: «يقولون ويؤنبون» .(2/417)
فَأَخْبِرْ النّبِيّ يَسْتَغْفِرْ لَك، وَلَا تَجْحَدْهُ فَيَنْزِلَ مَا يُكَذّبُك. وَإِنْ كُنْت لَمْ تَقُلْهُ فَأْتِ رَسُولَ اللهِ فَاعْتَذِرْ إلَيْهِ وَاحْلِفْ لِرَسُولِ اللهِ مَا قُلْته. فَحَلَفَ بِاَللهِ الْعَظِيمِ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. ثُمّ إنّ [ (1) ] ابْنَ أُبَيّ أَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أُبَيّ، إنْ كَانَتْ سَلَفَتْ مِنْك مَقَالَةٌ فَتُبْ.
فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاَللهِ: مَا قُلْت مَا قَالَ زَيْدٌ، وَلَا تَكَلّمْت بِهِ! وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا، فَكَانَ يُظَنّ أَنّهُ قَدْ صَدَقَ، وَكَانَ يُظَنّ بِهِ سُوءُ الظّنّ.
فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ: لَمّا كَانَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أُبَيّ مَا كَانَ أَسْرَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّيْرَ، وَأَسْرَعْت مَعَهُ، وَكَانَ مَعِي أَجِيرٌ اسْتَأْجَرْته يَقُومُ عَلَى فَرَسِي، فَاحْتَبَسَ عَلَيّ فَوَقَفْت لَهُ عَلَى الطّرِيقِ أَنْتَظِرُهُ حَتّى جَاءَ، فَلَمّا جَاءَ وَرَأَى مَا بِي مِنْ الْغَضَبِ أَشْفَقَ أَنْ أَقَعَ بِهِ، فَقَالَ: أَيّهَا الرّجُلُ، عَلَى رِسْلِك، فَإِنّهُ قَدْ كَانَ فِي النّاسِ أَمْرٌ مِنْ بَعْدِك، فَحَدّثْنِي بِمَقَالَةِ ابْنِ أُبَيّ. قَالَ عُمَرُ:
فَأَقْبَلْت حَتّى جِئْت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في فَيْءِ شَجَرَةٍ، عِنْدَهُ غُلَيْمٌ أُسَيْوِدُ يَغْمِزُ ظَهْرَهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنّك تَشْتَكِي ظَهْرَك.
فَقَالَ: تَقَحّمَتْ بِي النّاقَةُ اللّيْلَةَ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِيذَنْ لِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَ ابْنِ أُبَيّ فِي مَقَالَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: أو كنت فَاعِلًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ! قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ بِيَثْرِبَ كَثِيرَةٌ، لَوْ أَمَرْتهمْ بِقَتْلِهِ قَتَلُوهُ. قُلْت:
يَا رَسُولَ اللهِ، فَمُرْ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَقْتُلُهُ. قَالَ: لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا قَتَلَ أَصْحَابَهُ. قَالَ، فَقُلْت: فَمُرْ النّاسَ بِالرّحِيلِ. قَالَ: نَعَمْ.
فَأَذّنْت بِالرّحِيلِ فى الناس.
__________
[ (1) ] فى ب: «ثم مشى ابن أبى إلى» .(2/418)
وَيُقَالُ: لَمْ يَشْعُرْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ إلّا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طَلَعَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَكَانُوا فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَكَانَ لَا يَرُوحُ حَتّى يُبْرِدَ، إلّا أَنّهُ لَمّا جَاءَهُ خَبَرُ ابْنِ أُبَيّ رَحَلَ فِي تِلْكَ السّاعَةِ. فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: السّلَامُ عَلَيْك أَيّهَا النّبِيّ وَرَحْمَةُ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَيْك السّلَامُ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَحَلْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرْحَلُ فِيهَا! وَيُقَالُ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ- قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَرَجْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرُوحُ فِيهَا! فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: أو لم يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ: أَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ابْنُ أُبَيّ، زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ!
قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْت، فَهُوَ الْأَذَلّ وَأَنْتَ الْأَعَزّ، وَالْعِزّةُ لِلّهِ وَلَك وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
ثُمّ قَالَ: يَا رسول الله، ارفق به فو الله لَقَدْ جَاءَ اللهُ بِك، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيُنَظّمُونَ لَهُ الْخَرَزَ، مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ إلّا خَرَزَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ يُوشَعَ الْيَهُودِيّ، قَدْ أَرّبَ [ (1) ] بِهِمْ فِيهَا لِمَعْرِفَتِهِ بِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا لِيُتَوّجُوهُ، فَجَاءَ اللهُ بِك عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَمَا يَرَى إلّا قَدْ سَلَبَتْهُ مُلْكَهُ.
قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ مِنْ يَوْمِهِ ذلك، وزيد ابن أَرْقَمَ يُعَارِضُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَاحِلَتِهِ، يُرِيهِ وَجْهَهُ فِي الْمَسِيرِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِثّ رَاحِلَتَهُ فَهُوَ مُغِذّ فِي السّيْرِ، إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَمَا هُوَ إلّا إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ تَأْخُذُهُ الْبُرَحَاءُ وَيَعْرَقُ جَبِينُهُ، وَتَثْقُلُ يَدَا رَاحِلَتِهِ حَتّى مَا كَادَ يَنْقُلُهَا، عَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوحَى إليه، ورجوت أن يكون ينزل
__________
[ (1) ] أرب بهم: اشتد. (القاموس المحيط، ج 1، ص 36) .(2/419)
عَلَيْهِ تَصْدِيقُ خَبَرِي. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَسُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي وَأَنَا عَلَى رَاحِلَتِي حَتّى ارْتَفَعْت مِنْ مَقْعَدِي وَيَرْفَعُهَا إلَى السّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَفَتْ أُذُنُك يَا غُلَامُ، وَصَدّقَ اللهُ حَدِيثَك! وَنَزَلَ فِي ابْنِ أُبَيّ السّورَةُ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا وَحْدَهُ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ... [ (1) ]
فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْهُرَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ.
سَمِعْت عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ لِابْنِ أُبَيّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ:
إِيتِ رَسُولَ اللهِ، يَسْتَغْفِرْ لَك. قَالَ: فَرَأَيْته يَلْوِي رَأْسَهُ مُعْرِضًا. يَقُولُ عُبَادَةُ: أَمَا وَاَللهِ لَيُنْزِلَن فِي لَيّ رَأْسِك قُرْآنٌ يُصَلّى بِهِ.
وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الوليد ابن عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قَالَ: مَرّ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ عَشِيّةَ رَاحَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُرَيْسِيعِ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ، ثُمّ مَرّ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ: إنّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَمَالَأْتُمَا [ (2) ] عَلَيْهِ. فَرَجَعَا إلَيْهِ فَأَنّبَاهُ وَبَكَتَاهُ بِمَا صَنَعَ، وَبِمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ إكْذَابًا لِحَدِيثِهِ، وَجَعَلَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ يَقُولُ: لَا أَكَذِبُ عَنْك أَبَدًا حَتّى أَعْلَمَ أَنْ قَدْ تَرَكْت مَا أَنْتَ [ (3) ] عَلَيْهِ وَتُبْت إلَى اللهِ، إنّا أَقْبَلْنَا عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ نَلُومُهُ وَنَقُولُ لَهُ «كَذَبْت عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِك» حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ حَدِيثِ زَيْدٍ وَإِكْذَابِ حَدِيثِك. وجعل بن أُبَيّ يَقُولُ: لَا أَعُودُ أَبَدًا! وَبَلَغَ ابْنَهُ عبد الله ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ مَقَالَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرْ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يأتك برأسه» فجاء إلى النبىّ
__________
[ (1) ] سورة 63 المنافقون 1.
[ (2) ] أى تساعدا واجتمعا عليه. (النهاية، ج 4، ص 105) .
[ (3) ] فى الأصل: «ما أنزل عليه» ، وما أثبتناه هو قراءة ب.(2/420)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ أَبِي فيما بلغك عنه فمرني، فو الله لِأَحْمِلَن إلَيْك رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِك هَذَا. وَاَللهِ، لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا رَجُلٌ أَبَرّ بِوَالِدٍ مِنّي، وَمَا أَكَلَ [ (1) ] طَعَامًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدّهْرِ، وَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إلّا بِيَدِي، وَإِنّي لَأَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ تَأْمُرَ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النّاسِ، فَأَقْتُلُهُ فَأَدْخُلُ النّارَ، وَعَفْوُك أَفْضَلُ، وَمَنّك أَعْظَمُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللهِ، مَا أَرَدْت قَتْلَهُ وَمَا أَمَرْت بِهِ، وَلَنُحْسِنَنّ صُحْبَتَهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ أَبِي كَانَتْ هَذِهِ الْبَحْرَةُ [ (2) ] قَدْ اتّسَقُوا عَلَيْهِ لِيُتَوّجُوهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ اللهُ بِك، فَوَضَعَهُ اللهُ وَرَفَعَنَا بِك، وَمَعَهُ قَوْمٌ يُطِيفُونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَ أُمُورًا قَدْ غَلَبَ اللهُ عَلَيْهَا. قَالَ: فَلَمّا انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركه ولم يأمره بقتله، قال:
ألا إنما الدّنْيَا حَوَادِثُ تُنْتَظَرْ ... وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَحْدَاثِ مَا قَالَهُ عُمَرْ
يُشِيرُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ الْوَحْيُ هَكَذَا ... وَلَمْ يَسْتَشِرْهُ بِاَلّتِي تَحْلِقُ الشّعَرْ
وَلَوْ كَانَ لِلْخَطّابِ ذَنْبٌ كَذَنْبِهِ ... فَقُلْت لَهُ مَا قَالَ فِي وَالِدِي كَشَرْ
غَدَاةَ يَقُولُ ابْعَثْ إلَيْهِ مُحَمّدًا ... لِيَقْتُلَهُ بِئْسَ لَعَمْرُك مَا أَمَرْ
فَقُلْت رَسُولَ اللهِ إنْ كُنْت فَاعِلًا ... كَفَيْتُك عَبْدَ اللهِ لَمْحَكَ بِالْبَصَرِ
تُسَاعِدُنِي كَفّ وَنَفْسٌ سَخِيّةٌ ... وَقَلْبٌ عَلَى الْبَلْوَى أَشَدّ مِنْ الْحَجَرْ
وَفِي ذَاكَ مَا فِيهِ وَالْأُخْرَى [ (3) ] غَضَاضَة ... وَفِي العين منّى نحو صاحبها عور
__________
[ (1) ] فى الأصل: «وما ناكل» ، والتصحيح من نسخة ب.
[ (2) ] فى الأصل: «النخوة» ، وما أثبتناه هو قراءة ب. والبحرة: البلدة، يعنى المدينة.
(النهاية، ج 1، ص 62) .
[ (3) ] فى الأصل: «وللآخر» ، والمثبت قراءة ب.(2/421)
فَقَالَ أَلَا لَا يَقْتُلُ الْمَرْءُ طَائِعًا ... أَبَاهُ وَقَدْ كَادَتْ تَطِيرُ بِهَا مُضَرْ
أَنْشَدَنِيهَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخَذْتهَا فِي الْكِتَابِ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ.
فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْهُرَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ:
لَمّا رُحْنَا مِنْ الْمُرَيْسِيعِ قَبْلَ الزّوَالِ كَانَ الْجَهْدُ بِنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، مَا أَنَاخَ مِنّا رَجُلٌ إلّا لِحَاجَتِهِ أَوْ لِصَلَاةٍ يُصَلّيهَا. وَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِثّ رَاحِلَتَهُ، وَيَخْلُفُ بِالسّوْطِ فِي مَرَاقّهَا [ (1) ] حَتّى أَصْبَحْنَا، وَمَدَدْنَا يَوْمَنَا حَتّى انْتَصَفَ النّهَارُ أَوْ كَرَبَ، وَلَقَدْ رَاحَ النّاسُ وَهُمْ يَتَحَدّثُونَ بِمَقَالَةِ ابْنِ أُبَيّ وَمَا كَانَ مِنْهُ، فَمَا هُوَ إلّا أَنْ أَخَذَهُمْ السّهَرُ وَالتّعَبُ بِالْمَسِيرِ، فَمَا نَزَلُوا حَتّى مَا يُسْمَعُ لِقَوْلِ ابْنِ أُبَيّ فِي أَفْوَاهِهِمْ- يَعْنِي ذِكْرًا. وَإِنّمَا أَسْرَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ لِيَدْعُوَا حَدِيثَ ابْنِ أُبَيّ، فَلَمّا نَزَلُوا وَجَدُوا مَسّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا. ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّاسِ مُبْرِدًا، فَنَزَلَ مِنْ الْغَدِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ بَقْعَاءُ فَوْقَ النّقِيعِ، وَسَرّحَ النّاسُ ظَهْرَهُمْ، فَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ حَتّى أَشْفَقَ النّاسُ مِنْهَا، وَسَأَلُوا عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ خَالَفَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالُوا:
لَمْ تَهِجْ هَذِهِ الرّيحُ إلّا مِنْ حَدَثٍ! وَإِنّمَا بِالْمَدِينَةِ الذّرَارِيّ وَالصّبْيَانُ. وَكَانَتْ بَيْنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ مُدّةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ حِينَ انْقِضَائِهَا فَدَخَلَهُمْ أَشَدّ الْخَوْفِ،
فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفُهُمْ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عَلَيْكُمْ بَأْسٌ مِنْهَا، مَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ نَقْبٍ إلّا عَلَيْهِ مَلَكٌ يَحْرُسُهُ، وَمَا كَانَ لِيَدْخُلَهَا عدوّ حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم
__________
[ (1) ] أى فى مراق بطنها، وهي مارق منه فى أسافله. (أساس البلاغة، ص 362) .(2/422)
مُنَافِقٌ عَظِيمُ النّفَاقِ بِالْمَدِينَةِ، فَلِذَلِكَ عَصَفَتْ الرّيحُ.
وَكَانَ مَوْتُهُ لِلْمُنَافِقِينَ غَيْظًا شَدِيدًا، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ، مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَتْ الرّيحُ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مَا كَانَتْ قَطّ. إلَى أَنْ زَالَتْ الشّمْسُ، ثُمّ سَكَنَتْ آخِرَ النّهَارِ. قَالَ جَابِرٌ: فَسَأَلْت حِينَ قَدِمْت قَبْلَ أن أدخل بيتي: من مات؟ فقالوا: زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنّهُمْ وَجَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدّةِ الرّيحِ حَتّى دُفِنَ عَدُوّ اللهِ فَسَكَنَتْ الرّيحُ.
وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ يَوْمَئِذٍ لَابْنِ أُبَيّ: أَبَا حُبَابٍ، مَاتَ خَلِيلُك! قَالَ: أَيّ أَخِلّائِي؟
قَالَ: مَنْ مَوْتُهُ فَتْحٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ. قَالَ: يَا وَيْلَاه، كَانَ وَاَللهِ وَكَانَ! فَجَعَلَ يَذْكُرُ، فَقُلْت:
اعْتَصَمْت بِالذّنْبِ الْأَبْتَرِ [ (1) ] . قَالَ: مَنْ أَخْبَرَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِمَوْتِهِ؟ قُلْت:
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا السّاعَةَ أَنّهُ مَاتَ هَذِهِ السّاعَةَ. قَالَ:
فَأُسْقِطَ فِي يَدَيْهِ وَانْصَرَفَ كَئِيبًا حَزِينًا. قَالُوا: وَسَكَنَتْ الرّيحُ آخِرَ النّهَارِ فَجَمَعَ النّاسُ ظُهُورَهُمْ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ، قَالَا: وَفُقِدَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءُ مِنْ بَيْنِ الْإِبِلِ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَهَا فِي كُلّ وَجْهٍ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ- وَكَانَ مُنَافِقًا وَهُوَ فِي رِفْقَةٍ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، مِنْهُمْ عَبّادُ ابن بِشْرِ بْنِ وَقَشٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقَشٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ- فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هَؤُلَاءِ فِي كُلّ وَجْهٍ؟ قَالُوا: يَطْلُبُونَ نَاقَةَ رسول الله،
__________
[ (1) ] أى المقطوع. (النهاية، ج 1، ص 58) .(2/423)
قَدْ ضَلّتْ. قَالَ: أَفَلَا يُخْبِرُهُ اللهُ بِمَكَانِ نَاقَتِهِ؟ فَأَنْكَرَ الْقَوْمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالُوا: قَاتَلَك اللهُ يَا عَدُوّ اللهِ، نَافَقْت! ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: وَاَللهِ، لَوْلَا أَنّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ رَسُولُ اللهِ مِنْ ذَلِكَ لَأَنْفَذْتُ خُصْيَتَك بِالرّمْحِ يَا عَدُوّ اللهِ، فَلِمَ خَرَجْت مَعَنَا وَهَذَا فِي نَفْسِك؟ قَالَ: خَرَجْت لِأَطْلُبَ مِنْ عَرَضِ الدّنْيَا، وَلَعَمْرِي إنّ مُحَمّدًا لَيُخْبِرُنَا بِأَعْظَمَ مِنْ شَأْنِ النّاقَةِ، يُخْبِرُنَا عَنْ أَمْرِ السّمَاءِ. فَوَقَعُوا بِهِ جَمِيعًا وَقَالُوا: وَاَللهِ، لَا يَكُونُ مِنْك سَبِيلٌ أَبَدًا وَلَا يُظِلّنَا وَإِيّاكَ ظِلّ أَبَدًا، وَلَوْ عَلِمْنَا مَا فِي نَفْسِك مَا صَحِبْتنَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. ثُمّ وَثَبَ هَارِبًا [ (1) ] مُنْهَزِمًا مِنْهُمْ أَنْ يَقَعُوا بِهِ وَنَبَذُوا مَتَاعَهُ، فَعَمَدَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ مَعَهُ فِرَارًا مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَعَوّذًا بِهِ. وَقَدْ جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُ مَا قَالَ مِنْ السّمَاءِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُنَافِقُ يَسْمَعُ: إنّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ شَمِتَ أَنْ ضَلّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ وَقَالَ «أَلَا يُخْبِرُهُ اللهُ بِمَكَانِهَا؟ فَلَعَمْرِي إنّ مُحَمّدًا لَيُخْبِرُنَا بِأَعْظَمَ مِنْ شَأْنِ النّاقَةِ!» وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلّا اللهُ، وَإِنّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَنِي بِمَكَانِهَا، وَإِنّهَا فِي هَذَا الشّعْبِ مُقَابِلَكُمْ، قَدْ تَعَلّقَ زِمَامُهَا بِشَجَرَةٍ، فَاعْمِدُوا عَمْدَهَا.
فَذَهَبُوا فَأَتَوْا بِهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نَظَرَ الْمُنَافِقُ إلَيْهَا قَامَ سَرِيعًا إلَى رُفَقَائِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَإِذَا رَحْلُهُ مَنْبُوذٌ، وَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُمْ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَقَالُوا لَهُ حِينَ دَنَا: لَا تَدْنُ مِنّا! قَالَ: أُكَلّمُكُمْ! فَدَنَا فَقَالَ: أُذَكّرُكُمْ بِاَللهِ، هَلْ أَتَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مُحَمّدًا فَأَخْبَرَهُ بِاَلّذِي قُلْت؟ قَالُوا: لَا وَاَللهِ، وَلَا قُمْنَا مِنْ مَجْلِسِنَا هَذَا. قَالَ: فَإِنّي قَدْ وَجَدْت عِنْدَ الْقَوْمِ مَا تَكَلّمَتْ بِهِ، وَتَكَلّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ رسول الله صلّى
__________
[ (1) ] فى ب: «ثم وثب هاربا منهم» .(2/424)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنّهُ قَدْ أُتِيَ بِنَاقَتِهِ، وَإِنّي قَدْ كُنْت فِي شَكّ مِنْ شَأْنِ مُحَمّدٍ فَأَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ، وَاَللهِ لَكَأَنّي لَمْ أُسْلِمْ إلّا الْيَوْمَ. قَالُوا لَهُ: فَاذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللهِ يَسْتَغْفِرْ لَك. فَذَهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَاعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ. وَيُقَالُ إنّهُ لَمْ يَزَلْ فَسْلًا [ (1) ] حَتّى مَاتَ، وَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ شَدّادٍ، قَالَ: لَمّا مَرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنّقِيعِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ الْمُرَيْسِيعِ وَرَأَى سَعَةً، وَكَلَأً، وَغُدُرًا [ (2) ] كَثِيرَةً تَتَنَاخَسُ [ (3) ] ، وَخُبّرَ بِمَرَاءَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ [ (4) ] ، فَسَأَلَ عَنْ الْمَاءِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إذَا صِفْنَا قُلْت الْمِيَاهُ وَذَهَبَتْ الْغُدُرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا، وَأَمَرَ بِالنّقِيعِ أَنْ يُحْمَى، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ، فَقَالَ بِلَالٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَمْ أَحَمْي مِنْهُ؟ قَالَ: أَقِمْ رَجُلًا صَيّتًا إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ- يَعْنِي مُقْمِلًا- فَحَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ فَاحْمِهِ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَإِبِلِهِمْ الّتِي يَغْزُونَ عَلَيْهَا. قَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْت مَا كَانَ مِنْ سَوَائِمِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُهَا. قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْت الْمَرْأَةَ وَالرّجُلَ الضّعِيفَ تَكُونُ لَهُ الْمَاشِيَةُ الْيَسِيرَةُ وَهُوَ يَضْعُفُ عَنْ التّحَوّلِ؟ قَالَ:
دَعْهُ يَرْعَى.
فَلَمّا كَانَ زَمَانُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حماه على ما كان رسول
__________
[ (1) ] الفسل: الرديء الرذل من كل شيء. (النهاية، ج 3، ص 201) .
[ (2) ] الغدر: جمع الغدير، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل. (لسان العرب، ج 6، ص 312) .
[ (3) ] تتناخس: أى يصب بعضها فى بعض. (على هامش نسخة ب) .
[ (4) ] كلمتان رسمهما فى الأصل هكذا: «بمراته وبراته» ، وفى ب: «بمراته ومدامه» ، ولعل ما أثبتناه أقرب الاحتمالات. ومرأت الأرض مراءة أى حسن هواؤها، وكلأ مريء غير وخيم. (القاموس المحيط، ج 1، ص 28) . وبراءة مصدر من برئ بمعنى خلا، أى لا صاحب له. (لسان العرب، ج 1، ص 24) .(2/425)
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَاهُ، ثُمّ كَانَ عُمَرُ فَكَثُرَتْ بِهِ الْخَيْلُ، وَكَانَ عُثْمَانُ فَحَمَاهُ أَيْضًا. وَسَبّقَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الْخَيْلِ وَبَيْنَ الْإِبِلِ، فَسَبَقَتْ الْقَصْوَاءُ الْإِبِلَ، وَسَبَقَ فَرَسُهُ- وَكَانَ مَعَهُ فَرَسَانِ، لِزَازٌ [ (1) ] وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ الظّرِبُ- فَسَبَقَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الظّرِبِ، وَكَانَ الّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ أَبُو أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ، وَاَلّذِي سَبَقَ عَلَى نَاقَتِهِ بِلَالٌ.
ذِكْرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَصْحَابِ الْإِفْكِ
حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ، عَنْ عيسى بن معمر، عن عباد ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ، قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: حَدّثِينَا يَا أُمّهُ حَدِيثَك فى غروة الْمُرَيْسِيعِ. قَالَتْ: يَا ابْنَ أَخِي، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا، وَكَانَ يُحِبّ أَلّا أُفَارِقَهُ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ. فَلَمّا أَرَادَ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ أَقْرَعَ بَيْنَنَا فَخَرَجَ سَهْمِي وَسَهْمُ أُمّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَغَنّمَهُ اللهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، ثُمّ انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا لَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى مَاءٍ. وَقَدْ سَقَطَ عِقْدٌ لِي مِنْ عُنُقِي، فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ بِالنّاسِ حَتّى أَصْبَحُوا، وَضَجّ النّاسُ وَتَكَلّمُوا وَقَالُوا: احْتَبَسَتْنَا عَائِشَةُ. وَأَتَى النّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى إلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَالنّاسُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَضَاقَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَجَاءَنِي مُغَيّظًا فَقَالَ: أَلَا تَرَيْنَ مَا صَنَعَتْ بالناس؟ حبست رسول
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لوان» ، والتصحيح عن نسخة ب. لزاز: فرس للنبيّ صلى الله عليه وسلم أهداها له المقوقس مع مارية. (القاموس المحيط، ج 2، ص 190) .(2/426)
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنّاسُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَعَاتَبَنِي عِتَابًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التّحَرّكِ إلّا مَكَانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسه على فخذي وهو نائم.
فقال أسيد ابن حُضَيْرٍ: وَاَللهِ، إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَنْزِلَ لَنَا رُخْصَةٌ، وَنَزَلَتْ آيَةُ التّيَمّمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَا يُصَلّونَ إلّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا حَيْثُمَا أَدْرَكَتْنِي الصّلَاةُ.
فَقَالَ أسيد ابن حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: وَكَانَ أُسَيْدُ رَجُلًا صَالِحًا فِي بَيْتٍ مِنْ الْأَوْسِ عَظِيمٍ. ثُمّ إنّا سِرْنَا مَعَ الْعَسْكَرِ حَتّى إذَا نَزَلْنَا مَوْضِعًا دَمِثًا طَيّبًا ذَا أَرَاكٍ، قَالَ: يَا عَائِشَةُ، هَلْ لَك فِي السّبَاقِ؟
قُلْت: نَعَمْ. فَتَحَزّمْت بِثِيَابِي وَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ اسْتَبَقْنَا فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السّبْقَةِ الّتِي كُنْت سَبَقْتِينِي. وَكَانَ جَاءَ إلَى مَنْزِلِ أَبِي وَمَعِي شَيْءٌ فَقَالَ: هَلُمّيهِ! فَأَبَيْت فَسَعَيْت وَسَعَى عَلَى أَثَرِي فَسَبَقْته. وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ الْحِجَابُ.
قَالَتْ: وَكَانَ النّسَاءُ إذْ ذَاكَ إلَى الْخِفّةِ، هُنّ إنّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ [ (1) ] مِنْ الطّعَامِ، لَمْ يُهَيّجْنَ [ (2) ] بِاللّحْمِ فَيَثْقُلْنَ. وَكَانَ اللّذَانِ يُرَحّلَانِ بَعِيرِي رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَوْهِبَةَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ الّذِي يَقُودُ بِي الْبَعِيرَ.
وَإِنّمَا كُنْت أَقْعُدُ فِي الْهَوْدَجِ فَيَأْتِي فَيَحْمِلُ الْهَوْدَجَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْبَعِيرِ، ثُمّ يَشُدّهُ بِالْحِبَالِ وَيَبْعَثُ بِالْبَعِيرِ، وَيَأْخُذُ بِزِمَامِ الْبَعِيرِ فَيَقُودُ بِي الْبَعِيرَ.
__________
[ (1) ] العلق: جمع علقة، وهي ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء. (شرح أبى ذر، ص 335)
[ (2) ] التهييج: كالورم فى الجسد. (شرح أبى ذر، ص 335) .(2/427)
وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ يُقَادُ بِهَا هَكَذَا، فَكُنّا نَكُونُ حَاشِيَةً مِنْ النّاسِ، يَذُبّ عَنّا مَنْ يَدْنُو مِنّا، فَرُبّمَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَنْبِي وَرُبّمَا سَارَ إلَى جَنْبِ أُمّ سَلَمَةَ. قَالَتْ: فَلَمّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ نَزَلْنَا مَنْزِلًا فَبَاتَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ اللّيْلِ، ثُمّ ادّلَجَ وَأَذِنَ لِلنّاسِ بِالرّحِيلِ فَارْتَحَلَ الْعَسْكَرُ. وَذَهَبْت لِحَاجَتِي فَمَشَيْت حَتّى جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي مِنْ جَزَعِ ظِفَارِ [ (1) ] ، وَكَانَتْ أُمّي أَدْخَلَتْنِي فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمّا قَضَيْت حَاجَتِي انْسَلّ مِنْ عُنُقِي فَلَا أَدْرِي بِهِ، فَلَمّا رَجَعْت إلَى الرّحْلِ ذَهَبْت أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي فَلَمْ أَجِدْهُ، وَإِذَا الْعَسْكَرُ قَدْ نَغَضُوا [ (2) ] إلّا عِيرَاتٌ [ (3) ] ، وَكُنْت أَظُنّ أَنّي لَوْ أَقَمْت شَهْرًا لَمْ يُبْعَثْ بَعِيرِي حَتّى أَكُونَ فِي هَوْدَجِي، فَرَجَعْت فِي الْتِمَاسِهِ فَوَجَدْته فِي الْمَكَانِ الّذِي ظَنَنْت أَنّهُ فِيهِ، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ وَأَتَى الرّجُلَانِ خِلَافِي، فَرَحّلُوا الْبَعِيرَ وَحَمَلُوا الْهَوْدَجَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّي فِيهِ، فَوَضَعُوهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَا يَشُكّونَ أَنّي فِيهِ- وَكُنْت قَبْلُ لَا أَتَكَلّمُ إذْ أَكُونُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْكِرُوا شَيْئًا- وَبَعَثُوا الْبَعِيرَ فَقَادُوا بِالزّمَامِ وَانْطَلَقُوا، فَرَجَعْت إلَى الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ فِيهِ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، وَلَا أَسْمَعُ صَوْتًا وَلَا زَجْرًا.
قَالَتْ: فَأَلْتَفِعُ بِثَوْبِي وَاضْطَجَعْت وَعَلِمْت أَنّي إن افتقدت رجع إلىّ. قالت:
فو الله، إنّي لَمُضْطَجِعَةٌ فِي مَنْزِلِي، قَدْ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فنمت. وكان صفوان ابن مُعَطّلٍ السّلَمِيّ ثُمّ الذّكْوَانِيّ عَلَى سَاقَةِ النّاسِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَادّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فِي عَمَايَةِ الصّبْحِ، فَيَرَى سَوَادَ إنْسَانٍ فَأَتَانِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، وَأَنَا مُتَلَفّعَةٌ، فأثبتنى فاستيقظت باسترجاعه حين
__________
[ (1) ] ظفار: موضع باليمن قرب صنعاء، ينسب إليه الجزع. (القاموس المحيط، ج 2، ص 81) .
[ (2) ] نغضوا: تحركوا. (القاموس المحيط، ج 2، ص 346) .
[ (3) ] فى ب: «إلا غيرات» .(2/428)
عرفني. فخمّرت وجهى بملحفتى، فو الله إنْ كَلّمَنِي كَلِمَةً غَيْرَ أَنّي سَمِعْت اسْتِرْجَاعَهُ حين أناخ بعيره. ثم وطى عَلَى يَدِهِ مُوَلّيًا عَنّي، فَرَكِبْت عَلَى رَحْلِهِ، وَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي حَتّى جِئْنَا الْعَسْكَرَ شَدّ الضّحَا، فَارْتَعَجَ الْعَسْكَرُ وَقَالَ أَصْحَابُ الْإِفْكِ الّذِي قَالُوا- وَتَوَلّى كِبَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ- وَلَا أَشْعُرُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَالنّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ.
