فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ [1] ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلا رَجُلانِ يَامِينُ بن عمرو بن كعب ابن عم عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ [2] ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ وَهْبٍ [3] ، أسلما فأحرزا أموالهما بِذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِيَامِينَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا لَقِيتُ مِنَ ابْنِ عَمِّكَ، وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ شَأْنِي، فَجَعَلَ يَامِينُ جَعْلا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَقُتِلَ، وَنَزَلَ فِي أَمْرِ بَنِي النَّضِيرِ سورة الحشر.
قَالَ ابْنُ عُقْبَةَ: وَلَحِقَ بَنُو أَبِي الْحُقَيْقِ بِخَيْبَرَ، وَمَعَهُمْ آنِيَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، قَدْ رَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ خَرَجُوا بِهَا، وَعَمَدَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَاسْتَغْوَاهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَنْصَرَهُمْ، وَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ.
وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ بَنِي النَّضِيرِ: أَنَّهُمْ حِينَ هَمُّوا بِغَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَنَهَضَ سَرِيعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنِ اخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي، فَلا تُسَاكِنُونِي بِهَا وَقَدْ هَمَمْتُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنَ الْغَدْرِ، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْرًا فَمَنْ رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى ظَهْرٍ [4] لَهُمْ بِذِي الْجَدْرِ، وَتَكَارُوا [5] مِنْ ناس من أشجع إِبِلا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ أُبَيٍّ: لا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ، فَإِنَّ مَعِيَ أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَمِنَ الْعَرَبِ يَدْخُلُونَ حِصْنَكُمْ [6] فيموتون عمن آخرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من
__________
[ () ] الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير، والقيان يعز فن خلفهم، وأن فيهم لأم عمرو صاحبه عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه، وكانت إحدى نساء بني غفار، بزهاء وفخر ما رثى مثله من حي من الناس في زمانهم....
[ (1) ] وعند ابن هشام: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأوليين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا، فأعطاهما رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
[ (2) ] وَعِنْدَ ابن هشام: يامين بن عمير أبو كعب بن عمرو بن جحاش.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وأبو سعد بن وهب.
[ (4) ] أي إبلهم.
[ (5) ] أي استأجروا.
[ (6) ] وعند ابن سعد: وأقيموا في حصنكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب، يدخلون معكم حصنكم.(2/72)
غَطَفَانَ،
فَطَمِعَ حُيَيٌّ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّا لا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم التكبير، وكبير الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ وَقَالَ:
«حَارَبْتُ يَهُودَ»
فَسَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ بِفِنَاءِ [1] بَنِي النَّضِيرِ، وَعَلِيٌّ يَحْمِلُ رَايَتَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ مَعَهُمُ النَّبْلُ وَالْحِجَارَةُ، وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ فَلَمْ تُعِنْهُمْ، وَخَذَلَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ غَطَفَانَ فَيَئِسُوا [2] مِنْ نَصْرِهِمْ،
فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَطَّعَ نَخْلَهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَخْرُجُ عَنْ بِلادِكَ، فَقَالَ: «لا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ، وَلَكِنِ اخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ دِمَاؤُكُمْ وَمَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إِلا الْحَلْقَةَ» ، فَنَزَلَتْ يَهُودُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ حَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانُوا يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ أَجْلاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَلِيَ إِخْرَاجَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بَعِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَؤُلاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ» ، فَلَحِقُوا بِخَيْبَرَ،
وَحَزِنَ الْمُنَافِقُونَ عَلَيْهِمْ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَمْوَالَ وَالْحَلْقَةَ، فَوَجَدَ مِنَ الْحَلْقَةِ خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا، وَكَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ صَفْيًا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم [خالصة له] [3] حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَلَمْ يَخْمِسُهَا، وَلَمْ يُسْهِمْ مِنْهَا لأَحَدٍ، وَقَدْ أَعْطَى نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَسَّعَ فِي النَّاسِ مِنْهَا.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ (الإِكْلِيلِ) لَهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْوَاقِدِيِّ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمِّ الْعَلاءِ قَالَتْ: طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ، فَكَانَ فِي مَنْزِلِي حَتَّى تُوُفِّيَ، قَالَتْ: فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ، دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَقَالَ: «ادْعُ لِي قَوْمَكَ» فَقَالَ ثَابِتٌ: الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَنْصَارَ كُلَّهَا» فَدَعَا لَهُ الأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْزَالَهُمْ إِيَّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «إِنْ أَحْبَبْتُمْ قسمت بينكم وبني الْمُهَاجِرِينَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ من
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: بفضاء.
[ (2) ] وعند ابن سعد: فأيسوا.
[ (3) ] زيدت على الأصل من الطبقات.(2/73)
السُّكْنَى فِي مَنَازِلِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتُهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ» ؟ فَتَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بل تقسم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا، وَنَادَتِ الأَنْصَارُ: رَضِينَا وَسَلَّمْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الأَنْصَارِ شَيْئًا،
إِلا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ:
سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ، وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الْبَلاذُرِيُّ فِي كِتَابِ (فُتُوحِ الْبُلْدَانِ) لَهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال الأنصار لَيْسَتْ لإِخْوَانِكُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ، فَإِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُ هَذِهِ وَأَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَقَسَمْتُ هَذِهِ فِيهِمْ خَاصَّةً، فقالوا: بل أقسم هَذِهِ فِيهِمْ، وَأَقْسِمْ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَتْ:
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [1]
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
جَزَاكُمُ اللَّهُ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُكُمْ إِلا كَمَا قَالَ الْغَنَوِيُّ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِينَ أَزْلَفَتْ ... بِنَا نَعْلُنَا فِي الْوَاطِئِينَ فَزَلَّتِ
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا ... تُلاقِي الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَّا لَمَلَّتِ
قَالَ: وَكَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النَّخْلِ فِي أَرْضِهِمْ، فَيَدَّخِرُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَ أَهْلِهِ وَأَزْوَاجِهِ سَنَةً، وَمَا فَضُلَ جَعَلَه فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاحِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قال: حدثني إسحق قال: أنا حبان، فثنا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَ: وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بن الحرث:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي نواحيها السّعير
__________
[ (1) ] سورة الحشر: الآية 9.(2/74)
ستعلم ابنا منها بنزة ... وتعلم أَيَّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ [1]
هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ أبو عمر والشيباني وَغَيْرُهُ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ:
لَعَزَّ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مستطير
ويروى بالبويلة.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا سَلَمَةَ الْبُوَيْلَةَ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَأَجَابَهُ حَسَّانٌ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكُمْ حَرِيقًا ... وَضَرَّمَ فِي طَوَائِفِهَا السعير
هم أتوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... فَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ بُورُ
هذه أشبه بالصواب من الرواية الأولى.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب حديث بني النضير ... (5/ 23) .(2/75)
غزوة ذات الرقاع [1]
قال ابن إسحق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَ رَبِيعٍ [2] ، - وَقَالَ الْوَقَّشِيُّ الصَّوَابُ شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضِ جُمَادَى- ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةَ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ، وَيُقَالُ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، وَقَالَ: حَتَّى نَزَلَ نَخْلا، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهُمْ رَقَّعُوا فِيهَا رَايَاتِهِمْ [3] ، وَيُقَالُ: ذَاتُ الرِّقَاعِ، شَجَرَةٌ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ [4] وَقِيلَ:
لأَنَّ أَقْدَامَهُمْ نَقِبَتْ، فَكَانُوا يَلُفُّونَ عَلَيْهَا الْخِرَقَ، وَقِيلَ: بَلِ الْجَبَلُ الَّذِي نَزَلُوا عَلَيْهِ كَانَتْ أَرْضُهُ ذَاتَ أَلْوَانٍ تُشْبِهُ الرقاع.
قال ابن إسحق: فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ صَلاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِالنَّاسِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَكَانَ ذَلِكَ أول ما صلاها. وبين الرواة خلف فِي صَلاةِ الْخَوْفِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
رَجْعٌ إلى الأول:
قال ابن إسحق: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ: غورثُ قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطَفَانَ وَمُحَارِبٍ: أَلَا أَقْتُلُ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: بَلَى، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ، قال:
__________
[ (1) ] وكانت في السنة الرابعة للهجرة، وقيل في السنة الخامسة منها.
[ (2) ] وعند ابن هشام: شهر ربيع الآخر وبعض جمادى.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع ...
[ (4) ] وعند ابن هشام: يقال لها: ذات الرقاع.(2/76)
فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَيْفُهُ فِي حِجْرِهِ [1] فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: أَنْظُرُ إِلَى سَيْفِكَ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» [2] فَأَخَذَهُ، فَاسْتَلَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَهُزُّهُ وَيَهُمُّ فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ:
يَا مُحَمَّدُ أَمَا تَخَافُنِي؟ قَالَ: «لا، وَمَا أَخَافُ مِنْكَ» قَالَ: وَفِي يَدِي السَّيْفُ [3] قَالَ: لا، بَلْ يَمْنَعُنِي اللَّهُ مِنْكَ» قَالَ: ثُمَّ عَمِدَ إِلَى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآيَةَ [4] . وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا أَبُو عَوَانَةَ وَفِيهِ: فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ» ؟ قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: أُعَاهِدُكَ أَنِّي لا أُقَاتِلُكَ، وَلا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، قَالَ: فَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَهُ، فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ ذِي أمر خَبَرٌ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ:
دُعْثُورُ بْنُ الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ يُشْبِهُ هَذَا الْخَبَرَ، قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي الْيَوْمَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّه» وَدَفَعَ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك مني» ؟ قال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام ونزلت:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآيَةَ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَمْرِ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا سَبَقَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ،
وَفِي انْصِرَافِهِ عليه السلام من هذه الغزوة أبطأ حمل جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ، فَنَخَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ مُتَقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيِ الرِّكَابِ ثُمَّ قَالَ: «أَتَبِيعُنِيهِ» فَابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: لَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَوَهَبَ لَهُ الْجَمَلَ.
وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: قَالُوا: قَدِمَ قَادِمٌ الْمَدِينَةَ بِجلبٍ لَهُ، فَأَخْبَرَ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَنْمَارَ وَثَعْلَبَةَ قَدْ جَمَعُوا لَهُمُ الْجُمُوعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [5] ، فَخَرَجَ لَيْلَةَ السبت لعشر خلون من المحرم من أربعمائة من أصحابه، ويقال سبعمائة، فمضى
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره.
[ (2) ] قال ابن هشام: وكان محلى بفضة.
[ (3) ] وعند ابن هشام: قال: أما تخافني وفي يدي السيف.
[ (4) ] سورة المائدة: الآية 11.
[ (5) ] وعند ابن سعد: فاستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وخرج ليلة السبت ...(2/77)
حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ بِذَاتِ الرّقَاعِ [1] ، فَلَمْ يَجِدْ في محالهم [أحدا] [2] إِلَّا نِسْوَةً [3] .
وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِعَالَ بْنَ سُرَاقَةَ بَشِيرًا بِسَلامَتِهِ وسلامة الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَغَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَرُوِّينَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ نُقِّبَتْ أَقْدَامُهُمْ [4] ، فَلَفُّوا عَلَيْهَا الْخِرَقِ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ [5] ، وَجُعِلَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى هَذَا حُجَّة فِي أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُوسَى إِنَّمَا قَدِمَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَتَيْنِ بَعْد هَذَا بِثَلاثِ سِنِينَ، وَالْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَيْسَ فِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَغورثٌ: مُقَيَّدٌ بِالْغَيْنِ مُعْجَمَةٍ وَمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ عِنْدَ بعضهم مصغر بالعين المهملة.
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: وهو جبل فيه بقع حمزة وسواد وبياض، قريب من النخيل بين السعد والشقرة ...
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (3) ] إلى هنا انتهى كلام ابن سعد، وتتمة الكلام: فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رؤوس الجبال.
[ (4) ] أي رقت وتحرقت أقدامهم بسبب مشيهم حفاة، فلفوا عليها الرقاع.
[ (5) ] أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع (5/ 52) .(2/78)
غزوة بدر الأخيرة
قال ابن إسحق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الأُولَى إِلَى آخِرِ رَجَبٍ، ثُمَّ خَرَج فِي شَعْبَانَ إِلَى بَدْرٍ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى نَزَلَهُ.
قَالَ ابْن هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الله بن أبي سلول الأنصاري.
قال ابن إسحق: فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَمَانِ لَيَالٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفَيْانَ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ مَجَنَّةَ مِنْ نَاحِيَةِ الظّهْرَانِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَنَّهُ لا يُصْلِحُكُمْ إِلَّا عَامٌ خَصِيبٌ تَرْعُونَ فِيهِ الشَّجَرَ، وَتَشْرَبُونَ فِيهِ اللَّبَنَ، وَإِنَّ عَامَكُمْ هَذَا عَامٌ جَدْبٌ، وَإِنِّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا، فَرَجَعَ النَّاسُ، وَسَمَّاهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، جَيْشَ السَّوِيقِ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ تَشْرَبُونَ السَّوِيقَ [1] .
وَأَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ لِمِيعَادِهِ، فَأَتَاهُ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ، وهو الذي كان وادعه علي بن ضَمْرَةَ فِي غَزْوَةِ وَدَّانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أجبت [2] لِمِيعَادِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ رَدَدْنَا إِلَيْكَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، ثُمَّ جَالَدْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ» قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّد، مَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْكَ حَاجَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَرَوَى
__________
[ (1) ] السويق: طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، وسمي بذلك لانسياقه في الحلق، والجمع: أسوقة
[ (2) ] وعند ابن هشام: أجئت للقاء قريش ...(2/79)
الْحَاكِمُ فِي الإِكْلِيلِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَتِ الْخَيْلُ عَشَرَةَ أَفْرَاسٍ، فَرَسٌ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَسٌ لأَبِي بَكْرٍ وَفَرَسٌ لِعُمَرَ، وَفَرَسٌ لأَبِي قَتَادَةَ، وَفَرَسٌ لسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نفيل، وفرس للمقداد، وفرس للخباب، وَفَرَسٌ لسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، وَفَرَسٌ لِلْخبابِ، وَفَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ، وَفَرَسٌ لِعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْد اللَّهِ بْن رَوَاحَةَ.(2/80)
غَزْوَةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ
- وَدُومَةُ: بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا، سُمِّيَتْ بِدُومَةِ ابْنِ إِسْمَاعِيلَ لأَنَّهُ نَزَلَهَا- ثُمَّ غَزَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُومَةَ الْجَنْدَلِ، قَالَ ابْن هِشَامٍ: فِي شَهْرِ ربيع الأول [1] ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ سَنَتِهِ [2] وَقَالَ ابْنُ سعد: قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن بدومة الجندل جمعا كثير [وأنهم] [3] يظلمون من مر بهم [من الضامظة] [4] وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ طَرَفٌ مِنْ أَفْوَاهِ الشَّامِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ خَمْسُ لَيَالٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ [5] ، وَخَرَجَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فِي ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النَّهَارَ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ: مَذْكُورٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ إِذَا هُمْ مُغَرِّبُونَ، وَإِذَا آثَارُ النَّعَمِ وَالشَّاءِ، فَهَجَمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرُعَاتِهِمْ، فَأَصَابَ مَنْ أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دُومَةَ، فَتَفَرَّقُوا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ، فَلَمْ يَلْقَ بِهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَبَثَّ السَّرَايَا وَفَرَّقَهَا، فرجعت ولم تصب منهم أحدا،
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: سنة خمس.
[ (2) ] وهو كلام ابن إسحق.
[ (3) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (4) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (5) ] وعند ابن سعد في الطبقات: واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.(2/81)
وَأُخِذَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَقَالَ: هَرَبُوا حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّكَ أَخَذْتَ نَعَمَهُمْ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلامَ فَأَسْلَمَ، وَرَجَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إلى المدينة [ولم يلق كيتا] [1] لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَادَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَنْ يرعى بتغلمين وما والاها إلى المراض [وكان ما هناك قد أخصب] [2] وكانت بلاده قد أجدبت.
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات (2/ 63) .(2/82)
غزوة الخندق
وقال ابن إسحق: ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ [1] .
فَحَدَّثَنِي [2] يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ [3] وَمَنْ لا أَتَّهِمُ، عن عبد الله بن كعب بن مالك، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَاصِمِ بْنِ عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْخَنْدَقِ، وَبَعْضُهُمْ يُحَدِّثُ مَا لا يُحَدِّثُ بَعْضٌ قَالُوا:
إِنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ يَهُودَ، مِنْهُمْ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ [4] ، وَابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيُّونَ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ [5] ، وَأَبُو عَمَّارٍ الْوَائِلِيُّ، فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَمِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَهُمُ الَّذِينَ حَزَّبُوا الأَحْزَابَ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةَ، يَدْعُونَهُمْ إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالُوا: إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ [6] ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟ قَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بالحق منه،
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: سنة خمس من مهاجره.
[ (2) ] أي ابن إسحاق.
[ (3) ] وعند ابن هشام: مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير.
[ (4) ] وعند ابن هشام: سلام بن أبي الحقيق النضري.
[ (5) ] وعند ابن هشام: الوائلي.
[ (6) ] وعند ابن هشام: نختلف فيه نحن ومحمد.(2/83)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الآية إلى قوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً [1] فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ سَرَّهُمْ وَنَشَطُوا لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا لَهُ، ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ يَهُودَ حَتَّى جَاءُوا غَطَفَانَ مِنْ قَيْسِ عَيْلانَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَابَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُمْ فِيهِ.
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ غَطَفَان وَقَائِدُهَا عُيَيْنَة بْن حِصْنٍ [2] فِي بني فزارة، والحرث بْنُ عَوْفٍ الْمُرِّيُّ [3] فِي بَنِي مُرَّةَ، وَمَسْعُودُ بْنُ رخيلَةَ [4] فِيمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَشْجَعَ [5] فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الأَمْرِ، ضَرَبَ على المدينة الخندق، فَعَمِلَ [فِيهِ] [6] رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الأَجْرِ، وَعَمِلَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَدَأَبَ وَدَأَبُوا، وَأَبْطَأَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُورُونَ بِالضَّعْفِ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَتَسَلَّلُونَ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا إِذْنٍ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَابَتْهُ النَّائِبَةُ مِنَ الْحَاجَةِ الَّتِي لا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللُّحُوقِ بِهَا، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ، رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ، وَاحْتِسَابًا بِهِ [7] .
قَرَأْتُ عَلَى السَّيِّدَةِ الأَصِيلَةِ، مُؤْنِسَةِ خَاتُونَ، ابْنةِ الْمَوْلَى السُّلْطَانِ الْمَلَكِ الْعَادِلِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ رَحِمَ اللَّهُ سَلَفَهَا، أَخْبَرَتْك الشَّيْخَةُ الأَصِيلَةُ أُمُّ هَانِئٍ عَفِيفَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارْقَانِيَّةُ إِجَازَةً قَالَتْ: أَنَا أَبُو طَاهِرٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاغِ قَالَ: أَنَا أبو نعيم قال: أنا أبو علي
__________
[ (1) ] سورة آل عمران: الآية 23.
[ (2) ] وعند ابن هشام: عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر.
[ (3) ] وعند ابن هشام: والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري.
[ (4) ] وعند ابن هشام: ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ربث بن غطفان.
[ (5) ] وعند ابن هشام: من قومه من أشجع.
[ (6) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (7) ] وعند ابن هشام: ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فيه من عمله، رغبة في الخير واحتسابا له.(2/84)
محمد بن أحمد بن الحسن، فثنا أبو جعفر محمد بن نصر الصائغ، فثنا إبراهيم بن حمزة، فثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بن عمر، عن نافع عن ابن عمر قَالَ: بَعَثَنِي خَالِي عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ لآتِيَهُ بِلِحَافٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ وَهُوَ بِالْخَنْدَقِ فَأَذِنَ لِي وَقَالَ لِي: «مَنْ لَقِيتَ مِنْهُمْ فَقُلْ لَهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا»
قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، فَلَقِيتُ النَّاسَ فَقُلْتُ لَهْمُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَطَفَ عَلَيَّ مِنْهُمُ اثْنَانِ أَوْ وَاحِدٌ. كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْخَبَرِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذَا، وَأُخْوَةُ عُثْمَانَ قُدَامَةُ وَالسَّائِبُ وَعَبْد اللَّهِ تَأَخَّرُوا. وَقُدَامَةُ مَذْكُورٌ فِيمَنْ شَهِدَ الْخَنْدَقَ، وَهُمْ أَخْوَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ الله عنهم.
قال ابن إسحق: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [1] ثم قال: (يعني للمنافقين الذين كانوا يستللون مِنَ الْعَمَلِ وَيَذْهَبُونَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ صِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ إِلَى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [2] .
وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: وَتَجَهَّزَتْ قُرَيْشٌ، وَجَمَعُوا أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَعَقَدُوا اللِّوَاءَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَحَمَلَهُ عُثْمَانُ بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بَعِيرٍ، وَخَرَجُوا يَقُودُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ [بن أمية ووافتهم] [3] بنو سليم بمر الظهران، وكانوا سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شَمْسٍ، حَلِيفُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَبُو أَبِي الأَعْوَرِ السُّلَمِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمْ بَنُو أَسَدٍ، يَقُودُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الأَسَدِيُّ، وَخَرَجَتْ فَزَارَةُ فَأَوْعَبَتْ، وَهُمْ أَلْفٌ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَة بْن حِصْنٍ، وَخَرَجَتْ أَشْجَعُ وهم أربعمائة، يَقُودُهُمْ مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ، وَخَرَجَتْ بَنُو مُرَّةَ وهم أربعمائة، يقودهم الحرث بن عوف، وخرج معهم غيرهم.
__________
[ (1) ] سورة النور: الآية 62.
[ (2) ] سورة النور: الآية 63.
[ (3) ] وردت في الأصل: سفيان بن حرب ورأتهم ... وما أثبتناه من الطبقات.(2/85)
وقد روى الزهري أن الحرث بن عوف رجع ببني مُرَّةَ فَلَمْ يَشْهَدِ الْخَنْدَقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكَذَلِكَ روت بنو مرة، والأول أثبت أنهم قد شهدوا الخندق مع الحرث بْنِ عَوْفٍ، فَكَانَ جَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَافُوا الْخَنْدَقَ مِمَّنْ ذُكِرَ مِنَ الْقَبِيلَةِ عَشَرَةَ آلافٍ وَهُمُ الأَحْزَابُ وَكَانُوا ثَلاثَةَ عَسَاكِرَ وَعِنَاجُ الأَمْرِ [1] إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوِّهِمْ، وَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ بِالْخَنْدَقِ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَسْكَرَ بِهِمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع [وجعل سلعا خلف ظهره] [2] وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ ثَلاثَةَ آلافٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المدينة عبد الله ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ خَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ لِيُنَشِّطَ النَّاسَ [3] وَكَمُلَ فِي سِتَّةِ أيام. انتهى ما نقله ابن سعد، وَغَيْرُهُ يَقُولُ: حَفَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْخَنْدَقِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ، وَكَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ آيَاتٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.
مِنْهَا: أَنَّ جَابِرًا كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ [4] فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ [5] . وَرُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ دَعَا بِمَاءٍ فَتَفَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، ثُمَّ نَضَحَ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَى تلك الكدية، فيقول من حضرها: فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لانْهَالَتْ حَتَّى عَادَتْ كَالْكَثِيبِ، مَا ترد فأسا ولا مسحاة.
ومنها:
خبر الحنفية مِنَ التَّمْر الَّذِي جَاءَتْ بِهِ ابْنَةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ لأَبِيهَا وَخَالِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْن رواحة ليتغديا بِهِ، فَقَالَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاتِيهِ» فَصَبَّتْهُ فِي كَفَّيْ رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما ملأ هما، ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبٍ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ عِنْدَهُ: «اصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ» فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثوب.
__________
[ (1) ] أي أمر القيادة.
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (3) ] وعند ابن سعد: ثم خندق على المدينة، وجعل المسلمون يعلمون مستجعلين يبادرون قدوم عدوهم عليهم، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بيده لينشط المسلمين.... (انظر طبقات ابن سعد 2/ 66، 67) .
[ (4) ] الكدية: الأرض الغليظة أو الصلبة التي لا تعمل فيها الفأس.
[ (5) ] أي رملا متفتنا ناعما سهل التتابع.(2/86)
ومنها: حيث شُوَيْهَةِ جَابِرٍ، وَكَانَتْ غَيْرَ جد سَمِينَة، قَالَ: صَنَعْتُهَا وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَلَمَّا قُلْتُ لَهُ، أَمَرَ صَارِخًا فَصَرَخَ أَنِ انْصَرِفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ مَعَهُ فَجَلَسَ، فَأَخْرَجْنَاهَا إِلَيْهِ، فَبَرَكَ ثُمَّ سَمَّى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أَكَلَ، وَتَوَارَدَهَا النَّاسُ، كُلَّمَا فَرَغَ قَوْمٌ قَامُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِيهِ: وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ [1] .
وَمِنْهَا:
حَدِيثُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْخَنْدَقِ فَغَلُظَتْ عَلَيَّ، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبٌ مِنِّي، فَلَمَّا رَأَنِي أَضْرِبُ وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ، نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي، فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمِعْوَلِ بُرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ أُخْرَى فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بُرْقَةٌ أُخْرَى، ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الثَّالِثَة فَلَمَعَتْ بُرْقَةٌ أُخْرَى، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ يَلْمَعُ تَحْتَ الْمِعْوَلِ وَأَنْتَ تضرب؟ قال:
أو قد رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَّا الأُولَى فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْيَمَنَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ اللَّه فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ» .
قَالَ ابْن إسحق: وحَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ فُتِحَتْ هَذِهِ الأَمْصَارُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَزَمَنِ عُثْمَانَ: افْتَتِحُوا مَا بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة تَفْتَحُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ مُحَمَّدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حتى نزلت بمجتمع الأسيال [من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم] [2] وغطفان ومن تبعهم [من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا] [3] بِذَنْبِ نَقْمِي، إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، وَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جعلوا
__________
[ (1) ] انظر صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (5/ 46 و 47) .
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/87)
ظُهُورَهُمْ إِلَى سلعٍ فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ، وَأُمِرَ بِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ أَنْ يُجْعَلُوا فِي لآطام.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ لِوَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلِوَاءُ الأَنْصَارِ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يبعث سلمة بن أسلم من مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رَجُلٍ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ وَيُظْهِرُونَ التَّكْبِيرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ عَلَى الذَّرَارِيِّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وكان عباد من بِشْرٍ عَلَى حَرَسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْصَارِ يَحْرُسُونَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ. كَذَا قَالَ ابْن سَعْدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [1] ، وَقَالَ فِي بَابِ حُرَّاسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرَسَهُ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَامَ فِي الْعَرِيشِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَيَوْمَ أُحُدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ.
رَجْعٌ إِلَى ابْنِ سَعْدٍ: وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدوا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَيَغْدُو خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمًا، وَيَغْدُو عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمًا، وَيَغْدُو هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أَبِي جَهْلٍ يَوْمًا، وَيَغْدُو ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ يَوْمًا، فَلا يَزَالُونَ يُجِيلُونَ خَيْلَهُمْ وَيَتَفَرَّقُونَ مَرَّةً وَيَجْتَمِعُونَ أُخْرَى، وَيَنَاوَشُونَ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَدِّمُونَ رُمَاتَهُمْ فَيَرْمُونَ.
رجع إلى ابن إسحق: وَخَرَجَ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهُمْ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده على ذلك، [وعاهده] [2] فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيٍّ أَغْلَقَ دُونَهُ بَابَ حِصْنِهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، فَنَادَاهُ حُيَيٌّ وَيْحَكَ يَا كَعْبُ، افْتَحْ لِي؟
قَالَ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ، إِنَّكَ امْرِؤٌ مَشْئُومٌ، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا وَفَاءً وَصِدْقًا، قَالَ: وَيْحَكَ: افْتَحْ لِي أُكَلِّمُكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إِلَّا تَخَوُّفًا عَلَى جَشِيشَتِكَ [3] أَنْ أَكِلَّ مَعَكَ مِنْهَا، فَأَحْفَظَ الرَّجُلَ، فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ، جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ، وببحر طام، جئتك بقريش [على قادتها وسادتها] [4] حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ، وَغَطَفَان حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنْب نَقْمِي إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا
__________
[ (1) ] أنظر طبقات ابن سعد (2/ 67) .
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] وهو طعام يصنع من البر يطحن خشنا.
[ (4) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/88)
يَبْرَحُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدا وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ لَهُ كَعْبٌ: جِئْتَنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ، وَبِجِهَامٍ [1] قَدْ هراق مَاءَهُ، يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ، دَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا صِدْقًا وَوَفَاءً، فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبٍ يَفْتلُهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا مِنَ اللَّه وَمِيثَاقًا لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَان وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ، فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وَبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ الْخَبَرُ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ رَسُول اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ [2] وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ [3] وَمَعَهُمَا ابْنُ رَوَاحَةَ [4] ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ [5] ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحَنُوا إِلَيَّ لَحْنًا حَتَّى أَعْرِفَهُ، وَلا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا على الفواء فيما بيننا وبينهم فاجهروا بذلك للناس، فحرجوا حَتَّى أَتَوْهُمْ، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ عنهم فيما نَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَقَالُوا: مَنْ رَسُولُ اللَّه، لا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّد وَلا عَقْدَ، فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَشَاتَمُوهُ، وَكَانَ رَجُلا فِيهِ حِدَّةٌ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: دَعْ عَنْكَ مُشَاتَمَتَهُمْ، فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنَ الْمُشَاتَمَةِ- وَذَكَرَ ابْن عَائِذٍ أَنَّ الَّذِي شَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالَّذِي قَالَ لَهُ: مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنَ الْمُشَاتَمَةِ، سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ-
ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدٌ وَسَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ ثم قالوا: عضل والقارة، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجع، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ» .
وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلاء، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَل مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال
__________
[ (1) ] الجهام: السحاب الذي لا ماء فيه.
[ (2) ] وعند ابن هشام: سعد بن معاذ بن النعمان، وهو يومئذ سيد الأوس.
[ (3) ] وعند ابن هشام: سعد بن عبادة بن وليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وهو سيد الخزرج.
[ (4) ] وعند ابن هشام: ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
[ (5) ] وعند ابن هشام: أحقا ما بلغني عن هؤلاء القوم أم لا.(2/89)
مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ [1] كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مُعَتِّبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا. قَالَهُ ابْن هِشَامٍ. وَقَالَ ابْن عَائِذٍ: وَقَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ مَعَهُ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا.
قَالَ ابْن إسحق: وَقَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ [2] يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ عَنْ مَلأٍ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ، فَأَذِنَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنَرْجِعَ إِلَى دِيَارِنَا فَإِنَّهَا خَارِجٌ مِنَ المدينة.
فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَأَقَامَ عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة، قريبا مِنْ شَهْرٍ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إِلَّا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ وَالْحِصَارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَائِذٍ: وَأَقْبَلَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ عَلَى فَرَسٍ لَهُ لِيوثبه الْخَنْدَقَ، فَوَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ فَقَتَلَهُ اللَّه، وَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: إِنَّا نُعْطِيكُمُ الدِّيَةَ عَلَى أَنْ تَدْفَعُوهُ إِلَيْنَا فَنَدْفِنُهُ، فَرَدَّ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: أَنَّهُ خَبِيثٌ خَبِيثُ الدِّيَةِ فَلَعَنَهُ اللَّهُ ولعن ديته، ولا نمنعكم أَنْ تَدْفِنُوهُ، وَلا أَرَبَ لَنَا فِي دِيَتِهِ» ، وَقِيلَ: أَعْطُوا فِي جُثَّتِهِ عَشَرَةَ آلافٍ.
قَالَ ابن إسحق: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الْفَزَارِيِّ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ الْمُرِّيِّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فجرى بينه وبينهما الصلح، حَتَّى كَتَبُوا الْكتب، وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ وَلا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ إِلَّا الْمُرَاوَضَة فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَ، بَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ يَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأَمْرًا تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لا بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: «بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا إِنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرُ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إِلَى أَمْرٍ مَا» فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: أخو بني عمرو.
[ (2) ] وعند ابن هشام: أحد بني حارثة بن الحارث.(2/90)
بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، لا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلا نعرفه، وهم لا يطعمون أن يكلوا منها تمرة، إلا قرى أو بيعا [أفحين] [1] أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالإِسْلامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «فَأَنْتَ وَذَاكَ»
فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ، فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: ليَجْهَدُوا عَلَيْنَا، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَعَدُّوُهُمْ مُحَاصِرُوهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ فَوَارِسَ، مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عبد ود [2] وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ [3] وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ [4] ، تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ، ثُمَّ خَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ، حَتَّى مَرُّوا بِمَنَازِلِ بَنِي كنانة، فقال: تهيئوا يَا بَنِي كِنَانَةَ لِلْحَرْبِ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنِ الْفُرْسَانِ الْيَوْمَ؟ ثُمَّ أَقْبَلُوا تُعْنِقُ [5] بِهِمْ خَيْلُهُمْ، حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: وَاللَّهِ إن هذه لمكيدة، مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا [6] ، ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ، فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ الَّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الْفُرْسَانُ تُعْنِقُ نحوهم. وكان عمر بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعَلّمًا لِيُرَى مَكَانُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ قَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَمْرًا كَانَ ابْن تِسْعِينَ سَنَةً، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُبَارِزُهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم سفه وَعَمَّمَهُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ» .
رَجْعٌ إِلَى الأول:
فقال له يا عمرو: إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: فحين، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي. قال ابن هشام: ويقال:
عمرو بن عبس بن أبي قيس.
[ (3) ] وعند ابن هشام: المخزوميان.
[ (4) ] وعند ابن هشام: وضرار بن الخطاب الشاعر ابن مرداس، أخو بني محارب بن فهر.
[ (5) ] أي تسرع بهم.
[ (6) ] قال ابن هشام: يقال أن سلمان الفارسي أشار بِهِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم،
وحدثني بعض أهل العلم أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت»
.(2/91)
مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى إِحْدَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْتَهَا مِنْهُ، قَالَ لَهُ: أَجَلْ: قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّه وَإِلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَإِلَى الإِسْلامِ، قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النِّزَالِ، قَالَ لَهُ: لِمَ يَا ابْن أَخِي: فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، قَالَ له عَلِيٌّ: لَكِنِّي وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، قَالَ: فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ، فَعَقَرَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَنَاوَلا وَتَجَاوَلا فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنَ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً، وَقَالَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ... وَنَصَرْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ بِضِرَابِ [1]
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ متجدلا ... كالجذع بني دَكَادِكٍ وَرَوَابِ
وَعَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ انَّنِي ... كُنْتُ الْمُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي
لا تَحْسَبُنَّ اللَّهَ خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب [2]
وعن ابن إسحق مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكَّائِيِّ، أَنَّ عَمْرًا لَمَّا نَادَى بِطَلَبِ مَنْ يُبَارِزُهُ، قَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّه، فَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ إِنَّهُ عَمْرٌو» ثُمَّ كَرَّرَ عَمْرٌو النِّدَاءَ، وجعل يؤنبهم ويقل: أَيْنَ جَنَّتُكُمُ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا، أَفَلا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلا؟ فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:
«اجْلِسْ إِنَّهُ عَمْرٌو» ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ وَقَالَ:
وَلَقَدْ بَحِحْتُ مِنَ النِّدَاءِ ... بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الْمُشَجِّعُ ... وَقْفَةَ الرَّجُلِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاكَ أَنِّي لَمْ أَزَلْ ... مُتَسَرِّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَنَا له يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ عَمْرٌو» فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْرًا، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَمَشَى إِلَيْهِ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ:
لا تَعْجَلَنَّ فَقَدْ أَتَاكَ ... مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزْ
ذُو نِيَّةٍ وبصيرة ... والصدق منجى كل فائز
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: ونصرت دين محمد بصوابي.
[ (2) ] وعند ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي بن أبي طالب(2/92)
إني لأرجو أن أقيم ... عليكم نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلاءَ يَبْقَى ... ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ عَمْرٌو: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ابْنُ عَبْدِ مَنَافٍ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: غَيْرُكَ يَا ابْن أَخِي مِنْ أَعْمَامِكَ مَنْ هُوَ أسن منك، فإني أكره أن أهرق دَمَكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَكَ، فَغَضِبَ وَنَزَلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيٍّ مُغْضَبًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
كَيْفَ أُقَاتِلُكَ وَأَنْتَ عَلَى فَرَسِكَ، وَلَكِنِ انْزِلْ مَعِي، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيٌّ بِدَرَقَتِهِ فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِيهَا فَقَدَّهَا، وَأَثْبَتَ فِيهَا السَّيْفَ، وَأَصَابَ رَأْسَهُ فشجه، فضربه علي على حبل العانق فَسَقَطَ، وَثَارَ الْعَجَّاجُ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ التَّكْبِيرَ، فَعَرَفَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ قتله.
قال ابن هشام: وان شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يوم الخندق ويوم بني قريظة ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.
قال ابن إسحق: وحَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى عَبْدُ اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد الرَّحْمَن الأَنْصَارِيُّ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مِنْ أَحْصَنِ [1] حُصُونِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سَعْدِ بن معاذ معها في الحصن، فقالت: [2] وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ مُقَلَّصَةٌ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلُّهَا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يَرْقُدُ بها ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا جمل ... لا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَانَ الأَجَلْ
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: الْحَقّ أَيْ بُنَيَّ، فَقَدْ وَاللَّهِ أُخِّرْتُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
فَقُلْتُ لَهَا يَا أُمَّ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتِ أَنَّ دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا هِيَ، قَالَتْ: وَخِفْتُ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ السَّهْمُ مِنْهُ، فَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ فَقَطَعَ مِنْهُ الأَكْحَلَ، رَمَاهُ كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمٌ [3] حِبَّانُ بْنُ الْعرقَةِ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ. ويقال بل الذي رماه
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: من أحرز.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فقالت عائشة.
[ (3) ] وعند ابن هشام: كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، حبان بن قيس بن العرقة.(2/93)
خَفَاجَةُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ جُبَارَةَ وَقِيلَ: بَلِ الَّذِي رَمَاهُ أَبُو أُسَامَةَ الْجُشْمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي مخزوم.
رجع إلى ابن إسحق: ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ وَأَخْرَجُوهُ وَكَذَّبُوهُ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهَا لِي شَهَادَةً، وَلا تُمِتْنِي حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَذَكَر ابْن عَائِذٍ أن المشركين جهزوا نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً عَظِيمَةً غَلِيظَةً، فَقَاتَلُوهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، فلما حضرت العصر رنت الْكَتَائِبُ، فَلَمْ يَقْدِرِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يُصَلُّوا الصَّلاةَ عَلَى مَا أَرَادُوا، فَانْكَفَأْتُ مَعَ اللَّيْلِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ: شَغَلُونَا عَنْ صَلاةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» .
وَقَرَأْتُ عَلَى أبي النور إسماعيل بن نور بن قمر الهبتي: أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ مُوسَى بْنُ عَبْدِ القادر الجبلي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتَ تَسْمَعُ فَأَقَرَّ بِهِ قَالَ: أنا أبو بكر بن الزاغوني قال: وأنا ابن البسري قال: أنا المخلص، فثنا يحيى بن محمد، فثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، فثنا أبو مالك الجنبي عمرو بن هاشم، فثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ. رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ، لأَنَّهُ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، وَقِيلَ: وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَكُونُ متصلة، له عَنْهُ أَحَادِيثُ يَسِيرَةٌ هِيَ عِنْدَهُمْ مُتَّصِلَةٌ، وَيَقُولُ فِي بَعْضِهَا:
سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَذَكَر ابْنُ سَعْدٍ فِي هَذَا الخبر: أنهم شغلوا عن صلاة الظهر العصر وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ ابْن سَعْدٍ: وَأَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحَضِيرِ عَلَى الْخَنْدَقِ فِي مِائَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَرَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلٍ من المشركين يطلبون غرة من الْمُسْلِمِينَ، فَنَاوَشُوهُمْ سَاعَةً، وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ وَحْشِيٌّ، فَزَرَقَ الطفيل بن النعمان من بني سلمة بزراقة [1] فَقَتَلَهُ، وَانْكَشَفُوا، وَسَارَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسلام إلى قبته، فأمر بلالا
__________
[ (1) ] المزراق: الرمح القصير، والجمع: مزاريق.(2/94)
فَأَذَّنَ وَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّى، ثُمَّ أَقَامَ بَعْدُ لكل صلاة إقامة إقامة، وصلى هو أصحابه مَا فَاتَهُمْ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَقَالَ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى صَلاةَ الْعَصْرِ، مَلأَ اللَّه أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا»
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قِتَالٌ جَمِيعًا حَتَّى انْصَرَفُوا، إِلَّا أَنَّهُمْ لا يدعون [يبعثون] [1] الطلائع بالليل يطمعون في الغارة.
قال ابن إسحق: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْخَوْفِ والشدة بمظاهرة عَدُوِّهِمْ وَإِتْيَانِهِمْ إِلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيَّ [2] أَتَى رَسُولَ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخُذْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ [3] ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ،
فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا:
صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَمَا أَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، وَبِهِ أَمْوَالُكُمْ، وَنِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ، لا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَتَحَوَّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَان قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا ببينكم وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلا بِكُمْ، فَلا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم [يكونون] [4] بِأَيْدِيكُمْ ثِقَة لَكُمْ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَكُمْ مُحَمَّدا [5] حَتَّى تَنَاجَزُوهُ، قَالُوا: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ لأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ، وَفِرَاقِي مُحَمَّدا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهُ [6] نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي، قَالُوا: نَفْعَلُ، قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا على ما صنعوا فيما
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من طبقات ابن سعد (2/ 69) .
[ (2) ] وعند ابن هشام: نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان.
[ (3) ] وعند ابن هشام: إن استطعت.
[ (4) ] وردت في الأصل: يكون، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] وعند ابن هشام: يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا.
[ (6) ] وعند ابن هشام: قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه.(2/95)
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّد، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ: أَنَا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكم فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَك عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: نَعَمْ، فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ رَجُلا وَاحِدًا، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَان، فَقَالَ: يَا معشر ... جَيْشٌ عُيَيْنَةُ قَاصِدٌ بِلِوَائِهِ ... فِيهِ وَصَخْرٌ قَائِدُ الأَحْزَابِ
قَرمَانِ كَالْبَدْرَيْنِ أَصْبَحَ فِيهِمَا ... غَيْثُ الْفَقِيرِ وَمَعْقِلُ الْهُرَّابِ
حَتَّى إِذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَدَوْا ... لِلْمَوْتِ كُلَّ مَجرَّبٍ قَضَّابِ
شَهْرًا وَعَشْرًا قَاصِدِينَ محمدا ... وصحابه في الحرب غير صِحَابِ
لَوْلا الْخَنَادِقُ غَادَرُوا مِنْ جَمْعِهِمْ ... قَتْلَى لِطَيْرٍ سُغَّبٍ وَذِئَابِ
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْن ثَابِتٍ رضي الله عنه:
هل رسم دراسة الْمُقَامِ بِبَابِ ... مُتَكَلِّمٌ لِمُحَاوِرٍ بِجَوَابِ
فَدَعِ الدِّيَارَ وَذِكْر كُلِّ خَرِيدَةٍ ... بَيْضَاءَ آنِسَةِ الْحَدِيثِ كَعَابِ
وأشك الهموم إلى الآلهة وَمَا تَرَى ... مِنْ مَعْشَرٍ ظَلَمُوا الرَّسُولَ غِضابِ
سَارُوا بِجَمْعِهِمُ إِلَيْهِ وَأَلَّبُوا ... أَهْلَ الْقُرَى وَبَوَادِيَ الأَعْرَابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ وَابْنُ حَرْبٍ فِيهِمُ ... مُتَخَمِّطُونَ بِحِلْيَةِ الأَحْزَابِ
حَتَّى إِذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَجَوْا ... قَتْلَ الرَّسُولِ وَمَغْنَمِ الأَسْلابِ
وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بأيديهم ... ردوا بغيظهم على الأعقاب
__________
[ (1) ] أنظر طبقات ابن سعد (2/ 69) .(2/96)
بِهُبُوبِ مُعْصِفَةٍ تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ ... وَجُنُودِ رَبِّكَ سَيِّدِ الأَرْبَابِ
وَكَفَى الإِلَهُ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَهُمْ ... وَأَثَابَهُمْ فِي الأَجْرِ خَيْرَ ثَوَابِ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا فَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ ... تَنْزِيلُ نَصْرِ مَلِيكِنَا الْوَهَّابِ
وَأَقَرَّ عَيْنَ مُحَمَّدٍ وَصِحَابِهِ ... وَأَذَلَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ مُرْتَابِ
وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَعْتَذِرُ مِنْ فراره ويبكي عمرو بن عبد ود، يذكر عَلِيًّا، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ هَذِهِ الأَبْيَاتِ:
لَعَمْرِيَ ما وليت ظهري محمدا ... وأصحابه جنبا ولا خيفة القتل
ولكني قلبت أمرا فَلَمْ أَجِدْ ... لَسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلا نَبْلِ
وَقَفْتُ فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِي مَقْدَمًا ... شَدَدْتُ كَضِرْغَامٍ هِزَبْرٍ أَبِي شِبْلٍ
ثَنَى عِطْفَهُ عَنْ قَرْنِهِ حِينَ لَمْ تَجِد ... مُكِرًّا وَقُدْمًا كان ذلك من فعلي
فلا تبعدون يَا عَمْرُو حَيًّا وَهَالِكًا ... وَحُقَّ بِحُسْنِ الْمَدْحِ مِثْلُكَ مِنْ مِثْلِ
وَلا تَبْعُدَنْ يَا عَمْرُو حيا وهالكا ... فقدمت محمود الثنا ما جد الأَصْلِ
فَمَنْ لِطوَالِ الْخَيْلِ تقدع بِالْقَنَا ... وَلِلْفَخْرِ يَوْمًا عِنْدَ قَرْقَرَةِ الْبزْلِ
هُنَالِكَ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبْدٍ لَزَارَهَا ... وَفَرَّجَهَا حَقّا فَتَى غَيْر مَا وغلِ
فَعَنْكَ عَلِيُّ لا أَرَى مِثْلَ مَوْقِفٍ ... وَقَفْتَ عَلَى نَجْدِ الْمُقَدَّمِ كَالْفَحْلِ
فَمَا ظَفَرْتَ كَفَاكَ فَخْرًا بِمِثْلِهِ ... أَمِنْتَ بِهِ مَا عِشْتَ مِنْ زَلَّةِ النَّعْلِ
الْغَيْطَلَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، والغيطلة: الجبلة، وَالْغَيْطَلَةُ: الْتِبَاسُ الظَّلامِ، وَجَبْجَابٌ: كَثِيرُ الصَّوْتِ، وَالْمُتَخَمِّطُ: الشديد الغضب.
ذكر شهداء الخندق
من بني عبد الأشل: سَعْد بْن مُعَاذٍ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ، وَعَبْد اللَّهِ بْن سَهْلٍ، وَمِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلَمَة: الطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ عنمَةَ، وَمِنْ بَنِي النَّجَّارِ: كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْمُؤْمِنِ الدِّمْيَاطِيُّ فِي نَسَبِ الأَوْسِ لَهُ فِي بَنِي ظَفَرٍ: قَيْسَ بن زيد بن عامر بن سواد بن ظَفَرٍ، شَهِدَ أُحُدًا، وَحَضَرَ الخَنْدَق، وَمَاتَ هُنَاكَ وَدُفِنَ، وَذَكَر فِي نَسَبِ الْخَزْرَجِ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي خَالِدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مالك بن كعب بن عبد الأشهل بن حَارِثَةَ بْنِ دِينَارِ ابْن النَّجَارِ، قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَق شَهِيدا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ.(2/99)
غزوة بَنِي قُرَيْظَة [1]
رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ: فثنا عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ شَرِيكٍ الْبَزَّارُ، فثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَنَا الْعُمَرِيُّ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، بَيْنَا هُوَ عِنْدِي إِذْ دَقَّ الْبَابُ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَثَبَ وَثْبَةً مُنْكَرَةً وَخَرَجَ، فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهِ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ عَلَى مَعْرَفَةِ الدَّابَّةِ يُكَلِّمُهُ، فَرَجَعْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ قُلْتُ: مَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كُنْتَ تُكَلِّمُهُ؟ قَالَ: وَرَأَيْتِيهِ» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «بِمَنْ تُشَبِّهِينَهُ» ؟ قُلْتُ: بِدِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ، أَمَرَنِي أَنْ أمضي إلى بني قريظة» .
قال ابن إسحق: وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ عَنِ الخَنْدَق رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ والمسلمون، ووضعوا السِّلاحَ، فَلَمَّا كَانَتِ الظُّهْرُ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، مُعْتَجِرًا [2] بِعِمَامَةٍ مِنَ إِسْتَبْرَقٍ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رحالة، عليها قطيفة ديباج، فقال: أو قد وَضَعْتَ السِّلاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ السِّلاحَ بَعْدُ، وَمَا رَجَعَتِ الآنَ إِلَّا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ يَا مُحَمَّد بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنِّي عَامِدٌ إِلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلَّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ.
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَائِذٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ السُّلامِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ مَرْجَعَهُ من طلب الأحزاب، إذ
__________
[ (1) ] وكانت في السنة الخامسة للهجرة.
[ (2) ] يقال: اعتجر فلان بالعمة: أي لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه.(2/100)
وَقَفَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا حَلَلْتُمْ، وَاللَّهِ مَا نَزَعْنَا من لأُمَّتِنَا [1] شَيْئًا منذ نزل العدو بك، قم فسد عَلَيْكَ سِلاحَكَ، فَوَاللَّهِ لأَدُقَّنَّهُمْ كَدَقِّ الْبَيْضِ عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ وَلَّى، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَلَمَّا رَأَيْنَا ذَلِكَ نَهَضْنَا. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مُنَادِيًا: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافٍ، وَالْخَيْلُ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ فَرَسًا، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الأَرْبَعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.
وَاسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِرَايَتِهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَابْتَدَرَهَا النَّاسُ، فَسَارَ، [2] حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهَا مَقَالَةً قَبِيحَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ حَتَّى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا عَلَيْكَ أَنْ لا تَدْنُوَ مِنْ هَؤُلاءِ الأَخَابِيثِ قَالَ: «لِمَ، أَظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ لِي أَذًى» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لَوْ رَأَوْنِي» لَمْ يَقُولُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلَمَّا دَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُصُونِهِمْ قَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ هَلْ أَخْزَاكُمُ اللَّهُ وَأَنْزَلَ بِكْمُ نِقْمَتَهُ» قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْتَ جَهُولا، وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالصّورين [3] قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: «هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ» ، قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، وَعَلَيْهَا قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ بَعَثَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ» وَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ» وَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ مِنْ آبَارِهَا [4] ، وَتَلاحَقَ بِهِ النَّاسُ، فَأَتَى رِجَالٌ مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ وَلَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَشَغَلَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْهُ بُدٌّ فِي حَرْبِهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُصَلُّوا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى تَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ» فَصَلَّوُا الْعَصْرَ بِهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَمَا عَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلا عَنَّفَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبِي إسحق بْنُ يَسَارٍ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالك الأنصاري.
__________
[ (1) ] اللائمة: أداة الحرب كلها، من رمح وبيضة ومغفر وسيف ودرع، والجمع: لأم ولؤم.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فسار علي بن أبي طالب.
[ (3) ] وهو موضع قرب المدينة.
[ (4) ] وعند ابن هشام: يقال لها بئر أنا، قال ابن هشام: بئر أني.(2/101)
وَحَاصَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَقَدْ كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَة فِي حِصْنِهِمْ حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وغَطَفَان، وَفَاءً لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا بِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزُهُمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وَإِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خلالا ثَلاثًا، فَخُذُوا أَيَّهَا شِئْتُمْ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: نُتَابِعُ هَذَا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّهُ لَلَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، فَتَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، قَالُوا: لا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ عَلَى هَذِهِ فَهَلُمَّ فَلْنُقْتُلُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمَّ نَخْرُجُ إِلَى مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ رِجَالا مُصَلَّتِينَ بِالسُّيُوفِ، لَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا ثقلا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّه بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّد، فَإِنْ نَهْلِكْ نَهْلِكْ وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا نَسْلا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَظْهَرْ فَلَعَمْرِي لَنَجِدِ النِّسَاءَ وَالأَبْنَاءَ، قَالُوا: نَقْتُلُ هَؤُلاءِ الْمَسَاكِينَ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ؟ قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ فَإِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّد وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمِنُونَا فِيهَا، فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ غزة، قَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا [1] وَنُحْدِثُ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا إِلَّا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ مِنَ الْمَسْخِ، قَالَ: مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الدَّهْرِ حازما.
ثُمَّ إِنَّهْمُ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الأَوْسِ، نَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَجَهَشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ وَقَالُوا [2] : يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّد؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ،
قَالَ أبو لبابة: فو الله مَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّه وَرَسُولَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِهِ وَقَالَ: لا أَبْرَحُ مَكَانِي هَذَا حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ، وَعَاهَدْتُ اللَّه أَنْ لا أَطَأَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا، وَلا أُرَى فِي بلد خنت الله ورسوله
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: نفسد ستنا علينا ونحدث فيه ما لم يحدث مَنْ كَانَ قَبْلَنَا إِلَّا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ.
[ (2) ] وعند ابن هشام: وقالوا له.(2/102)
فِيهِ أَبَدًا، [1] فَلَمَّا بَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَبْطَأَهُ، قَالَ: «أَمَّا لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، وَأَمَّا إذا فَعَلَ مَا فَعَلَ فَمَا أَنَا بِالَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» .
وحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْن عَبْد اللَّهِ بْن قُسَيْطٍ أَنَّ تَوْبَةَ أَبِي لُبَابَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَسَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّحَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: قُلْتُ: مِمَّ تَضْحَكُ أَضْحَكَ اللَّه سِنَّكَ؟ قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ» قَالَتْ: قُلْتُ: أَفَلا أُبَشِّرُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «بَلَى إِنْ شِئْتِ» قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ أَبْشِرْ، فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَتْ: فَثَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ، حَتَّى يَكُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ، فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ خَارِجًا إِلَى صلاة الصبح أطلقه.
قَالَ ابْن هِشَامٍ: أَقَامَ أَبُو لُبَابَةَ مُرْتَبِطًا بِالْجِذْعِ سِتَّ لَيَالٍ، تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلاةٍ فَتَحُلُّهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْتَبِطُ بِالْجِذْعِ فِيمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أبا لبابة ارتبط سلسلة رُبُوضٍ- وَالرُّبُوضُ الثَّقِيلَةُ- بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حَتَّى ذَهَبَ سَمْعُهُ، فَمَا يَكَادُ يَسْمَعُ، وَكَادَ يَذْهَبُ بَصَرُهُ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ تَحُلُّهُ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ إعادته إلى الرباط، فقال رسول الله: «لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ» .
قَالَ أَبُو عُمَرَ: اخْتُلِفَ فِي الْحَالِ الَّذِي أَوْجَبَ فِعْلِ أَبِي لُبَابَةَ هَذَا بِنَفْسِهِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو لُبَابَةَ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوكَ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ بِسَارِيَةٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أحل نفسي منها، أو أَذُوقُ طَعَامًا وَلا شَرَابًا حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَوْ أَمُوتَ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لا يَذُوقُ طَعَامًا وَلا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ نَحْوَ ما تقدم في حل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ،
ثُمَّ قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قال: «يجزئك يا أبا لبابة الثلث» .
__________
[ (1) ] قال ابن هشام: وأنزل الله تعالى في لبابة فيما قال سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي قتادة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ سورة الأنفال: الآية 27.(2/103)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [1] الآيَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَنَفَرٍ مَعَهُ سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ، أَوْ سَبْعَةٍ سِوَاهُ، تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ثُمَّ نَدِمُوا، فَتَابُوا وَرَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي، فَكَانَ عَمَلُهُمُ الصَّالِحُ تَوْبَتُهُمْ، والسيء تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَتَاهُ أَبُو لُبَابَةَ كَانَ إِشَارَتُهُ إِلَى حُلَفَائِهِ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّهُ الذَّبْحُ إِنْ نَزَلْتُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ معاذ وإشارته إلى حلقه، فنزلت فيه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية.
قال ابن إسحق: ثُمَّ إِنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ هدل، ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَهُمْ بَنُو عَمِّ الْقَوْمِ، أَسْلَمُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سَعْدِيٍّ الْقُرَظِيُّ، فَمَرَّ بِحَرَسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قال: أنا عمرو بن سعدي، وكان عمر قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ برَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدٍ أَبَدًا، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْن مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ: اللَّهُمَّ لا تحرمني إقالة] [2] عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ فَخَرَج عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى بَاتَ [3] فِي مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ وُجِّهَ مِنَ الأَرْضِ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَذُكِرَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُهُ، فَقَالَ: ذَلِكَ رجل تجاه اللَّه بِوَفَائِهِ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَهُّ كَانَ أَوْثَقَ بُرْمَةً [4] فِيمَنْ أَوْثَقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَصْبَحَتْ رُمَّتُهُ مُلْقَاةً، وَلا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فَاللَّهِ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَاثَبَتِ الأَوْسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنهم مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي إِخْوَانِنَا بِالأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتَ. وَقَدْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُ إِيَّاهُمْ عبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ،
فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ الأَوْسُ قَالَ رسول الله
__________
[ (1) ] سورة التوبة: الآية 102.
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] وعن ابن هشام: حتى أتى.
[ (4) ] وهو الحبلى البالي.(2/104)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ» ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ:
فَذَلِكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ سَعْد بْن مُعَاذٍ فِي خَيْمَةٍ لامْرَأَةٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا: رُفَيْدَةُ، فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا على خدمة من كانت به ضَيْعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السَّهْمُ بِالخَنْدَق، اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتَّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا حَكَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَتَاهُ قَوْمُهُ، فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ وَقَدْ وَطِئُوا لَهُ بِوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَكَانَ رَجُلا جَسِيمًا، ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا أبا عمرو، أحسن من مَوَالِيكَ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إنما ولاك ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا قَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَنْ لا يَأْخُذَهُ فِي اللَّه لَوْمَةَ لائِمٍ، فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَنَعَى إِلَيْهِمْ رِجَالُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ عَنْ كَلِمَتِهِ الَّتِي سَمِعَ مِنْهُ،
فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» .
فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فَيَقُولُونَ: إِنَّمَا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ، وَأَمَّا الأَنْصَارُ فَيَقُولُونَ: عَمَّ بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا:
يَا أَبَا عُمَرَ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَلاكَ أَمْرَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ فِيهِمْ،
فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمْ كَمَا حَكَمْتُ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا؟ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْلالا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الرِّجَالُ، وَتُقَسَّمَ الأَمْوَالُ، وَتُسْبَى الذَّرَارِيُّ والنساء.
قال ابن سعد: قال حميد: قال بَعْضُهُمْ: وَتَكُونُ الدِّيَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِخْوَانُنَا [1] كُنَّا مَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنِّي أحببت أن يستغنوا عنكم.
قال ابن إسحق: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْفِعَةٍ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عليّ بن أبي طالب صاح
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: إخوتنا.(2/105)
وهم محاصرو بني قريظة: [يا كتيبة] [1] الإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ:
والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأفتحن حِصْنَهُمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سعد.
قال ابن إسحق: ثُمَّ اسْتَنْزَلُوا، فَحَبَسَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم [بالمدينة] [2] فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ، الَّتِي هِيَ سُوقُهَا الْيَوْمَ، فخَنْدَق بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَضَرَب أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَيْهَا أَرْسَالا، وَفِيهِمْ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ رَأْسُ الْقَوْمِ، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة، وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالا: يَا كَعْبُ، مَا تَرَاهُ يَصْنَعُ بنا؟ قال: أفي كُلِّ مَوْطِنٍ لا تَعْقِلُونَ! أَمَا تَرَوْنَ الدَّاعِي لا يَنْزِعُ، وَأَنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنْكُمْ لا يَرْجِعُ، هُوَ وَاللَّهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدَّأَبُ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، وأتى يحيى بْنِ أَخْطَبَ عَدُوِّ اللَّهِ [3] ، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذِلِ اللَّه يُخْذَلْ، ثُمَّ أَقْبَل عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا بَأْسَ بِأَمْرِ اللَّهِ، كِتَابٍ وَقَدَرٍ وَمَلحمَةٍ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [4] ، ثُمَّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَقَدْ حَدَّثَنِي محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَعِنْدِي تُحَدِّثُ مَعِي وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ رِجَالَهَا فِي السُّوقِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا، أَيْنَ فُلانَةُ؟
قَالَتْ: أَنَا، وَاللَّهِ قَالَتْ: قُلْتُ لها: ويلك، مالك؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ:
لِحَدَثٍ أَحْدَثْتُهُ، قَالَتْ: فَانْطُلِقَ بِهَا، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا، طِيبَ نَفْسِهَا، وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تُقْتَلُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
هِيَ الَّتِي طَرَحَتِ الرَّحَا على خلاد بن سوسيد فقتلته.
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: بكتيبه، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وعليه حلة فقاحية- قال ابن هشام: فقاحية: ضرب من الوشي- قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها ...
[ (4) ] وعند ابن هشام: كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.(2/106)
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ أَمَرَ بِهِمْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فَكُتِّفُوا، وَجُعِلُوا نَاحِيَةً، وَأُخْرِجَ النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، فَكَانُوا نَاحِيَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْد اللَّهِ بْن سَلامٍ، وَجَمَعَ أَمْتِعَتَهُمْ وَمَا وَجَدَ فِي حُصُونِهِمْ، مِنَ الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألفا وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة تِرْسٍ وَحَجَفَةً، وَخَمْرًا وَجرارَ سُكَّرٍ، فَأُهْرِيقَ ذَلِكَ كُلّهُ، وَلَمْ يخمسْ، وَوَجَدُوا أَجْمَالَ نَوَاضِحَ وَمَاشِيَةً كثيرة.
قال ابن إسحق: وَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بْن قَيْس بْن الشَّمَّاسِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ أَتَى الزُّبْيَرَ بْنَ بَاطَا الْقُرَظِيَّ، وَكَانَ يُكَنَّى: أَبَا عَبْد الرَّحْمَن- وَكَانَ الزُّبَيْرُ قَدْ مَنَّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْس فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَ لِي بَعْضُ وَلَدِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ مَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَ بعَاثٍ، أَخَذَهُ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ- فَجَاءَهُ ثَابِتٌ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ، قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُجْزِيَكَ بِيَدِكَ عِنْدِي، قَالَ: إِنَّ الْكَرِيمَ يُجْزِي الْكَرِيمَ،
ثُمَّ أَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ لِلزُّبَيْرِ عَلِيَّ مِنَّةٌ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُجْزِيَهُ بِهَا، فَهَبْ لِي دَمَهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ لَكَ» فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبَ لِي دَمَكَ، فَهُوَ لَكَ، قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ لا أَهْلَ لَهُ وَلا وَلَد، فَمَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ؟ قَالَ: فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ؟ قَالَ: هُمْ لَكَ [1] ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ وَهَبَ لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ، فَهُمْ لَكَ، قَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لا مَالَ لَهُمْ، فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَتَى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَهُ؟ قَالَ: هُوَ لَكَ، فَأَتَاهُ ثَابِتٌ فَقَالَ: قَدْ أَعْطَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَكَ، فَهُوَ لَكَ،
قَالَ: أَيْ ثَابِتٌ، مَا فَعَلَ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ تَتَرَاءَى فِيهِ عَذَارَى الْحَيِّ كَعْب بْن أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمَتُنَا إِذَا شَدَدْنَا، وَحَامِيَتُنَا إِذَا فَرَرْنَا عَزَّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ؟ قَالَ: قُتِلَ:
قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمجلسَانِ؟ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، قَالَ:
ذَهَبُوا قُتِلُوا، قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ يَا ثَابِتُ بِيَدِي عِنْدِكَ إِلَّا أَلْحَقْتَنِي بِالْقَوْمِ، فَوَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلاءِ من خير، أفما أَنَا بِصَابِرٍ لِلَّهِ قبلَةَ دَلْوٍ نَاضِحٍ حَتَّى أَلْقَى الأَحِبَّةَ، فَقَدَّمَهُ ثَابِتٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَوْلُهُ: أَلْقَى الأَحِبَّةَ، قال: يلقاهم والله
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله: هب لي امرأته وولده ...(2/107)
فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا،
وَذَكَر أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ إن أسلم» .
قال ابن إسحق: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَمَرَ أَنْ يَقْتُلَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، كُلَّ مَنْ أَنْبَتَ [1] ، وَكُنْتُ غُلامًا، فَوَجَدُونِي لَمْ أَنْبُتْ فَخَلُّوا سَبِيلِي، وَسَأَلَتْ أُمُّ الْمُنْذِرِ سَلْمَى بِنْتُ قَيْسٍ أُخْتُ سُلَيْطٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ إِحْدَى خَالاتِهِ رِفَاعَة بْن سَمَوْأَلٍ الْقُرَظِيّ وَكَانَ قَدْ بَلَغَ، قَالَتْ: فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ سَيُصَلِّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ فَوَهَبَهُ لَهَا، ثُمَّ خُمِّسَتْ غَنَائِمُهُمْ، وَقُسِّمَتْ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَلِلرَاجِلِ سَهْمٌ، وَهُوَ أَوَّلُ فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السَّهْمَانِ وَخُمِّسَ وَكَانَتِ الْخَيْلُ سِتَّةً وَثَلاثِينَ فَرَسًا.
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَجْدٍ، فَابْتَاعَ لَهُمْ بِهِمْ خَيْلا وَسِلاحًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ منهم [2] ريحانة بنت عَمْرَو بْنَ خنَافَةَ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، فَكَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْهَا (وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، القصة في سورة الأحزاب [3] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [4] وَالْجُنُودُ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانَتِ الْجُنُودُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الرِّيحِ الْمَلائِكَة: [يقول الله تعالى] [5] : إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ بنو قريظة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ قُرَيْش وَغَطَفَان إِلَى قَوْلِهِ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها- يَعْنِي خَيْبَرَ- وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: كل من أنبت منهم.
[ (2) ] وعند ابن هشام: لنفسه من نسائهم.
[ (3) ] وعند ابن هشام: يذكر فيها ما نزل من البلاء ونعمته عليهم، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم بعد مقالة من قال من أهل النفاق.
[ (4) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/108)
فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ لِسَعْدِ بن معاذ جرحه، فمات منه [شهيدا] وَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، مَنْ هَذَا [1] الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ [2] ، قَالَ: فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ إِلَى سَعْد بْن مُعَاذٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ.
وَلَمَّا حُمِلَ عَلَى نَعْشِهِ وَجَدُوا لَهُ خِفَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرَكُمْ، وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذَكَرَ ابْن عَائِذٍ: «لَقَدْ نَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ شَهِدُوا سَعْدًا، مَا وَطِئُوا الأَرْضَ إِلَّا يَوْمَهُمْ هَذَا» ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: مَرَّتْ عَلَيْهِ عَنْزٌ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، فَأَصَابَتِ الْجُرْحَ بِظِلْفِهَا، فَمَا رَقَأَ حَتَّى مَاتَ، وَبَعَثَ صَاحِبَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبَغْلَةٍ وَجُبَّةٍ مِنْ سُنْدَسٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُونَ مِنْ حسن الجبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ» يَعْنِي مِنْ هَذَا.
وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ خَلادُ بْنُ سُوَيْدٍ الْحَارِثِيُّ الَّذِي طَرَحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ الرَّحَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُ قَتْلِهَا، وَزَادَ ابْن عَائِذٍ وَمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّد أَخُو بَنِي جَحْجَبَا. وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ، ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ،
وَلَمَّا انْصَرَفَ أَهْلُ الخَنْدَق عَنِ الخَنْدَق، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ» . فكان كذلك.
ذكر فوائد تتعلق بما سبق من ذكر الخَنْدَق وَبَنِي قُرَيْظَةَ
أَوَّلُ مَنْ حَفَرَ الْخَنَادِقَ فِي الْحُرُوبِ: منوشهرُ بْنُ أيرجَ، وَأَوَّلُ مَنْ كمن الكمائن بخت نصر، ذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ الطَّبَرِيِّ. وَالنِّسْبَةُ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: نَضَرِيٌّ، بِفَتْحَتَيْنِ، كَثَقَفِيٍّ. وعُيَيْنَة بْن حِصْنٍ، لَقَبٌ، لُقِّبَ لِقَائِدِ الأَحْزَابِ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ، لُقِّبَ بذلك لشتر في عيينة. وَذَكَرَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَمَا قَالَ لِكَعْبٍ، وإنه لم يزل يفتل في الذورة وَالْغَارِبِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هَذَا مَثَل، وَأَصْلُهُ فِي الْبَعِيرِ يُسْتَصَعْبُ عَلَيْكَ، فَتَأْخُذُ الْقُرَادُ مِنْ ذُرْوَتِهِ وَغَارِبِ سَنَامِهِ، فَيَجِدُ الْبَعِيرُ لَذَّةً فَيَأَنَسُ عِنْدَ ذلك، وأنشد للحطيئة:
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء.
[ (2) ] أي استبشار الملائكة الحافين بالعرش به.(2/109)
لَعَمْرُكَ مَا قُرَادُ بَنِي كُلَيْبٍ ... إِذَا نُزِعَ الْقُرَادُ بِمُسْتَطَاعِ
يُرِيدُ أَنَّهُمْ لا يُخْدَعُونَ وَلا يُسْتَذَلُّونَ. وَاللَّحْنُ: الْعَدْلُ بِالْكَلامِ عَنِ الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ إِلَى وَجْهٍ لا يَعْرِفُهُ إِلَّا صَاحِبُهُ، كَمَا أَنَّ اللَّحْنَ الَّذِي هُوَ الْخَطَأُ عُدُولٌ عَنِ الصَّوَابِ الْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي قَوْلِ مَالِكِ بن أسماء:
منطق طائب وتلحن أحيا ... نا وَخَيْرُ الْكَلامِ مَا كَانَ لَحْنًا
يُرِيدُ: أَنَّ اللَّحْنَ الَّذِي هُوَ الْخَطَأُ قَدْ يُسْتَمْلَحُ، وَيُسْتَطَابُ مِنَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ. وَخَطِئَ الْجَاحِظُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ، وَأُخْبِرَ بِمَا قَالَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يوسف لامرأته عند بِنْتِ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ حِينَ لَحَنَتْ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا اللَّحْنَ، فَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِ أَخِيهَا مَالِكِ بْنِ أَسْمَاءَ. وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا. وَقَالَ لَهَا الْحَجَّاجُ: لَمْ يُرِدْ أَخُوكِ هَذَا، إِنَّمَا أَرَادَ الَّذِي هُوَ التَّوْرِيَةُ وَالأَلْغَازُ، فَسَكَتَتْ، فَلَمَّا حُدِّثَ الْجَاحِظُ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: لَوْ كَانَ بَلَغَنِي هَذَا قَبْلَ أَنْ أُؤَلِّفَ كِتَابَ (الْبَيَانِ) مَا قُلْتُ فِي ذَلِكَ مَا قُلْتُ، فَقِيلَ: أَفَلا تُغَيِّرُهُ؟ فَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ سَارَ بِهَا الْبغَالُ الشُّهُبُ وَأنْجدَ فِي الْبِلادِ وَغَارَ. انْتَهَى مَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ، وَتَأْوِيلُ الْجَاحِظِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ الصَّوَابِ بِالْخَطَأِ، وَلَعَلَّ الشَّاعِرَ لَوْ أَرَادَ الْمَعْنَى الآخَرَ لَقَالَ مَنْطِقٌ ظَاهِرٌ لِيُقَابِلَ بِذَلِكَ مَا تَقْتَضِيهِ التَّوْرِيَةُ وَاللّغْزُ مِنَ الْخَفَاءِ، وَكَمَا قَالَ الْجَاحِظُ فِي تَأْوِيلِ وَتَلْحَنُ أحيانا قَالَ ابْن قُتَيْبَةَ.
وَحِبَّانُ بْنُ العرقَةِ هُوَ حِبَّانُ بْنُ عَبْد مَنَافِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَالْعرقَةُ أُمُّهُ، وَهِيَ قِلابَةُ بِنْتُ سَعِيد بْن سَعْد بْن سَهْمٍ، تُكَنَّى أُمّ فَاطِمَةَ، سُمِّيَتِ الْعرقَةَ لِطِيبِ رِيحُهَا. كَذَا ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ، وَابْنُ الْكَلْبِيُّ يَقُولُ: هِيَ أُمُّ عَبْدِ مَنَافٍ جَدُّ أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ حِبَّانُ بْنُ أَبِي قَيْس بْن عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْد مَنَافٍ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ يَقُولُ: فِيهِ جبارُ بْنُ قَيْس، بِالْجِيمِ والراء أحد بني العرفة.
وَحَدِيثُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْن مُعَاذٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
وَالْعَجَبُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُقَالُ اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْد بْن مُعَاذٍ، وَلَمْ يَرَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ نَقْلِهِ وَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لَهُ، وَلا أَدْرِي مَا وَجْهُ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ عَنْهُ، فَقَدْ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. قُلْتُ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُ مَالِكٍ مَحْمُولا عِنْدَهُ عَلَى أَمْرٍ عِنْدَهُ يَرْجِعُ إِلَى الإِسْنَادِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْنَحُ فِيهِ إِلَى(2/110)
التَّأْوِيلِ، وَمَا كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلُهُ مِنَ الأَخْبَارِ الْمُشْكَلَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ رِوَايَتَهُ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلَعَلَّ الْكَرَاهَةَ الْمَرْوِيَّةَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَسِيدُ بْنُ سَعْيَةَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، كَذَا هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أُسَيْدٌ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ.
وَجَهَشْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَأَجْهَشْتُ: أَسْرَعْتُ مُتَبَاكِيًا، وَيَعْنِي بِالأَرْفِعَةِ: السَّمَوَاتِ، قَالَ ابْن دُرَيْدٍ: كَذَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «سَبْعَةُ أَرْفِعَةٍ» عَلَى لَفْظِ التَّذْكِيرِ، عَلَى مَعْنَى:
السّقفِ، قَالَ الْفَسَوِيُّ: وَمَثَلُ تَسْمِيَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْجَرْبَاءِ، تَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهَا بِالرّفيعِ، قَالَ ابْن الأَعْرَابِيِّ: سَمَّوْهَا بِالرّفيعِ لأَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِالنُّجُومِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالأَجْرَبُ خِلافُ الأَمْلَسِ.
وَالْمَرْأَةُ الْمَقْتُولَةُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ اسْمُهَا بنَانَةُ، امْرَأَةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيُّ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَفِي قَتْلِهَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ مِنَ النِّسَاءِ، أَخْذًا بِعُمُومِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ»
وَفِيهِ مَعَ الْعُمُومِ قُوَّةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ وَالتَّبْدِيلِ، وَلا حُجَّةَ مَعَ هَذَا لِمَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِأَنْ لا تُقْتَلَ الْمُرْتَدَّةُ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. قُلْتُ: هُمَا عَامَّانِ تَعَارَضَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَخُصُّ أَحَد الْحَدِيثَيْنِ بِالآخَرِ، فَالْعِرَاقِيُّونَ يَخُصُّونَ
حَدِيثَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ،
بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُهُمْ، وَتَخْصِيصُ الْمُخَالِفُ أَوْلَى لِوَجْهٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلالُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُرْتَدَّة قَطُّ فَعَجِيبٌ، بَلْ هِيَ قَاتِلَةٌ، قَتَلَتْ خَلادَ بْنَ سُوَيْدٍ، وَمُقَاتِلَةٌ بِتَعَاطِيهَا ذَلِكَ، وَنَاقِضَةٌ لِلْعَهْدِ، فَالْعِرَاقِيُّ مُوَافِقٌ لِغَيْرِهِ فِي قَتْلِ هَذِهِ، وَفِي انْفِرَادِهَا بِالْقَتْلِ عَنْ نِسَاءِ بَنِي قُرَيْظَةَ مَا يشعر بأنه لما انفردت بن عَنْهُنَّ مِنْ قَتْلِ خَلادٍ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ حُكْمِ الْمُرْتَدَّةِ فِي وِرْدٍ وَلا صَدْرٍ. وَقَوْلُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، أَلَسْت صَابِرًا قبلَةَ دَلْوٍ نَاضِحٍ هُو عِنْدَ ابْنِ إسحق بِالْفَاءِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْحُرُوفِ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ، إِنَّمَا هُوَ بِالْقَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَابِلُ الدَّلْوِ الَّذِي يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُسْتَقِي. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْحَدِيثَ فِي الأَمْوَالِ إِفْرَاغَةَ دَلْوٍ.(2/111)
سَرِيَّةُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة إِلَى الْقُرَطَاءِ
رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، بَعَثَهُ إِلَى الْقُرَطَاءِ مِنْ هَوَازِنَ.
وَرُوِّينا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: ثُمَّ سَرِيَّةُ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ إِلَى الْقُرَطَاءِ، خَرَجَ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعٍ وخمسين شهرا همن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ فِي ثَلاثِينَ رَاكِبًا إِلَى الْقُرَطَاءِ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ بَنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلابٍ [1] ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ الْبكراتِ بِنَاحِيَةِ ضَرِيَّةَ، وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَضَرِيَّةَ سَبْعُ لَيَالٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، فَسَارَ اللَّيْلَ، وَكَمُنَ النَّهَارَ، وَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ نَفَرًا مِنْهُمْ، وَهَرَبَ سَائِرُهُمْ، وَاسْتَاقَ نَعَمًا وشاء، ولم يعرف لِلظَّعْنِ وَانْحَدَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَمَّسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ، وَفَضَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مَا بَقِيَ، فَعَدَلُوا الْجَزُورَ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَكَانَتِ النَّعَمُ مِائَةً وَخَمْسِينَ بَعِيرًا، وَالْغَنَمُ ثَلاثَةَ آلافِ شَاةٍ، وَغَابَ تِسْعَ عشرة ليلة وقدم ليلة بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ، وَأَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أثَالٍ الْحَنَفِيَّ أُخِذَ فِيهَا وَذَكَرَ حَدِيثَ إِسْلامِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، فثنا لَيْثٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ» قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خير، إن تقتل تقتل ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَيَّ شَاكِر، وإن كنت تريد المال
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات: وهم بطن من بني بكر من كلاب.(2/112)
فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ»
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، والله ما كان في الأَرْضِ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ الحديث [1] .
والقرطاء: قُرْطٌ وَقَرِيطٌ وَقُرَيْطٌ، بَنُو عَبْدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ كِلابٍ، مِنْ قَيْسِ غَيْلانَ، ذَكَرَهُ الرشاطِيُّ، قَالَ: وَذَكَر الطَّبَرِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَةَ، وَهِيَ مِنَ الْقُرَطَاءِ مِنْ بَنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلابٍ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُ هَذِهِ النِّسْبَة مُحَمَّد بْن الْقسم بْن شَعْبَانَ الْقُرَظِيُّ الْفَقِيهُ، لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ مِصْرِيٌّ، وَقَدْ ذكره الأمير.
__________
[ (1) ] أنظر صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه (3/ 1386) رقم 1764.(2/113)
سَرِيَّةُ عَبْد اللَّهِ بْن عَتِيكٍ لِقَتْلِ أَبِي رَافِعٍ سَلامِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ
وَاسْتَأْذَنَ نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِ، ذَبًّا عَنِ اللَّه وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَشَبُّهًا بِالأَوْسِ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ قَتْلِ ابْن الأَشْرَفِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يَتَنَافَسُونَ فِيمَا يُزَلِّفُ إِلَى اللَّه وَإِلَى رَسُولِهِ، وَكَانَ ابْن أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَزْرَجِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ خَمْسَة نَفَرٍ: عَبْد اللَّهِ بْن عَتِيكٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَعَبْد اللَّهِ بْن أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَخُزَاعِيُّ بْنُ أَسْوَدَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَسْلَمَ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمُ ابْنَ عَتِيكٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً، فَخَرَجُوا حَتَّى إِذَا قَدِمُوا خَيْبَرَ، أَتَوْا دَارَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ لَيْلا، فَلَمْ يَدْخُلُوا بَيْتًا فِي الدَّارِ إِلَّا أَغْلَقُوهُ عَلَى أهله [1] قال: وكان في علية لها إِلَيْهَا عَجَلَة، قَالَ: فَأَسْنَدُوا فِيهَا، حَتَّى قَامُوا على بابه، فاستأذنوا [عليه] [2] ، فخرجت إليهم امرأة فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ نلتمس الميرة، قَالَتْ: ذَاكُمْ صَاحِبُكُمْ فَادْخُلُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا أَغْلَقْنَا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ الْحُجْرَةَ تَخَوُّفًا أَنْ يَكُونَ دُونَهُ مُحَوَّلَة تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ [3] قَالَ: وَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَنَوَّهَتْ بِنَا، قَالَ: وَابْتَدَرْنَاهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَسْيَافِنَا، وَاللَّهِ مَا يَدُلُّنَا عَلَيْهِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ إِلَّا بَيَاضُهُ، كَأَنَّهُ قُبْطِيَّةٌ مُلْقَاةٌ، قَالَ: وَلَمَّا صَاحَتْ بِنَا امْرَأَتُهُ، جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَرْفَعُ عَلَيْهَا سَيْفَهُ، ثُمَّ يَذْكُرُ نَهْيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُفُّ يَدَهُ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَفَرَغْنَا مِنْهَا بِلَيْلٍ، قَالَ:
فَلَمَّا ضَرَبْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا، تَحَامَلَ عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَنْفَذَهُ، وهو يقول: قطني قَطْنِي، أَيْ: حَسْبِي حَسْبِي، قَالَ: وَخَرَجْنَا، وَكَانَ عبد الله بن عتيك رجلا
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فلم يدعو بيتا في الدار إلا أعلقوه على أهله.
[ (2) ] زيت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] وعند ابن هشام: أن تكون دونه محاولة تحول بيننا وبينه.(2/114)
سيء البصر، فوقع من الدرجة فوثئت يده وثأ شَدِيدًا- وَيُقَالُ: رِجْلُهُ، فِيمَا قَالَ ابْن هِشَامٍ وَغَيْرُهُ- قَالَ: وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَأْتِيَ مَنْهَرًا مِنْ عُيُونِهِمْ فَنَدْخُلُ فِيهِ، قَالَ: فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ، وَاشْتَدُّوا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَ [1] ، حَتَّى إِذَا يَئِسُوا رَجَعُوا إِلَى صَاحِبِهِمْ، فَاكْتَنَفُوهُ يَقْضِي بَيْنَهُمْ. قَالَ: فَقُلْنَا: كَيْفَ لَنَا بِأَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ مَاتَ؟ قَالَ:
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: أَنَا أَذْهَبُ فَأَنْظُرُ لَكُمْ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ فِي النَّاسِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهَا [2] وَرِجَالُ يَهُودَ حَوْلَهَا، وَفِي يَدِهَا الْمِصْبَاحُ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَتُحَدِّثُهُمْ وَتَقُولُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ ابْن عَتِيكٍ ثُمَّ أكذبَتْ قُلْتُ: أَنَّى ابْنُ عَتِيكٍ بِهَذِهِ الْبِلادِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ [3] [ثم قالت: غاظ وإله يَهُودُ] [4] ، فَمَا سَمِعْتُ كَلِمَةً أَلَذَّ إِلَى نَفْسِي مِنْهَا [5] ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَنَا فَأَخْبَرَنَا الْخَبَرَ، فَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا،
فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَخْبَرَنَاه بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّه، وَاخْتَلَفْنَا عنده في قتله، كلنا يدعيه، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاتُوا أَسْيَافَكُمْ» فَجِئْنَاهُ بِهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَسَيْفُ عَبْد اللَّهِ بْن أُنَيْسٍ: «هَذَا قَتَلَهُ، أَرَى فِيهِ أَثَرَ الطَّعَامِ» .
قَالَ ابْن سَعْدٍ: هِيَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ، قَالَ: وَقَالُوا: كَانَ أَبُو رَافِعٍ قَدْ أُجْلِبَ فِي غَطَفَان وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَجُعِلَ لَهُمُ الْجعْلُ الْعَظِيمُ لِحَرْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ ابْن عُقْبَةَ فِيمَنْ قُتِلَ أَبَا رَافِعِ: أسَعْد بْن حَرَامٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرَهُ.
وَالْعجلةُ: دَرَجَةٌ مِنْ نَخْلٍ، قاله القتبي.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: يطلبوننا.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فوجدت امرأته.
[ (3) ] وعند ابن هشام: ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه.
[ (4) ] وردت في الأصل: ثم قال: قاض والله يهود، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] وعند ابن هشام: فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفس فيها.(2/115)
إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما
روينا عن ابن إسحق قَالَ: وحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ قَالَ: وَلَمَّا انْصَرَفْنَا مَعَ الأَحْزَابِ عَنِ الْخَنْدَقِ، جَمَعْتُ رِجَالا من قريش، كانوا يرون رأي وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنِّي أَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَمْرًا فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَاذَا رَأَيْتَ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ أَنْ نَكُونَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ [1] ، فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يديه أحب إلينا من أَنْ نَكُونَ تَحَتْ يَدَيْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا، فَلَنْ يَأْتِيَنَا مِنْهُمْ إِلَّا خَيْرٌ، قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّأْيَ، قلت: فأجمعوا ما نهذي [2] له وكان أحب ما يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ [3] ، فَجَمَعْنَا لَهُ أدما كثيرا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ، إِذْ جَاءَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدَهُ، قَالَ: قُلْتُ لأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لَوْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ [4] فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رسول محمد قال: فدخلت عليه، فسجدت له كَمَا كُنْتُ أَصَنْعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي [5] مِنْ بِلادِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أيها الملك، قد أهديت لك [6]
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده.
[ (2) ] وعند ابن هشام: ما نهديه.
[ (3) ] أي الجلد.
[ (4) ] وعند ابن هشام: لو قد دخلت على النجاشي.
[ (5) ] وعند ابن هشام: إليّ.
[ (6) ] وعند ابن هشام: إليك.(2/116)
أدما كثيرا، قال: ثم قربته إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَاشْتَهَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الملك: أني قد رأيت رجلا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا، فَأَعْطِنِيهِ لأَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنَّا مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا [1] قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ مَدَّ يده فضرب بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَهُّ قَدْ كَسَرَهُ، فَلَوِ انْشَقَّتْ لِي الأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرْقًا مِنْهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ، قَالَ: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي عَلَى مُوسَى لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَكَذَاكَ هُوَ؟ قَالَ:
وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلْيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، قَالَ: قلت: [أفتبايعني] [2] عَلَى الإِسْلامِ؟ قَالَ، نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وَقَدْ حَالَ رَأْيِي عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَكَتَمْتُ أَصْحَابِي إِسْلامِي.
ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُسْلِمَ، فَلَقِيتُ خَالِدَ بْن الْوَلِيدِ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقَامَ الْمِيسَمُ [3] ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، اذْهَبْ وَاللَّهِ فَأَسْلِمْ، فَحَتَّى مَتَى؟ قَالَ: قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا جِئْتُ إِلَّا لأُسْلِمَ،
قَالَ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ ثُمَّ دَنَوْتُ فَقُلْتُ: يَا رسول الله أنا أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ أَذْكُرْ مَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عَمْرُو بَايِعْ، فَإِنَّ الإِسْلَامَ يَجُبُّ [4] مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهَا» قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحق: وحدتني مَنْ لا أَتَّهِمُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ كَانَ مَعَهُمَا.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ حَدِيثَ عَمْرٍو هَذَا، وَقَالَ: وَقَدِمَ مَعَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، صَحِبَهُمَا فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، قَالَ عَمْرٌو: كُنْتُ أَسَنَّ منهما، فأردت
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
[ (2) ] وردت في الأصل: أفتنا يعني وهي تحصيف، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] وعند ابن هشام: المنسم.
[ (4) ] وعند ابن هشام: قال ابن هشام: ويقال: فإن الإسلام يحت ما كان قبله، وإن الهجرة تحت ما كان قبلها.(2/117)
أَنْ أَكِيدَهُمَا، فَقَدَّمْتُهُمَا قَبْلِي لِلْمُبَايَعَةِ، فَبَايَعَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أن يُغْفَرَ لَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِمَا، وَأَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي أَنْ أَذْكُرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، فَلَمَّا بَايَعْتُ قُلْتُ: عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَأُنْسِيتُ أَنْ أَقُولَ مَا تَأَخَّرَ.
قَوْلُهُ: قَدِ اسْتَقَامَ الْمِيسَمُ: أَيْ ظَهَرَتِ الْعَلامَةُ، وَمَنْ رَوَاهُ الْمَنْسِمُ: بِالنُّونِ أَرَادَ الطَّرِيقَ.(2/118)
غزوة بني لحيان
هِيَ عِنْدَ ابْن سَعْدٍ لِغُرَّةِ هِلالِ شَهْرِ ربيع الأول سنة ست [1] ، وقال ابن إسحق:
وَخَرَجَ- يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جُمَادَى الأُولَى عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ فَتْحِ قُرَيْظَةَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ، يَطْلُبُهُمْ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ: خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الشَّامَ لِيُصِيبَ مِنَ الْقَوْمِ غرَّةً [2] ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قَالَ ابْن هِشَامٍ حَتَّى أَتَى مَنَازِلَ بَنِي لحيان [3] ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الْجِبَالِ،
فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْطَأَهُ مِنْ غرتِهِمْ مَا أَرَادَ قَالَ: «لَوْ أَنَّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ، لَرَأَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّا قَدْ جِئْنَا مَكَّةَ» فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى نَزَلَ عُسْفَانَ، ثُمَّ بَعَثَ فَارِسَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَا كراع الغميم [4] ، ثم كر وَرَاحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلا، فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه:
آئبون تَائِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ.
وَالْحَدِيثُ عَنْ غَزْوَةِ بَنِي لَحْيَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْن قَتَادَةَ، وَعَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن كَعْبِ بْن مَالِكٍ. وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ لِتَسْمَعَ بِهِ قُرَيْشٌ فَيَذْعَرَهُمْ، فَأَتَوُا الْغَمِيمَ، ثم رجعوا ولم يلقوا أحدا.
__________
[ (1) ] انظر طبقات ابن سعد (2/ 78) .
[ (2) ] وعند ابن هشام: فخرج من المدينة صلّى الله عليه وسلّم ...
[ (3) ] وعند ابن هشام: قال ابن إسحاق: فسلك على غراب، جبل بناحية المدينة،. على طريقه الشام، ثم على محيص، ثم على البتراء، ثم صفق ذات اليسار، فخرج على بين، ثم على صحيرات اليمام، ثم استقام الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذ السير سريعا حتى نزل على غران، وهي منازل بني لحيان، وغران واد بين أمج وعسفان إلى بلد يقال له: سارته ...
[ (4) ] وهو واد بين مكة والمدينة، بينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو قدام عسفان بثمانية أميال، يضاف هذا الكراع إليه، وهو جبل أسود بطرف الحرة يمتد إليه، (انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/ 66) .(2/119)
غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ- وَيُقَالُ لَهَا: غَزْوَةُ الْغَابَةِ-
قال ابن إسحق: ثُمَّ قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَقِمْ بِهَا إِلَّا لَيَالِي قَلائِلَ، حَتَّى أَغَارَ عُيَيْنَة بْن حِصْن بْنِ حُذَيْفَةَ بْن بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ فِي خَيْلٍ مِنْ غَطَفَان، عَلَى لقَاحِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَابَةِ، وَفِيهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَامْرَأَةٌ لَهُ، فَقَتَلُوا الرَّجُلَ، وَاحْتَمَلُوا الْمَرْأَةَ فِي اللِّقَاحِ.
فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ، وَمَنْ لا أتهم، عن عبد الله بن كعب بْنِ مَالِكٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ بَعْضَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَذَرَ بِهِمْ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الأَكْوَعِ غَدَا يُرِيدُ الْغَابَةَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ وَنَبْلَهُ، وَمَعَهُ غُلامٌ لِطَلْحَةَ بْن عُبَيْد اللَّهِ، مَعَهُ فَرَسٌ لَهُ يَقُودُهُ، حَتَّى إِذَا عَلا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، نَظَرَ إِلَى بَعْضِ خُيُولِهِمْ، فَأَشْرَفَ إِلَى ناحية سلع، ثم صرخ: وا صباحاه، ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، وَكَانَ مِثْلَ السَّبُعِ، حَتَّى لَحِقَ الْقَوْمَ، فَجَعَل يَرُدُّهُمْ بِالنَّبْلِ، وَيَقُولُ إِذَا رَمَى:
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ، فَإِذَا وُجِّهَتِ الْخَيْلُ نَحْوَهُ انْطَلَقَ هَارِبًا، ثُمَّ عَارَضَهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الرَّمْي رَمَى، ثُمَّ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْن الأَكْوَعِ: الْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ، قَالَ: فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أوكيعنا هُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ.
قَالَ: وَبَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَاحُ ابْنِ الأَكْوَعِ، فَصَرَخَ فِي الْمَدِينَةِ: الْفَزَعَ الْفَزَعَ [1] ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفُرْسَانِ: الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو- وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ- ثُمَّ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَعْد بْن زَيْدٍ، أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، يَشُكُّ فِيهِ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَمُحْرِز بْنُ نَضْلَةَ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأَبُو عَيَّاشٍ عُبَيْدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ صامت، أخو بني
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/120)
زُرَيْقٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ حَتَّى أُلْحِقَكَ بِالنَّاسِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ لأَبِي عَيَّاشٍ: يَا أَبَا عَيَّاشٍ، لَوْ أَعْطَيْتُ هَذَا الْفَرَسَ رَجُلا هُوَ أَفْرَسُ مِنْكَ فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ، فَقَالَ أَبُو عَيَّاشٍ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَفْرَسُ النَّاسِ، ثُمَّ ضَرَبْتُ الْفَرَسَ، فَوَاللَّهِ مَا جَرَى بِي خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتَّى طَرَحَنِي، فَعَجِبْتُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَوْ أَعْطَيْتُهُ أَفْرَسَ مِنْكَ» وَأَنَا أَقُولُ: أَنَا أَفْرَسُ النَّاسِ،
فَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَعْطَى فَرَسَ أَبِي عَيَّاشٍ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ، أَوْ عَائِذَ بْنَ مَاعِصِ بْنِ قَيْس بْن خَلْدَةَ، وَكَانَ ثَامِنًا. كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ وَأَخَاهُ عَائِذًا قُتِلا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَعُدُّ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ أَحَدَ الثَّمَانِيَةِ، وَيَطْرَحُ أُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَلَمَةُ يَوْمَئِذٍ فَارِسًا، قَدْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَحِقَ بِالْقَوْمِ عَلَى رِجْلَيْهِ، فَخَرَجَ الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا.
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أَوَّلَ فَارِسٍ لَحِقَ بِالْقَوْمِ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِمُحْرِزٍ: الأَخْرَمُ، وَيُقَالُ لَهُ: قُمَيْرٌ، وَأَنَّ الْفَزَعَ لَمَّا كَانَ جَالَ فَرَسٌ لِمَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْحَائِطِ حِينَ سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ، وَكَانَ فَرَسًا صَنِيعًا [1] جَامًّا، فَقَالَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ حِينَ رَأَيْنَ الْفَرَسَ يَجُولُ فِي الْحَائِطِ بِجِذْعِ نَخْلٍ هُوَ مَرْبُوطٌ بِهِ: يَا قُمَيْرُ، هَلْ لَكَ فِي أَنْ تَرْكَبَ هَذَا الْفَرَسَ، فَإِنَّهُ كَمَا تَرَى، ثُمَّ تَلْحَقَ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَعْطَيْنَهُ إِيَّاهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبثْ أَنْ بَذَّ الْخَيْل لِجِمَامِهِ [2] حَتَّى أَدْرَكَ الْقَوْمَ فَوَقَفَ لَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: قِفُوا يَا مَعْشَرَ بَنِي اللَّكِيعَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَدْبَارِكُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، قَالَ: وَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ، وَجَالَ الْفَرَسُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى أريِهِ [3] فِي بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُهُ.
قَالَ ابْن هِشَامٍ: قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُحَرِّزٍ، وَقَّاصُ بن محرز الْمُدْلِجِيُّ [4] فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العلم. قال ابن إسحق: ولما تلاحقت الخيل
__________
[ (1) ] أي يخدم ويعتنى به.
[ (2) ] أي استعاد نشاطه وراحته.
[ (3) ] موضع ربط الدابة.
[ (4) ] وفي الإستيعاب: وقاص بن مجزز المدلجي.(2/121)
قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَة بْن حِصْنٍ، وَغَشَاهُ بُرْدَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالنَّاسِ، وَأَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْن أُمِّ مَكْتُومٍ فِيمَا قَالَ ابْن هِشَامٍ، فَإِذَا حَبِيبٌ مُسَجَّى بِبُرْدِ أَبِي قَتَادَةَ،
فَاسْتَرْجَعَ النَّاسُ وَقَالُوا: قُتِلَ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ، وَلَكِنَّهُ قَتِيلٌ لأَبِي قَتَادَةَ، وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَهُ لِتَعْرِفُوا أَنَّهُ صَاحِبُهُ»
وَأَدْرَكَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَوْبَارًا، وَابْنَهُ عَمْرَو بْنَ أَوْبَارٍ، وَهُمَا عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، فَانْتَظَمَهُمَا بِالرُّمْحِ فَقَتَلَهُمَا جَمِيعًا، وَاسْتَنْقَذُوا بَعْضَ اللقَاحِ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلَ بِالْجَبَلِ مِنْ ذِي قَرَدٍ، وَتَلاحَقَ بِهِ النَّاسُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً،
وقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لو سرحتني في مائة رجلا لاسْتَنْقَذْتُ بَقِيَّةَ السَّرْحِ، وَأَخَذْتُ بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بَلَغَنِي: «إِنَّهُمُ الآنَ لَيَغْبِقُونَ [1] فِي غَطَفَان» .
فَقَسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَصْحَابِهِ، فِي كُلِّ مِائَةٍ رَجُلٍ جَزُورًا، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ [2] ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةُ الْغِفَارِيِّ عَلَى نَاقَةٍ [3] مِنْ إِبِلِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَلَمَّا فَرَغَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إني قد نذرت الله أَنْ أَنْحَرَهَا إِنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا، قَالَ: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
«بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا، إِنْ حَمَلَكِ اللَّهُ عَلَيْهَا وَنَجَّاكِ بِهَا ثُمَّ تَنْحَرِينَهَا، لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه، وَلا فِيمَا لا تَمْلِكِينَ، إِنَّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إِبِلِي، ارْجِعِي إِلَى أهلك على بركة الله» .
وَالْحَدِيثُ عَنِ امْرَأَةِ الْغِفَارِيِّ وَمَا قَالَتْ وَمَا قَالَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَقَالَ ابْن عُقْبَةَ: كَانَ رَئِيسَ الْقَوْمِ- يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- مَسْعَدَةُ الْفَزَارِيُّ، وَهُوَ عِنْدَهُ قَتِيلُ أَبِي قَتَادَةَ، وَفِيهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لِتَعْرِفُوهُ فَتُخَلُّوا عَنْ قَتِيلِهِ وَسَلَبِهِ»
ثُمَّ إِنَّ فَوَارِسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكُوا الْعَدُوَّ وَالسّرحَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، وَاسْتَنْقَذُوا السَّرْحَ، وَهَزَمَ اللَّه تَعَالَى الْعَدُوَّ، وَيُقَالُ: قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ قرفةَ امْرَأَةَ مَسْعَدَةَ، وَأَمَّا ابْن سَعْدٍ فَقَالَ: وَقَتَلَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَة بْن حِصْنٍ، وَقرفَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْن عُقْبَةَ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأَخْرَمُ [4] مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ قَتَلَهُ أَوْبَارٌ.
كَذَا قَالَهُ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: آثَارٌ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ: آبَارٌ، فَشَدَّ عُكَّاشَة بن محصن
__________
[ (1) ] أي يشربون لبن العشي.
[ (2) ] وعند ابن هشام: حتى قدم المدينة.
[ (3) ] قيل: هي العضباء.
[ (4) ] وقيل: الأجدع.(2/122)
فَقَتَلَ أَوْبَارًا وَابْنَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ عَنِ الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عُقْبَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ اللقاحَ عِشْرُونَ، فَأَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَة فِي لَيْلَةِ الأَرْبَعَاءَ فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا فَاسْتَاقُوهَا، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ فِيهَا، وَقَتَلُوا ابْن أَبِي ذَرٍّ، وَجَاءَ الصّريخُ فَنَادَى:
الْفَزَعَ الْفَزَعَ، فَنُودِيَ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نُودِيَ بها.
قلت: قدم تَقَدَّمَ عَنْ قَتَادَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَائِذٍ النِّدَاء بِيَا خَيْلَ اللَّه ارْكَبِي فِي وَقْعَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهِيَ قَبْلَ هَذِهِ عِنْدَهُمْ، وَرَكِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج غَدَاةَ الأَرْبَعَاءِ فِي الْحَدِيدِ مُقَنَّعًا فَوَقَف،
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ الْمِقْدَاد بْن عَمْرو، وَعَلَيْهِ الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ شَاهِرًا سَيَفْهُ، فَعَقَدَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً فِي رُمْحِهِ، وَقَالَ: امْضِ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْخَيْلُ»
وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة مِنْ قَوْمِهِ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَذَهَبَ الصَّرِيخُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَتِ الأَمْدَادُ، فَلَمْ تَزَلِ الْخَيْلُ تَأْتِي وَالرِّجَالُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَعَلَى الإِبِلِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ، فَاسْتَنْقَذُوا عَشْرَ لقاحٍ، وَأَفْلَتَ الْقَوْمُ بِمَا بَقِيَ، وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَصَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ صَلاةَ الْخَوْفِ وَأَقَامَ بِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَتَحَسَّبُ الْخَبَرَ، وَقَسَّمَ فِي كُلِّ مائة من أصحابه جزورا ينحرونها، وكانوا خمسمائة، ويقال: سبعمائة، وَبَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِأَحْمَالِ تَمْرٍ، بعشر جَزَائِرَ، فَوَافَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي قُرَدَ.
قَالَ ابْن سَعْدٍ: وَالثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّ سَعْد بْن زَيْدٍ أَمِيرُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ وَلَكِنَّ النَّاسَ نَسَبُوهَا لِلْمِقْدَادِ لِقَوْلِ حَسَّانَ. غداة فوارس المقداد. قلت: وأوله:
ولسر أَوْلادَ اللَّقِيطَةِ أَنَّنَا ... سِلْمٌ غَدَاةَ فَوَارِسِ الْمِقْدَادِ
قَالَ: فَعَاتَبَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: اضْطَرَّنِي الرَّوِيّ إِلَى الْمِقْدَادِ، وَرَجَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَكَانَ قَدْ غَابَ خَمْسَ لَيَالٍ [1] .
وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ: عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَرَبَاحٌ غُلامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجْتُ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، كُنْتُ أريد أن أنديه مَعَ الإِبِلِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ بِغَلَسٍ، أَغَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَل رَاعِيَهَا وخرج
__________
[ (1) ] انظر طبقات ابن سعد (2/ 83) .(2/123)
يَطْرُدُهَا، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِينَ رُمْحًا، وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِينَ بُرْدَةً يَسْتَخِفُّونَهَا، وَلا يَلْقُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ حِجَارَةٌ، وَجَمَعْتُهُ عَلَى طَرِيقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أَنَّهُ جَلاهُمْ عَنْ مَاءِ ذِي قَرَدٍ، وَيُخَلِّفُونَ فَرَسَيْنِ، فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَفِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنَّهُمُ الآنَ يُقِرُّونَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ» قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ فَقَالَ: مُرُّوا عَلَى فُلانٍ الْغَطَفَانِيِّ، فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُورًا، فَلَمَّا أَخَذُوا يَكْشِطُونَ جِلْدَهَا رَأَوْا غُبْرَةً فَتَرَكُوهَا وَخَرَجُوا هُرَّابًا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رِجَالَتِنَا سَلَمَة» فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ الرَّاجِلِ وَالْفَارِسِ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ حَمِيتَ الْقَوْمَ الْمَاءَ وَهُمْ عِطَاشٌ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمُ السَّاعَةَ، فقال: «يا ابن الأكوع ملكت فأسجح» [1] .
ذكر فوائد تتعلق بهذه الواقعة
قَرَدٍ مَفْتُوحُ الْقَافِ وَالرَّاءِ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الضَّمَّ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ: الْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ، يُرِيدُ يَوْمَ هَلاكِ الرُّضَّعِ، وَالرُّضَّعُ اللِّئَامُ، مِنْ قَوْلِهِمْ:
لَئِيمٌ رَاضِعٌ، وَهُوَ الَّذِي يَرْضَعُ الْغَنَمَ وَلا يَحْلِبُهَا، فَيَسْمع صَوْت الْحَلْبِ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، الْمَعْرُوفُ فِيهِ سُكُونُ الضَّادِ، وَرَأَيْتُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ فتحها، وحكى البغوي عن ابن إسحق: مُحْرِزَ بْنَ عَوْنِ بْنِ نَضْلَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ ابن ناضلة.
__________
[ (1) ] انظر صحيح البخاري (5/ 71) : وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ملكت فأسجح» أي قدرت عليهم فارفق بهم.(2/124)
سَرِيَّةُ سَعِيدِ بْن زَيْدٍ إِلَى الْعُرَنِيِّينَ
- وَهِي فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ عِنْدَ ابْن سَعْدٍ- قَالَ ابْن عُقْبَةَ: وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر مِنْ عُرَيْنَةَ، وَعُرَيْنَةُ حَيٌّ مِنْ بَجِيلَةَ، وَكَانُوا مَجْهُودِينَ مَضْرُورِينَ، قَدْ كَادُوا يَهْلِكُونَ، فَأَنْزَلَهُمْ عِنْدَهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُنَحِّيَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى لقاحٍ لَهُ بِفَيْفَاءِ الْخبارِ مِنْ وَرَاءِ الْحمى، فِيهَا مَوْلًى لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْعَى يَسَارًا، فَقَتَلُوهُ ثُمَّ مَثَّلُوا بِهِ، وَاسْتَاقُوا لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِهِمْ، فَأَدْرَكُوا فَوْقَ الْمنقَى، فَأَمَر بِهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَأَمِيرُ الْخَيْلِ يَوْمَئِذٍ:
سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ.
وَتَحَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث كَمَا زَعَمُوا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذَلِكَ عَنِ الْمثل بِالآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [1] هَذِهِ الآيَة وَالَّتِي بَعْدَهَا.
قُرِئَ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ يُوسُفَ الْمَزِّيِّ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَأَخْبَرَكَ أَبُو عَلِيٍّ حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ وَأَقَرَّ بِهِ قَالَ: أَنَا الرَّئِيسُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد بن حنبل قال: أنا أبي، فثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَسْلَمَ نَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوُا [2] الْمَدِينَةَ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لو خرجتم إلى ذود [3] لنا
__________
[ (1) ] سورة المائدة الآية 33.
[ (2) ] أي أصابهم مرض فكرهوا الإقامة في المدينة.
[ (3) ] وهي النوق.(2/125)
فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَلْبَانِهَا» . قَالَ حُمَيْدٌ: وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ: «وَأَبْوَالِهَا» . فَلَمَّا صَحُّوا كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا وَمُسْلِمًا، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَرَبُوا مُحَارِبِينَ، فَأَرْسَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثَارِهِمْ، فَأَخَذُوا فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيَّ، فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَأَسَرُوهُمْ وَرَبَطُوهُمْ وَأَرْدَفُوهُمْ عَلَى الْخَيْلِ حَتَى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَكَانَتِ اللّقَاحُ خَمْسَ عَشْرَةَ غِزَارًا، فَرَدُّوهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَفَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا لِقْحَةً تدعى: الحناء، فسأل عنها فقيل:
نحروها.
ذكر فوائد تتعلق بهذا الخبر
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ، وَرُوِيَ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ عَلَى الشَّكِّ، وَرُوِيَ مِنْ عُكل وَعُرَيْنَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَرُوِيَ أَنَّ نَفَرًا قَدِمُوا وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ أَيِّ قَبِيلَةٍ هُمْ. وَالْكُلُّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَأَمَّا عُرَيْنَةُ فَفِي بَجِيلَةَ وَقُضَاعَةَ، فَالَّذِي في بجيلة عرينة ابن نَذِيرِ بْنِ قَسْرِ بْنِ عَبْقَرٍ، وَعَبْقَرٌ أُمُّهُ بَجِيلَةُ، قَالَهُ الرشاطِيُّ، قَالَ: وَمِنْهُمُ الرَّهْطُ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى إِبِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ، وَالْعَرَنُ حِكَّةٌ تُصِيبُ الْفَرَسَ وَالْبَعِيرَ فِي قَوَائِمِهِمَا.
وَأَمَّا عُكْلٌ، فَفِي الرّبابِ، وَعُكْلٌ: امْرَأَةٌ حَضَنَتْ بَنِي عَوْفِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَيْس بْن عَوْفِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنَ الرّبابِ، حَكَى ابْن الْكَلْبِيِّ قَالَ: وَلَدَ عَوْفُ بن وائل الحرث، وجشما، وَسَعْدًا، وَعَلِيًّا، وَقَيْسًا، وَأُمُّهُمُ ابْنَةُ ذِي اللّحْيَةِ مِنْ حِمْيَرَ، وَحَضَنَتْهُمْ عُكْلٌ أَمَةٌ لَهُمْ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْن دُرَيْدٍ اشْتِقَاقُ عُكْلٍ مِنْ عَكَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَكُونُ مِنْ عَكَلَ يَعْكِلُ، إِذَا قَالَ بِرَأْيِهِ، مِثْل: حَدَسَ، وَرَجُلٌ عُكْلِيٌّ: أَيْ أَحْمَقُ، مِنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ خُزَيْمَةُ بْنُ عَاصِمِ بْن قطنِ بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُبَادَةَ بْنِ سَعْد بْن عَوْفٍ الْمَذْكُورُ، لَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو عُمَرَ وَلا نَسَبَهُ ابْنُ فَتْحُونٍ قَالَهُ الرشاطِيُّ.
وَقَوْلُهُ: فَاجْتَوَوُا المدينة: قال ابن سيده: وجوى الأرض جوى وَاجْتَوَاهَا لَمْ تُوَافِقْهُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ شَكُّوا أَجْوَافَهُمْ. وَأَبْوَالُ الإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلاجِ الاسْتِسْقَاءِ إِبِلِ البادية التي ترعى الشيخ وَالْقَيْصُومَ. وَقَوْلُ ابْن عُقْبَةَ: وَذَكَرُوا أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذَلِكَ عَنِ الْمثل، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَأَى ذلك،(2/126)
وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآيَةَ، وَبِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ شَيْءٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ هذا لأنه مختلف في سبب نزوله هَذِهِ الآيَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ لِنُزُولِهَا قِصَّةً غَيْرَ هَذِهِ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا تُشْعِرُهُ لَفْظَةُ «إِنَّمَا» مِنَ الاقْتِصَارِ فِي حد الخرابة [1] عَلَى مَا فِي الآيَةِ، وَأَمَّا مَنْ زَادَ على الخرابة جِنَايَاتٍ أُخَرَ كَمَا فَعَلَ هَؤُلاءِ، حَيْثُ زَادُوا بِالرّدةِ، وَسَمْلِ أَعْيُنِ الرِّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَدْ رُوِّينَا فِي خَبَرِهِمْ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهْمُ قَطَعُوا يَدَ الرَّاعِي وَرِجْلَهُ، وَغَرَسُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ [2] ، فَلَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ، وَالزِّيَادَةِ فِي عُقُوبَتِهِمْ، فَهَذَا قِصَاصٌ لَيْسَ بِمُثْلَةٍ، وَالْمُثْلَةُ مَا كان ابتداء من غَيْرِ جَزَاءٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ جَمِيعًا، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ غَيْلانَ وَثَّقَهُمَا النَّسَائِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَيْمِيِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ الْعُرَنِيِّينَ لأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرّعَاءِ، وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا جَنَى عَلَى قَوْمٍ جِنَايَاتٍ فِي أَعْضَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَاقْتَصَّ مِنْهُمْ لِلْمَجْنِي عَلَيْهِمْ لما كَانَ التَّسْوِيَةُ الَّتِي حَصَلَ بِهِ مِنَ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيّ عَنْهَا.
وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ الأَقْوَالُ وَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا الاحْتِمَالُ فَلا نَسْخٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَلَوْلا مَا شَرَطْنَاهُ مِنَ الاخْتِصَارِ لأَوْرَدْنَا طَرَفًا من طرفه ولبسطنا الكلام عليه.
__________
[ (1) ] أي الجنابة.
[ (2) ] انظر طبقات ابن سعد (2/ 93) .(2/127)
غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع
وَهِيَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ عِنْدَ ابْن إسحق، وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ عِنْدَ مُوسَى بْن عُقْبَةَ، وَفِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَالْخَنْدَقُ بَعْدَهَا عِنْدَهُ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ.
قَالَ ابن إسحق: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ له، وقائدهم الحرث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحرث، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِهِمْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ [1] يُقَالُ لَهُ: الْمُرَيْسِيعُ، مِنْ نَاحِيَةِ قَدِيدٍ إِلَى السَّاحِلِ، فَتَزَاحَفَ النَّاسُ وَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقُتِل مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عَلَيْهِ [2] .
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ الأَسْلَمِيَّ يَعْلَمُ عِلْمَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ، وَلَقِيَ الحرث بْنَ أَبِي ضِرَارٍ وَكَلَّمَهُ، وَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ [3] .
وَثَوَّبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس إِلَيْهِمْ، وَأَسْرَعُوا الْخُرُوجَ، وَقَادُوا الْخَيْلَ، وَهِيَ ثَلاثُونَ فَرَسًا، فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا عَشَرَةٌ، وَفِي الأنصار عشرون. واستخلف على
__________
[ (1) ] وعند ابن إسحق حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيغ.
[ (2) ] انظر سيرة ابن هشام (3/ 302) .
[ (3) ] انظر طبقات ابن سعد (2/ 63) .(2/128)
الْمَدِينَةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ وَيُقَالُ:
نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ.
رَجْعٌ إِلَى خَبَرِ ابْنِ سَعْدٍ: وَكَانَ مَعَهُ فَرَسَانِ لِزَازٌ وَالظَّرِبُ [1] ، وَبَلَغَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ وَمَنْ مَعَهُ مَسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ قَدْ قُتِلَ عَيْنُهُ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فسيء لذلك الحرث وَمَنْ مَعَهُ وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَفَرَّقَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَانْتَهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُرَيْسِيعِ، وَهُوَ الْمَاءُ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ قُبَّتَهُ، وَمَعَهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ، فَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَصَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم [أصحابه] [2] ، وَدَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَرَايَةَ الأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ، وَقُتِلَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ، وَأُسِرَ سَائِرُهُمْ، وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ خِلافُ ذَلِكَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بن يحيى، فثنا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ، كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ، قَالَ: فَكتب إِلَيَّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ، قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تَسْعَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى سَبْيَهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ يَحْيَى: أحسبه قال، جورية أَوِ الْبتة ابْنَةَ الْحَارِثِ. وحَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ. وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سَعْدٍ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: الأَوَّلُ أَثْبَتُ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأُسَارَى فَكُتِّفُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ، وَأَمَرَ بِالْغَنَائِمِ فَجُمِعَتْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا شُقْرَانَ مَوْلاهُ، وَجَمَعَ الذّرّيَّةَ ناحية، واستعمل على قسم الخمس وسهمان المسلمين محمية بن جزء الزبيدي [3] ، وكانت الإبل ألفي بغير، وَالشَّاءُ خَمْسَةَ آلافِ شَاةٍ، وَكَانَ السَّبْيُ مِائَتَيْ بيت [4] .
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: وخرج يوم الإثنين ليلتين خلتا من شعبان.
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (3) ] وعند ابن سعد: واقتسم السبي وفرق، وصار في أيدي الرجال، وقسم النعم والشاء، فعدلت الجزور بعشر من الغنم، وبيعت الرثة من يريد، وأسهم للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، ولراجل سهم ...
[ (4) ] وعند ابن سعد: وكان السبي مائتي أهل بيت.(2/129)
وَقَالَ غَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَقَدِمَ المدينة لهلال رمضان.
رجع إلى ابن إسحق: قَالَ: وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ، يُقَالُ لَهُ: هِشَامُ بْنُ صبَابَةَ، أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَتَلَهُ خَطَأً، فَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ، وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ:
جَهْجَاهُ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانُ بْنُ وبرٍ الْجُهَنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلا، فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، وَصَرَخَ الْجَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، فَغَضِبَ عَبْد اللَّهِ بْن أُبَيِّ ابن سَلُولٍ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ، فِيهِمْ: زَيْدُ بن أَرْقَمَ غُلامٌ حَدثٌ، فَقَالَ: أَقَدْ فَعَلُوهَا، أَقَدْ نَافَرُونَا [1] وَكَاثَرُونَا فِي بِلادِنَا، وَاللَّهِ مَا أَعدنَا وَجَلابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ [2] : هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلادَكُمْ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لتحولُوا إِلَى غَيْرِ دَارِكُمْ،
فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَمَشَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ عِنْدَ فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدُوِّهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِأَنَّ مُحَمَّدا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» ، قَالَ: «لا وَلَكِنْ أذن بالرحيل»
[وذلك] [3] في سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، وَقَدْ مشى عبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قُلْتُ مَا قَالَ، وَلا تَكَلَّمْتُ بِهِ، وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا، فَقَالَ مَنْ حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلامُ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرَّجُلُ، حَدْبًا عَلَى ابْن أُبَيٍّ وَدَفْعًا عَنْهُ،
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَارَ، لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحَضِيرِ، فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّه، وَاللَّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ، مَا كُنْتَ تَرُوحُ في مثلها؟
__________
[ (1) ] وعند ابن إسحاق: فقال: أو قد فعلوها. قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا.
[ (2) ] وعند ابن إسحاق: فقال لهم.
[ (3) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/130)
فقال له رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَوَ مَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ: أَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَبْد اللَّهِ بْن أُبَيٍّ» قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قال: «زعم أنه رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ» .
قَالَ: فَأَنْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلَ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْفُقْ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَقْدَ جَاءَ اللَّه بِكَ، وَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخرزَ لِيُتَوِّجُوهُ، فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مُلْكَهُ، ثُمَّ مَتَنَ [1] رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدر يَوَمْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُ الشَّمْسُ [2] ، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ، فلم يلبثوا أن وجودا مَسّ الأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا، وَإِنَّمَا فَعَل ذَلِكَ لِيَشْغِلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْن أُبَيٍّ، ثُمَّ رَاحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ فَوْقَ النَّقِيعِ [3] ، يُقَالُ لَهُ: نَقْعا [4] ،
فَلَمَّا رَاحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ هَبَّتْ عَلَى النَّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ وَتَخَوَّفُوا [5] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَخَافُوهَا، فَإِنَّهَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ» ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ الْيَهُودِ، وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْم،
وَنَزَلَتِ السُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّه فِيهَا الْمُنَافِقيَن فِي ابْن أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا الَّذِي أوفى الله بإذنه» ،
وَبَلَغَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد اللَّهِ بْن أُبَيٍّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ عَبْد اللَّهِ أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي إِنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْن أُبَيٍّ فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَمُرْنِي [6] فَأَنَا أَحْمِلُ لَكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ بِهَا مِنْ رَجُل أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ به غيري فيقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار [7]
__________
[ (1) ] أي سار بهم يومهم أجمع، وعند ابن هشام: ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس.
[ (2) ] وعند ابن هشام: حتى آذتهم الشمس.
[ (3) ] وعن، ابن هشام: فويق النقيع.
[ (4) ] وعند ابن هشام: بعقاء.
[ (5) ] وعند ابن هشام: وتخوفوها.
[ (6) ] وعند ابن هشام: فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به.
[ (7) ] وعند ابن هشام: فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غَيْرِي فَيَقْتُلُهُ، فَلا تَدَعْنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إِلَى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلُ النَّارَ.(2/131)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا» .
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمُ الَّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنِّفُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذلك في شَأْنِهِمْ: «كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ قُلْتَ لِي اقْتُلْهُ لأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتُهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ بركة من أمري. وقد مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ مِنْ مَكَّةَ مُسْلِمًا فِيمَا يُظْهِرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ مُسْلِمًا، وَجِئْتُ أَطْلُبُ دِيَةَ أَخِي [1] ، قُتِلَ خَطَأً، فَأَمَرَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِدِيَةِ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كَثِيرٍ، ثُمَّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا،
فَقَالَ فِي شِعْرٍ يَقُولُهُ:
شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْندًا ... يُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءَ الأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تَلُمُّ فَيَحْمِينِي وطاء المضاجع
حللت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
ثَأَرْتُ بِهِ فَهْمًا [2] وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ
وقال مقَيْس بْن صُبَابَةَ أَيْضًا:
جَلَّلْتُهُ ضَرْبَةً بَاتَتْ لَهَا وَشَلٌ ... مِنْ نَاقِعِ الْجَوْفِ يلوه وَيَنْصَرِمْ
فَقُلْتُ وَالْمَوْتُ تَغْشَاهُ أَسِرَّتُهُ ... لا تَأْمَنَنَّ بَنِي بَكْرٍ إِذَا ظَلَمُوا
قَالَ ابْن هِشَامٍ: وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: يَا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحق: وَأُصِيبَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ نَاسٌ يَوْمَئِذٍ، وَقَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ: مَالِكًا وَابْنَهُ [3] ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قد أصاب منهم سببا كَثِيرًا، فَشَاءَ قَسَّمْتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ فِيمَنْ أصيب يومئذ من السبابا: جُوَيْرِيَة بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ، زَوْجُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
[ (1) ] وَعِنْدَ ابن هشام: وجئتك أطلب دية أخيك.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فهرا.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وَقَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ: مالكا وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلا من فرسانهم يقال له: أحمر أو أحيمر.(2/132)
قَالَ أَبُو عُمَرَ: كَانَ اسْمَهَا بُرَّةُ، فَغَيَّرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماها: جُوَيْرِيَةَ، فَأَرْسَلَ النَّاسُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِذَلِكَ، فَكَانَتْ مِائَة بَيْتٍ، وَأَسْلَمَ بَنُو الْمُصْطَلِقِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَزْيَدَ مِنْ عَامَيْنِ، بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدّقًا، فخرجوا للقائه، فتوهم أنهم خرجوا لقتاله فَفَرَّ رَاجِعًا، وَأَخْبَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَنِّهِ، فَهُمْ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقِتَالِهِمْ، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [1] الآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا.
حَدِيثُ الإِفْكِ
وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ قَالَ أَهْلُ الإِفْكِ فِي عَائِشَةَ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، فثنا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَدِيثِ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا: فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا. وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ.
الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابَ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأَنْزِلُ فِيهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جِذْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عقدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذي كَانُوا يُرَحِّلُونَ بِي، فَاحْتَمَلُوا، هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فيه، وكان النساء إذا ذاك خففا، وَلَمْ يُثَقِّلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ [2] مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عُقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ، فأممت منزلي
__________
[ (1) ] سورة الحجرات الآية 6.
[ (2) ] أي القليل من الطعام.(2/133)
الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ [1] فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلا أُكَلِّمُهُ، وَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ بِي يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ [2] فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، لا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجْعِي أَنِّي لا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي،
إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ» ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ،
فَذَاك الَذِي يُرِيبُنِي، وَلا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي، قَدْ فَرَغْنَا من شأننا، فغثرت أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلا شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ [3] ، أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي
وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَعْنِي سَلَّمَ) ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ» ؟ فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ، ما يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّ مَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عليها، قالت: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ [4] لي دمع ولا أكتحل، بنوم
__________
[ (1) ] أي نزل آخر الليل.
[ (2) ] أي داخلين في شدة الحر.
[ (3) ] بمعنى: يا هذه.
[ (4) ] أي لا ينقطع.(2/134)
حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلُكَ، وَلا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ؟ قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بريرة فقال: إيه بريرة، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ» ؟ قَالَتْ: بَرِيرَةُ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ [1] عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السن، تنام عن عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عبد الله بن أبي ابن سلول قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي» فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ:
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلا صَالِحًا، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ: الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، قَالَتْ: فَمَكَثْتُ يومي ذلك لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لِي دَمْعٌ، يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَلَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ:
«أَمَّا بَعْدُ: يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله، وإن كنت ألمت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى
__________
[ (1) ] أي أعيبه.(2/135)
اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قلص دمعي، حتى ما أحسن مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ، مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ، لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مِثْلا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنَزِّلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ:
فَوَاللَّهِ مَا رَامَ [1] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ [2] حَتَّى أَنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي ينزل عليه، قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «يَا عَائِشَةُ أما والله فَقَدْ بَرَّأَكِ» فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إلا الله. وأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [3] الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فأنزل الله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [4] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ أَمْرِي، قَالَ: «يَا زَيْنَبُ مَاذَا عَلِمْتِ» أَوْ «رَأَيْتِ» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وبصري، وما عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم،
__________
[ (1) ] أي ما برح.
[ (2) ] وهي شدة الحمى.
[ (3) ] سورة النور: الآية 11.
[ (4) ] سورة النور: الآية 22.(2/136)
فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحازب لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الإِفْكِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِي مَرْوَانَ عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا رُمِيَتْ عائشة خرت مغشيا عليها [1] .
ذكر فوائد تتعلق بخبر بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَحَدِيثِ الإِفْكِ
الْمُصْطَلِقُ: هُوَ جُزَيْمَةُ بْنُ كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ. وَالْمُرَيْسِيعُ: مَاءٌ لَهُمْ.
وجهجاه بن مسعود: قال أَبُو عُمَرَ: جَهْجَاهُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرَامٍ، هُوَ صَاحِبُ
حَدِيثِ «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ» ،
وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ قِيلَ فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
الْمُحَدِّثُونَ يَزِيدُونَ فِيهِ الْهَاءَ، وَالصَّوَابُ جَهْجَا دُونَ هَاءٍ، وَجَهْجَاهُ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ وَبِيَدِهِ عَصَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهَا وَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، فَدَخَلَتْ فِيهَا شَظْيَةٌ مِنْهَا، فَبَقِيَ الْجُرْحُ، وَأَصَابَتْهُ الأَكَلَةُ، وَشَدت الْعَصَا، وكانت مضببة، ذكره ابن مسلمة التُّجِيبِيُّ فِي تَارِيخِهِ.
وَسِنَانُ بْنُ وَبْرٍ: بِإِسْكَانِ الباء عند بعضهم، الأموي، وقال أَبُو عُمَرَ: سِنَانُ بْنُ تَيْمٍ، وَيُقَالُ: ابْن وبر، وفي كتاب ابن شيبة: سنان بن أبير. وحكى الأموي عن بن إسحق: سِنَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَيُقَالُ: ابْن وَبْرَةَ.
وَمَتنَ بِالنَّاسِ: قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: سَارُوا سَيْرًا مُمَاتِنًا، أَيْ بَعِيدًا.
وَفِي حَدِيثِ الإِفْكِ: ذَكَرَ صَفْوَان بْن الْمُعَطّلِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ يَكُونُ عَلَى سَاقَةِ الْعَسْكَرِ يَلْتَقِطُ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْمَتَاعِ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ ثَقِيلَ النَّوْمِ، لا يَسْتَيْقِظُ حَتَّى يَرْتَحِلُ النَّاسُ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ امْرَأَةَ صَفْوَانَ اشْتَكَتْ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ أَشْيَاءَ مِنْهَا: أَنَّهُ لا يُصَلِّي الصُّبْحَ،
فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرِؤٌ ثَقِيلُ الرَّأْسِ، لا أَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ» .
وَقُتِلَ صَفْوَانُ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَانْدَقَّتْ رِجْلُهُ يَوْمَ قُتِلَ فَطَاعَنَ بِهَا وَهِيَ منكسرة حتى مات.
__________
[ (1) ] أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي باب حديث الإفك (5/ 55) .(2/137)
وجذع ظَفَارٍ: قَالَ يَعْقُوبُ: مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقَدْ وَقَعَ جذع طعارى، وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ.
وَأُمُّ رُومَانَ: زَيْنَبُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُذَيْنَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ دُهْمَانَ بن الحرث بْنِ غَنْمٍ، كَذَا قَالَ مُصْعَبٌ، وَغَيْرُهُ يُخَالِفُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْعَنْعَنَةِ، وَغَيْرِهِا وَلَم يُدْرِكْهَا، وَمُلَخَّصُ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَنَّ مَسْرُوقًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَالَ: سُئِلَتْ أُمُّ رُومَانَ، فَأَثْبَتَ الْكَاتِبُ صُورَةَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، فَتَصَحَّفَتْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ بِسَأَلْتُ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى صِيغَةِ الإِخْبَارِ بِالْمَعْنَى فِي طَرِيقٍ، وَبَقِيَتْ عَلَى صُورَتِهَا فِي آخَرَ، وَمَخْرَجُهَا التَّصْحِيفُ الْمَذْكَورُ.
وَمِسْطَحٌ: لَقَبٌ، وَاسْمُهُ عَوْفُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. ذَكَرَ الأُمَوِيُّ عَنْ أبيه عن ابن إسحق قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِمِسْطَحٍ:
يَا عَوْفُ ويحك هلا قلت عارفة ... ومن الْكَلامِ وَلَمْ تُتْبِعْ بِهِ طَمَعَا
وَأَدْرَكَتْكَ حَمِيًّا مَعْشَرٌ أُنُف ... وَلَمْ تَكُنْ قَاطِعًا يَا عَوْفُ مُنْقَطِعَا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَحْيًا فِي بَرَاءَتِهَا ... وَبَيْنَ عَوْفٍ وَبَيْنَ اللَّهِ مَا صَنَعَا
فَإِنْ أَعِشْ أجز عوفا عن مقاتله ... شَرَّ الْجَزَاءِ إِذَا أَلْفَيَتُهُ تَبَعَا
قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِينَ رَمَوْا عَائِشَةَ بِالإِفْكِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَرَاءَتِهَا، فَجُلِدُوا الْحَدَّ ثَمَانِينَ فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ.
وَوَقَع فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابن إسحق فِي هَذَا الْخَبَرِ بَدَلَ سَعْد بْن مُعَاذٍ أُسَيْدُ بْنُ حَضِيرٍ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ ذِكْرَ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَهْمٌ، لأَنَّ سَعْدًا مَاتَ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَيَرَى أَنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسحق مِنْ ذِكْرِ أُسَيْدِ بْنِ حَضِيرٍ.
وَلَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَغَازِي عَلَى أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَق وَبَنِي قُرَيْظَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ لَكَانَ الْوَهْمُ لازِمًا لِمَنْ رَآهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَغَازِي كَمَا سَبَقَ فِي هَذِهِ وَغَيْرِهَا. وَرَأَيْتُ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْد اللَّهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخِلافِ إِنَّمَا هُوَ لاخْتِلافٍ فِي التَّارِيخِ: هَلْ هُوَ لِمَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ كَمَا هُوَ عِنْدَ قَوْمٍ، أَوْ لِلْعَامِ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ كَمَا هُوَ عِنْدَ آخَرِينَ، وَذَلِكَ لا يَتِمُّ لأَمْرَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ الَّتِي وَقَعَ الاخْتِلافُ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ نَحْوَ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ،(2/138)
وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الْعَامِ إِلَى رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَزَمَنُ الْخِلافِ أَوْسَعُ مِن ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْغَزْوَةُ عِنْدَ ابْن عُقْبَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ. وَعِنْدَ غيره في شعبان سنة ست.
والثاني: أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ التَّرْتِيبِ عِنْدَهُمْ، فِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَهَذِهِ عِنْدَ ابْن سَعْدٍ وَجَمَاعَةٍ: قبل الخندق، وعند ابن إسحق وَآخَرِينَ: بَعْدَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ الأَوَّلِ وَأَمَّا ابْن سَعْدٍ فَإِنَّهُ يُؤَرِّخُ هَذِهِ الْوَقَائِعِ بِالأَشْهُرِ لا بِالسِّنِينِ.
وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْلِ،
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِقِرَاءَةِ الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمَزِّيُّ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ بِمَرْجِ دِمَشْقَ، قَالَ لَهُ: أَخْبَرَكُمُ الْمُؤَيِّدُ بْنُ الأُخْوَةِ إِجَازَةً مِنْ أَصْبَهَانَ فَأَقَرَّ بِهِ قَالَ: أَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّحَّامِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو سَعْدٍ الْكَنْجَرُوذِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَنَا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ محمد بن إسحق بن خزيمة، فثنا عليّ (هو ابن حجر) فثنا إسماعيل (هو ابن جعفر) فثنا رَبِيعَةُ (هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو صِرْمَةَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَسَأَلَهُ أبو صرمة فقال: يا سَعِيدٍ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْعَزْلَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَسَبَيْنَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ، فَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا لا نَسْأَلُهُ؟
فَسَأَلْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا، مَا كتب اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَتَكُونُ» .
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَفِيهَا سَقَطَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ، فَاحْتُبِسُوا عَلَى طَلَبِهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ.
فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحَضِيرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ الشَّيْبَانِيِّ بِدِمَشْقَ، أَخْبَرَكُمُ الْخَضِرُ بْنُ كَامِلٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ قَالَ: أَنَا أَبُو الدَّرَ يَاقُوتِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ سَمَاعًا «ح» قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: وَأَنَا أَبُو الْيُمْنِ الْكِنْدِيُّ إِجَازَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا قَالَ: أَنَا ابْنُ الْبَيْضَاوِيِّ قَالا: أَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ هزار مرو قال: أنا المخلص، فثنا البغوي، فثنا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مالك عن عبد الرحمن بن القسم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا(2/139)
عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ: مَا هَذَا بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ:
فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ هَذَا مَعْنَى لَفْظِ الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ في معجمه من حديث محمد بن إسحق، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِقْدِي مَا كَانَ، قَالَ أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى، فَسَقَطَ أَيْضًا عِقْدِي حَتَّى حَبَسَ الْتِمَاسُهُ النَّاسَ، وَطَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَقِيتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَا شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّةُ فِي كُلِّ سَفْرَةٍ تَكُونِينَ عَنَاءً وَبَلاءً، وَلَيْسَ مَعَ النَّاسِ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بِالتَّيَمُّمِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةَ إِنَّكِ لَمَا عَلِمْت مُبَارَكَةٌ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْوَاقِعَتَيْنِ كَانَتَا فِي غَزْوَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/140)
سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ إِلَى الْغَمْرِ
قَالَ ابْن سَعْدٍ بَعْدَ ذِكْرِ غَزْوَةِ الْغَابَةِ: وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الأَسَدِيِّ إِلَى الْغَمْرِ، غَمْرِ مَرْزُوقٍ (مَفْتُوحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ سَاكِنِ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٍ مُهْمَلَةٍ) وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي أَسَدٍ [1] . وَكَانَتْ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ [2] . قَالُوا وَجَّهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ إِلَى الْغَمْرِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا، قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْد اللَّهِ. فِيهِمْ ثَابِتٌ بْنُ أَقْرَمَ، وسباعُ بْنُ وَهْبٍ- فَخَرَجَ سَرِيعًا يُغِذُّ السَّيْرَ، وَنَذَرَ بِهِ القوم فهربوا فنزلوا علياء بلادهم، ووجد دِيَارَهُمْ خُلُوفًا [3] ، فَبَعَثَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ طَلِيعَةً، فرأى أثر النعم، فتحملوا فأصابوا ربئة لَهُمْ، فَأَمَّنُوهُ، فَدَلَّهُمْ عَلَى نَعَمٍ لِبَنِي عَمٍّ لَهُ، فَأَغَارُوا عَلَيْهَا، فَاسْتَاقُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَأَرْسَلُوا الرَّجُلَ، وَحَدَرُوا النَّعَمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدِمُوا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَلْقَوْا كَيْدًا [4] .
وَقَالَ ابْن عَائِذٍ: أَمِيرُهُمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، وَمَعَهُ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَقِيطُ بن أعصم، حليف بن عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ مِنْ بُلَيٍّ، فَأُصِيبَ فِيهَا ثَابِتٌ. كَذَا وَجَدْتُ عَنِ الْحَاكِمِ: سباعَ بْنَ وَهْبٍ، وَلَعَلَّهُ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ بعد ذلك.
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: على ليلتين من فيد طريق الأول إلى المدينة.
[ (2) ] وعند ابن سعد: من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
[ (3) ] أي أهلها غائبون.
[ (4) ] أنظر طبقات ابن سعد (2/ 84) .(2/141)
سَرِيَّةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى ذِي الْقصّةِ
- بفتح القاف والصاد المهملة- قَالَ ابْن سَعْدٍ فِي رَبِيعٍ الآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى بَنِي ثعلبة وبني عوان [1] وَهُمْ بِذِي الْقصَّةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلا طَرِيقُ الرَّبَذَةِ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، فَوَرَدُوا عَلَيْهِمْ لَيْلا، فَأَحْدَقَ بِهِمُ الْقَوْمُ، وَهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ، فَتَرَامَوْا سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ حَمَلَتِ الأَعْرَابُ عَلَيْهِمْ بِالرِّمَاحِ فَقَتَلُوهُمْ، وَوَقَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَرِيحًا، فَضَرَبَ كَعْبَهُ فَلا يَتَحَرَّكُ، وَجَرَّدُوهُ [2] مِنَ الثِّيَابِ، وَمَرَّ بمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَهُ حَتَّى وَرَدَ بِهِ المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا إِلَى مَصَارِعِهِمْ [3] فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا، وَوَجَدُوا نَعَمًا وَشَاءً، فَسَاقَهُ وَرَجَعَ [4] . وَذَكَرَ الْحَاكِمُ عَنِ الواقدي نحوه كتاب (الإكليل) .