ثُمّ قَدِمْنَا فَلَمْ أَنْشِبْ أَنْ اشْتَكَيْت شَكْوَى شَدِيدَةً، وَلَا يَبْلُغُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ إلَى أَبَوَيّ، وَأَبَوَايَ لَا يَذْكُرَانِ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، إلّا أَنّي قَدْ أَنْكَرْت مِنْ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُطْفَهُ بِي وَرَحْمَتَهُ، فَلَا أَعْرِفُ مِنْهُ اللّطْفَ الّذِي كُنْت أَعْرِفُ حِينَ اشْتَكَيْت، إنّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلّمُ فَيَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَكُنْت إذَا اشْتَكَيْت لَطَفَ بِي وَرَحِمَنِي وَجَلَسَ عِنْدِي. وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا لَا نَعْرِفُ الْوُضُوءَ فِي الْبُيُوتِ، نَعَافُهَا وَنَقْذُرُهَا، وَكُنّا نَخْرُجُ إلَى الْمَنَاصِعِ [ (1) ] بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِحَاجَتِنَا. فَذَهَبْت لَيْلَةً وَمَعِي أُمّ مِسْطَحٍ مُلْتَفِعَةً فِي مِرْطِهَا، فَتَعَلّقَتْ بِهِ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ! فَقُلْت: بِئْسَ لَعَمْرُ اللهِ مَا قُلْت، تَقُولِينَ هَذَا لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَتْ لِي مُجِيبَةً: مَا تَدْرِينَ وَقَدْ سَالَ بِك السّيْلُ. قُلْت: ماذا تقولين؟ فأخبرتنى ول أَصْحَابِ الْإِفْكِ، فَقَلّصَ ذَلِكَ مِنّي، وَمَا قَدَرْت عَلَى أَنْ أَذْهَبَ لِحَاجَتِي، وَزَادَنِي مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَمَا زِلْت أَبْكِي لَيْلِي وَيَوْمِي. قَالَتْ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْت: ائْذَنْ لِي أَذْهَبُ إلَى أَبَوَيّ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. فَأَذِنَ لِي فَأَتَيْت أَبَوَيّ فَقُلْت لِأُمّي:
يَغْفِرُ اللهُ لَكِ، تَحَدّثَ النّاسُ بِمَا تَحَدّثُوا بِهِ وَذَكَرُوا مَا ذَكَرُوا وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا! فَقَالَتْ: يَا بُنَيّةُ، خَفّضِي عليك الشأن، فو الله مَا كَانَتْ جَارِيَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا ولها ضرائر إلّا كثّرن عليها القالة
__________
[ (1) ] هي المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة، واحدها منصع. (النهاية، ج 4، ص 149) .(2/429)
وَكَثّرَ النّاسُ عَلَيْهَا. فَقُلْت: سُبْحَانَ اللهِ، وَقَدْ تَحَدّثَ النّاسُ بِهَذَا كُلّهِ؟
قَالَتْ: فَبَكَيْت تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى أَصْبَحْت لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّا وَأُسَامَةَ فَاسْتَشَارَهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ.
قَالَتْ: وَكَانَ أَحَدُ الرّجُلَيْنِ أَلْيَنَ قَوْلًا مِنْ الْآخَرِ.
قَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ، وَلَا نَعْلَمُ إلّا خَيْرًا، وَإِنّ بَرِيرَةَ تَصْدُقُك. وَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَمْ يُضَيّقْ اللهُ عَلَيْك، النّسَاءُ كَثِيرٌ وَقَدْ أَحَلّ اللهُ لَك وَأَطَابَ، فَطَلّقْهَا وَانْكِحْ غَيْرَهَا. قَالَتْ: فَانْصَرَفَا، وَخَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرِيرَةَ فَقَالَ: يَا بَرِيرَةُ، أَيّ امْرَأَةٍ تَعْلَمِينَ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ:
هِيَ أَطْيَبُ مِنْ طِيبِ الذّهَبِ، وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا خَيْرًا، وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَئِنْ كَانَتْ عَلَى [ (1) ] غَيْرِ ذَلِكَ لَيُخْبِرَنك اللهُ عَزّ وَجَلّ بِذَلِكَ، إلّا أَنّهَا جَارِيَة تَرْقُدُ عَنْ الْعَجِينِ حَتّى تَأْتِيَ الشّاةُ فَتَأْكُلَ عَجِينَهَا، وَقَدْ لُمْتهَا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَرّةٍ. وَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَلَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُضَاهِي [ (2) ] عَائِشَةَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرَهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهَا أَنْ تَهْلِكَ لِلْغَيْرَةِ عَلَيّ، فَقَالَ لَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْت عَلَى عَائِشَةَ؟
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَاشَى سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْت عَلَيْهَا إلّا خَيْرًا.
وَاَللهِ، مَا أُكَلّمُهَا وَإِنّي لَمُهَاجِرَتُهَا، وَمَا كُنْت أَقُولُ إلّا الْحَقّ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَمّا زَيْنَبُ، فَعَصَمَهَا اللهُ، وَأَمّا غَيْرُهَا فَهَلَكَ مَعَ مَنْ هَلَكَ.
ثُمّ سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ أَيْمَنَ فَقَالَتْ: حَاشَى سَمْعِي
__________
[ (1) ] فى ب: «لئن كانت على ذلك» .
[ (2) ] فى ب: «تناضى» .(2/430)
وَبَصَرِي أَنْ أَكُونَ عَلِمْت أَوْ ظَنَنْت بِهَا قَطّ إلّا خَيْرًا. ثُمّ صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: مَنْ يَعْذِرُنِي مِمّنْ يُؤْذِينِي فِي أَهْلِي؟
وَيَقُولُونَ لِرَجُلٍ، وَاَللهِ مَا عَلِمْت عَلَى ذَلِكَ الرّجُلِ إلّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إلّا مَعِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقّ.
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُك مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ يَكُ مِنْ الْأَوْسِ آتِك بِرَأْسِهِ. وَإِنْ يَكُ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ فَمُرْنَا بِأَمْرِك نَمْضِي لَك.
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنّ الْغَضَبَ بَلَغَ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ مَا غُمِصَ [ (1) ] عَلَيْهِ فِي نِفَاقٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ إلّا أَنّ الْغَضَبَ يَبْلُغُ مِنْ أَهْلِهِ- فَقَالَ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ، لَا تَقْتُلْهُ وَلَا تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ.
وَاَللهِ، مَا قُلْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلّا أَنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُ مِنْ الْخَزْرَجِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ مَا قُلْت ذَلِكَ، وَلَكِنّك تَأْخُذُنَا بِالذّحُولِ [ (2) ] كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَقَدْ مَحَا اللهُ ذَلِكَ! فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: كَذَبْت وَاَللهِ، لَنَقْتُلَنّهُ وَأَنْفُك رَاغِمٌ، فَإِنّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ! وَاَللهِ، لَوْ نَعْلَمُ مَا يَهْوَى رَسُولُ اللهِ مِنْ ذَلِكَ فِي رَهْطِي الْأَدْنَيْنَ مَا رَامَ رَسُولُ اللهِ مَكَانَهُ حَتّى آتِيَهُ بِرَأْسِهِ، وَلَكِنّي لَا أَدْرِي مَا يَهْوَى رَسُولُ اللهِ! قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ:
تَأْبَوْنَ يَا آلَ أَوْسٍ إلّا أَنْ تَأْخُذُونَا بِذُحُولٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيّةِ. وَاَللهِ، مَا لَكُمْ بِذِكْرِهَا حَاجَةٌ، وَإِنّكُمْ لَتَعْرِفُونِ لِمَنْ الْغَلَبَةُ فِيهَا، وَقَدْ مَحَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ ذَلِكَ كُلّهُ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت مَوْطِنَنَا يَوْمَ بُعَاثَ! ثُمّ تَغَالَظُوا، وَغَضِبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فنادى: يا آل خزرج! فانحازت الخزرج
__________
[ (1) ] تقول هو مغموص عليه، أى مطعون فى دينه. (القاموس المحيط، ج 2 ص 310) .
[ (2) ] فى الأصل: «بدخول» ، وما أثبتناه هو قراءة ب. والذحول: العداوة. (النهاية، ج 2، ص 43) .(2/431)
كُلّهَا إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. وَنَادَى سَعْدُ بن معاذ: يال أَوْسٍ! فَانْحَازَتْ الْأَوْسُ كُلّهَا إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ حَزْمَةَ مُغِيرًا حَتّى أَتَى بِالسّيْفِ يَقُولُ: أَضْرِبُ بِهِ رَأْسَ النّفَاقِ وَكَهْفَهُ. فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ فِي رَهْطِهِ وَقَالَ: ارْمِ بِهِ، يُحْمَلُ السّلَاحُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ! لَوْ عَلِمْنَا أَنّ لِرَسُولِ اللهِ فِي هَذَا هَوًى أَوْ طَاعَةً مَا سَبَقْتنَا إلَيْهِ. فَرَجَعَ الْحَارِثُ [ (1) ] وَاصْطَفّتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحَيّيْنِ جَمِيعًا أَنْ اُسْكُتُوا، وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَهَدّأَهُمْ وَخَفّضَهُمْ حَتّى انْصَرَفُوا.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلِيّ فَجَلَسَ عِنْدِي، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي.
قَالَتْ: فَتَشَهّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمّ قَالَ: أَمَا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنّهُ بَلَغَنِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً يُبَرّئُك اللهُ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِشَيْءٍ مِمّا يَقُولُ النّاسُ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ عَزّ وَجَلّ، فَإِنّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمّ تَابَ إلَى اللهِ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ.
قَالَتْ: فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ ذَهَبَ دَمْعِي حَتّى مَا أَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا، وَقُلْت لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: وَاَللهِ، مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ وَمَا أُجِيبُ بِهِ عَنْك. قَالَتْ: فَقُلْت لِأُمّي: أَجِيبِي عَنّي رَسُولَ اللهِ. فَقَالَتْ: وَاَللهِ، مَا أَدْرِي مَا أُجِيبُ عَنْك لِرَسُولِ اللهِ. وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السّنّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ. قَالَتْ: فَقُلْت: إنّي وَاَللهِ قَدْ عَلِمْت أَنّكُمْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَصَدّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْت لَكُمْ إنّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدّقُونِي، وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ اللهُ أَنّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لتصدّقونى. وإنى
__________
[ (1) ] فى ب: «فرجع الحارث بسيغه ولغطت الأوس والخزرج» .(2/432)
وَاَللهِ مَا أَجِدُ لِي مِثْلًا إلّا أَبَا يُوسُفَ إذْ يَقُولُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [ (1) ] وَاَللهُ مَا يَحْضُرُنِي ذِكْرُ يَعْقُوبَ، وَمَا أَهْتَدِي مِنْ الْغَيْظِ. الّذِي أَنَا فِيهِ. ثُمّ تَحَوّلْت فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي وَقُلْت: وَاَللهُ يَعْلَمُ أَنّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَا بِاَللهِ وَاثِقَةٌ أَنْ يُبَرّئَنِي اللهُ بِبَرَاءَتِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَمَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْعَرَبِ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ. وَاَللهِ، مَا قِيلَ لَنَا هَذَا فِي الْجَاهِلِيّةِ حَيْثُ لَا نَعْبُدُ اللهَ وَلَا نَدَعُ لَهُ شَيْئًا، فَيُقَالُ لَنَا فِي الْإِسْلَامِ! قَالَتْ: وَأَقْبَلَ عَلَيّ أَبِي مُغْضَبًا. قَالَتْ: فَاسْتَعْبَرْت فَقُلْت فِي نَفْسِي: «وَاَللهِ لَا أَتُوبُ إلَى اللهِ مِمّا ذَكَرْتُمْ أَبَدًا» ، وَاَيْمُ اللهِ لَأَنَا كُنْت أَحْقَرَ فِي نَفْسِي وَأَصْغَرَ شَأْنًا مِنْ أَنْ ينزل فىّ قرآن يقرأه النّاسُ فِي صَلَاتِهِمْ، وَلَكِنْ قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذّبُهُمْ [ (2) ] اللهُ عَنّي بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي، أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا، فَأَمّا قُرْآنٌ، فَلَا وَاَللهِ مَا ظَنَنْته! قالت:
فو الله، مَا بَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتّى يَغْشَاهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا كَانَ يَغْشَاهُ. قَالَتْ: فَسُجّيَ بِثَوْبِهِ وَجُمِعَتْ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَأَمّا أَنَا حين رأيت ما رأيت فو الله لَقَدْ فَرِحْت بِهِ وَعَلِمْت أَنّي بَرِيئَةٌ، وَأَنّ اللهَ تَعَالَى غَيْرُ ظَالِمٍ لِي. قَالَتْ:
وَأَمّا أبواى فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا سُرّيَ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى ظَنَنْت لَتَخْرُجَن أَنْفُسُهُمَا فَرَقًا أَنْ يَأْتِيَ أَمْرٌ مِنْ اللهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النّاسُ.
ثُمّ كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَإِنّهُ لَيَتَحَدّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ، وَهُوَ يمسح جبينه، فكانت أوّل كلمة قالها
__________
[ (1) ] سورة 12 يوسف 18.
[ (2) ] فى ب: «يكذب الله عنى به» .(2/433)
«يَا عَائِشَةُ، إنّ اللهَ قَدْ أَنَزَلَ بَرَاءَتَك» . قَالَتْ: وَسُرّيَ عَنْ أَبَوَيّ وَقَالَتْ أُمّي: قَوْمِي إلَى رَسُولِ اللهِ. فَقُلْت: وَاَللهِ، لَا أَقُومُ إلّا بِحَمْدِ اللهِ لَا بِحَمْدِك.
فَأَنْزَلَ اللهُ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ [ (1) ] الْآيَةَ. قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النّاسِ مَسْرُورًا فَصَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ تَلَا عَلَيْهِمْ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ. قَالَتْ: فَضَرَبَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدّ، وَكَانَ الّذِي تَوَلّى كِبَرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ، وَكَانَ مِسْطَحُ بْنُ أثاثة، وحسّان ابن ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَيُقَالُ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَضْرِبْهُمْ- وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ رَمَى مُحْصَنَةً لَعَنَهُ اللهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ: إنّمَا ذَاكَ لِأُمّ الْمُؤْمِنِينَ خَاصّةً.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيّوبَ، أَنّ أُمّ أَيّوبَ قَالَتْ لِأَبِي أَيّوبَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمّ أَيّوبَ فَاعِلَةً ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاَللهِ. قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاَللهِ خَيْرٌ مِنْك. فَلَمّا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَذَكَرَ أَهْلُ الْإِفْكِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [ (2) ] ، يَعْنِي أَبَا أَيّوبَ حِينَ قَالَ لِأُمّ أَيّوبَ، وَيُقَالُ إنّمَا قَالَهَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ.
فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى. عَنْ أُمّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ رَبِيعٍ، قَالَتْ: قَالَتْ أُمّ الطّفِيلِ لِأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ:
أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: أىّ ذلك؟ قالت: ما يقولون.
__________
[ (1) ] سورة 24 النور 11.
[ (2) ] سورة 24 النور 12.(2/434)
قال: هو والله الكذب. أو كنت تَفْعَلِينَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: أَعُوذُ بِاَللهِ. قَالَ:
فَهِيَ وَاَللهِ خَيْرٌ مِنْك. قَالَتْ: وَأَنَا أَشْهَدُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَالُوا: وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيّامًا، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ سعد ابن مُعَاذٍ فِي نَفَرٍ، فَخَرَجَ يَقُودُ بِهِ حَتّى دَخَلَ بِهِ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ، فَتَحَدّثَا عِنْدَهُ سَاعَةً، وَقَرّبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ طَعَامًا، فَأَصَابَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَكَثَ أَيّامًا، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَنَفَرٍ مَعَهُ.
فَانْطَلَقَ بِهِ حَتّى دَخَلَ مَنْزِلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَتَحَدّثَا سَاعَةً وَقَرّبَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ طَعَامًا. فَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُمْ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنّمَا فَعَلَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَنْ يَذْهَبَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الّذِي تَقَاوَلَا.