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: وبني عوال من ثعلبة.
[ (2) ] وعند ابن سعد: وجردوهم.
[ (3) ] وعند ابن سعد: إلى مصارع القوم.
[ (4) ] أنظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 85) .(2/142)
سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقصَّةِ
ثُمَّ سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقصَّةِ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ.
قَالُوا: أُجْدِبَتْ بِلادُ بَنِي ثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارَ، وَوَقَعَتْ سَحَابَةٌ بِالْمرَاضِ إِلَى تغلمِينَ وَالْمرَاضِ، عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ مِيلا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَارَتْ بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك الحسابة، وَأَجْمَعُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ ترْعَى بِهيفَاءَ، مَوْضِعٌ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَلَّوُا الْمَغْرِبَ، فَمَشَوْا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى وَافَوْا ذَا الْقصَّةِ مَعَ عمَايَةِ الصُّبْحِ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ، فَأَعْجَزُوهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ، فَأَصَابَ رَجُلا وَاحِدًا فَأَسْلَمَ وَتَرَكَهُ، فَأَخَذَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ، فَاسْتَاقَهُ وَرثَّةً مِنْ مَتَاعِهِمْ، وَقَدِمَ بِذَلِكَ الْمَدِينَةَ، فَخَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَسَّمَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَائِذٍ: أَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ. وَرَأَيْتُهُ مُقَيَّدًا: بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مَعًا.(2/143)
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ بِالْجمُومِ [1]
ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: وَبَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ الْجمُومِ، فَأَصَابَ زَيْدٌ نَعَمًا وَشَاءً، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: هِيَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ. قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَسَارَ حَتَّى وَرَدَ الْجمُومَ، نَاحِيَةَ بَطْنِ نَخلٍ عَنْ يَسَارِهَا، وَبَطْنِ نخلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ بردٍ، فَأَصَابُوا عَلَيْهِ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ يُقَالُ لَهَا: حَلِيمَةُ، فَدَلَّتْهُمْ عَلَى مَحلَّةٍ مِنْ مَحَالِّ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَصَابُوا فِي تِلْكَ الْمَحلَّةِ نَعَمًا وَشَاءً وَأَسْرَى، فَكَانَ فِيهِمْ زَوْجُ حَلِيمَةَ الْمُزَنِيَّةِ، فَلَمَّا قَفَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِمَا أَصَابَ، وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُزَنِيَّةِ نَفْسَهَا وَزَوْجَهَا، فَقَالَ بِلالُ بن الحرث الْمُزَنِيُّ فِي ذَلِكَ:
لعَمْرُكِ مَا أَخْنَى الْمسُولُ وَلا وَنَتْ ... حَلِيمَةُ حَتَّى رَاحَ رَكْبُهُمَا مَعَا
__________
[ (1) ] الجموم: بفتح الجيم.(2/144)
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
قال ابْنُ سَعْدٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْعيصِ- وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعُ لَيَالٍ، وببينها وَبَيْنَ ذِي الْمَرْوَةِ لَيْلَةٌ- فِي جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سِتٍّ، قَالِوا: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ، بَعَثَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي سَبْعِينَ وَمِائَةِ رَاكِبٍ مُعْتَرِضًا لَهَا. فَأَخَذُوهَا وَمَا فِيهَا، وَأَخَذُوا يَوْمَئِذٍ فِضَّةً كَثِيرَةً لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَسَرُوا نَاسًا مِمَّنْ كَانَ فِي الْعِيرِ، مِنْهُمْ: أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ،
فَاسْتَجَارَ أَبُو الْعَاصِ بِزَيْنَبَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته، ونادت في الناس حين صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ» وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ مِنْهُ.
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الطّرفِ
ثُمَّ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الطّرفِ، وَهُوَ مَاءٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمِرَاضِ دُونَ النَّخِيلِ، عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ مِيلا مِنَ الْمَدِينَةِ [1] .
فَخَرَجَ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَأَصَابَ نَعَمًا وَشَاءً، وَهَرَبَتِ الأَعْرَابُ، وَصَبَّحَ زَيْدٌ بِالنَّعَمِ الْمَدِينَةَ، وَهِيَ عِشْرُونَ بَعِيرًا، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَغَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: أَمِتْ أَمِتْ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْحَاكِمُ: وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ إِلَيْهِمْ.
سَرِيَّةُ زيد بن حارثة إلى حسمي
ثم سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى حِسْمي، وَهِيَ وَرَاءُ وَادِي الْقُرَى، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ ست.
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: طريق البقرة على المحجة.(2/145)
قَالُوا: أَقْبَلَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ، وَقَدْ أَجَازَهُ وَكَسَاهُ، فَلَقِيَهُ الْهنيدُ بْنُ عَارِضٍ، وَابْنُهُ عَارِضُ بْنُ الْهنيدِ- وَعِنْدَ ابن إسحق: عَوَض فِيهِمَا، بَدَل:
عَارِضٍ- فِي نَاسٍ مِنْ جُذَامٍ بِحِسْمي، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يَتْرُكُوا عَلَيْهِ إِلَّا سَمَلَ ثَوْبٍ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي الضَّبِيبِ، فَنَفَرُوا إِلَيْهِمْ، فَاسْتَنْقَذُوا لِدِحْيَةَ مَتَاعَهُ، وَقَدِمَ دِحْيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ زَيْدُ بْنُ حارثة في خمسمائة رَجُلٍ وَرَدَّ مَعَهُ دِحْيَةَ، وَكَانَ زَيْدٌ يَسِيرُ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُ بِالنَّهَارِ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ حَتَّى هَجَمَ بِهِمْ مَعَ الصُّبْحِ عَلَى الْقَوْمِ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا فِيهِمْ، فَأَوْجَعُوا وَقَتَلُوا الْهنيدَ وَابْنَهُ، وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَأَخَذُوا مِنَ النَّعَمِ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَمِنَ الشَّاءِ خَمْسَة آلافِ شَاةٍ، وَمِنَ السَّبْيِ مِائَةً مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ،
فَرَحَلَ زَيْدُ بن رافعة الْجُذَامِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابِهِ الَّذِي كَانَ كتب لَهُ وَلِقَوْمِهِ لَيَالِي قَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تُحَرِّمْ عَلَيْنَا حَلالا، وَلا تَحِلُّ لَنَا حَرَامًا.
قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى؟ قَالَ أَبُو يَزِيدَ بْنُ عَمْرٍو: أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي هَاتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: صدق أبو زيد، فَبَعَثَ مَعَهُمْ عَلِيًّا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ،
يَأْمُرُهُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حرمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فتوجه علي ولقي رفاع بن مكيث الجنهي بَشِيرَ بْنَ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إِبِلِ الْقَوْمِ، فَرَدَّهَا عَلِيٌّ عَلَى الْقَوْمِ، وَلَقِيَ زَيْدًا بِالْفحْلَتَيْنِ وَهِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْمَرْوَةِ، فَأَبْلَغَهُ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ إِلَى النَّاسِ كُلَّ مَا كَانَ أَخَذَ لَهُمْ.
وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ سَعْدٍ أَمْرَ هَذِهِ السرية أطول من هذا.
وحسمي على مثال فِعْلِي، مَكْسُورٌ الأَوَّلِ، قَيَّدَهُ أَبُو عَلِيٍّ مَوْضِعٌ مِنْ أَرْضِ جُذَامٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَاءَ فِي الطُّوفَانِ، أَقَامَ بِهِ بَعْدَ نُضُوبِهِ ثَمَانِينَ سَنَةً. وعند ابن إسحق: أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو، وَعِنْدَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَعَوض قَيَّدَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَوصٌ. وَقَالَ النَّمِرِيُّ: لَيْسَ عَوَضٌ إِلَّا فِي حِمْيَرَ، أَوْ عوضُ بْنُ أرم بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَفِي غَيْرِهِمَا عوصٌ.(2/146)
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى- ثم سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ-
قَالَ ابْنُ عَائِذٍ: وَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: ثُمَّ غَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى [1] : فَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرْدُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَارْتُثَّ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ بَيْنِ وَسَطِ الْقَتْلَى. وَقَالَ غَيْرُهُ:
فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدٌ، آلَى أَنْ لا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلُ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ بَنِي فَزَارَةَ. فَلَمَّا اسْتَبَلَ مِنْ جِرَاحِهِ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ فِي جَيْشٍ، فقتلهم بوادي القرى. وعن ابن إسحق مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بْنَ حَارِثَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَلَقِيَ بِهِ بَنِي فَزَارَةَ، وَأُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْفَلَتَ زَيْدٌ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَأُصِيبَ فِيهَا أحد بني سعد بن هزيم، وأصابه أَحَدُ بَنِي بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ نَذَرَ أَنْ لا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ فَزَارَةَ، فَلَمَّا اسْتَبَلَ جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي جَيْشٍ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَأَصَابَ فِيهِمْ، وَقَتَلَ قَيْسُ بْنُ الْمسحرِ بْنِ النُّعْمَانِ، مَسْعَدَةَ بْنَ حكمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ، وَأَسَرَ: أُمَّ قرفَةَ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ حذيفة بن بدر عجوزا كبيرة وبنت لَهَا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، فَأَمَرَ زَيْدُ بن حارثة أن
__________
[ (1) ] قال الحازمي: هي أرض بالشام، بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ خَمْسُ لَيَالٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ المدينة خمس عشرة ليلة.
قال الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق عن الواقدي: قال: كانت غزوة دومة الجندل أول غزوات الشام، وهي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، ومن الكوفة على عشرة مراحل، ومن دمشق على عشر مراحل في برية، وهي أرض نخل وزرع، يسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة، وزرعهم الشعير، وهي مدينة عليها سور، ولها حصن عادي مشهور في العرب (أنظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/ 108) .(2/147)
تُقْتَلَ أُمُّ قرفَةَ، فَقَتَلَهَا قَتْلا عَنِيفًا، وَرُبِطَ بِرَجْلَيْهَا حَبْلَيْنِ، ثُمَّ رُبِطَا إِلَى بَعِيرَيْنِ شُتَّى حَتَّى شَقَّاهَا. ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَةِ أُمِّ قرفَةَ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعَدَةَ، فَكَانَتْ بِنْتُ أُمِّ قرفَةَ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهَا، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ شَرَفٍ مِنْ قَوْمِهَا.
وكانت الْعَرَبُ تَقُولُ: لَوْ كُنْت أَعَزّ مِنْ أُمِّ قرفَةَ فَسَأَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَهَا لَهُ، فَأَهْدَاهَا لِخَالِهِ حَزَنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن حزن. هكذا ذكر محمد بن إسحق ومُحَمَّد بْن سَعْدٍ، أَنَّ أَمِيرَ هَذِهِ السَّرِيَّةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَقَدْ رُوِّينَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْخَبَرِ مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ الله تعالى.(2/148)
سَرِيَّةُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الجندل
قال ابن سعد: ثم سَرِيَّةُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الجندل في شعبان، سنة ست.
قالوا: دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ، فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «اغْزُ بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّه، فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلا تغل، ولا تغدر، ولا تقتل وليد» . وَبَعَثَهُ إِلَى كَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَقَالَ: «إِنِ استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم،
فأسر عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ حَتَّى قَدِمَ دُومَةَ الْجَنْدَلِ، فَمَكَثَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَأَسْلَمَ الأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَكَانَ رَأْسَهُمْ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ، وأَقَامَ مَنْ أَقَامَ عَلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَتَزَوَّجَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ تُمَاضِرَ بِنْتَ الأَصْبَغِ وَقَدِمَ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ بْن عَبْد الرَّحْمَن. وَذَكَرَ ابْنُ إسحق أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ لِدُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي سَرِيَّةٍ.
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى مَدْيَنَ
وذكر ابن إسحق سَرِيَّةً لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى مَدْيَنَ قَالَ: فأصاب سبيا من أهل منينا وَهِيَ السَّوَاحِلُ وَفِيهَا جِمَاعٌ مِنَ النَّاسِ فَبِيعُوا، فَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ، يَعْنِي بَيْنَ الأُمَّهَاتِ وَالأَوْلادِ، فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يَبْكُونَ، فَقَالَ: «مَا لَهُمْ» ؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: «لا تَبِيعُوهُمْ إِلَّا جَمِيعًا» .
وَكَانَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ ضُمَيْرَةُ مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَخٌ لَهُ.(2/149)
سرية علي بن أبي طالب إلى بني سَعْد بْن بَكْرٍ بِفَدَكٍ [1]
قَالَ ابْن سَعْدٍ عَطْفًا عَلَى سَرِيَّةِ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى بَنْيِ سَعْد بْن بَكْرٍ بِفَدَكٍ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ، قَالُوا: بَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَهُمْ جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَمُدُّوا يَهُودَ خَيْبَرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيًّا فِي مِائَةِ رَجُلٍ، فَسَارَ اللَّيْلَ، وَكَمُنَ النَّهَارَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الغمجِ [2]- وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ خَيْبَرَ، وَفَدَكٍ وَبَيْنَ فَدَكٍ وَالْمَدِينَةِ سِتُّ لَيَالٍ- فَوَجَدُوا بِهِ رَجُلا، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ عَلَى أَنَّكُمْ تُؤَمِّنُونِي، فَأَمَّنُوهُ، فَدَلَّهُمْ، فَأَغَارُوا عليهم، وأخذوا خمسمائة بَعِيرٍ، وَأَلْفَيْ شَاةٍ، وَهَرَبَتْ بَنُو سَعْدٍ بِالظَّعنِ، وَرَأْسُهُمْ وَبْرُ بْنُ عليمٍ، فَعَزَلَ عَلِيٌّ صَفِيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقُوحًا [3] تُدْعَى الْحقدةَ [4] ، ثُمَّ عَزَلَ الْخُمُسَ، وَقَسَّمَ سَائِرَ الْغَنَائِمِ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ بِسَنَدِهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ وَقَالَ: فَأَصَابَ عَيْنًا، وَأَقَرَّ لَهُمْ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى خَيْبَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَصْرَهُمْ، عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ تَمْرَ خَيْبَرَ.
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى أُمِّ قِرْفَةَ بِوَادِي الْقُرَى
ذَكَرَ ابْن سَعْدٍ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ.
قَالَ: قَالُوا: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ دُونَ وَادِي الْقُرَى لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ فَزَارَةَ مِنْ بَنِي بدر، فضربوه
__________
[ (1) ] وهي مدينة بينها وبين مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم مرحلتان، وقيل: ثلاث. (أنظر تهذيب الأسماء واللغات 3/ 77) .
[ (2) ] وعند ابن سعد: الهمج.
[ (3) ] وهي الناقة القريبة العهد بالولادة، نحو شهرين أو ثلاثة.
[ (4) ] وعند ابن سعد: الحفذة.(2/150)
وَضَرَبُوا أَصْحَابَهُ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ، ثُمَّ اسْتَبَلَ [1] زَيْدٌ.
وَذَكَرَ ابْن سَعْدٍ نَحْوَ مَا سبق عن ابن إسحق مِنْ طَرِيقِ ابْنِ بُكَيْرٍ فِي خَبَرِ أُمِّ قِرْفَةَ السَّابِقِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَقَدِمَ زَيْدُ بن حارثة من وجه ذَلِكَ، فَقَرَعَ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى اعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَسَاءَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا ظَفَّرَهُ اللَّه بِهِ. كَذَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ لِزَيْدٍ سَرِيَّتَانِ: بِوَادِي الْقُرَى، إِحْدَاهُمَا: فِي رَجَبٍ وَالثَّانِيَةُ فِي رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا قَالُوا: أَعَزّ مِنْ أُمِّ قِرْفَةَ، لأَنَّهَا كَانَتْ يُعَلَّقُ فِي بَيْتِهَا خَمْسُونَ سَيْفًا كُلُّهُمْ لَهَا ذُو محرمٍ.
وَالْوَاقِدِيُّ يَذْكُرُ أَنَّهَا قُتِلَتْ يَوْمَ بُزَاخَةَ، وَإِنَّمَا الْمَقْتُولُ يَوْمَ بُزَاخَةَ بَنُوهَا التِّسْعَةُ. وَذَكَرَ الدَّوْلابِيُّ أَنَّ زَيْدًا إِنَّمَا قَتَلَهَا كَذَلِكَ لِسَبِّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَا بِابْنَتِهَا أَسِيرًا كَانَ فِي قُرَيْشٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مخالف لما حكيناه عن ابن إسحق، مِنْ أَنَّهَا صَارَتْ لِحَزَنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ. وقَيْسُ بْنُ الْمُسَحّرِ بِتَقْدِيمِ السِّينِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، وَبِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْسِرُهَا. وَوَرْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خِدَاشٍ، وَفِي الأَصْلِ: عَمْرُو بْنُ مِرْدَاسٍ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَعْد بْن هُذَيْمٍ، وَهُوَ سَعْد بْن زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الحافِ بْنِ قُضَاعَةَ، حَضَنَهُ عَبْدٌ اسْمُهُ هُذَيْمٌ فَغَلَبَ عَلَيْهِ. قَالَهُ ابْن الْكَلْبِيِّ.
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْن رَوَاحَةَ أسير بن رازم
وَغَيْرُ ابْنِ سَعْدٍ يَقُولُ: الْيَسِيرُ بْنُ رِزَامٍ الْيَهُودِيُّ بِخَيْبَرَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ.
قَالُوا: لَمَّا قُتِلَ أَبُو رَافِعٍ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحقيقِ، أَمَّرَتْ يَهُودُ عَلَيْهِمْ أسيرَ بْنَ رِزَامٍ، فَسَارَ فِي غَطَفَان وَغَيْرِهِمْ، فَجَمَعَهُمْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَّهَ عَبْد اللَّهِ بْن رَوَاحَةَ فِي ثَلاثَةِ نَفَرٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِرًّا، فَسَأَلَ عَنْ خَبَرِهِ وَغُرَّتِهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ. فَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَنَدَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْتَدَبَ لَهُ ثَلاثُونَ رَجُلا، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ عَبْد اللَّهِ بْن رَوَاحَةَ، فَقَدِمُوا عَلَى أُسَيْرٍ فَقَالُوا:
نَحْنُ آمِنُونَ حَتَّى نَعْرِضَ عَلَيْكَ مَا جِئْنَا لَهُ، قَالَ: نَعَمْ، وَلِي مِنْكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، فَقَالُوا:
نَعَمْ، فَقُلْنَا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنَا إِلَيْكَ لِتَخْرُجَ إِلَيْهِ، فَيَسْتَعْمِلُكَ عَلَى خَيْبَرَ وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ، فَطَمَعَ فِي ذَلِكَ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ ثَلاثُونَ رَجُلا مِنَ الْيَهُودِ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ رَدِيفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إذا كنا بقرقرة ثبار نَدِمَ أُسَيْرٌ، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن أُنَيْسٍ
__________
[ (1) ] أى شفى من إصابته ومرضه.(2/151)
الْجُهَنِيُّ، وَكَانَ فِي السَّرِيَّةِ، وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى سَيْفِي، فَفَطِنْتُ لَهُ، وَدَفَعْتُ بَعِيرِي وَقُلْتُ: غَدْرًا أَيْ عَدُوّ اللَّه، فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَنَزَلْتُ، فسقت بالقوم حتى انفرد لي أُسَيْرٌ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ فَأَنْدَرْتُ عَامَّةَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَسَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ وَبِيَدِهِ مخرشٌ [1] مِنْ شَوْحَطٍ، فَضَرَبَنِي فَشَجَّنِي مَأْمُومَةً، وَمِلْنَا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَتَلْنَاهُمْ كَمَا هُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَعْجَزَنَا شَدًّا. وَلَمْ يُصَبْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ،
ثُمَّ أَقْبَلْنَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحَدَّثَنَاهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: «قَدْ نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
وَقَالَ ابْن عَائِذٍ: أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بْنَ عَتِيكٍ فِي ثَلاثِينَ رَاكِبًا، فِيهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ. وَقَالَ غَيْرُ الْوَلِيدِ: بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ وَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَصَقَ فِي شَجَّتِهِ، فَلَمْ تَقِحْ ولم تؤذه حتى مات. وقال ابن إسحق: إِنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ غَزَا خَيْبَرَ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا الَّتِي أَصَابَ فِيهَا. ابْنَ رِزَامٍ.
سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ وَسَلَمَة بْنِ حَرِيشٍ [2]
وَعِنْدَ ابن إسحق جبارُ بْنُ صَخْرٍ بَدَلَ سَلَمَةَ بْنِ حَرِيشٍ قَالَ ابْن سَعْدٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ: أَلا أَحَدٌ يَغْتَرُّ مُحَمَّدا، فَإِنَّهُ يَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتَ أَجْمَعَ الرِّجَالِ قَلْبًا، وَأَشَدَّهُ بَطْشًا، وَأَسْرَعَهُ شَدًّا، فَإِنْ أَنْتَ قَوَّيْتَنِي خَرَجْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أَغْتَالَهُ، وَمَعِي خِنْجَرٌ مِثْلُ خَافِيَةِ النسر فأسوره، ثم آخذه في غبر وَأَسْبِقُ [3] الْقَوْمَ عَدْوًا، فَإِنِّي هَادٍ بِالطَّرِيقِ خِرِّيت [4] . قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُنَا، فَأَعْطَاهُ بَعِيرًا وَنَفَقَةً وَقَالَ: اطْوِ أَمْرَكَ، فَخَرَجَ لَيْلا، فَسَارَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خَمْسًا، وَصَبَّحَ ظَهْر الْحَرَّةِ صُبْحَ سَادِسَةٍ. ثُمَّ أَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، حتى دخل عَلَيْهِ، فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ
ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْد الأَشْهَلِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هذا ليريد غدرا» فذهب ليجني علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَذَبَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحَضِيرِ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِذَا
__________
[ (1) ] وهي عصا معوجة الرأس.
[ (2) ] وعند ابن سعد: ابن حريس.
[ (3) ] وعند ابن سعد: ثم آخذ في عير وأسبق القوم.
[ (4) ] أي ماهر.(2/152)
بِالْخِنْجَرِ، فَأُسْقِطَ فِي يَدَيْهِ، وَقَالَ دَمِي دَمِي. فأخذ أسيد بلبته، فدعته، [1] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَصْدِقْنِي مَا أَنْتَ» ؟ قَالَ: وَأَنَا آمِنٌ، قَالَ نَعَمْ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ،
وَمَا جَعَلَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَخَلَّى عَنْهُ، رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَسَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ، إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَقَالَ: «إِنْ أَصَبْتُمَا مِنْهُ غرةً فَاقْتُلاهُ» فَدَخَلَا مَكَّةَ، وَمَضَى عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لَيْلا، فَرَآهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَعَرَفَهُ، فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا بِمَكَانِهِ، فَخَافُوهُ وَطَلَبُوهُ، وَكَانَ فَاتِكًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالُوا: لَمْ يَأْتِ عَمْرٌو لِخَيْرٍ، فَحَشَدَ لَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَتَجَمَّعُوا، وَهَرَبَ عَمْرٌو وَسَلَمَةُ، فَلَقِيَ عَمْرٌو عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكِ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ آخَرَ مِنْ بَنِي الدِّيلِ سَمِعَهُ يَتَغَنَّى وَيَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا
وَلَقِيَ رَسُولَيْنِ لِقُرَيْشٍ، بَعَثَهُمَا يَتَجَسَّسَانِ الْخَبَرَ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَسَرَ الآخَرَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ عَمْرٌو يُخْبِرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم [خبره] [2] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
__________
[ (1) ] أي شد عليها.
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات.(2/153)
غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية
قال ابن إسحق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ- يَعْنِي بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ- رمضان وشوالا، وخرج في ذِي الْقَعْدَةِ مُعْتَمِرًا لا يُرِيدُ حَرْبًا.
وَعِنْدَ ابْن سَعْدٍ: يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِهِلالِ ذِي الْقَعْدَةِ، قَالَ ابْن هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ: نُمَيْلَةَ بن عبد الله الليثي، قال ابن إسحق: وَاسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي مِنَ الأَعْرَابِ [1] وَهُوَ يَخْشَى مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِي صَنَعُوا، أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبٍ، أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الأَعْرَابِ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِيَأْمَنَ النَّاسُ مِنْ حَرْبِهِ، وَلْيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَهُّ إِنَّمَا خَرَجَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لَهُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، قَالا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ [2] يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لا يُرِيدُ قِتَالا، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وكان الناس سبعمائة رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ. وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ، عَنْ جَابِرٍ: عَنْ كُلِّ سَبْعَةٍ بَدَنَةً، وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَة. وَرُوِّينَا عَنِ الْبَرَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سعد وغيره: كانوا ألفا وأربعمائة، وَرُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ: كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَة،
أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ نِظَامُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْخَلِيلِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ بِمِصْرَ قَالَ: أَنَا أَبُو نصر بن الدجاجي إجازة من بغداد
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: ليخرجوا معه.
[ (2) ] الحديبية: قرية ليست بالكبيرة، سميت ببئر عند مسجد الشجرة، وهي على نحو مرحلة من مكة (أنظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/ 81) .(2/154)
قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلَوِيٍّ الْكُوفِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ: أَنَا أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُلْوَانَ الْخَازِنُ قَالَ: أَنَا الْقَاضِي أَبُو عبد الله الجعفي، فثنا أبو جعفر محمد بن رباح الأشجعي، فثنا أبو الحسن علي بن منذر الطريفي، فثنا محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، فثنا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: «مَا لَكُمْ، مَا لَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَشْرَبُ وَلا نَتَوَضَّأُ مِنْهُ إِلَّا مَا فِي رِكْوَتِكَ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، [1] فَجَعَلَ الْمَاءَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ أَمْثَالَ الْعُيُونِ،. قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا.
قَالَ: فَقُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَيُقَالُ: أَلْفٌ وخمسمائة وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلا. وَأَحْرَمَ مَعَهُ زَوْجُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَعْدٍ: كَانُوا أَلْفًا وثلاثمائة.
قال ابن إسحق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعسفعان [2] ، لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، وَابْنُ هِشَامٍ يَقُولُ: بُسْرٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ فَخَرَجُوا مَعَهُمُ الْعوذ الْمَطَافِيل [3] ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي طُوَى [4] ، يُعَاهِدُونَ اللَّه أَنْ لا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْن الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمُوهَا إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ.
وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: قَدَّمُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ، عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ: عِكْرَمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: وَدَنَا خَالِدٌ فِي خَيْلِهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ، فَتَقَدَّمَ فِي خَيْلِهِ، فَقَامَ بِإِزَائِهِ، وَصَفَّ أَصْحَابَهُ، وَحَانَتْ صَلاةُ الظهر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الخوف.
__________
[ (1) ] الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
[ (2) ] عسفان: وهي قرية جامعة بها منبر، وهي بين مكة والمدينة، على نحو مرحلتين من مكة (أنظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/ 56) .
[ (3) ] العوذ: الناقة ونحوها ممن كان حديث عهد بالنتاج، والمطافيل: أولادها.
[ (4) ] ذو طوى: موضع عند باب مكة، بأسفل مكة، صوب طريق العمرة المعتادة، ومستجاب عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهر، يستحب لمن دخل مكة أن يتغسل به بنية غسل دخول مكة (أنظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/ 115) .(2/155)
رجع إلى ابن إسحق: قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ، أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّه عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ وَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، فَوَالله لا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّه بِهِ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّه أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمُ الَّتِي هُمْ بِهَا» . فحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا أَجْذَلَ [1] بَيْنَ شِعَابٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ، وَقَدْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَفْضُوا إِلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ:
«قُولُوا: نَسْتَغِفْرُ اللَّه وَنَتُوبُ إِلَيْهِ» فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّهَا للحَطَّةُ [2] الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا» ، قَالَ ابْن شِهَابٍ: فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم الناس فقال:
«اسلكوا ذات اليمن بَيْنَ ظَهْرَي الْحمضِ» فِي طَرِيقٍ يُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ المرارِ، مَهْبَطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَسَلَكَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ قَتْرَةَ [3] الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ، رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا سَلَكَ فِي ثَنِيَّةِ المرارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ خَلأَتْ [4] فَقَالَ: «مَا خَلأَتْ، وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة [يسألونني] [5] فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: «انْزِلُوا» قِيلَ لَهُ: يَا رسول الله، ما بالوادي ماء تنزل عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ [6] مِنْ تِلْكَ القلب، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء [7] حتى ضرب الناس عنه بعطن [8] .
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: أجرل، أي كثير الحجارة.
[ (2) ] والمراد به قوله تعالى لبني إسرائيل: قولوا حطة، أي حط عنا أوزارنا وذنوبنا وخطايانا أنظر قوله تعالى في سورة البقرة: الآية 58: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وقوله تعالى في سورة الأعراف الآية 161: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ.
[ (3) ] أي الغبار المتصاعد من سيرهم.
[ (4) ] أي بركت.
[ (5) ] وردت في الأصل: يسألون، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (6) ] وعند ابن هشام في السيرة: فنزل به في قليب. والقليب: البئر.
[ (7) ] أي ارتفع الماء، يقال: جأشت نفسه جأشا أي ارتفعت من حزن أو فزع.
[ (8) ] يقال: عطنت الإبل عطونا أي بركت عند الماء بعد شربها أو العطن مبرك الإبل ومربض الغنم عند الماء.(2/156)
قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَسْلَمَ، أَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ فِي الْقَلِيبِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ [1] سَائِقُ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ زُعِمَ لِي بعض أهل العلم أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي نَزَلْتُ بِسَهْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فالله أعلم.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ [2] فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ: مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لم يأت يريد حربا، إنما جَاءَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، ثِمَّ قَالَ لَهُمْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِبُسْرِ بْنِ سُفْيَانَ [3] ، فَرَجَعُوا إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّد، إِنَّ مُحَمَّدا لَمْ يأت لقتال، وإنما جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، فَاتَّهَمُوهُمْ وَجَبَهُوهُمْ [4] وَقَالُوا: إِنْ كَانَ جَاءَ وَلا يُرِيدُ قِتَالا فَوَاللَّهِ لا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا، وَلا تُحَدِّثْ بِذَلِكَ عَنَّا الْعَرَبَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ [5] رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا، لا يَخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ.
ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْن الأَخْيَفِ، أَخَا بَنِي عَامِرٍ [6] فَلَمَّا رَآهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلا قَالَ: «هَذَا الرَّجُلُ غَادِرٌ» فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ، قَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِبُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ الْحليسَ بْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ رَيَّانَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَ الأحابيش، وهو أحد بني الحرث بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَلَمَّا رَآهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ،
فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيرُ إِلَيْهِ مِنْ عَرضِ الْوَادِي بِقَلائِدِهِ [7] قَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلّهِ، رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْظَامًا لِمَا رَأَى، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ، فإنما أنت أعرابي
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: إن الذين نزل في القليب بِسَهْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن عارم بن عمرو بْنِ وَائِلَةَ بْنِ سَهْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ سلامان بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن ...
[ (2) ] الخزاعي.
[ (3) ] وعند ابن هشام: بشر بن صفوان.
[ (4) ] أي قابلوهم بما يكرهون.
[ (5) ] وعند ابن هشام: عيبة نصح. أي موضع سره.
[ (6) ] وعند ابن هشام: أخا بني عامر بن لؤي.
[ (7) ] وعند ابن هشام: فلما رأى الهدي يسيل إليه من عرض الوادي في قلائده. وعرض الوادي أي جانبه.
والقلائد ما يعلق في عنق الهدي، والهدي ما يهدي إلى الحرم من النعم.(2/157)
لا عِلْمَ لَكَ، فحَدَّثَنِي [1] عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الحليسَ غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ، أَنَصُدُّ [2] عَنْ بَيْتِ اللَّه مَنْ جَاءَهُ مُعَظِّمًا، وَالَّذِي نَفْسُ الحليسِ بِيَدِهِ لَتخلِنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ لَهُ، أَوْ لانْفِرَنَّ بِالأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَقَالُوا: مَهْ [3] كُفَّ عَنَّا يَا حَلِيسُ حَتَّى نَأْخُذَ لأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْوةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَا يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ بَعَثْتُمُوهُ إِلَى مُحَمَّد إِذَا جَاءَكُمْ مِنَ التَّعْنِيفِ وَسُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ وَالِدٌ وَأَنِّي وَلَدٌ، - وَكَانَ عُرْوَةُ لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ- وقف سَمِعْتُ بِالَّذِي نَابَكُمْ، فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي، ثُمَّ جِئْتُكُمْ حَتَّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي، قَالُوا: صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَخَرَجَ حَتَّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، أَجَمَعْتَ أَوْشَابَ النَّاسِ [4] ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ إِلَى بيضتك لنقضها بِهِمْ، إِنَّهَا قُرَيْشٌ، قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّه لا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَأَيْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِهَؤُلاءِ قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا.
قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، فَقَالَ:
امْصُصْ بَظْرَ اللاتِ، أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ! قَالَ: مَنْ هَذَا يا محمد؟ قال: هذا ابن أب قُحَافَةَ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَكَافَأْتُكَ بِهَا، وَلَكِن هَذِهِ بِهَا، قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَاوَلَ لِحْيَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ، قَالَ: وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ. قَالَ: فَجَعَلَ يَقْرَعُ يَدَهُ إِذَا تَنَاوَلَ لِحْيَةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكْفُفْ يَدَكَ عَنْ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ لا تَصِلَ إِلَيْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ عُرْوَةُ:
وَيْحَكَ مَا أَفَظَّكَ وَمَا أَغْلَظَكَ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِيكَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: أَيْ غُدَرُ، وَهَلْ غَسَلْتَ سَوْءَتَكَ إِلَّا بِالأَمْسِ.
قُلْتُ: كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عُرْوَةَ عَمُّ الْمُغِيرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمُّ أَبِيهِ، هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَعُرْوَةُ وَأَبُو عَامِرٍ أَخَوَانِ.
قَالَ ابْن هِشَامٍ: أَرَادَ عُرْوَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الْمُغِيرَةَ قَبْلَ إِسْلامِهِ قتل ثلاثة عشر رجلا
__________
[ (1) ] أي قال ابن إسحاق: فحدثني....
[ (2) ] وفي سيرة ابن هشام: أيصد ...
[ (3) ] وعند ابن هشام: قال: فقالوا له: مه.
[ (4) ] أي أخلاط الناس.(2/158)
مِنْ بَنِي مَالِكٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَتَهَايَجَ الْحَيَّانِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَبَنُو مَالِكٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ، وَالأَحْلَافُ رَهْطُ الْمُغِيرَةِ، فَوَدَى عُرْوَةُ الْمَقْتُولِينَ ثَلاثَةَ عَشَرَ دية، وأصلح ذلك الأمر.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَلَّمَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِمَّا كَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا، فَقَامَ من عند رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ، لا يَتَوَضَّأُ إِلَّا ابْتَدَرُوا وَضُوءَهُ، وَلا يَبْصُقُ بُصَاقًا إِلَّا ابْتَدَرُوهُ، وَلا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ [1] ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ، وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ، وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا فِي قَوْمٍ قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّد فِي أَصْحَابِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لا يُسْلِمُونَهُ لشيء أبدا، فروا رأيكم.
وقال ابن إسحق، فحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ، لِيُبَلِّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ، فَعَقَرُوا بِهِ جَمَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأرادوا قتله، فمنعه [2] الأحبايش، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، حَتَّى أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم.
وحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ رَجُلا، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَأَخَذُوا أَخْذًا، فَأَتَى بِهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا فِي عَسْكَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ، ثُمَّ دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي بِمَكَّةَ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قريش عدواني إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ [3] أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بِهَا مِنِّي، عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَدَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بْنِ عَفَّانَ فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَجَعَلَهُ [4] بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش.
[ (2) ] وعن ابن هشام: فمنعته الأحابيش.
[ (3) ] وعند ابن هشام: ولكني أذلك.
[ (4) ] وعند ابن هشام: فحمله.(2/159)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ. فَقَالَ [1] لِعُثْمَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عثمان قد قتل.
قال ابن إسحق: فحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: لا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ»
وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْد اللَّهِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ، فَبَايَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهُ [2] ، إِلَّا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ [3] ، فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ وَاللَّهِ: لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لاصِقًا بِإِبِطِ نَاقَتِهِ قَدْ ضَبَأَ إِلَيْهَا [4] يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ.
قَالَ ابْن هِشَامٍ: فَذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَبُو سنان الأسدي.
قال ابن إسحق: قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ائْتِ مُحَمَّدا وَصَالِحْهُ، وَلا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللَّهِ لا تَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا [5] ، فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلا قَالَ: «قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ» فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلامَ وَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَأَمَ الأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ رَسُولُ اللَّه؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟
قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فعلام نعطي الدنية في
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فقالوا.
[ (2) ] وعند ابن هشام: حضرها.
[ (3) ] وعند ابن هشام: أخو بني سلمة.
[ (4) ] أي استتر بها من الناس.
[ (5) ] وعن ابن هشام: فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا.(2/160)
دِينِنَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ [1] ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عُمَرُ:
وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه، ثُمَّ أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ بِرَسُولِ اللَّه؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ: أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ: أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟
قَالَ: «بَلَى» قَالَ: فَعَلامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ: أَنَا عَبْد اللَّهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي» قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ، مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ، مَخَافَةَ كَلامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ حِينَ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. ثُمَّ دَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: اكتب: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيمِ، قَالَ:
فَقَالَ سُهَيْلُ بن عمر: لَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنْ أَكتب بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَكَتَبَهَا، ثُمَّ قَالَ:
«اكتب: هَذَا مَا صَالَحَ عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو» قَالَ: فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عمرو: لو شهدت أنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أُقَاتِلُكَ، وَلَكِنِ أَكتب اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، قَالَ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن عبد الله وسهيل بْنَ عَمْرٍو-، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّد لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً [2] ، وَأَنَّهُ لا إِسْلالَ وَلا إِغْلالَ [3] ، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عقد قريش وعهد قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَكَ هَذَا، فَلا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ خَرَجْنَا عَنْهَا فَدَخَلْتَهَا بِأَصْحَابِكَ، فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلاثًا، مَعَكَ سِلاحُ الرَّاكِبِ، السُّيُوف فِي الْقُرُبِ [4] ، لا تَدْخُلْهَا بِغَيْرِهَا.
فَبَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكتب الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ [5] فِي الْحَدِيدِ، قَدِ انْفَلَتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان
__________
[ (1) ] أي ألزم أمره وتمسك به.
[ (2) ] يقال: عياب الود الصدور والقلوب، ويقال: كادت عياب الود تصفى، والمعنى أن الصدور والقلوب فيها من العداوة ما فيها، فلا تظهر هذه العداوة طيلة هذه المدة.
[ (3) ] أي لا سرقة ولا خيانة ولا غدر.
[ (4) ] القرب واحدها: القراب، وهو غمد السيف ونحوه.
[ (5) ] أي يسير ويمشي فيه رويدا.(2/161)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَجُوا وَهُم لا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رَأَوْا مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ وَمَا تَحَمَّلَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، دخل الناس في ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ، فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ وَضَرَبَ وَجْهَهُ وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا محمد قد لحت [1] الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا، قَالَ: «صَدَقْتَ» فَجَعَلَ يَبْتَزُّهُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى قُرَيْشٍ، وَجَعَل أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتُنُونِي فِي دِينِي، فَزَادَ النَّاسُ ذَلِكَ إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّه جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضَعْفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللَّه، وَإِنَّا لا نَغْدِرُ بِهِمْ» . قَالَ: فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ وَيَقُولُ: اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ ونفذت القضية. فَلَمَّا فَرَغَ الْكِتَابُ [2] ، أَشْهَدَ عَلَى الصُّلْحِ رِجَالا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرِجَالا مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْن الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ، وَعَبْد اللَّهِ بْن سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو مُشْرِكٌ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ هُوَ كاتب الصحيفة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُضْطَرِبًا فِي الْحِلِّ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصُّلْحِ قَامَ إِلَى هَدْيِهِ فَنَحَرَهُ، ثُمَّ جَلَسَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَكَانَ الَّذِي حَلَقَهُ فِيمَا بَلَغَنِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ بْن الْفَضْلِ الْخُزَاعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ نَحَرَ وَحَلَقَ [3] تَوَاثَبُوا يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ. وَذَكَرَ ابن إسحق عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ: أَنَّ عُثْمَانَ وَأَبَا قَتَادَةَ الأَنْصَارِيَّ مِمَّنْ لَمْ يَحْلِقْ، وَقَالَ ابْن أَبِي نَجِيحٍ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَاهُ جَمَلا لأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ [4] مِنْ فِضَّةٍ، لَيَغِيظَ بذلك المشركين. قال
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: لجت أي تمت.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم من الكتاب.
[ (3) ] وعند ابن هشام: فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق.
[ (4) ] وهي الحلقة التي تكون في أنف البعير.(2/162)
الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ قَافِلا، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [1] . ثُمَّ كَانَتِ الْقِصَّةُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذِكْرِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [2] الآيَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنَ الأَعْرَابِ، ثُمَّ قَالَ حِينَ اسْتَنْفَرَهُمْ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [3] ثُمَّ الْقِصَّةَ عَنْ خَبَرِهِمْ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [4] . ثُمَّ الْقِصَّة عَنْ خَبَرِهِمْ، وَمَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادِ الْقَوْمِ أُولِي الْبَأْسِ الشَّدِيدِ، فَذَكَرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ. وَذَكَر ابْنُ عَائِذٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَوَعَدَهُ رَبُّهُ أَنَّهُ فَاتَحَهَا، وَبَيَّنَ لَهُ فَتْحَهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مَعْذِرَةٍ نَصِيبًا فِي مَغَانِمِ خَيْبَرَ فَقَالَ: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها حتى بلغ: إِلَّا قَلِيلًا وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَتْحاً قَرِيباً رُجُوعَهُمْ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرِينَ، وَقِيلَ:
خَيْبَرُ. وَهَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي تَلِكَ الْمُدَّةِ، فَخَرَجَ أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ فِي رَدِّهَا بِالْعَهْدِ، فَلَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَنَزَلَتْ:
إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ [5] الآيَاتِ. وَكَانَ مِمَّنْ طَلَّقَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [6] عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ: أَلَمْ تَقُلْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَدْخُلُ مَكَّةَ آمِنًا، قَالَ: «بَلَى، أَفَقُلْتُ لَكُمْ مِنْ عَامِي هَذَا» قَالُوا: لا، قال: «فهو كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ» . وَذَكَرَ ابْن عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم استشار
__________
[ (1) ] سورة الفتح: الآية 1.
[ (2) ] سورة الفتح: الآية 10.
[ (3) ] سورة الفتح: الآية 15.
[ (4) ] سورة الفتح: الآية 11.
[ (5) ] سورة الممتحنة: الآية 10.
[ (6) ] سورة الممتحنة: الآية 10.(2/163)
النَّاسَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ قُرَيْشًا تَجْمَعُ لَهُ فَقَالَ: «أَتَرَوْنَ أَنْ نُغِيرَ عَلَى مَا جَمَعُوا لَنَا عَلَى جُلِّ أَمْوَالِهِمْ فَنُصِيبُهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مُغيظينَ مَوْتُورِينَ، وَإِنْ تَبْقَ مِنْهُمْ عُنُقٌ نَقْطَعُهَا، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، جِئْنَا لأَمْر فَنَرى أَنْ نَؤُمَّهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَنَعَمْ» .
وَيُقَالُ: سَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَزَلَتْ بِذِي طُوًى، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ بَعْد كِتَابَة الصَّحِيفَةِ بِالصُّلْحِ: فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ نَفَاذَ ذَلِكَ وَإِمْضَاءَهُ رَمَى رَجُلٌ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلا مِنَ الْفَرِيقِ الآخَرِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ مِنْ قِتَالٍ يَتَرَامَوْنَ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، فَصَاحَ الْفَرِيقَانِ كِلاهُمَا، وَارْتَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الآخَرِينَ، فَارْتَهَنَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَارْتَهَنَ الْمُسْلِمُونَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يَقُولُونَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَأَرَادَ الْقِتَالَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ جَابِرٌ: عَلَى أَنْ لا يَفِرُّوا، وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ، وَالشَّجَرَةُ سَمُرَةٌ، وَالْخَيْلُ مِائَةُ فَرَسٍ، فَبَايَعْنَاهُ غَيْرَ الْجَدِّ بْنِ قَيْس، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ رَعَبَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْسَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَدَعُوا إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَالصُّلْحِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَهُمْ عَالُونَ، وَصَالَحَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرِهَ عُمَرُ الصُّلْحَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ،
وَلَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَلَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا:
جَهَدْنَا، وَفِي النَّاسِ ظَهْرٌ [1] فَانْحَرْهُ لِنَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ، وَلِنَدْهُنَ مِنْ شُحُومِهِ، وَلِنَحْتَذِي مِنْ جُلُودِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، لا نَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنْ يَكُنْ فِيهِمْ بَقِيَّةُ ظَهْرٍ أَمْثَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْسُطُوا أَنْطَاعَكُمْ [2] وَعَبَاءَكُمْ» فَفَعَلُوا: ثُمَّ قَالَ:
«مَنْ كَانَ عِنْدَهُ بَقِيَّةُ مِنْ زَادٍ أَوْ طَعَامٍ فَلْيَنْثُرْهُ» وَدَعَا لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «قَرِّبُوا أَوْعِيَتَكُمْ فَأَخَذُوا مَا شَاءَ اللَّهُ» .
وَقَدْ رُوِّينَا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ، مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، وَفِي آخِرِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ» ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فتوضأنا كلنا ... الحديث.
__________
[ (1) ] وهي الدواب التي يركب عليها أو يحمل عليها المتاع.
[ (2) ] وهو البساط من جلد.(2/164)
قَالَ ابْنُ عُقْبَةَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَا بِفَتْحٍ، لَقَدْ صَدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ، وَصُدَّ هَدْيُنَا، وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كانا خرجا إليه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَوْلَ أُولَئِكَ، فَقَالَ: «بِئْسَ الْكَلامُ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ، قَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَنْ بِلادِهِمْ، وَيَسْأَلُوكُمُ الْْقَضِيَّةَ، وَيَرْغَبُونَ إِلَيْكُمْ فِي الأَمَانِ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا، وَأَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَرَدَّكُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ مَأْجُورِينَ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ» ، وَفِيهِ: أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، إِذْ تَصْعَدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ، أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وإذا زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَتَظَنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا؟» فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ، وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا فَكَّرْنَا فِيمَا فَكَّرْتَ فِيهِ، وَلَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وأمره منا. وذكر ابن عائذ: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ شَهْرًا وَنِصْفًا. وَقَالَ ابْن سَعْدٍ: أَقَامَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: عِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانُوا بِضْجَنَانَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فَقَالَ جِبْرِيلُ: نُهَنِّئُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَنَّأَهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْد اللَّهِ بن أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا صَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، حَلَّقُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَنَحَرُوا، بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا عَاصِفًا، فَاحْتَمَلَتْ أَشْعَارَهُمْ، فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ.
وَعَنْ طَارِقِ بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ، فَتَذَاكَرُوا الشَّجَرَةَ، فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الْعَامَ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُ قَدْ شَهِدَهَا، فَنَسُوهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَرُوِّينَا عَنِ ابن سعد قال: أنا عبد الوهاب بن عَطَاءٍ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: شَجَرَةُ الرِّضْوَانِ، فَيُصَلُّونَ عِنْدَهَا، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَوْعَدَهُمْ فِيهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ. وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ.
وَرُوِّينَا عن ابن سعد قال: أنا عبد الوهاب بْنُ عَطَاءٍ الْعِجْلِيُّ قَالَ: أَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَصَابَنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مَطَرٌ لَمْ يَبُلَّ أَسَافِلَ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أن صلوا في رحالكم [1] .
__________
[ (1) ] أنظر الطبقات الكبرى وابن سعد (2/ 105) .(2/165)
ذكر فوائد تتعلق بخبر الْحُدَيْبِيَةِ
الْحُدَيْبِيَةُ: بِئْرٌ، سُمِّيَ الْمَكَانَ بِهَا، وَالأَعْرَفُ فِيهَا التَّخْفِيفُ، وَرَأَيْتُ بِخَطِّ جَدِّي: قَالَ الأُسْتَاذُ نَقْلا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الشَّلُوبِينِ، هِيَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ لا غَيْرَ، كَأَنَّهُ تَصْغِيرُ حَدْبَا مَقْصُورَةٍ.
قَالَ ابْن السَّرَّاجِ: وَالْجِعْرَانَةُ، بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، قَالَهُ الأَصْمَعِيُّ، وَأَتَى بِالتَّشْدِيدِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ. وَإِحْرَامُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
وَالأَجْزَلُ الْكَثِيرُ الْحِجَارَةِ. وَالْجَرْوَلُ الْحِجَارَةُ. وَالْعُوذُ الْمَطَافِيلُ: النِّسَاءُ اللَّاتِي مَعَهُنَّ أَطْفَالُهُنَّ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: جَمْعُ عَائِذٍ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي مَعَهَا وَلَدُهَا، يُرِيدُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِذَوَاتِ الأَلْبَانِ مِنَ الإِبِلِ لِيَتَزَوَّدُوا بِأَلْبَانِهَا وَلا يَرْجِعُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
وخلأت القصواء، حرنت، والخلاء فِي الإِبِلِ كَالْحِرَانِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الدَّوَابِّ.
وَمَاءٌ رَوَاءٌ وَرَوى، وَقَوْمٌ رَوَاءٌ مِنَ الْمَاءِ، عن ثعلب. وناجية: كان اسمه ذكروا، فَسَمَّاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَجَا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: نَاجِيَةَ. وَجَبَهْتُ الرَّجُلَ: اسْتَقْبَلْتُهُ بِمَا يَكْرَهُ، يَتَأَلَّهُونَ: يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الإله وقال الخشني: التأله التبعد. وَرَأَيْتُ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ فِي نَسَبِ الْحَلِيسِ بْنِ رَيَّانَ أَنَّهُ الْحَلِيسُ: بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْن الْمُغَفَّلِ وَهُوَ: الرَّيَّانُ بْنُ عَبْدِ ياليل، ويقال: الحليس بْنُ يَزِيدَ بْنِ رَيَّانَ. وَالأَوْبَاشُ وَالأَوْشَابُ: الأَخْلَاطُ مِنَ النَّاسِ. وَأَبُو سِنَانٍ الأَسَدِيُّ: اسْمُهُ وَهْبُ بن محصن، أخو عكاشة بن محصن.
روينا عن أبي عروبة، فثنا علي بن المنذر، فثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَامِرٍ قال: كان أول من بايع بيعة الروضان أَبُو سِنَانٍ الأَسَدِيُّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ:
بَايِعْنِي؟ قَالَ: «عَلَى مَاذَا» ؟ قَالَ: عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ، قَالَ: «مَا فِي نَفْسِي» قَالَ: الْفَتْحُ أَوِ الشَّهَادَةُ، فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: نُبَايِعُكَ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي سِنَانٍ، كَذَا رُوِيَ هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ،
وَالصَّوَابُ: سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو سِنَانٌ أَوَّلُ مَنْ بايع بيعة لرضوان، وَتُوُفِّيَ سِنَانٌ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ، وَأَمَّا أَبُوهُ أَبُو سِنَانٍ فَمَاتَ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ عُكَّاشَةَ بِسَنَتَيْنِ، قَالَ: وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْيَوْمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُبَايِعِينَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلا يَصِحُّ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي شُجَاعُ بْن الْوَلِيدِ قَالَ:(2/166)
سمع النّضر بن محمد، فثنا صَخْرٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ: أَنَّ ابْن عُمَرَ أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ عُمَرَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَرْسَلَ عَبْد اللَّهِ إِلَى فَرَسِ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الأنصار [يأتي به] [1] لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ، ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ، وَعُمَرُ لا يَدْرِي بِذَلِكَ، فَبَايَعَهُ عَبْد اللَّهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْفَرَسِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، وَعُمَرُ يَسْتَلْئِمُ لِلْقِتَالِ [2] ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَذَهَبَ مَعَهُ [3] حَتَّى بَايَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ ابْن عُمَرَ أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ [4] .
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ دَعَا لِلْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَبَايَعَتْهُ أَوَّلُ النَّاسِ، ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ الْحَدِيثَ. قَالَ السُّهَيْلِيّ:
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُصَالَحَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَى مَالٍ يَعْطُونَهُ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَق. قَالَ:
وَاخْتُلِفَ، هَلْ يَجُوزُ صُلْحُهُمْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ؟ وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنَّ حَظْرَ الصُّلْحِ هُوَ الأَصْلِ، بِدَلِيلِ آيَةِ الْقِتَالِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّحْدِيدُ بِالْعَشْرِ فِي حَدِيثِ ابْن إسحق، فَحَصَلَتِ الإِبَاحَةُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مُتَحَقِّقَة، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الأَصْلِ.
قُلْتُ: لَيْسَ فِي مُطْلَقِ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الصُّلْحِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَفِي التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ اخْتِلافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا تَحْدِيدُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِالْعَشْرِ، فَأَهْلُ النَّقْلِ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، كَمَا رُوِّينَا عن ابن إسحق، وَرُوِّينَا عن مُوسَى بْن عُقْبَةَ، قَالَ: وَكَانَ الصُّلْحُ بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ سَنَتَيْنِ، يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَكَذَلِكَ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُدَّةَ الصُّلْحِ كَانَتْ إِلَى سَنَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا كِتَابَةُ الصُّلْحِ،
فَقُرِئَ عَلَى عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ يُوسُفَ الْمَزِّيِّ وَأَنَا أَسْمَعُ، أَخْبَرَكُمْ أَبُو عَلِيٍّ حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ قَالَ: أَنَا الْقَطِيعِيُّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الله بن أحمد، فثنا أبي، فثنا محمد بن جعفر، فثنا
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من صحيح البخاري.
[ (2) ] أي يلبس لأمته استعدادا للقتال.
[ (3) ] وردت في الأصل: فانطلق عمر فذهب معه، وما أثبتناه لفظ البخاري.
[ (4) ] أنظر صحيح البخاري (5/ 69) .(2/167)
شعبة، عن أبي إسحق قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كتب عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِتَابًا بَيْنَهُمْ قَالَ: فَكتب: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا نَكتب مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ قَالَ: فقال لعلي: «امحه» قال: فقال: أما أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، الْحَدِيثَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب ذَلِكَ بِيَدِهِ، وَعَدَّ ذَلِكَ مَنْ وَقَفَ عِنْدَهُ مُعْجِزَةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمَا شَهِدَ به القرآن من أن النَّبِيُّ الأُّمِّيُّ الَّذِي لا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ مَعَ مَا كَانَ يَأْتِي بِهِ مِنْ أَقَاصِيصِ الأَوَّلِينَ، وَأَخْبَارِ الأُمَمِ الْمَاضِينَ، هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى، لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ تَكْذِيبِ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمٍ تَلَقَّاهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ مِمَّنْ قَالَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ. وَهَذَا عَلَمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ، وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ دَلائِلِ صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِنَّمَا يَتَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَلامَةُ هَذَا الأَصْلِ مِنْ شُبْهَةٍ قَدْ تَرَكَتْ لِلْمُلْحِدِ حُجَّة فِي مُعَارَضَتِهِ وإن بعدت أولى. وَذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ كتب، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الأَنْدَلُسِ، فَبَعَثَ إِلَى الآفَاقِ يَسْتَفْتِي بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَجُلُّهُمْ قَالَ، لَمْ يَكتب النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ قَطُّ، وَرَأَوْا ذَلِكَ مَحْمُولا عَلَى الْمَجَازِ، وَأَنَّ مَعْنَى كتب: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْهُمْ: كتب. وَجَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَوْمًا بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا الإِمَامِ أَبِي الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، فَلَمْ يَعْبَأْ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ كتب، وَقَالَ عَنِ الْبَاجِي: هُوَ قَوْلُ أَحْوجه إِلَى أَنْ يَسْتَنْجِدَ بِالْعُلَمَاءِ مِنَ الآفَاقِ.
وَأَبُو جَنْدَلٍ اسْمُهُ: الْعَاصِي، وَهُوَ أَخُو عَبْد اللَّهِ بْن سُهَيْلٍ، شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِسْلامُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِ أَبِي جَنْدَلٍ الْفَتْحُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيُعْرَفَ [1] الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ أَلَّفَ فِي الصَّحَابَةِ سُمِّيَ أَبَا جَنْدَلٍ عَبْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَرَجَعَ أَبُو جَنْدَلٍ إِلَى مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي جِوَارِ مِكْرَزِ بْن حَفْصٍ، فِيمَا حَكَى ابْن عَائِذٍ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللَّه سُبْحَانَهُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَخْصُوصٌ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصُّلْحِ، وَكَانَ الامْتِحَانُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ الْمَرْأَةُ الْمُهَاجِرَةُ أَنَّهَا مَا هَاجَرَتْ نَاشِزًا، وَلا هَاجَرَتْ إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَإِذَا حَلَفَتْ لَمْ تُرَدَّ، وَرُدَّ صَدَاقُهَا إِلَى بَعْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ تُسْتَحْلَفْ وَلَمْ يُرَدَّ صَدَاقُهَا. وَعَيْبةٌ مَكْفُوفَةٌ: أَيْ صُدُورٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى مَا فِيهَا لا تُبْدِي عَدَاوَةً. وَالإِغْلالُ: الْخِيَانَةُ. والإسلال: السرقة.
__________
[ (1) ] وفي نسخة: ليعلم.(2/168)
ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلٍ
قال ابن إسحق: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب فِيهِ أَزْهَرُ بْن عبد عوف بن الحرث بْنِ زُهْرَةَ، وَالأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْن عَمْرِو بْن وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَبَعَثَا رَجُلا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ، فَقَدِمَا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بِكِتَابِ الأَزْهَرِ وَالأَخْنَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْبَصِيرِ، إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فَرَجًا وَمَخْرَجًا، فَانْطَلِقْ إِلَى قَوْمِكَ» قَالَ: يَا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتوني فِي دِينِي؟ قَالَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، انْطَلِقْ، فَإِنَّ اللَّه سَيَجْعَلُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، جَلَسَ إِلَى جِدَارٍ، وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَصَارِمٌ سَيْفُكَ هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمِ، انْظُرْ إِلَيْهِ إِنْ شِئْتَ، فَاسْتَلَّهُ أَبُو بَصِيرٍ ثُمَّ عَلاهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالِعًا قَالَ: «إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ رَأَى فَزَعًا» فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم قال: «ويحك، مالك» ؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي، فَوَاللَّهِ مَا بَرِحَ حَتَّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْ ذِمَّتُكَ، وَأَدَّى اللَّه عَنْكَ، أَسْلَمْتَنِي بِيَدِ الْقَوْمِ، وَقَدِ امْتَنَعْتُ بِدِينِي أَنْ أُفْتَنَ فِيهِ أَوْ يُعْبَثَ بِي، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ويل أمة محشي حَرْبٍ [1] ، لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالً» . ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتَّى نَزَلَ الْعيص مِنْ نَاحِيَةِ ذِي الْمَرْوَةِ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ
__________
[ (1) ] أي موقد الحرب ومسعرها.(2/169)
الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَ إِلَى الشَّامِ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا احْتُبِسُوا بِمَكَّةَ قَوْلُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي بَصِيرٍ «وَيْلُ أمه محش حرب، لو كان معه رجال» فَخَرَجُوا إِلَى أَبِي بَصِيرٍ بِالْعِيصِ،
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلا، فَكَانُوا قَدْ ضَيَّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ، لا يَظْفَرُونَ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلا تَمُرُّ بِهِمْ عِيرٌ إِلَّا اقْتَطَعُوهَا، حَتَّى كَتَبَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ بِأَرْحَامِهَا إِلَّا آوَاهُمْ فَلا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِمْ، فَآوَاهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عُقْبَةَ هَذَا الْخَبَرَ أَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَسُمِّيَ الرَّجُلَ الَّذِي بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِ أَبِي بَصِيرٍ: جُحَيْشَ بْنَ جَابِرٍ مِنْ بَنِي مُنْقِذٍ، قَالَ: وَكَانَ ذَا جَلَدٍ وَرَأْيٍ فِي أَنْفُسِ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ لَهُمَا الأَخْنَسُ فِي طَلَبِ أَبِي بَصِيرٍ جُعْلا، فَقَدِمَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَفَعَ أَبَا بَصِيرٍ إِلَيْهِمَا، فَخَرَجَا بِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، سَلَّ جُحَيْشٌ سَيْفَهُ ثُمَّ هَزَّهُ فَقَالَ: لأَضْرِبَنَّ بِسَيْفِي هَذَا فِي الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ،
وَفِيهِ: فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ بِسَلَبِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: خَمِّسْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي إِذَا خَمَّسْتُهُ لَمْ أَفِ بِالَّذِي عَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ شَأْنُكَ بِسَلَبِ صَاحِبِكَ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ»
فَخَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ، مَعَهُ خَمْسَةٌ نَفَرٍ كَانُوا قَدِمُوا مَعَهُ مُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بَيْنَ الْعِيصِ وَذِي الْمَرْوَةِ مِنْ أَرْضِ جُهَيْنَةَ، وَانْفَلَتَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا، فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ، وَكَرِهُوَا أَنْ يَقْدَمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هُدْنَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَرِهُوا الثّواءَ بَيْنَ ظَهْرَيْ قَوْمِهِمٍ، فَنَزَلُوا مَعَ أَبِي بَصِيرٍ فِي مَنْزِلٍ كَرِيهٍ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَطَعُوا بِهِ مَادَّتَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الشَّامِ، وَأَبُو بَصِيرٍ يُصَلِّي لأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو جَنْدَلٍ كَانَ هُوَ يَؤُمُّهُمْ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ نَاسٌ مِنْ غِفَارٍ، وَأَسْلَمَ وَجُهَيْنَةَ وَطَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، لا يمر بهم غير لِقُرَيْشٍ إِلَّا أَخَذُوهَا وَقَتَلُوا أَصْحَابَهَا. وَذَكَرَ مُرُورَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِهِمْ وَقِصَّتَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا الْعَاصِ أُخِذَ فِي سرية زيد بن حارثة إلى العيص، قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ أَنْ يَقْدَمَا عَلَيْهِ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِبِلادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَقَدِمَ كِتَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَأَبُو بَصِيرٍ يَمُوتُ فَمَاتَ وَكِتَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ يَقْرَأُهُ، فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَلٍ مَكَانَهُ، وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَقَدِمَ أَبُو جَنْدَلٍ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَرَجَعَ سَائِرُهُمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ فِيمَا حَكَاهُ الزبير:(2/170)
أَبْلِغْ قُرَيْشًا عَنْ أَبِي جَنْدَلِ ... أَنَّا بِذِي المروة فالساحل
في مشعر تخفق إِيمَانُهُمْ ... بِالْبِيضِ فِيهَا وَالْقَنَا الذَّابِلِ
يَأْبَوْنَ أَنْ نَبْقَى لَهُمْ رُفْقَةً ... مِنْ بَعْدِ إِسْلامِهِمُ الْوَاصِلِ
أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مَخْرَجَا ... وَالْحَقُّ لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... أيقتل الْمَرْءُ وَلَمْ يَأْتَلِ
وَأَبُو بَصِيرٍ سَمَّاهُ ابْن إسحق: عُتْبَةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّيهِ عُبَيْدًا، وَهُوَ ابْن أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْن سَلَمَةَ بْن عَبْد اللَّهِ بْن غَبْرَةَ بْن عَوْفِ بْن قُسَيٍّ وَهُوَ ثَقِيفُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْن هَوَازِنَ، حليف بني زهرة.(2/171)
غزوة خيبر
قال ابن إسحق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ ذَا الْحَجَّةِ وَبَعْضَ الْمُحَرَّمِ، وَخَرَجَ فِي بَقِيَّةٍ مِنْهُ غَازِيًا إِلَى خَيْبَرَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا شَهْرٌ وَأَيَّامٌ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ: نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ، فِيمَا قَالَهُ ابْن هِشَامٍ [1] .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: لَمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، مَكَثَ عِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا إِلَى خيبر، وكان الله وعده إياها وهو بالحديبية.
قال ابن إسحق: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ نَصْرٍ الأَسْلَمِيِّ [2] أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَسِيرِهِ إِلَى خَيْبَرَ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ، وَهُوَ عَمُّ سَلَمَةَ بْن عَمْرِو بْن الأَكْوَعِ، وَكَانَ اسْمُ ابْنِ الأكوع سنانا: «انزل يا بن الأكوع فخذلنا مِنْ هَنَاتِكَ» قَالَ: فَنَزَلَ يَرْتَجِزُ:
وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
إِنَّا إِذَا قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إن لاقينا
__________
[ (1) ] وفي سيرة ابن هشام: قال محمد بن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، ووح تلك الحجة المشركون، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. قَالَ ابْن هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ نُمَيْلَةَ بن عبد الله الليثي، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت بيضاء.
[ (2) ] وعن ابن هشام: ابن دهر الأسلمي.(2/172)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُكَ رَبُّكَ» فَقَالَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ: وَجَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْتَعْتَنَا بِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ شَهِيدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ سَيْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ، فكلمه كلما شديد [1] فَمَاتَ مِنْهُ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ شَكُّوا فِيهِ وقوال: مَا قَتَلَهُ إِلَّا سِلاحُهُ، حَتَّى سَأَلَ ابْنُ أخيه سلمة بن عمر بْن الأَكْوَعِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّاسِ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لشهيد» وصلى عليه، وصلى عليه المسلمون.
وَحَدَّثَنِي [2] مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ الأَسْلَمِيِّ، عْنَ أَبِيهِ، عْنَ أَبِي مُعَتِّبِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لأَصْحَابِهِ وَأَنَا فِيهِمْ:
«قِفُوا، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا أَذْرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرِ أَهْلِهَا وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، أَقْدِمُوا بِسْمِ اللَّهِ» قَالَ:
وَكَانَ قولها لكل قرية دخلها.
وحَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُّ، عَنْ أَنَسِ بْن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلا، فَبَاتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، فَرَكِبَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ، وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَقْبَلْنَا عُمَّالَ خَيْبَرَ غَادِينَ وَقَدْ خَرَجُوا بِمَسَاحِيهِمْ [3] وَمَكَاتِلِهِمْ [4] ،
فَلَمَّا رَأَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَيْشَ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ مَعَهُ [5] ، فَأَدْبَرُوا هِرَابًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّه أَكْبَرُ، خربت خبير، إِنَّا إِذًا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذِرِينَ» .
حَدَّثَنَا هَارُونُ، عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِمِثْلِهِ، وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الصَّوَّافِ بالسند المتقدم إليه، فثنا الحسين بن علي بن مصعب، فثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السري، فثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: لَمَّا أَشْرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر، وجد اليهود وهم في عملهم،
__________
[ (1) ] أي جرحه.
[ (2) ] يقول ذلك ابن إسحاق.
[ (3) ] وهي مجارف الحديد.
[ (4) ] وهي القفف الكبيرة.
[ (5) ] الخميس: الجيش الجرار.(2/173)
مَعَهُمْ مَسَاحِيهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرِبَتْ خَيْبَرَ، إِنَّا إِذًا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المنذرين» .
رَجْعٌ إِلَى الأَوَّلِ: وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم [حين] [1] خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، سَلَكَ عَلَى عَصْرٍ [2] ، فَبُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدٌ، ثُمَّ عَلَى الصَّهْبَاءِ [3] ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَيْشِهِ إِلَى خَيْبَرَ، حَتَّى نَزَلَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: الرَّجِيعُ، فَنَزَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَطَفَانَ لِيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَمُدُّوا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَكَانُوا لَهْمُ مُظَاهِرِينَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَنِي أَنَّ غَطَفَانَ لَمَّا سَمِعَتْ بِمَنْزِلِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم من خيبر جمعوا [له] [4] ثُمَّ خَرَجُوا لِيُظَاهِرُوا يَهُودَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا سَارُوا منقلة [5] ، سَمِعُوا خَلْفَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ حِسًّا، ظَنُّوا أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَالَفُوا إِلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَأَقَامُوا فِي أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَخَلُّوا بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ خَيْبَرَ، وَتَدَنَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَمْوَالَ يَأْخُذُهَا مَالا مَالا، وَيَفْتَحُهَا حِصْنًا حِصْنًا، فَكَانَ أَوَّلُ حُصُونِهِمُ افْتُتِحَ حِصْنُ: نَاعِم، وَعِنْدَهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ برحى ألقيت عليه منه.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْمُجَاوِرِ الشَّيْبَانِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِالشَّامِ قَالَ: أَنَا أَبُو الْيُمْنِ الْكِنْدِيُّ قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَرِيرِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ محمد بن أحمد الواعظ، فثنا أبو بكر محمد بن جعفر المطبري، فثنا حماد بن الحسن، فثنا أَبِي عَنْ هُشَيْمٍ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابي عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا أَخِي، فَقَالَ: «لأَدْفَعَنَّ الرَّايَةَ إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، فَيُمَكِّنُهُ اللَّهُ مِنْ قَاتِلِ أَخِيكَ فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْمَدُ [6] كَمَا تَرَى، قَالَ: وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَرْمَدَ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، قَالَ علي عليه السلام:
__________
[ (1) ] زيدت على الأسل من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] هو جبل بين المدينة ووادي الفرع.
[ (3) ] هو موضع قرب خيبر.
[ (4) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] أي مرحلة، وهي المسافة التي يقطعها السائر في نحو يوم، والجمع: مراحل.
[ (6) ] الرمد: مرض يصيب العين.(2/174)
فَمَا رَمِدْتُ بَعْدَ يَوْمَئِذٍ،
قَالَ الْعَوَّامُ: فَحَدَّثَنِي جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، أَوْ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَمَضَى بِذَلِكَ الوجه، فما تتامّ آخرنَا حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَاتِل الأَنْصَارِيِّ فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِيهِ فَقَتَلَهُ. الرَّجُلُ الأَنْصَارِيُّ هُوَ:
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ.
وَرُوِّينَا فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ لأَبِي القاسم الطبراني، فثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ السَّقَطِيُّ بِبَغْدَادَ، فثنا فضيل بن عبد الوهاب، فثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا، فَجَبُنَ، فَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ مَا تُبْتَلُونَ بِهِ مِنْهُمْ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا وَرَبُّهُمْ، وَنَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِكَ، وَإِنَّمَا تَقْتُلُهُمْ أَنْتَ، ثُمَّ الْزَمُوا الأَرْضَ جُلُوسًا، فَإِذَا غَشَوْكُمْ فَانْهَضُوا وَكَبِّرُوا» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَبْعَثَنَّ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبَّانِهِ، لا يُوَلِّي الدُّبُرَ» فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ بَعَثَ عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ شَدِيدُ الرَّمَدِ، فَقَالَ:
«سِرْ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِي، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّايَةَ، فَقَالَ، عَلَى مَا أُقَاتِلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ حَقَنُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى» .
رجع إلى الأول: ثم الغموض، حِصْنُ بَنِي أَبِي الْحَقِيقِ، وَأَصَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ سَبَايَا، مِنْهُنَّ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَبِنْتَا [1] عَمٍّ لَهَا، فَاصْطَفَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَجَعَلَهَا عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ حَتَّى اعْتَدَّتْ وَأَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ خُصُوصًا لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَمَا خُصَّ بِالْمَوْهُوبَةِ وَبِالتِّسْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ شَاءَ مِنْ أُمَّتِهِ، وَكَانَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ قَدْ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ، فَلَمَّا اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ أَعْطَاهُ ابْنَتَيْ عَمِّهَا، وَقِيلَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَهَا لَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أرؤس، وفشت
__________
[ (1) ] وفي الأصل: بنتي، وكذلك عند ابن هشام.(2/175)
السَّبَايَا مِنْ خَيْبَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَكَلَ الْمُسْلِمُونَ لُحُومَ الْحُمُر، وَنَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم عَنْ إِتْيَانِ الْحَبَالَى مِنَ النِّسَاءِ، وَأَكْلِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَأَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَبَيْعِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّمَ، وَأَنْ لا يُصِيبَ أَحَدٌ امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَلا يَرْكَبَ دَابَّةً فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أعجفها [1] ردها فيه، ولا يلبس ثوبا في فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ، وَأَنْ يَبِيعَ أَوْ يَبْتَاعَ تِبْرَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ الْعينِ، وَتِبْرَ الْفِضَّةِ بِالْوَرِقِ العينِ،
وَقَالَ: «ابْتَاعُوا تِبْرَ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ، وَتِبْرَ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ العينِ» .
وَفِيهِ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الثَّوْمِ، وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ، وَقَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمًا وَلِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الْفَارِسِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ، وَإِنْ لم يكن فله سهم.
قال ابن إسحق: ثُمَّ جَعَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَدَنَّى الْحُصُونَ وَالأَمْوَالَ، فحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ بَعْضُ أَسْلَمَ، أَنَّ بَنِي سَهْمٍ مِنْ أَسْلَمَ أَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ جُهِدْنَا، وَمَا بِأَيْدِينَا مِنْ شَيْءٍ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا يُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ، وَأَنَّ لَيْسَتْ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَأَنَّ لَيْسَ بِيَدِي مَا أُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُصُونِهَا عَنْهُمْ غناء، وأكثرها طعاما وودكا [2] منه، فغدا النَّاسُ،
فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمَا بِخَيْبَرَ حِصْنٌ كَانَ أَكْثَرَ طَعَامًا وودكا منه، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ حُصُونِهِمْ مَا افْتَتَحَ، وَحَازَ مِنَ الأموال ما جاز، انتهوا إلى حصينهم: الْوطيحِ وَالسَّلالِمِ، وَكَانَا آخِرَ حُصُونِ أَهْلِ خَيْبَرَ افْتِتَاحًا، فَحَاصَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْن هِشَامٍ: وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ: أَمِتْ أَمِتْ [3] .
قَالَ ابن إسحق فحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن سَهْلِ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن سَهْلٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، عَنْ جَابِرِ بْن عَبْد اللَّهِ قَالَ: فَخَرَجَ مرحبٌ الْيَهُودِيُّ مِنْ حِصْنِهِمْ، قَدْ جَمَعَ سِلاحَهُ، يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مرْحَبُ ... شاكي السّلاح بطل مجرّب
__________
[ (1) ] أي أهزلها.
[ (2) ] الودك: الدسم، أو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه، ويطلق كذلك على شحم الألية والجنبيين في الخروف والعجل.
[ (3) ] وفي سيرة ابن هشام: يا منصور، أمت أمت.(2/176)
فِي أَبْيَاتِ [1] ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ،
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي كَعْبٌ ... مفرجُ الْغَمَا جَرِيءٌ صَلْبُ
فِي أَبْيَاتٍ [2] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِهَذَا» ، فَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ الْمَوْتُورُ الثَّائِرُ، قَتَلَ أَخِي بِالأَمْسِ، قَالَ: فَقُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ» قَالَ: وَضَرَبَهُ مُحَمَّد بْن مسلمة حتى قتله، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مرَحَّب أَخُوهُ يَاسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ، فَزَعَمَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ خَرَجَ إِلَى يَاسِرٍ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَقْتُلُ ابْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «بَلِ ابْنُكِ يَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه» فَخَرَجَ الزُّبَيْرُ فالتقيا، فقتله الزبير [3] .
هذه رواية ابن إسحق في قتل مرحب.
وَرُوِّينَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَتَلَهُ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ بِرَايَتِهِ إِلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ، فَقَاتَلَ وَرَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتَحَ، وَقَدْ جُهِدَ ثُمَّ بَعَثَ لِلْغَدِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَاتَلَ وَرَجَعَ، وَلَمْ يَكُنْ فَتَحَ، وَقَدْ جُهِدَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لأَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّه عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ» ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّه عَلَيْكَ» فَخَرَجَ بِهَا يُهَرْوِلُ حَتَّى رَكَزَهَا فِي رضمٍ [4] مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ فَقَالَ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: غَلَوْتُمْ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى مُوسَى، أَوْ كَمَا قَالَ، فما رجع حتى فتح الله عليه.
__________
[ (1) ] وبقية الأبيات عند ابن هشام:
أطقن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرّب
إن حماي للحمى لا يقرب ... يحجم عن صولتي المجرب
[ (2) ] وبقية الأبيات عند ابن هشام:
إذا شبت الحرب تلتها الحرب ... معي حسام كالعقيق عضب
بكف فاض ليس فيه عتب
وقال ابن هشام: أنشدني أبو زيد الأنصاري:
قد علمت خيبر أني كعب ... وأنني متى تشب الحرب
ماض على الهول جري صلب ... معي حسام كالعقيق عضب
بكف ماض ليس فيه عتب ... ندككم حتى يذل الصعب
[ (3) ] أنظر سيرة ابن هشام 3/ 248.
[ (4) ] الرضم: الحجارة المجتمعة، أو الصخور العظام بعضها على بعض.(2/177)
قال ابن إسحق: وحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن حَسَنٍ [1] ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَايَتِهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ فَقَاتَلَهُمْ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَطَرَحَ تِرْسَهُ مِنْ يَدِهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرَسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتَّى فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ فَرَغَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نَفَرٍ سَبْعَةٍ أَنَا ثَامِنُهُمْ نَجْهَدُ عَلَى أَنْ نُقَلِّبَ ذلك الباب فما نقبله.
وَحَاصَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ فِي حِصْنِهِمُ، الْوطيحِ وَالسّلالِمِ، حَتَّى إِذَا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ، وأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَازَ الأَمْوَالَ كُلَّهَا، الشّقّ وَنطاةَ وَالْكَتِيبَةَ وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنَك الْحِصْنَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، سَأَلُوا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ فِي الأَمْوَالِ عَلَى النِّصْفِ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا، فَصَالَحَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّصْفِ، عَلَى أَنَّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَتْحِهَا كَيْفَ كَانَ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا داود بن معاذ، فثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، وَثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبَرْاهِيمَ، وَزِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُمْ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بن مالك، أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا خَيْبَرَ فَأَصَابَهَا عَنْوَةً فَجَمَعَ السبي.
وروينا عن ابن إسحق قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عنوة بعد القتال:
وروينا من طريق السجستاني، فثنا ابن السرح، فثنا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ، وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ أَنَّهَا كَانَتْ عَنْوَةً كُلُّهَا مَغْلُوبًا عَلَيْهَا، بِخِلافِ فَدَكٍ، فَإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم جَمِيعَ أَرْضِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ لَهَا، الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ مَقْسُومَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ تُقَسَّمَ الأَرْضُ إِذَا غُنِمَتِ الْبِلادُ أَوْ تُوَقَّفُ؟ فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا كما فعل رسول
__________
[ (1) ] وعن ابن هشام: الحسن.(2/178)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ، وَبَيْنَ إِيقَافِهَا كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقَسَّمُ الأَرْضُ كُلُّهَا، كَمَا قَسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، لأَنَّ الأَرْضَ غَنِيمَةٌ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى إِيقَافِهَا اتِّبَاعًا لِعُمَرَ، لأَنَّ الأَرْضَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ سَائِرِ الْغَنِيمَةِ بِمَا فَعَلَ عُمَرُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي إِيقَافِهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لا شَيْءَ لَهُمْ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إِلَّا قَسَّمْتُهَا سُهْمَانًا، كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ سُهْمَانًا، [1] وَهَذَا يدل على أَرْضَ خَيْبَرَ قُسِّمَتْ كُلُّهَا سُهْمَانًا كَمَا قَالَ ابن إسحق، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً فَقَدْ وَهِمَ وَغَلِطَ، وَإِنَّمَا دخلت عليه
__________
[ (1) ] قال الإمام الخطابي في معالم السنن: مذهب عمر في تأويل هذه الآيات الثلاث من سورة الحشر: أن تكون منسوقة على الآية الأولى منها، وكان رأيه في الفيء، ألا يخمس كما تخمس الغنيمة، لكن تكون جملته لجملة المسلمين، مرصدة لمصالحهم، على تقديم كان يراه وتأخير فيها وترتيب لها، وإليه ذهب عامة أهل الفتوى غير الشافعي، فإنه كان يرى أن يخمس الفيء، فيكون أربعة أخماس لأرزاق المقاتلة والذرية، وفي الكراع والسلاح وتقوية أمر الدين ومصالح المسلمين، ويقسم خمسة على خمسة أقسام، كما قسم خمس الغنيمة، واحتج بقوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وكان يذهب إلى أن ذكر الله إنما وقع في أول الآية على سبيل التبرك بالافتتاح باسمه، وإنما هو سهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الحقيقة، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل التفسير، قال الشعبي: وعطاء بن أبي رباح:
خمس الله وخمس رسوله واحد، وقال قتادة: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قال: هو لله، ثم بين قسم الخمس خمسة أخماس، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية: هذا مفتاح الكلام في الدنيا والآخرة.
قلت: والذي ذهب إليه الشافعي هو الظاهر في التلاوة، وقد اعتبره بآية الغنيمة، وهو قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فحمل حكم الفيء عليها في إخراج الخمس منه، ويشهد له على ذلك أمران أحدهما أن العطف للآخر على الأول لا يكون إلا ببعض حروف النسق، وحرف النسق معدوم في ابتداء الآية الثانية وهي قوله:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وإنما هو ابتداء كلام.
والمعنى الآخر أن المسلمين في الآية الآخرة وهي قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ لو كانوا داخلين في أهل الفيء، لوجبت أن يعزل حقوقهم، ويترك إلى أن يلحقوا كما يفعل ذلك بالوارث الغائب، والشريك الظاعن، ويحفظ عليه حتى يحضر، ولم يكن يجوز أن يستأثر الحاضرون بحقوق الغيب، إلا أن عمر بن الخطاب أعلم بحكم الآية وبالمراد بها، وقد تابعه عامة الفقهاء ولم يتابع الشافعي على ما قاله. فالمصير إلى قول الصحابي، وهو الإمام العدل المأمور بالاقتداء به في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أولى وأصوب، وما أحسب الشافعي عاقه عن متابعة عمر في ذلك إلا ما غلبه من ظاهر الآية، وأعوزه من دلالة حرف النسق فيما يعتبر من حق النظم، والله أعلم.(2/179)
الشُّبْهَةُ بِالْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنَك الْحِصْنَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مَغْنُومِينَ، ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ، وَلَعَمْرِي أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنَ الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال، فكان حكم أرضهما كحكم سائر أرض خيبر، كلها عنوة غنيمة مقسومة بين أهلها، وَرُبَّمَا شُبِّهَ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ نِصْفَ خَيْبَرَ صُلْحٌ وَنِصْفَهَا عَنْوَةٌ، بِحَدِيثِ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ بَشِيرِ بْن يَسَارٍ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لَهُ، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ النِّصْفَ لَهُ مَعَ سَائِرِ مَنْ وَقَعَ فِي ذلك النصف مع، لأَنَّهَا قُسِّمَتْ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ سَهْمًا، فَوَقَعَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَوَقَعَ سَائِرُ النَّاسِ فِي بَاقِيهَا، وَكُلُّهُمْ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ ثُمَّ خَيْبَرَ. وَلَيْسَتِ الْحُصُونُ الَّتِي أَسْلَمَهَا أَهْلُهَا بَعْدَ الْحِصَارِ وَالْقِتَالِ صُلْحًا، وَلَوْ كَانَتْ صُلْحًا لَمَلَكَهَا أَهْلُهَا كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ الصُّلْحِ أَرْضَهُمْ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ، فَالْحَقُّ فِي هَذَا مَا قَالَهُ ابن إسحق دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْن عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عمر. فَأَمَّا قَوْلُهُ: قَسَّمَ جَمِيعَ أَرْضِهَا، فَإِنَّ الْحِصْنَيْنِ الْمُفْتَتَحَيْنِ أَخِيرًا وَهُمَا:
الوطيحُ وَالسلالمُ، لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي الْقِسْمَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الْقِسْمَةِ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ مُمْكِنًا لَوْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ إِجْمَالٌ يُقْبَلُ التَّفْسِيرُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلامِ عَلَى الْقِسْمَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ ثُمَّ شَهِدَ خَيْبَرَ، فَالْمَعْرُوفُ أَنَّ غَنَائِمَ خَيْبَرَ كَانَتْ لأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ بِخَيْبَرَ وَمَنْ لَمْ يَحْضَرْهَا، وَهُوَ جَابِرُ بْن عبد الله الأنصاري، ذكره ابن إسحق، وَذَلِكَ لأَنَّ اللَّه أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ فِي سفرةِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَعَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي لَيْلَى فِي قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [1] قال: خيبر: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها [2] فَارِسُ وَالرُّومُ، وَإِنَّ أَهْلَ السَّفِينَتَيْنِ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ وَلا خَيْبَرَ، وَكَانُوا مِمَّنْ قُسِّمَ لَهُ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ، وَكَذَلُكَ الدَّوْسِيُّونَ، وَكَذَلِكَ الأَشْعَرِيُّونَ، قدموا رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَكَلَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَفَعَلُوا. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ صُلْحًا وَالْبَعْضُ عَنْوَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. وَكَمَا رُوِّينَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أبي داود قال: قرئ
__________
[ (1) ] سورة الفتح: الآية 18.
[ (2) ] سورة الفتح: الآية 21.(2/180)
عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ، أَخْبَرَكُمُ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً وَبَعْضُهَا صُلْحًا، وَالْكَتِيبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً، وَفِيهَا صُلْحٌ، قُلْتُ: لِمَالِكٍ وَمَا الْكَتِيبَةُ؟ قَالَ: أَرْضُ خَيْبَرَ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عِذْقٍ [1] وَرُوِّينَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أيضا قال أبو داود، فثنا محمد بن يحيى بن فارس، فثنا عبد الله بن محمد، عن جورية، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً، وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ علي العجلي، فثنا يحيى يعني ابن آدم، فثنا ابن أبي زايدة، عن محمد بن إسحق، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالُوا: بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ تَحَصَّنُوا، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُسَيِّرَهُمْ، فَفَعَلَ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكٍ، فنزلوا على مثل ذلك- الحديث.
قُلْتُ: وَقَدْ يُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا يَأْتِي فِي أَخْبَارِ الْقِسْمَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بن أبي الزرقاء، فثنا أبي فثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل أهل خيبر، فغلب على النحل وَالأَرْضِ، وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى قَصْرِهِمْ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنَّ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ وَالْحَلقَةَ [2] ، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ عَلَى أَنْ لا يَكْتُمُوا وَلا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ فِيهِ حُلَيِّهِمْ.
وَفِي الْخَبَرِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْيَةَ [3] «أَيْنَ مَسْكُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ»
قَالَ: أَذْهَبَتْهُ الْحُرُوبُ وَالنَّفَقَاتُ، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ، فَقُتِل ابْن أَبِي الْحَقِيقِ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْلِيَهُمْ، فَقَالُوا: دَعْنَا نَعْمَلُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ وَلَنَا الشَّطْرُ مَا بَدَا لَكَ وَلَكُمُ الشطر. وزاد أبو كبر الْبَلاذِرِيُّ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَالَ: فَدَفَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْيَةَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى الزُّبَيْرِ فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ، فَقَالَ: رَأَيْتُ حييا يطوف في خربة هاهنا، فَذَهَبُوا إِلَى الْخَرِبَةِ فَفَتَّشُوهَا فَوَجَدُوا الْمَسْكَ [4] . فَقَتَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَيْ أبي الحقيق، فأحدهما زوج
__________
[ (1) ] العذق: النخلة.
[ (2) ] أي الذهب والفضة والسلاح.
[ (3) ] سعية: يهودي من بني النضير، هو عم حيي بن أخطب.
[ (4) ] قال الإمام الخطابي في معالم السنن: مسك حيي بن أخطب: دخيرة من صامت وحلي كانت له، وكانت تدعى: مسك الحمل، ذكروا أنها قومت عشرة آلاف دينار، فكانت لا تزف امرأة إلا استعاروا لها ذلك الحلي، وكان شارطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكتموه شيئا من الصفراء والبيضاء، فكتموه(2/181)
صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَقَسَّمَ أَمْوَالَهُمْ لِلنكْثِ الَّذِي نَكَثُوا. فَفِي هَذَا أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَأَنَّ الصُّلْحَ انْتُقِضَ، فَصَارَتْ عَنْوَةً، ثُمَّ خَمَّسَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم وقسمها.
ذكر القسمة
قال ابن إسحق: وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِلْقِسْمَةِ بِخَيْبَرَ جبارُ بْنُ صَخْرٍ الأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ كَانَا حَاسِبَيْنِ قَاسِمَيْنِ.
قَالَ ابْن سَعْدٍ: وَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ، فَجُمِعَتْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا فَرْوَةَ بْن عَمْرٍو الْبَيَاضِيَّ، ثُمَّ أَمَرَ بِذَلِكَ، فَجُزِّئَ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَكتب فِي سَهْمٍ مِنْهَا لِلَّهِ، وَسَائِرُ السَّهْمَانِ أَغْفَال، وَكَانَ أَوَّلَ مَا خَرَجَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَخَيَّرْ فِي الأَخْمَاسِ، فَأَمَرَ بِبَيْعِ الأَرْبَعَةِ الأَخْمَاسِ فِيمَنْ يَزِيدُ، فَبَاعَهَا فَرْوَةُ، وَقَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ إِحْصَاءَ النَّاسِ زَيْدُ بن ثابت فأحصاهم ألفا وأربعمائة، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَكَانَتِ السَّهْمَانِ عَلَى ثَمَانِيَةُ عشر سهما، لكل مائة سهم، وللخيل أربعمائة سَهْمٍ، وَكَانَ الْخُمُسُ الَّذِي صَارَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي مِنْهُ عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ السِّلاحِ وَالْكِسْوَةِ، وَأَعَطى مِنْهُ أَهْلَ بَيْتِهِ وَرِجَالا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَنِسَاءٌ، وَالْيَتِيمَ وَالسَّائِلَ، وَأَطْعَمَ مِنَ الْكَتِيبَة نِسَاءَهِ وَبَنِي عَبْد الْمُطَّلِبِ وَغَيْرَهُم. ثُمَّ ذَكَرَ قُدُومَ الدَّوْسِيِّينَ وَالأَشْعَرِيِّينَ وَأَصْحَابِ السَّفِينَتَيْنِ، وَأَخْذَهُمْ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ، وَلَمْ يَبَيَنْ كَيْفَ أَخَذُوا.
وَإِذَا كانت القسمة على ألف وثمانمائة سهم، وأهل الحديبية ألفا وأربعمائة، والخيل مائتي فرس بأربعمائة سهم، فما الذي أخذه هؤلاء المذكورون.
وقال ابن إسحق: وَكَانَتِ الْمَقَاسِمُ عَلَى أَمْوَالِ خَيْبَرَ عَلَى الشّقّ ونطاة والكتيبية، فَكَانَتِ الشقّ وَنطاةُ فِي سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الكتيبة خمس الله، ثم قال: وكانت نطاة وَالشّقّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا نطاة، مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَالشّقّ ثَلاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وقسمت الشق ونطاة على ألف وثمانمائة سَهْمٍ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الَّذِينَ قُسِّمَتْ عَلَيْهِمْ خَيْبَرُ ألفا وثمانمائة، رِجَالُهُمْ وَخَيْلُهُمْ، الرِّجَالُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ، وَالْخَيْلُ مائتان، لكل فرس
__________
[ () ] ونقضوا العهد، وظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من أمره فيهم ما كان.
والمسك: الجلد.(2/182)
سَهْمَانِ. وَهَذَا أَشْبَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الثَّلاثَةَ مَفْتُوحَةٌ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ. وَأَمَّا الوطيحُ وَالسلالِمُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي اصْطَفَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَنُوبُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَرَجَّحُ حِينَئِذٍ قَوْلُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: أَنَّ بَعْضَ خَيْبَرَ كَانَتْ صُلْحًا، وَيَكُونُ أَخْذِ الأَشْعَرِيِّينَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي إِعْطَائِهِمْ لَيْسَتِ اسْتَنْزَالا لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَشُورَةُ الْعَامَّةُ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [1] .
وروى البلاذري: فثنا الحسين بن الأسود، فثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُسِّمَتْ خيبر على ألف وخمسمائة سهم وثمانين سهما، وكانوا ألفا وخمسمائة وَثَمَانِينَ رَجُلا الَّذِينَ شَهِدُوا الْحُدَيْبِيَةَ، مِنْهُمْ أَلْفٌ وخمسمائة وَأَرْبَعُونَ، وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ أَرْبَعُونَ رَجُلا، لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَعَ ضَعْفِهِ ذِكْرٌ لِلْخَيْلِ، وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ السَّفِينَتَيْنِ، كَانُوا أَرْبَعِينَ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسحق أَنَّ أَصْحَابَ السَّفِينَتَيْنِ كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلا، وَأَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ قَدِمُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَدْخَلٌ فِي هَذَا، وَمَجْمُوعُهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَثَلاثِينَ رَجُلا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَصْحَابَ السَّفِينَتَيْنِ وَمَنْ أُخِذَ مَعَهُمْ مِنَ الدَّوْسِيِّينَ وَالأَشْعَرِيِّينَ فَقَدْ يُحْتَمَلُ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُمَرَ: قَسَّمَ جَمِيعَ أَرْضِهَا بَيْنَ الغانمين، فقد حكينا عن ابن إسحق مَا قُسِّمَ مِنْهَا، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ: فَثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: فَثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: وَثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ داود المهري، فثنا ابن وهب قال: أخبرني عبد العزيز مُحَمَّدٍ (ح) وَثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ، كُلُّهُمْ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كَانَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثُ صَفَايَا: بَنُو النَّضِيرِ، وَخَيْبَرُ، وَفَدَكٌ، فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حُبُسًا النوائبة، وَأَمَّا فَدَكٌ فَكَانَتْ حُبُسًا لأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ، جُزْءَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لأَهْلِهِ، وَمَا فَضُلَ عَنْ نَفْقَةِ أَهْلِهِ جعله بين فقراء المهاجرين [2] . وأما حديث بشير بن
__________
[ (1) ] سورة آل عمران: الآية 159.
[ (2) ] أنظر سنن أبي داود (3/ 375) رقم 2967.(2/183)
يسار فبشير بن يسار تابعين ثقة يروى عن أنس بن ملك وغيره، يروى عن هَذَا الْخَبَرَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيُخْتَلَفُ عَلَيْهِ فِيهِ فَبَعْضُ أَصْحَابِ يَحْيَى يَقُولُ فِيهِ عَنْ بَشِيرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُول إِنَّهُ سَمِعَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسِلُهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أبي داود: فثنا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ آدَمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَكَانَ النِّصْفُ سِهَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُزِلَ النِّصْفُ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يَنُوبُهُ مِنَ الأُمُورِ وَالنَّوَائِبِ. وَرِوَايَةُ مُحَمَّد بْن فُضَيْلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَّمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ سَهْمًا، جَمَعَ كُلّ سَهْمٍ مِائَة سَهْمٍ، فَكَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعُزِلَ النِّصْفُ الْبَاقِي لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالأُمُور وَنَوَائِبِ النَّاسِ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ النِّصْفَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ الْمَقْسُوم عَلَيْهِمْ، وَالنِّصْفَ الْبَاقِي هُوَ الْمُؤَخَّرُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وأصرح منها رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ بْن بِلالٍ، عَنْ يَحْيَى عَنْ بَشِيرٍ الْمُرْسَلَةُ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَسَّمَهَا سِتَّةً وَثَلاثِينَ سَهْمًا، فَعَزَل لِلْمُسْلِمِينَ الشَّطْرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، يَجَمْعُ كُلَّ سَهْمٍ مِائَة سَهْمٍ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ لَهُ سَهْم كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ، وَعَزَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُوَ الشَّطْرُ لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ الوطيحَ وَالكتيبةَ وَالسلالِمَ وَتَوَابِعَهَا الْحَدِيثَ. فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ الْمُدَّخَرَ لِلنَّوَائِبِ الَّذِي لَمْ يُقَسَّمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ هُوَ الْوَطِيحُ، والسلالمُ الَّذِي لَمْ يَجْرِ لَهُمَا فِي الْعَنْوَةِ ذِكْرٌ صَرِيحٌ، وَالكتيبة هِيَ الَّتِي كَانَ بَعْضُهَا صُلْحًا، وَبَعْضُهَا عَنْوَةً، وَقَدْ يَكُونُ غَلَبَ حُكْمُ الصُّلْحِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقَسِّمْ فِيمَا قَسَّمَ. فَلَمْ يَبْقَ لِتَأْوِيلِ أَبِي عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّه وَجْهٌ، وَنَصُّ الْخَبَرِ يُعَارِضُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَدَفَعَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِهَا بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَثْنَاءِ خلافة عمر. قَرَأْتُ عَلَى غَازِي بْنِ أَبِي الْفَضْلِ: أَخْبَرَكُمْ حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ قَالَ: أَنَا ابْنُ الْقَطِيعِيِّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد، فثنا أبي، فثنا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ.(2/184)
وَقُتِلَ مِنَ الْيَهُودِ ثَلاثَةٌ وَتِسْعُونَ رَجُلا، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا فِيمَا ذَكَرَ ابْن سَعْدٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ، وَمِنْهُمُ: الأَسْوَدُ الرَّاعِي، وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِبَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ، وَمَعَهُ غَنَمٌ كان فيها أجير الرجل مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلامَ، فَعَرَضَهُ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُحَقِّرُ أَحَدًا أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الإِسْلامِ وَيَعْرِضَهُ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَجِيرًا لِصَاحِبِ هَذَا الْغَنَمِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدِي، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: «اضْرِبْ فِي وَجْهِهَا فَإِنَّهَا سَتَرْجِعُ إِلَى رَبِّهَا» أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَامَ الأَسْوَدُ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهَا وَقَالَ: ارْجِعِي إِلَى صَاحِبِكِ، فَوَاللَّهِ لا أَصْحَبُكِ، وَخَرَجَتْ مُجْتَمِعَةً كَأَنَّ سَائِقًا يَسُوقُهَا حَتَّى دَخَلَتِ الْحِصْنَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَاتَلَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فَقَتَلَهُ، فَأُتِيَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوُضِعَ خَلْفَهُ وَسُجِّيَ بِشَملَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ أَعْرَضْتَ عَنْهُ؟ قَالَ: «إِنَّ مَعَهُ الآنَ زَوْجَتَيْهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ يَنْفُضَانِ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولانِ: تَرَّبَ اللَّهُ وَجْهَ مَنْ تَرَّبَ وَجْهَكَ وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَكَ» .
وَرُوِّينَا مِنْ طريق البخاري: فثنا المكي بن إبراهيم، فثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ:
رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ: مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ [1] .
ذكر من استشهد بخيبر
مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْن عَبْد شَمْسٍ مِنْ حُلَفَائِهِمْ: رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَثقفُ بن عمرو، ورفاعة بن مسروح ثَلاثَةٌ، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْن عَبْد الْعُزَّى: عَبْد اللَّهِ بْن الْهُبَيْبِ، وَقِيلَ: أَهْيَبُ بْنُ سُحَيْمِ بْنِ غَبْرَةَ، مِنْ بَنِي سَعْد بْن ليث، حليفهم، وابن أختهم رجل. وَمِنَ الأَنْصَارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَفُضَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ.
قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْدٍ: كَذَا وَجَدْنَاهُ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَطَلَبْنَاهُ فِي نَسَبِ بَنِي سَلَمَةَ فَلَمْ نَجِدْهُ، قَالَ: وَلا نَحْسَبْهُ إِلَّا وَهْمًا فِي الْكِتَابِ، وإنما أراد الطفيل بن النعمان بن
__________
[ (1) ] أنظر صحيح البخاري (5/ 75) .(2/185)
خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ، وَنَسَبُ الطُّفَيْلِ هَذَا فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ كِتَابِ:
الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَأُحُدًا، وَجُرِحَ بِهَا ثَلاثَةَ عَشَرَ جُرْحًا، وَعَاشَ حَتَّى شَهِدَ الْخَنْدَقَ، وَقُتِلَ بِالْخَنْدَق شَهِيدًا، قَتَلَهُ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْبَدْرِيِّينَ: الطُّفَيْلَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ، وَالطُّفَيْلَ بْنَ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ، رَجُلَيْنِ. وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ، وَمِنَ الأَوْسِ مِنْ بَنِي عَبْد الأَشْهَلِ: مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، أَدْلَى عَلَيْهِ مرحب رحى فأصابت رَأْسَهُ، فَهَشَّمَتِ الْبيضَةُ رَأْسَهُ، وَسَقَطَتْ جِلْدَةُ جَبِينِهِ عي وَجْهِهِ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ الْجِلْدَةَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ، وَعَصَبَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِهِ، فَمَكَثَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ، وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عوف أبو ضياح بن ثابت، والحرث بْنُ حَاطِبٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ بُرَّةَ بْنِ سُرَاقَةَ، وَعِنْدَ أَبِي عُمَرَ: عُرْوَةُ بْنُ مُرَّةَ، وَأَوْسُ بْنُ الْفَائِدِ، وَعِنْدَ أَبِي عُمَرَ بْنُ الْفَاكِهِ، وأنيف بن حنيب، وثابته بن واثلة، وعند ابن إسحق: ابْن أَثَلَةَ، وَطَلْحَةُ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَسَبِهِ، وَأَوْسُ بْنُ قَتَادَةَ. وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ: عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ، رُمِيَ بِسَهْمٍ. وَمِنْ أَسْلَمَ: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، عَمُّ سَلَمَةَ بْن عَمْرِو بْنِ الَأْكَوِع. وَالأَكْوَعُ هُوَ: سِنَانُ بْنُ عَبْد اللَّهِ بْن قُشَيْرِ بْن خُزَيْمَةَ بْن مَالِكِ بْن سَلامَانَ بْن أَسْلَمَ بْن أَفْصَى. وَالأَسْوَدُ الرَّاعِي، وَاسْمُهُ: أَسْلَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ، وَمِنْ حُلَفَاءِ بني زهرة: مسعود بن ربيعة القارئ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدُّي: مَاتَ سَنَةَ ثَلاثِينَ، وَقَدْ زَادَ عَلَى السِّتِّينَ. وَعِنْدَ أَبِي عُمَرَ: فِيهِمْ أَوْسُ بْنُ عَائِذٍ.
أَمْرُ وَادِي الْقُرَى
وَكَانَ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ. ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلاذُرِيُّ بِأَسَانِيدِهِ قَالَ: قَالُوا:
أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ خَيْبَرَ وَادِي الْقُرَى، فَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى الإِسْلامِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَاتَلُوا، فَفَتَحَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً، وَغَنَّمَهُ اللَّه أَمْوَالَ أَهْلِهَا، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا، فَخَمَّسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ الأَرْضَ وَالنَّخْلَ فِي أَيْدِي يَهُودَ، وَعَامَلَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا عَامَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ خَيْبَرَ، فَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ أَجْلَى يَهُودَهَا، وَقَسَّمَهَا بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُجْلِهِمْ لأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الْحِجَازِ،(2/186)
وَهِيَ الْيَوْمَ مُضَافَةٌ إِلَى عَمَلِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّاهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بْنَ سَعِيد بْن الْعَاصِ، وَأَقْطَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمْرَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ هَوْذَةَ الْعُذْرِيَّ رَمْيَةَ صَوْتِهِ مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عُذْرَةَ، وَأَوَّلَ أَهْلِ الْحِجَازِ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ بَنِي عُذْرَةَ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عمر أنه افتتحها عنوة وقسمها.
وأما ابن إسحق فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَهَا لَيَالِي، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا أُصِيبَ غُلامٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، أَصَابَهُ سَهْمُ غربٍ [1] فَقَتَلَهُ. أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ، نِظَامُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِيِّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ بِمِصْرَ قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُبَارَكُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُخْتَارِ بْنِ تَغْلِبَ بن السبيبي في كتابه إليّ مِنْ مَدِينَةِ السَّلامِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وخمسمائة، وتوفي سنة ستمائة، قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ قَالَ: أَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ قَالَ: أَنَا عُبَيْدُ الله بن محمد بن إسحق المتوثي، فثنا البغوي، فثنا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا وَرِقًا، إِلَّا الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ وَالأَمْوَالَ،
قَالَ: فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ وَادِي الْقُرَى، وَقَدْ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ أَسْوَدُ يقال له: بدعم، يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَابِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، فَلَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ [2] أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ» أَوْ «شِرَاكَانِ من نار» .
قال البلاذري: حدثني علي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ مَوْلَى قُرَيْشٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَتَى عَبْد الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ كَانَ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ أَرْضًا بِوَادِي الْقُرَى، وَأَحْيَا إِلَيْهَا أَرْضًا، وَلَيْسَتْ لَكَ بِذَلِكَ الْمَالِ عِنَايَةٌ، فَقَدْ ضَاعَ وَقَلَّتْ غَلَّتُهُ، فَأَقْطِعْنِيهِ فَإِنَّهُ لا حظر له، فقال
__________
[ (1) ] أي لا يعرف من رماه.
[ (2) ] وهو سير النعل الذي يكون على ظهر القوم، والجمع: شرك وأشرك.(2/187)
يَزِيدُ: إِنَّا لا نَبْخَلُ بِكَثِيرٍ، وَلا نَخْدَعُ عَنْ صَغِيرٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غَلَّتُهُ كَذَا، قَالَ: هُوَ لَكَ، فَلَمَّا وُلِّيَ قَالَ يَزِيدُ: هَذَا الَّذِي يُقَالُ أَنَّهُ يَلِي بَعْدَنَا، فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا فَقَدْ صَانَعْنَاهُ، وَإِنْ يكن باطلا فقد وصلناه.
خبر تيماء
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلاذُرِيُّ: قَالُوا: قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ تَيْمَاءَ مَا وَطِئَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ وَادِي الْقُرَى صَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، فَأَقَامُوا بِبِلادِهِمْ وَأَرْضِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَوَلاها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ إِسْلامُهُ يَوْمَ فَتْحِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْد الْعَزِيزِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى أَهْلَ فَدَكٍ وَتَيْمَاءَ وَخَيْبَرَ.
سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى تُرَبَةَ
قَالَ ابْن سَعْدٍ عَطْفًا عَلَى وَقْعَةِ خَيْبَرَ: ثُمَّ سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى تُرَبَةَ فِي شَعْبَانَ، سَنَةَ سَبْعٍ من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا إِلَى عَجُزِ هَوَازِنَ بِتُرَبَة، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْعبلاءِ، عَلَى أَرْبَعِ لَيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، طَرِيق صنعاء وبخران، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي هِلالٍ، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، فَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ فَهَرَبُوا، وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَحَالهُمْ، فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
تُرَبَةُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ عُرَنَة، ذَكَرَهُ الْحَازِمِيُّ وَقَالَ: بِقُرْبِ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ مِنْهَا. وَذَكَرَهُ ابْن سِيدَهْ فِي الْمِثَالِ لَهُ، وَقَالَ: أَسْمَاءُ مَوَاضِعَ. وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ: تُرَبَةَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحَازِمِيِّ تُربَة سَاكِنَة الرَّاءِ، مَوْضِعٌ مِنْ بِلادِ بَنِي عَامِرِ بن مالك.
سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إِلَى بَنِي كِلابِ بِنَجْدٍ
ثُمَّ سَرِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى بَنِي كِلابٍ بِنَجْدٍ، بِنَاحِيَةِ ضَرِيَّةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ مُهَاجِرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَا هَاشِمُ بْنُ القاسم [1] ، فثنا [2] عكرمة يعني ابن
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات الكبرى: الكناني.
[ (2) ] وعند ابن سعد في الطبقات الكبرى: أخبرنا.(2/188)
عمار، فثنا [1] إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَسَبَى نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلْنَاهُمْ، فَكَانَ شِعَارُنَا: أَمِتْ أَمِتْ، قَالَ:
فَقَتَلْتُ بِيَدِي سَبْعَةً أَهْلَ أَبْيَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ: أَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، فثنا [1] عكرمة بن عمار فثنا [1] إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى فَزَارَةَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ [حتى إذا ما دنونا من الماء عرّس أبو بكر] [2] حتى إذا ما صلينا الصبح أمرنا فشتينا [3] الْغَارَةَ فَوَرَدْنَا الْمَاءَ، فَقَتَلَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ قَتَلَ وَنَحْنُ مَعَهُ، قَالَ سَلَمَةُ: فَرَأَيْتُ عُنُقًا [4] من الناس [فيهم] [5] الذَّرَارِيُّ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَلِ فَأَدْرَكْتُهُمْ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا رَأَوُا السَّهْمَ قَامُوا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ فَزَارَةَ فِيهِمْ، عَلَيْهَا قَشْعٌ [6] مِنْ أَدَمٍ مَعَهَا ابْنَتُهَا مِنْ أحسن العرب، فجئت أسواقهم إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ،
ثُمَّ بَاتَتْ عِنْدِي فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا، حَتَّى لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِي الْمَرْأَةَ» فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَسَكَتَ، حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ وَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ» قَالَ: فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَبَعَثَ بِهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَكَّةَ، فَفَدَى بِهَا أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ.
سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ إِلَى فَدَكٍ
ثُمَّ سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ إِلَى فَدَكٍ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكٍ، فَخَرَجَ فَلَقِيَ رِعَاءَ الشَّاءِ، فَسَأَلَ عَنِ النَّاسِ، فَقِيلَ: فِي بَوَادِيهِمْ، فَاسْتَاقَ النَّعَمَ وَالشَّاءَ، وَانْحَدَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ الصَّرِيخُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَدْرَكَهُ الدّهمُ [7] مِنْهُمْ عِنْدَ
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات الكبرى: أخبرنا.
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات (2/ 118) .
[ (3) ] وعند ابن سعد: فشننا.
[ (4) ] أي جماعة.
[ (5) ] وردت في الأصل: فمنهم، وما أثبتناه من الطبقات.
[ (6) ] القشعة: القطعة الحلق اليابسة من الجلد، والجمع: قشاع.
[ (7) ] الدهم: العدد الكثير، يقال: جاء دهم من الناس، وجيش دهم: كثير.(2/189)
اللَّيْلِ، فَبَاتُوا يُرَامُونَهُمْ بِالنَّبْلِ، حَتَّى فَنِيَتْ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ. وَقَاتَلَ بَشِيرٌ حَتَّى ارْتُثَّ [1] وَضُرِبَ كَعْبُهُ وَقِيلَ قَدْ مَاتَ، وَرَجَعُوا بِنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ، وَقَدِمَ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيُّ بِخَبَرِهِمْ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَدَّمَ مِنْ بَعْدِهِ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ.
سَرِيَّةُ غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة
قَالَ [2] : ثُمَّ سَرِيَّةُ غَالِبِ بْن عَبْد اللَّهِ اللَّيْثِيِّ إِلَى الْميفعَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ [3] قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْن عَبْد اللَّهِ إِلَى بَنِي عُوالٍ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَبَنِي عَبْد بْن ثَعْلَبَةَ وُهَمْ بِالْميفعَةِ، وَهِيَ وَرَاءُ بَطْنِ نَخْلٍ إِلَى النّقرةِ قَلِيلا بِنَاحِيَةِ نَجْدٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ بُرْدٍ [4] بَعَثَهُ فِي مِائَةٍ وَثَلاثِينَ رَجُلا، وَدَلِيلُهُمْ يَسَارٌ مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَجَمُوا عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَوَقَعُوا فِي وَسَطِ مَحَالهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْ أَشْرَافٍ لَهُمْ، وَاسْتَاقُوا نَعَمًا وَشَاءً، فَحَدَرُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَأْسِرُوا أَحَدًا.
وَفِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ قَتَلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلا [5] شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ فَتَعْلَمَ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ» ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: لا أُقَاتِلُ أَحَدًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِهَذِهِ السَّرِيَّةِ: بَابَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إلى الحراقات [6] مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، فثنا هشيم قال: أنا حصين، فثنا أَبُو ظَبْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ (بَطْنٍ مِنْ جُهَيْنَةَ) فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلا مَنْهُمْ، فَلَمَّا غَشَيْنَاهُ قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ،
فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ! قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا [7] ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ [8] .
__________
[ (1) ] أي أصابته جراحة.
[ (2) ] أي ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 119) .
[ (3) ] وعند ابن سعد: من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
[ (4) ] وهي أميال اختلف في عددها.
[ (5) ] وعند ابن سعد: ألا.
[ (6) ] الحرقات: قبيلة من جهينة، سميت بذلك لأن أباهم حرق قوما بالقتل وبالغ في ذلك.
[ (7) ] وردت في الأصل: إنما كان متعوذا، وما أثبتناه لفظ البخاري.
[ (8) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (5/ 88) .(2/190)
سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ إِلَى يَمَنٍ وجبار
قَالَ: ثُمَّ سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ إِلَى يَمَنٍ وَجَبَارٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَان بِالْجنابِ قَدْ وَاعَدَهُمْ عُيَيْنَة بْن حِصْنٍ الْفَزَارِيّ لِيَكُونَ مَعَهُمْ لِيُزَحِفُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ، فَعَقَدَ لَهُ لواء، وبعث معه ثلاثمائة رَجُلٍ، فَسَارُوا اللَّيْلَ، وَكَمِنُوا النَّهَارَ، حَتَّى أَتَوْا إِلَى يَمَنٍ وَجَبَارٍ، وَهِيَ نَحْوَ الجنابِ، وَالْجنابُ مَعَارِضُ [1] سِلاحٍ وَخَيْبَرَ وَوَادِي الْقُرَى، فَنَزَلُوا بِسِلاحٍ، ثُمَّ دَنَوْا مِنَ الْقَوْمِ فَأَصَابُوا لَهُمْ نَعَمًا كثيرا، وتفرق الرعاء، فحذروا الجمع، فترقوا وَلَحِقُوا بِعُلْيَا بِلادِهِمْ، وَخَرَجَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ في أصحابه حتى أتى محالهم، فيجدها وَلَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، فَرَجَعَ بِالنَّعَمِ، وَأَصَابَ مِنْهُمْ رُجَلَيْنِ فَأَسَرَهُمَا، وَقَدِمَ بِهِمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فأسلما فأرسلهما.
وَيَمَنٌ: بِفَتْحِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، وَقِيلَ: بِضَمِّهَا، وَقِيلَ: بِالْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةٍ سَاكِنَةِ الْمِيمِ.
وَجَبَارٌ: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَبَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثَانِيَةِ الْحُرُوفِ مُخَفَّفَةٍ، وَبَعْدهَا أَلَفٌ وَرَاءٌ.
وَالْجِنَابُ: بِكَسْرِ الْجِيمِ مِنْ أَرْضِ غَطَفَانَ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا الْحَازِمِيُّ وَقَالَ: مِنْ بِلادِ فَزَارَةَ.
وَعَارَضْتُ فُلانًا فِي السَّيْرِ: أَيْ سِرْتُ حِيَالَهُ.
وَسِلاحٌ: بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ خَيْبَرَ.
عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَيُقَالُ لَهَا: عُمْرَةُ الْقِصَاصِ
وَكَانَ مِنْ خَبَرِهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ السَّابِعَةِ قَاصِدا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَلَى مَا عَاقَدَ عَلَيْهِ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ. فَلَمَّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِقُرَيْشٍ، خَرَجَ أكابر منهم عن مكة عداوة لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّبْرِ فِي رُؤْيَتِهِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَدَخَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَأَتَمَّ اللَّهُ لَهُ عُمْرَتَهُ، وَقَعَدَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ بِقُعَيْقَعَانِ [2] يَنْظُرُونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: يعارض.
[ (2) ] وهو جبل مكة المعروف، مقابل لأبي قبيس.(2/191)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرّملِ [1] لَيُرَوْا الْمُشْرِكِينَ أَنَّ بِهِمْ قُوَّةً، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا فِي الْمُهَاجِرِينَ: قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمى يَثْرِبَ، وَتَزَوَّجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَتِهِ تِلْكَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْهِلالِيَّةَ، قِيلَ: تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَتِهِ، وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَقِيلَ:
تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَمَّا تَمَّتِ الثَّلاثَةُ الأَيَّامُ الَّتِي هِيَ أَمَدُ الصُّلْحِ، جَاءَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْد الْعُزَّى وَمَعَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَكَّةَ، وَلَمْ يُمْهِلُوهُ حَتَّى يَبْنِي عَلَى مَيْمُونَةَ، فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنَى بِهَا بِسَرْفٍ [2] .
وَذَكَرَ ابْن سَعْدٍ أَنَّ الْمُعْتَمِرِينَ بِهَا كَانُوا أَلْفَيْنِ هُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَوِ اسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم على المدينة أبارهم الْغِفَارِيَّ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَسَاقَ سِتِّينَ بَدَنَةً، وَجَعَلَ عَلَيْهَا نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ قَدَّمَ عَلَيْهَا مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ أَمَامَهُ. وَجَعَلَ عَلَى السِّلاحِ: أَوْسَ بْنَ خَوْلِي فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ بِبَطْنِ ياججَ، ثُمَّ خَلَفَهُمْ كُلَّهُمْ حَتَّى قَضَى الْكُلُّ مَنَاسِكَ عُمْرَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم. أَخْبَرَنَا أحمد بن يوسف الساوي بقراءة والذي عَلَيْهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وستمائة قَالَ: أَنَا أَبُو رَوْحٍ الْمُطَهَّرُ بْنُ أَبِي بكر البيهقي سماعا عليه سنة خمس وستمائة قَالَ: أَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ علقٍ الطُّوسِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيٍّ نَصْرُ الله بن أحمد بن عثمان الخشنامي قال: أَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَيْدَانِيُّ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يحيى الذهلي، فثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِغُرْزِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ [3]
__________
[ (1) ] أي بالهرولة.
[ (2) ] موضع قريب من التنعيم، وبه تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميمونة الهلالية، وبه توفيت ودفنت.
[ (3) ] وعند ابن سعد في الطبقات الكبرى (2 (121) .
خلوا بني الكفار عن سبيله* خلوا فكل الخير مع رسوله نحن ضربناكم على تأويله* كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله* ويذهل الخليل عن خليله يا رب إني مؤمن بقيله(2/192)
وكان إسلام عمرو بن العصا وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ قُبَيْلَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَقِيلَ بَعْدَهَا.
سَرِيَّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ
قَالَ ابْن سَعْدٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ ابْن أَبِي الْعَوْجَاءِ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ [1] قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ابْن أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيَّ فِي خَمْسِينَ رَجُلا إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَهُ عَيْنٌ لَهُمْ كَانَ مَعَهُمْ فَحَذَرَهُمْ فَجَمَعُوا، فَأَتَاهُمُ ابْن أَبِي الْعَوْجَاءِ وَهُمْ مُعِدُّونَ لَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا إِلَى مَا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ [2] فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، وَجَعَلَتِ الأَمْدَادُ تَأْتِي، حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ قِتَالا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ عَامَّتُهُمْ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا مَعَ الْقَتْلَى، ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى بَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْد اللَّهِ اللَّيْثِيِّ إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكَدِيدِ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْد اللَّهِ اللَّيْثِيِّ إِلَى بَنِي الملوح بالكّديد، في صفر سنة ثمان [3] قال: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ، فثنا [4] عبد الوارث بن سعيد فثنا [5] محمد بن إسحق عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ جُنْدُبَ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي كِلابِ بْنِ عَوْفٍ فِي سَرِيَّةٍ كُنْتُ فِيهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشُنُّوا الْغَارَةَ عَلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكَدِيدِ، وَهُمْ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْكَدِيدِ لقينا الحرث بْنَ الْبُرَصَاءِ اللَّيْثِيَّ فَأَخَذْنَاهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُ أُرِيدُ الإِسْلامَ، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَمْ يَضُرَّكَ رِبَاطُنَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَسْتَوْثِقُ مِنْكَ، قَالَ: فَشَدَدْنَاهُ وِثَاقًا، وَخَلَّفْنَا عَلَيْهِ رُوَيْجِلا مِنَّا أَسْوَدَ، فَقُلْنَا: إِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَسِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْكَدِيدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَمِنَا فِي ناحية الوادي،
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات: من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
[ (2) ] وعند ابن سعد في الطبقات: إلى ما دعوتنا.
[ (3) ] وعند ابن سعد في الطبقات: من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
[ (4) ] وعند ابن سعد: أخبرنا.
[ (5) ] وردت في الأصل: آتى وما أثبتناه ومن الطبقات.(2/193)
وبعثني أصحابي ربيئة لهم، فخرجت حتى [أتيت] [1] تَلًّا مُشْرِفًا عَلَى الْحَاضِرِ يُطْلِعُنِي عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا أَسْنَدْتُ فِيهِ عَلَوْتُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ اضطجعت عليه، قال: فإني لأنظر إذا حرج [رجل] [2] مِنْهُمْ مِنْ خِبَاءٍ لَهُ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: إِنِّي لأَنْظُرُ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ سَوَادًا مَا رَأَيْتُهُ أَوَّلَ مِنْ يَوْمِي هَذَا، فَانْظُرِي إِلَى أَوْعِيَتِكِ لا تَكُونُ الْكِلابُ جَرَّتْ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ مِنْ أَوْعِيَتِي شَيْئًا، قَالَ: فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَنَبْلِي، فَنَاوَلَتْهُ قَوْسَهُ وَسَهْمَيْنِ مَعَهَا، فَأَرْسَلَ سَهْمًا، فَوَاللَّهِ مَا أَخْطَأَ بَيْنَ عَيْنَيَّ، قَالَ: فَانْتَزَعَتْهُ فَوَضَعَتْهُ وَثَبَتَ مَكَانِي، ثُمَّ أَرْسَلَ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِي مَنْكِبِي فَانْتَزَعْتُهُ، فَوَضَعْتُهُ وَثَبَتَ مَكَانِي قَالَ: فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ رَبِيئَةً لَقَدْ تَحَرَّكْتِ بَعْدُ، وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهَا سَهْمَانِ [3] لا أَبًا لَكِ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَانْظُرِيهِمَا لا تَمْضُغُهُمَا الْكِلابُ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ، وَرَاحَتِ الْمَاشِيَةُ مِنْ إِبِلِهِمْ وَأَغْنَامِهِمْ، فَلَمَّا احْتَلَبُوا وَاطْمَأَنُّوا [4] فَنَامُوا، شَنَنَّا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ، قَالَ: فَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ فِي قَوْمِهِمْ، فَجَاءَ مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ، فَخَرَجْنَا به نحدرها، حتى مَرَرْنَا بِابْنِ الْبُرَصَاءِ فَاحْتَمَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا، فَأَدْرَكْنَا الْقَوْمَ، حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْنَا مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلَّا الْوَادِي، وَنَحْنُ مُوَجِّهُونَ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، إِذْ جَاءَ اللَّهُ بِالْوَادِي مِنْ حَيْثُ شَاءَ يَمْلأُ جَنْبَيْهِ مَاء، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا يَوْمَئِذٍ سَحَابًا وَلا مَطَرًا، فَجَاءَ بِمَا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُجَوِّزَهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَسْنَدْنَاهَا فِي الْمَسِيلِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَشْلَلِ- بَدَلَ الْمَسِيلِ- نَحْدُرُهَا وَفَتَنَّاهُمْ فَوْتا لا يقدون فِيهِ عَلَى طَلَبِنَا قَالَ: وَكَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا.
سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْد اللَّهِ اللَّيْثِيِّ إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي أَيْضًا إِلَى مصابِ أَصْحَابِ بَشِيرِ بْن سَعْدٍ بِفَدَكٍ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالَ: أَنَا محمد بن عمر قال: حدثني عبد الله بن الحرث بن الفصيل عَنْ أَبِيهِ قَالَ: هَيَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ وَقَالَ له: «سر حتى تنتهي
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من الطبقات.
[ (2) ] وعند ابن سعد في الطبقات: إني أرى عَلَى هَذَا الْجَبَلِ سَوَادًا مَا رَأَيْتُهُ أَوَّلَ من يومي هذا.
[ (3) ] وعند ابن سعد: سهماي.
[ (4) ] وعند ابن سعد: فلما احتلبوا وعطنوا واطمأنوا.(2/194)
إِلَى مُصَابِ أَصْحَابِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَإِنَّ أظفرك اللَّهُ بِهِمْ فَلا تَبْقَ فِيهِمْ» ، وَهَيَّأَ مَعَهُ مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، فَقَدِمَ غَالِبٌ [1] مِنَ الْكَدِيدِ مِنْ سَرِيَّةٍ قَدْ ظَفَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «اجْلِسْ» ،
وَبَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، وَخَرَجَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِيهَا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُصَابِ أَصْحَابِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، وَخَرَجَ مَعَهُ عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ فِيهَا، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ نَعَمًا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ قتلى، قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ مَعَ غَالِبٍ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَسْعُودٍ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ الْحَارِثِيُّ. أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي شِبْلُ بْنُ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُوَيْصَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ مَعَ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى بَنِي مُرَّةَ، فَأَغَرْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّبْحِ، وَقَدْ أَوْعَزَ إِلَيْنَا أَمِيرُنَا أَنْ لا نَفْتَرِقَ، وَوَاخَى بَيْنَنَا فَقَالَ: لا تَعْصُونِي،
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَانِي» ،
وَإِنَّكُمْ مَتَى مَا تَعْصُونِي فَإِنَّكُمْ تَعْصُونَ نَبِيَّكُمْ، قَالَ فَآخَى بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: فَأَصَبْنَا الْقَوْمَ.
سَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الأَسَدِيِّ إِلَى بني عامر بالسيء
ثُمَّ سَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الأَسَدِيِّ إِلَى بني عامر بالسيء، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ [2] .
قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الأَسْلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سبرة، عن إسحق بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا إِلَى جَمْعٍ مِنْ هوازن بالسيء، نَاحِيَةَ رُكْبَةَ مِنْ وَرَاءِ المعدنِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى خَمْسِ لَيَالٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ حَتَّى صَبَّحَهُمْ وَهُمْ غَارُونَ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءً، وَاسْتَاقُوا ذَلِكَ حَتَى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، وَاقْتَسَمُوا الْغَنِيمَةَ، وكانت سُهْمَانُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَعَدَلُوا الْبَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَغَابَتِ السَّرِيَّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيَلةَ.
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: فقدم غالب بن عبد الله الليثي.
[ (2) ] وعن ابن سعد: من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.(2/195)
سَرِيَّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيِّ إِلَى ذَاتِ اطلاع وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ وَادِي الْقُرَى
ثُمَّ سَرِيَّةُ كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيِّ إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ وَادِي الْقُرَى.
ثُمَّ سَرِيَّةُ سَعْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة ثمان قال: أنا محمد بن عمير، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيَّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَوَجَدُوا جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى قُتِلُوا، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا بَرَدَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَحَامَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهُمْ بِالْبَعْثَةِ إِلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ سَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكَهُمْ.
غَزْوَةُ مُؤْتَةُ
وَهِيَ بِأَدْنَى الْبَلْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فِي جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحرث بْنَ عُمَيْرٍ الأَزْدِيَّ أَحَدَ بَنِي لَهَبٍ بِكِتَابِهِ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ وَقِيلَ إِلَى مَلِكِ بُصْرَى، فَعَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسَّانِيُّ، فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا ثُمَّ قَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ صَبْرًا، وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ غَيْرَهُ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حين بلغه الخبر عنه.
قال ابن إسحق: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَهُ إِلَى مُؤتَةَ، فِي جُمَادَى الأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَال: «إِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ، وَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى النَّاسِ»
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ ثُمَ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافٍ، فَلَمَّا حَضَرَهُمْ خُرُوجُهُمْ، وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وسلموا عليهم، فَلَمَّا وُدِّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَكَى، [فقالوا] [1] : مَا يُبْكِيكَ [2] ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: فقيل، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] وعند ابن هشام: ما يبكيك يا رواحة؟(2/196)
حُبُّ الدُّنْيَا وَلا صَبَابَةٌ بِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، يَذْكُرُ فِيهَا النَّارَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
لكني أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تقذفُ الزّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدِي حَرَّانَ مُجَهَّزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يُقَالَ إِذَا مَرُّوا على جدتي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا
ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا مَعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّ هَرْقَلَ قَدْ نَزَلَ مُآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَالْقَيْنِ، وَبُهْرَاءَ وَبُلَيٍّ مِائَة أَلْفٍ، مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ رجل من بلى يقال له: ملك بْنُ رَافِلَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكتب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنَا، فَإِمَّا أَنْ يَمُدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِي لَهُ، قَالَ: فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ لِلَّتِي خَرَجْتُمْ لَهَا تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ، وَمَا نُقَاتِلِ النَاسَ بِعَدَدٍ وَلا قُوَّةٍ وَلا كَثْرَةٍ، وَمَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلَقُوا، فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا ظهور وإما شهادة [1] .
قال ابن إسحق: ثُمَّ مَضَى النَّاسُ، فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ يَتِيمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رواحة [2] ، فخرج [بي] [3] فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ مُرْدِفِي عَلَى حَقِيبَةِ [4] رَحْلِهِ، فوالله إنه ليسير ليلة إذا سمعته وهو ينشد [5] ويقول:
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس.
[ (2) ] وعند ابن هشام: في حجره.
[ (3) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (4) ] الحقيبة: العجيزة، والجمع حقائب، قال ابن عبيد بن الأبرص يصف جارية:
صعدة ما علا الحقيبة منها ... وكثيب ما كان تحت الحقاب
قال ابن الأعرابي: يقول: هي طويلة كالقناة، ثم سمى ما يحمل من القماش على الفرس حقيبة مجازا، لأنه محمول على العجز (أنظر المصباح المنير 1/ 143) .
[ (5) ] وعند ابن هشام: وهو ينشد أبياته ويقول:(2/197)
إِذَا أَدْنَيْتَنِي وَحَمَلْتَ رَحْلِي ... مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحسَاءِ
فَشَأْنَكِ فَانْعَمِي [1] وَخَلاكِ ذَمٌّ ... وَلَا أَرْجِعْ إِلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونَا [2] ... بِأَرْضِ الشَّامِ مُشْتَهِيَ الثّوَاءِ
فِي أَبْيَاتٍ [3] ، فَلَمَّا سَمِعْتُهُنَّ بَكَيْتُ، فَخَفَقَنِي بِالدرة وَقَالَ: مَا عَلَيْك يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ شَهَادَةً وَتَرْجِعُ بَيْنَ شِعْبَتَيِ الرَّحْلِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَبْد اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
يَا زَيْدُ زَيْدَ الْيَعمَلاتِ الذُّبَّلِ ... تَطَاوَلَ اللَّيْلُ هديت فانزل
ثُمَّ مَضَى النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِتَخُومِ البلقاء جُمُوعُ هِرَقْلَ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ، بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا مشارفُ، ثُمَّ دَنَا الْعَدُوُّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ، فَالْتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا، فَتَعَبَّأَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ رَجُلا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ: قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: عَبَايَةُ بْنُ مالك، ويقال: عبادة، ثُمَّ الْتَقَى النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِرَايَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم حتى شاط في رماح القوم [4] ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرُ فَقَاتَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوَّلَ مَنْ عَرْقَبَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ الله فقاتل، وروى أنه أخذ اللواء بيمينه فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى قُطِعَتْ يَمِينُهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ بِيَسَارِهِ فَقُطِعَتْ يَسَارُهُ، فَاحْتَضَنَ الرَّايَةَ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسِنُّه ثَلاثٌ وَثَلاثُونَ أَوْ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً [5] . ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَتَقَدَّمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ وَيَتَرَدَّدُ بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ نَزَلَ فَلَمَّا نَزَلَ أَتَاهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ بِعِرْقٍ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ: شُدَّ بِهَا صُلْبَكَ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت،
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فشأنك أنعم.
[ (2) ] وعند ابن هشام: وجاء المسلمون وغادروني.
[ (3) ] وبقية الأبيات عند ابن هشام:
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن ينقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل أسافلها رواء
[ (4) ] أي عرض نفسه إلى رماح القوم حتى قتل شهيدا.
[ (5) ] وعند ابن هشام: وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.(2/198)
فأخذه من يده، فانتهس منه نهسة [1] ، ثُمَّ سَمِعَ الْحطمَةَ [2] فِي نَاحِيَةِ النَّاسِ، فَقَالَ:
وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ أَخُو بَنِي الْعَجْلانِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ [3] اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، فَقَالُوا:
أَنْتَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَاصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ، وَخَاشَى بِهِمْ [4] ، ثُمَّ انْحَازَ وَانْحِيزَ عَنْهُ حَتَّى انْصَرَفَ بِالنَّاسِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، أَنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحَكَى أَيْضًا أَنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى الرُّومِ. وَكَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، والمختار من ذلك ما ذكره ابن إسحق مِنَ انْحِيَازِ كُلِّ فِئَةٍ عَنِ الأُخْرَى مِنْ غَيْرِ هَزِيمَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي شِعْرٍ لقيس بن المسحّر اليعمري كذلك [5] ، وَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ،
فَأَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وُرُودِ الْخَبَرِ بِأَيَّامٍ. وَقَالَ: «لَقَدْ رَفَعُوا لِي فِي الْجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ عَلَى سُرَرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بن رواحة أزورا عَنْ سَرِيرَيْ صَاحِبَيْهِ، فَقُلْتُ: عَمَّ هَذَا؟ فَقِيلَ لِي: مَضَيَا وَتَرَدَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ مَضَى» .
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُثِّلَ لِي جَعْفَرٌ وَزَيْدٌ وَابْنُ رَوَاحَةَ فِي خَيْمَةٍ مِنْ دُرٍّ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَرِيرِهِ، فَرَأَيْتُ زَيْدًا وَابْنَ رَوَاحَةَ فِي أَعْنَاقِهِمَا صُدُودٌ، وَرَأَيْتُ جَعْفَرًا مُسْتَقِيمًا لَيْسَ فِيهِ صُدُودٌ، قَالَ: فَسَأَلْتُ، أَوْ: قيل لي: إنهما حين غشيهما
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: فانتهش من نهشه، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام، يقال: نهست اللحم أي أخذته بمقدم الأسنان للأكل. قال الأزهري: قال الليث: النهش (بالشين المعجمة) تناول من بعيد، كنهش الحية وهو دون النهس.
[ (2) ] وهو زحام الناس في الحرب.
[ (3) ] وعند ابن هشام: فقال: يا معشر المسلمين.
[ (4) ] أي حاجز بهم.
[ (5) ] ذكر ابن هشام أن قيس بن المسحر اليعمري قال:
فوالله لا تنفك نفسي تلومني ... على موقفي والخيل قابعة قبل
وقفت بها لا مستجيرا فنافذا ... ولا مانعا من كان حم له القتل
على أنني آسيت نفسي بخالد ... ألا خالد في القوم ليس له مثل
وجاشت إلى النفس نحو جعفر ... بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل
وضم إلينا حجزيتهم كليهما ... مهاجرة لا مشركون ولا عزل(2/199)
الْمَوْتُ أَعْرَضَا، أَوْ كَأَنَّهُمَا صَدَّا بِوُجُوهِهِمَا، وَأَمَّا جَعْفَرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَعْفَرٍ: «إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَهُ بِيَدَيْهِ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ» .
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْنَا مَا بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل من تِسْعِينَ جِرَاحَةً، مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ وَطَعْنَةٍ بِالرُّمْحِ. وَقَدْ رُوِيَ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ، وَالأَوَّلُ أَثْبَتُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَدِمَ يَعْلَى بْنُ مُنَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ أَهْلِ مُؤْتَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتَ فَأَخْبِرْنِي، وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَخْبَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ كُلَّهُ، وَوَصَفَ لَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا تَرَكْتَ مِنْ حَدِيثِهِمْ حَرْفًا وَاحِدًا لَمْ تَذْكُرْهُ وَإِنَّ أَمْرَهُمْ لَكَمَا ذَكَرْتَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن اللَّهَ رَفَعَ لِي الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مُعْتَرَكَهُمْ» .
تسمية من استشهد يوم مؤتة
ذكر ابن إسحق مِنْهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَسْعُودَ بْنَ الأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ: وهب بن سعيد بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَمِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي الحرث بْنِ الْخَزْرَجِ:
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَعَبَّادَ بْنَ قَيْسٍ، وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بن النجار: الحرث بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ إِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمٍ، وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ:
سُرَاقَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ.
وَزَادَ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيهِمْ أَبَا كُلَيْبٍ وَجَابِرًا ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ وَهُمَا لأَبٍ وَأُمٍّ. وَفِي بَنِي مَالِكِ بْنِ أَفْصَى: عَمْرًا وَعَامِرًا ابْنَيْ سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مالك بن أفصى.
ذكر فوائد تتعلق بهذه الأَخْبَارِ
مُؤْتَةُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِالْهَمْزِ. وَلِهْبٌ: بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَوْلُهُ فِي شِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ: (وَضَرْبَةٌ ذَاتَ فَرْغٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَطَعْنَةٌ فَرْغَاءُ وَذَاتَ فَرْغٍ، وَاسِعَة يَسِيلُ دَمُهَا. وَمُعَانُ: بِضَمِّ(2/200)
الْمِيمِ، وَقَالَ الْوَقْشِيُّ: الصَّوَابُ فَتْحُهَا. وَفِي الْغَرِيبِ الْمُصَنَّفِ: الْمبَآةُ، الْمنَزلُ.