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ. عَنْ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه سلّم حِينَ احْتَبَسَ عَلَى قِلَادَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِذَاتِ الْجَيْشِ، فَلَمّا طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ كَادَ نَزَلَتْ آيَةُ التّيَمّمِ، فَمَسَحْنَا الْأَرْضَ بِالْأَيْدِي ثُمّ مَسَحْنَا الْأَيْدِيَ إلَى الْمَنَاكِبِ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصّلَاتَيْنِ فِي سَفَرِهِ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ رُومَانَ، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أُمّهِ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَعِمَادُ الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ رُومَانَ، وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: لَمّا قَالَ ابْنُ أُبَيّ مَا قَالَ، وَذَكَرَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ وَجَهْجَا، وَكَانَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَيْنِ يَكْثُرُ عَلَى قَوْمِي، وَقَدْ(2/435)
أَنَزَلْنَا مُحَمّدًا فِي دُورِ [ (1) ] كِنَانَةَ وَعِزّهَا! وَاَللهِ، لَقَدْ كَانَ جُعَيْلٌ يَرْضَى أَنْ يَسْكُتَ فَلَا يَتَكَلّمُ، فَصَارَ الْيَوْمَ يَتَكَلّمُ. وَقَوْلُ ابْنِ أُبَيّ أيضا فى صفوان ابن مُعَطّلٍ وَمَا رَمَاهُ بِهِ، فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ رَاعُوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ [ (2) ]
فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ جَاءَ صَفْوَانُ إلَى جُعَيْلِ بْنِ سُرَاقَةَ فقال: انطلق بنا، نضرب حسان، فو الله مَا أَرَادَ غَيْرَك وَغَيْرِي، وَلَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. فَأَبِي جُعَيْلٌ أَنْ يَذْهَبَ، فَقَالَ لَهُ: لَا أَفْعَلُ إلّا أَنْ يَأْمُرَنِي رَسُولُ اللهِ، وَلَا تَفْعَلُ أَنْتَ حَتّى تُؤَامِرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فَأَبَى صَفْوَانُ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مُصْلِتًا السّيْفَ حَتّى ضَرَبَ حَسّانَ ابن ثَابِتٍ فِي نَادِي قَوْمِهِ، فَوَثَبَتْ الْأَنْصَارُ إلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا- وَكَانَ الّذِي وَلِي ذَلِكَ مِنْهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ- وَأَسَرُوهُ أَسْرًا قَبِيحًا. فَمَرّ بِهِمْ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ أَمِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ وَرِضَائِهِ أَمْ مِنْ أَمْرٍ فَعَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا: مَا عَلِمَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ [ (3) ] :
لَقَدْ اجْتَرَأْت، خَلّ عَنْهُ! ثُمّ جَاءَ بِهِ وَبِثَابِتٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُهُمْ، فَأَرَادَ ثَابِتٌ أَنْ يَنْصَرِفَ، فَأَبَى عُمَارَةُ حَتّى جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ حَسّانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَهَرَ عَلَيّ السّيْفَ فِي نَادِي قَوْمِي، ثُمّ ضَرَبَنِي لِأَنْ أَمَوْتَ، وَلَا أَرَانِي إلّا مَيّتًا مِنْ جِرَاحَتِي.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفْوَانَ فَقَالَ: ولم ضربته وحملت
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ب: «ذروة» .
[ (2) ] بيضة البلد: يعنى واحدا لا يحاربه أحد، وهو فى هذا الموضع مدح. وقد يكون بيضة البلد ذما، وأصل ذلك أن يؤخذ بيضة واحدة من بيض النعام ليس معها غيرها، فإذا أريد به الذم شبه بها الرجل الذي لا رهط له ولا عشيرة. (شرح أبى ذر، ص 336) .
[ (3) ] أى قال لثابت بن قيس بن شماس.(2/436)
السّلَاحَ عَلَيْهِ؟ وَتَغَيّظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ آذَانِي وَهَجَانِي وَسَفِهَ عَلَيّ وَحَسَدَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى حَسّانَ فَقَالَ: أَسَفِهْت عَلَى قَوْمٍ أَسْلَمُوا؟ ثُمّ
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْبِسُوا صَفْوَانَ، فَإِنْ مَاتَ حَسّانُ فَاقْتُلُوهُ بِهِ. فَخَرَجُوا بِصَفْوَانَ [ (1) ] ، فَبَلَغَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ مَا صَنَعَ صَفْوَانُ، فَخَرَجَ فِي قَوْمِهِ مِنْ الْخَزْرَجِ حَتّى أَتَاهُمْ، فَقَالَ: عَمَدْتُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ تُؤْذُونَهُ وَتَهْجُونَهُ بِالشّعْرِ وَتَشْتُمُونَهُ، فَغَضِبَ لِمَا قِيلَ لَهُ، ثُمّ أَسَرْتُمُوهُ أَقْبَحَ الْإِسَارِ [ (2) ] وَرَسُولُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ! قَالُوا: فَإِنّ رَسُولَ اللهِ أَمَرَنَا بِحَبْسِهِ وَقَالَ: إنْ مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَاقْتُلُوهُ. قَالَ سَعْدٌ: وَاَللهِ، إنّ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللهِ لَلْعَفْوُ، وَلَكِنّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَضَى بَيْنَكُمْ بِالْحَقّ، وَإِنّ رَسُولَ اللهِ يَعْنِي [ (3) ] لَيُحِبّ أَنْ يَتْرُكَ صَفْوَانَ.
وَاَللهِ، لَا أَبْرَحُ حَتّى يُطْلَقَ! فَقَالَ حَسّانُ: مَا كَانَ لِي مِنْ حَقّ فَهُوَ لَك يَا أَبَا ثَابِتٍ. وَأَبَى قَوْمُهُ، فَغَضِبَ قَيْسٌ ابْنُهُ غَضَبًا شَدِيدًا فَقَالَ: عَجَبًا لَكُمْ، مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ! إنّ حَسّان قَدْ تَرَكَ حَقّهُ وَتَأْبَوْنَ أَنْتُمْ! مَا ظَنَنْت أَنّ أَحَدًا مِنْ الْخَزْرَجِ يُرِدْ أَبَا ثَابِتٍ فِي أَمْرٍ يَهْوَاهُ. فَاسْتَحْيَا الْقَوْمُ وَأَطْلَقُوهُ مِنْ الْوَثَاقِ، فَذَهَبَ بِهِ سَعْدٌ إلَى بَيْتِهِ فَكَسَاهُ حُلّةً، ثُمّ خَرَجَ صَفْوَانُ حَتّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلّيَ فِيهِ، فَرَآهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صَفْوَانُ؟
قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: مَنْ كَسَاهُ؟ قَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ:
كَسَاهُ اللهُ مِنْ حُلَلِ [ (4) ] الْجَنّةِ. ثُمّ كَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: لَا أُكَلّمُك أَبَدًا إنْ لَمْ تَذْهَبْ إلَى رسول الله فتقول: كلّ حقّ لى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «بحسان» ، والتصحيح من ب.
[ (2) ] فى ب: «أقبح الأسر» .
[ (3) ] كذا فى الأصول.
[ (4) ] فى ب: «ثياب» .(2/437)
قِبَلَ صَفْوَانَ فَهُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَقْبَلَ حَسّانُ فِي قَوْمِهِ حَتّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلّ حَقّ لِي قِبَلَ صَفْوَانَ بْنِ مُعَطّلٍ فَهُوَ لَك. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْت وَقَبِلْت ذَلِكَ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضًا بَرَاحًا [ (1) ] وَهِيَ بَيْرُحَاءُ [ (2) ] وَمَا حَوْلَهَا وَسِيرِينَ، وَأَعْطَاهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ حَائِطًا كَانَ يَجِدُ [ (3) ] مَالًا كَثِيرًا عِوَضًا لَهُ مِمّا عَفَا عَنْ حَقّهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَحَدّثَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنّ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ حَبَسَ صَفْوَانَ، فَلَمّا بَرِئَ حَسّانُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا حَسّانُ، أَحْسِنْ فِيمَا [ (4) ] أَصَابَك.
فَقَالَ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرَاحًا وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ عِوَضًا.
فَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَذْكُرُ حَسّانَ إلّا بِخَيْرٍ. وَلَقَدْ سَمِعَتْ عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ يَوْمًا يَسُبّهُ لِمَا كَانَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: لَا تَسُبّهُ يَا بُنَيّ، أَلَيْسَ هُوَ الّذِي يَقُولُ:
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا عبيدة
__________
[ (1) ] البراح: المتسع من الأرض، لا زرع بها ولا شجر. (القاموس المحيط، ج 1، ص 215) .
[ (2) ] ويقال أيضا «بيرحى» ، وبكسر الباء وبضم الراء. (النهاية، ج 1، ص 71) . وهي مال كانت لأبى طلحة بن سهل، وتصدق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج 3، ص 319) .
[ (3) ] الجداد: صرام النخل، وهو قطع ثمرتها، يقال جد الثمرة يجدها جدا. (النهاية، ج 1، ص 147) .
[ (4) ] فى ب: «مما أصابك» .(2/438)
ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمَعَةَ الْأَسَدِيّ يُخْبِرُ أَنّهُ سَمِعَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حَسّانُ حِجَازٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لَا يُحِبّهُ مُنَافِقٌ وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ.
وَقَالَ حَسّانُ يَمْدَحُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
حَصَانٌ رَزَانٌ [ (1) ] لَا تَزْنِ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى [ (2) ] مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ [ (3) ]
فَإِنْ كَانَ مَا قَدْ جَاءَ عَنّي قُلْته ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
هِيَ أَبْيَاتٌ أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْت رَفِيقَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، فَأَقْبَلْنَا حَتّى انْتَهَيْنَا إلَى وَادِي الْعَقِيقِ فِي وَسَطِ اللّيْلِ فَإِذَا النّاسُ مُعَرّسُونَ [ (4) ] . قُلْنَا:
فَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: فِي مُقَدّمِ النّاسِ، قَدْ نَامَ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا جَابِرُ، هَلْ لَك بِنَا فِي التّقَدّمِ وَالدّخُولِ عَلَى أَهْلِنَا؟ فَقُلْت: يَا أَبَا مُحَمّدٍ، لَا أُحِبّ أَنْ أُخَالِفَ النّاسَ، لَا أَرَى أَحَدًا تَقَدّمَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: وَاَللهِ، مَا نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقَدّمٍ. قَالَ جَابِرٌ: أَمّا أَنَا فَلَسْت بِبَارِحٍ. فَوَدّعَنِي وَانْطَلَقَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى ظَهْرِ الطّرِيقِ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَطَرَقَ أَهْلَهُ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَإِذَا مِصْبَاحٌ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ إنسان طويل، فظنّ
__________
[ (1) ] الحصان هنا: العفيفة. والرزان: الملازمة موضعها التي لا تتصرف كثيرا. ولا تزن: أى لا تتّهم.
(شرح أبى ذر، ص 337) .
[ (2) ] غرثى: جائعة. (شرح أبى ذر، ص 337) .
[ (3) ] الغوافل: جمع غافلة، ويعنى بهذا الكلام أنها كافة عن أعراض الناس. (شرح أبى ذر، ص 337) .
[ (4) ] التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. (النهاية، ج 3، ص 80) .(2/439)
أَنّهُ رَجُلٌ، وَسُقِطَ فِي يَدَيْهِ وَنَدِمَ عَلَى تَقَدّمِهِ. وَجَعَلَ يَقُولُ، الشّيْطَانُ مَعَ الْغُرّ، فَاقْتَحَمَ الْبَيْتَ رَافِعًا سَيْفَهُ، قَدْ جَرّدَهُ مِنْ غِمْدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَهُمَا.
ثُمّ فَكّرَ وَاذّكَرَ، فَغَمَزَ امْرَأَتَهُ بِرِجْلِهِ فَاسْتَيْقَظَتْ فَصَاحَتْ وَهِيَ تَوْسَنُ، فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: رُجَيْلَةُ [مَاشِطَتِي] [ (1) ] ، سَمِعْنَا بِمَقْدِمِكُمْ فَدَعَوْتهَا تُمَشّطُنِي فَبَاتَتْ عِنْدِي. فَبَاتَ فَلَمّا أَصْبَحَ خَرَجَ مُعْتَرِضًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ بِبِئْرِ أَبِي عنبة، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ،
فَالْتَفَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بَشِيرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا النّعْمَانِ. فَقَالَ: لَبّيْكَ. قَالَ: إنّ وَجْهَ عَبْدِ اللهِ لَيُخْبِرُك أَنّهُ قَدْ كَرِهَ طُرُوقَ أَهْلِهِ. فَلَمّا انْتَهَى إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رَسُولُ اللهِ: خَبَرَك يَا ابْنَ رَوَاحَةَ. فَأَخْبَرَهُ كَيْفَ كَانَ تَقَدّمَ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَطْرُقُوا النّسَاءَ لَيْلًا.
قَالَ جَابِرٌ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ جَابِرٌ: فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْعَسْكَرِ وَلُزُومَهُ وَالْجَمَاعَةَ، لَقَدْ أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَكُنّا مَرَرْنَا عَلَى وَادِي الْقُرَى فَانْتَهَيْنَا إلَى الْجُرُفِ [ (2) ] لَيْلًا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَطْرُقُوا النّسَاءَ لَيْلًا. قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقَ رَجُلَانِ فَعَصَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيَا جَمِيعًا مَا يَكْرَهَانِ.
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ
عَسْكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَحَاصَرُوهُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَانْصَرَفَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ سَنَةَ
__________
[ (1) ] الزيادة من نسخة ب.
[ (2) ] الحرف على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام. (وفاء الوفا، ج 2، ص 280) .(2/440)
خَمْسٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ.
فَحَدّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الحارث عن أبيه، وربيعة ابن عُثْمَانَ، وَمُحَمّدٌ عَنْ الزّهْرِيّ، وَعَبْدُ الصّمَدِ بْنُ مُحَمّدٍ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَحِزَامُ بْنُ هِشَامٍ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، وَأَيّوبُ بن النعمان بن عبد الله بن كعب بْنِ مَالِكٍ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى الزّرَقِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهِشَامُ بن سعد، ومجمّع ابن يَعْقُوبَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَالضّحّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدُ الرحمن بن محمّد ابن أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، وَابْنُ أَبِي الزّنَادِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي، فَكَتَبْت كُلّ مَا حَدّثُونِي، قَالُوا: لَمّا أَجْلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النّضِيرِ سَارُوا إلَى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهَا مِنْ الْيَهُودِ قَوْمٌ أَهْلُ عَدَدٍ وَجَلَدٍ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ مِنْ الْبُيُوتِ وَالْأَحْسَابِ [ (1) ] مَا لِبَنِي النّضِيرِ- كَانَ بَنُو النّضِيرِ سِرّهُمْ، وَقُرَيْظَةُ مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ مِنْ بَنِي هَارُونَ- فَلَمّا قَدِمُوا خَيْبَرَ خَرَجَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهَوْذَةُ بْنُ الْحُقَيْقِ. وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ مِنْ الْأَوْسِ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الرّاهِبُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا إلَى مَكّةَ يَدْعُونَ قُرَيْشًا وَأَتْبَاعَهَا إلَى حَرْبِ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِقُرَيْشٍ: نَحْنُ مَعَكُمْ حَتّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمّدًا.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذَا الّذِي أقدمكم ونزعكم [ (2) ] ؟ قالوا: نعم، جئنا
__________
[ (1) ] فى الأصل: «والأخشاب» ، والتصحيح من نسخة ب.
[ (2) ] فى ب: «نزغكم» .(2/441)
لِنُحَالِفَكُمْ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَقِتَالِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، أَحَبّ النّاسِ إلَيْنَا مَنْ أَعَانَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ. قَالَ النّفَرُ: فَأَخْرَجَ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلّهَا أَنْتَ فِيهِمْ، وَنَدْخُلُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتّى نُلْصِقَ أَكْبَادَنَا بِهَا، ثُمّ نَحْلِفُ بِاَللهِ جَمِيعًا لَا يَخْذُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَتَكُونَن كَلِمَتُنَا وَاحِدَةً عَلَى هَذَا الرّجُلِ مَا بَقِيَ مِنّا رَجُلٌ.