وَالْمُعَانُ مِثْلُهُ. وَالْحسَاءُ: جَمْعُ حِسًى، وَهُوَ مَوْضِعُ رَمْلٍ تَحْتَهُ صَلابَةٌ، فَإِذَا قَطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَى ذَلِكَ الرَّمْلِ نَزَلَ الْمَاءُ فمنعته الصلابة أن يغيض، ومنه الرَّمْلُ السَّمَاءَ أَنْ تَنَشَّفَهُ، فَإِذَا بُحِثَ ذَلِكَ الرَّمْلُ وُجِدَ الْمَاءَ، وَالْحِسَاءُ هَاهُنَا، اسْمُ مَنْزِله مَعْرُوفَة. وَقَوْلُهُ:
(فَشَأْنُكَ فَانْعَمِي) اسْتَحْسَنَهُ الْمُبَرِّدُ وَكَانَ قَدْ أَنْشَدَ قَبْلَهُ قَوْل الشَّمَّاخِ يَمْدَحُ عُرَابَةَ بن أوس:
إذا بلغتني وحلمت رَحْلِي ... عُرَابَةً فَاشْرقِي بِدَمِ الْوَتِينِ
قَالَ: وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ الإِحْسَانَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَسْتُ أَحْتَاجُ أَنْ أَرْحَلَ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ: وَقَدْ عَابَ بَعْضُ الرُّوَاةِ قَوْلَهُ: (فَاشْرقِي بِدَمِ الْوَتِينِ) قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لَهَا بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا،
وَذَكَرَ قِصَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي نَجَتْ عَلَى النَّاقَةِ وَقَالَتْ: إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ نَجَوْتُ عَلَيْهَا أَنْ أَنْحَرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا» . الْحَدِيثَ
قُلْتُ: وَقَدْ سَلِمَ بَيْتُ ابْنُ رَوَاحَةَ مِنْ هَذَا. وَقَوْلُهُ: وَلا أَرْجِعُ دُعَاءٌ، وَهُوَ مَجْزُومٌ بِالدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ:
اللَّهُمَّ لا أَرْجِعُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يَنْجَزِمُ بِمَا يَنْجَزِمُ بِهِ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَقَالَ الْوَقْشِيُّ:
الصَّوَابُ مُشْتَهَى الثّوَاءِ وَلَمَّا وَقَعَ فِي الأَصْلِ وَجْهٌ. وَقَوْلُهُ: (يَا زَيْدُ زَيْدَ الْيَعمَلاتِ الذُّبَلِ) قال ابن إسحق: يَقُولُهُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَان يَتِيمَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قِيلَ: بَلْ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ لْزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَتَخُومِ الْبَلْقَاءِ في مختصر العين: تخوم الأرض:
هي بِفَتْحِ التَاءِ: اسْمٌ عَلَى مِثَالِ: فَعُولٍ، وَبَعْضُهُمْ. يَقُولُ: تُخُومٌ بِالضَّمِّ، كَأَنَّهُ جَمْعٌ، وَهُوَ فَصْلُ مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ. وَشَاطَ: هَلَكَ، قَالَ: (وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبطلُ) وَقَوْلُهُ: وَخَاشَى بِهِمْ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ مِنَ الْخَشْيَةِ، كَأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ فَحَاشَى بِهِمْ.(2/201)
سرية عمرو بن العاص إلى ذات سلاسل
وهي من وراء وادي القرى سُمِّيَتْ بِمَاءٍ بِأَرْضِ جُذَامٍ يُقَالُ لَهُ السّلسلُ، وَقَالَ السِّهَيْلِيُّ: ذَاتَ السُّلاسِلِ، بِضَمِّ السِّينِ الأُولَى وَكَسْرِ السِّينِ الثَّانِيَةِ، مَاءٌ بِأَرْضِ جُذَامٍ، بِهِ سُمِّيَتِ الْغزاةَ، ثُمَّ سَرِيَّةُ عَمْرٍو إِلَى ذَاتِ السلاسل، وبينها وبين المدنية عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَمْعًا مِنْ قُضَاعَةَ قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا إِلَى أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ [1] فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَجَعَلَ مَعَهُ رَايَةً سَوْدَاءَ، وبعثه في ثلاثمائة مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ ثَلاثُونَ فَرَسًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَنْ مَرَّ [2] بِهِ مِنْ بُلَيٍّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْنِ، فَسَارَ اللَّيْلَ وَكَمَنَ النَّهَارَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْقَوْمِ بَلَغَهُ أَنَّ لَهُمْ جَمْعًا، كَثِيرًا، فَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ مِكْيَثٍ الْجُهَنِيُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِدُّهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي مِائَتَيْنِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ سَرَاةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وأمره أن يلحق بعمرو، وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلا يَخْتَلِفَا، فَلَحِقَ بِعَمْرٍو، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا قَدِمْتَ عَلَيَّ مَدَدًا، وَأَنَا الأَمِيرُ، فَأَطَاعَ لَهُ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَسَارَ حَتَّى وَطِئَ بِلادَ بُلَيٍّ وَدَوَّخَهَا [3] ، حَتَّى أَتَى إِلَى أَقْصَى بِلادِهِمْ وَبِلادِ عُذْرَةَ وَبَلْقَيْنِ، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَهَرَبُوا فِي الْبِلادِ وَتَفَرَّقُوا [ثم قفل] [4] . وبعث عوف بن مالك الأشجعي
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات (2/ 131) : قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا إِلَى أَطْرَافِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[ (2) ] وَعِنْدَ ابن سعد: بمن يمر به.
[ (3) ] أي استولى عليها.
[ (4) ] زيدت على الأصل من الطبقات.(2/202)
بَرِيدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ بِقُفُولِهِمْ وَسَلامَتِهِمْ وَمَا كَانَ فِي غزاتهم.
وذكر ابن إسحق نُزُولَهُمْ عَلَى مَاءٍ بِجُذَامٍ يُقَالُ لَهُ: السّلسلُ، قال: وبذلك سميت ذات السلاسل. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ يُوسُفَ الْمَزِّيُّ بِقِرَاءَةِ وَالِدِي عَلَيْهِ رَحَمِهُمَا اللَّهُ قَالَ: أَنَا أَبُو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج، [بن سعادة الرصافي أَنَا] [1] أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن عبد الواحد بن الصحين الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُذْهِبِ قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ الْقَطِيعِيُّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ ذَاتِ السُّلاسِلِ، فَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى الأَعْرَابِ، وَقَالَ لَهُمَا: «تطاوعا» قال: فكان يُؤْمَرُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى بَكْرٍ فَانْطَلَقَ عَمْرٌو وَأَغَارَ عَلَى قُضَاعَةَ، لأَنَّ بَكْرًا أَخْوَالُهُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَعْمَلَكَ عَلَيْنَا، وَإِنَّ ابْنَ فُلانٍ قَدِ اتَّبَعَ أَمْرَ الْقَوْمِ، فَلَيْسَ لَكَ مَعَهُ أَمْرٌ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نَتَطَاوَعَ، فَأَنَا أُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وإن عصاه عمرو.
__________
[ (1) ] هنا ثلاث كلمات مطموسة في الأصل، وما أثبتناه من سياق الأسانيد المذكورة(2/203)
سرية الخبط
ثم سرية الخبط أَمِيرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَكَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجراح في ثلاثمائة رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَفِيهِمْ عَمْرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِالْقِبْلِيَّةِ مِمَّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسُ لَيَالٍ، فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ جُوعٌ شَدِيدٌ، فَأَكَلُوا الْخَبَط [1] ، وَابْتَاعَ قَيْسٌ جُزُرًا وَنَحَرَهَا لَهُمْ، وَأَلْقَى لهم في البحر حوتا عظيما فأكلوا منها، وَانْصَرَفُوا وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا.
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ غَازِي بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الدِّمَشْقِيِّ، أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طبرزد قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتَ تَسْمَعُ فَأَقَرَّ بِهِ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلانَ الْبَزَّازُ قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشافعي، فثنا إبراهيم بن إسحق، فثنا محمد بن سهل، فثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعَمْرُو بن الحرث، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُمَا: أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ الْحِمْيَرِيَّ حَدَّثَهُ: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ بَعْثًا، عَلَيْهِمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَهِدُوا، فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسٌ تِسْعَ رَكَائِبَ، قَالَ عُمَرُ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْجُودَ لَمِنْ شِيمَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ» . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَمْ يَكُنْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ أَمِيرَ هَذَا الْجَيْشِ، إِنَمَا كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَيْسٌ مَعَهُ،
كَذَا أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بن عمر، قَالَ: وحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ محمد الأنصاري، وخارجة بن الحرث قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا
__________
[ (1) ] أي ورق السمر، وهو نوع من الأشجار.(2/204)
عُبَيْدَةَ فِي سَرِيَّةٍ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ، وَهُمْ ثلاثمائة رَجُلٍ، إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَصَابَهُمْ جُوعٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِجَزُورٍ يُوَفِّينِي الجزور هاهنا وأوفيه التمر بالمدينة، فجعل عمر يقول: وا عجباه لِهَذَا الْغُلامِ، لا مَالَ لَهُ يَدِينُ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَوَجَدَ رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ قَيْسٌ: بِعْنِي جَزُورًا أُوَفِّيكُمْ وَسْقَهُ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا ابْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ، قَالَ الْجُهَنِيُّ: مَا أَعْرَفَنِي بِنَسَبِكَ، وَذَكَرَ كَلامًا، فَابْتَاعَ مِنْهُ خَمْسَ جَزَائِرَ، كُلُّ جَزُورٍ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ الْبَدَوِيُّ مِنْ تَمْرِ آلِ دُلَيْمٍ، يَقُولُ قَيْسٌ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَشْهِدْ لِي، فَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ قَيْسٌ: أَشْهِدْ مَنْ تُحِبُّ، وَكَانَ فِيمَنْ أَشْهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَشَهْدُ هَذَا يدين ولا مال له وإما الْمَالُ لأَبِيهِ، قَالَ الْجُهَنِيُّ: وَاللَّهِ مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخُنِّي بِابْنِهِ فِي وَسْقَةٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا، وَفِعْلا شَرِيفًا، فَكَانَ مِنْ عُمَرَ وَقَيْسٍ كَلامٌ، حَتَّى أَغْلَظ لِقَيْسٍ وَأَخَذَ الْجُزُرَ فَنَحَرَهَا لَهُمْ فِي مَوَاطِنَ ثَلاثَةٍ، كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعِ نَهَاهُ أَمِيرُهُ فَقَالَ تُرِيدُ أَنْ تَخْفِرَ ذِمَّتَكَ وَلا مال لك. قَالَ مُحَمَّدٌ:
فحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لا تَنْحَرَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَخْفِرَ ذِمَّتَكَ؟ قَالَ قَيْسٌ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، أَتَرَى أَبَا ثَابِتٍ يَقْضِي دُيُونَ النَّاسِ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ لا يَقْضِي عَنِّي سقة مِنْ تَمْرٍ لِقَوْمٍ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَلِينَ لَهُ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: اعْزِمْ، فَعَزَمَ عَلَيْهِ وَأَبَى أَنْ يَنْحَرَ، وَبَقِيَتْ جَزُورَانِ، فَقَدِمَ بِهِمَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظُهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِمَا، وَبَلَغَ سَعْدًا مَا أَصَابَ الْقَوْمَ مِنَ الْمَجَاعَةِ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُ فَسَيَنْحَرُ لِلْقَوْمِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَيْسٌ وَلَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ فِي مَجَاعَةِ الْقَوْمِ؟ قَالَ: نَحَرْتُ. قَالَ: أَصَبْتَ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ نَحَرْتُ، قَالَ:
أَصَبْتَ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ نَحَرْتُ، قَالَ أَصَبْتَ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ نُهِيتُ، قَالَ وَمَنْ نَهَاكَ؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرِي، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ لا مَالَ لِي، وإنما المال لأبيك، فقلت: أبي يقضي على الأَبَاعِدِ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ، وَلا يَصْنَعُ هَذَا بِي، قَالَ: فَلَكَ أَرْبَعُ حَوَائِطَ، أَدْنَاهَا حَائِطٌ تَجِدُ مِنْهُ خَمْسِينَ وَسْقًا.
قَالَ: وَقَدِمَ الْبَدَوِيُّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ وَسْقَهُ وَحَمَّلَهُ وَكَسَاهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُ قَيْسٍ فَقَالَ: «إِنَّهُ فِي قَلْبِ جُودٍ» .(2/205)
خبر العنبر
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن عبد الله، فثنا سُفْيَانُ قَالَ: الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في ثلاثمائة رَاكِبٍ، أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ: جَيْشَ الْخَبَطِ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْفَ شَهْرٍ، وأدهنا في وَدَكِهِ [1] ، حَتَّى ثَابَتْ [2] إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا، فَأَخَذَ أَبُو عبيد ضِلْعًا مِنْ أَعْضَائِهِ فَنَصَبَهُ، فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ، قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: ضِلْعًا مِنْ أَضْلاعِهِ فَنَصَبَهُ، وَأَخَذَ رَجُلا وَبَعِيرًا فَمَرَّ تَحْتَهُ، قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلاثَ جَزَائِرَ [3] . وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ [4] .
سَرِيَّةُ أَبِي قتادة بن ربعي إلى خضرة وهي أرض محارب
ثم سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ إِلَى خَضِرَةَ، وَهِيَ أَرْضُ مُحَارِبٍ بِنَجْدٍ، فِي شَعْبَانَ سنة ثمان.
قالوا: بعث رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا قَتَادَةَ وَمَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا إِلَى غَطَفَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، فَسَارَ اللَّيْلَ وَكَمَنَ النَّهَارَ، فَهَجَمَ عَلَى حَاضِرٍ مِنْهُمْ عَظِيمٍ فَأَحَاطَ بِهِ، فَصَرَخَ رجل منهم يا خضرة [5] ، وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف [6] لَهُمْ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَكَانَتِ الإِبِلُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، والغنم ألفي شاة، وسبوا سببا كَثِيرًا، وَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ، فَأَخْرَجُوا الْخُمُسَ فَعَزَلُوهُ، فَأَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، فَعُدِلَ الْبَعِيرُ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَصَارَتْ فِي سَهْمِ أَبِي قتادة جارية وضيئة، فاستوهبها منه رسول
__________
[ (1) ] أي شحمة.
[ (2) ] أي رجعت.
[ (3) ] جمع جزور، وهو البعير ذكرا كان أو أنثى.
[ (4) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة سيف البحر (5/ 114) .
[ (5) ] وردت في الأصل ما حضره، وما أثبتناه من الطبقات.
[ (6) ] وردت في الأصل: أشراف، وما أثبتناه من الطبقات.(2/206)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَهَا لَهُ، فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَحْمِيَّةَ بْنِ جَزْءٍ، وَغَابُوا فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ خمس عشر ليلة.
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ غَازِي بْنِ أَبِي الفضل الدمشقي بقرافة سارية، أخبركم أبو حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُكَبِّرُ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَنَا أَبُو علي بن المذهب قال: أنا أبو بكر بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حدثني أبي، فثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى نَجْدٍ، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا.
سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ وهي فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالُوا: لَمَّا هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَزْوِ أَهْلِ مَكَّةَ، بَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ فِي ثَمَانِيَةِ نَفَرٍ سَرِيَّةً إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ- وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ ذِي خُشُبٍ وَذِي الْمَرْوَةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَلاثَةُ بُرُدٍ- لِيَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم توجه إلى تلك الناحية، ولأن تَذْهَبَ بِذَلِكَ الأَخْبَارُ، وَكَانَ فِي السَّرِيَّةِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ، فَمَرَّ عَامِرُ بْنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ الْقَوْمُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَقَتَلَهُ وَسَلَبَهُ مَتَاعَهُ وَبَعِيرَهُ وَوَطْبَ [1] لَبَنٍ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فيهم القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ [2] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
فَمَضَوْا فَلَمْ يَلْقَوْا جَمْعًا، فانصروا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى ذِي خُشُبٍ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فأخذوا على بيبن حَتَّى لَقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسقيا، وهي عند ابن إسحق منسوبة لابن أبي حدرد.
وذكر ابن إسحق فِي خَبَرِ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِحُنَيْنٍ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَجَلَسَ تَحْتَهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ يَخْتَصِمَانِ فِي عَامِرِ بْنِ الأَضْبَطِ، عُيَيْنَةُ يَطْلُبُ بِدَمِهِ، وَهُوَ يومئذ سيد
__________
[ (1) ] الوطب: سقاء اللبن، وهو جلد الجذع فما فوقه.
[ (2) ] سورة النساء: الآية 94.(2/207)
غطفان، والأقرع يدفع عن محلم لمكانه في خِنْدِفٍ، فَتَدَاوَلا الْخُصُومَةَ ثُمَّ قَبِلُوا الدِّيَةَ،
ثُمَّ قَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكُمْ هَذَا يَسْتَغْفِرُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَجُلٌ آدَمُ ضَرِبٌ طَوِيلٌ هُوَ مُحَلِّمٌ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ ثلاثا فقام يتلقى دمعه بِفَضْلِ رِدَائِهِ. الْحَدِيثَ.
وَفِي حَدِيثٍ عَنِ الْحَسَنِ: مَا مَكَثَ إِلا سَبْعًا حَتَّى مَاتَ فَلَفِظَتْهُ الأَرْضُ مَرَّاتٍ، فَعَمَدُوا بِهِ إِلَى صُدَّيْنِ [1] فَسَطَحُوهُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ حَتَّى وَارَوْهُ.
__________
[ (1) ] أي جبلين.(2/208)
سَرِيَّةُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ إِلَى الْغَابَةِ
قَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ إسحق: تزوجت امرأة من قومي [فأصدقتها مائتي درهم] [1] فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي، فَقَالَ: «وَكَمْ أَصْدَقْتَ» ؟
قُلْتُ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، لَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ مَا زِدْتُمْ، وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُكَ بِهِ» . قَالَ: فَلَبِثْتُ أَيَّامًا، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، أَوْ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ، فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي جُشَمَ حَتَّى يَنْزِلَ بِقَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا عَلَى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ ذَا اسْمٍ فِي جُشَمَ، وَشَرَفٍ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ:
«اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ» . قَالَ وَقَدَّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ [2] ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدُنَا، فَوَاللَّهِ مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا حَتَّى دَعَمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ، ثُمَّ قَالَ: «تَبَلَّغُوا عَلَيْهَا وَاعْتَقِبُوهَا»
قَالَ: فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلاحُنَا مِنَ النَّبْلِ وَالسُّيُوفِ، حَتَّى إِذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ عُشَيْشِيَّةً [3] مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، كَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ، وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ فَكَمَنَا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ حَاضِرِ الْقَوْمِ وَقُلْتُ لَهُمَا: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ في ناحية العسكر فكبرا وشدا معي، [قال] [4] فَوَاللَّهِ أَنَّا لَكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ غِرَّةَ الْقَوْمِ [5] أَوْ نُصِيبَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَقَدْ غَشِيَنَا اللَّيْلُ حَتَّى ذهب فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَكَانَ لَهُمْ رَاعٍ سَرَحَ فِي ذلك البلد فأبطا عليهم حتى تخوفوا
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام (4/ 278) .
[ (2) ] الشارف من الدواب: المسن، والعجفاء: الهزيلة الضعيفة.
[ (3) ] تصغير عشية.
[ (4) ] زدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] أي غفلة من القوم.(2/209)
عليه، فقام صاحبهم ذلك [رفاعة بن قيس] [1] وَأَخَذَ سَيَفْهُ فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ قَالَ:
وَاللَّهِ لأَتْبَعَنَّ أَثَرَ رَاعِينَا هَذَا، وَلَقْد أَصَابَهُ شر، فقال [له] [2] نَفَرٌ مِمَّنْ مَعَهُ: وَاللَّهِ لا تَذْهَبُ أَنْتَ، نَحْنُ نَكْفِيكَ، قَالَ وَاللَّهِ لا يَذْهَبُ إِلا أَنَا، قَالُوا: فَنَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: وَاللَّهِ لا يتبعني أحد منكم، وخرج حتى مربي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعْتُهُ فِي فُؤَادِهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمَ، وَوَثَبْتُ إِلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، وشددت في ناحية العسكر وَكَبَّرْتُ، وَشَدَّ صَاحِبَايَ وَكَبَّرَا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إلا النجاء ممن فيه عندك عِنْدَكَ [3] بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتَقْنَا إِبِلا عَظِيمًا وَغَنَمًا كَثِيرَةً، فَجِئْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي، فَأَعَانَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ بِثَلاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فِي صَدَاقِي، فَجُمِعْتُ إِلَى أَهْلِي.
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] كلمتان بمعنى الإغراء.(2/210)
فتح مكة شرفها الله تعالى وكانت فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَكَانَ السَّبَبُ فيها فيما ذكر ابن إسحق: أَنَّ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كنانة عدت على خزاعة وهم على ما لَهُمْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْوَتِيرُ، وَكَانَ الَّذِي هَاجَ مَا بَيْنَ بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ- وَحِلْفُ الْحَضْرَمِيِّ يَوْمَئِذٍ إِلَى الأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ- خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قَبْلَ الإِسْلامِ عَلَى بَنِي الأَسْوَدِ بن رزن الديلي، وهم متجر [1] بَنِي كِنَانَةَ وَأَشْرَافُهُمْ، سُلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ، فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَهُمُ الإِسْلامُ [2] ، وَتَشَاغَلَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، كَانَ فِيمَا شَرَطُوا [3] أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ فَلْيَدْخُلْ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عقد قريش وعهدهم فليدخل [فيه] [4] فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ [5] وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ [6] مِنْ خُزَاعَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ أَصَابُوا مِنْهُمْ فِي الأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فِي بَنِي الدِّيلِ بْنِ بكر من [7]
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: وهم منحز أي المتقدمين.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام.
[ (3) ] وعند ابن هشام: كان فيما شرطوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرط لهم.
[ (4) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] وعند ابن هشام: فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم.
[ (6) ] وعند ابن هشام: بنو الديل من بني بكر.
[ (7) ] وعند ابن هشام: فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فِي بَنِي الديل، وهو يومئذ قائدهم. وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه.(2/211)
كِنَانَةَ، حَتَّى بَيْتِ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ، مَاءٍ لَهُمْ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلا وَتَحَاوَرُوا وَاقْتَتَلُوا [1] ، وَرَفَدَتْ [2] بَنِي بَكْرٍ قُرَيْشٌ بِالسِّلاحِ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ قَاتَلَ بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا.
ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْهُمْ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمكْرزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ، حَتَّى جَاوَزُوا خُزَاعَةَ إِلَى الْحَرَمِ [3] . فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ: يَا نَوْفَلُ، إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ إِلَهَكَ إِلَهَكَ. فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، لا إِلَهَ الْيَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ، أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتُسْرَقُونَ فِي الْحَرَمِ، أَفَلا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ، وَقَدْ أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ بَيَّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ رَجُلا يُقَالُ لَهُ: منبه [4] ، فلما دخلت خزاعة مكة لجأوا إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ، وَدَارِ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رَافِعٌ وَلَمَّا تَظَاهَرَ بنو بكر وقريش على خزاعة [وأصابوا منهم ما أصابوا] [5] وَنَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، [6] ، خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وَكَانَ ذَلِكَ مَا هَاجَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ فَقَالَ:
يَا رَبُّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُ وَلَدًا وكنا والدا ... نمت أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مزبدا ... إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُوَكَّدَا ... وجعلوا لي في كداء رصدا
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: وتحاوزوا واقتتلوا.
[ (2) ] أي دعموهم وأمدوهم بالسلاح.
[ (3) ] أي ساقوهم إلى الحرم.
[ (4) ] وعند ابن هشام: وَقَدْ أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ بَيَّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ رَجُلا يقال له: منبه، وكان منبه رجلا مفؤودا- أي ضعيف القلب- خرج هو ورجل من قومه يقاله: تميم بن أسد، فقال له منبه: يا تميم: أنج بنفسك، فأما أنا فوالله إني لميت، قتلوني أو تركوني، لقد أنبت فؤادي- أي انقطع- وانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه.
[ (5) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (6) ] وعند ابن هشام: بما استحلوا من خزاعة، وكان في عقده وعهده.(2/212)
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا ... وَقَتَّلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
يَقُولُ قُتِلْنَا وَقَدْ أَسْلَمْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ» ثُمَّ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] عَنَانٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ» .
ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي خُزَاعَةَ: حَتَّى قَدِمُوا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: لَعَلَّ الأَرْبَعِينَ رَاكِبًا الَّذِينَ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ قَوْمَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ مَعَ عمرو بن سالم هم هؤلاء.
رجع إلى خبر ابن إسحق: ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ [2] وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ: «كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ» .
وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ [3] ، وَقَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ، وَقَدْ رَهِبُوا الَّذِي صَنَعُوا فَلَمَّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا بُدَيْلُ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السَّاحِلِ: وفي بعض هذا الوادي [4] قال: أو ما جِئْتَ مُحَمَّدًا قَالَ: لا، فَلَمَّا رَاحَ بُدَيْلٌ إِلَى مَكَّةَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَئِنْ كَانَ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النَّوَى [5] ، فَأَتَى مَبْرَكَ رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتَّهُ، فَرَأَى فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمَّدًا، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قدم المدينة [6] ، فدخل على ابنته
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة.
[ (2) ] وعند ابن هشام: ثم انصرفوا- راجعين إلى مكة.
[ (3) ] قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات (3/ 56) عسفان: بعين مضمومة ثم سين ساكنة مهملتين، قرية جامعة بها منبر، وهي بين مكة والمدينة على نحو مرحلتين من مكة، وقد نقل صاحب المهذب في أول باب صلاة المسافر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: بين مكة وعسفان أربعة برد، وهذا الذي نقله عن مالك رحمه الله تعالى صحيح عنه، ذكره في الموطأ، وأربعة لبرد ثمانية وأربعون ميلا، وذلك مرحلتان، وهذا الذي ذكرناه هو الصواب، وأما قول صاحب المطالع أن بينهما ستة وثلاثين ميلا فليس بمنقول.
[ (4) ] وعند ابن هشام: قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن الوادي.
[ (5) ] وعند ابن هشام: لئن جاء المدينة لقد علف بها النوى.
[ (6) ] وعند ابن هشام: ثم خرج أبو سفيان حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم في المدينة.(2/213)
أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي؟ قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجِسٌ [1] ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ بَعْدِي شَرٌّ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا الذَّرَّ [2] لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ.
ثُمَّ جَاءَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ، وَحَسَنٌ غُلامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّكَ أمس القوم به رَحِمًا، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ فَلا أَرْجِعُ كَمَا جِئْتَ خَائِبًا، اشْفَعْ لِي إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ، فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، هَلْ كل أَنْ تَأْمُرِي ابْنَكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ [3] فَيَكُونُ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا يَبْلُغُ بُنَيَّ ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ فَانْصَحْنِي؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ لَكَ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ وَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ، قَالَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّهُ، وَلَكِنِّي لا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ،
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّدًا فَكَلَّمْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْرًا، ثُمَّ جِئْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَوَجَدْتُهُ أَدْنَى الْعَدُوِّ. كَذَا قَالَ ابن إسحق، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَعْدَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيًّا فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ الْقَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِي عَنِّي شَيْئًا أَمْ لا، قَالُوا: وَبِمَ أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَفَعَلْتُ، قَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لا، قَالُوا: وَيْلَكَ، وَاللَّهِ إِنْ زَادَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ [4] ، قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا وجدت غير ذلك.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وأنت رجل مشرك نجس.
[ (2) ] أي صغار النمل.
[ (3) ] وعند ابن هشام: فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس.
[ (4) ] وعند ابن هشام: قَالُوا: وَيْلَكَ، وَاللَّهِ إِنْ زَادَ الرَّجُلُ عَلَى أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت.(2/214)
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْجِهَازِ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ وَهِيَ تُحَرِّكُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ أَمَرَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْهِيزِهِ [1] ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَجَهَّزَ، قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ: لا وَاللَّهِ مَا أَدْرِي،
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّجَهُّزِ [2] وَقَالَ:
«اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا في بلادها» ،
فتجهز الناس [3] فَكتب حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ [4] ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً [5] ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي قُرُونِ رَأْسِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ [6] ، وَأَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيًّا والزبير- وغير ابن إسحق يَقُولُ:
بَعَثَ عَلِيًّا وَالْمِقْدَادَ- فَقَالَ: أَدْرِكَا امْرَأَة، قَدْ كتب مَعَهَا حَاطِبٌ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ، فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا [7] فَاسْتَنْزَلاهَا، وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا كَذَبْنَا، وَلْتُخْرِجَنَّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ قَالَتْ:
أَعْرِضْ، فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتِ الكتاب، فدفعته إليه فأتى به
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: أي بنية، أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تجهزوه؟
[ (2) ] وعند ابن هشام: وأمرهم بالجد والتهيؤ.
[ (3) ] وعند ابن هشام: فقال حسان بن ثابت يحرض الناس ويذكر مصاب رجال خزاعة:
عناني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلي كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو وخزها وعقابها
وصفوان عود حن من شفر استه ... فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد ... إذا احتليت صرفا وأعصل نابها
ولو تجزعوا منها فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها
[ (4) ] وعند ابن هشام: قَالَ ابْنُ إِسْحَاق: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرِ بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا: لما أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبر هم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم.
[ (5) ] وعند ابن هشام عن ابن إسحاق: زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب.
[ (6) ] وعند ابن هشام: فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به.
[ (7) ] وعند ابن هشام: فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أحمد، فاستنزلاها.(2/215)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا حَاطِبًا فَقَالَ لَهُ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا: [1] فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا غُيِّرْتُ وَلا بُدِّلْتُ، وَلَكِنِّي لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلا عَشِيرَةٌ، وَلِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ، فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شئتم فقد غفرت لكم» [2] .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسفره، فاستخلف على المدينة أبارهم كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْغِفَارِيَّ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: عبد الله بن أُمِّ مَكْتُومٍ، فَخَرَجَ لِعَشْرِ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْكَدِيدِ أَفْطَرَ [3] ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلافٍ، وَعَمِيتِ الأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ، فَهُمْ عَلَى وَجَلٍ وَارْتِقَابٍ، فَخَرَجَ أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حِزَامٍ وَبُدَيلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَتَجَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعِيَالِهِ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا، فَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: بِالْجُحْفَةِ، وَقِيلَ: بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَ فِيمَنْ خَرَجَ وَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أبو سفيان بن الحرث، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِالأَبْوَاءِ، وَقِيلَ: بَيْنَ السُّقْيَا وَالْعَرْجِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: لا يَكُنِ ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ أَخِي أَشْقَى النَّاسِ بِكَ،
وَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي سُفْيَانَ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيُوسُفَ: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [4] فَإِنَّهُ لا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنَ قَوْلا مِنْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [5] وَقَبِلَ مِنْهُمَا إِسْلامَهُمَا، فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ مُعْتَذِرا أَبْيَاتًا مِنْهَا:
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلَ رَايَةً ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فقال: «يا حاطب، ما حملك على هذا» ؟
[ (2) ] وعند ابن هشام: فأنزل الله تعالى في حاطب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
[ (3) ] وعند ابن هشام: حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر.
[ (4) ] سورة يوسف: الآية 91.
[ (5) ] سورة يوسف: الآية 92.(2/216)
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِي
هَدَانِيَ هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَدَلَّنِي ... على الله من طردته كُلَّ مُطَرَّدِ [1]
فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ وَقَالَ: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ» . وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلامُهُ، فَيُقَالُ أَنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمَ حَيَاءً مِنْهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَيَقُولُ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ» ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: لا تَبْكُوا عَلَيَّ فَلَمْ أَنْتَطِفْ [2] بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أسلمت. فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: نَزَلَهُ عِشَاءٌ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَوْقَدُوا عَشَرَةَ آلافِ نَارٍ، وَجَعَلَ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَقَّتْ نَفْسُ الْعَبَّاسِ لأَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَجَلَسْتُ عَلَى بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءِ، فَخَرَجْتُ عَلَيْهَا حَتَّى جِئْتُ الأَرَاكَ فَقُلْتُ لَعَلِّي: أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ، أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ، أو ذا جاجة يَأْتِي مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَسِيرُ عَلَيْهَا إذا سَمِعْتُ كَلامَ أَبِي سُفْيَانَ، وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَانًا قَطُّ وَلا عَسْكَرًا، قَالَ يَقُولُ: بُدَيْلٌ: هَذِهِ وَاللَّهِ، خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ [3] ، فَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهَا وَعَسْكَرُهَا، قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فقلت: أنا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَعَرَفَ صَوْتِي فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ! قلت: نعم، قال: مالك فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ هَذَا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ، قَالَ: فَمَا الْحِيلَةُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتَّى أَتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْتَأْمِنَهُ لَكَ، فَرَكِبَ خَلْفِي ورجع صاحباه، قال: فجئت به، كما مررت بنار من نيران
__________
[ (1) ] وبقية الأبيات كما ذكرهما ابن هشام في السيرة (4/ 43) .
أصد وأنأى جاهدا عن محمد ... وادعى وإن لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأي يلم ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها ... وقل لثقيف تلك غيري أو عدي
فما كنت في الجيش الذي نال عامرا ... وما كان جرا لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... نزائع جاءت من سها وسردد
[ (2) ] أي لم أتلطخ.
[ (3) ] أي جمعتهم الحرب.(2/217)
الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ وَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عَلَيْهَا قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إِلَيَّ، فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ، عَدُوُّ اللَّهِ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلا عَهْدٍ، ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البغلة، [فسبقته بما تسبق الدابة البطينة الرجل البطيء] [1] ، فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعْنِي فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ [2] قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ دُونِي، فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ قُلْتُ: مَهْلا يَا عُمَرُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ مِثْلَ هَذَا [3] ، قَالَ: مَهْلا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لإِسْلامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إسلام الخطاب لو أسلم، وما بني إِلَّا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلَى رَحْلِكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ» ، فذهبت به [4] فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تعلم أنه لا إله إلا اللَّهِ؟» قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحْلَمَكَ وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد [5] ، قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، أَمَا وَاللَّهِ هَذِهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ حَتَّى الآنَ مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمد رَسُولُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ، قَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَأَسْلَمَ، قَالَ الْعَبَّاسُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دخل المسجد فهو آمن،
ثم أمر
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: فسقت، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه.
[ (3) ] وعند ابن هشام: قلت: مهلا يا عمر، فوالله إن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف.
[ (4) ] وعند ابن هشام: فذهبت به إلى رحلي فبات عندي،
[ (5) ] وعند ابن هشام: والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنني عني شيئا بعد.(2/218)
الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي، عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ [1] حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا، فَفَعَلَ، فَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هذه؟ فأقول: سليم، قال: يقول: مالي وَلِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عباس ما هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: مالي وَلِمُزَيْنَةَ، حَتَّى نَفِدَتِ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلَّا سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِمْ قال، مالي وَلِبَنِي فُلانٍ، حَتَّى مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، وَفِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقُ [2] مِنَ الْحَدِيدِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا عَبَّاسُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، قَالَ: مَا لأَحَدٍ بِهَؤُلاءِ قِبَلٌ وَلا طَاقَةٌ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ كَتِيبَةَ الأَنْصَارِ جَاءَتْ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمَعَهُ الرَّايَةُ قَالَ: وَلَمْ يُرَ مِثْلُهَا، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ هِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ [3] . كَذَا وَقَعَ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ، وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي كَتَابِهِ:
هِيَ أَجَلُّ الْكَتَائِبِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ.
رَجْعٌ إِلَى الأَوَّلِ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ عَظِيمًا، قَالَ: قُلّْتُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فَنَعَمْ إِذَنْ. قَالَ:
قُلْتُ: النَّجَاءَ إِلَى قَوْمِكَ، حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لا قِبَلَ [4] لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَامَتْ إليه هند بنت عتبة فأخذت بشار به فقالت: اقتلوا الحميت الدَّسِمَ الأَحْمَسَ [5] ، قَبُحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ، قَالَ: وَيْلَكُمْ، لا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، [قالوا] [6] : قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ! قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دورهم وإلى المسجد.
__________
[ (1) ] أي مضيقة.
[ (2) ] الحدقة: السواد المستدبر وسط العين، والجمع: حدق وحداق، وأحداق.
[ (3) ] أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الفتح (5/ 91) .
[ (4) ] أي لا قدرة ولا طاقة لكم في رده.
[ (5) ] الحيمت: الزق يجعل فيه السمن أو العسل أو الزيت، والدسم: كثير الدهن والشحم واللحم، والأحمس: شديد اللحم، شبهته هنا بالزق عند ما ينتفخ بالعسل أو الزيت أو السمن.
[ (6) ] وردت في الأصل: قال، وما أثبتناه من سرة ابن هشام.(2/219)
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مَعَ أَبِي سفيان بعد إسلامها إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمٍ فَهُوَ آمِنٌ» - وَهِيَ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ- «وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» - وَهِيَ بِأَعْلَى مَكَّةَ- فَكَانَ هَذَا أَمَانًا مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ مَكَّةَ مُؤْمِنَةٌ، وَلَيْسَتْ عَنْوَةٌ، وَالأَمَانُ كَالصُّلْحِ، وَرَأَى أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا مَالِكُونَ رباعهم، فلذلك كان يحيز كِرَاءَهَا لأَرْبَابِهَا وَبَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا، لأَنَّ مَنْ آمَنَ فَقَدْ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَذُرِّيَّتُهُ وَعِيَالُهُ، فَمَكَّةُ مُؤْمِنَةٌ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا مَتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ عَنْوَةٌ، لأَنَّهَا إِنَّمَا أُخِذَتْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَالْخِلافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ أَخْذِ أَجْرِ الْمَسَاكِنِ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَنْعِ مِنْهُ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ فِي مَكَّةَ أَنَّهَا مَنَاخُ مَنْ سَبَقَ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ الصُّورِيُّ بِمَرْجِ دِمَشْقَ قال: أنا أسد بْنُ سَعِيدِ بْنِ رَوْحٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ مَعْمَرِ بْنِ الْفَاخِرِ إِجَازَةً مِنْ أَصْبَهَانَ قَالا: أَخْبَرَتْنَا أُمُّ إِبْرَاهِيمَ فَاطِمَةُ الْجَوْزِدَانِيَّةُ سَمَاعًا قَالَتْ: أَنَا أبو بكر بن ربذة الضَّبِّيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَبَّادَانِيُّ، ثَنَا نَصْرُ بُْْن عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ محمد بن إسحق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الأَنْصَارِيِّ، عْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى الكعبة ثلاثمائة وَسِتُّونَ صَنَمًا قَدْ شَدَّ لَهُمْ إِبْلِيسُ أَقْدَامَهَا بِرَصَاصٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ قَضِيبٌ، فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ مِنْهَا فَيَخِرُّ لِوَجْهِهِ، فَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [1] حتى مر عليها كلها.
وَلا خِلافَ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِيهَا قَسْمٌ وَلا غَنِيمَةٌ وَلا سُبِيَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ، لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حُرْمَتِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكَّةُ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثَمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالأَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا بَلْدَةٌ مُؤْمِنَةٌ، أَمِنَ أَهْلُهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ تَبَعًا لَهُمْ. وَقَالَ الأُمَوِيُّ: كَانَتْ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَلَمَّا مَرَّ بِهَا عَلَى أَبِي سُفَيْانَ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ سَعْدٌ إِذْ نَظَرَ إليه:
__________
[ (1) ] قال تعالى في سورة الإسراء: الآية 81: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.(2/220)
الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةِ الأَنْصَارِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمِرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِكَ، فَإِنَّهُ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرَّ بِنَا أَنَّهُ قَاتِلُنَا، أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ، فَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَرْحَمُهُمْ وَأَوْصَلُهُمْ. وَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا» .
وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ يَوْمَئِذٍ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لجا حي ... ي قُرَيْشٍ وَلاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سعة الأر ... ض وَعَادَاهُمُ إِلَهُ السَّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانُ عَلَى القو ... م وَنُودُوا بِالصَّيْلَمِ الصَّلْعَاءِ
أَنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظه ... ر بِأَهْلِ الْحُجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
خَزْرَجِيٌّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنَ الغي ... ظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لأيهم بِشَيْءٍ ... غَيْر سَفْكِ الدَّمَا وَسَبْيِ النِّسَاءِ
قَدْ تَلَظَّى عَلَى الْبطَاحِ وَجَاءَتْ ... عَنْهُ هِنْدٌ بِالسَّوْءَةِ السَّوَّاءِ
إِذْ يُنَادِي بِذُلِّ حَيِّ قُرَيْشٍ ... وَابْنُ حرب بذا مِنَ الشُّهَدَاءِ
فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللِّوَاءَ وَنَادَى ... يَا حُمَاةَ اللِّوَاءِ أَهْلَ اللِّوَاءِ
ثُمَّ ثَابَتْ إِلَيْهِ من بهم الخز ... رج وَالأَوْسِ أَنْجُمُ الْهَيْجَاءِ
لَتَكُونَنَّ بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... فَقعَةَ الْقَاعِ فِي أَكُفِّ الإِمَاءِ
فَانْهَيَنْهُ فَإِنَّهُ أَسَدُ الأس ... د لَدَى الْغَابِ وَالِغٌ فِي الدِّمَاءِ
أَنَّهُ مُطْرِقٌ يدير لنا الأم ... ر سُكُوتًا كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ
فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَنَزَعَ اللِّوَاءَ مِنْ يَدِهِ، وَجَعَلَهُ بِيَدِ قَيْسٍ ابْنِهِ، وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أن اللواء لم يخرج عنه إذا صَارَ إِلَى ابْنِهِ قَيْسٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الرَّايَةَ لِلزُّبَيْرِ إِذْ نَزَعَهَا مِنْ سعد.
رجع إلى الخبر عن ابن إسحق: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، فَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُمْنَي، وَفِيهَا أَسْلَمَ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالصَّفِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ينصبُ لِمَكَّةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِّينَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ يَعْنِي الرَّجَّالَةَ.(2/221)
قال ابن إسحق: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَذَاخِرَ حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَاكَ قُبَّةٌ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ جَمَعُوا أُنَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ، فَقَالَتْ لَهُ امَرَأُتُه، لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟
قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ ما أَرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْء، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَخْدمكَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ قَالَ:
إِنْ يُقْبِلُوا اليوم فمالي عِلَّةْ ... هَذَا سِلاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّةْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سريع السلة ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلٍ وَعِكْرِمَةَ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَنَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقِتَالِ، فَقَتَلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ، وَحُبَيْشُ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَا فِي خَيْلِ خالد بن الوليد، فشذا عَنْهُ، فَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَقُتِلا جَمِيعًا، وَأُصِيبَ مِنْ جُهَيْنَةَ: سَلَمَةُ بْنُ الْميلاءِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا أَوْ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا ثُمَّ انْهَزَمُوا. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قُتِلَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ، قَالَ: فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، ثُمَّ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي، قَالَتْ: وَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ:
إِنَكَ لَوْ شَهِدْتَ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ المصلمة ... يقطعن كل ساع وَجُمْجُمَهْ
ضَرْبًا فَلا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ ... لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْمَوْصِلِيُّ بِقِرَاءَةِ وَالِدِي رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: أَنَا الشَّيْخُ أبو علي حنبل بن عبد الله بن الْفَرَجِ بْنِ سَعَادَةَ الرُّصَافِيِّ الْمُكَبّرِ سَمَاعًا عَلَيْهِ بسفح قاسيون سنة إثنتين وستمائة قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُذْهِبِ قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَهَاشِمٌ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ هشام: حدثني(2/222)
ثَابِتٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَا فِيهِمْ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ حَدِيثًا.
وَفِيهِ قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ؟ قَالَ: فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، قَالَ: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَكَّةَ، قَالَ: فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنَّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ عَلَى الْحُسَّرِ، [1] فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: قَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا [2] قَالَ: فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا وَفِيهِ: فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ: «اهْتِفْ لِي: يَا لِلأَنْصَارِ، وَلا يَأْتِنِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ» فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ» ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى: «احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا» قَالَ:
فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَالَ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» قَالَ: فَغَلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ، قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: وَفِي يَدِهِ قَوْس آخِذًا بِسَيّةِ الْقَوْسِ [3] ، فَأَتَى فِي طَوَافِهِ عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [4] ، قَالَ: ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلاهُ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوهُ، قَالَ: وَالأَنْصَارُ تَحْتَهُ، قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، قَالَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقْضِيَ، قَالَ هَاشِمٌ: فَلَمَّا قَضَى الْوَحْيُ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ: قُلْتُم:
أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ قَالُوا: قُلْنَا ذَلِكَ يَا رسول الله، قال:
__________
[ (1) ] أي على الكتائب التي لا دروع عليه.
[ (2) ] أي جمعت جموعها.
[ (3) ] السية من الفوس: ما عطف من طرفيها.
[ (4) ] سورة سبأ الآية 49.(2/223)
«فَمَا اسْمِي إِذَنْ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ» قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ [1] بِاللَّهِ ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْذِرَانِكُمْ وَيُصَدِّقَانِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ مَكَّةَ أَنْ لا يُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمَّاهُمْ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيُّ، وَعَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطْلٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَهَبَّارُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَقَيْنَتَا ابْنِ خطل، كانتا تغنيان ابن خطل يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَارَّةُ مَوْلاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
فَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ، وَكَانَ يَكتب الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا وَصَارَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْ أُمُّهُ عُثْمَانَ، فَغَيَّبَهُ حَتَّى أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا اطْمَأَنَّ النَّاسُ، فَاسْتَأْمَنَهُ لَهُ، فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: «نَعَمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ عُثْمَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ: «مَا صَمَتُّ إِلَّا لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَهَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ» ،
قُلْتُ: وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلامُهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ آخِرُ النُّجَبَاءِ الْعُقَلاءِ الْكُرَمَاءِ مِنْ قُرْيَشٍ، وَكَانَ فَارِسَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ الْمُقَدَّمَ فِيهِمْ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا ابْنُ خَطْلٍ، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْدَقًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ يَخْدِمُهُ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَنَزَلَ مَنْزِلا، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا فَيَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا، فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ ابْنُ خَطْلٍ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَكَانَتْ لَهْ قَيْنَتَانِ: فَرْتَنَا وَقُرَيْبَةُ، وَكَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ.
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ جُمَيْعٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد الْخَوْلَانِيُّ بِمَكَّةَ، ثَنَا أحمد بن رشد بن قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
__________
[ (1) ] الضن: المضنون به، أو الشيء النفيس تضن به لمكانته منك وموقعه عندك.(2/224)
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ [1] ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطْلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ» .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَفَرَّ إِلَى الْيَمَنِ، فَاتَّبَعَتْهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَرَدَّتْهُ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وَكَانَ يُعَدُّ مِنْ فُضَلاءِ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْدٍ فَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَكَانَ قَدْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَتَلَهُ بِأَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَكَانَ الأَنْصَارِيُّ قَتَلَ أَخَاهُ مُسْلِمًا خَطَأً فِي غَزْوَةِ ذِي قُرَدَ [2] وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذِي قُرَدَ وَأَبْيَاتُ مِقْيَسٍ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَحِقَ بِمَكَّةَ مُرْتَدًّا فَقَتَلَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ وَمِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا أُعْفِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ هَذَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
وَأَمَّا مِقْيَسُ فَارْتَدَّ أَيْضًا.
وَأَمَّا هَبَّارُ بْنُ الأَسْوَدِ فَهُوَ الَّذِي عَرَضَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفَهَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ حِينَ بَعَثَ بِهَا أَبُو الْعَاصِ زَوْجُهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا هَبَّارٌ هَذَا وَنَخَّسَ بِهَا فَسَقَطَتْ على صخرة فألقت ذا بطنها وأهرقت الدِّمَاء، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا مَرَضُهَا ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ،
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنْ وَجَدْتُمْ هَبَّارًا فَاحْرِقُوهُ بِالنَّارِ» ثُمَّ قَالَ:
«اقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ لا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» . فَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وَصَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ وَقَدِمَ مُهَاجِرًا جعلوا يسبونه، فَذُكِرَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «سب من سبك» فانتهوا عنه، وأمها قَيْنَتَا ابْنِ خَطْلٍ:
فَرْتَنَا وَقُرَيْبَةُ، فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا وَاسْتُؤْمِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأُخْرَى فَأَمَّنَهَا، فَعَاشَتْ مُدَّةً ثُمَّ مَاتَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا سَارَّةُ فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا أَيْضًا، فَأَمَّنَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ، فعاشت إلى أن وطأها رَجُل فَرَسًا بِالأَبْطَحِ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَمَاتَتْ، وَاسْتَجَارَ بِأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَجُلانِ، قيل: هما الحرث بْنُ هِشَامٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: أَحَدُهُمَا جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَأَجَارَتْهُمَا، فَأَرَادَ عَلَى قَتْلِهِمَا، فَدَخَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمْضَى جِوَارَهَا، وَقَالَ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ، وَآمَنَّا مَنْ أَمَّنْتِ» .
وَأَسْلَمَتْ أُمُّ هَانِئٍ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهِيَ شَقِيقَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب،
__________
[ (1) ] المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. والجمع: مغافر.
[ (2) ] وورد أنه قتله في غزوة بني المصطلق.(2/225)
وَعَقِيلٍ، وَجَعْفَرٍ وَطَالِبٍ، أُمُّهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ، قِيلَ: اسْمُهَا فَاخِتَةُ، وَقِيلَ: هِنْدٌ.
وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ قَالَ إِنَّ اسْمَهَا هِنْدٌ، قَوْلُ زَوْجِهَا هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ حِينَ فَرَّ يَوْمَ الْفَتْحِ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَلَحِقَ بِنَجْرَانَ وَمَاتَ عَلَى شِرْكِهِ فِي أَبْيَاتٍ أَوَّلِهَا:
أَشَاقَتْكَ هِنْدٌ أَمْ جَفَاكَ سُؤَالُهَا ... كَذَاكَ النَّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وقد أرقت فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَرَّدٍ ... بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ نَوْمٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبَّتْ عَلَيَّ تَلُومُنِي ... وَتَعْذِلُنِي بِاللَّيْلِ ضَلَّ ضَلالُهَا
لَئِنْ كُنْتِ قَدْ تَابَعْتِ دين محمد ... وعطفت الأرحام منك جبالها
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضَبَةٍ ... مُمَنَّعَةٍ لَا يُسْتَطَاعُ قِلالُهَا
فَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ إِذَا جَدَّ جَدُّهُمْ ... عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنِّي لأَحْمِي مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إِذَا كَثُرَتْ تَحْتَ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَطَارَتْ بِأَيْدِي الْقَوْمِ بِيضٌ كَأَنَّهَا ... مَخَارِيقُ وِلْدَان يَطِيشُ ظِلالُهَا
وَإِنَّ كَلامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنَّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
بَقِيَّةُ الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ
وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ [1] فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فَفُتِحَتْ لَهُ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ بِهَا حمامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدْعَى فَهُوَ تحت قدمي هاتين، الإسدانة الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شَبِيهِ العمد السوط وَالْعَصَى فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تراب، ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [2] الآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ» ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبُوا فأنتم الطلقاء» ثم جلس في المسجد، فقام
__________
[ (1) ] المحجن: العصا معوجة الرأس.
[ (2) ] سورة الحجرات الآية 13.(2/226)
إِلَيْهِ عَلِيٌّ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ: «هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ» . وَرُوِّينَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ:
كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النَّاسِ فَغَلَّظْتُ عَلَيْهِ وَنِلْتُ مِنْهُ وَحَلُمَ عَنِّي ثُمَّ قَالَ: «يَا عُثْمَانُ لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذُلَّتْ، فَقَالَ: بَلْ عَمَرَتْ وَعُزَّتْ يَوْمَئِذٍ» وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قَالَ. وَفِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا عُثْمَانُ، أن أتني بِالْمِفْتَاحِ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: «خُذُوهَا تَالِدَةً خَالِدَةً، لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللَّهَ استأمنكم على بيته، فكلوا ما يَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ» . قَالَ عُثْمَانُ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ نَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنِ الَّذِي قُلْتُ لَكَ» ؟ قَالَ: فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ: «لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروينا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْعَبَّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ لأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ بِلالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَسِيدًا أَنْ لا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ، فَقَالَ الْحَارِثُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ لاتَّبَعْتُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ تَكَلَّمْتُ لأَخْبَرَتْ عَنِّي هَذِهِ الْحَصْبَاءُ،
فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ فَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ» ثُمَّ ذكر ذلك لهم،
فقال الحرث وعتاب: نشهد أنك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فنقول أخبرك.
وروينا عن ابن إسحق مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ مَكَّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: «يا أيها النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ(2/227)
وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلا يعضد [1] بها شجرا. الحديث.
وفيه: فقال عمر لأَبِي شُرَيْحٍ: انْصَرِفْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ، إِنَّهَا لا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ، وَلا خَالِعَ طَاعَةٍ، وَلا مَانِعَ جِزْيَةٍ. الْحَدِيثَ. قُلْتُ: الَّذِي وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَعَ أَبِي شُرَيْحٍ، لا لِعَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَالْوَهْمُ فِيهِ عَنْ مَنْ دُونَ ابْنِ إسحق. وَقَدْ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ.
وَحِينَ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الأَنْصَارُ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: «مَاذَا قُلْتُمْ» ؟ قَالُوا: لا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ اللَّهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَذَكَرَ أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوِّحِ أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَضَالَةُ» ؟ قَالَ: نَعَمْ فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَاذَا كُنْتُ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ» ؟ قَالَ: لا شَيْءَ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «اسْتَغْفِرِ اللَّهَ» ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ، فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ:
وَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ. قَالَ فَضَالَةُ:
فَرَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي. فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ؟
فَقُلْتُ: لا، وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ:
قَالَتْ هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ فَقُلْتُ لا ... يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ وَالإِسْلامُ
لَوْ مَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ ... بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكَسَّرَ الأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا ... وَالشِّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الاظلام
وَفَرَّ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَّةَ، فَلَحِقَهُ عُمَيْرٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ فَرَدَّهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ؟ فَقَالَ: «أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» .
وَكَانَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَأَسْلَمَتْ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُ، فَلَحِقَتْهُ بِالْيَمَنِ فَرَدَّتْهُ، وَأَقَرَّهُمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وَصَفْوَانَ عَلَى نِكَاحِهِمَا الأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم تميم بن أسد
__________
[ (1) ] أي لا يقطع شجرها بالمعضد، والمعضد ما يقطع به الشجر.(2/228)
الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ، وَحَانَتِ الظُّهْرُ فَأَذَّنَ بِلالٌ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَغْزُ قُرَيْشٌ بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة» يَعْنِي عَلَى الْكُفْرِ، وَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: «إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» .
وَبَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّرَايَا إِلَى الأَصْنَامِ الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ فَكَسَّرَهَا، مِنْهَا: الْعُزَّى، وَمَنَاةُ، وَسُوَاعٌ، وَبُوَانَةُ، وَذُو الْكَفَّيْنِ، وَنَادَى مُنَادِيهِ بِمَكَّةَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إِلَّا كَسَرَهُ. وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ يَوْمَ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
عَفَتْ ذَاتَ الأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لَطِيفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذهبّ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الَّتِي قَدْ تَيَّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنَّ سَبِيئَةً [1] مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ [2] ... يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إِذَا مَا الأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنَّ لِطَيِّبِ الرَّاحِ الْفِدَاءُ
نُوَلِّيهَا الْمَلامَةَ إِنْ أَلَمْنَا ... إِذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الأَسْلُ الظِّمَاءُ
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ ... يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجِلادِ يَوْمٍ ... يُعِينُ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقَّ إِنْ نَفَعَ الْبَلاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدِّقُوهُ ... فَقَالُوا لا نَقُومُ وَلا نَشَاءُ
وَقَالَ اللَّهُ قَدْ يَسَّرْتُ [3] جُنْدًا ... هُمُ الأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللقاء
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: خبيثة.
[ (2) ] هو مضوع في الأردن تضع فيه الخمر.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وقال الله قد سيرت جندا.(2/229)
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مِعَدٍّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنَحْكُمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أبا سفيان عني ... مغلغة فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا ... وَعَبْدُ الدَّارِ سَادَتُهَا الإِمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرًّا حَنِيفًا ... أَمِينَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُه سَوَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُم وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ يَعْتَذِرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ما قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ مِنْ أَبْيَاتٍ:
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ [1]
أَحَثَّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلا ... إِذَا رَاحَ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ الْمُهَنَّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ... وَأَعْطَى لِرَأْسِ السابق المتجرد
تعلم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيدًا مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلَّمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ قَادِرٌ ... عَلَى كُلِّ صِرْمٍ مُتهمين وَمُنْجِدِ
تَعَلَّمْ بِأَنَّ الرَّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ ... هُمُ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلَّ مَوْعِدِ
وَنَبُّوا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي هَجَوْتُهُ ... فلا حملت سوطي إليّ إذا يدي [2]
__________
[ (1) ] والبيت الذي قبله عند ابن هشام:
أأنت الذي تهدي معد بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك أشهد
[ (2) ] وما بعده عند ابن هشام:
سوى أنني قد قلت ويل أم فتية ... أصيبوا بخس لا بطلق وسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاء ففرت عبرتي وتبلدي
فإنك قد أخفرت إن كنت ساعيا ... بعبد بن عبد الله وابنه مهود
ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا ... جميعا فإلا تدمع العين أكمد
وسلمى وسلمى ليس حي كمثله ... وإخوته وهل ملوك كأعبد
فإني لا دينا فتقت ولا دما ... هرقت تبين عالم الحق وأقصد(2/230)
ذكر فوائد تتعلق بخبر الفتح سوى ما تقدم
الْوَتِيرُ: مَاءٌ لِخُزَاعَةَ، وَهِيَ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الْوَرْدُ الأَبْيَضُ. وَالْعَنَانُ:
السَّحَابُ. وَقَوْلُهُ: قَدْ كُنْتُم وَلَدًا وَكُنَّا وَالِدًا، يُرِيدُ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أُمُّهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَذَلِكَ قُصَيٌّ أُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدٍ الْخُزَاعِيَّةُ. وَالْوَلَدُ: الْوَلَدُ. وَقَوْلُهُ: ثمت أَسْلَمْنَا مِنَ السَّلمِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بَعْدُ. وَفِيهِ: هُمْ قَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ وصلى، قاله السُهَيْلِيُّ. وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّي، وَاسْمُ أَبِي بَلْتَعَةَ عَمْرٌو مِنْ وَلَدِهِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شبطون [1] ، رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ، أَنْدَلُسِيّ وَلِيَ قَضَاءَ طُلَيْطِلَةَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ كَانَ في الكتاب الذي كتبه حاطب بن أَبِي بَلْتَعَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ، يَسِيرُ كَالسَّيْلِ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لْوَ صَارَ إِلَيْكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ. قِيلَ: وَفِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِ الْجَاسُوسِ لِتَعْلِيقِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِهِ بِشُهُودِهِ بَدْرًا. وَحَمَشَتْهُمُ الْحَرْبُ: يُقَالُ: حَمَشَتِ الرَّجُلَ إِذَا أَغْضَبَتْهُ، وَيُقَالُ: حَمَسْتُ النَّارَ إِذَا أَوْقَدْتُهَا، وَيُقَالُ: حَمَسْتُ بِالسِّينِ. وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الحرث كَانَ رَضِيعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، أرضعتهما حليمة، وكان آلف النَّاسُ لَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عنه بعد ذلك، ثم أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، ولم ينقم عليه شيء بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ حَسَّانٌ بِقَوْلِهِ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ إِسْلامِهِ. وَالْحَمِيتُ: الزِّقُّ.
وَالأَحْمَسُ: الشَّدِيدُ، وَالأَحْمَسُ الَّذِي لا خَيْرَ عِنْدَهُ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءَ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ- مِنْ أَعْلاهَا حَيْثُ وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَدَعَا لِذُرِّيَّتِهِ:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [2] فَاسْتُجِيبَ لَهُ تَبَرُّكًا بِذَلِكَ، وَالصَّيْلَمُ:
الصَلَّعْاءُ الدَّاهِيَةُ. وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ، كَذَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ إسحق، وَقَدْ قُيِّدَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مفتوحة، والشين المعجمة. والنهيت: صوت الصدر،
__________
[ (1) ] هو فقيه الأندلس زياد بن عبد الرحمن اللخمي شبطون، صاحب مالك، وعليه تفقه يحيى بن يحيى قبل أن يرحل إلى مالك، وكان زياد ناكسا ورعا، أريد القضاء فهرب، توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة (أنظر شذرات الذهب (1/ 339.)
[ (2) ] سورة إبراهيم: الآية 37.(2/231)
وَأَكْثَرُ مَا يُوصَفُ بِهِ الأَسَدُ. وَابْنُ خَطْلٍ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هِلالٌ، وَقِيلَ: بَلْ هِلالٌ أَخُوهُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا: الْخَطْلانِ، مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ. وَصَلاتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هِيَ صَلاةُ الْفَتْحِ، تُعْرَفُ بِذَلِكَ، وَكَانَ الأُمَرَاءُ إِذَا افْتَتَحُوا بَلَدًا يُصَلُّونَهَا، وَحُكِيَ عَنِ الطَّبَرِيِّ قَالَ: صَلَّاهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ افْتَتَحَ الْمَدَائِنَ وَدَخَلَ إِيوَانَ كِسْرَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، لا يفصل بينهما، وَلا تُصَلَّى بِإِمَامٍ، وَلا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. وَذَاتَ الأَصَابِعِ وَالْجِوَاءُ: مَنْزِلانِ بِالشَّامِ. وَعَذْرَاءُ: قَرْيَةٌ بقرب دمشق معروفة. وبنو الحسحاس حي مِنْ بَنِي أَسَدٍ. وَالرَّوَامِسُ: الرِّيَاحُ. وَالسَّمَاءُ:
يَعْنِي المطر. وشعثاء بنت سلام بن مكشم الْيَهُودِيِّ. وَخَبَرُ كَانَ سَبِيئَةٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: كَانَ فِي فِيهَا سَبِيئَةٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ: إِن مَحَلّا، وَإِنْ مُرْتَحَلا، أَيْ: إِنَّ لَنَا مَحَلّا.
وَأَلَمْنَا: أَتَيْنَا بِمَا يُلامُ فَاعِلُهُ، أَيْ نُصَرِّفُ اللَّوْمَ إِلَى الْخَمْرِ وَنَعْتَذِرُ بِالسُّكْرِ. وَالْمَغْثُ:
الضَّرْبُ بِالْيَدِ، وَاللّحَاءُ الْمُلاحَاةُ بِاللِّسَانِ، وَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ، أَنْصَفُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «شَرُّ صُفُوفِ الرِّجَالِ آخِرُهَا» [1]
يُرِيدُ نُقْصَانَ حَظِّهِمْ عَنْ حَظِّ الصَّفِّ الأَوَّلِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ التَّفْضِيلَ فِي الشَّرِّ، حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ ابْنُ إسحق: وَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ يَلْطُمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَنَحْكُمُ بِالْقَوَافِي، أَيْ: نَرُدُّ مِنْ حِكْمَةِ الدَّابَّةِ [2] . وَفِي شِعْرِ أَنَسِ بْنِ زُنَيْمٍ: وَأَعْطَى لِبُرْدِ الْخَالِ، الْخَالُ: مِنْ بُرُودِ اليمن، وهو من رفيع الثياب.
__________
[ (1) ] أنظر كنز العمال (7/ 20644 و 20645 و 20646 و 20578) .
[ (2) ] الحكمة: حديد اللجام.(2/232)
سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثُمَّ سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى، لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ [1] لِيَهْدِمَهَا، فَخَرَجَ فِي ثَلاثِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهَا، فَهَدَمَهَا ثُمَّ رَجَعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا» ؟ قَالَ: لا، قَالَ:
«فَإِنَّكَ لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَاهْدِمْهَا» فَرَجَعَ خَالِدٌ وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ، فَجَرَّدَ سَيْفَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةُ الرَّأْسِ، فَجَعَلَ السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزر لها بِاثْنَتَيْنِ [2] ، وَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «نَعَمْ، تِلْكَ الْعُزَّى، وَقَدْ أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبِلادِكُمْ أَبَدًا»
وَكَانَتْ بِنَخْلَةٍ، وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بنو شبان من بني سليم.
ثم سرية عمرو بن العاص إلى سواع
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ [3] وَهُوَ صَنَمٌ لهذيل ليهدمه قَالَ عَمْرٌو: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ السَّادِنُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَهْدِمَهُ، قَالَ: لا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: تُمْنَعُ، قُلْتُ: حَتَّى الآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ! وَيْحَكَ، وَهَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فكسرته، وأمرت
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات (2/ 145) سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حين فتح مكة خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها.
[ (2) ] أي قطعها نصفين.
[ (3) ] وعند ابن سعيد في الطبقات: ثم سرية عمرو بن العاص إلى سواع في شهر رمضان، سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قالوا: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم حين فتح مكة عمرو بن العاص إلى سواع، صنم هذيل ليهدمه، قال عمرو ...(2/233)
أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خَزَانَتِهِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، ثُمَّ قُلْتُ لِلسَّادِنِ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ:
أسلمت لله.
ثم سَرِيَّةُ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ الأَشْهَلِ إِلَى مَنَاةَ
في شهر رمضان سنة ثمان [1] ، وكانت بالمشلل لِلأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسَّانَ، فَخَرَجَ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا سَادِنٌ، فَقَالَ السَّادِنُ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ هُدِمَ مَنَاةُ، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ ثَائِرَةُ الرَّأْسِ تَدْعُو بِالْوَيْلِ وتضرب صدرها، فقال السادن: منا دُونَكَ بَعْض عَصَاتك [2] وَيَضْرِبُهَا سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ فَيَقْتُلُهَا، وَيُقْبِلُ إِلَى الصَّنَمِ مَعَهُ أَصْحَابُهُ فَهَدَمُوهُ، وَلَمْ يَجِدُوا فِي خَزَانَتِهَا شَيْئًا، وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لست بقين من شهر رمضان.
ثم سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ من كنانة، وكانوا بأسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ [3] ، وَهُوَ يَوْمَ الْغُمَيْصَاءِ، وهي عند ابن إسحق قِبَلَ سَرِيَّتِهِ لِهَدْمِ الْعُزَّى.
وَسِيَاقُ مَا قَالَ أَذْكُرُهُ لابْنِ سَعْدٍ قَالُوا: لَمَّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ الْعُزَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، بَعَثَهُ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ دَاعِيًا إِلَى الإِسْلامِ، وَلَمْ يبعثه مقاتلا، فخرج في ثلاثمائة وَخَمْسِينَ رَجُلا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَبَنِي سُلَيْمٍ، فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ، قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مُسْلِمُونَ، قَدْ صَلَّيْنَا وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ، وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ فِي ساحتنا، وَأَذَّنَّا فِيهَا، قَالَ: فَمَا بَالُ السِّلاحِ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ عَدَاوَةً، فَخِفْنَا أَنْ تَكُونُوا هُمْ فَأَخَذْنَا السِّلاحَ، قَالَ: فَضَعُوا السِّلاحَ، قَالَ: فَوَضَعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: اسْتَأْسَرُوا، فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ، فَأَمَرَ بَعْضُهُمْ فَكَتَّفَ بَعْضًا وفرقهم في أصحابه، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ نَادَى خَالِدٌ: مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيُذَافِّهِ، وَالْمُذَافَّةُ الإِجْهَازُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ.
فَأَمَّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صنع خالد، فقال: «اللهم
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات: ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة ...
[ (2) ] وعند ابن سعد في الطبقات: بعض غضباتك.
[ (3) ] وعند ابن سعد في الطبقات: من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.(2/234)
إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَوَدَى لَهُمْ قَتْلاهُمْ وَمَا ذَهَبَ مِنْهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره.
وعند ابن إسحق فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ خَالِدًا قَالَ لَهُمْ: ضَعُوا السِّلاحَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا وَضَعُوهُ أَمَرَ بِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتِفُوا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلامٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الإِسْلامِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ، قَدْ قَتَلْتُ قَاتِلَ أَبِي، وَإِنَّمَا ثَأَرْتُ بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَهْلا يَا خَالِدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلا رَوْحَتَهُ» .
وَكَانَ بَنُو جُذَيْمَةَ قَتُلوا الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعَوْفَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَالِدَ بْنَ هِشَامٍ قَاتِلَ أبيه منهم.
قال ابن إسحق: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَالَ لِي فَتًى مِنْ بَنِي جُذَيْمَةَ، هُوَ فِي سِنِّي وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ [1] وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ منه، يلفتي، قُلْتُ مَا تَشَاءُ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ فَقَائِدِي إِلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ حَتَّى أَقْضِيَ إِلَيْهِنَّ حَاجَةً ثُمَّ تَرُدَّنِي بَعْدُ فَتَصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ:
وَاللَّهِ لَيَسِيرُ مَا طَلَبْتَ، فَأَخَذْتُهُ بِرُمَّتِهِ فَقُدُتْهُ بِهَا حَتَّى وَقَفْتُهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: أَسْلِمِي حُبَيْشُ، عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ:
أَرَيْتُكَ إِنْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحِلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ أَكُ أَهْلا أَنْ ينول عائق ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ يَشْحَطِ النَّوَى ... وَيَنْأَى الأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ [2]
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصوري بقراءتي عليه بظاهر دمشق
__________
[ (1) ] أي قطعة حبل.
[ (2) ] وبقية الأبيات عند ابن هشام:
فإني لا ضعت سر أمانة ... ولا راق عيني عنك بعدك رائق
سوى أن ما نال العشيرة شاغل ... عن الود إلا أن يكون التوامق
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الأخريين منها له (وهو ما ذكر سابقا.) .(2/235)
قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخَانِ أَبُو الْفَخْرِ أَسْعَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ رَوْحٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ عَائِشَةُ بِنْتُ مَعْمَرِ بْنِ الْفَاخِرِ فِي كِتَابِهِمَا إِلَيْكَ مِنْ أَصْبَهَانَ فَأَقَرَّ بِهِ قَالا: أَخْبَرْتَنَا أُمُّ إِبْرَاهِيمَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْزَدَانِيَّةُ قَالَتْ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيذَةَ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزيِدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا، وَفِيهِمْ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ مِنْهُمْ، عَشِقْتُ امْرَأَةً فَلَحِقْتُهَا، فَدَعُونِي أَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ أَدْمَاءُ، فَقَالَ لَهَا: أَسْلِمِي حُبَيْشُ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشِ:
أَرَأَيْتِ لَوْ تَبِعْتُكُمْ فَلَحِقْتُكُمْ ... بِحلْيَةَ أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَمَا كَانَ حَقًّا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ
قَالَتْ: نَعَمْ فَدَيْتُكَ، قَالَ: فَقَدَّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ شَهْقَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ، فَلَمَّا قَدِمُوا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ» .
الغميصاء: ماء لبني جذيمة، والنفد والنفاد: مصادر نَفِدَ الشَّيْءِ إِذَا فَنِيَ.
وَحُبَيْشٌ: مُرَخَّمٌ مِنْ حُبَيْشَةَ. وَحلْيَةٌ وَالْخَوَانِق: مَوْضِعَانِ. وَالْوَدَائِقُ: جَمْعُ وَدِيقَةٍ، وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ.(2/236)
غَزْوَةُ حُنَيْنٍ وَهِيَ غَزْوَةُ هَوَازِنَ
قَالَ ابْنُ إسحق: وَلَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ، جَمَعَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلُّهَا، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمُ كُلُّهَا، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قيس عيلان إلا هؤلاء غابت عَنْهَا، فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلا كِلابٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ، وَفِي جُشَمَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلا التَّيَمُّنَ بِرَأْيِهِ ومَعْرِفَته بالحرب، وكان شجاعا مجربا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، وَفِي الأَحْلافِ قَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ، وَفِي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحرث بن مالك، وأخوه أحمر بن الحرث. وَجُمَّاعُ أَمْرِ النَّاسِ إِلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ، فَلَمَّا أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَطَّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَوْطَاسَ [1] اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ [2] فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟
قَالُوا: بِأَوْطَاسَ، قال: نعم محل الخيل، لا خزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء العير، وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيَعَارَ الشَّاءِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. قَالَ: أَيْنَ مَالِكُ؟ قِيلَ: هذا مالك، ودعى لَهُ، فَقَالَ: يَا مَالِكُ، إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وَإِنْ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ ما بعده من الأيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وَيَعَارَ الشَّاءِ؟ قَالَ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ، قَالَ: فَانْقَضَّ بِهِ [3] ثُمَّ قَالَ: رَاعِي
__________
[ (1) ] أوطاس: بفتح الهمزة وإسكان الواو، وبالطاء والسين المهملتين، وهو واد في بلاد هوازن.
[ (2) ] وعند ابن هشام: وفيهم دريد بن الصمة في شجار (وهو ما يشبه الهودج) ، له يقاد به، فلما نزل قال....
[ (3) ] أي زجره.(2/237)
ضأن والله، وهل يرع الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ [1] ، إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَالَ: غَابَ الْحَدُّ وَالْجَدُّ، لَوْ كَانَ يَوْمَ عَلاءٍ وِرِفْعَةٍ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَكِلابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ كَمَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ، فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لا يَنْفَعَانِ وَلا يَضُرَّانِ، يَا مَالِكُ: إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إِلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، ارْفَعْهُمْ إِلَى مُمْتَنَعِ [2] بِلادِهِمْ وَعَلْيَا قَوْمِهِمْ، ثُمَّ الْقَ الصَّبَا عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ ألقاك ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقْلُكَ. وَاللَّهِ لتطيعني يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَوْ لأَتَّكِئَنَّ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَاهِرِي [3] ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ قَالُوا: أطعناك، فقال دريد بن الصمة: هذا لم اليوم ونشهد وَلَمْ يَفُتْنِي:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شُدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَبَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، قَالَ: وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، وَاللَّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.
وَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ، فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمَّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حيث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر،
فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ [4] ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا وَسِلاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا أُمَيَّةَ أَعِرْنَا سِلاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا» فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «بل عارية وهي مضمونة حتى نؤديها
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: وهل يريد المنهزم شيء.
[ (2) ] وعند ابن هشام متمنع.
[ (3) ] وعند ابن هشام: من ظهري.
[ (4) ] وعند ابن هشام: إلى هوازن ليلقاهم.(2/238)
إِلَيْكَ» قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنَ السِّلاحِ،
فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ أَمِيرًا [1] ، ثُمَّ مَضَى يريد لقاء هوازن [2] .
قال ابن إسحق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أجوف حطوط، إنما تنحدر فِيهِ انْحِدَارًا، قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إِلَى الْوَادِي، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَجْنَابِهِ وَمَضَايِقِهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، فَوَاللَّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدُّوا عَلَيْنَا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ رَاجِعِينَ لا يُلَوِّي أَحَدٌ عَلَى أحد،
وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»
قَالَ: «فَلا شَيْءَ، حَمَلَتِ الإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَفِيمَن لَبِثَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ [3] ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعبَّاسُ، وأبو سفيان بن الحرث، وابنه، والفضل بن العباس، وربيعة بن الحرث، وأسامة بن زيد، وأيمن ابن أُمِّ أَيْمَنَ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ، إِذَا أُدْرِكَ طُعِنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فاته الناس رفع رمحه لمن وراء فَاتَّبَعُوهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَهْوَى إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ، قَالَ: فَيَأْتِي عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَيَضْرِبُ عُرْقُوبَيِ الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ [4] قَالَ: وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الأُسَارَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: أميرا على من تخلف عنه من الناس.
[ (2) ] وعند ابن هشام: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على وجهه يريد لقاء هوازن.
[ (3) ] وعند ابن هشام: إِلَّا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم نفي من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر.
[ (4) ] أي سقط قتيلا.(2/239)
قال ابن إسحق: فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ، تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الأَزْلامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ، وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ- وَصَوَّبَهُ ابْنُ هِشَامٍ: كِلْدَة- أَلَا بَطُلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لأُمِّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يربني رجل مِنْ هَوَازِنَ.
وَرُوِّينا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّهِ وَغَيْرِهَا قَالُوا: كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ رَجُلا صَالِحًا لَهُ فَضْلٌ وَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْ إِسْلامِهِ وَمَا أَرَادَ اللَّهُ به من الخير ويقول: ما رأيت أجب مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنْ لُزُومِ مَا مَضَى عليه آباء، نا مِنَ الضَّلالاتِ. ثُمَّ يَقُولُ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَنْوَةً، قُلْتُ: أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَعَسَى إِنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غُرَّةً فَأَثْأَرَ مِنْهُ، فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَقُولَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إِلَّا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا مَا تَبِعْتُهُ أَبَدًا، وَكُنْتُ مُرصدًا لِمَا خَرَجْتُ لَهُ، لا يَزْدَادُ الأَمْرُ فِي نَفْسِي إِلَّا قُوَّةً،
فَلَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ، اقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ، وَأَصْلَتَ السَّيْفَ، فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتَّى كِدْتُ أُسَوِّرُهُ، فَرُفِعَ لِي شَوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ كَادَ يَمْحَشَنِي [1] ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، وَالْتَفَتُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَانِي: «يَا شَيْبُ ادْنُ» فَدَنَوْتُ، فَمَسَحَ صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ» قَالَ: فَوَاللَّهِ لَهُوَ كَانَ سَاعَتَئِذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي، وَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كان فيّ، ثم قال: «أدن فقاتل» فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي، اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السَّاعَةَ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لأَوْقَعْتُ بِهِ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُ أَلْزَمُهُ فِيمَنْ لَزِمَهُ، حَتَّى تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَكَرُّوا كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَرُبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَرَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَيْرِي حُبًّا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ فَقَالَ: «يَا شَيْبُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ بِنَفْسِكَ» ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا أضمرت في نفسي مما
__________
[ (1) ] أي يحرقني.(2/240)
لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لأَحَدٍ قَطُّ، قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فقال: «غفر الله لك» .
قال ابن إسحق: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: إِنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخُذُ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ وَقَدْ شَجَرْتُهَا بِهَا، قَالَ:
وَكُنْتُ امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصَّوْتِ، قَالَ: ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنَ النَّاسِ: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ» قَالَ، فَلَمْ أَرَ النَّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ اصْرُخْ: يَا معشر الأنصار يا معشر الأنصار السُّمْرَةِ فَأَجَابُوا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، قَالَ: فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ لِيَثْنِي بَعِيرَهُ فَلا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ وَيَؤُمُّ الصَّوْتَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النَّاسَ فَاقْتَتَلُوا، فَكَانَتِ الدَّعْوَى أَوَّلَ مَا كَانَتٍ:
يَا لِلأَنْصَارِ، ثُمَّ خَلَصَتْ أَخِيرًا: يَا لِلْخَزْرَجِ، وَكَانُوا صَبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَأَشْرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ، فَقَالَ: الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» . وَزَادَ غَيْرُهُ:
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ: «انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ» ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا.
وَمِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهَا وُجُوهَهُمْ فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ القبضة فولوا مدبرين.
قال ابن إسحق: وحدثني إسحق بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلُ هَزِيمَةَ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الأَسْوَدِ، أَقْبَلَ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَنَظَرْتُ فإذا نمل أسود مثبوت قَدْ مَلأَ الْوَادِي، لَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلائِكَةُ ولم يكن يكن إلا هزمة القوم.
قال ابن إسحق: وَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرَ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَوُا الطَّائِفَ، وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسَ، وَتَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِ مَنْ(2/241)
تَوَجَّهَ قِبَلَ أَوْطَاسَ أَبَا عَامِرٍ الأَشْعَرِيَّ، فَأَدْرَكَ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ مَنِ انْهَزَمَ، فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَتَلَ أَبُو عَامِرٍ مِنْهُمْ تِسْعَةَ مُبَارِزَةٍ، ثُمَّ بَرَزَ الْعَاشِرَ مُعَلّمًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، فَضَرَبَ أَبَا عَامِرٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَخْلَفَ أَبُو عَامِرٍ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي عَامِرٍ، وَاجْعَلْهُ مِنْ أَعْلَى أُمَّتِي في الجنة» ودعا لأبي موسى أيضا، وقتل من المسلمين أيضا:
أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَسُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرُقَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ زيد بن لوذان- وعند ابن إسحق: يَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ- جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ الْجُمَّاحُ فَقُتِلَ. وَاسْتَحَرَ الْقَتْلُ فِي بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ فِي بَنِي رِئَابٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ» .
وَوَقَفَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى ثَنِيَّةٍ مِنَ الثَّنَايَا حَتَّى مَضَى ضُعَفَاءُ أَصْحَابِهِ، وَتَتَامَّ آخِرُهُمْ، ثُمَّ هَرَبَ فَتَحَصَّنَ فِي قصر يليه، ويقال: دخل حصن ثقيف. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالسَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ تُجْمَعُ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَحَذَرُوهُ إِلَى الْجِعِرَّانَةِ [1] ، فَوَقَفَ بِهَا إِلَى أَنِ انْصَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطَّائِفِ وَهُمْ فِي حَظَائِرَ لَهُمْ يَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنَ الشَّمْسِ، وَكَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلافِ رَأْسٍ، وَالإِبِلُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَالْغَنَمُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ، وَأَرْبَعَةُ آلافٍ أُوقِيَّةٍ فِضَّةً، فَاسْتَأْنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّبْيِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَفْدُهُمْ، وَبَدَأَ بِالأَمْوَالِ فَقَسَّمَهَا، وَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ أَوَّلَ النَّاسِ،
فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائَةً مِنَ الإِبِلِ قَالَ: ابْنَيْ يَزِيدَ، قَالَ: أَعْطَوْهُ أربعين أوقية ومائة من الإبل» قال: ابني مُعَاوِيَةَ، قَالَ: «أَعْطَوْهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائَةً مِنَ الإِبِلِ» ،
وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، ثُمَّ سَأَلَهُ مِائَةً أُخْرَى فَأَعْطَاهُ، وَأَعْطَى النَّضِيرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ مِائَةً مِنَ الإبل، وأعطى أسيد بن جارية الثقفي مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى الْعَلاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ وَهْبٍ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى مائة
__________
[ (1) ] وهي ما بين مكة والطائف، وإلى مكة أقرب.(2/242)
مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو الْعَامِرِيَّ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَرْبَعِينَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، فَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَيُقَالُ: خَمْسِينَ، وَإِعْطَاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَثْبَتُ الأَقَاوِيلِ عِنْدَنَا، ثُمَّ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ النَّاسِ وَالْغَنَائِمِ، ثُمَّ فَضَّهَا عَلَى النَّاسِ، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ لِكُلِّ رَجُلٍ أَرْبَعًا مِنَ الإِبِلِ أَوْ أَرْبَعِينَ شَاةً، فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أَخَذَ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ شَاةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَر مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ لم يسهم له.
قال ابن إسحق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُمُ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَّمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ،
قَالَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ» ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي، قَالَ: «فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ» قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ، أَتَى سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قَالَ:
«يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» ؟ قَالُوا بَلَى، اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ» ، قَالُوا: بِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فلصدقتم ولصدقتم، وأتيتنا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ [1] مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا معشر الأنصار أن يذهب
__________
[ (1) ] أي قليل منها.(2/243)
النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ» قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا، وَقَدِمَتِ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُخْتُكَ، قَالَ: «وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ» ؟ قَالَتْ:
عَضَّةً عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ، قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلامَةَ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّرَهَا وَقَالَ: «إِنْ أَحْبَبْتِ فعندي محبة مكرمة، وإن أحببت أن أُمَتِّعُكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكِ فَعَلْتُ» قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي، فَفَعَلَ،
فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: مَكْحُولٌ، وَجَارِيَةً، فَزَوَّجَتْ إِحْدَاهُمَا الآخَرَ، فَلَمْ يَزَلْ فيهم من نسلها بَقِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فَأَسْلَمَتْ، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً وَنَعَمًا وَشَاءً. وَسَمَّاهَا حُذَافَةَ، وَقَالَ: الشَّيْمَاءُ لقب.
قدوم وفد هوازن على النبي صلّى الله عليه وسلّم
وَقَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلا، وَرَأْسُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ، وَفِيهِمْ أَبُو بُرْقَانَ، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّبْيِ، فقال: أبناؤكم وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْدِلُ بِالأَحْسَابِ شَيْئًا، فَقَالَ، «أَمَّا مَا لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ» فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلا، فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَهَنْتُمُونِي [1] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ جَاءُوا مُسْلِمِينَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنأت سَبْيهُمْ، وَقَدْ خيرتهم فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالأَبْنَاءِ وَالنِّسَاءِ شَيْئًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَرُدَّهُ فسبيل ذلك، ومن أبى فليرد عليهم، وليكن ذلك فرضا علينا ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا» قالوا: رضينا وسلمنا، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ
وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، فَإِنَّهُ أَبَى أن
__________
[ (1) ] أي أضعفتموني.(2/244)
يَرُدَّ عَجُوزًا صَارَتْ فِي يَدَيْهِ مِنْهُمْ ثُمَّ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَسَى السَّبْيَ قُبْطِيَّةً قبيطية [1] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ الْمَقْدِسِيُّ سَمَاعًا بِالزُّعَيْزِعَيَّةِ بِمَرْجِ دِمَشْقَ قَالَ: أَنَا أَبُو الْفَخْرِ أَسْعَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ رَوْحٍ الصَّالْحَانِيُّ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَافِظِ أَبِي أَحْمَدَ مَعْمَرِ بْنِ الْفَاخِرِ الأَصْبَهَانِيَّانِ إِجَازَةً مِنْهُمَا قالا: أخبرتنا أم إبراهيم فاطمة بنت عبد اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُقَيْلٍ الْجَوْزِدَانِيَّةُ، قَالَ الأَوَّلُ: سَمَاعًا، وَقَالَتِ الثَّانِيَةُ: حُضُورًا، قَالَتْ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيذَةَ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ رَمَاحِسَ الْقَيْسِيُّ بِرمَادَةِ الرَّمْلَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثَنَا أَبُو عَمْرٍو زِيَادُ بْنُ طَارِقٍ، وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَرْوَلٍ زُهَيْرَ بْنَ صُرَدَ الْجُشْمِيَّ يَقُولُ: لَمَّا أَسَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَوْمَ هَوَازِنَ، وَذَهَبَ يُفَرِّقُ السَّبْيَ وَالشَّاءَ أَتَيْتُهُ، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّه فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَر ... مُشَتَّتٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
أَبْقَتْ لَنَا الدَّهْرَ هتَّافًا عَلَى حَزَنٍ ... عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغَمَّاء وَالْغُمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمُ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فوك تملأها مِنْ مَحْضِهَا الدّررُ
إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهَرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنَّعْمَاءِ إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا ليوم مُدَّخَرُ
فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ ... مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهَرُ
يَا خَيْرَ من مرجت كمت الجياد به ... عدن الْهِيَاجِ إِذَا مَا اسْتَوْقَدَ الشَّرَرُ
إِنَّا نؤمَلُ عَفْوًا مِنْكَ تَلْبَسُهُ ... هَذِي الْبَرِيَّةُ إِذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاعْفُ عَفَا اللَّه عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَهْدِي لَكَ الظَّفَرُ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشِّعْرَ قَالَ: «مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عبد المطلب فهو
__________
[ (1) ] القبطية: ثياب من كنان بيض رقاق، كانت تنسج في مصر، وهي منسوبة إلى القبط والجمع: قباطي، وقباطي(2/245)
لَكُمْ» وَقَالَتْ قُرَيْشٌ،: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فهو الله وَلِرَسُولِهِ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لا يُرْوَى عَنْ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدَ بِهَذَا التَّمَامِ إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ، تفرد به عبيد الله بن رماحس.
[بعض ما قيل من الشعر يوم حنين]
وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ قول العباس بن مرداس السلمي:
عفى مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعٌ ... فَمِطْلًى أَرِيكٍ قَدْ خَلا فَالْمصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمل إِذْ جُلُّ عَيْشنَا ... رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّهْرِ لِلْحَيِّ جَامِعُ
حُبَيِّبَةٌ أَلَوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنْ تَتْبَعِ الْكُفَّارُ غير ملومة ... فإني وزير لنبي وَتَابِعُ
دَعَانَا إِلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمْتُهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمُرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عليهم ... لبؤس لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالأَخْشَبَيْنِ وَإِنَّمَا ... يَدُ اللَّهِ بَيْنَ الأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنّقعُ كَابٌ وَسَاطِعُ
عَلانِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ سارت هوازن ... إلينا وضأت بِالنُّفُوسِ الأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضُّحَّاكِ لا يَسْتَفِزُّنَا ... قِرَاعُ الأَعَادِي مِنْهُمُ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللَّه يَخْفِقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لامِعُ
عَشِيَّةَ ضَحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالا لَكُنَّا الأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنَّ دِينَ اللَّهِ دِينُ مُحَمَّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشَّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ دَافِعُ
وَقَوْلُهُ:
مَا بَالُ عينك فيها عائر سره ... مَثَلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنَّهُمْ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمِهِ ... تَقَطَّعَ السِّلْكُ منه فهو منتبر
يَا بُعْدَ مَنْزِلٍ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ وَالْحَفَرُ
دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ ... وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشيب والذعر(2/246)
وَاذْكُرْ بَلاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَن وَاتَّبَعُوا ... دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجِرٌ
لا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ ... وَلا تَجَاوَزُ فِي مشتاهم البقر
إلا سوامح كالعقيان مَقْرُبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ
يُدْعَى خِفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيُّ ذَكْوَانَ لا يمل وَلا ضَجَرُ
الضَّارِبُونَ جُنُودَ الشِّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مكة والأرواح تبتدر
حتى رفعنا وَقَتْلاهُمْ كَأَنَّهُمُ ... نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ
إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخَضَّرًا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدَرُ
تَحْتَ اللَّوَامِعِ وَالضّحَّاكُ يَقْدَمُنَا ... كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَكْرِ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... يَكَادُ يَأْفِلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسِ أَسِنَّتَنَا ... لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتَّى تَأَوَّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلا الْمَلِيكُ وَلَوْلا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا إلا كثروا ... إلا وأصبح منافيهم أَثَرُ
قَالَ: وَتَرَكْتُ مِنْ شِعْرِ الْعَبَّاسِ مَا يَبْدُو فَضْلُهُ، وَيُسْتَحْسَنُ مِثْلُهُ، إِيثَارًا لِلاخْتِصَارِ وَاللَّهُ الموفق.
ذكر فوائد تتعلق بغزوة حُنَيْنٍ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا
حُنَيْنُ بْنُ قَانِيَةَ بْنِ مهلايل، هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَوْضِعُ. وَهِيَ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ وَهَوَازِنَ وَأَوْطَاسَ، سُمِّيَتْ بِأَوْطَاسَ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ أَخِيرًا، حَيْثُ اجْتَمَعَ فَلالُهُمْ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ كَمَا سَبَقَ.
وَالْوَطِيسُ: التَّنُّورُ، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ»
حِينَ اسْتَعَرَتِ الْحَرْبُ، وَهِيَ مِنَ الْكَلِمِ، الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ: «يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي»
وَقَوْلُهُ: فَانقض به،
أي صوت بلسانه في فيه مِنَ النَّقِيضِ، وَهُوَ الصَّوْتُ.
وَقَوْلُهُ: رَاعِي ضَأْنٍ يَجْهَلُهُ بِذَلِكَ.
وَفِرَارُ مَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ أَعْقَبَهُ رُجُوعُهُمْ إِلَيْهِ سُرْعَة وَقِتَالُهُمْ مَعَهُ حَتَّى كَانَ الْفَتْحُ، فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ(2/247)
عَنْكُمْ شَيْئاً [1] إلى قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2] كَمَا قَالَ فِيمَنْ تَوَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ (وَلَقَدْ عفا الله عنهم) وَإِنِ اخْتَلَفَ الْحَالُ فِي الْوَاقِعَتَيْنِ.
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَصَارَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا.
وَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ وَأَخَذَ أَسْلابَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ.
وَفِي خَبَرِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ الْمَلائِكَةَ رَأَيْتُ مَثَلُ الْبِجَادِ مِنَ النَّمْلِ- وَالْبِجَادُ: الْكِسَاءُ- وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ: يَوْمَئِذٍ رَأَيْتُ رِجَالا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَكَانَتِ الْمَلائِكَةُ، وَالْبَغْلَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ هِيَ الْمُسَمَّاةُ فِضَّةُ، الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ. وَالْمِجْدَلُ: الْقِصَرُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمُ عَلَمٍ لِمَكَانٍ. وَمطلاء، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَهِيَ أَرْضٌ تَعْقِلُ الرِّجْلَ عَنِ الْمَشْيِ. وَحُذْرُوفُ السَّحَابِ أَرَادَ بِهِ الْبَرْقَ الَّذِي فِي السَّحَابِ. وَكَانِعٌ حَاضِرٌ: نَازِلٌ وَالضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ كَانَتْ بِيَدِهِ رَايَةُ سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ. قَالَ الْبَرْقِيُّ لَيْسَ هُوَ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانٍ الْكِلابِيَّ، إِنَّمَا هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ السُّلَمِيُّ. وفي رواية: غير البكائي عن ابن إسحق، رُفِعَ نَسَبُهُ إِلَى بَهْتَةَ بْنِ سُلَيْمٍ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ السُّلَمِيُّ. وَقَوْلُهُ: نَذُودُ أَخَانَا الْبَيْتَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ سُلَيْمٍ، وَسُلَيْمٌ مِنْ قَيْسٍ، كَمَا أَنَّ هَوَازِنَ مِنْ قَيْسٍ كِلاهُمَا ابْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسٍ.
وَمَعْنَاهُ: نُقَاتِلُ إِخْوَتَنَا وَنَذُودَهُمْ عَنْ إِخْوَتِنَا مِنْ سُلَيْمٍ، وَلَوْ تَرَى فِي حُكْمِ الدِّينِ مصَالا مفْعَلا مِنَ الصَّوْلَةِ، لَكِنَّا مَعَ الأَقْرَبِينَ يُرِيدُ هَوَازِنَ. وَالْحماطة: مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ مَا فيه خشونة. والعائر: كالشيء ينخس في العين لأنه يعورها. والسهر: الرّجلُ، لأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْتُرْ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ سَهِرَ وَلَمْ يَنَمْ. وَالصَّمَّانُ وَالْحَقَرُ مَوْضِعَانِ. وَقَوْلُهُ: لا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُعَيِّرُهُمْ بِذَلِكَ. وَالْمقربة الْخَيْلُ الَّتِي قربَتْ مَرَابِطُهَا.
وَالأَخْطَارُ جَمْعُ خَطَرٍ وَهُوَ الْقَطِيعُ الضَّخْمِ مِنَ الإبل. والعكر ما فوق خمسمائة مِنَ الإِبِلِ. ضَاحِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ نَوَاحِيهِ الْبَارِزَةُ. وَالظَّاهِرَةُ مِنَ الأَرْضِ مَا غَلُظَ مِنْهَا.
سَرِيَّةُ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ قَالُوا: لَمَّا أَرَادَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إِلَى الطَّائِفِ بَعَثَ الطُّفَيْلَ بن
__________
[ (1) ] سورة التوبة: الآية 25.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 27.(2/248)
عَمْرٍو إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ صَنَمِ عْمرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ يَهْدِمُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِدَّ قَوْمَهُ وَيُوَافِيَهُ بِالطَّائِفِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا إِلَى قَوْمِهِ فَهَدَمَ ذَا الْكَفَّيْنِ، وَجَعَلَ يَحُشُّ النَّارَ فِي وَجْهِهِ وَيُحَرِّقُهُ وَيَقُولُ:
يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا ... مِيلادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلادِكَا
أَنَا حَشَشْتُ النّارع فِي فُؤَادِكَا
قَالَ: وَانْحَدَرَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ أربعمائة سِرَاعًا، فَوَافَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم [بدبابة] [1] وَمِنْجَنِيقٍ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَزْدِ، مَنْ يَحْمَلُ رَايَتَكُمْ؟ فَقَالَ الطُّفَيْلُ: مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي الجاهلية، قالوا: النعمان بن الرازية اللهي، قال: أصبتم.
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: بدابة، وما أثبتناه من الطبقات.(2/249)
غَزْوَةُ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ يُرِيدُ الطَّائِفَ، وَقَدَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ رَمَوْا حِصْنَهُمْ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا يُصْلِحُهُمْ لِسَنَةٍ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا مِنْ أَوْطَاسَ دَخَلُوا حِصْنَهُمْ، وَأَغْلَقُوهُ عَلَيْهِمْ وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ وَعَسْكَرَ هُنَاكَ، فَرَمَوُا الْمُسْلِمِينَ بِالنَّبْلِ رَمْيًا شَدِيدًا كَأَنَّهُ رِجْلُ جَرَادٍ، حَتَّى أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ بِجِرَاحَةٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، [1] فَارْتَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطَّائِفِ الْيَوْمَ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ أُمُّ سَلَمَةَ وزينب، فضرب لها قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطَّائِفَ كُلَّهُ، فَحَاصَرَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا- وَيُقَالُ خمسة عشر يوما، وقال ابن إسحق: بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا- وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمِنْجَنِيقَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا رُمِيَ بِهِ فِي الإِسْلامِ فِيمَا ذَكَرَ ابن هشام.
رُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ الْمِنْجَنِيقَ عَلَى أهل الطائف، أربعين يوما. قال ابن إسحق: حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الشّدخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطَّائِفِ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ دَبَّابَةٍ [2] ، ثُمَّ رَجَعُوا بِهَا إِلَى جِدَارِ الطَّائِفِ لِيُخَرِّقُوهُ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنَّارِ، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رجالا،
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات (2/ 158) : وقتل منهم إثنا عشر رجلا، فيهم عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، وسعيد بن العاص، ورمي عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ فاندمل الجرح ثم انتقض به بعد ذلك فمات منه، فَارْتَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى موضع مسجد الطائف....
[ (2) ] وهي آلة تستعمل قديما في الحروب وتضع من الجلد والخشب يكون الرجال فيها عند ما يقتربون من الحصون.(2/250)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يُقَطِّعُونَ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَدَعَهَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَنِّي أَدَعُهَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ» . وَنَادَى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا عَبْدٍ نَزَلَ إِلَيَّ مِنَ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ، نَزَلَ فِي بَكْرَةَ، فقيل: أبو بكرة، [فأعتقهم] [1] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَمُونُهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَلَمْ يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِ الطَّائِفِ. وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ فَقَالَ: «مَا تَرَى» فَقَالَ: ثَعْلَبٌ فِي حُجْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تركته لم يضرك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل وَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْنَا الطَّائِفُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ» فغدوا فأصابت المسلمين جرارحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَسُرُّوا بِذَلِكَ وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله يَضْحَكُ، وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» فَلَمَّا ارْتَحَلُوا وَاسْتَقَلُّوا قَالَ: «قُولُوا: آئبون تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» . وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّه عَلَى ثَقِيفٍ، قَالَ: «اللَّهُمَّ أهد ثقيفا وائت بهم مسلمين» .
تسمية من استشهد بالطائف مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن ابن إسحق: سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ خَبَّابٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنَ الأَزْدِ بْنِ الْغَوْثِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: حُبَابٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَدَوِيُّ حليف لهم، والسائب ابن الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ. وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ: جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ومن الأنصار: ثابت بن الجذع السلمي، والحرث بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ النَّجَّارِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّاعِدِيُّ، وَمِنَ الأَوْسِ: رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطَّائِفِ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَبِهَا قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ كما تقدم.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصِّدِّقِينَ، قَالُوا: لَمَّا رأى رسول الله
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: فعتقهم، وما أثبتناه من الطبقات.(2/251)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِلالَ الْمُحَرَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ، بَعَثَ الْمُصَّدِّقِينَ يَصَّدَّقُونَ الْعَرَبَ، فَبَعَثَ عُيَيْنَةَ بن حصن إلى بني تيمي، وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ الْحُصَيْنِ إِلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، وَيُقَالُ: بَعَثَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَبَعَثَ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ الأَشْهَلِيَّ إِلَى سُلَيْمٍ وَمُزَيْنَةَ، وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مِكْيَثٍ إِلَى جُهَيْنَةَ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ، وَبَعَثَ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلابِيَّ إِلَى بَنِي كِلابٍ، وَبَعَثَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْكَعْبِيَّ إِلَى بَنِي كَعْبٍ، وَبَعَثَ ابْنَ الأتبية الأَزْدِيَّ إِلَى بَنِي ذُبْيَانَ، وَبَعَثَ رَجُلا مِنْ بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٍ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَّدِّقِيهِ [1] أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ، وَيَتَوَقُّوا كرائم أموالهم. قال ابن إسحق:
وَبَعَثَ الْمُهَاجِرِينَ أَبِي أُمَيَّةَ إِلَى صَنْعَاءَ، فَخَرَجَ عليه العنسي وهو بهاء، وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، وَبَعَثَ عدي بن حاتم على طيء وَبَنِي أَسَدٍ، وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ، وَفَرَّقَ صَدَقَاتِ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ: الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَالْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَبَعَثَ عَلِيًّا إِلَى نَجْرَانَ ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم.
__________
[ (1) ] أي الذين يجمعون له الزكاة أو الصدقات.(2/252)
سَرِيَّةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ إِلَى بَنِي تَمِيمٍ
وَكَانُوا فِيمَا بَيْنَ السُّقْيَا وَأَرْضِ بَنِي تَمِيمٍ وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ قَالُوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم، فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنَ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرِيٌّ وَلا أَنْصَارِيٌّ، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي صَحْرَاءٍ، فَدَخَلُوا وَسَرَّحُوا مَوَاشِيَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجَمْعَ وَلَّوْا، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلا، وَوَجَدُوا فِي الْمَحَلَّةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ امْرَأَةً [1] وَثَلاثِينَ صَبِيًّا، فَجَلَبَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَحُبِسُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقَدِمَ فِيهِمْ عِدَّةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ، وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُجَاشِعٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ بَكَى إِلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ، فَعَجَّلُوا وَجَاءُوا إِلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَوْا: يَا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ إِلَيْنَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، وَتَعَلَّقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُونَهُ، فَوَقَفَ مَعَهُمْ، ثُمَّ مَضَى فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ جَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، فَقَدَّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبٍ فَتَكَلَّمَ وَخَطَبَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَأَجَابَهُمْ وَنَزَلَ فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [2] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم الأسرى والسبي.
وذكر بن إسحق مَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُفَاخَرَةِ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَ الشَّاعِرَيْنِ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَحَسَّانِ بْنِ ثابت من المفاخرة نظما، فأنشد الزبرقان:
__________
[ (1) ] وفي الطبقات الكبرى (2/ 161) : إحدى عشرة امرأة.
[ (2) ] سورة الحجرات: الآية 4.(2/253)
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ
وَنَحْنُ نطعم عن الْقَحْطِ مَطْعَمَنَا ... مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْفَزَعُ
بِمَا تَرَى النَّاسَ يَأْتِينَا سُرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هَوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبطًا فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَلا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إِلَّا اسْتَقَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطَعُ
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ
إِنَّا أَبَيْنَا وَلَمْ يَأْبَ لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
وَأَنْشَدَ لِحَسَّانٍ مُجِيبًا لَهُ:
إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بِهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الإِلَهِ وَكُلَّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُ سَبْقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تُبَعُ
لا يَرْفَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلا يُوهُونَ مَا رَفَعُوا
إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَتَعُوا
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ ... لا يَطْبَعُونَ وَلا يُؤْذَى بِهِمْ طَبْعُ
لا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمُ ... وَلا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَمَعُ
إِذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُ ... كَمَا يدب إلى الوحشية الذرع
نسموا إِذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إِذَا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لا يَفْخَرُونَ إِذَا نَالُوا عَدُوَّهُمْ ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلا خَوْرٌ وَلا هَلَعُ
كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ ... أُسْدٌ بِحَلْبَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَوْا عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا ... وَلا يَكُنْ هَمَّكَ الأَمْرُ الَّذِي منعوا
فإن في حربهم فاترك ... شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ وَالسَّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ ... إِذَا تَفَاوَتَتِ الأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا أَحَبَّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا(2/254)
فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانٌ قَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤْتًى لَهُ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا، فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا، وَجَوَّزَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ.
ذِكْرُ فَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْخَبَرِ
وَالْكَلامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَرِيبِ شِعْرِهِ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ: فِرَاسٌ، وَكَانَ فِي رَأْسِهِ قَرَعٌ، فَلُقِّبَ بِذَلِكَ.
ذُكِرَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ. وَاسْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ حُذَيْفَةُ، وَكَانَتْ عَيْنُهُ جَحَظَتْ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ. وَالزِّبْرِقَانُ الْقَمَرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تُضِيءُ بِهِ الْمَنَابِرُ حِينَ يَرْقَى ... عَلَيْهَا مِثْلَ ضَوْءِ الزِّبْرِقَانِ
وَالزِّبْرِقَانُ: الْخَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، وَاسْمُهُ: الْحُصَيْنُ. وَقَوْلُهُ: (إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْفَزَعُ) يُرِيدُ إِذَا كَانَ الْجَدْبُ وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ يَتَفَزَّعُ، وَالتَّفَزُّعُ: تَفَرُّقُ السَّحَابِ. وَالْكومُ: جَمْعُ كَوْمَاءَ، وَهِيَ الْعَظِيمَةُ السَّنَامِ. وَالاعْتِبَاطُ: الْمَوْتُ فِي الْحَدَاثَةِ. قَالَ: مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هَرَمًا. وَمَتَعُوا: ارْتَفَعُوا، مَتَعَ النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ.
وَالذَّرْعُ: وَلَدُ الْبَقَرِ، وَجَمْعُهُ ذِرْعَانٌ، وَبَقَرَةٌ مُذَرَّعٌ: إِذَا كَانَتْ ذَاتَ ذِرْعَانٍ، وَالسَّلَعُ:
شَجَرٌ مُرٌّ. وَشَمَعُوا: أَيْ ضَحِكُوا،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَتَبَّعَ الْمَشْمَعَةَ شَمَّعَ اللَّهُ بِهِ»
يُرِيدُ مَنْ ضَحِكَ مِنَ النَّاسِ فَأَفْرَطَ فِي الْمَزْحِ، وَشَمَعَتِ الْجَارِيَةُ وَالدَّابَّةُ شُمُوعًا لَعِبَتْ، وَمَعْنَاهُ فِي الْبَيْتِ: هَزَلُوا، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ شَمُوعٌ إِذَا كَانَتْ مَزَّاحَةً. وَذُكِرَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ كَانَ يَبْغَضُ عَمْرَو بْنَ الأَهْتَمِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ أَبَاهُ فَهَتَمَ فَاهُ [1] فَشُهِرَ بِالأَهْتَمِ، وَاسْمُهُ: سِنَانُ بْنُ سُمَيٍّ فَغَضَّ مِنْهُ بَعْضَ الْغَضِّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ ذَلِكَ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا أَعْطَى الْقَوْمَ. وَلَمَّا دَارَ بَيْنَ عَمْرٍو وَزِبْرِقَانَ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَئِذٍ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» .
وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرًا قَالَ فِي الزبرقان: إنه لمطاع في أذنيه، سَيِّدٌ فِي عَشِيرَتِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: لَقَدْ حَسَدَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ لِشَرَفِي، وَلَقَدْ عَلِمَ أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَنَّهُ لَزِيرُ الْمُرُوءَةِ، ضَيِّقُ الْعَطَنِ، لَئِيمُ الْخَالِ، فَعُرِفَ الإِنْكَارُ فِي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَضِيتُ فَقُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ وَسَخِطْتَ فَقُلْتُ أَقْبَحَ مَا عَلِمْتَ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الأُولَى وَمَا كَذَبْتُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُقَالُ: كَانَتْ أُمُّ الزِّبْرِقَانِ بَاهِلِيَّةً، فَذَلِكَ أراد عمرو.
__________
[ (1) ] أي كسر ثناياه.(2/255)
سَرِيَّةُ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ
إِلَى خثعم بناحية بيشة، قريبا من تربة فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قُطْبَةَ فِي عِشْرِينَ رَجُلا إِلَى حَيٍّ مِنْ خَثْعَمٍ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنَّ الْغَارَةَ، فَخَرَجُوا عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةٍ يَعْتَقِبُونَهَا، فَأَخَذُوا رَجُلا فَسَأَلُوهُ فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِالْحَاضِرَةِ وَيُحَذِّرُهُمْ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، ثُمَّ أَقَامُوا حَتَّى نَامَ الحاضر [1] فشنوا عليه الْغَارَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا حَتَّى كَثُرَ الْجَرْحَي فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَقَتَلَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ مَنْ قَتَلَ، وَسَاقُوا النَّعَمَ وَالشَّاءَ وَالنِّسَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَجَاءَ سَيْلٌ أَتِيٌّ فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَمَا يَجِدُونَ إِلَيْهِ سَبِيلا، وَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ أَرْبَعَةَ وَالْبَعِيرُ يُعْدَلُ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ بَعْدَ أَنْ أفراد الْخُمُسُ.
سَرِيَّةُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلابِيِّ إِلَى بَنِي كِلابٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ تسع
قالوا: بعث رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا إِلَى الْقُرَطَاءِ عَلَيْهِمُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْكِلابِيُّ، وَمَعَهُ الأَصْيَدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ قُرْطٍ، فَلَقَوْهُمْ بِالزَّخِّ زَخِّ لاوَةَ [2] ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَأَبَوْا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، فَلَحِقَ الأَصْيَدُ أَبَاهُ سَلَمَةَ، وَسَلَمَةُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي غَدِيرٍ بِالزَّخِّ [3] وَدَعَا أَبَاهُ إِلَى الإِسْلامِ وَأَعْطَاهُ الأَمَانَ، فَسَبَّهُ وسبب دِينَهُ، فَضَرَبَ الأَصْيَدُ عَرْقُوبَيْ فَرَسِ أَبِيهِ، فَلَمَّا وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد: ثم أمهلوا حتى نام الحاضر.
[ (2) ] وعند ابن سعد: فلقوهم بالزج، زج لاوه، وهو اسم موضع في نجد.
[ (3) ] وعن ابن سعد: في غدير بالزجاج.(2/256)
سَلَمَةُ عَلَى رُمْحِهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ اسْتَمْسَكَ حَتَّى جَاءَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ ابْنُهُ. الزَّخُّ بِالزَّايِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ.
سَرِيَّةُ عَلْقَمَةَ بْنِ مجزز [1] المدجلي إِلَى الْحَبَشَةِ
فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أن ناسا من الحبشة تراءاهم أهل جدة، فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة، فَانْتَهَى إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ وَقَدْ خَاضَ إِلَيْهِمُ الْبَحْرَ فَهَرَبُوا مِنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ تَعَجَّلَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَى أَهْلِيهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَتَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فِيهِمْ، فَأَمَّرَهُ عَلَى مَنْ تَعَجَّلَ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ، فَنَزَلُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْقَدُوا نَارًا يَصْطَلُونُ عَلَيْهَا وَيَصْطَنِعُونَ، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ إِلا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النَّارِ، فَقَامَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَتَحَجَّزُوا حَتَّى ظَنَّ أنهم واثبون فيها،
فقال: جلسوا، إِنَّمَا كُنْتُ أَضْحَكُ مَعَكُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةٍ فَلا تُطِيعُوهُ» .
سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب رضي الله عنه
إلى الفلس صنم طي ليهدمه في التاريخ قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَخَمْسِينَ فَرَسًا، وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ وَلِوَاءٌ أَبْيَضُ، إِلَى الْفُلْسِ لِيَهْدِمُوهُ [2] ، فَشَنُّوا الْغَارَةَ عَلَى مَحِلَّةِ آلِ حَاتِمٍ مَعَ الْفَجْرِ، فَهَدَمُوا الْفُلْسَ وَحَرَّقُوهُ، وملأوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ السَّبْيِ وَالنَّعَمِ وَالشَّاءِ، وَفِي السَّبْيِ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهَرَبَ عَدِيٌّ إِلَى الشَّامِ، وَوَجَدُوا [3] فِي خِزَانَةِ الْفُلْسِ ثَلاثَةَ أَسْيَافٍ رسوب، والمخدم، وَسَيْفٍ يُقَالُ لَهُ الْيَمَانِيُّ، وَثَلاثَةَ أَدْرَاعٍ، وَاسْتَعْمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي أبا قتادة، واستعمل على الماشية والرثة عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، فَلَمَّا نَزَلُوا رَككا [اقتسموا الغنائم] [4]
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: محرز، وما أثبتناه من الطبقات.
[ (2) ] وعند ابن سعد: ليهدمه.
[ (3) ] وعند ابن سعد: ووجد.
[ (4) ] زيدت على الأصل من الطبقات.(2/257)
وعزل للنبي صلّى الله عليه وسلّم صفيا رسوبا والمخدم، ثُمَّ صَارَ لَهُ بَعْدَ السَّيْفِ الآخَرِ، وَعُزِلَ الْخُمُسُ، وَعُزِلَ آلُ حَاتِمٍ فَلَمْ يَقْسِمْهُمْ حَتَّى قَدِمَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ. وَالْفُلْسُ: بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللامِ.
سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ
إِلَى الْجِبَابِ أَرْضُ عَذَرَةَ وَبَلَى وَكَانَتْ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
خَبَرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وقصيدته
وكان فيما بعد رُجُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ وغزوة تبوك قال ابن إسحق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنِ الطَّائِفِ، كتب بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرٍ إِلَى أَخِيهِ كَعْبٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رِجَالا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ: ابْنُ الزِّبَعْرَى، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، قَدْ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ فَطِرْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إِلَى نجائك [من الأرض] [1] وَكَانَ كَعْبٌ قَدْ قَالَ:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا [2]
فَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَفْعَلْ [3] فَلَسْتُ بِآسِفٍ ... وَلا قَائِلٍ إما عثرت لعا لكا
سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
قَالَ: وَبَعَثَ بِهَا إِلَى بُجَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [عند ما سمع] : [4] سقاك بها المأمون: «صدق وإنه لكذوب
__________
[ (1) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] وعند ابن هشام: (4/ 145) .
على خلق لم ألف يوما أبا له ... عليه وما تلفي عليه أبا لكا
[ (3) ] وعند ابن هشام:
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف
[ (4) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/258)
وَأَنَا الْمَأْمُونُ» وَلَمَّا سَمِعَ عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلا أَبًا عَلَيْهِ، [1] قَالَ: «أَجَلْ، لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلا أُمَّهُ» .
ثُمَّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلا وَهِيَ أَحْزَمُ
إِلَى اللَّهِ لا الْعُزَّى وَلا اللاتِ وَحْدَهُ ... فَتَنْجُوَ إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمٍ لا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنَ النَّارِ إِلا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ
فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ، وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كان في حاضره من عدوه فَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بَدَا قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَذْكُرُ خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ كَمَا ذُكِرَ لِي، فَغَدَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْ إِلَيْهِ وَاسْتَأْمَنَهُ،
فَذُكِرَ لِي أَنَّهُ قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إِنْ أَنَا جِئْتُكَ بِهِ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَمْ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بن زهير.
قال ابن إسحق: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا: قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ لِمَا صَنَع بِهِ صَاحِبُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلا بِخَيْرٍ،
فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي قَالَ حِينَ قدم على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ:
بَانَتْ سُعَادٌ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولٌ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادٌ غَدَاةَ البين إذا برزت [2] ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام:
وَلَمَّا سَمِعَ: عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا ولا أبا عليه.
[ (2) ] وعند ابن هشام:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... ولا يشتكي منها قصر منها ولا طول(2/259)
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلَمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهُ منهل بالراح معلول
شجّت بذي شيم مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٍ يَعَالِيلُ
وَيْلُ امِّهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ ... بِوَعْدِهَا أَوْ لَوْ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ [1]
لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ شِيطَ [2] مِنْ دَمِهَا ... فَجَعٌ وَوَلَعٌ وَإِخْلافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَقُومَ [3] عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا تَلَّوَنَ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تَمَسَّكَ بِالْوَصْلِ [4] الَّذِي زَعَمَتْ ... إِلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ [5]
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ يَعْجَلْنَ فِي أَمَدٍ ... وَمَا لَهُنَّ إخَالُ الدَّهْرَ تَعْجِيلُ [6]
فَلا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إِنَّ الأَمَانِيَ وَالأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادٌ بِأَرْضٍ لا يُبَلَّغُهَا ... إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلا يُبَلِّغُهَا إِلَّا عُذَافِرَةٌ ... فِيهَا عَلَى الأَيْنِ إِرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ [7]
مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عَرَّضْتَهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي النِّجَادَ بِعَيْنِي مُفْرَدٍ لَهَقٍ ... إِذَا تَوَقَّدَتِ الْحُزَّازُ وَالْمِيَلُ [8]
ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا ... فِي خلقها عن بنات الفحل تفضيل [9]
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فيا لها خلة لو أنها صدقت.
[ (2) ] وعند ابن هشام: قد سيط، أي خالط.
[ (3) ] وعند ابن هشام: فما تدوم.
[ (4) ] وعند ابن هشام: بالعهد.
[ (5) ] وما بعده عند ابن هشام:
لا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إِنَّ الأَمَانِيَ والأحلام تضليل
[ (6) ] وعند ابن هشام:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
[ (7) ] وعند ابن هشام:
ولن يبلغها إلا عذافرة ... لها على الابن إرقال وتبغيل
[ (8) ] وعند ابن هشام:
تَرْمِي النِّجَادَ بِعَيْنِي مُفْرَدٍ لَهَقٍ ... إِذَا تَوَقَّدَتِ الحزان والميل
[ (9) ] وما بعده عند ابن هشام:
عليه وخباء علكوم مذكرة ... في دفعها سعة قدامها ميل
وجلدها من أصوم ما يؤبه ... طلع بضاحية المتنين مهزول(2/260)
حَرفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ ... وَعَمُّهَا خَالُهَا قوداء شمليل
يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ [1]
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْلِ عَنْ عُرُضٍ ... مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزَّورِ مَفْتُولُ [2]
قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ
كَأَنَّ مَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا ... مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ بَرطِيلُ
تَمُرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ ... فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوَّنْهُ الأَحَالِيلُ
تَهْوِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهِيَ لاهية ... ذوابل وقعن الأَرْضَ تَحْلِيلُ [3]
سُمُرُ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا ... لَمْ يَقِهِنَّ سَوَادَ الأُكُمِ تَنْعِيلُ
يَوْمًا يَظَلُّ بِهِ الْحَرْبَاءُ مُرْتَبِيًا ... كَأَنَّ ضَاحِيَهُ فِي النَّارِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهِمْ وَقَدْ جَعَلَتْ ... بقعُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَى قيلُوا [4]
كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ [5]
أَوْبُ يدي فاقد شَمْطَاءَ مُعْوِلَةٍ ... قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
نَوَّاحَةٌ رَخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمَّا نَعَى بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللِّبَانَ بِكَفَّيْهَا وَمِدْرَعِهَا ... مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَمْشِي الْغُوَاةُ بِجَنْبَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ... إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سَلْمَى لْمَقْتُولُ [6]
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمَلُهُ ... لا أَلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا طَرِيقِي لا أَبَا لكم [7] ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
__________
[ (1) ] الزهاليل: الأملس من كل شيء.
[ (2) ] وما بعده عند ابن هشام:
كأنما فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا ... مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ برطيل
[ (3) ] وعند ابن هشام:
خدي على بسرات وهي لاحقة ... ذوابل مسهق الأرض تحليل
[ (4) ] وعند ابن هشام:
ورق الجنادب يركض الحصا قيلوا
[ (5) ] وعند ابن هشام:
شد النهار ذراعا عيطل نصف ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل
[ (6) ] وعند ابن هشام:
تسعى الغواة جنابيها وَقَوْلُهُمْ ... إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سَلْمَى لْمَقْتُولُ
[ (7) ] وعند ابن هشام:
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم(2/261)
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
أُنْبِئْتُ [1] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
مَهْلا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظُ وَتَفْصِيلُ
لا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... يَرَى وَيَسْمَعُ مَا قَدْ أُسْمِعَ الْفِيلُ [2]
لَظَلَّ يُرْعَدُ مِنْ وَجْدٍ بَوَادِرُهُ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ الله تنويل [3]
حتى وضعت يميني ما [أنازعه] [4] ... فِي كَفِّ ذِي نِقمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ
فَلَهُوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إِنَّكَ مَنْسُوبٌ ومسؤول
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضِرَاءِ الأَرْضِ مُخْدِرَةً ... فِي بَطْنِ عَثَّرَ غيلٌ دُونَهُ غِيَلُ
يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ... لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لا يَحِلُّ لَهُ ... أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إِلَّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الجو نافرة ... ولا تشمي بِوَادِيهِ الأَرَاجِيلُ
وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ... مُضَرَّجُ الْبَزِّ وَالدَّرسَانِ مَأْكُولُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا مَيْلٌ مَعَازِيلُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
شَمُّ الْعَرَانِينَ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا [5]
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: نبئت.
[ (2) ] وعند ابن هشام:
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
[ (3) ] وعند ابن هشام:
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
[ (4) ] وردت في الأصل: ما أنازعها، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (5) ] وما بعده عند ابن هشام:
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إِذَا عرد السواد التنابيل(2/262)
لا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلَّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا لهم من حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَبَيْتُهُ: حَرفٌ أخوها أبوها. ويمشي الْقُرَادُ. وَبَيْتُهُ: عَيْرَانَة قُذِفَتْ. وَبَيْتُهُ: تَمُرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ. وَبَيْتُهُ: تَفْرِي اللِّبَانُ. وَبَيْتُهُ: إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا. وَبَيْتُهُ: وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ عَنْ غير ابن إسحق.
قال ابن إسحق: قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: فَلَمَّا قَالَ كَعْبٌ: (إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ) وَإِنَّمَا يُرِيدُ [1] مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لِمَا كَانَ صَاحِبُنَا صُنِعَ بِهِ [2] وَخَصَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَدْحَتِهِ، غَضِبَتْ عَلَيْهِ الأَنْصَارُ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الأَنْصَارَ، وَيَذْكُرُ بَلاءَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ.
مَنْ سَرَّهُ كَرُمُ الْحَيَاةِ فَلا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الأَنْصَارِ
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إِنَّ الْخِيَارَ هُمُ بَنُو الأَخْيَارِ
الْبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ... يَوْمَ الْهِيَاجِ وَفِتْيَةِ الأَحْبَارِ
وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ... بِالْمِشْرَفِيِّ وَبِالْقَنَا الْخَطَّارِ [3]
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَدْرُعٍ ... كَسَوَالِفِ الْهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الأَبْصَارِ
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... لموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نكسا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الْكُفَّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيَّةٍ ... غُلُبُ الرِّقَابِ مِنَ الأُسُودِ ضَوَارِ
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إِلَيْهِمْ ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الأَعْفَارِ
ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ
لَوْ يَعْلَمُ الأَقْوَامُ عِلْمِي كُلَّهُ ... فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ ... لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مقَارِي
فِي الْعِزِّ مِنْ غَسَّانَ فِي جُرْثُومَةٍ ... أعيت محافرها على المنقار
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: إنما يرتدنا معشر الأنصار.
[ (2) ] وعند ابن هشام: لما كان صاحبنا صنع به ما صنع.
[ (3) ] وعند ابن هشام:
والقائد بين الناس عن أديانهم ... وبالمشرفي وبالقنا الخطار(2/263)
ذكر فوائد تتعلق بهذا الخبر
أَبُو سَلْمَى رَبِيعَةُ بْنُ رِيَاحٍ، أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ. وَالْمَأْمُونُ: يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّيهِ أَيْضًا الأَمِينَ.
وَلَعا: كلمة تقال للعائر دُعَاءً لَهُ بِالإِقَالَةِ. تَبْلِتِ الْمَرْأَةُ فُؤَادَ الرَّجُلِ، رَمَتْهُ بِهَجْرِهَا فَقَطَّعَتْ قَلْبَهُ. وَمَعْلُولٌ مِنَ الْعِلَلِ وَهُوَ الشّربُ الثَّانِي، وَالأَوَّلُ النَّهْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
مَنْهَلٌ، وَيُسْتَعْمَلُ مَعْلُولٌ أَيْضًا مِنَ الاعْتِلالُ، كَمَا يقوله الْخَلِيلِ فِي الْعَرُوضِ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ سِيدَهْ.
وَشُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ: يَعْنِي الْخَمْرَ وَشُجَّتْ: كُسِرَتْ مِنْ أَعْلاهَا، لأَنَّ الشَّجَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِي الرَّأْسِ، وَالشَّبَمُ: الْبَرْدُ، وَالشَّبِمُ: الْبَارِدُ قَالَهُ الأَصْمَعِيُّ، وَقَالَ: شُجَّ الشَّيْءُ إِذَا عَلاهُ، وَمِنْ هَذَا شُجَّ الشَّرَابُ، وَهُوَ أَنْ يَعْلُوهُ بِالْمَاءِ فَيَمْزُجُهُ بِهِ. وَمَشْمُولٌ:
ضَرَبَهُ الشّمَالُ. وَأَفْرَطَهُ: أَيْ مَلأَهُ، عَنِ السُّهَيْلِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِ سَبَقَهُ وَتَقَدَّمَهُ. وَالْيَعَالِيلُ:
السَّحَابُ، وَقِيلَ: جِبَالٌ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ مِنْ أَعْلاهَا. وَالْيَعَالِيلُ أَيْضًا: الْغُدْرَانُ، وَأَحَدُهَا يَعْلُولٌ، لأَنَّهُ يَعُلّ الأَرْضَ بِمَائِهِ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْيَعْلُولُ: الْحُبَابَةُ مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ أَيْضًا السَّحَابُ الْمُطَّرِدُ. وَقِيلَ: الْقِطْعَةُ الْبَيْضَاءُ مِنَ السَّحَابِ. وَالْيَعْلُولُ: الْمَطَرُ بَعْدَ الْمَطَرِ.
وَبَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ فِي الْقَصِيدَةِ وَلَيْسَ مِنَ الرِّوَايَةِ:
مِنَ اللَّوَاتِي إِذَا مَا خُلَّةً صَدَقَتْ ... يَشْفِي مَضَاجِعَهَا شَمٌّ وَتَقْبِيلُ
بَيْضَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً ... لا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلا طُولُ
قَالَ الْخُشَنِيُّ: شِيطَ مِثْلَ شَاطَ، يُقَالُ: شَاطَ دَمُهُ، إِذَا سَالَ، وَشَاطَتِ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ، وَالصَّوَابُ فِيهِ: سِيطَ، أَيْ: خُلِطَ وَمُزِجَ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ السُّهَيْلِيُّ: أَيْ خُلِطَ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا. وَهَذِهِ الأَخْلاقُ الَّتِي وَصَفَهَا بِهَا مِنَ الْوَلَعِ، وَهُوَ عِنْدَهَمُ الْكَذِبُ.
وَالْخُلْفُ وَالْفَجَعُ: قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْفَجِيعَةُ الرَّزِيئَةُ بِمَا يَكْرَهُ فَجَعَهُ يَفْجَعَهُ فَجْعًا، وَالْغُولُ الَّتِي تَتَرَاءَى بِاللَّيْلِ، وَالسِّعْلاةُ الَّتِي تَتَراءَى بِالنَّهَارِ مِنَ الْجِنِّ. وَعُرْقُوبُ بْنُ صَخْرٍ مِنَ الْعَمَالِيقِ، وَقِيلَ: بل هو الأَوْسِ أَوِ الْخَزْرَجِ، وَقِصَّتُهُ فِي إِخْلافِ الْوَعْدِ مَشْهُورَةٌ حِينَ وَعَدَ أَخَاهُ جَنْيَ نَخْلَةٍ لَهُ وَعْدًا بَعْدَ وَعْدٍ ثُمَّ جَدَّهَا لَيْلا وَلَمْ يعطه شيئا، قاله السهيلي وغيره، قال: كَانَ يَسْكُنُ الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ، وَالْبَيْتُ الْمَشْهُورُ (مَوَاعِيدَ عُرْقُوبٍ أَخَاهُ بِيَثْرِبَ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: يَتْرِبَ، يَعْنِي أَرْضًا لِلْعَمَالِيقِ، وَلَمْ تَكُنْ يَثْرِبُ(2/264)
سُكْنَى الْعَمَالِيقِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، فَالْبَيْتُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الرِّوَايَةِ المشهورة. النجيبات: السلسلة السَّيْرِ وَالنَّجِيبَاتُ السَّرِيعَةُ. وَالْمَرَاسِيلُ:
السَّهْلَةُ السَّيْرِ الَّتِي تُعْطِيكَ مَا عِنْدَهَا عَفْوًا. عُذَافِرَةٌ: صُلْبَةٌ. إِرْقَالٌ: إِسْرَاعٌ. وَالتَّبْغِيلُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ سريع، وقال غيره: سير البغال عرضتها جِهَةُ شَوْقِهَا.
وَالنِّجَادُ: الأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَاللَّهَقُ: الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ، وَقَالَ مُفْرَدٌ لأَنَّهُ يَرْمِي بِبَصَرِهِ نَحْوَ الأُتُنِ وَلا يَمْشِي إِلا كَدًّا مَعَهُنَّ. وَالْحُزَّازُ: مَا غَلُظَ مِنَ الأَرْضِ، وَالْمِيَلُ: الأَعْلامُ، وَقَالَ السهيلي: ما استع من الأرض. القوداء: الطوبلة الْعُنُقِ، وَالشِّمْلِيلُ: السَّرِيعَةُ السَّيْرِ. وَالْحَرفُ النَّاقَةُ الضَّامِرُ. مِنْ مُهَجَّنَةٍ مِنْ إِبِلٍ مُسْتَكْرَمَةٍ هِجَانٍ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ:
وَقَوْلُهُ: أَبُوهَا أَخُوهَا، أَيْ إِنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الْكَرَمِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ فَحْلٍ حَمَلَ عَلَى أُمِّهِ فَجَاءَتْ بِهَذِهِ النَّاقَةِ فَهُوَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا، وَكَانَتْ لِلنَّاقَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ هَذِهِ بِنْتٌ أُخْرَى مِنَ الْفَحْلِ الأَكْبَرِ، فَعَمُّهَا خَالُهَا عَلَى هَذَا، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْرَمِ النِّتَاجِ.
وَاللَّبَانُ: الصَّدْرُ. وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ: خَوَاصِرُ ملْسٌ. وَبَنَاتُ الزَّوْرِ: يَعْنِي اللَّحْمَاتَ النَّابِتَةَ فِي الصَّدْرِ. وَالْبِرْطِيلُ حَجَرٌ مُسْتَطِيلٌ، وَهُوَ أَيْضًا الْمعولُ. وَالْعَسِيبُ: عَظْمُ الذَّنَبِ، وَجَمْعُهُ عُسْبَانٌ. وَالْخُصَلُ: شَعْرُ الذَّنَبِ. وَالتَّخَوُّنُ، قَالَ الأَصْمَعِيُّ:
التَّنَقُّصُ، وَالتَّخَوُّنُ أيضا والتعهد. لَمْ تَخَوَّنْهُ الأَحَالِيلُ: يُرِيدُ رُوِيَتْ مِنَ اللَّبَنِ.
وَالأَحَالِيلُ: الذُّكُورِ. وَالْيَسَرُ: اللِّينُ، وَالانْقِيَادُ وَالْيُسْرُ السَّهْلُ. قَالَ ابْن سِيدَهْ: وَإِنَّ قَوَائِمَهُ لَيَسَرَاتٌ، أَيْ سَهْلَةٌ، وَاحِدَتُهَا يَسَرَةٌ وَيُسْرَةٌ. وَتَحْلِيلٌ: أَيْ قَلِيلٌ. والعجايات، عصب يَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، الْوَاحِدَةُ عِجَايَةٌ. وَالزِّيَمُ: المفترقة. وَالْقُورُ:
الْحِجَارَةُ السُّودُ. وَالْعَسَاقِيلُ هُنَا: السَّرَابُ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَثْعَمِيُّ: وَهَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ أَرَادَ، وَقَدْ تَلَفَّعَتِ الْقُورُ بِالْعَسَاقِيلِ. وَقَوْلُهُ: شَمْطَاءَ مُعْوِلَةٍ، جَعَلَهَا شَمْطَاءَ لأَنَّهَا يَائِسٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَهِيَ أَشَدُّ حُزْنًا. وَالْخَرَادِيلُ: الْقِطَعُ مِنَ اللَّحْمِ، وَفِي الْحَدِيثِ، «وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ» فِي صِفَةِ الْمَارِّينَ عَلَى الصِّرَاطِ، أَيْ تُخَرْدِلُ لَحْمَهُ الْكَلالِيبُ الَّتِي حَوْلَ الصِّرَاطِ. وَالأَرَاجِيلُ جَمْعُ جَمْعٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَرْجُلٍ، وَأَرْجُل جَمْعُ رِجْلٍ.
وَالدَّرِيسُ الثَّوْبُ الْخَلَقُ. زُولُوا: أي هاجروا. والتنابيل: القصار. والفقعاء: نَبْتٌ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالتَّهْلِيلُ: الْفَزَعُ وَالْجُبْنُ. وَكَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ. وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عُقْبَةُ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ عقبة أيضا العوام، وهو القائل:
ألا ليته شِعْرِي هَلْ تَغَيَّرَ بَعْدَنَا ... مَلاحَةُ عَيْنَيْ أُمِّ عمرو وجيدها(2/265)
وَهَلْ بَلِيَتْ أَثْوَابُهَا بَعْدَ جِدَّةٍ ... أَلا حَبَّذَا أَخْلاقُهَا وَجَدِيدُهَا
وَمِمَّا يُسْتَحْسَنُ لِكَعْبٍ قَوْلُهُ:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لا تَنْتَهِي العين حتى ينتهي الأثر
ويتسحن لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَخْدِي بِهِ النَّاقَةُ الأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا ... بِالْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جَلَّى لَيْلَةَ الظُّلَمِ
فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثْنَاءَ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمٍ(2/266)
غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ
توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم قال ابن إسحق: وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلادِ، وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَنَّى عَنْهَا وروى بِغَيْرِهَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلَمَةَ: «يَا جَدُّ: هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلادِ بَنِي الأَصْفَرِ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْذَنُ لِي وَلا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدَّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ، نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَرِ أَنْ لا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فَفِيهِ نَزَلَتْ:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [1]
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [2] الآية، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجَهَازِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ: قالوا، بلغ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعَتْ جُمُوعًا كَثِيرَةً بِالشَّامِ، وَأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَقَدَّمُوا مقدماتهم إلى البلقاء،
وجاء البكاؤون وهم سبعة يستحملون رسول الله فَقَالَ:
لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ
__________
[ (1) ] سورة التوبة الآية 49.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 81.(2/267)
[1]
وَهُمْ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو لَيْلَى الْمَازِنِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ: فِيهِمْ مَهْدِيُّ بْنُ عبد الرحمن. وبعضهم يقول: البكاؤون بَنُو مُقَرِّنٍ السَّبْعَةُ، وَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَابْنُ إسحق يَعُدُّ فِيهِمْ: عَمْرَو بْنَ الْحمامِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَقَالَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ، بَدَلَ ابْنِ الْمُغَفَّلِ، وَهَرَمِيُّ بْنُ عبد الله الواقفي. وفيما ذكر ابن إسحق أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ يَامِينَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النَّضْرِيَّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى وَابْنَ الْمُغَفَّلِ وَهُمَا كَذَلِكَ فَأَعْطَاهُمَا
نَاضِحًا [2] لَهُ، وَزَوَّدَهُمَا شيئا من تمر، وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَهُمُ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ رَجُلا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ قَدْ عَسْكَرَ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ فِي حُلَفَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ يُقَالُ: لَيْسَ عَسْكَرُهُ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى عَسْكَرِهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَقِيلَ: سبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَالأَوَّلُ أَثْبَتُ. فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَتَخَلَّفَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلا ارْتِيَابٍ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو خَيْثَمَة السَّالِمِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ. وَشَهِدَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثَلاثِينَ أَلْفًا مِنَ النَّاسِ، وَالْخَيْلُ عَشَرَةُ آلافِ فَرَسٍ، وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلَحِقَهُ بِهَا أَبُو خَيْثَمَةَ السَّالِمِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ، وهرقل يومئذ بحمص.
وفيما ذكر ابن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما أَرَادَ الْخُرُوجَ خَلَّفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا اسْتِثْقَالا وَتَخْفِيفًا مِنْهُ، فَأَخَذَ عَلِيُّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ [3] فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتَنِي وَتَخَفَّفْتَ مِنِّي، فَقَالَ: «كذبوا وكلني خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أنه لا نبي بعدي» ، فرجع على المدينة.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى
__________
[ (1) ] سورة التوبة: الآية 92.
[ (2) ] وهو الجمل الذي يستقي عليه.
[ (3) ] هو موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة.(2/268)
أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ فِي عريشين لهما فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهَا مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضِّحِّ [1] وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَيِّئَا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ
قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا، فَلا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُنْ أب خيثم» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ، فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ» ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير وقد كان رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ فَقَالَ: «لا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلا يُتَوَضَّأْ مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الإِبِلَ، وَلا تَأْكُلُوا مِنْهَا شَيْئًا وَلا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ» فَفَعَلَ النَّاسُ، إِلا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجِتَهِ، وَخَرَجَ الآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ لِحَاجِتَهِ فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بعيره، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ» ثُمَّ دَعَا لِلَّذِي خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ. وَأَمَّا الآخَرُ الَّذِي وقع بجبلي طىء فَإِنَّ طَيِّئًا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم حين قدم المدينة.
قال ابن إسحق: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ سَجَّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَاسْتَحَثَّ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» .