فَفَعَلُوا فَتَحَالَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَعَاقَدُوا، ثُمّ قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَكُمْ رُؤَسَاءُ أَهْلِ يَثْرِبَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْأُوَلِ، فَسَلُوهُمْ عَمّا نَحْنُ عَلَيْهِ وَمُحَمّدٌ، أَيّنَا أَهْدَى؟ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأُوَلِ وَالْعِلْمِ، أَخْبِرُونَا عَمّا أَصْبَحْنَا نَحْنُ فِيهِ وَمُحَمّدٌ، دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمّدٍ؟ فَنَحْنُ عُمّارُ الْبَيْتِ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَعْبُدُ الْأَصْنَامَ. قَالُوا: اللهُمّ، أَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ مِنْهُ، إنّكُمْ لَتُعَظّمُونَ هَذَا الْبَيْتَ، وَتَقُومُونَ عَلَى السّقَايَةِ، وَتَنْحَرُونَ الْبُدْنَ، وَتَعْبُدُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [ (1) ] .
فَاتّعَدُوا لِوَقْتٍ وَقّتُوهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ قَدْ وَعَدْتُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لِهَذَا الْوَقْتِ وَفَارَقُوكُمْ عَلَيْهِ، فَفُوا لَهُمْ بِهِ! لَا يَكُونُ هَذَا كَمَا كَانَ، وَعَدْنَا مُحَمّدًا بَدْرَ الصّفْرَاءِ فَلَمْ نَفِ بِمَوْعِدِهِ، وَاجْتَرَأَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ. فَخَرَجَتْ الْيَهُودُ حَتّى أَتَتْ غَطَفَانَ، وَأَخَذَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَهَازِ، وَسَيّرَتْ فِي الْعَرَبِ تَدْعُوهُمْ إلَى نَصْرِهَا، وَأَلّبُوا أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. ثُمّ خَرَجْت اليهود حتى جاءوا بنى سليم،
__________
[ (1) ] سورة 4 النساء 51.(2/442)
فَوَعَدُوهُمْ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إذَا سَارَتْ قُرَيْشٌ. ثُمّ سَارُوا [ (1) ] فِي غَطَفَانَ، فَجَعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ سَنَةً، وَيَنْصُرُونَهُمْ وَيَسِيرُونَ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى مُحَمّدٍ إذَا سَارُوا.
فَأَنْعَمَتْ بِذَلِكَ غَطَفَانُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَسْرَعَ إلَى ذَلِكَ مِنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ.
وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَحَابِيشِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَعَقَدُوا اللّوَاءَ فِي دَارِ النّدْوَةِ، وَقَادُوا مَعَهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ فَرَسٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِنْ الظّهْرِ أَلْفُ بَعِيرٍ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ. وَأَقْبَلَتْ سُلَيْمٌ فَلَاقَوْهُمْ بِمَرّ الظّهْرَانِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةٍ، يَقُودُهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ حَلِيفُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ، وَهُوَ أَبُو أَبِي الْأَعْوَرِ الّذِي كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِصِفّينَ. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ يَقُودُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ بَنُو أَسَدٍ وَقَائِدُهَا طَلْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيّ، وَخَرَجَتْ بَنُو فَزَارَةَ وَأَوْعَبَتْ [ (2) ] ، وَهُمْ أَلْفٌ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَخَرَجَتْ أَشْجَعُ وَقَائِدُهَا مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ- لَمْ تُوعِبْ أَشْجَعَ. وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ قَوْمَهُ بَنِي مُرّةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ.
لَمّا أَجَمَعَتْ غَطَفَانُ السّيْرَ أَبَى الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمَسِيرَ وَقَالَ لِقَوْمِهِ: تَفَرّقُوا فِي بِلَادِكُمْ وَلَا تَسِيرُوا إلَى مُحَمّدٍ، فَإِنّي أَرَى أَنّ مُحَمّدًا أَمْرُهُ ظَاهِرٌ، لَوْ نَاوَأَهُ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَكَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ. فَتَفَرّقُوا فِي بِلَادِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهَكَذَا رَوَى الزّهْرِيّ وَرَوَتْ بَنُو مُرّةَ.
حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَا: شَهِدَتْ بَنُو مُرّةَ الْخَنْدَقَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ الْمُرّيّ، وَهَجَاهُ حسّان وأنشد [ (3) ]
__________
[ (1) ] فى ب: «ثم سارت» .
[ (2) ] أى خرجوا بأجمعهم فى الغزو. (النهاية، ج 4، ص 220) .
[ (3) ] فى ب «وأنشدوا» .(2/443)
شِعْرًا، وَذَكَرُوا مُجَاوَرَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ. فَكَانَ هَذَا أَثْبَتَ عِنْدَنَا أَنّهُ شَهِدَ الْخَنْدَقَ فِي قَوْمِهِ، وَلَكِنّهُ كَانَ أَمْثَلَ تُقْيَةً مِنْ عُيَيْنَةَ.
قَالُوا: وَكَانَ الْقَوْمُ جَمِيعًا الّذِينَ وَافَوْا الْخَنْدَقَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَسُلَيْمٍ، وَغَطَفَانَ، وَأَسَدٍ، عَشَرَةَ آلَافٍ، فَهِيَ عَسَاكِرُ ثَلَاثَةٍ، وَعِنَاجُ [ (1) ] الْأَمْرِ إلَى أَبِي سُفْيَانَ. فَأَقْبَلُوا فَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِرُومَةَ [ (2) ] وَوَادِي الْعَقِيقِ فِي أَحَابِيشِهَا وَمَنْ ضَوَى إلَيْهَا مِنْ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ فِي قَادَتِهَا حَتّى نَزَلُوا بِالزّغَابَةِ إلَى جَانِبِ أُحُدٍ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تُسَرّحُ رِكَابَهَا فِي وَادِي الْعَقِيقِ فِي عِضَاهِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ لِلْخَيْلِ إلّا مَا حَمَلُوهُ مَعَهُمْ مِنْ عَلَفٍ- وَكَانَ عَلَفُهُمْ الذّرَةَ- وَسَرّحَتْ غَطَفَانُ إبِلَهَا إلَى الْغَابَةِ فِي أَثْلِهَا وَطَرْفَائِهَا فِي عِضَاهِ الْجُرُفِ. وَقَدِمُوا فِي زَمَانٍ لَيْسَ فِي الْعِرْضِ [ (3) ] زَرْعٌ، فَقَدْ حَصَدَ النّاسُ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَهْرٍ، فَأَدْخَلُوا حَصَادَهُمْ وَأَتْبَانَهُمْ. وَكَانَتْ غَطَفَانُ تُرْسِلُ خَيْلَهَا فِي أَثَرِ الْحَصَادِ- وَكَانَ خَيْلُ غَطَفَانَ ثَلَاثَمِائَةٍ- بِالْعِرْضِ فَيُمْسِكُ ذَلِكَ مِنْ خَيْلِهِمْ [ (4) ] ، وَكَادَتْ إبِلُهُمْ تَهْلِكُ مِنْ الْهُزَالِ. وَكَانَتْ الْمَدِينَةُ لَيَالِيَ قَدِمُوا جَدِيبَةً.
فَلَمّا فَصَلَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ رَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِفُصُولِ قُرَيْشٍ، فَسَارُوا مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، فَذَلِكَ حِينَ نَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوّهِمْ، وَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ بِالْجِدّ وَالْجِهَادِ، وَوَعَدَهُمْ النّصْرَ إنْ هُمْ صَبَرُوا وَاتّقُوا، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ. وَشَاوَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه
__________
[ (1) ] فى الأصل: «عياج» ، والتصحيح من ب.
[ (2) ] رومة: أرض بالمدينة بين الجرف وزغابة. (معجم البلدان، ج 4، ص 336) .
[ (3) ] يقال لكل واد فيه قرى ومياه عرض.. وقال الأصمعى: أخصب ذلك العرض وأخصبت أعراض المدينة وهي قراها التي فى أوديتها ... وقال شمر: أعراض المدينة بطون سوادهم حيث الزروع والنخل. (معجم البلدان، ج 6، ص 146) .
[ (4) ] فى ب: «من خيولهم» .(2/444)
وسلم، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ يُكْثِرُ مُشَاوَرَتَهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَقَالَ: أَنَبْرُزُ لَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، أَمْ نَكُونُ فِيهَا وَنُخَنْدِقُهَا عَلَيْنَا، أَمْ نَكُونُ قَرِيبًا وَنَجْعَلُ ظُهُورَنَا إلَى هَذَا الْجَبَلِ؟ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَكُونُ مِمّا يَلِي بُعَاثَ إلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ إلَى الْجُرْفِ. فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْعُ الْمَدِينَةَ خُلُوفًا! فَقَالَ سَلْمَانُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّا إذْ كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَخَوّفْنَا الْخَيْلَ خَنْدَقْنَا عَلَيْنَا، فَهَلْ لَك يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ نُخَنْدِقَ؟ فَأَعْجَبَ رَأْيُ سَلْمَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرُوا حِينَ دَعَاهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يَخْرُجُوا، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْخُرُوجَ وَأَحَبّوا الثّبَاتَ فِي الْمَدِينَةِ.
فَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَهْمٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا لَهُ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَارْتَادَ مَوْضِعًا يَنْزِلُهُ، فَكَانَ أَعْجَبَ الْمَنَازِلِ إلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ سَلْعًا [ (1) ] خَلْفَ ظَهْرِهِ، ويخندق من المذاذ [ (2) ] إلَى ذُبَابٍ إلَى رَاتِجٍ [ (3) ] . فَعَمِلَ يَوْمَئِذٍ فِي الْخَنْدَقِ، وَنَدَبَ النّاسَ، فَخَبّرَهُمْ بِدُنُوّ عَدُوّهِمْ، وَعَسْكَرَهُمْ إلَى سَفْحِ سَلْعٍ. وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَعْمَلُونَ مُسْتَعْجِلِينَ يُبَادِرُونَ قُدُومَ الْعَدُوّ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ مَعَهُمْ فِي الْخَنْدَقِ لِيُنَشّطَ. الْمُسْلِمِينَ، وَعَمِلُوا، وَاسْتَعَارُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ آلَةً كَثِيرَةً مِنْ مَسَاحِي، وَكَرَازِينَ [ (4) ] وَمَكَاتِلَ، يَحْفِرُونَ بِهِ الْخَنْدَقَ- وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سِلْمٌ لِلنّبِيّ صلّى
__________
[ (1) ] سلع: الجبل المعروف الذي بسوق المدينة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 324) .
[ (2) ] المذاذ: اسم أطم لبنى حرام من بنى سلمة غربي مسجد الفتح. (وفاء الوفا، ج 2، ص 370) .
[ (3) ] راتج: الجبل الذي إلى جنب جبل بنى عبيد غربي بطحان. (وفاء الوفا، ج 2، ص 310) .
[ (4) ] مساحى: جمع مسحاة، وهي الحبرفة من لحديد. وكرازين: جمع كرزن، وهو الفأس.
ومكاتل: جمع مكتل، وهو الزبيل الكبير، قيل إنه يسع خمسة عشر صاعا. (النهاية، ج 4، ص 94، 14، 8) .(2/445)
الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ قُدُومَ قُرَيْشٍ. وَوَكّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلّ جَانِبٍ مِنْ الْخَنْدَقِ قَوْمًا يَحْفِرُونَهُ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَحْفِرُونَ مِنْ جَانِبِ رَاتِجٍ إلَى ذُبَابٍ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ تَحْفِرُ مِنْ ذُبَابٍ إلَى جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ سَائِرُ الْمَدِينَةِ مُشَبّكًا بِالْبُنْيَانِ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ:
كُنْت أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ [ (1) ] وَالشّبَابُ يَنْقُلُونَ التّرَابَ، وَالْخَنْدَقُ بَسْطَةٌ [ (2) ] أَوْ نَحْوُهَا، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رؤوسهم فِي الْمَكَاتِلِ، وَكَانُوا إذَا رَجَعُوا بِالْمَكَاتِلِ جَعَلُوا فِيهَا الْحِجَارَةَ يَأْتُونَ بِهَا مِنْ جَبَلِ سَلْعٍ. وَكَانُوا يَجْعَلُونَ التّرَابَ مِمّا يَلِي النّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وكانوا يَسْطُرُونَ الْحِجَارَةَ مِمّا يَلِيهِمْ كَأَنّهَا حِبَالُ [ (3) ] التّمْرِ- وَكَانَتْ الْحِجَارَةُ مِنْ أَعْظَمِ سِلَاحِهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَحْمِلُ التّرَابَ فِي الْمَكَاتِلِ وَيَطْرَحُهُ، وَالْقَوْمُ يَرْتَجِزُونَ،
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
هَذَا الْجَمَالُ لَا جَمَالُ خَيْبَرَ ... هَذَا أَبَرّ رَبّنَا وَأَطْهَرُ
وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ إذَا رَأَوْا مِنْ الرّجُلِ فُتُورًا ضَحِكُوا مِنْهُ. وَتَنَافَسَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ،
فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنّا! .. وَكَانَ قَوِيّا عَارِفًا بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ. وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: هُوَ مِنّا وَنَحْنُ أَحَقّ بِهِ! فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ فَقَالَ: سَلْمَانُ رَجُلٌ منا أهل
__________
[ (1) ] فى ث: «كنت أنظر إلى المسلمين يمرون» .
[ (2) ] بسطة: أى قامة. (القاموس المحيط، ج 2، ص 250) .
[ (3) ] فى ب: «جبال» .(2/446)
الْبَيْتِ. وَلَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ يَعْمَلُ عَمَلَ عَشَرَةِ رِجَالٍ حَتّى عَانَهُ [ (1) ] يَوْمَئِذٍ قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، فَلُبِطَ بِهِ [ (2) ] ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
مُرُوهُ فَلْيَتَوَضّأْ لَهُ، وليغتسل به.
ويكفإ الْإِنَاءَ خَلْفَهُ. فَفَعَلَ فَكَأَنّمَا حُلّ مِنْ عِقَالٍ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ مبشّر قال: سمعت جابر ابن عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَقَدْ كُنْت أَرَى سَلْمَانَ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا وَخَمْسًا فِي الْأَرْضِ، فَمَا تَحَيّنْته حَتّى فَرَغَ وَحْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
اللهُمّ، لَا عَيْشَ إلّا عَيْشُ الْآخِرَةِ.
وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَعَلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَرْتَجِزُ وَنَحْفِرُ، وَكُنّا- بَنِي سَلِمَةَ- نَاحِيَةٌ، فَعَزَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيّ أَلّا أَقُولَ شَيْئًا، فَقُلْت: هَلْ عَزَمَ عَلَى غَيْرِي؟ قَالُوا: حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ. قَالَ: فَعَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّمَا نَهَانَا لِوَجْدِنَا لَهُ وَقِلّتِهِ عَلَى غَيْرِنَا، فَمَا تَكَلّمْت بِحَرْفٍ حَتّى فَرَغْنَا مِنْ الْخَنْدَقِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: لَا يَغْضَبُ أَحَدٌ مِمّا قَالَ صَاحِبُهُ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ سُوءًا، إلّا مَا قَالَ كَعْبٌ وَحَسّانُ فَإِنّهُمَا يَجِدَانِ ذَلِكَ.
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ:
كَانَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ ذَمِيمًا قَبِيحًا، وَكَانَ يَعْمَلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي الْخَنْدَقِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَيّرَ اسْمَهُ يَوْمَئِذٍ فَسَمّاهُ عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
__________
[ (1) ] عانه: أى أصابه بالعين. (لسان العرب، ج 17، ص 176) .
[ (2) ] لبط: أى صرع وسقط إلى الأرض. (النهاية، ج 4، ص 46) .(2/447)
سَمّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرًا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرًا
قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلّا أَنْ يَقُولَ «عَمْرًا» [ (1) ] .
فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ يَحْفِرُونَ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِيمَنْ يَنْقُلُ التّرَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ يَا رَسُولَ اللهِ الّذِي أَبْقَانِي حَتّى آمَنْت بِك، إنّي عَانَقْت أَبَا هَذَا يَوْمَ بُعَاثَ، ثَابِتَ بْنَ الضّحّاكِ، فَكَانَتْ اللّبْجَةُ [ (2) ] بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إنّهُ نِعْمَ الْغُلَامُ! وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ رَقَدَ فِي الْخَنْدَقِ، غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتّى أُخِذَ سِلَاحُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهُوَ فِي قُرّ شَدِيدٍ- تُرْسُهُ، وَقَوْسُهُ، وَسَيْفُهُ- وَهُوَ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ يُطِيفُونَ بِالْخَنْدَقِ وَيَحْرُسُونَهُ، وَتَرَكُوا زَيْدًا نَائِمًا، وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ حَتّى جَاءَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ فَأَخَذَ سِلَاحَهُ، وَلَا يَشْعُرُ حَتّى فَزِعَ بَعْدَ فَقْدِ سِلَاحِهِ، حَتّى بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا زَيْدًا فَقَالَ: يَا أَبَا رُقَادٍ، نِمْت حَتّى ذَهَبَ سِلَاحُك! ثُمّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لَهُ عِلْمٌ بِسِلَاحِ هَذَا الْغُلَامِ؟ فَقَالَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَهُوَ عِنْدِي. فَقَالَ: فَرُدّهُ عَلَيْهِ، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَوّعَ الْمُسْلِمُ أَوْ يُؤْخَذَ مَتَاعُهُ لَاعِبًا جَادّا [ (3) ] .
حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلّا يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ أَوْ يَنْقُلُ التّرَابَ، وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ الله صلّى
__________
[ (1) ] أى إذا وصلوا إلى آخر البيت قاله رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا قالوا: «وكان للبائس يوما ظهرا» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ظهرا» . (شرح أبى ذر، ص 300) .
[ (2) ] اللبجة: من قولك لبج به، أى صرع. (أساس البلاغة، ص 842) .
[ (3) ] أى لا يأخذه على سبيل الهزل ثم يحبسه فيصير ذلك جدا. (النهاية، ج 1، ص 147)(2/448)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. لَا يَتَفَرّقَانِ فِي عَمَلٍ، وَلَا مَسِيرٍ، وَلَا مَنْزِلٍ- يَنْقُلَانِ التّرَابَ فِي ثِيَابِهِمَا يَوْمَئِذٍ مِنْ الْعَجَلَةِ، إذْ لَمْ يَجِدَا مَكَاتِلَ لِعَجَلَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَحْسَنَ فِي حُلّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنّهُ كَانَ أَبْيَضَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ، كَثِيرَ الشّعْرِ، يَضْرِبُ الشّعْرُ مَنْكِبَيْهِ. وَلَقَدْ رَأَيْته يَوْمَئِذٍ يَحْمِلُ التّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتّى حَالَ الْغُبَارُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ بَطْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتّرَابُ عَلَى صَدْرِهِ وَبَيْنَ عُكَنِهِ [ (1) ] ، وَإِنّهُ لَيَقُولُ:
اللهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
يُرَدّدُ ذَلِكَ.
وَحَدّثَنِي أُبَيّ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، قَالَ: كُنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَخَذَ الْكَرْزَنَ وَضَرَبَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرًا فَصَلّ الْحَجَرَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِمّ تَضْحَكُ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضحك من قوم يؤتى بهم مِنْ الْمَشْرِقِ فِي الْكُبُولِ [ (2) ] ، يُسَاقُونَ إلَى الْجَنّةِ وَهُمْ كَارِهُونَ.
فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحُكْمِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَضْرِبُ يومئذ بالمعول، فصادف
__________
[ (1) ] العكنة: ما انطوى وتثنى من لجم البطن. (القاموس المحيط، ج 4، ص 249) .
[ (2) ] الكبول: جمع كبل، وهو قيد ضخم. (النهاية، ج 4، ص 6) .(2/449)
حَجَرًا صَلْدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْمِعْوَلَ، وَهُوَ عِنْدَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَذَهَبَتْ أَوّلُهَا بَرْقَةً إلَى الْيَمَنِ، ثُمّ ضَرَبَ أُخْرَى فَذَهَبَتْ بَرْقَةً إلَى الشّامِ، ثُمّ ضَرَبَ أُخْرَى فَذَهَبَتْ بَرْقَةً نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَكُسِرَ الْحَجَرُ عِنْدَ الثّالِثَةِ. فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ: وَاَلّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقّ، لَصَارَ كَأَنّهُ سَهْلَةٌ [ (1) ] وَكَانَ كُلّمَا ضَرَبَ ضَرْبَةً يَتْبَعُهُ سَلْمَانُ بِبَصَرِهِ [ (2) ] ، فَيُبْصِرُ عِنْدَ كُلّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْت الْمِعْوَلَ كُلّمَا ضَرَبْت بِهِ أَضَاءَ مَا تَحْتَهُ. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ رَأَيْت ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي رَأَيْت فِي الْأُولَى قُصُورَ الشّامِ، ثُمّ رَأَيْت فِي الثّانِيَةِ قُصُورَ الْيَمَنِ، وَرَأَيْت فِي الثّالِثَةِ قَصْرَ كِسْرَى الْأَبْيَضَ بِالْمَدَائِنِ. وَجَعَلَ يَصِفُهُ لِسَلْمَانَ فَقَالَ: صَدَقْت وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ، إنّ هَذِهِ لَصِفَتُهُ، وَأَشْهَدُ أَنّك لَرَسُولُ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ فُتُوحٌ يَفْتَحُهَا اللهُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي يَا سَلْمَانُ، لَتُفْتَحَن الشّامُ، وَيَهْرُبُ هِرَقْلُ إلَى أَقْصَى مَمْلَكَتِهِ، وَتَظْهَرُونَ عَلَى الشّامِ فَلَا يُنَازِعُكُمْ أَحَدٌ، وَلَتُفْتَحَن الْيَمَنُ، وَلَيُفْتَحَن هَذَا الْمَشْرِقُ، وَيُقْتَلُ كِسْرَى بَعْدَهُ.
قَالَ سَلْمَانُ: فَكُلّ هَذَا قَدْ رَأَيْت.
قَالُوا: وَكَانَ الْخَنْدَقُ مَا بَيْنَ جَبَلِ بَنِي عُبَيْدٍ بِخُرْبَى إلَى رَاتِجٍ، فَكَانَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ ذُبَابٍ إلَى رَاتِجٍ، وَكَانَ لِلْأَنْصَارِ مَا بَيْنَ ذُبَابٍ إلَى خُرْبَى، فَهَذَا الّذِي حَفَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَشَبّكُوا الْمَدِينَةَ بِالْبُنْيَانِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَهِيَ كَالْحِصْنِ. وَخَنْدَقَتْ بَنُو عبد الأشهل عليها بما يَلِي رَاتِجٍ إلَى خَلْفِهَا، حَتّى جَاءَ الْخَنْدَقُ من وراء المسجد، وخندقت
__________
[ (1) ] السهلة: رمل ليس بالدقاق. (الصحاح، ص 1733) .
[ (2) ] فى الأصل: «بضربه» ، والتصحيح من نسخة ب.(2/450)
بَنُو دِينَارٍ مِنْ عِنْدِ خُرْبَى إلَى مَوْضِعِ دَارِ ابْنِ أَبِي الْجُنُوبِ الْيَوْمَ. وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ فِي الْآطَامِ، وَرَفَعَتْ بَنُو حَارِثَةَ الذّرَارِيّ فِي أُطُمِهِمْ، وَكَانَ أُطُمًا مَنِيعًا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ فِيهِ. وَرَفَعَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ النّسَاءَ وَالذّرّيّةَ فِي الْآطَامِ، وَخَنْدَقَ بَعْضُهُمْ حَوْلَ الْآطَامِ بِقُبَاءَ، وَحَصّنَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَلَفّهَا [ (1) ] ، وخَطْمَةُ، وَبَنُو أُمَيّةَ، وَوَائِلٌ، وَوَاقِفٌ، فَكَانَ ذَرَارِيّهُمْ فِي آطَامِهِمْ.
فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبْجَرَ [ (2) ] ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَسّانَ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي شُيُوخُ بَنِي وَاقِفٍ أَنّهُمْ حَدّثُوهُ أَنّ بَنِي وَاقِفٍ جَعَلُوا ذَرَارِيّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ فِي أُطُمِهِمْ، وَكَانُوا مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَتَعَاهَدُونَ أَهْلِيهِمْ بِأَنْصَافِ النّهَارِ بِإِذْنِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْهَاهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَلَحّوا أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السّلَاحَ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَكَانَ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ يَقُولُ: أَقْبَلْت فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ نَكَبْنَا عَنْ الْجِسْرِ وَصَفْنَةَ [ (3) ] فَأَخَذْنَا على قباء، حتى إذا كنا بعوسا [ (4) ] إذَا نَفَرٌ مِنْهُمْ فِيهِمْ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ الْقُرَظِيّ، فَنَضَحُونَا بِالنّبْلِ سَاعَةً، وَرَمَيْنَاهُمْ بِالنّبْلِ، وَكَانَتْ بَيْنَنَا جِرَاحَةٌ، ثُمّ انْكَشَفُوا عَلَى حَامِيَتِهِمْ وَرَجَعْنَا إلَى أَهْلِنَا، فَلَمْ نَرَ لَهُمْ جَمْعًا بَعْدُ.
وَحَدّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ الْخَنْدَقُ الّذِي خَنْدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ جبل بنى عبيد إلى راتج
__________
[ (1) ] اللف: القوم المجتمعون. (القاموس المحيط، ج 3، ص 196) .
[ (2) ] فى ب: «عبد الرحمن بن الحارث» .
[ (3) ] كذا فى الأصل، وفى نسخة ب: «وصقنة» . وصفنة: منزلة بنى عطية بن زائد، ذكرها السمهودي، (وفاء الوفا، ج 2، ص 336) .
[ (4) ] عوسا: موضع بوادي رانونا. (وفاء الوفا، ج 2، ص 213) .(2/451)
- وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَحَادِيثِ عِنْدَنَا. وَذَكَرُوا أَنّ الْخَنْدَقَ لَهُ أَبْوَابٌ، فَلَسْنَا نَدْرِي أَيْنَ مَوْضِعُهَا.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَصَابَ النّاسُ كُدْيَةً يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَضَرَبُوا فِيهَا بِمَعَاوِلِهِمْ حَتّى انْكَسَرَتْ، فَدَعَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبّهُ عَلَيْهَا فَعَادَتْ كَثِيبًا. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْفِرُ، وَرَأَيْته خَمِيصًا، وَرَأَيْت بَيْنَ عُكَنِهِ الْغُبَارَ، فَأَتَيْت امْرَأَتِي فَأَخْبَرْتهَا مَا رَأَيْت مِنْ خَمَصِ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَاَللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إلّا هَذِهِ الشّاةُ وَمُدّ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ جَابِرٌ:
فَاطْحَنِي وَأَصْلِحِي. قَالَتْ: فَطَبَخْنَا بَعْضَهَا وَشَوَيْنَا بَعْضَهَا، وَخُبِزَ الشّعِيرُ.
[قَالَ جَابِرٌ] : ثُمّ أَتَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَكَثْت حَتّى رَأَيْت أَنّ الطّعَامَ قَدْ بَلَغَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ صَنَعْت لَك طَعَامًا فَأْتِ أَنْتَ وَمَنْ أَحْبَبْت مِنْ أَصْحَابِك. فَشَبّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ فِي أَصَابِعِي، ثُمّ قَالَ: أَجِيبُوا، جَابِرٌ يَدْعُوكُمْ! فَأَقْبَلُوا مَعَهُ فَقُلْت: وَاَللهِ، إنّهَا الْفَضِيحَةُ! فَأَتَيْت الْمَرْأَةَ فَأَخْبَرْتهَا فَقَالَتْ: أَنْتَ دَعَوْتهمْ أَوْ هُوَ دَعَاهُمْ؟ فَقُلْت: بَلْ هُوَ دَعَاهُمْ! قَالَتْ: دَعْهُمْ، هُوَ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَكَانُوا فِرَقًا، عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، ثُمّ قَالَ لَنَا: اغْرِفُوا وَغَطّوا الْبُرْمَةَ، وَأَخْرِجُوا مِنْ التّنّورِ الْخُبْزَ ثُمّ غَطّوهُ. فَفَعَلْنَا فَجَعَلْنَا نَغْرِفُ وَنُغَطّي الْبُرْمَةَ ثُمّ نَفْتَحُهَا، فَمَا نَرَاهَا نَقَصَتْ شَيْئًا، وَنُخْرِجُ الْخُبْزَ مِنْ التّنّورِ ثُمّ نُغَطّيهِ، فَمَا نَرَاهُ يَنْقُصُ شَيْئًا. فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، وَأَكَلْنَا وَأَهْدَيْنَا، فَعَمِلَ النّاسُ يَوْمَئِذٍ كُلّهُمْ وَالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَعَلَتْ الْأَنْصَارُ تَرْتَجِزُ وَتَقُولُ:(2/452)
نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللهُمّ لَا خَيْرَ إلّا خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَائِدَةَ، عَنْ أبى سلمة ابن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ، قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يعرض الغلمان وَهُوَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، فَأَجَازَ مَنْ أَجَازَ وَرَدّ مَنْ رَدّ، وَكَانَ الْغِلْمَانُ يَعْمَلُونَ مَعَهُ، الّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا وَلَمْ يُجِزْهُمْ، وَلَكِنّهُ لَمّا لُحِمَ الْأَمْرُ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ إلَى الْآطَامِ مَعَ الذّرَارِيّ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَلَقَدْ كُنْت أَرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لَيَضْرِبُ مَرّةً بِالْمَعُولِ، وَمَرّةً يَغْرِفُ بِالْمِسْحَاةِ التّرَابَ، وَمَرّةً يَحْمِلُ التّرَابَ فِي الْمِكْتَلِ. وَلَقَدْ رَأَيْته يَوْمًا بَلَغَ مِنْهُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ اتّكَأَ عَلَى حَجَرٍ عَلَى شِقّهِ الْأَيْسَرِ، فَذَهَبَ بِهِ النّوُمُ.
فَرَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاقِفَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ يُنَحّيَانِ النّاسَ أَنْ يَمُرّوا بِهِ فَيُنَبّهُوهُ، وَأَنَا قَرّبْت مِنْهُ، فَفَزِعَ وَوَثَبَ، فَقَالَ: أَلَا أَفْزَعْتُمُونِي! فَأَخَذَ الْكَرْزَنَ يَضْرِبُ بِهِ، وَإِنّهُ لَيَقُولُ:
اللهُمّ إنّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
اللهُمّ الْعَنْ عَضْلًا وَالْقَارَهْ ... فَهُمْ كَلّفُونِي أَنْقُلُ الْحِجَارَهْ
فَكَانَ مِمّنْ أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَهُوَ ابْنُ خمس عشرة.(2/453)
حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ حَفَرَهُ سِتّةَ أَيّامٍ وَحَصّنَهُ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُبُرَ سَلْعٍ، فَجَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَالْخَنْدَقَ أَمَامَهُ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ هُنَالِكَ. وَضَرَبَ قُبّةً مِنْ أَدَمٍ، وَكَانَتْ الْقُبّةُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْأَعْلَى الّذِي بِأَصْلِ الْجَبَلِ- جَبَلُ الْأَحْزَابِ- وَكَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْقِبُ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَتَكُونُ عَائِشَةُ أَيّامًا، ثُمّ تَكُونُ أُمّ سَلَمَةَ، ثُمّ تَكُونُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثُ اللّاتِي يُعْقِبُ بَيْنَهُنّ فِي الْخَنْدَقِ، وَسَائِرُ نِسَائِهِ فِي أُطُمِ بَنِي حَارِثَةَ. وَيُقَالُ: كُنّ فِي الْمَسِيرِ [ (1) ] ، أُطُمٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ حَصِينًا. وَيُقَالُ: كَانَ بَعْضُهُنّ فِي فَارِعٍ [ (2) ]- وَكُلّ هَذَا قَدْ سَمِعْنَاهُ.
فَحَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَلِقُرَيْشٍ فِي مَسِيرِهِ مَعَهُمْ: إنّ قَوْمِي قُرَيْظَةَ مَعَكُمْ، وَهُمْ أَهْلُ حَلْقَةٍ وَافِرَةٍ، هُمْ سَبْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا. فَلَمّا دَنَوْا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ: ائْتِ قَوْمَك، حَتّى يَنْقُضُوا الْعَهْدَ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. فَذَهَبَ حُيَيّ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ صَالَحَ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرَ وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْيَهُودِ أَلّا يَكُونُوا مَعَهُ وَلَا عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْصُرُوهُ مِمّنْ دَهَمَهُ مِنْهُمْ، وَيُقِيمُوا عَلَى مَعَاقِلِهِمْ [ (3) ] الْأُولَى الّتِي بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَيُقَالُ إنّ حيىّ
__________
[ (1) ] قال السمهودي: إنه أطم بنى عبد الأشهل، كان لبنى حارثة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 373) .
[ (2) ] فارع: أطم كان فى دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة. (وفاء الوفا، ج 2، ص 354) .
[ (3) ] أى يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها. (النهاية، ج 3، ص 117) .(2/454)
عَدَلَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَسَلَكَ عَلَى الْعَصَبَةِ حَتّى طَرَقَ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ، وَكَانَ كَعْبٌ صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهَا.
فَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ يُحَدّثُ يَقُولُ: كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ رَجُلًا مَشْئُومًا، هُوَ شَأْمُ بَنِي النّضِيرِ قَوْمُهُ، وَشَأْمُ قُرَيْظَةَ حَتّى قُتِلُوا، وَكَانَ يُحِبّ الرّئَاسَةَ وَالشّرَفَ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ فِي قُرَيْشٍ شَبَهٌ- أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ.
فَلَمّا أَتَى حُيَيّ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ كَرِهَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ دُخُولَهُ دَارَهُمْ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ، فَقَالَ لَهُ حُيَيّ: قَدْ جِئْتُك بِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ مُحَمّدٍ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ حَلّتْ وَادِي الْعَقِيقِ، وَغَطَفَانَ بِالزّغَابَةِ. قَالَ غَزَالٌ: جِئْتنَا وَاَللهِ بِذُلّ الدّهْرِ! قَالَ حُيَيّ: لَا تَقُلْ هَذَا! ثُمّ وُجّهَ إلَى بَابِ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ فَدَقّ عَلَيْهِ، فَعَرَفَهُ كَعْبٌ وَقَالَ:
مَا أَصْنَعُ بِدُخُولِ حُيَيّ عَلَيّ، رَجُلٌ مَشْئُومٌ قَدْ شَأَمَ قَوْمَهُ، وَهُوَ الْآنَ يَدْعُونِي إلَى نَقْضِ الْعَهْدِ! قَالَ: فَدَقّ عَلَيْهِ، فَقَالَ كَعْبٌ: إنّك امْرُؤٌ مَشْئُومٍ قَدْ شَأَمْت قَوْمَك حَتّى أَهْلَكْتهمْ، فَارْجِعْ عَنّا فَإِنّك إنّمَا تُرِيدُ هَلَاكِي وَهَلَاكَ قَوْمِي! فَأَبَى حُيَيّ أَنْ يَرْجِعَ، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا حُيَيّ، إنّي عَاقَدْتُ مُحَمّدًا وَعَاهَدْته، فَلَمْ نَرَ مِنْهُ إلّا صِدْقًا، وَاَللهِ، مَا أَخْفَرَ [ (1) ] لَنَا ذِمّةً وَلَا هَتَكَ لَنَا سِتْرًا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ جِوَارَنَا. فَقَالَ حُيَيّ: وَيْحَك! إنّي قَدْ جِئْتُك بِبَحْرِ طَامٍ وَبِعَزّ الدّهْرِ، جِئْتُك بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَجِئْتُك بِكِنَانَةَ حَتّى أَنْزَلْتهمْ بِرُومَةَ، وَجِئْتُك بِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتّى أَنْزَلْتهمْ بِالزّغَابَةِ إلَى نَقْمَى [ (2) ] ، قَدْ قَادُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، وَالْعَدَدُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَالْخَيْلُ أَلْفُ فَرَسٍ، وَسِلَاحٌ كَثِيرٌ، وَمُحَمّدٌ لَا يفلت فى فورنا هذا، وقد تعاقدوا
__________
[ (1) ] أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. (النهاية، ج 1، ص 306) .
[ (2) ] نقمى: موضع بقرب أحد كان لأبى طالب. (وفاء الوفا، ج 2، ص 384) .(2/455)
وَتَعَاهَدُوا أَلّا يَرْجِعُوا حَتّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمّدًا وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ كَعْبٌ: وَيْحَك! جِئْتنِي وَاَللهِ بِذُلّ الدّهْرِ وَبِسَحَابٍ يَبْرُقُ وَيَرْعُدُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. وَأَنَا فِي بَحْرٍ لُجّيّ، لَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَرِيمَ دَارِي، وَمَالِي مَعِي وَالصّبْيَانُ وَالنّسَاءُ، فَارْجِعْ عَنّي، فَإِنّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا جِئْتنِي بِهِ. قَالَ حُيَيّ: وَيْحَك! أُكَلّمُك.
قَالَ كَعْبٌ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ: وَاَللهِ، مَا أَغْلَقْت دُونِي إلّا لِجَشِيشَتِك أَنْ آكُلَ مَعَك مِنْهَا، فَلَك أَلّا أُدْخِلَ يَدِي فِيهَا. قَالَ: فَأَحْفَظُهُ [ (1) ] ، فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُهُ فِي الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ [ (2) ] حَتّى لَانَ لَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ عَنّي يَوْمَك هَذَا حَتّى أُشَاوِرَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ. فَقَالَ: قَدْ جَعَلُوا الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ إلَيْك فَأَنْتَ تَرَى لَهُمْ. وَجَعَلَ يُلِحّ عَلَيْهِ حَتّى فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: يَا حُيَيّ، قَدْ دَخَلْت فِيمَا تَرَى كَارِهًا لَهُ، وَأَنَا أَخْشَى أَلّا يُقْتَلَ مُحَمّدٌ، وَتَنْصَرِفُ قُرَيْشٌ إلَى بِلَادِهَا، وَتَرْجِعُ أَنْتَ إلَى أَهْلِك، وَأَبْقَى فِي عُقْرِ الدّارِ وَأُقْتَلُ وَمَنْ مَعِي. فَقَالَ حُيَيّ: لَك مَا فِي التّوْرَاةِ الّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، لَئِنْ لَمْ يُقْتَلْ مُحَمّدٌ فِي هَذِهِ الْفَوْرَةِ وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا مُحَمّدًا، لَأَدْخُلَن مَعَك حِصْنَك حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَك. فَنَقَضَ كَعْبٌ الْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا حُيَيّ بِالْكِتَابِ الّذِي كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَشَقّهُ حُيَيّ، فَلَمّا شَقّهُ حُيَيّ عَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ قَدْ لَحَمَ وَفَسَدَ، فَخَرَجَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَهُمْ حِلَقٌ حَوْلَ مَنْزِلِ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَخَبّرَهُمْ الْخَبَرَ. يقول الزّبير بن باطا: وإهلاك اليهود! تولّى قريش وغطفان
__________
[ (1) ] أحفظ: أى أغضب، والحفيظة: الغضب. (شرح أبى ذر، ص 301) .
[ (2) ] فى الذروة والغارب: هذا مثل، وأصله فى البعير يستصعب عليك فتأخذ القراد من ذروته وغارب سنامه وتفتل هناك، فيجد البعير لذة فيأنس عند ذلك، فضرب هذا الكلام مثلا فى المراوضة والمخاتلة. (الروض الأنف، ج 2، ص 189) .(2/456)
وَيَتْرُكُونَنَا فِي عُقْرِ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَذَرَارِيّنَا، وَلَا قُوّةَ لَنَا بِمُحَمّدٍ! مَا بَاتَ يَهُودِيّ عَلَى حُزَمٍ قَطّ، وَلَا قَامَتْ يَهُودِيّةٌ بِيَثْرِبَ أَبَدًا. ثُمّ أَرْسَلَ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ إلَى نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ خَمْسَةً- الزّبَيْرَ بْنَ بَاطَا، ونبّاش بن قيس، وغزّال ابن سَمَوْأَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَكَعْبَ بْنَ زَيْدٍ، فَخَبّرَهُمْ خَبَرَ حُيَيّ، وَمَا أَعْطَاهُ حُيَيّ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فَيَدْخُلَ مَعَهُ فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ. يقول الزّبير ابن بَاطَا: وَمَا حَاجَتُك إلَى أَنْ تُقْتَلَ وَيُقْتَلَ مَعَك حُيَيّ! قَالَ: فَأُسْكِتَ كَعْبٌ وَقَالَ الْقَوْمُ: نَحْنُ نَكْرَهُ نُزْرِي بِرَأْيِك أَوْ نُخَالِفُك، وَحُيَيّ مَنْ قَدْ عَرَفْت شُومَهُ. وَنَدِمَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَمّا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَرْبِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْخَنْدَقِ أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُبّتِهِ- وَقُبّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْرُوبَةٌ مِنْ أَدَمٍ فِي أَصْلِ الْجَبَلِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الّذِي فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ- مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى خَنْدَقِهِمْ يَتَنَاوَبُونَ، مَعَهُمْ بِضْعَةً وَثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَالْفُرْسَانُ يَطُوفُونَ عَلَى الْخَنْدَقِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، يَتَعَاهَدُونَ رِجَالًا وَضَعُوهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ، إلَى أَنْ جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي أَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضَتْ الْعَهْدَ وَحَارَبَتْ.
فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ نَبْعَثُ يَعْلَمُ لَنَا عِلْمَهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ. فَكَانَ أَوّلَ النّاسِ بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن الْعَوّامِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَذَهَبَ الزّبَيْرُ فَنَظَرَ، ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتهمْ يُصْلِحُونَ حُصُونَهُمْ وَيُدْرِبُونَ طُرُقَهُمْ، وَقَدْ جَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ. فَذَلِكَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّا، وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ وَابْنُ عَمّتِي.(2/457)
ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَأُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، فَقَالَ: إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَحَارَبُوا، فَاذْهَبُوا فَانْظُرُوا إنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي حَقّا، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَأَظْهِرُوا الْقَوْلَ، وَإِنْ كَانَ حَقّا فَتَكَلّمُوا بِكَلَامٍ تَلْحَنُونَ لِي بِهِ أَعْرِفُهُ، لَا تَفُتّوا أَعْضَادَ الْمُسْلِمِينَ.
فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَجَدُوا الْقَوْمَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَنَاشَدُوهُمْ اللهَ وَالْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ، أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِمَ الْأَمْرُ، وَأَلّا يُطِيعُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ. فَقَالَ كَعْبٌ: لَا نَرُدّهُ أَبَدًا، قَدْ قَطَعْته كَمَا قَطَعْت هَذَا الْقِبَالَ [ (1) ] لِقِبَالِ نَعْلِهِ. وَوَقَعَ كَعْبٌ بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَسُبّهُ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: تَسُبّ سَيّدَك يَا عَدُوّ اللهِ؟ مَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءٍ! أَمَا وَاَللهِ يَا ابْنَ الْيَهُودِ [ (2) ] ، لَتُوَلّيَن قُرَيْشٌ إنْ شَاءَ اللهُ مُنْهَزِمَةً وَتَتْرُكُك فِي عُقْرِ دَارِك، فَنَسِيرُ إلَيْك فَتَنْزِلُ مِنْ جُحْرِك هَذَا عَلَى حُكْمِنَا. وَإِنّك لَتَعْلَمُ النّضِيرَ، كَانُوا أَعَزّ مِنْك وَأَعْظَمَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ، دِيَتُك نِصْفُ دِيَتِهِمْ، وَقَدْ رَأَيْت مَا صَنَعَ اللهُ بِهِمْ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ بَنُو قَيْنُقَاعَ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا. قَالَ كَعْبٌ: يَا ابْنَ الْحُضَيْرِ، تخوّفوننى بالمسير إلىّ؟ أما والتوراة، لَقَدْ رَآنِي أَبُوك يَوْمَ بُعَاثَ- لَوْلَا نَحْنُ لَأَجْلَتْهُ الْخَزْرَجُ مِنْهَا. إنّكُمْ وَاَللهِ مَا لَقِيتُمْ أَحَدًا يُحْسِنُ الْقِتَالَ وَلَا يَعْرِفُهُ، نَحْنُ وَاَللهِ نُحْسِنُ قِتَالَكُمْ! وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَقْبَحَ الْكَلَامِ، وَشَتَمُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ شَتْمًا قَبِيحًا حَتّى أَغْضَبُوهُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: دَعْهُمْ فَإِنّا لَمْ نَأْتِ لِهَذَا، مَا بَيْنَنَا أَشَدّ مِنْ المشاتمة- السيف! وكان
__________
[ (1) ] قبال النعل: زمام ما بين الإصبع الوسطى والتي تليها. (القاموس المحيط، ج 3، ص 34) .
[ (2) ] فى ب: «يا ابن اليهودية» .(2/458)
الّذِي يَشْتُمُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: عَضِضْتَ بِبَظْرِ [ (1) ] أُمّك! فَانْتَفَضَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ غَضَبًا، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ بَنِي النّضِيرِ. قَالَ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ: أَكَلْت أَيْرَ أَبِيك! قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنْهُ. قَالَ: ثُمّ رَجَعُوا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: عَضَلُ وَالْقَارَةُ. وَسَكَتَ الرّجُلَانِ- يُرِيدُ بِعَضَلَ وَالْقَارَةَ غَدْرَهُمْ بِخُبَيْبٍ وَأَصْحَابِ الرّجِيعِ- ثُمّ جَلَسُوا.
فَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ اللهِ وَعَوْنِهِ.
وَانْتَهَى الْخَبَرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِنَقْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ، فَاشْتَدّ الْخَوْفُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ.
قُرِئَ عَلَى ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الثّلْجِيّ قَالَ: حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ، قَالَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بن أبي بكر، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَخَوّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ: وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا.
قَالُوا: وَنَجَمَ النّفَاقُ، وَفَشِلَ النّاسُ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدّ الْخَوْفُ، وَخِيفَ عَلَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ، وَكَانُوا كَمَا قال الله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [ (2) ] وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وِجَاهَ الْعَدُوّ، لَا يَسْتَطِيعُونَ الزّوَالَ عَنْ مَكَانِهِمْ، يَعْتَقِبُونَ خَنْدَقَهُمْ وَيَحْرُسُونَهُ. وَتَكَلّمَ قَوْمٌ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ، فَقَالَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: يَعِدُنَا مُحَمّدٌ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لا
__________
[ (1) ] فى الأصل: «ببطن أمك» ، وما أثبتناه من نسخة ب.
[ (2) ] سورة 23 الأحزاب 10.(2/459)
يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَاجَتِهِ، وَمَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا!
فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَأَرْجُو أن أطوف بالبيت العتيق وَآخُذَ الْمِفْتَاحَ، وَلَيُهْلِكَن اللهُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَلَتُنْفَقَن أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ-
يَقُولُ ذَلِكَ حِينَ رَأَى مَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَرْبِ. فَسَمِعَهُ مُعَتّبٌ فَقَالَ مَا قَالَ.