قال ابن إسحق: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَلا مَاءَ مَعَهُمْ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم
__________
[ (1) ] أي الشمس.(2/269)
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ،
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ حَتَّى كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَكَانَ مُنَافِقًا: أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنَّ رَجُلا يَقُولُ» ، وَذَكَرَ مَقَالَتَهُ، «وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أَعْلَمُ إِلا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا، وَكَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاؤوه بها، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُونَ: تَخَلَّفَ فُلانٌ، فَيَقُولُ:
دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ» .
وَتَلَوَّمَ [1] أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «كن أباذر» فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أباذر، يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» .
قَالَ ابن إسحق: فَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود قال: لما نفى عثمان أباذر إِلَى الرَّبَذَةِ [2] ، وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ، لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ، فَأَوْصَاهُمَا أَنِ اغسلاني وكفناني، ثم [ضعاني] [3] على قارعة الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارٍ [4] ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، قد كادت الإبل تطأها، وقام إليهم الْغُلامُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، قَالَ: فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ» .
ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة إلى تبوك، وَقَدْ كَانَ رَهَطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ومنهم رجل
__________
[ (1) ] أي تمهل وانتظر.
[ (2) ] هو موضع قرب المدينة.
[ (3) ] وردت في الأصل، ضماني، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (4) ] أي معتمرين.(2/270)
مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ يُقَالُ لَهُ: مَخْشِنُ بْنُ حُمَيْرٍ [1] ، يُشِيرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاللَّهِ لَكَأَنَّكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مَخْشِنُ بْنُ حُمَيْرٍ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلٌّ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» .
فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [2] وَقَالَ مَخْشِنُ بْنُ حُمَيْرٍ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي، فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يوجد له أثر.
وذكر ابن عائذ أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ، فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا، فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ، فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةِ.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤية صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جرْبَاءَ وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، وَكتب لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا وَهُوَ عِنْدَهُمْ، وَكتب لِيُحَنَّةَ [3] بِالْمُصَالَحَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا أمنة من الله ومحمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنِهِمْ وَسَيَّارَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ طَيِّبَةٌ [4] لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لا يَحِلُّ أَنْ يَمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلا طَرِيقًا يَرِدُونَهُ مِنْ بر أو بحر.
__________
[ (1) ] قال ابن هشام: ويقال: مخشي.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 65.
[ (3) ] وعند ابن هشام: يخنة بن رؤبة.
[ (4) ] وعند ابن هشام: وأنه طيب.(2/271)
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة
قال ابن إسحق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى أكيد دومة، وهو أكيد بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ: «إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ،
فَخَرَجَ خَالِدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ فِي لَيْلَةٍ: «مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَأَتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَتْ:
فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ؟ قَالَ: لا أَحَدٌ، فَنَزَلَ، فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: حَسَّانٌ، فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ [1] ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٌ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ، فَبَعَثَ بِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه [به] [2] عَلَيْهِ. وَفِيهِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا» .
ثُمَّ إِنَّ خَالِدًا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فرجع إلى قريته.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم خالدا في أربعمائة وَعِشْرِينَ فَارِسًا سَرِيَّة إِلَى أُكَيْدِرٍ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ: وَأَجَارَ خَالِدٌ أُكَيْدِرَ مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ ففعل، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رُمْحٍ، فَعَزَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيا خالصا، ثم قسم الغنيمة،
__________
[ (1) ] أي رماحهم القصيرة.
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/272)
فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ، وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَسَّمَ مَا بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ، فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُ فَرَائِضَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ أُكَيْدِرَ قَالَ عَنِ الْبَقَرِ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهَا قَطُّ جَاءَتْنَا إِلَّا الْبَارِحَةَ، وَلَقَدْ كُنْتُ أُضْمِرُ لَهَا الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، وَلَكِنَّ قَدَّرَ اللَّهُ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ اجْتِمَاعَ أُكَيْدِرَ ويحنةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمَا إِلَى الإِسْلامِ فَأَبَيَا وَأَقَرَّا بِالْجِزْيَةِ، فَقَاضَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قضْيَةِ دُومَةَ، وَعَلى تَبُوكَ، وَعَلَى أَيْلَةَ، وَعَلَى تَيْمَاءَ، وَكتب لَهُمَا كِتَابًا.
رَجْعٌ إِلَى خَبَرِ تَبُوكَ:
قَالَ ابن إسحق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ [1] مَا يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي الْمُشَقَّقِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَبَقَنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ [2] فَلا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ» قَالَ:
فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ، شَيْئًا فَقَالَ: «مَنْ سَبَقَنَا إِلَى هَذَا الْمَاءِ» ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُلانٌ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فَقَالَ: «أو لم أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى آتِيَهُ» ثُمَّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يَصُبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ [3] بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ، مَا إِنْ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ بَقِيتُمْ» أَوْ: «مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعَنَّ بِهَذَا الْوَادِي وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ» .
قال: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التَّيْمِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ المزني قد مات،
__________
[ (1) ] الوشل: الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره، وقيل: لا يكون ذلك إلا من أعلى الجبل.
[ (2) ] وعند ابن هشام: إلى ذلك الوادي.
[ (3) ] أي رشه به.(2/273)
وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلِّيَانِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكُمَا» فَدَلَّيَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشقهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ، قَالَ: يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ.
وَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم مراجعه غَزْوَةِ تَبُوكَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نعم حبسهم العذر» .(2/274)
أمر مَسْجِدُ الضِّرَارِ
ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم حتى نزل في [ذي أَوَانٍ] [1] ، بَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ،
وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَتَوْهُ [2] وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ» أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه» . فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ أَتَاهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنُ الدَّخْشَمِ أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا بَنِي الْعَجْلانِ، فَقَالَ: «انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ»
فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ الدَّخْشَمِ لِمَعْنٍ: انْظُرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعْفًا مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يَشْتَدَّانِ حَتَّى دَخَلاهُ وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَّقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. وَنَزَلَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً، وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [3] إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا:
خدام بْنُ خَالِدٍ، مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ، أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشقاقِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عامر، وابناه مجمع، وزيد ونبتل بن الحرث، وَبَحْزَجٌ وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، ووديعة بن
__________
[ (1) ] وردت في الأصل أوان، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (2) ] وعند ابن هشام: قد كانوا أتوه.
[ (3) ] سورة التوبة الآية 107.(2/275)
ثَابِتٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، رَهْطِ أَبِي لُبَابَةَ بن عبد المنذر. وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَتَخَلَّفَ الثَّلاثَةُ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ: كَعْبٌ وَمُرَارَةُ وَهِلالٌ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْذِرُهُمُ اللَّهُ وَلا رَسُولُهُ، وَأَمَّا الثَّلاثَةُ الآخَرُونَ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بن بكير، فثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بن مالك وكان قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ:
سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ [1] ، قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، ولم يعاتب أحدا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ [عنه] [2] فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهَا فِي تِلْكَ [الغزوة] [3] ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَة غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ- يُرِيدُ الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيُخْفَى لَهُ مَا لَمْ يُنَزَّلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الغزوة حين طابت الثمار والضلال، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فأرجع ولم أقضي شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي، أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو [4] ، وهممت أن
__________
[ (1) ] وعند البخاري (5/ 130) عن قصة تبوك.
[ (2) ] زيدت على الأصل من رواية البخاري.
[ (3) ] وردت في الأصل: الغزاة، وما أثبتناه من صحيح البخاري.
[ (4) ] أي فات وسبق.(2/276)
أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لا أُرَى إِلَّا رَجُلا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ [1] ، أَوْ رَجُلا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ،
فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ في عطفيه [2] ، فقال معاذ بن جبل، بئسما قلت، والله اي رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ توجه قافلا حضرني همي، فطفقت أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلَ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ منه أبدا بشيء فِيهِ كَذِبٌ [3] ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جاءه الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بضعة وثمانين رجلا، فقيل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جلست بين يديه فقال:
[لي] [4] «مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ» ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كذب ترضى به [عني] [5] لَيُوشَكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ»
فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ
__________
[ (1) ] أي متهما بالنفاق مطعونا عليه في دينه.
[ (2) ] إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه.
[ (3) ] في الأصل: لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا فِيهِ كَذِبٌ، وما أثبتناه لفظ البخاري.
[ (4) ] زيدت على الأصل من رواية البخاري.
[ (5) ] وردت في الأصل: عليّ، وما أثبتناه من لفظ البخاري.(2/277)
الْمُخَلَّفُونَ [1] قَدْ كَانَ كَافِيكَ مِنْ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أدرت أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هل لقي هذا [معي] [2] أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمَرِيُّ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رجلين صالحين [قد] [3] شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا، عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا بيبكيان، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَأَتِي رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي:
هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فعدت له فنشدته فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نِبْطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى جَاءَنِي، دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بعد، فإنه [قد] [4] بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهُ: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ، فَتَيَّمَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ:
أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: لا، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ
__________
[ (1) ] وعند البخاري: المتخلفون.
[ (2) ] زيدت على الأصل من رواية البخاري.
[ (3) ] زيدت على الأصل من صحيح البخاري.
[ (4) ] زيدت على الأصل من رواية البخاري.(2/278)
لامرأتي: الحقي بأهلك فتكون عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ.
قَالَ كَعْبٌ فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنْ لا يَقْرَبُكِ قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ،
وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ، فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا. فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، بَيْنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جبل سلع [1] بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وركض إليّ رجل فارسا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى ذُرْوَةِ الْجَبَلِ [2] وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي. نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبِي فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ، فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِيَهْنَكَ تَوْبَة اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم جالس حول النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، وَلا أَنْسَاهَا لطحلة.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذي
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: سلح، وما أثبتناه من صحيح البخاري.
[ (2) ] وعند البخاري: على جبل.(2/279)
بِخَيْبَرَ،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلانِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا كذا وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ، وانزل الله تعالى على رسول عَلَيْهِ السَّلامُ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [1] فوالله ما أنعم الله عليّ من نِعْمَةً قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلإِسْلامِ أَعْظَمَ من نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكُ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [2] قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [3] وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خَلَّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا، عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.
__________
[ (1) ] سورة التوبة: الآية 117- 119.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 95 و 96.
[ (3) ] سورة التوبة: الآية 118.(2/280)
أمر وفد ثقيف وإسلامه فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ
قَالَ ابْنُ إسحق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ،
وَكَانَ مِنْ حَدِيَثِهِمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ اتَّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالإِسْلامِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُهُ: «إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ» وَعَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةً لِلامْتِنَاعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: من أبصارهم-
وكان فيهم كذلك محبوبا مُطَاعًا، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الإِسْلامِ، رَجَاءَ أَنْ لا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عِلْيَةٍ لَهُ، وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ، رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَيَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ:
وس بْنُ عَوْفٍ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، وَيَزْعُمُ الأَحْلافُ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بني عتاب بن مالك يقال له: وهي بن جبار، فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: مَا تَرَى فِي دَمِكَ؟ قَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيَّ، فَلَيْسَ فِيَّ إلَّا مَا فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِين قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ، فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ،
فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: إِنَّ مثله في قومه كمثل صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ» ،
ثُمَّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ لا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا، وَأَجْمَعُوا أَنْ يُرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا كَمَا أَرْسَلُوا عُرْوَةَ، فَكَلَّمُوا عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وكان سن عروة بن مسعودة، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، وَخَشِيَ أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إِذَا رَجَعَ كَمَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ، فَقَالَ:
لَسْتُ فَاعِلا حَتَّى تُرْسِلُوا مَعِي رجالا، فأجمعوا أن يبعتوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنَ الأَحْلافِ، وَثَلاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ، فَيَكُونُونَ سِتَّةً، فَبَعَثُوا مَعَ عَبْدِ يَالِيلَ: الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، وَمِنْ بَنِي مَالِكٍ، عُثْمَانَ بْنَ(2/281)
أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دَهْمَانَ أخا بني ياسر وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ، أَخَا بَنِي سَالِمٍ، وَنُمَيْرَ بن خرشة بن ربيعة أخا بين الْحَارِثِ، فَخَرَجَ بِهِمْ [1] ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ وَنَزَلُوا قَنَاةً، أَلِفُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَاشْتَدَّ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ [2] ، فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لا تَسْبِقْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ فَفَعَلَ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِهِمْ عليه، ثُمَّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فروح الظُّهْر مَعَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيُّونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَزْعُمُونَ، فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ، وَكَانَ خَالِدٌ الَّذِي كَتَبَهُ [3] ، وَكَانُوا لا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدا حَتَّى أَسْلَمُوا، وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدَعَ لَهُمُ الطَاغِيَةَ، وَهِيَ اللَّاتُ، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً وَسَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى سَأَلُوهُ شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ قُدُومِهْم فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمَّى، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يُسْلِمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوِّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتَّى يَدْخُلَهُمُ الإِسْلامُ، فَأَبَى رسول الله إِلَّا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطَّاغِيَةِ أَنْ يَعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلاةِ، وَأَنْ لا يُكَسِّرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنَعْفِيكُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا الصَّلاةُ فَإِنَّهُ لا خَيْرَ فِي دِينٍ لا صَلاةَ فِيهِ [4]
فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَكتب لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُمْ، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَصَهُمْ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الإِسْلامِ وَتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِمْ وَتَوَجَّهُوا إِلَى بِلادِهِمْ رَاجِعِينَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي هَدْمِ الطاغية، فخرجا مع القوم حتى
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: فخرج بهم عبد ياليل، وهو ناب القوم وصاحب أمرهم، ولم يخرج بهم إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، لكي يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطة.
[ (2) ] وعند ابن هشام: فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ وَنَزَلُوا قَنَاةً، أَلِفُوا المغيرة بن شعبة يرعى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رعيتها نوبا على أصحابه، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقيفين، وخبر يشتد لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدومهم عليه.
[ (3) ] وعند ابن هشام: وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده.
[ (4) ] وعند ابن هشام: فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة.(2/282)
إِذَا قَدِمُوا الطَّائِفَ، أَرَادَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا سُفْيَانَ، فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ:
ادْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِكَ، وَأَقَامَ أَبُو سفيان بماله بِذِي الْهرم، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلاهَا لِيَضْرِبَهَا بِالْمِعْوَلِ، وَقَامَ قَوْمُهُ دُونَهُ بَنُو مُعَتِّبٍ خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ، وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسَّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا [1] . وَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ: وَاهًا لَكَ، وَاهًا لَكَ، فَلَمَّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ، وَأَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيَّهَا، أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وحليها مجموع، ومالها من الذهب والفضة والجذع،
وَقَدْ كَانَ أَبُو مَلِيحِ بْنُ عُرْوَةَ وَقَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ، قَدِمَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفْدِ ثَقِيفٍ حِينَ قُتِلَ عُرْوَةُ يُرِيدَانِ فِرَاقَ ثَقِيفٍ، وَأَنْ لا يُجَامِعَاهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَأَسْلَمَا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَلَّيَا مَنْ شِئْتُمَا فَقَالَا: نَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ» فَقَالا: وَخَالَنَا أَبَا سُفْيَانَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ، وَوَجَّهَ أَبَا سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةَ إِلَى هَدْمِ الطَّاغِيَةِ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو مَلِيحِ، ابن عُرْوَةَ أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ دَيْنًا كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» فَقَالَ لَهُ قَارِبُ بْنُ الأَسْوَدِ: وَعَنِ الأَسْوَدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِهِ، وَعُرْوَةُ وَالأَسْوَدُ أَخَوَانِ لأَبٍ وَأُمٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا» فَقَالَ قَارِبٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَكِنْ تَصِل مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ [2] يَعْنِي نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا الدَّيْنُ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا أُطْلَبُ بِهِ، فَأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالأَسْوَدَ مِنْ مال الطاغية، فقضى [3] .
وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم كَتَبَهُ لَهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمد رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ عَضَاهُ وَجٌّ [4] ، وَصَيْدُهُ لا يُعْضَدُ، مِنْ وُجِدَ يَفْعَلُ شَيْئًا من ذلك فإنه يجلد وينزع ثِيَابُهُ، فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فَيَبْلُغُ به النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وَأَنَّ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكتب خَالِدُ بْنُ سعد بْنِ الْعَاصِ بِأَمْرِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَلا يَتَعَدَّاهُ أَحَدٌ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: يبكين عليها ويقلن:
لتبكين دفاع ... أسلمها الرضاع
لم يحسنوا المصاع
[ (2) ] وعند ابن هشام: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَكِنْ تَصِل مُسْلِمًا ذَا قرابة.
[ (3) ] وعند ابن هشام: فلما جمع المغيرة مالها قال لأبي سفيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقضي عن عروة والأسود دينهما، فقضى عنهما.
[ (4) ] اسم الطائف.(2/283)
حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالُوا: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ على الحج، فخرج في ثلاثمائة رَجُلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً، قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ، عَلَيْهَا نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِيُّ، وَسَاقَ أَبُو بَكْرٍ خَمْسَ بَدَنَاتٍ، فَلَمَّا كَانَ بالعرجاج- وَابْن عَائِذٍ يَقُولُ: بِضَجْنَانَ- لَقِيَهُ [1] عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَعْمَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي أَقْرَأُ بَرَاءَةً عَلَى النَّاسِ، وَأَنْبِذُ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ،
فَمَضَى أَبُو بَكْرٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَرَاءَةً [على الناس] [2] يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَنَبَذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، وَقَالَ: لا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ رجعا قافلين إلى المدينة.
وَفِيَما ذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يحجون مع المسلمين، ويعارضهم المشركون بأعلا أَصْوَاتِهِمْ لِيُغَلِّطُوهُمْ بِذَلِكَ: لا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَيَطُوفُ رِجَالٌ مِنْهُمْ عُرَاةٌ، لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ثَوْبٌ بِاللَّيْلِ، يُعَظِّمُونَ بِذَلِكَ الْحُرْمَةَ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَطُوفُ بِالْبَيْتِ كَمَا وَلَدَتْنِي أُمِّي، لَيْسَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا خَالَطَهُ الظُّلْمُ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحُجَّ ذلك العام، وأمر الله ببراءة، وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. وَفِيهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النحر يوم الحج الأكبر أذن ببراءة مِنْ عَهْدِ كُلِّ مُشْرِكٍ لَمْ يُسْلِمْ أَنْ لا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مُدَّةَ اللَّهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا، فَقَالُوا: بَلِ الآنَ، لا نَبْتَغِي تِلْكَ
__________
[ (1) ] وعند ابن سعد في الطبقات: لحقه.
[ (2) ] زيدت على الأصل من الطبقات الكبرى.(2/284)
الْمُدَّةَ نَبْرَأُ مِنْكَ وَمِنَ ابْنِ عَمِّكَ، إِلَّا مِنَ الضَّرْبِ وَالطَّعْنِ، فَحَجَّ النَّاسُ عَامَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَرْغَبَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَكَانَ الْعَهْدُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَامًّا وَخَاصًّا، فَالْعَامُّ: أَنْ لا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ جَاءَهُ، وَلا يخافُ أَحَدٌ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَانْتُقِضَ ذَلِكَ بِسُورَةِ براءة، وَالْخَاصُّ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبال مِنَ الْعَرَبِ إِلَى آجَالٍ مُسَمَّاةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً [1] الآية ذكر معناه ابن إسحق، وذكر تمام الآية من سورة براءة وتفسيرها.
__________
[ (1) ] سورة التوبة: الآية 4.(2/285)
وفود العرب
وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ، قَدِمَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تُسَمَّى بِذَلِكَ، فَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَفِيهَا: قَدِمَ وَفْدُ بَنِي عَامِرٍ، فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأربد بْنُ قَيْسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَجُبَارُ بْنُ سَلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، قاله ابن إسحق: قَالَ: وَكَانَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ وَشَيَاطِينَهُمْ، فَقَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ عَدُوُّ اللَّهِ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: يَا عَامِرُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ آلَيْتُ لا أَنْتَهِي حَتَّى يَتْبَعَ الْعَرَبُ عَقِبِي، فَأَنَا أَتْبَعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ لأربدَ: إِذَا قَدِمْنَا عَلَى الرَّجُلِ فَإِنِّي شَاغِلٌ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَاعْلُهُ بِالسَّيْفِ،
فَلَمَّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا مُحَمَّدُ خَالنِي، قَالَ: «لا وَاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَالنِي وَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ وَيَنْتَظِرُ مِنْ أَربدَ مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ، فجعل أربد يجير شَيْئًا، فَلَمَّا رَأَى عَامِرٌ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَالنِي، قَالَ: «لا، حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ» فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلا ورجالا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ»
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: وَيْلَكَ يَا أَرْبَدُ، أَيْنَ مَا كُنْتَ أَمَرْتُكَ بِهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ رَجُلٌ هُوَ أَخْوَفَ عِنْدِي عَلَى نَفْسِي مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ لا أَخَافُكَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا، قَالَ: لا أَبَا لَكَ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بِالَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ أَمْرِهِ إِلا دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّجُلِ، حَتَّى مَا أَرَى غَيْرَكَ، أَفَأَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ، وَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلادِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّهُ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ اللَّهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بني سلول،(2/286)
فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِي عَامِرٍ، أَغُدَّةً كَغُدَّةِ الْبَكْرِ، فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، ثُمَّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ وَارَوْهُ التُّرَابَ حَتَّى قَدِمُوا أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ فَقَالُوا:
مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ؟ قَالَ: لا شَيْءَ، وَاللَّهِ لَقَدْ دَعَانَا إِلَى عِبَادَةِ شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنيل حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمَلٌ لَهُ يَتْبَعُهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا.(2/287)
قُدُومُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْفَتْحِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيِّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو الْيُمْنِ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتُمْ تسمعون سنة سبع وستمائة، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الأَخْضَرِ إِجَازَةً مِنْ بَغْدَادَ قَالا: أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ السَّمَرْقَنْدِيِّ سَمَاعًا قَالَ: أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَرَّاحِ الْوَزِيرُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وأنا أسمع، فثنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عبد العزيز البغوي، فثنا إسحق بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُمَارَةَ حَمْزَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ مُتَّكِئًا- أَوْ قَالَ جَالِسًا- جَاءَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالُوا: هَذَا الأَمْغَرُ الْمُرْتَفِقُ، - قَالَ حَمْزَةُ: الأَمْغَرُ الأَبْيَضُ مُشْرَبُ حُمْرَةٍ، وَالْمُرْتَفِقُ مِثْلُ الْمُتَّكِئِ- قَالَ: فَدَنَا مِنْهُ وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشْتَدٌّ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ» فَقَال: أَنْشُدُكَ بِرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ وَرَبِّ مَنْ بَعْدَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» قَالَ: وَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ» قَالَ: وَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهُ عَلَى فُقَرَائِنَا؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» قَالَ: وَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» قَالَ:
فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ يَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» قَالَ: فَإِنِّي قَدْ آمَنْتُ وَصَدَّقْتُ، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثعلبة، وأما هذه الهناة فوالله إن كانا لَنَتَنَزَّهُ عَنْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ حَمْزَةُ: فَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: الْهَنَاةُ الْفَوَاحِشُ قَالَ: فَلَمَّا أَنْ وَلَّى قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقِهَ الرَّجُلُ» .
قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أحد أَحْسَنَ مَسْأَلَةً وَلا أَوْجَزَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثعلبة. وذكر ابن إسحق هذا(2/288)
الْخَبَرَ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ ضِمَامًا قَالَ لِقَوْمِهِ عند ما رَجَعَ إِلَيْهِمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا، قَالَ: يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. ذَكَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.(2/289)
قُدُومُ الْجَارُودِ بْنِ بِشْرِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا
قَالَ ابْنُ إسحق فَحَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْلامَ، وَدَعَاهُ إِلَيْهِ، وَرَغَّبَهُ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدْ كنت على دين، وإن تَارِكٌ دِينِي لِدِينِكَ، أَفَتَضْمَنُ لِي دِينِي؟ فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» أَنَا ضَامِنٌ إِنْ قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ» قَالَ: فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمْلانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلادِنَا ضَوَالٌّ مِنْ ضَوَالِّ النَّاسِ، أَفَنَتَبَلَّغُ عَلَيْهَا إِلَى بِلادِنَا؟ قَالَ: «لا إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا، فَإِنَّمَا تِلْكَ حَرْقُ النَّارِ» .
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الْجَارُودُ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلامِ، صَلِيبًا [1] عَلَى دِينِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَقَدْ أَدْرَكَ الرِّدَّةَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَوْمُهُ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَى دِينِهِ الأَوَّلِ، مَعَ الْمَغْرُورِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، قَامَ الْجَارُودُ فَتَشَهَّد شَهَادَةَ الْحَقِّ وَدَعَا إِلَى الإِسْلامِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ. وَقَدْ رُوِّينَا خَبَرَ قُدُومِهِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَفِيهِ إِنْشَادُهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ فِي قَوْمِهِ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى أَتَتْكَ رِجَالٌ* قَطَعَتْ فَدْفَدًا [2] وَآلا فَآلا [3]
وَطَوَتْ نَحْوَكَ الضَّحَاضِحَ [4] طرا ... لا تخال الكلال فيه كلالا
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: صلبا.
[ (2) ] الفدفد: الأرض الواسعة المستوية لا شيء فيها، والجمع: فدافد.
[ (3) ] الآل: السراب.
[ (4) ] أي الماء الرقيق الذي يكون على وجه الأرض.(2/290)
كُلُّ دَهْنَاءَ [1] يَقْصُرُ الطَّرْفُ عَنْهَا ... أَرْقَلَتْهَا قِلاصُنَا [2] إرقالا
وطوتها الجياد تجمح فِيهَا ... بِكَمَاةٍ كَأَنْجُمٍ تَتَلالا
تَبْتَغِي دَفْعَ بُؤْسِ يوم عبوس ... أوجل القلب ذكره ثم هالا
__________
[ (1) ] الدهناء: الفلاة.
[ (2) ] القلوص من الإبل: الفتية المتمعة الخلق، وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها. والمعنى أن نوقنا قطعتها قلاصنا سريعا.(2/291)
قدوم بين حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب
قال ابن إسحق: وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَحَدَّثَنِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم تستره بالثياب، ورسول الله جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، مَعَهُ عَسِيبٌ مِنْ سَعْفِ النَّخْلِ [1] ، فِي رَأْسِهِ خُوصَاتٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يَسْتُرُونَهُ بِالثِّيَابِ، كَلَّمَهُ وَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ سَأَلْتَنِي هذا العسيب ما أعطيتكه» .
قال ابن إسحق: وَقَدْ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أهل اليمامة أن حديثه كان على خلاف هذا، [زعم] [2] أن وفد بني حنفية أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَخَلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا مَكَانَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَّا قَدْ خَلَّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا وَفِي رِكَابِنَا يَحْفَظُهَا لَنَا، قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ وَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بشرِّكم مكانا»
أي لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، قَالَ:
ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءُوهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْيَمَامَةِ ارْتَدَّ عَدُوُّ اللَّهِ وَتَنَبَّأَ وَتَكَذَّبَ لَهُمْ وَقَالَ: إِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الأَمْرِ مَعَهُ، وَقَالَ لِوَفْدِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا، مَا ذَاكَ إِلا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الأمر معه، ثم جعل يسجع لهم [الأساجيع] [3] وَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ: لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنَ صِفَاقٍ وَحْشًا. وَأَحَلَّ لَهُمُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا، وَوَضَعَ عَنْهُمُ الصَّلاةَ، وَهُوَ مَعَ ذلك يشهد
__________
[ (1) ] أي جريدة نخل.
[ (2) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.
[ (3) ] زيدت على الأصل من سيرة ابن هشام.(2/292)
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نبي فأصفقت معه حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
قُلْتُ: كَانَ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبَ نيروجات [1] ، يُقَالُ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْبَيْضَةَ فِي الْقَارُورَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ وَصَلَ جَنَاحَ الطَّائِرِ الْمَقْصُوصَ، وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّ ظَبْيَةً تَأْتِيهِ مِنَ الْجَبَلِ فَيَحْلِبُ مِنْهَا، قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يَرْثِيهِ:
لَهْفِي عَلَيْكَ أَبَا ثُمَامَهْ ... لَهْفِي عَلَى رُكْنَيْ شمامَهْ
كَمْ آيَةٍ لَكَ فِيهِمُ ... كَالشَّمْسِ تَطْلُعُ مِنْ غَمَامَهْ
حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ وَقَالَ: كَذَبَ، بَلْ كَانَتْ آيَاتُهُ مَنْكُوسَةً، يُقَالُ: إِنَّهُ تَفَلَ فِي بِئْرِ قَوْمٍ سَأَلُوهُ ذَلِكَ تَبَرُّكًا فَمَلَحَ مَاؤُهَا، وَمَسَحَ رَأْسَ صَبِيٍّ فَقَرَعَ قَرَعًا فَاحِشًا، وَدَعَا لِرَجُلٍ فِي ابْنَيْنِ لَهُ بِالْبَرَكَةِ فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا قَدْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ وَالآخَرَ قَدْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيْ رَجُلٍ اسْتَشْفَى بِمِسْحِهِ فَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ.
__________
[ (1) ] النيرنج: أخذ كالسحر وليس به، والجمع: نيرجات ونيارج.(2/293)
قدوم زيد الخيل بن مهلهل الطائي في وفد طىء
قال ابن إسحق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفد طىء، فِيهِمُ زَيْدُ الْخَيْلِ، وَهُوَ سَيِّدُهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ كَلَّمَهُمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلامَ، فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلامُهُمْ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمَّ جَاءَنِي إِلا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا قِيلَ فِيهِ، إِلا زَيْدَ الْخَيْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلُّ مَا فِيهِ» . ثم سماه زيد الخير وقطع له فيد [1] وَأَرْضَيْنِ مَعَهُ، وَكتب لَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ، مِنْ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ»
فَإِنَّهُ قَالَ: قَدْ سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمَّى، وَغَيْرِ أُمِّ مِلْدَمٍ، فَلَمْ يُثْبِتْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ بَلَدِ نَجْدٍ إِلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ يُقَالُ لَهُ: فَرْدَةُ، أَصَابَتْهُ الْحُمَّى بِهَا فمات، فلما أحسن زيد بالموت قال:
أمر تحل قَوْمِي الْمَشَارِقَ غُدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِفَرْدَةِ منْجدِ
أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنِي ... عوائد من لم يبر منهن بزهد [2]
فَلَمَّا مَاتَ عَمِدَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي أَقْطَعَهَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْرَقَتْهَا بِالنَّارِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ وَقِيلَ بَلْ مَاتَ فِي آخِرِ خِلافَةِ عُمَرَ وَكَانَ قَدْ أَسَرَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قَبْلَ إِسْلامِهِ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ. وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ مُكْنِفٌ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى وَحُرَيْثٌ أَسْلَمَا وَصَحِبَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَا قتال أهل الردة مع خالد.
__________
[ (1) ] وهو موضع.
[ (2) ] وعند ابن هشام: عوائد من لم يبر منهن يجهد.(2/294)
قُدُومُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ
قَالَ ابْنُ إسحق: وَكَانَ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي: مَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنِّي، أما أنا فكنت إمرأ شَرِيفًا، وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا، وَكُنْتُ أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ [1] ، فَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكًا فِي قَوْمِي لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي، فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهْتُهُ، فَقُلْتُ لِغُلامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٌّ وَكَانَ رَاعِيًا لإِبِلِي: اعْزِلْ لا أَبَا لَكَ، اعْزِلْ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالا ذُلَلا سِمَانًا فَاحْبِسْهَا قَرِيبًا مِنِّي فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلادَ فَآذِنِّي، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ مَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا غَشِيَكَ مُحَمَّدٌ فَاصْنَعْهُ الآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقَالُوا: هَذِهِ جُيوُشُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: فَقَرِّبْ لِي أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا، فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَخَلَّفْتُ بِنْتًا لِحَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ [2] ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشام أقمت بها، وَتَخَالَفَنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ، فَقُدِمَ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سبايا من طيء، وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبِي إِلَى الشَّامِ،
فَجُعِلَتْ بِنْتُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، كَانَتِ السَّبَايَا تُحْبَسُ فِيهَا، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَزْلَةً [3] ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ [4] فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَالَ: «مَنْ وَافِدُكَ» ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَالَ: «الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنِي، حتى إذا كان من الغد مربي، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالأَمْسِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الغد مربي وقد يئست، فأشار إلى رجل من
__________
[ (1) ] أي يأخذ من قومه ربع الغنيمة له خاصة دون قومه.
[ (2) ] أي الحي.
[ (3) ] أي عاقلة.
[ (4) ] أي الزائر.(2/295)
خَلْفِهِ أَنْ قُومِي فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد فَعَلْتُ، فَلا تَعْجِلِي بِخُروجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إِلَى بِلادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي» .
فَسَأَلَتْ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَى أَنْ كَلِّمِيهِ [1] ، فَقِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْتُ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بِلًى أَوْ قُضَاعَةَ، قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشَّامِ، قَالَتْ: فَجِئْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلاغٌ، قَالَتْ: فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَنِي وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، قال عدي: فوالله إن لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ تُصَوِّبُ إِلَيَّ تُؤْمِنَّا، قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ؟ قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انسحلت تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدَيْكَ عَوْرَتَكَ، قَالَ: قُلْتُ: أَيْ أُخَيَّةُ، لا تَقُولِي إِلا خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَالِي مِنْ عُذْرٍ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا: وَكَانَتِ امْرَأَةً حَازِمَةً:
مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَتْ: أَرَى وَاللَّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فإن يكن الرجل نبيا ع فَلَلسَّابِقُ إِلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُ مَلِكًا فَلَنْ تَذِلَّ فِي عِزِّ الْيُمْنِ وَأَنْتَ أَنْتَ، قَالَ:
قلت: والله إن هذا للرأي،
قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنِ الرَّجُلُ» ؟ فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ أَنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِلَيْهِ، إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، قَالَ:
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إِلَيَّ فَقَالَ: «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ» قَالَ: فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا، قَالَ: «بَلْ أَنْتَ» ، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِيهْ يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ، أَلَمْ تَكُ ركوسيا» [2] قال: قلت: بلى قال:
«أو لم تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ» ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ، قال: وعرفت أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حاجتهم،
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: أن أكلمه.
[ (2) ] وهم قوم لهم دين بين النصرانية والصابئة.(2/296)
فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لا تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ»
قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، قَالَ: فَكَانَ عَدِيٌّ يَقُولُ: مَضَتِ اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا وَلا تَخَافُ حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ، وَايْمُ اللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ، لَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ.
الرّكُوسِيَّةُ: قَوْمٌ لَهُمْ دِينٌ. قَوْلُهُ: وَغَابَ الْوَافِدُ بِالْوَاوِ، وَقَالَ بَعْضُ الناس: لا معنى له إلا على وجده بَعِيدٍ. قَالَ: وَوَجَدْتُ الرَّقَّامُ، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الرَّافِدُ بِالرَّاءِ، وَهُوَ أَشْبَهُ.(2/297)
قُدُومُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ
قَالَ ابْنُ إسحق: وَقَدِمَ فَرْوَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مفارقا لمولك كِنْدَةَ، وَقَدْ كَانَ قُبَيْلَ الإِسْلامِ بَيْنَ مُرَادٍ وَهَمْدَانَ وَقْعَةٌ أَصَابَتْ فِيهَا هَمْدَانُ مِنْ مُرَادٍ مَا أَرَادُوا حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ فِي يَوْمٍ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: الرَّدْمُ، فَكَانَ الَّذِي قَادَ إِلَى مُرَادٍ هَمْدَانَ الأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- وَابْنُ هِشَامٍ يَقُولُ: مَالِكُ بْنُ خُزَيْمٍ، وعن الدارقطني وابن ماكولا فيه: حريم بفتح الحاء مكسورة الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، قِيلَ هُوَ وَالِدُ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ.
حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ مَاكُولا، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْوَقشِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ مَالِكُ بْنُ حَرِيمٍ جَدَّ مَسْرُوقٍ كَمَا زَعَمَ، لأَنَّ مَالِكًا من بني دالان بن سابقة بن ناشح بن دافع بْنِ مَالِكِ بْنِ جُشَمَ بْنِ خَيْوَانَ بْنِ نَوْفِ بْنِ هَمْدَانَ، وَمَسْرُوقًا مِنْ بَنِي مَعْمَرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَدَاعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ ناشح، رأيته بخط الأستاذ أبي عن عَلَى الشلوبِيِّنَ، وَقَدْ أَسْقَطَ بَيْنَ جُشَمَ بْنِ خَيْوَانَ حَاشِدَ بْنَ جُشَمَ. كَذَا هُوَ عِنْدَ الرشاطي: جسم بْنُ حَاشِدِ بْنِ جُشَمَ بْنِ خَيْوَانَ بْنِ نَوْفٍ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ فَرْوَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ ملوك كندة أعرضت ... كالرجال حَانَ الرَّجُلَ عِرْقُ نِسَائِهَا
قَرَّبْتُ رَاحِلِتِي أَؤُمُّ مُحَمَّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا
وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ سَاءَكَ مَا أَصَابَ قَوْمَكَ يَوْمَ الرَّدْمِ» ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِي يَوْمَ الرَّدْمِ وَلا يَسُوءُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَكَ فِي الإِسْلامِ إِلا خَيْرًا»
وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمِذْحَجَ كُلِّهَا، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَكَانَ مَعَهُ فِي بِلادِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/298)
قُدُومُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
وَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ [1] فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زبيد. قدم عمرو فأسلّم، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيِّ، وَقَيْسِ ابْنِ أُخْتِهِ: يَا قَيْسُ إِنَّكَ سَيِّدُ قَوْمِكَ، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ بِالْحِجَازِ يَقُولُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ، فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ فإنه لم يَخْفَى عَلَيْنَا، إِذَا لَقِينَاهُ اتَّبَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْنَا عِلْمَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ قَيْسٌ ذلك، وسبقه رَأْيَهُ، فَرَكِبَ عَمْرٌو حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ الله فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قيسا أوعد عمرا، فقال عمر فِي ذَلِكَ شِعْرًا أَوَّلُهُ:
أَمَرْتُكَ يَوْمَ ذِي صنعا ... ء أمرا باديا رشده [2]
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: يكرب.
[ (2) ] وبقية الأبيات عند ابن هشام (4/ 230) .
أمرتك باتقاء الله ... والمعروف تتعده
خرجت من المثنى مث ... ل الحمير عرة وقده
تمناني على فرس ... عليه جالسا أسده
على مفاضة كالنهي ... أخلص ماءه جدده
ترد الرمح فثنى ال ... سنان عواثرا قصده
فلو لاقيتين للقي ... ست ليثا فوقه لبده
تلاقي شنبثا شئن ... البراشن ناشزا كنده
يسامي القرن إن قرن ... يتممه فيقتصده
فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده
فيدفعه فيحطمه ... فيخضمه فيزدرده
ظلوم الشرك فيما أح ... رزت أنيابه ويده(2/299)
وأقام عمرو في قومه من بني زييد، وَعَلْيِهْم فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَمْرٌو. قاله ابن إسحق.
وذكر أبو عمر من طريق ابن عبد الحكم فثنا الشَّّّافِعِيُّ قَالَ: وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إذا اجتمعتا فعلى الأمير، وإذا افترقتما فكل واحد منكما أَمِيرٌ» ،
فَاجْتَمَعَا وَبَلَغَ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ مَكَانُهُمَا، فَأَقْبَلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمَا قَالَ: دَعُونِي حَتَّى آتِيَ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ، فَإِنِّي لَمْ أُسَمَّ لأَحَدٍ قَطُّ إِلا هابني، فلما دنا منهما نادى: أنا أبو ثور، أَنَا عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ، فَابْتَدَرَهُ عَلِيٌّ وَخَالِدٌ: وَكِلاهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: خَلِّنِي وَإِيَّاهُ، وَيَفْدِيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَقَالَ عَمْرٌو إِذْ سَمِعَ قَوْلَهُمَا الْعَرَبُ تَفْزَعُ بِي وَأَرَانِي لِهَؤُلاءِ جَزَرَةً، فَانْصَرَفَ عَنْهُمَا، وَكَانَ عَمْرٌو فَارِسَ الْعَرَبِ مَشْهُورًا بِالشَّجَاعَةِ، وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا، فَمِمَّا يُسْتَجَادُ مِنْ شَعْرِهِ قوله:
أعاذل عدتي بزني [1] وَرُمْحِي ... وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسَ الْقِيَادِ
أَعَاذِلَ إِنَّمَا أفنى شبابي ... إجابتي الصريخ إِلَى الْمُنَادِي
مَعَ الأَبْطَالِ حَتَّى سَلَّ جِسْمِي ... وَأَقْرَحَ عَاتِقِي حَمْلُ النِّجَادِ [2]
وَيَبْقَى بَعْدَ حِلْمِ الْقَوْمِ حِلْمِي ... وَيَفْنَى قَبْلَ زَادِ الْقَوْمِ زَادِي
تمنى أن يلاقيني قبيس ... وَدِدْتُ وَأَيْنَمَا مِنِّي وِدَادِي
فَمَنْ ذَا عَاذِرِي مِنْ ذِي سِفَاهٍ ... يَرُودُ بِنَفْسِهِ شَرَّ الْمُرَادِ
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذريك مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ
يُرِيدَ قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ، وَأَسْلَمَ قَيْسٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ:
كَانَ إِسْلامُهُ بَعْدَ وَفَاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شُجَاعًا فَارِسًا شَاعِرًا، وَكَانَ يُنَاقِضُ عَمْرًا، وَهُوَ القائل لعمر:
فلاو لاقَيْتَنِي لاقَيْتَ قِرْنًا ... وَوَدَّعْتَ الْحَبَائِبَ بِالسَّلامِ
لَعَلَّكَ مَوْعِدِي بِبَنِي زُبَيْدٍ ... وَمَا قَامَعْتُ مِنْ تِلْكَ اللِّئَامِ
وَمِثْلُكَ قَدْ قَرَنْتُ لَهُ يَدَيْهِ ... إِلَى اللحيين يمشي في الخطام
__________
[ (1) ] وفي الاستيعاب: بدني.
[ (2) ] وهي حمائل السيف.(2/300)
قُدُومُ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ
وَقَدِمَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ، فَدَخَلُوا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ، وَقَدْ رَجَّلُوا جُمَمَهُمْ، وَتَكَحَّلُوا، وَعَلَيْهِمْ جُبَبَ الْحِبَرَةِ، قَدْ كَفَّفُوهَا بِالْحَرِيرِ،
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَمْ تُسْلِمُوا» ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَمَا بَالُ هَذَا الْحَرِيرِ فِي أَعْنَاقِكُمْ» قَالَ: فَشَقُّوهُ مِنْهَا فَأَلْقَوْهُ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ، وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمُرَارِ، قَالَ: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «نَحْنُ بَنِي النَّضِيرِ بْنِ كِنَانَةَ لا نقفو أُمَّنَا وَلا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» .
كَانَ الأَشْعَثُ رَئِيسًا مُطَاعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَجِيهًا فِي قَوْمِهِ فِي الإِسْلامِ، إِلا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنِ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَاجَعَ الإِسْلامَ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَشَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ سَعْدٍ الْقَادِسِيَّةَ وَالْمَدَائِنَ وجلولاء ونهاوند، ومات سنة أربعين أو إثنتين وَأَرْبَعِينَ بِالْكُوفَةِ.
وَآكِلُ الْمُرَارِ: الْحَارِثُ بْنُ عَمْرِو بن حجر بن عمرو بن معاوية من كِنْدَةَ، وَقِيلَ:
جَدُّهُ حُجْرُ بْنُ عُمَرَ، أَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي غَزْوَةٍ شَجَرًا يُقَالُ لَهُ: الْمُرَارُ، وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّةٌ مِنْ كِنْدَةَ مَذْكُورَةٌ، هِيَ: أُمُّ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ، فَذَلِكَ أَرَادَ الأَشْعَثُ.
قُدُومُ صُرَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيِّ
وَقَدِمَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدٍ مِنَ الأَزْدِ، فَأَمَّرَهُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَنْ كَانَ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَخَرَجَ حَتَّى نَزَلَ بِجَرَشَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةٌ مُغْلَقَةٌ، وَبِهَا قَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ. وَقَدْ ضَوَتْ [1] إِلَيْهِمْ خَثْعَمٌ، فَدَخَلُوهَا مَعَهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِمَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ
__________
[ (1) ] أي انضمت إليهم.(2/301)
إِلَيْهِمْ، فَحَاصَرُوهُمْ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَامْتَنَعُوا فِيهَا مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُمْ قَافِلا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: شكرُ، ظَنَّ أَهْلُ جَرَشَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلَّى عَنْهُمْ مُنْهَزِمًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، حَتَّى إِذَا أَدْرَكُوهُ عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ قَتْلا شَدِيدًا،
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جَرَشَ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ يَرْتَادَانِ وَيَنْظُرَانِ، فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِذْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بِأَيِّ بِلادِ اللَّهِ شكرُ» فَقَامَ الْجَرَشِيَّانِ:
فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِبِلادِنَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ: كشرُ، وَكَذَلِكَ تُسَمِّيهِ أَهْلُ جَرَشَ، فَقَالَ:
«أَنَّهُ ليس بكسر، وَلَكِنَّهُ شكرُ. قَالا: فَمَا شَأْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ بُدْنَ اللَّهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ الآنَ» قَالَ: فَجَلَسَ الرَّجُلانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحُكُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْعِي الآنَ لَكُمَا قَوْمَكُمَا، فَقُومَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ قَوْمِكُمَا، فَقَامَا إِلَيْهِ فَسَأَلاهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ فَخَرَجَا من عند رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى قَوْمِهِمَا،
فَوَجَدَا قَوْمَهُمَا قَدْ أُصِيبُوا يَوْمَ أَصَابَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قَالَ، وَفِي السَّاعَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا مَا ذَكَرَ فَخَرَجَ وَفْدُ جَرَشَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا وَحَمَى لَهُمْ حمى حول قريتهم.(2/302)
كتاب مُلُوكِ حِمْيَرَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابُ مُلُوكِ حِمْيَرَ وَرَسُولُهُمْ إِلَيْهِ بِإِسْلامِهِمُ، الْحَارِثُ بْنُ كَلالٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ كَلالٍ، وَالنُّعْمَانُ، قِيلَ: ذِي رُعَيْنٍ، وَمَعَافِرُ، وَهَمْدَانُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزِنَ بِإِسْلامِهِمْ، فَكتب إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: بسم الله الرحم الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ النَّبِيِّ، إِلَى الحارث بن عبد كَلالٍ، وَإِلَى النُّعْمَانِ قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وهمدان، أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فَإِنَّهُ وَقَعَ بِنَا رَسُولُكُمْ مُنْقَلَبَنَا مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَلَقِيَنَا بِالْمَدِينَةِ فَبَلَّغَ مَا أَرْسَلْتُمْ بِهِ، وَخَبَرَ مَا قَبْلَكُمْ، وَأنبأنا بِإِسْلامِكُمْ وَقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وأن الله قد هداكم بهداه، وإن أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَعْطَيْتُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَهْمَ النَّبِيِّ وَصَفِيَّهُ، وَمَا كتب عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ، عُشْرُ مَا سَقَتِ الْعَيْنُ، وَسَقَتِ السَّمَاءُ، وَمَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَأَنَّ فِي الإِبِلِ الأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَفِي ثَلاثِينَ مِنَ الإِبِلِ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ شَاةً، وَفِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الإِبِلِ شَاتَانِ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةٌ وَحْدَهَا شَاة، وَأَنَّهَا فَرِيضَةُ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ، فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إِسْلامِهِ وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، وَأَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مَا لَهُمْ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يرد [عنها] [1] ، وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أنثى، حر أو
__________
[ (1) ] وردت في الأصل: عليها، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.(2/303)
عَبْدٍ، دِينَارٌ وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ [1] أَوْ عَوّضهُ ثِيَابًا، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ [2] أَرْسَلَ إِلَى زُرْعَةَ ذِي يَزِنَ أَنْ إِذَا أَتَاكُمْ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا، مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ مُرَارَةَ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَأَنِ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وأم أَمِيرَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلا يَنْقَلِبَنَّ إِلَّا رَاضِيًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مُحَمَّدًا شَهِدَ [3] أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّ مَالِكَ بْنَ مُرَارَةَ الرَّهَاوِيَّ قَدْ حَدَّثَنِي أَنَّكَ قَدْ أَسْلَمْتَ مِنْ أَوَّلِ حِمْيَرَ، وَقَتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ، وَآمُرُكَ بِحِمْيَرَ خَيْرًا، وَلا تَخُونُوا وَلَا تَخَاذَلُوا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَوْلَى غَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ [4] ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لأَهْلِ بَيْتِهِ، إِنَّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُزَكَّى بِهَا عَلَى فَقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَأَنَّ مَالِكًا قَدْ بَلَّغَ الْخَبَرَ، وَحَفِظَ الْغَيْبَ، وَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله.
__________
[ (1) ] وهي ثياب يمينه.
[ (2) ] وعند ابن هشام: أما بعد: بأن رسول الله محمدا النبي.
[ (3) ] وعند ابن هشام: يشهد.
[ (4) ] وعند ابن هشام: هو ولي غنيكم وفقيركم.(2/304)
إسلام فروة بن عمرو
قال ابن إسحق: وَبَعَثَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ النَّافِرَةِ الْجُذَامِيُّ رَسُولا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلامِهِ [1] ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَ فَرْوَةُ عَامِلا لِلرُّومِ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ العرب، وكان منزله معان وَمَا حَوْلَهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ ذَلِكَ مِنْ إِسْلامِهِ أَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: عَفْرَاءُ فِلَسْطِينَ، فَزَعَمَ الزُّهْرِيُّ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا لِيَقْتُلُوهُ قَالَ:
أَبْلِغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّنِي ... سِلْمٌ لِرَبِّي أَعْظُمِي وَمُقَامِي
ثُمَّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ. [2]
إسلام بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، أَوْ جُمَادَى الأُولَى، سَنَةَ عَشْرٍ، إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ [3] ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ ثَلاثًا، فَإِنِ اسْتَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَاتِلْهُمْ، فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَيِهْم، فَبَعَثَ الرُّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ وَيَدْعُونَ إِلَى الإِسْلامِ وَيَقُولُونَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَأَسْلَمَ النَّاسُ، وَدَخَلُوا فِيمَا دُعُوا إِلَيْهِ، فَأَقَامَ فِيهِمْ خَالِدٌ يُعَلِّمُهُمُ الإِسْلامَ [4] ، وَكتب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ [5] فَكتب لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم أن
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: وَبَعَثَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ النَّافِرَةِ الْجُذَامِيُّ ثم النفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه.
[ (2) ] وعند ابن هشام الرواية فيها تقديم وتأخير.
[ (3) ] هي بين مكة واليمن، على نحو سبع مراحل من مكة. قال الجوهري في صحاحه: نجران بلدة من اليمن.
[ (4) ] وعند ابن هشام: فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وبذلك كان أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.
[ (5) ] ذكر ابن هشام في السيرة (4/ 239) : ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن(2/305)
يُقْبِلَ وَيُقْبِلَ مَعَهُ وَفْدُهُمْ [1] فَأَقْبَلَ وَأَقْبَلَ مَعَهُ وفدهم، منهم: قيس بن الحصين ذي القصة، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجَّلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرَادٍ الزِّيَادِيُّ، وَشَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضَّبَابِيُّ،
وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ؟ قَالُوا: لَمْ نَكُنْ نَغْلِبُ أَحَدًا، قَالَ: «بَلَى» قَالُوا: كُنَّا نَجْتَمِعُ وَلا نَتَفَرَّقُ، وَلا نَبْدَأُ أَحَدًا بِظُلْمٍ، قَالَ: «صَدَقْتُمْ» وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ قَيْسَ بْنَ الْحُصَيْنِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فِي بَقِيَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ. أَوْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمْ يَمْكُثُوا إِلَّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم.
وذو القصة لقب لأبي قيس، قيل له ذلك لقصة كَانَتْ بِحَلْقِهِ لا يَكَادُ يُبِينُ مِنْهَا.
قُدُومُ رفاعة الجذامي
وقدم على رسول الله فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ خَيْبَرَ، رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ، وَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلامًا، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وَكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كِتَابًا إِلَى قَوْمِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، إِنِّي بَعَثْتُهُ إِلَى قَوْمِهِ عَامَّةً وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ فَفِي حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ، وَمَنْ أَدْبَرَ فَلَهُ أَمَانٌ شَهْرَيْنِ. فَلَمَّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ أَجَابُوا وَأَسْلَمُوا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْحَرَّةِ حَرَّةِ الرَّجْلاءِ فَنَزَلُوهَا.
__________
[ () ] الرحيم، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو، أما بعد: يا رسول الله صلّى الله عليك، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا أقمت فيهم وقبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام، وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعث فيهم ركبانا قالوا: يا بني الحارث، أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم، آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام، وسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
[ (1) ]
وعند ابن هشام: فَكتب إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد، سَلامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن لبني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم، وأقبل، وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(2/306)
وَفْدُ هَمْدَانَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ هَمْدَانَ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَيْفَعَ، وَضِمَامُ بْنُ مَالِكٍ السَّلْمَانِيُّ، وَعُمَيْرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْخَارِفِيُّ [1] ، فَلَقَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ، وَعَلَيْهِمْ مُقَطَّعَاتُ الْحِبَرَاتِ [2] ، وَالْعَمَائِمُ الْعَدَنِيَّةُ، عَلَى الرَّوَاحِلِ الْمَهْرِيَّةِ [3] وَالأَرْحَبِيَّةِ، وَمَالِكُ بْنُ نَمَطٍ يَرْتَجِزُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ:
إِلَيْكَ جَاوَزْنَ سَوَادَ الرِّيفِ ... فِي هَبَوَاتِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ
مُخَطَّمَاتٍ بِحِبَالِ اللِّيفِ
وَذَكَرُوا لَهُ كَلامًا كَثِيرًا حَسَنًا فَصِيحًا، فَكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كِتَابًا أَقْطَعَهُمْ فِيهِ مَا سَأَلُوهُ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مَالِكَ بْنَ نَمَطٍ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ ثَقِيفٍ، فَكَانَ لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ شَاعِرًا مُحْسِنًا فَقَالَ:
ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فحمة الدُّجَى ... وَنَحْنُ بِأَعْلَى رِحْرَحَانِ وَصَلْدَدِ
وَهُنَّ بِنَا خَوْصُ قَلائِصَ تَغْتَلِي ... بِرُكْبَانِهَا فِي لاحِبٍ مُتَمَدِّدِ
عَلَى كُلِّ فَتْلاءِ الذَّرَّاعِينَ جَسْرَةٌ ... تَمُرُّ بِنَا مَرَّ الْهِجَفِّ الْخَفَيْدَدِ
حَلَفْتُ بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ إِلَى مِنًى ... صَوَادِر بِالرُّكْبَانِ مِنْ هَضْبٍ قَرْدَدِ
بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فِينَا مُصَدِّقٌ ... رَسُولٌ أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ مُهْتَدِ
فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَشَدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ
وَأَعْطَى إِذَا مَا طَالَبَ الْعُرْف جَاءَهُ ... وَأَمْضَى بِحَدِّ الْمَشْرَفِيِّ الْمُهَنَّدِ
الْهِجَفُّ: الظَّلِيمُ الْمُسِنُّ. والخفيدد: الطويل الساقين من الظلمان.
__________
[ (1) ] وعند ابن هشام: منهم مالك بن نمط، وأبو ثور وهو ذو المشعار، وَمَالِكُ بْنُ أَيْفَعَ، وَضِمَامُ بْنُ مَالِكٍ السَّلْمَانِيُّ، وعميرة بن مالك الخارفي.
[ (2) ] الحبرات: برود يمانية.
[ (3) ] وهي الإبل النجيبة تنسب إلى قبيلة مهرة اليمنية.(2/307)
وَفْدُ تُجِيبَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ تُجِيبَ، وَهُمْ مِنَ السّكُونِ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا، قَدْ سَاقُوا مَعَهُمْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، وَأَكْرَمَ مَنْزِلَهُمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُقْنَا إِلَيْكَ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رُدُّوهَا فَاقْسِمُوهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا قَدِمْنَا عَلَيْكَ إِلَّا بِمَا فَضُلَ عَنْ فُقَرَائِنَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَفَدَ عَلَيْنَا وَفْدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلَ مَا وَفَدَ بِهِ هَذَا الْحَيُّ مِنْ تُجِيبَ. فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا شَرَحَ صَدْرَهُ لِلإِيمَانِ» وَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ، فَكتب لَهُمْ بِهَا، وَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ، فَازْدَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ رَغْبَةً، وَأَمَرَ بِلالا أَنْ يُحْسِنَ ضِيَافَتَهُمْ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا وَلَمْ يَطْلُبُوا اللُّبْثَ، فَقِيلَ لَهُمْ: مَا يُعْجِلُكُمْ، فَقَالُوا: نَرْجِعُ إِلَى مَنْ وَرَاءَنَا فَنُخْبِرُهُمْ بِرُؤْيَتِنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلامِنَا إِيَّاهُ وَمَا رَدَّ عَلَيْنَا. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُونَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِلالا، فَأَجَازَهُمْ بِأَرْفَعَ مَا كَانَ يُجِيزُ بِهِ الْوُفُودَ، قَالَ، «هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ» ؟ قَالُوا: غُلامٌ خَلَّفْنَاهُ عَلَى رِحَالِنَا هُوَ أَحْدَثُنَا سِنًّا، قَالَ:
«فَأَرْسِلُوهُ إِلَيْنَا» فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى رِحَالِهِمْ قَالُوا لِلْغُلامِ: انْطَلِقْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ حَاجَتَكَ مِنْهُ، فَإِنَّا قَدْ قَضَيْنَا حَوَائِجَنَا مِنْهُ وَوَدَّعْنَاهُ، فَأَقْبَلَ الْغُلامُ حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرِؤٌ مِنْ بَنِي أَبْذَى. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هُوَ أَبْذَى بْنُ عَدِيٍّ، وَأُمُّ عَدِيٍّ تُجِيبُ بِنْتُ ثَوْبَانَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَذْحِجَ وَإِلَيْهَا يُنْسَبُونَ. يَقُولُ الْغُلامُ:
مِنَ الرَّهْطِ الَّذِينَ أَتَوْكَ آنِفًا فَقَضَيْتَ حَوَائِجَهُمْ، فَاقْضِ حَاجَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَمَا حَاجَتُكَ» ؟ قَالَ: إِنَّ حَاجَتِي لَيْسَتْ كَحَاجَةِ أَصْحَابِي، وَإِنْ كَانُوا قَدِمُوا رَاغِبِينَ فِي الإِسْلامِ وَسَاقُوا مَا سَاقُوا من صدقاتهم، وإني والله ما أعلمني مِنْ بِلادِي إِلَّا أَنْ تَسْأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْفِرَ لِي وَأَنْ يَرْحَمَنِي، وَأَنْ يَجْعَلَ غِنَايَ فِي قَلْبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/308)
وَأَقْبَلَ إِلَى الْغُلامِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَاجْعَلْ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ» . ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثُمَّ وَافَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ بِمِنًى سَنَةَ عَشْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ بَنُو أَبْذَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ الْغُلامُ الَّذِي أَتَانِي مَعَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وَلا حُدِّثْنَا بِأَقْنَعَ مِنْهُ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ اقْتَسَمُوا الدُّنْيَا مَا نَظَرَ نَحْوَهَا وَلا الْتَفَتَ إِلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَمُوتَ جميعا» فقال رجل منهم: أو ليس يَمُوتُ الرَّجُلُ جَمِيعًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تشعب أَهْوَاؤُهُ وَهُمُومُهُ فِي أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا، فَلَعَلَّ أَجَلَهُ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَوْدِيَةِ، فَلا يُبَالِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيِّهَا هَلَكَ»
قَالُوا: فَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِينَا عَلَى أَفْضَلِ حَالٍ، وَأَزْهَدِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَقْنَعِهِ بِمَا رُزِقَ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَنِ الإِسْلامِ قَامَ فِي قَوْمِهِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهَ وَالإِسْلامَ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَذْكُرُهُ وَيَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى بَلَغَهُ حَالُهُ وَمَا قَامَ بِهِ، فَكتب إِلَى زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ يُوصِيهِ بِهِ خيرا. [1]
__________
[ (1) ]
ذكر ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كتب لهم كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من رسول الله محمد، لمخلاف خارف وأهل جناب الهضيب وحقاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بننمط ومن أسلم من قومه على أن لهم فراعها (أعالي الأرض) ووهاطها (المنخفض من الأرض) ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكة، يأكلون علافها، ويرعون عافيها، لهم بذلك عهد الله وذماء رسوله، وشاهدهم المهاجرون والأنصار.(2/309)
وَفْدُ بَنِي ثَعْلَبَةَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي ثَعْلَبَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مَرْجِعَهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، فَنَزَلُوا دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَجَاءَهُمْ بِلالٌ بِجَفْنَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ بِلَبَنٍ وَسَمْنٍ، فَأَكَلُوا، وَشَهِدُوا الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لا إِسْلَامَ لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «حَيْثُمَا كُنْتُمْ وَاتَّقَيْتُمُ اللَّهَ فَلا يَضُرُّكُمْ» . ثُمَّ لَمَّا جَاءُوا يدعونه قَالَ لِبِلالٍ:
أَجْزِهِمْ، فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسَ أَوَاقِي فِضَّةٍ.
وَفْدُ بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٍ
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَنُو سَعْدٍ هُذَيْمٍ مِنْ قُضَاعَةَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ النُّعْمَانِ مِنْهُمْ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافِدًا فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، وَقَدْ أَوْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِلادَ غَلَبَةً وَأَذَاخَ [1] الْعَرَب، وَالنَّاسُ صِنْفَانِ: إِمَّا دَاخِلٌ فِي الإِسْلامِ رَاغِبٌ فِيهِ، وَإِمَّا خَائِفٌ مِنَ السَّيْفِ، فَنَزَلْنَا نَاحِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجْنَا نَؤُمُّ الْمَسْجِدَ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَابِهِ، فَنَجِدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُمْنَا خَلْفَهُ نَاحِيَةً، وَلَمْ نَدْخُلْ مَعَ النَّاسِ فِي صَلاتِهِمْ حَتَّى نَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبَايِعُهُ،
ثُمَّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَيْنَا فَدَعَا بِنَا فَقَالَ: «مَنْ أَنْتُمْ» ؟ فَقُلْنَا:
مِنْ بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٍ، فَقَالَ: «أَمُسْلِمُونَ أَنْتُمْ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلَّا صَلَّيْتُمْ عَلَى أَخِيكُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ظَنَنَّا أَنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ لَنَا حَتَّى نُبَايِعَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَمَا أَسْلَمْتُمْ فَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيْدِينَا عَلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا إِلَى رِحَالِنَا، وَقَدْ كُنَّا خَلَّفْنَا عَلَيْهَا أَصْغَرَنَا، فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] أي قهر.(2/310)
فِي طَلَبِنَا، فَأَتَى بِنَا إِلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ صَاحِبُنَا فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَصْغَرُنَا وَإِنَّهُ خَادِمُنَا، فَقَالَ: «أَصْغَرُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ، بَارَكَ اللَّه عَلَيْهِ» قَالَ: فَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَنَا وَأَقْرَأَنَا لِلْقُرْآنِ لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، ثُمَّ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا،
فَكَانَ يؤمنا. ولما أردنا الانصراف أمر بلالا فأجازوا بِأَوَاقِي مِنْ فِضَّةٍ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا، فَرَجَعْنَا إِلَى قَوْمِنَا، فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ الإِسْلامَ.
وَفْدُ بَنِي فَزَارَةَ
قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ بْنُ سَالِمٍ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالاكْتِفَاءِ فِي مَغَازِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَغَازِي الثَّلاثَةِ الْخُلَفَاءِ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ بَنِي فَزَارَةَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فِيهِمْ خَارِجَةُ بْنُ حِصْنٍ. وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ ابْنُ أَخِي عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، فَنَزَلُوا فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِرِّينَ بِالإِسْلامِ، وَهُمْ مُسْنَتُّونَ [1] ، عَلَى رِكَابٍ عِجَافٍ [2]
فَسَأَلَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بِلادِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْنَتَتْ بِلادُنَا، وَهَلَكَتْ مواشينا، وأجدت جِنَابُنَا، وَغَرِثَ عِيَالُنَا [3] ، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُغِثْنَا، وَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، وَلْيَشْفَعْ لَنَا رَبُّكَ إِلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَيْلَكَ هَذَا، أَنَا أَشْفَعُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ رَبُّنَا إِلَيْهِ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ تَئِطُّ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلالِهِ كَمَا يَئِطُّ الرَّحْلُ الْجَدِيدُ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَضْحَكُ مِنْ شففكم وَأَزْلِكُمْ [4] وَقُرْبِ غِيَاثِكُمْ» فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَيَضْحَكُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ الأَعْرَابِيُّ: لَنْ يَعْدَمَكَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرٌ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ، وَكَانَ لا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا رَفَعَ الاسْتِسْقَاءَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، وَكَانَ مِمَّا حُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بَلَدَكَ الْمَيِّتَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُرِيحًا مُرِيعًا طَبَقًا وَاسِعًا عَاجِلا غَيْرَ آجِلٍ، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا رَحْمَةً وَلا تَسْقِنَا عَذَابًا وَلا هَدْمًا وَلا غَرَقًا وَلا مَحْقًا، اللَّهُمَّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» . فقام أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يا رسول
__________
[ (1) ] أي في جدب وقحط.
[ (2) ] أي هزيلة ضعيفة.
[ (3) ] أي جاع عيالنا.
[ (4) ] أي على حالكم التي أنتم عليها.(2/311)
اللَّهِ، التَّمْرُ فِي الْمَرَابِدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا حَتَّى يَقُومُ أَبُو لُبَابَةَ عُرْيَانًا يَسُدُّ ثَعْلَبَ [1] مِرْبَدِهِ بِإِزَارِهِ» قَالُوا: لا وَاللَّهِ، مَا فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ وَلا قَزَعَةٌ، وَمَا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ شَجَرٍ وَلا دَارٍ، فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَاءِ سَلْعٍ سَحَابَةٌ مِثْلُ التِّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءُ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، وَقَامَ أَبُو لُبَابَةَ عُرْيَانًا يَسُدُّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِهِ بِإِزَارِهِ لِئَلَّا يَخْرُجُ التَّمْرُ مِنْهُ، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَدَعَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا حَتَّى رُؤِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ [2] وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ»
قَالَ: فَانْجَابَتِ السَّحَابَةُ السحاب عن المدينة انجياب الثوب.
__________
[ (1) ] وهو محرج ماء المطر.
[ (2) ] وهو الجيل المنبسط.(2/312)
وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ عَشَرَةُ رَهْطٍ، فِيهِمْ وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَطُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمُوا وَتَكَلَّمُوا، فَقَالَ مُتَكَلِّمُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا شَهِدْنَا أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَجِئْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَمْ تَبْعَثْ إِلَيْنَا بَعْثًا، وَنَحْنُ لِمِنْ وَرَائِنَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [1] .
وَكَانَ مِمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ الْعِيَافَةَ وَالْكَهَانَةَ وَضَرْبَ الْحَصَى، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ كُنَّا نَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ خَصْلَةً بَقِيَتْ: قَالَ: وَمَا هِيَ: قَالُوا: الْخَطّ [2] قَالَ: «عَلِمَهُ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَمَنْ صَادَفَ مِثْلَ عِلْمِهِ عُلِّمَ» .
وَفْدُ بَهْرَاءَ
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ كُرَيْمَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أُمِّي ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ بَهْرَاءَ مِنَ الْيَمَنِ وَهُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَأَقْبَلُوا يَقُودُونَ رَوَاحِلَهُمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابِ الْمِقْدَادِ، وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا بِبَنِي حُدَيْلَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمِقْدَادُ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَأَنْزَلَهُمْ، وَجَاءَهُمْ بِجَفْنَةٍ مِنْ حيس [3] كنا قد هيأناها قبل أن يحلو
__________
[ (1) ] سورة الحجرات: الآية 17.
[ (2) ] أي علم الرمل.