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: هَمّتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَنْ يُغَيّرُوا عَلَى بَيْضَةِ الْمَدِينَةِ لَيْلًا، فَأَرْسَلُوا حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ إلَى قُرَيْشٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، وَمِنْ غَطَفَانَ أَلْفٌ، فَيُغِيرُوا بِهِمْ [ (1) ] .
فَجَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ فَعَظُمَ الْبَلَاءُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ سَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ الْأَشْهَلِيّ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ يَحْرَسُونَ الْمَدِينَةَ وَيُظْهِرُونَ التّكْبِيرَ، وَمَعَهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَصْبَحُوا أَمّنُوا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَقَدْ خِفْنَا عَلَى الذّرَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَشَدّ [مِنْ] خَوْفِنَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، وَلَقَدْ كُنْت أُوفِي عَلَى سَلْعٍ فَأَنْظُرُ إلَى بُيُوتِ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَيْتهمْ هَادِينَ [ (2) ] حَمِدْت اللهَ عَزّ وَجَلّ، فَكَانَ مِمّا رَدّ اللهُ بِهِ قُرَيْظَةَ عَمّا أَرَادُوا أَنّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ تُحْرَسُ.
حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ خَوّاتٍ، عَنْ ابْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو الْخَنْدَقِ، فَقَالَ:
انْطَلِقْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى لَهُمْ غُرّةً أَوْ خَلَلًا مِنْ مَوْضِعٍ فَتُخْبِرُنِي.
قَالَ: فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ عِنْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ، فَتَدَلّيْت من سلع وغربت
__________
[ (1) ] فى ث: «ليغيروا بهم على الذراري» .
[ (2) ] هكذا فى كل النسخ، ولعله من تسهيل أهل الحجاز للهمزة، فتكون الكلمة «هادئين» .(2/460)
لِي الشّمْسُ فَصَلّيْت الْمَغْرِبَ، ثُمّ خَرَجْت حَتّى أَخَذْت فِي رَاتِجٍ، ثُمّ عَلَى عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمّ فِي زُهْرَةَ، ثُمّ عَلَى بُعَاثَ. فَلَمّا دَنَوْت مِنْ الْقَوْمِ قُلْت:
أَكْمُنُ لَهُمْ. فَكَمَنْت وَرَمَقْت الْحُصُونَ سَاعَةً، ثُمّ ذَهَبَ بِي النّوْمُ فَلَمْ أَشْعُرْ إلّا بِرَجُلٍ قَدْ احْتَمَلَنِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَوَضَعَنِي عَلَى عُنُقِهِ ثُمّ انْطَلَقَ يَمْشِي.
قَالَ: فَفَزِعْت وَرَجُلٌ يَمْشِي بِي عَلَى عَاتِقِهِ، فَعَرَفْت أَنّهُ طَلِيعَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَاسْتَحْيَيْت تِلْكَ السّاعَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيَاءً شَدِيدًا، حَيْثُ ضَيّعْت ثَغْرًا أَمَرَنِي بِهِ، ثُمّ ذَكَرْت غَلَبَةَ النّوْمِ. قَالَ: وَالرّجُلُ يُرْقَلُ بِي إلَى حُصُونِهِمْ، فَتَكَلّمَ بِالْيَهُودِيّةِ فَعَرَفْته، قَالَ: أَبْشِرْ بِجَزْرَةٍ سَمِينَةٍ! قَالَ: وَذَكَرْت وَجَعَلْت أَضْرِبُ بِيَدِي- وَعَهْدِي بِهِمْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا إلّا بِمِعْوَلٍ فِي وَسَطِهِ. قَالَ: فَأَضَعُ يَدِي عَلَى الْمِعْوَلِ فَأَنْتَزِعُهُ، وَشُغِلَ بِكَلَامِ رَجُلٍ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ، فَانْتَزَعْته فَوَجَأْت بِهِ كَبِدَهُ فَاسْتَرْخَى وَصَاحَ:
السّبُعُ! فَأَوْقَدَتْ الْيَهُودُ النّارَ عَلَى آطَامِهَا بِشُعَلِ السّعَفِ. وَوَقَعَ مَيّتًا وَانْكَشَفَ، فَكُنْت لَا أُدْرَكُ، [ (1) ] وَأَقْبَلَ مِنْ طَرِيقِي الّتِي جِئْت مِنْهَا.
وَجَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظَفِرْت يَا خَوّاتُ! ثُمّ خَرَجَ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ خَوّاتٍ كَذَا وَكَذَا. وَآتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَحَدّثُونَ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: أَفْلَحَ وَجْهُك! قُلْت: وَوَجْهُك يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أَخْبِرْنِي خَبَرَك. فَأَخْبَرْته، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ.
وَقَالَ الْقَوْمُ: هَكَذَا حَدّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ خَوّاتٌ: فَكَانَ لَيْلُنَا بِالْخَنْدَقِ نَهَارًا. قال غير صالح: قال خوّات: رأيتنى
__________
[ (1) ] فى الأصل: «لا أدرى» ، وما أثبثناه من ب، ث.(2/461)
وَأَنَا أَتَذَكّرُ سُوءَ أَثَرِي عِنْدَهُمْ بَعْدَ مُمَالَحَةٍ وَخِلْصِيّةٍ مِنّي لَهُمْ، فَقُلْت:
هُمْ يُمَثّلُونَ بِي كُلّ الْمَثْلَ حَتّى ذَكَرْت الْمِعْوَلَ.
حَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ:
خَرَجَ نَبّاشُ بْنُ قَيْسٍ لَيْلَةً مِنْ حِصْنِهِمْ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ، وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ أَشِدّائِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: عَسَى أَنْ نُصِيبَ مِنْهُمْ غُرّةً. فَانْتَهَوْا إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَيَجِدُونَ نَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، فَنَاهَضُوهُمْ فَرَامُوهُمْ سَاعَةً بِالنّبْلِ، ثُمّ انْكَشَفَ الْقُرَيْظِيّونَ مُوَلّينَ.
وَبَلَغَ سَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ وَهُمْ بِنَاحِيَةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَقْبَلَ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى حُصُونِهِمْ، فَجَعَلُوا يُطِيفُونَ بِحُصُونِهِمْ حَتّى خَافَتْ الْيَهُودُ، وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ عَلَى آطَامِهِمْ وَقَالُوا: البيات! وهدموا قرني [ (1) ] بئر لهم وهوّ روها [ (2) ] عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا يَطْلُعُوا مِنْ حِصْنِهِمْ وَخَافُوا خوفا شديدا.
وحدّثنى شيخ من قريش، قَالَ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ وَابْنُ جَعْفَرٍ هَذَا أَثْبَتُ مِنْ الّذِي فِي أُحُدٍ، قَالَ: كَانَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَجُلًا جَبَانًا، فَكَانَ قَدْ رُفِعَ مَعَ النّسَاءِ فِي الْآطَامِ، فَكَانَتْ صَفِيّةُ فِي أُطُمِ فَارِعٍ، وَمَعَهَا جَمَاعَةٌ وَحَسّانُ مَعَهُمْ. فَأَقْبَلَ عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ وَرَأْسُهُمْ غَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ نَهَارًا، فَجَعَلُوا يَنْقَمِعُونَ [ (3) ] وَيَرْمُونَ الْحِصْنَ، فَقَالَتْ صَفِيّةُ لِحَسّانَ:
دُونَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ! قَالَ: لَا وَاَللهِ، لَا أُعَرّضُ نفسي لهولاء الْيَهُودِ. وَدَنَا أَحَدُهُمْ إلَى بَابِ الْحِصْنِ يُرِيدُ أن يدخل، فاحتجزت صفيّة بثوبها، ثم
__________
[ (1) ] القرنان: منارتان تبنيان على رأس البئر، ويوضع فوقهما خشبة فتعلق البكرة فيها. (الصحاح، ص 2180) .
[ (2) ] هوروها: أى هدموها. (القاموس المحيط، ج 2، ص 162) .
[ (3) ] انقمع: أى دخل. (لسان العرب، ج 10، ص 168) .(2/462)
أَخَذَتْ خَشَبَةً فَنَزَلَتْ إلَيْهِ فَضَرَبَتْهُ ضَرْبَةً شَدَخَتْ رَأْسَهُ فَقَتَلَتْهُ، فَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.
وَاجْتَمَعَتْ بنو حارثة فبعثوا أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ، وَلَيْسَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِثْلَ دَارِنَا، لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ غَطَفَانَ أَحَدٌ يَرُدّهُمْ عَنّا، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إلَى دُورِنَا فَنَمْنَعْ ذَرَارِيّنَا وَنِسَاءَنَا. فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعُوا بِذَلِكَ وَتَهَيّئُوا لِلِانْصِرَافِ. فَبَلَغَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَجَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَأْذَنْ لَهُمْ، إنّا وَاَللهِ مَا أَصَابَنَا وَإِيّاهُمْ شِدّةٌ قَطّ إلّا صَنَعُوا هَكَذَا. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِبَنِي حَارِثَةَ: هَذَا لَنَا مِنْكُمْ أَبَدًا، مَا أَصَابَنَا وَإِيّاكُمْ شِدّةٌ إلّا صَنَعْتُمْ هَكَذَا. فَرَدّهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول: لقد رأيت لسعد ابن أَبِي وَقّاصٍ لَيْلَةً وَنَحْنُ بِالْخَنْدَقِ لَا أَزَالُ أُحِبّهُ أَبَدًا. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَلِفُ إلَى ثُلْمَةٍ فِي الْخَنْدَقِ يَحْرُسُهَا، حَتّى إذَا آذَاهُ الْبَرْدُ جَاءَنِي فأدفأته فى حصني، فَإِذَا دَفِئَ خَرَجَ إلَى تِلْكَ الثّلْمَةِ يَحْرُسُهَا وَيَقُولُ: مَا أَخْشَى أَنْ يُؤْتَى النّاسُ إلّا مِنْهَا.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فى حصني قَدْ دَفِئَ وَهُوَ يَقُولُ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي [ (1) ] ! قَالَتْ:
إلَى أَنْ سَمِعْت صَوْتَ السّلَاحِ وَقَعْقَعَةَ الْحَدِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. قَالَ: عَلَيْك بِهَذِهِ الثّلْمَةِ، فَاحْرُسْهَا.
قَالَتْ: وَنَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عن عبد الله
__________
[ (1) ] فى ب: «يحرسى الليلة» .(2/463)
ابن أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: كُنْت مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ فَلَمْ أُفَارِقْهُ مَقَامَهُ كُلّهُ. وَكَانَ يَحْرُسُ بِنَفْسِهِ فِي الْخَنْدَقِ، وَكُنّا فِي قُرّ شَدِيدٍ، فَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَيْهِ قَامَ فَصَلّى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلّيَ فِي قُبّتِهِ، ثُمّ خَرَجَ فَنَظَرَ سَاعَةً فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: هَذِهِ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ، مَنْ لَهُمْ؟ ثُمّ نَادَى: يَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ. فَقَالَ عَبّادٌ: لَبّيْكَ! قَالَ: أَمَعَك أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي كُنّا حَوْلَ قُبّتِك.
قَالَ: فَانْطَلِقْ فِي أَصْحَابِك فَأَطِفْ بِالْخَنْدَقِ، فَهَذِهِ خَيْلٌ مِنْ خَيْلِهِمْ تُطِيفُ بِكُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْكُمْ غُرّةً. اللهُمّ ادْفَعْ عَنّا شَرّهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَاغْلِبْهُمْ، لَا يَغْلِبُهُمْ غَيْرُك!
فَخَرَجَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي أَصْحَابِهِ، فَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُطِيفُونَ بِمَضِيقِ الْخَنْدَقِ. وَقَدْ نَذَرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَوَقَفْنَا مَعَهُمْ فَرَمَيْنَاهُمْ حَتّى أَذْلَقْنَاهُمْ [ (1) ] بِالرّمْيِ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَنْزِلِهِمْ. وَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجِدُهُ يُصَلّي فَأَخْبَرْته. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَنَامَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ فَمَا تَحَرّكَ حَتّى سَمِعْت بِلَالًا يُؤَذّنُ بِالصّبْحِ وَبَيَاضِ الْفَجْرِ، فَخَرَجَ فَصَلّى بِالْمُسْلِمِينَ. فَكَانَتْ تَقُولُ: يَرْحَمُ اللهُ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَإِنّهُ كَانَ أَلْزَمَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُبّةِ رَسُولِ اللهِ يَحْرُسُهَا أَبَدًا.
فَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ النّعْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَحْرُسُ الْخَنْدَقَ فِي أَصْحَابِهِ، فَانْتَهَوْا إلَى مَكَانٍ مِنْ الْخَنْدَقِ تطفره [ (2) ] الخيل،
__________
[ (1) ] أذلقناهم: أى أضعفناهم. (القاموس المحيط، ج 3، ص 224) .
[ (2) ] طفر: وثب فى ارتفاع، وطفر الحائط: وثبه إلى ما ورائه. (لسان العرب، ج 6، ص 173) .(2/464)
فَإِذَا طَلِيعَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مِائَةُ فَارِسٍ أَوْ نَحْوُهَا، عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيّرُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ عَلَيْهَا بِأَصْحَابِهِ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ حَتّى أَجْهَضُوا عَنّا وَوَلّوْا. وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ اللّيْلَةَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ، فَقَالَ لِأُسَيْدٍ: إنّ هَذَا مَكَانٌ مِنْ الْخَنْدَقِ مُتَقَارِبٌ، وَنَحْنُ نَخَافُ تَطْفُرَهُ خَيْلُهُمْ- وَكَانَ النّاسُ عَجِلُوا فِي حَفْرِهِ. وَبَادَرُوا فَبَاتُوا يُوَسّعُونَهُ حَتّى صَارَ كَهَيْئَةِ الْخَنْدَقِ وَأَمّنُوا أَنْ تَطْفُرَهُ خَيْلُهُمْ. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَنَاوَبُونَ الْحِرَاسَةَ، وَكَانُوا فِي قُرّ شَدِيدٍ وَجُوعٍ.
فَحَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ السّلَمِيّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أَحْرُسُ الْخَنْدَقَ، وَخَيْلُ الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ وَتَطْلُبُ غُرّةً وَمُضِيقًا مِنْ الْخَنْدَقِ فَتَقْتَحِمُ فِيهِ، وَكَانَ عَمْرُو بن العاص وخالد ابن الْوَلِيدِ هُمَا اللّذَانِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، يَطْلُبَانِ الْغَفْلَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَلَقِينَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مِائَةِ فَارِسٍ، قَدْ جَالَ بِخَيْلِهِ يُرِيدُ مَضِيقًا مِنْ الْخَنْدَقِ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُرَ فُرْسَانُهُ، فَنَضَحْنَاهُمْ بِالنّبْلِ حَتّى انْصَرَفَ [ (1) ] .
فَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ:
أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي مِائَةِ فَارِسٍ. فَأَقْبَلُوا مِنْ الْعَقِيقِ حَتّى وَقَفُوا بِالْمُذَادِ وِجَاهَ [ (2) ] قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَنَذِرْت بِالْقَوْمِ فَقُلْت لِعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ، وَكَانَ عَلَى حَرَسِ قُبّةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَائِمًا يُصَلّي، فَقُلْت: أَتَيْت! فَرَكَعَ ثُمّ سَجَدَ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ هُوَ رَابِعُهُمْ، فَأَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: هَذِهِ قُبّةُ مُحَمّدٍ، ارْمُوا! فَرَمَوْا، فَنَاهَضْنَاهُمْ حَتّى وَقَفْنَا عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ بِشَفِيرِ [ (3) ] الْخَنْدَقِ مِنْ الْجَانِبِ الآخر،
__________
[ (1) ] هكذا فى الأصل. وفى ب: «أصبحوا» .
[ (2) ] فى الأصل: «وجاء» . وما أثبتناه من نسخة ب.
[ (3) ] فى ب: «بشفيرة» .(2/465)