[ (3) ] الحيس: تمر وأقط وسمنة تخلط وتعجن وتسوى كالثريد.(2/313)
لِنَجْلِسَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَهَا أَبُو مَعْبَدٍ الْمِقْدَادُ، وَكَانَ كَرِيمًا عَلَى الطَّعَامِ، فَأَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى نَهَلُوا [1] ، وَرُدَّتْ إِلَيْنَا الْقَصْعَةُ وَفِيهَا أَكْلٌ، فَجَمَعْنَا تِلْكَ الأَكْلَ فِي قَصْعَةٍ صَغِيرَةٍ،
ثُمَّ بَعَثْنَا بِهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ سِدْرَةِ مَوْلاتِي، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضُبَاعَةُ أَرْسَلَتْ بِهَذَا» ؟ قَالَتْ سِدْرَةُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعِي» ثُمَّ قَالَ:
«مَا فَعَلَ ضَيْفُ أَبِي مَعْبَدٍ» قُلْتُ: عِنْدَنَا، فَأَصَابَ مِنْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ حَتَّى نَهَلُوا وَأَكَلَتْ مَعَهُمْ سِدْرَةُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبِي بِمَا بَقِيَ إِلَى ضَيْفِكُمْ»
قَالَتْ سِدْرَةُ: فَرَجَعْتُ بِمَا بَقِيَ فِي الْقَصْعَةِ إِلَى مَوْلاتِي قَالَتْ: فَأَكَلَ مِنْهَا الضَّيْفُ مَا أَقَامُوا، نَرْدُدُهَا عَلَيْهِمْ وَمَا تَغِيضُ حَتَّى جَعَلَ الضَّيْفُ يَقُولُونَ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ إِنَّكَ لَتَنْهَلُنَا مِنْ أَحَبِّ الطَّعَامِ إِلَيْنَا، وَمَا كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِلَّا فِي الْحِينِ، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ بِلادَكُمْ قَلِيلَةُ الطَّعَامِ، إِنَّمَا هُوَ الْعَلَقُ [2] أَوْ نَحْوُهُ، وَنَحْنُ عِنْدَكَ فِي الشَّبَعِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَبُو مَعْبَدٍ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا أَكْلا وَرَدَّهَا، فَهَذِهِ بَرَكَةُ أَصَابِعِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَقُولُونَ: نَشْهَدُ أَنَّهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وَازْدَادُوا يَقِينًا، وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَأَقَامُوا أَيَّامًا، ثُمَّ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَدَّعُوهُ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِجَوَائِزِهِمْ، ثُمَّ انصرفوا إلى أهليهم.
__________
[ (1) ] يقال: نهل الشارب، إذا شرب حتى روى فهو ناهل، والجمع: نهال ونواهل.
[ (2) ] أي ما يتبلغ به من العيش.(2/314)
وَفْدُ بَنِي عُذْرَةَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي عُذْرَةَ في صفر سنة تسع اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فِيهِمْ جَمْرَةُ بْنُ النُّعْمَانَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ الْقَوْمُ، فَقَالَ مُتَكَلِّمُهُمْ مَنْ لا تُنْكِرُ، نَحْنُ بَنُو عُذْرَةَ إِخْوَةُ قُصَيٍّ لأُمِّهِ، نَحْنُ الَّذِينَ عَضَّدُوا قُصَيًّا، وَأَزَاحُوا مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ خُزَاعَةَ وَبَنِي بَكْرٍ، وَلَنَا قَرَابَاتٌ وَأَرْحَامٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرْحَبًا بِكُمْ، وَأَهْلا، مَا أَعْرَفَنِي بِكُمْ فَأَسْلَمُوا وَبَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ الشَّامِ، وَهَرَبَ هِرْقِلُ إِلَى مُمْتَنَعِ بِلادِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ سُؤَالِ الْكَاهِنَةِ، وَعَنِ الذَّبَائِحِ الَّتِي كَانُوا يَذْبَحُونَهَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا الأُضْحِيَةُ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا بِدَارِ رَمْلَةَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَدْ أُجِيزُوا.
وَفْدُ بُلَيٍّ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بُلَيٍّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ، فَأَنْزَلَهُمْ رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْبَلَوِيُّ عِنْدَهُ، وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلاءِ قَوْمِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرْحَبًا بِكَ وَبِقَوْمِكَ» فَأَسْلَمُوا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكُمْ لِلإِسْلامِ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ فَهُوَ فِي النَّارِ» . وَقَالَ لَهُ أَبُو الضُّبَيْبِ شَيْخُ الْوَفْدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي رَغْبَةً فِي الضِّيَافَةِ، فَهَلْ لِي فِي ذَلِكَ أَجْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَنَعْتَهُ إِلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَهُوَ صَدَقَةٌ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَقْتُ الضِّيَافَةِ؟ قَالَ: «ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَكَ، فَيُحْرِجَكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الضَّالَّةَ مِنَ الْغَنَمِ أَجِدُهَا فِي الْفَلاةِ مِنَ الأَرْضِ؟ قَالَ: «لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» قَالَ: فَالْبَعِيرُ؟ قَالَ: «مالك وَلَهُ، دَعْهُ حَتَّى يَجِدَهُ صَاحِبُهُ» ، قَالَ: رُوَيْفِعٌ ثُمَّ قَامُوا فَرَجَعُوا إِلَى مَنْزِلِي، فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَنْزِلِي يَحْمِلُ تَمْرًا، فَقَالَ: «اسْتَعِنْ بِهَذَا التَّمْرِ» فَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَأَقَامُوا ثَلاثًا، ثُمَّ وَدَّعُوا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَازَهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى بِلادِهِمْ.(2/315)
وَفْدُ بَنِي مُرَّةَ
وَقَدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي مُرَّةَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا، رَأَسَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ، نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لِلْحَارِثِ: «أَيْنَ تَرَكْتَ أَهْلَكَ» ؟ قَالَ: بِسِلاحٍ وَمَا وَالاهَا، قَالَ: «فَكَيْفَ الْبِلادُ» قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَمُسْنِتُونَ، وَمَا فِي الْمَالِ مخّ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اسقْهِمُ الْغَيْثَ»
فَأَقَامُوا أَيَّامًا، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاؤوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَدِّعِينَ لَهُ، فَأَمَرَ بِلالا أَنْ يُجِيزَهُمْ، فَأَجَازَهُمْ بِعَشْرِ أواقي عشر أواقي فضة، وَفَضُلَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ أَعْطَاهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَرَجَعُوا إِلَى بِلادِهِمْ فَوَجَدُوا الْبِلادَ مَطِيرَةً، فَسَأَلُوا: مَتَى مُطِرْتُمْ؟ فَإِذَا هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَأَخْصَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِلادُهُمْ.
وَفْدُ خَوْلانَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ عَشْرٍ وَفْدُ خَوْلانَ، وَهُمْ عَشَرَةٌ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُصَدِّقُونَ بِرَسُولِهِ، قَدْ ضَرَبْنَا إِلَيْكَ آبَاطَ الإِبِلِ، وَرَكِبْنَا حُزُونَ الأَرْضِ [1] وَسُهُولَهَا وَالْمِنَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَيْنَا، وَقَدِمْنَا زَائِرِينَ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ مَسِيرِكُمْ إِلَيَّ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا بَعِيرُ أَحَدِكُمْ حَسَنَةً، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ زَائِرِينَ لَكَ فَإِنَّهُ مَنْ زَارَنِي بِالْمَدِينَةِ كَانَ فِي جِوَارِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّفَرُ الَّذِي لا تَوَى عَلَيْهِ [2] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ عَمُّ أنس» وهم صنم خولان الذي كانوا
__________
[ (1) ] أي ما وعر من الأرض.
[ (2) ] أي لا خسارة فيه ولا هلاك.(2/316)
يَعْبُدُونَهُ، قَالُوا: بِشَرٍّ بَدَّلَنَا اللَّهُ مَا جِئْتَ بِهِ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنَّا بَعْدُ بَقَايَا مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَعَجُوزٍ كَبِيرَةٍ مُتَمَسِّكُونَ بِهِ، وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا عَلَيْهِ هَدَمْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ كُنَّا مِنْهُ فِي غُرُورٍ وَفِتْنَةٍ، فَقَالَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا أَعْظَمُ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ» ، قَالُوا: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَأَسْنَتْنَا حَتَّى أَكَلْنَا الرُّمَّةَ، [1] فَجَمَعْنَا مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَابْتَعْنَا مِائَةَ ثَوْرٍ وَنَحَرْنَاهَا لِعَمِّ أَنَسٍ قُرْبَانًا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرَكْنَاهَا تَرِدُهَا السِّبَاعُ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ، فَجَاءَنَا الْغَيْثُ مِنْ سَاعَتِنَا، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْعُشْبَ يُوَارِي الرِّجَالَ، وَيَقُولُ قَائِلُنَا: أَنْعَمَ عَلَيْنَا عَمُّ أَنَسٍ. وَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا يَقْتَسِمُونَ لِصَنَمِهِمْ هَذَا مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ جُزْءًا لَهُ وَجُزْءًا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، قَالُوا: كُنَّا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه فنسيمه لَهُ، أَوْ نُسَمِّي زَرْعًا آخَرَ حُجْرَةً لِلَّهِ فَإِذَا مَالَتِ الرِّيحُ فَالَّذِي سَمَّيْنَاهُ لِلَّهِ جَعَلْنَاهُ لِعَمِّ أَنَسٍ، وَإِذَا مَالَتِ الرِّيحُ فَالَّذِي جَعَلْنَاهُ لِعَمِّ أَنَسٍ لَمْ نَجَعْلَهُ لِلَّهِ.
فَذَكَرَ لَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الآيَةَ [2] ، قَالُوا: وَكُنَّا نَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ فَنُكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الشَّيَاطِينُ تُكَلِّمُكُمْ» . وَسَأَلُوهُ عَنْ فَرَائِضِ الدِّينِ فَأَخْبَرَهُمْ، وأمرهم بالوفاء بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ لِمَنْ جَاوَرُوا، وَأَنْ لا يَظْلِمُوا أَحَدًا، قَالَ: فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
ثُمَّ وَدَّعُوهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَأَجَازَهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمْ يَحِلُّوا عُقْدَةً حتى هدموا عم أنس.
الحجرة: الناحية.
__________
[ (1) ] أي العظام البالية.
[ (2) ] سورة الأنعام: الآية 136.(2/317)
وَفْدُ بَنِي مُحَارِبٍ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي مُحَارِبٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُمْ كَانُوا أَغْلَظَ الْعَرَبِ وَأَفَظَّهُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْمَوَاسِمِ، أَيَّامَ عَرْضِهِ نَفْسِهِ عَلَى الْقَبَائِلِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عَشَرَةُ نَائِبِينَ عَنْ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَأَسْلَمُوا وَكَانَ بِلالٌ يَأْتِيهِمْ بِغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ،
إِلَى أَنْ جَلَسُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ، فَعَرَفَ رَجُلا مِنْهُمْ، فَأَمَدَّهُ النَّظَرَ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُحَارِبِيُّ يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوهِمُنِي؟ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُكَ» فَقَالَ الْمُحَارِبِيُّ: أي والله، لقد رأيتني وكلمتني وكلمتك بِأَقْبَحِ الْكَلامِ، وَرَدَدْتُكَ بِأَقْبَحِ الرَّدِ بِعُكَاظٍ وَأَنْتَ تَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ثُمَّ قَالَ الْمُحَارِبِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ فِي أَصْحَابِي أَشَدَّ عَلَيْكَ يَوْمَئِذٍ وَلا أَبْعَدَ عَنِ الإِسْلامِ مِنِّي، فَأَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي أَبْقَانِي حَتَّى صَدَّقْتُ بِكَ، وَلَقَدْ مَاتَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعِي عَلَى دِينِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» فَقَالَ الْمُحَارِبِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي مِنْ مُرَاجَعَتِي، إِيَّاكَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُفْرِ» ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ.
وَفْدُ صُدَاءَ
وَقَدِمَ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وَفْدُ صُدَاءَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انْصَرَفَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ بَعَثَ بُعُوثًا إِلَى الْيَمَنِ، وَهَيَّأَ بَعْثًا، اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَدَفَعَ إليه راية سواء، وعسكر بناحية قناة في أربعمائة مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَطَأَ نَاحِيَةً مِنَ الْيَمَنِ كَانَ فِيهَا صُدَاءُ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَعَلِمَ بِالْجَيْشِ، فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،(2/318)
جِئْتُكَ وَافِدًا عَلَى مِنْ وَرَائِي، فَارْدُدِ الْجَيْشَ، وَأَنَا لَكَ بِقَوْمِي، فَرَدَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قيس بن سعد بن صُدُورِ قَنَاةَ، وَخَرَجَ الصُّدَائِيُّ، إِلَى قَوْمِهِ، فَقَدِمَ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا مِنْهُمْ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْهُمْ يَنْزِلُوا عَلَيَّ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ، فَحَبَاهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ، ثُمَّ رَاحَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلامِ وَقَالُوا: نَحْنُ لَكَ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَفَشَا فِيهِمُ الإِسْلامُ، فَوَافَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مِائَةَ رَجُلٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. ذَكَرَ هَذَا الْوَاقِدِيُّ عَنْ بَعْضِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ.
وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ الَّذِي قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: ارْدُدِ الْجَيْشَ وَأَنَا لَكَ بِقَوْمِي فَرَدَّهُمْ، قَالَ: وَقَدِمَ وَفْدُ قَوْمِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: «يَا أَخَا صُدَاءٍ إِنَّكَ لَمُطَاعٌ فِي قَوْمِكَ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْ رَسُولِهِ. وَكَانَ زِيَادٌ هَذَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، قَالَ: فَاعْتَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْ سَارَ لَيْلا- وَاعْتَشَيْنَا مَعَهُ، وَكُنْتُ رَجُلا قَوِيًّا، قَالَ: فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَلَزِمْتُ غَرْزَهُ [1] ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ قَالَ: أَذِّنْ يَا أَخَا صُدَاءٍ فَأَذَّنْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى نَزَلْنَا، فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: «يَا أَخَا صُدَاءٍ هَلْ مَعَكَ مَاءٌ» قُلْتُ: مَعِي شَيْءٌ فِي إِدَاوَتِي، قَالَ: «هاته» فجئت به، فقال: «صب» فصبت ما في الأدواة فِي الْقَعْبِ، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَلَاحَقُونَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ عَلَى الإِنَاءِ، فَرَأَيْتُ بَيْنَ كُلِّ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ عَيْنًا تَفُورُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَخَا صُدَاءٍ لَوْلا أَنِّي أَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ لَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا» ثُمَّ تَوَضَّأَ وَقَالَ: «أَذِّنْ فِي أَصْحَابِي، مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِالْوُضُوءِ فَلْيَرِدْ» قَالَ: فَوَرَدُوا مِنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ بِلالٌ يُقِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» فَأَقَمْتُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِنَا، وَكُنْتُ سَأَلْتُهُ قَبْلُ أَنْ يُؤَمِّرَنِي عَلَى قومي ويكتب لي بِذَلِكَ كِتَابًا فَفَعَلَ، فَلَمَّا سَلَّمَ- يُرِيدُ مِنْ صلاته- قام رجل يتشكى مِنْ عَامِلِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ أَخَذَنَا بِذُحُولٍ [2] كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خَيْرَ فِي الإِمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكِلْ قَسْمَهَا إِلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى جَزَّأَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ جُزْءًا مِنْهَا أَعْطَيْتُكَ، وَإِنْ كُنْتَ غَنِيًّا عَنْهَا فَإِنَّمَا هُوَ صُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ، وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ»
__________
[ (1) ] أي ركابه.
[ (2) ] أي حقد وثأر.(2/319)
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي، هَاتَانِ خَصْلَتَانِ حِينَ سَأَلْتُ الإِمَارَةَ وَأَنَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَسَأَلْتُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَنَا غَنِيٌّ عَنْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هذان كتاباك فاقبلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت: إني سَمِعْتُكَ تَقُولُ لا خَيْرَ فِي الإِمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ وَأَنَا مُسْلِمٌ، وَسَمِعْتُكَ تَقُولُ مَنْ سَأَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ فَإِنَّمَا هُوَ صُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ وَأَنَا غَنِيٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أما إن الذين قُلْتَ كَمَا قُلْتَ، فَقَبِلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:
«دُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِكَ أَسْتَعْمِلُهُ فَدَلَلْتُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَاسْتَعْمَلَهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَنَا بِئْرًا إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ كَفَانَا مَاؤُهَا، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ قَلَّ عَلَيْنَا فَتَفَرَّقْنَا عَلَى الْمِيَاهِ، وَالإِسْلامُ الْيَوْمَ فِينَا قَلِيلٌ، وَنَحْنُ نَخَافُ، فَادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا فِي بِئْرِنَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَاوِلْنِي سَبْعَ حَصَيَاتٍ» فَنَاوَلْتُهُ، فَعَرَكَهُنَّ بِيَدِهِ ثُمَّ دَفَعَهُنَّ إِلَيَّ وَقَالَ: «إِذَا انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا فَالْقِ فِيهَا حَصَاةً حَصَاةً وَسَمِّ اللَّهَ» قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَمَا أَدْرَكْنَا لَهَا قَعْرًا حَتَّى السَّاعَةِ.(2/320)
وَفْدُ غَسَّانَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ غَسَّانَ فِي شَهْرِ رمضان سنة عشر ثَلاثَةُ نَفَرٍ فَأَسْلَمُوا وَقَالُوا: لا نَدْرِي أَيَتْبَعُنَا قَوْمُنَا أَمْ لا، وَهُمْ يُحِبُّونَ بَقَاءَ مُلْكِهِمْ وَقُرْبَ قَيْصَرَ، فَأَجَازَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَائِزَ، وَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، فَقَدِمُوا عَلَى قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَكَتَمُوا إِسْلامَهُمْ حَتَّى مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلانِ عَلَى الإِسْلامِ، وَأَدْرَكَ الثَّالِثُ مِنْهُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَامَ الْيَرْمُوكِ، فَلَقِيَ أَبَا عُبَيْدَةَ فَخَبَّرَهُ بِإِسْلامِهِ فَكَانَ يُكْرِمُهُ.
وَفْدُ سَلامَانَ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وفد سلامان سَبْعَةُ نَفَرٍ فِيهِمْ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرٍو السَّلامِيُّ، فَأَسْلَمُوا،
وَقَالَ حَبِيبٌ: فَقُلْتُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، مَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ؟
قَالَ: «الصَّلاةُ فِي وَقْتِهَا» ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلا، وَصَلَّوْا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، قَالَ:
فَكَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ أَخَفُّ فِي الْقِيَامِ مِنَ الظُّهْرِ، ثُمَّ شَكَوْا لَهُ جَدْبَ بِلادِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ: «اللَّهُمَّ اسْقِهِمُ الْغَيْثَ فِي دَارِهِمْ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْفَعْ يَدَيْكَ، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَامَ وَقُمْنَا عَنْهُ، فَأَقَمْنَا ثَلاثًا وَضِيَافَتُهُ تَجْرِي عَلَيْنَا، ثُمَّ وَدَّعْنَاهُ وَأَمَرَ لَنَا بِجَوَائِزَ،
فَأُعْطِينَا خَمْسُ أَوَاقِي لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا، وَاعْتَذَرَ إِلَيْنَا بِلالٌ وَقَالَ: لَيْسَ عِنْدَنَا الْيَوْمَ مَالٌ، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ هَذَا وَأَطْيَبَهُ، ثُمَّ رَحَلْنَا إِلَى بِلادِنَا، فَوَجَدْنَاهَا قَدْ مُطِرَتْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي دَعَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ مَقْدَمُهُمْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ.
وَفْدُ بَنِي عَبْسٍ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي عَبْسٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِمَ عَلَيْنَا قراؤنا(2/321)
فَأَخْبَرُونَا أَنَّهُ لا إِسْلامَ لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ، وَلَنَا أَمْوَالٌ وَمَوَاشٍ وَهِيَ مَعَايِشُنَا، فَإِنْ كَانَ لا إِسْلامَ لِمَنْ لا هِجْرَةَ لَهُ فَلا خَيْرَ فِي أَمْوَالِنَا بِعْنَاهَا وَهَاجَرْنَا مِنْ آخِرِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم [ (1) ] مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا» وَسَأَلَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ: «هَلْ لَهُ عَقِبٌ» ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لا عَقِبَ لَهُ، كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَانْقَرَضَتْ، وَأَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ فَقَالَ: «نَبِيٌّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ» .
وَفْدُ غَامِدٍ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَدِمَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد غَامِدٍ سَنَةَ عَشْرٍ وَهْمُ عَشَرَةٌ، فَنَزَلُوا فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أثلٌ وطرفاءُ [ (2) ] ، ثُمَّ انْطَلَقُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلَّفُوا عِنْدَ رَحْلِهِمْ أَحْدَثَهُمْ سِنًّا فَنَامَ عَنْهُ، وَأَتَى سَارِقٌ وَسَرَقَ عَيْبَةً [ (3) ] لأَحَدِهِمْ فِيهَا أَثْوَابٌ لَهُ.
وَانْتَهَى الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالإِسْلامِ، وَكتب لَهُمْ كِتَابًا فِيهِ شَرَائِعُ، مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ خَلَّفْتُمْ فِي رِحَالِكُمْ، قَالُوا: أَحْدَثَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّهُ قَدْ نَامَ عَنْ مَتَاعِكُمْ حَتَّى أَتَى آتٍ فَأَخَذَ عَيْبَةَ أَحَدِكُمْ، فَقَالَ أَحَدُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لأَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ عَيْبَةٌ غَيْرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أُخِذَتْ وَرُدَّتْ إِلَى مَوْضِعِهَا»
فَخَرَجَ الْقَوْمُ سِرَاعًا حَتَّى أَتَوْا رَحْلَهُمْ، فَوَجَدُوا صَاحِبَهُمْ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا خَبَّرَهُمْ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَزِعْتُ مِنْ نَوْمِي فَفَقَدْتُ الْعَيْبَةَ، فَقُمْتُ فِي طَلَبِهَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ كَانَ قَاعِدًا، فَلَمَّا رَآنِي ثَارَ يَعْدُو مِنِّي، فَانْتَهَيْتُ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى، فَإِذَا أَثَرُ حَفْرٍ، وَإِذَا هُوَ قَدْ غَيَّبَ الْعَيْبَةَ، فَاسْتَخْرَجْتُهَا، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم، فإنه قد أخبرنا بأخذها، وأنها قد وردت، فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، وَجَاءَ الْغُلامُ الَّذِي خَلَّفُوهُ فَأَسْلَمَ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَعَلَّمَهُمْ قُرْآنًا، وَأَجَازَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُجِيزُ الْوُفُودَ، وَانْصَرَفُوا.
وَفْدُ النَّخَعِ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ النَّخَعِ، وَهُمْ آخِرُ وَفْدٍ، قدموا للنصف من
__________
[ (1) ] أي لن ينقص من أعمالكم شيئا.
[ (2) ] الأثل: شجر عظيم لا ثمر له. والطرفاء منه الأثل.
[ (3) ] العبية: وعاء من أدم ونحوه يكون فيه المتاع. والجمع: عيب وعياب.(2/322)
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَنَزَلُوا دَارَ الأَضْيَافِ، ثُمَّ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِرِّينَ بِالإِسْلامِ، وَقَدْ كَانُوا بَايَعُوا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ،
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ:
زُرَارَةُ بْنُ عَمْرٍو، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي سَفَرِي هَذَا عَجَبًا، قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَ» قَالَ: رَأَيْتُ أَتَانًا تَرَكْتُهَا فِي الْحَيِّ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ جَدْيًا أَسْفَعَ أَحْوَى [ (1) ] ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَرَكْتَ أَمَةً لَكَ مُصِرَّةً عَلَى حَمْلٍ» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّهَا قَدْ وَلَدَتْ غُلامًا وَهُوَ ابْنُكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُهُ أَسْفَعَ أَحْوَى؟ قَالَ: «ادْنُ مِنِّي» فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: «هَلْ بِكَ مِنْ بَرَصٍ تَكْتُمُهُ قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَلِمَ بِهِ أَحَدٌ وَلا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرَكَ. قَالَ: «فَهُوَ ذَلِكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَرَأَيْتُ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ عَلَيْهِ قُرْطَانِ وَدُمْلُجَانَ وَمَسَكَتَانِ [ (2) ] قَالَ: «ذَلِكَ مُلْكُ الْعَرَبِ رَجَعَ إِلَى أَحْسَنِ زِيِّهِ وَبَهْجَتِهِ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَرَأَيْتُ عَجُوزا شَمْطَاءَ خَرَجَتْ مِنَ الأَرْضِ، قَالَ: تِلْكَ بَقِيَّةُ الدُّنْيَا، قَالَ:
وَرَأَيْتُ نَارًا خَرَجَتْ مِنَ الأَرْضِ فَحَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنٍ لِي يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو: وَهِيَ تَقُولُ، لَظًى لَظًى، بَصِيرٌ وَأَعْمَى، أَطْعِمُونِي أَكْلَكُمْ أَهْلَكُمْ وَمَالَكُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تِلْكَ فِتْنَةٌ تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْفِتْنَةُ؟ قَالَ: «يَقْتُلُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ وَيَشْتَجِرُونَ اشْتِجَارَ أَطْبَاقِ الرَّأْسِ- وَخَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- يَحْسِبُ الْمُسِيءُ فِيهَا أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَيَكُونُ دَمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ أَحَلَّ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، وَإِنْ مَاتَ ابْنُكَ أَدْرَكْتَ الْفِتْنَةَ، وَإِنْ مِتَّ أَنْتَ أَدْرَكَهَا ابْنُكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لا أُدْرِكَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لا يُدْرِكُهَا» فَمَاتَ، وَبَقِيَ ابْنُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ خَلَعَ عُثْمَانَ.
وَالْمَسَكُ: مَفْتُوحُ الْمِيمِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، الذَّبْلُ وَالْمَسَكُ: الأَسْوِرَةُ وَالْخَلاخِلُ مِنَ الذَّبْلِ وَالْقُرُونِ وَالْعَاجِ واحدته مسكة. قاله ابن يده.
__________
[ (1) ] أسفع: أي أسود مشربا بالحمرة، والأحوى والأحوى الذي سواده ليس بخالص.
[ (2) ] القرط: ما يعلق في شحمة الأذن من در أو ذهب أو فضة أو نحوها. والمدلج: السوار الذي يحيط بالعضد، والمسكة: السوار.(2/323)
ذِكْرُ بَعْثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ
بَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى قَيْصَرَ مَلَكِ الرُّومِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى مَلَكِ فَارِسَ، وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَبْدٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ مَلِكَيْ عُمَانَ، وَسَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو الْعَامِرِيَّ إِلَى ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ وَهَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيَّيْنِ مَلِكَيِ الْيَمَامَةِ، وَالْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي الْعَبْدِيَّ مَلِكَ الْبَحْرَيْنِ، وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الأَسَدِيَّ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيَّ مَلِكَ تُخُومِ الشَّامِ، وَيُقَالُ: بعثه إلى جبلة بن الأيهم الغساني، والمهاجر بن أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كلال الحميري ملك اليمن.
ذِكْرِ كتب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذِكْرُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِ دِحْيَةَ معه
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِهِ خَرَجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى قَيْصَرَ، وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَبْلاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْتَمِسُوا لَنَا هَاهُنَا مِنْ قَوْمِهِ أَحَدًا نَسْأَلُهُمْ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تُجَّارًا، وَذَلِكَ فِي الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ،(2/324)
قَالَ: فَأَتَانَا رَسُولُ قَيْصَرَ، فَانْطَلَقَ بِنَا حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ عَلَيْهِ التَّاجُ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي، قَالَ قَيْصَرُ: ادْنُوهُ مِنِّي، ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لأَصْحَابِهِ إِنَّمَا قَدَّمْتُ هَذَا أَمَامَكُمْ لأَسْأَلَهُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُكُمْ خَلْفَ كَتِفَيْهِ لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ كَذِبًا إِنْ قَالَهُ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْثُرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ فَصَدَقْتُ وَأَنَا كَارِهٌ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: قُلْ لَهُ هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتْبَعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: فَهَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ الآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:
فَكَيْفَ حَرْبُكُمْ وَحَرْبُهُ؟ قُلْتُ: دُوَلٌ وَسِجَالٌ، نُدَالُ [ (1) ] عليه مرة ويدال عليه أُخْرَى، قَالَ: فَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قُلْتُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ:
هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَزَعَمْتَ أَنْ لا، فَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّه، وَسَأَلْتُكَ: هل كان من آبائه ملك قلت:
لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتْبَعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقُلْتَ: ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهْمُ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حين يخالط
__________
[ (1) ] أي تارة له وتارة لنا.(2/325)
بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ لا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ، هَلْ قاتلتموه، فقلت: نعم، أن حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ دُوَلٌ وَسِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْكُمْ مَرَّةً وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ فِيكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا أَتَانِي عَنْهُ حَقًّا فَيُوشَكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمِي هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقْيَهُ، وَلَوْ كنت عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى هِرْقِلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين [ (1) ] ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ (2) ]
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَضَى مَقَالَتَهُ وَفَرَغَ مِنَ الْكِتَابِ، عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلا أَدْرِي مَا قَالُوا، وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، فَلَمَّا خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي وَخَلَصْنَا قُلْتُ لَهُمْ قَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا، مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ يَخَافُهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلا مُسْتَيْقِنًا أَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حتى أدخل الله على الإسلام.
وَيُرْوَى فِي خَبَرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِقَيْصَرَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَلَا أُخْبِرُكَ عَنْهُ خَبَرًا نَعْرِفُهُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ كَذِبَ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: أَنَّهُ زَعَمَ لَنَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِنَا أَرْضِ الْحَرَمِ فِي لَيْلَةٍ فَجَاءَ مَسْجِدَكُمْ هَذَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ [ (3) ] وَرَجَعَ إِلَيْنَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَبْلَ الصَّبَاحِ، قَالَ: وَبِطْرِيقُ إيليا عِنْدَ رَأْسِ قَيْصَرَ، فَقَالَ: صَدَقَ، قَالَ وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ لا أَنَامُ لَيْلَةً حَتَّى أُغَلِّقَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَغْلَقْتُ الأَبْوَابَ كُلَّهَا غَيْرَ بَابٍ واحد غلبني، فاستعنت عليه عما لي وَمَنْ يَحْضُرُنِي فَلَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُحَرِّكَهُ، كَأَنَّمَا نزاول [ (4) ] جبلا فدعوت النجارين فنظروا إليه
__________
[ (1) ] أي الأريسيين.
[ (2) ] سورة آل عمران: الآية 64.
[ (3) ] أي بيت المقدس.
[ (4) ] أي كأنما ننحي جبلا ونبعده.(2/326)
فَقَالُوا: هَذَا بَابٌ سَقَطَ عَلَيْهِ الْتحَافُ وَالْبُنْيَانُ، فَلا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَرِّكَهُ حَتَّى نُصْبِحَ فَنَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ أَتَى، فَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُ الْبَابَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، فلما أصبح غَدَوْتُ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا الْحَجَرُ الَّذِي فِي زَاوِيَةِ المسجد منقوب، وإذا فيه أثر مربوط الدَّابَّةِ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي:
مَا حُبِسَ هَذَا الْبَابُ اللَّيْلَةَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَقَدْ صَلَّى اللَّيْلَةَ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ قَيْصَرُ لِقَوْمِهِ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ السَّاعَةِ نَبِيًّا بَشَّرَكُمْ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، تَرْجُونَ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُ فِي غَيْرِكُمْ، فِي أَقَلَّ مِنْكُمْ عَدَدًا، وَأَضْيَقَ مِنْكُمْ بَلَدًا، وَهِيَ رَحْمَةُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَضَعُهَا حيث يشاء. البريسيون دهاقين القرى وكانوا إذا ذاك مجوسا.(2/327)
ذِكْرُ تَوَجُّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ إِلَى كِسْرَى بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ مَنْصَرِفَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى كِسْرَى، وَبَعَثَ مَعَهُ كِتَابًا مَخْتُومًا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [1] ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْمَجُوسِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ: فَانْتَهَيْتُ بِهِ إِلَى بَابِهِ، فَطَلَبْتُ الإِذْنَ عَلَيْهِ حَتَّى وَصَلْتُ إِلَيْهِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَمَزَّقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَزَّقَ مُلْكَهُ» .
وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ كِسْرَى بَيْنَا هُوَ فِي بَيْتٍ كَانَ يَخْلُو فِيهِ، إِذَا رَجُلٌ قَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ وَفِي يَدِهِ عَصًا، فَقَالَ: يَا كِسْرَى، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ وَاتَّبِعْهُ يَبْقَ لَكَ مُلْكُكَ، قَالَ كِسْرَى: أَخِّرْ هَذَا عني آثرا ما فدعا حُجَّابَهُ وَبَوَّابِيهِ فَتَوَاعَدَهُمْ وَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي دَخَلَ عَلَيَّ؟ قَالُِوا: وَاللَّهِ مَا دَخَلَ عَلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا ضَيَّعْنَا لَكَ بَابًا، وَمَكَثَ حَتَّى كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِلَّا تُسْلِمْ أَكْسِرِ الْعَصَا، قَالَ: لا تفعل، أخر ذلك آثرا مَا، ثُمَّ جَاءَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ فَفَعَلَ. مِثْلَ ذَلِكَ، وَضَرَبَ بِالْعَصَا عَلَى رَأْسِهِ فَكَسَرَهَا، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَهُ قَتَلَهُ فِي تلك الليلة، وأعلم الله بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لحدثان كونه، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك رسل بأذان إليه، وكان بأذان
__________
[ (1) ] سورة يس: الآية 70.(2/328)
عَامِلَ كِسْرَى عَلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ظُهُورُ النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعاه إِلَى اللَّهِ، كتب إِلَى بَاذَانَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَالَفَ دِينَ قَوْمِهِ، فَمُرْهُ فَلْيَرْجِعْ إِلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَإِنْ أَبَى فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ- وَيُرْوَى: وَإِلَّا فَلْيُوَاعِدْكَ يَوْمًا تَقْتَتِلُونَ فِيهِ. فَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُهُ إِلَى بَاذَانَ، بَعَثَ بِكِتَابِهِ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالْمُقَامِ، فَأَقَامَا أَيَّامًا،
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ:
«انْطَلِقَا إِلَى بَاذَانَ فَأَعْلِمَاهُ أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَتَلَ كِسْرَى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ» ،
فَانْطَلَقَا حَتَّى قَدِما عَلَى بَاذَانَ فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا قَالَ فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، وَسَيَأْتِي الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَيَّ يَوْمَ كَذَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ بَاذَانُ بِإِسْلامِهِ وَإِسْلامِ مَنْ مَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَبَرَ أَتَاهُ بِمَقْتَلِ كِسْرَى وَهُوَ مَرِيضٌ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ أَسَاوِرَتُهُ [ (1) ] فَقَالُوا: مَنْ تُؤَمِّرُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: مَلِكٌ مُقْبِلٌ، وَمَلِكٌ مُدْبِرٌ، فَاتَّبِعُوا هَذَا الرَّجُلَ، وَادْخُلُوا فِي دِينِهِ، وأسلموا. ومات باذان، فبعث رؤوسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدهم يعرفونه بإسلامهم.
__________
[ (1) ] أي فرسانه.(2/329)
ذِكْرُ إِسْلامِ النَّجَاشِيِّ وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ أمية الضمري
ذكر ابن إسحق أَنَّ عَمْرًا قَالَ لَهُ يَا أَصْحَمَةُ، إِنَّ عَلَيَّ الْقَوْلَ وَعَلَيْكَ الاسْتِمَاعَ إِنَّكَ كَأَنَّكَ فِي الرِّقَّةِ عَلَيْنَا مِنَّا، وَكَأَنَّا فِي الثِّقَةِ بِكَ مِنْكَ، لأَنَّا لَمْ نَظُنَّ بِكَ خَيْرًا قَطُّ إِلَّا نِلْنَاهُ، وَلَمْ نَخَفْكَ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَمِنَّاهُ، وَقَدْ أَخَذْنَا الْحُجَّةَ عَلَيْكَ مِنْ فِيكَ، الإِنْجِيلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ شَاهِدٌ لا يُرَدُّ، وقاض لا يجوز، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْقِعِ الْحَزُّ وَإِصَابَةِ الْمَفْصل، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي هَذَا النَّبِيِّ الأُمِّيِّ كَالْيَهُودِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلَهُ إِلَى النَّاسِ فَرَجَاكَ لِمَا لَمْ يَرْجُهُمْ لَهُ، وَأَمِنَكَ عَلَى مَا خافهم عليه، لخير سَالِفٌ، وَأَجْرٌ يُنْتَظَرُ فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنَّ بِشَارَةَ مُوسَى بِرَاكِبِ الْحِمَارِ كَبِشَارَةِ عِيسَى بِرَاكِبِ الْجَمَلِ، وَأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ بِأَشْفَى مِنَ الْخَبَرِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ: بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، سَلِّمْ أَنْتَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الْمَلَكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عيسى بن مَرْيَمَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى، فَخَلَقَهُ مِنْ رُوحِهِ، وَنَفَخَهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُوَالاةُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ تَتَّبِعْنِي وَتُؤْمِنْ بِالَّذِي جَاءَنِي، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
فَكتب إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى مُحَمَّدِ رَسُولِ اللَّه مِنَ النَّجَاشِيِّ أَصْحَمَةَ، سَلامٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيُّ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى بن مَرْيَمَ لا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ ثُفْرُوقًا، إِنَّهُ كَمَا ذَكَرْتَ. وَقَدْ(2/330)
عَرَفْنَا مَا بُعِثْتَ بِهِ إِلَيْنَا، وَقَدْ قَرَّبْنَا ابْنَ عَمِّكَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صادقا مصدقا، وقال بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ رب العالمين.
الثفروق: علاقة ما بين النواة والقمع.
وَتُوُفِّيَ النَّجَاشِيُّ سَنَةَ تِسْعٍ بِالْحَبَشَةِ، وَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ يَوْمَهُ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى عَلَيْهِ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ صُفُوفٌ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.(2/331)
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الْمُقَوْقِسِ مَعَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ
بِسْمِ الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللَّهِ إِلَى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ القبط ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [1]
وَخَتَمَ الْكِتَابَ، فَخَرَجَ بِهِ حَاطِبٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ الإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَانْتَهَى إِلَى حَاجِبِهِ، فَلَمْ يُلْبِثْهُ أَنْ أَوْصَلَ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم. وَقَالَ حَاطِبٌ لِلْمُقَوْقِسِ لَمَّا لَقِيَهُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى، فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، وَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلا يُعْتَبَرُ بِكَ. قَالَ: هَاتْ، قَالَ: إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ الإِسْلامُ الْكَافِي بِهِ اللَّهُ فَقَدْ مَا سِوَاهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاسَ فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ يَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي ما بشارة موسى بعيسى بن مَرْيَمَ إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَأَنْتَ مِمَّنْ أَدْرَكَ هَذَا النَّبِيَّ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّا نأمرك به، فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ فَوَجَدْتُهُ لا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ، وَلا يَنْهَى إِلَّا عَنْ مَرْغُوبٍ عَنْهُ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسَّاحِرِ الضَّالِّ، وَلا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ، وَوَجَدْتُ معه آلة النبوة بإخراج الخبيء، والأخبار بالنجوى، وسأنظر. وأخذ الكتاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَهُ فِي حُقٍّ [2] مِنْ عَاجٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى جارية له، ثم
__________
[ (1) ] سورة آل عمران: الآية 64.
[ (2) ] الحق: وعاء صغير ذو غطاء يتخذ من عاج أو زجاج أو غيرهما(2/332)
دَعَا كَاتِبًا لَهُ يَكتب بِالْعَرَبِيَّةِ، فَكتب إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلامٌ، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا بَقِيَ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، وَبَعَثْتُ إِلَيْكَ بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٍ، وَبِكِسْوَةٍ، وَأَهْدَيْتُ لَكَ بَغْلَةً لِتَرْكَبَهَا، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا. وَلَمْ يسلم الجاريتان مارية وسرين وَالْبَغْلَةُ دُلْدُلٌ، بَقِيَتْ إِلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ شهباء. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ وَصَفَ لِحَاطِبٍ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: الْقِبْطُ لا يُطَاوِعُونِي فِي اتِّبَاعِهِ، وَلا أُحِبُّ أَنْ تَعْلَمَ بِمُحَاوَرَتِي إِيَّاكَ، وَأَنَا أَضْمَنُ بِمُلْكِي أَنْ أُفَارِقَهُ، وَسَيَظْهَرُ عَلَى الْبِلادِ، وَيَنْزِلُ بِسَاحَتِنَا هَذِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى تَظْهَرَ عَلَى مَنْ هَاهُنَا، فَارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكَ، فَقَدْ أَمَرْتُ لَهُ بِهَدَايَا وَجَارِيَتَيْنِ أُخْتَيْنِ وَبَغْلَةٍ مِنْ مَرَاكِبِي، وَأَلْفُ مِثْقَالٍ ذَهَبًا، وَعِشْرِينَ ثَوْبًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَرْتُ لَكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَخَمْسَةِ أَثَوْابٍ، فَارْحَلْ مِنْ عِنْدِي وَلا تُسْمِعْ مِنْكَ الْقِبْطُ حَرْفًا وَاحِدًا، فَرَحَلْتُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَدْ كَانَ لِي مُكْرِمًا فِي الضِّيَافَةِ، وَقِلَّةِ اللُّبْثِ بِبَابِهِ، مَا أَقَمْتُ عِنْدَهُ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَإِنَّ الْوُفُودَ وُفُودُ الْعَجَمِ بِبَابِهِ مُنْذُ شَهْرٍ وَأَكْثَرَ.
قَالَ حَاطِبٌ: فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ضَنَّ الْخَبِيثُ بِمُلْكِهِ، وَلا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: اسْمُهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَاءَ، أَثْبَتَهُ أَبُو عُمَرَ فِي الصَّحَابَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ: يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَتْ شُبْهَتَهُ فِي إِثْبَاتِهِ إِيَّاهُ فِي الصحابة أولا رواية رواها ابن إسحق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله بن عتيبة قَالَ:
أَخْبَرَنِي الْمُقَوْقِسُ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ فَكَانَ يَشْرَبُ فِيهِ.(2/333)
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي الْعَبْدِيِّ مَعَ الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَجَدْتُ هَذَا الْكِتَابَ فِي كتب ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَسَخْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي، وَكتب إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى الإِسْلامِ، فَكتب الْمُنْذِرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنِّي قَرَأْتُ كِتَابَكَ عَلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ الإِسْلامَ وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ، وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ، فَأَحْدِثْ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ أَمْرَكَ،
فَكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللَّهِ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي، سَلامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أُذَكِّرُكَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَنْصَحُ فَإِنَّمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ رُسُلِي وَيَتَّبِعْ أَمْرَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ نَصَحَ لَهُمْ فَقَدْ نَصَحَ لِي، وَإِنَّ رُسُلِي قَدْ أَثْنَوْا عَلَيْكَ خَيْرًا، وَإِنِّي قَدْ شَفَعْتُكَ فِي قَوْمِكَ، فَاتْرُكْ لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَعَفَوْتُ عَنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا تُصْلِحُ فَلَنْ نَعْزِلَكَ عَنْ عَمَلِكَ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.
أَسْلَمَ الْمُنْذِرُ هَذَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وَمَاتَ قَبْلَ رِدَّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ. وَذَكَرَ ابْنُ قَانِعٍ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو الرَّبُيعِ بْنُ سَالِمٍ: وَلا يَصِحُّ ذَلِكَ.(2/334)
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جَيْفَرٍ وَعَبْدٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ الأَزْدِيِّينَ، مَلِكَيْ عُمَانَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جَيْفَرٍ وَعَبْدٍ ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكُمَا بِدَاعِيَةِ الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَافَّةً، لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقُّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَإِنَّكُمَا إِنْ أَقْرَرْتُمَا بِالإِسْلامِ وَلَّيْتُكُمَا، وَإِنْ أَبَيْتُمَا أَنْ تُقِرَّا بِالإِسْلامِ فَإِنَّ مُلْكَكُمَا زائل عنكما، وخيلي تَحِلُّ بِسَاحِتِكُمَا، وَتَظْهَرُ نُبُوَّتِي عَلَى مُلْكِكُمَا.
وَكتب أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَخَتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم الكتاب. فقال عمر: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى عُمَانَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا عَمَدْتُ إِلَى عَبْدٍ، وَكَانَ أَحْلَمَ الرَّجُلَيْنِ وَأَسْهَلَهُمَا خُلُقًا، فَقُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ وَإِلَى أَخِيكَ، فَقَالَ: أَخِي الْمُقَدَّمُ عَلَيَّ بِالسِّنِّ وَالْمُلْكِ، وَأَنَا أُوَصِّلُكَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْرَأَ كتابك، ثم قال لي: وما تدعوا إِلَيْهِ؟ قُلْتُ: أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَتَخْلَعُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ، وَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِكَ، فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ فَإِنَّ لَنَا فِيهِ قُدْوَةً؟ فَقُلْتُ: مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وودت أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ لِلإِسْلامِ، قَالَ فَمَتَى تَبِعْتَهُ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَسَأَلَنِي: أَيْنَ كَانَ إِسْلامِي؟
فَقُلْتُ: عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ أَسْلَمَ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ، قُلْتُ: أَقَرُّوهُ وَاتَّبَعُوهُ، قَالَ: وَالأَسَاقِفَةُ وَالرُّهْبَانُ اتَّبَعُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: انْظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ أَفْضَحَ لَهُ مِنْ كَذِبٍ، قُلْتُ: مَا كَذَبْتُ وَمَا نَسْتَحِلُّهُ فِي دِينِنَا، ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَى هِرْقِلَ عَلِمَ بِإِسْلامِ النَّجَاشِيِّ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّجَاشِيُّ يُخَرِّجُ لَهُ خَرْجًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا وَاللَّهِ، وَلَوْ سَأَلَنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْتَهُ، فَبَلَغَ هِرْقِلَ قَوْلُهُ فَقَالَ لَهُ يَنَاق أَخُوهُ: أَتَدَعُ عَبْدَكَ لا يُخْرِجُ لَكَ خَرْجًا وَيَدِينُ دِينًا مُحْدَثًا! قَالَ هِرْقِلُ:(2/335)
رَجُلٌ رَغِبَ فِي دِينٍ وَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مَا أَصْنَعُ، بِهِ؟ وَاللَّهِ لَوْلا الضَّنُّ بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ، قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ يَا عَمْرُو، قُلْتُ: وَاللَّهِ صَدَقْتُكَ. قَالَ عَبْدٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْبِرِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَعَنِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصَّلِيبِ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، لَوْ كَانَ أَخِي يُتَابِعُنِي لَرَكِبْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَنُصَدِّقُ بِهِ، وَلَكِنَّ أَخِي أَضَنَّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِير ذَنْبًا، قُلْتُ: إِنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ مَلَّكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قَوْمِهِ، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَرَدَّهَا عَلَى فَقِيرِهِمْ. قَالَ: إِنَّ هَذَا الْخُلُقَ حَسَنٌ، وَمَا الصَّدَقَةُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي الأَمْوَالِ، حتى انتهت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، وتؤخذ مِنْ سَوَائِمِ مَوَاشِينَا الَّتِي تَرْعَى الشَّجَرَ وَتَرِدُ الْمِيَاهَ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى قَوْمِي فِي بُعْدِ دَارِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ يُطِيعُونَ بِهَذَا.
قَالَ: فَمَكَثْتُ بِبَابِهِ أَيَّامًا وَهُوَ يَصِلُ إِلَى أَخِيهِ فَيُخْبِرُهُ كُلَّ خَبَرِي، ثُمَّ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمًا فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ أَعْوَانَهُ بِضَبْعِي [1] ، فَقَالَ: دَعُوهُ، فَأُرْسِلْتُ، فَذَهَبْتُ لأَجْلِسَ فَأَبَوْا أَنْ يَدَعُونِي أَجْلِسَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: تَكَلَّمَ بِحَاجَتِكَ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ مَخْتُومًا، فَفَضَّ خَاتَمَهُ فَقَرَأَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيَّ أخيه فَقَرَأَهُ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَخَاهُ أَرَقَّ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ قُرَيْشٍ كَيْفَ صَنَعَتْ؟ فَقُلْتُ:
تَبِعُوهُ، إِمَّا رَاغِبٌ فِي الدِّينِ وَإِمَّا مَقْهُورٌ بِالسَّيْفِ، قَالَ: وَمَنْ مَعَهُ؟ قُلْتُ: النَّاسُ قَدْ رَغِبُوا فِي الإِسْلامِ، وَاخْتَارُوهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَعَرَفُوا بِعُقُولِهِمْ مَعَ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ضَلالٍ، فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ غَيْرَكَ فِي هَذِهِ الْحَرَجَةِ، وَأَنْتَ إِنْ تُسْلِمِ الْيَوْمَ وَتَتَّبِعْهُ يُوَطِّئْكَ الْخَيْلَ، ويبيد خَضْرَاءَكَ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَيَسْتَعْمِلْكَ عَلَى قَوْمِكَ، وَلا تَدْخُلُ عَلَيْكَ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ. قَالَ: دَعْنِي يَوْمِي هَذَا وَارْجِعْ إِلَيَّ غَدًا، فَرَجَعْتُ إِلَى أَخِيهِ فَقَالَ: يَا عَمْرُو إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ إِنْ لَمْ يَضِنَّ بِمُلْكِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَتَيْتُ إِلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَأْذِنَ لِي، فَانْصَرَفْتُ إِلَى أَخِيهِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَيْهِ، فَأَوْصَلَنِي إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي فَكَّرْتُ فِيمَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا أَضْعَفُ الْعَرَبِ إِنْ مَلَّكْتُ رَجُلا مَا فِي يَدِي وَهُوَ لا تَبْلُغُ خَيْلُهُ هَاهُنَا، وَإِنْ بَلَغَتْ خَيْلُهُ أَلِفْتُ قتالا ليس كقتال من لاقى.
__________
[ (1) ] الضبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها.(2/336)
قُلْتُ: وَأَنَا خَارِجٌ غَدًا، فَلَمَّا أَيْقَنَ بِمَخْرَجِي، خَلا بِهِ أَخُوهُ، فَقَالَ: مَا نَحْنُ فِيمَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَدْ أَجَابَهُ، فَأَصْبَحَ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَجَابَ إِلَى الإِسْلامِ هُوَ وَأَخُوهُ جَمِيعًا، وَصَدَّقَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَلَّيَا بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَكَانَا لِي عَوْنًا عَلَى مَنْ خَالَفَنِي.(2/337)
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ مَعَ سَلِيطِ بْنِ عَمْرٍو الْعَامِرِيِّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَاعْلَمْ أَنَّ دِينِي سَيَظْهَرُ إِلَى مُنْتَهَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلُ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ سَلِيطٌ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْتُومًا، أَنْزَلَهُ وَحَبَاهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَرَدَّ رَدًّا دُونَ رَدٍّ، وَكتب إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أحسن ما ندعو إِلَيْهِ وَأَجْمَلَهُ، وَأَنَا شَاعِرُ قَوْمِي وَخَطِيبُهُمْ، وَالْعَرَبُ تَهَابُ مَكَانِي، فَاجْعَلْ إِلَيَّ بَعْضَ الأَمْرِ أَتْبَعُكَ، وَأَجَازَ سَلِيطًا بِجَائِزَةٍ وَكَسَاهُ أَثْوَابًا مِنْ نَسْجِ هَجَرٍ [1] ، فَقَدِمَ بِذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كتابه وقال: «لو سألني سبابة [2] مِنَ الأَرْضِ مَا فَعَلْتُ، بَادَ وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ» . فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَتْحِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَنَّ هَوْذَةَ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَمَا إِنَّ الْيَمَامَةَ سَيَخْرُجُ بِهَا كَذَّابٌ يَتَنَبَّأُ يُقْتَلُ بَعْدِي» فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ يَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ» فَكَانَ كَذَلِكَ.
وَفِيمَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، أَنَّ أَرْكُونَ دِمَشْقَ، عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ النَّصَارَى، كَانَ عِنْدَ هَوْذَةَ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جَاءَنِي كِتَابُهُ يَدْعُونِي إِلَى الإِسْلامِ فَلَمْ أُجِبْهُ، قَالَ الأَرْكُونُ: لِمَ لا تُجِيبُهُ؟ فَقَالَ:
ضَنَنْتُ بِدِينِي وَأَنَا مَلِكُ قَوْمِي، وَلَئِنْ تَبِعْتُهُ لَمْ أَمْلِكْ، قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، لَئِنِ اتَّبَعْتَهُ لَيُمَلِّكَنَّكَ، وَإِنَّ الْخِيَرَةَ لَكَ فِي اتِّبَاعِهِ، وَإِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ عِنْدَنَا فِي الإِنْجِيلِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهُ. وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرَ.
__________
[ (1) ] هجر: (بفتح الهاء والجيم) مدينة في البحرين قال الحازمي: بين هجر البحرين وبين يبرين سبعة أيام.
[ (2) ] أي بلحة.(2/338)
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ مَعَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ شُجَاعًا إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَهُوَ بِغُوطَةَ دِمَشْقَ، فَكتب إِلَيْهِ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم إلى الحرث بْنِ أَبِي شِمْرٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يَبْقَى لَكَ مُلْكُكَ.
فَخَتَمَ الْكِتَابَ، وَخَرَجَ بِهِ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى حَاجِبِهِ، فَأَجِدُهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِتَهْيِئَةِ الأَنْزَالِ وَالأَلْطَافِ لقيصر، وهو جاء مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ حَيْثُ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى. فَأَقَمْتُ عَلَى بَابِهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، فَقُلْتُ لِحَاجِبِهِ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ حَاجِبُهُ: لا تَصِلُ إِلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَجَعَلَ حَاجِبُهُ وَكَانَ رُومِيًّا اسْمُهُ مُرِّيٌّ يَسْأَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَكُنْتُ أُحَدِّثُهُ فَيَرِقُّ حَتَّى يَغْلِبَهُ الْبُكَاءُ وَيَقُولُ: إِنِّي قَرَأْتُ فِي الإِنْجِيلِ، وَأَجِدُ صِفَةَ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ، فَكُنْتُ أَرَاهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ فَأَرَاهُ قَدْ خَرَجَ بِأَرْضِ الْقَرَظِ، فَأَنَا أُؤْمِنُ بِهِ وَأُصَدِّقُهُ، وَأَنَا أَخَافُ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ أَنْ يَقْتُلَنِي، قَالَ شُجَاعٌ: فَكَانَ (يَعْنِي هَذَا الْحَاجِبَ) يُكْرِمُنِي وَيُحْسِنُ ضِيَافَتِي، وَيُخْبِرُنِي عَنِ الْحَارِثِ بِالْيَأْسِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: هُوَ يَخَافُ قَيْصَرَ، قَالَ: فَخَرَجَ الْحَارِثُ يَوْمًا وَجَلَسَ، فَوَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، فَأُذِنَ لِي عَلَيْهِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ ثُمَّ رَمَى بِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَنْتَزِعُ مِنِّي مُلْكِي، أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بِالْيَمَنِ جِئْتُهُ، عَلَيَّ بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَزَلْ جَالِسًا يَعْرِضُ حَتَّى اللَّيْلَ، وَأَمَرَ بِالْخَيْلِ أَنْ تُنْعَلَ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا تَرَى، وَكتب إِلَى قَيْصَرَ يُخْبِرُهُ خَبَرِي، فَصَادَفَ قَيْصَر بِإِيلِيَاءَ، وَعِنْدَهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَرَأَ قَيْصَرُ كِتَابَ الْحَارِثِ كتب إِلَيْهِ أَلَّا تُسِرَّ(2/339)
إِلَيْهِ وَالْهُ عَنْهُ وَوَافِنِي بِإِيلِيَاءَ. قَالَ: وَرَجَعَ الْكِتَابُ وَأَنَا مُقِيمٌ، فَدَعَانِي وَقَالَ: مَتَى تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى صَاحُبُكِ؟ قُلْتُ: غَدًا، فَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا، وَوَصَلَنِي مُرِّيٌّ بِنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَقَالَ: اقْرَأْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي السَّلامَ وَأَخْبِرْهُ أَنِّي مُتَّبِعٌ دِينَهُ.
قَالَ شُجَاعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «بَادَ مُلْكُهُ» وَأَقْرَأْتُهُ مِنْ مُرِّيٍّ السَّلامَ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» .
وَابْنُ هِشَامٍ يَقُولُ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِ جَبَلَةُ بْنُ الأَيْهَمِ بَدَلَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابن إسحق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بْنِ عَبْدِ كَلالٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالْيَمَنِ.(2/340)
سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: يُقَالُ: مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ مُهَاجِرِهِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: امْضِ وَلا تَلْتَفِتُ، فَإِذَا نَزَلْتَ بِسَاحَتِهِمْ فَلا تُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يقاتلوك. فخرج في ثلاثمائة فَارِسٍ،
وَكَانَتْ أَوَّلَ خَيْلٍ دَخَلَتْ إِلَى تِلْكَ الْبِلادِ، وَهِيَ بِلادُ مُذْحِجَ، فَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ، فَأَتَوْا بِنَهْبِ غَنَائِمَ وَأَطْفَالٍ وَنِسَاءٍ وَشَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ عَلَى الْغَنَائِمِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ الأَسْلَمِيَّ، فَجَمَعَ إِلَيْهِ مَا أَصَابُوا، ثُمَّ لَقِيَ جَمْعَهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَأَبَوْا، وَرَمَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، فَصَفَّ أَصْحَابُهُ وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى مَسْعُودِ بْنِ سِنَانٍ السُّلَمِيِّ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ بِأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلا فَتَفَرَّقُوا وَانْهَزَمُوا، فَكَفَّ عَنْ طَلَبِهِمْ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَأَسْرَعُوا وَأَجَابُوا، وَتَابَعَهُ نَفَرٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى الإِسْلامِ وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَهَذِهِ صَدَقَاتُنَا فَخُذْ مِنْهَا حَقَّ اللَّهِ، وَجَمَعَ عَلِيٌّ الْغَنَائِمَ، فَجَزَّأَهَا عَلَى خَمْسَةِ، أَجْزَاءٍ، فَكتب فِي سَهْمٍ مِنْهَا لِلَّهِ، وَأَقْرَعَ عَلَيْهَا، فَخَرَجَ أَوَّلُ السِّهَامِ سَهْمُ الْخُمُسِ، وَقَسَّمَ عَلِيٌّ على أصحابه بقية المغنم، ثُمَّ قَفَلَ فَوَافَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَقَدْ قَدِمَهَا لِلْحَجِّ سَنَةَ عَشْرٍ.
قَالَ الرّشَاطِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ كُلُّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكتب بِذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ خَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَى هَمْدَانَ، وَتَتَابَعَ أَهْلُ الْيَمَنِ عَلَى الإِسْلامِ،
انْتَهَى كَلامُ الرّشَاطِيِّ. وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ السَّرِيَّةُ الأُولَى، وَمَا فِي الأَصْلِ هُوَ السَّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ وَاللَّهُ أعلم.(2/341)
حَجَّةُ الْوَدَاعِ
قَالَ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّد عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد بْن سَعِيد الْفَارِسِيُّ [1] ، أَعْلَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ النَّاسَ أَنَّهُ حَاجٌّ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَصَابَ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ جُدَرِيٌّ أَوْ حَصْبَةٌ مَنَعَتْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الْحَجِّ مَعَهُ، فَأَعْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ مُنْذُ هَاجَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَيْهَا غَيْرَهَا، فَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ، نَهَارًا بَعْدَ أَنْ تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَبَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَطَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ صَلَّى بِهَا الصُّبْحِ، ثُمَّ طَيَّبَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِيَدِهَا بِذَرِيرَةٍ وَبِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَلَمْ يَغْسِلِ الطِّيبَ ثُمَّ لَبَّدَ رَأْسَهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ نَعْلَيْنِ وَأَشْعَرَهَا فِي جَانِبِهَا الأَيْمَنِ، وسلمت [2] الدَّمَ عَنْهَا، وَكَانَتْ هَدْيَ تَطَوُّعٍ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَأَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ [3] ، بِالْقُرْآنِ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا، وَذَلِكَ قَبْلَ الظُّهْرِ بِيَسِيرٍ،
وَقَالَ لِلنَّاسِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ فَلْيُهَلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» . وَكَانَ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ النَّاسِ جُمُوعٌ لا يُحْصِيهَا إِلا خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فقال: «لبيك اللهم لبيك، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنعمة لك
__________
[ (1) ] هو ابن حزم.
[ (2) ] أي مسحت.
[ (3) ] ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة، وهو على بعد ستة أميال من المدينة، وقيل سبعة، وقيل أربعة.(2/342)
والملك لا شريك لك» . وقد روى أن عَلَيْهِ السَّلامُ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: «لَّبَيْكَ إِلَهَ الْخَلْقِ» وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، وَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ زَوْجُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتَسْتَثْفِرَ بِثَوْبٍ، وَتُحْرِمَ وَتُهِلَّ، ثُمَّ نَهَضَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَصَلَّى الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ ثُمَّ تَمَادَى، وَاسْتَهَلَّ هِلالَ ذِي الْحِجَّةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِسَرِفَ حَاضَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أن تغتسل وتنقض رَأْسَهَا وَتَمْتَشِطَ وَتَتْرُكَ الْعُمْرَةَ وَتَدَعَهَا وَتَرْفُضَهَا وَلَمْ تَحِلَّ مِنْهَا، وَتَدْخُلَ عَلَى الْعُمْرَةِ حَجًّا وَتَعْمَلَ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْحَجِّ حَاشَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ مَا لَمْ تَطْهُرْ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ بِسَرِفَ لِلنَّاسِ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلا» .
فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عُمْرَةً كَمَا أُبِيحَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَجَعَلْهَا عُمْرَةً، وَهَذَا فِيمَنْ لا هَدْيَ مَعَهُ، وَأَمَّا مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلَمْ يَجْعَلْهَا عُمْرَةً أَصْلا. وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي بَعْضِ طَرِيقِهِ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُهِلَّ بِالْقِرَانِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، ثُمَّ نَهَضَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى أَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى [1] ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الأَحَدِ لأَرْبَعٍ خَلَوْنَ لِذِي الْحَجَّةِ، فَصَلَّى الصُّبْحَ بِهَا، وَدَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا مِنْ أَعْلاهَا مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا صَبِيحَةَ يَوْمَ الأَحَدِ الْمَذْكُورِ الْمُؤَرَّخِ، فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَعْبَهِ سَبْعًا، وَرَمَلَ ثَلاثًا مِنْهَا، وَمَشَى أَرَبْعًا يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، وَلا يَمَسُّ الرُّكْنَيْنِ الآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْحِجْرِ وَقَالَ بَيْنَهُمَا: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [2] ثُمَّ صَلَّى عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [3] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [4] جَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذَا أَتَى الْمَقَامِ:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [5] ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا فَقَرَأَ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أبدأ بما بدى اللَّهُ بِهِ فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا سَبْعًا رَاكِبًا عَلَى بَعِيرِهِ، يَخُبُّ ثَلاثًا وَيَمْشِي أربعا، إذا رقى الصفا
__________
[ (1) ] ذو طوى: موضع عند باب مكة، بأسفل مكة ناحية طريق العمرة.
[ (2) ] سورة البقرة: الآية 201.
[ (3) ] سورة الكافرون: الآية 1.
[ (4) ] سورة الإخلاص: الآية 1.
[ (5) ] سورة البقرة: الآية 125.(2/343)
اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَنَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَوَحَّدَ اللَّهَ وكبره وقال: لا إله الله وحده، أنجز وعهد، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ يَدْعُو ثُمَّ يَفْعَلُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَكْمَلَ عَلَيْهِ السَّلامُ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لا هَدْيَ مَعَهُ بِالإِحْلالِ قَارِنًا كَانَ أَوْ مُفْرِدًا، وَأَنْ يُحِلُّوا الْحِلَّ كُلَّهُ مَنْ وَطِئَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالْمَخِيطَ، وَأَنْ يَبْقُوا كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ يَوْمُ مِنًى، فَيُهِلُّوا حِينَئِذٍ بِالْحَجِّ، وَيُحْرِمُوا عِنْدَ نُهُوضِهِمْ إِلَى مِنًى، وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِالْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَئِذٍ إِذْ تَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مَنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، وَلأَحْلَلْتُ كَمَا أَحْلَلْتُمْ، وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، فَلا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ» وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وعمرو وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَلِيٌّ وَرِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْوَفْرِ [1] سَاقُوا الْهَدْيَ فَلَمْ يُحِلُّوا وَبَقُوا مُحْرِمِينَ كَمَا بَقِيَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُحْرِمًا، لأَنَّهُ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ، وَكُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسُقْنَ هَدْيًا فَأَحْلَلْنَ، وَكُنَّ قَارِنَاتٍ حَجًّا وَعُمْرَةً، وَكَذَلِكَ فَاطِمَةُ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَحَلَّتَا حَاشَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَجْلِ حَيْضِهَا لَمْ تُحِلَّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَشَكَا عَلِيٌّ فَاطِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ حَلَّتْ، وَصَدَّقَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ فِي أَنَّهُ أَمَرَهَا بِذَلِكَ، وَحِينِئَذٍ سَأَلَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ الْكِنَانِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُتْعَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ، وَلَنَا أَمْ لِلأَبَدِ، فَشَبَّكَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَصَابِعَهُ وَقَالَ: «بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَنْ جَاءَ إِلَى الْحَجِّ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي أَتَى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْهَا مِمَّنْ أَهَلَّ يا هلال كَإِهْلالِهِ بِأَنْ يَبْقَوْا عَلَى حَالِهِمْ، فَمَنْ سَاقَ مِنْهُمُ الْهَدْيَ لَمْ يُحِلَّ، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ أَنْ يُحِلَّ، فَكَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَكَّةَ مُحْرِمًا مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ يَوْمَ الأَحَدِ الْمَذْكُورِ وَالاثْنَيْنِ وَالثُّلاثَاءِ وَالأَرْبَعَاءِ وَلَيْلَةَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ نَهَضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكْرَةً يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ يَوْمُ مِنًى، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ مَعَ النَّاسِ إِلَى مِنًى، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الأَبْطَحِ [2] كُلُّ مَنْ كَانَ أَحَلَّ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَحْرَمُوا فِي نُهُوضِهِمْ إِلَى مِنًى فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمِنًى الظُّهْرَ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ، وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وصلى بها الصبح من يوم
__________
[ (1) ] أي أهل المال الوافر الكثير.
[ (2) ] الأبطح: موضع بين مكة ومنى.(2/344)
الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَهَضَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ إِلَى عَرَفَةَ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَنْ تُضْرَبَ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ بِنَمِرَةَ، [1] فَأَتَى عَلَيْهِ السَّلامُ عَرَفَةَ، وَنَزَلَ فِي قُبَّتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرَحَلَتْ، ثُمَّ أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُطْبَةً، ذَكَرَ فِيهَا عَلَيْهِ السَّلامُ تَحْرِيمَ الدِّمَاءَ وَالأَمْوَالَ وَالأَعْرَاضَ، وَوَضَعَ فِيهَا أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ وَدِمَاءَهَا، وَأَوَّلُ مَا وَضَعَ دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بن الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ.
وَذَكَرَ النَّسَّابُونَ أنه صَغِيرًا يَحْبُو أَمَامَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ اسْمُهُ: آدَمَ، فَأَصَابَهُ حَجَرٌ عَائِرٌ أَوْ سَهْمُ غَرْبٍ مِنْ يد رجل من بني هذيل فمات) .
ثم نرجع إلى وصف عمله عليه السلام وَوَضَعَ أَيْضًا عَلَيْهِ السَّلامُ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَة رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ رِبًا وَضَعَهُ رِبَا عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَوْصَى بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، [وأباح ضربهن ضربا] [2] غَيْرَ مُبَرِّحٍ إِنْ عَصَيْنَ بِمَا لا يَحِلُّ، وَقَضَى لَهُنَّ بِالرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَأَمَرَ بِالاعْتِصَامِ بَعْدَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَضِلُّ مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ، وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ مَا يُلْزِمُهُ، فَاعْتَرَفَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يُبَلِّغَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهَلالِيَّةُ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَشَرِبَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَمَامَ النَّاسِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَتَمَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ أَمَرَ بِلالا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، لَكِنْ صَلاهُمَا عَلَيْهِ السَّلامُ بِالنَّاسِ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَهُمَا مَعًا وَبِإِقَامَتَيْنِ، لِكُلِّ صَلاةٍ مِنْهُمَا إِقَامَةٌ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ جَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا لِلدُّعَاءِ، وَهُنَالِكَ سَقَطَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي جُمْلَةِ الْحَجِيجِ فَمَاتَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلا يُمَسَّ بِطِيبٍ وَلا يُحَنَّطَ، وَلا يُغْطَى رَأْسُهُ وَلا وَجْهُهُ. وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، وَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ هُنَالِكَ عَنِ الْحَجِّ، فَأَعْلَمَهُمْ عَلَيْهِ السَّلامُ بِوُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَوَقْتِ الْوُقُوفِ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا عَلَى مَشَاعِرِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ عليه السلام واقفا
__________
[ (1) ] نمرة: موضع عند عرفات.
[ (2) ] وردت في الأصل: وأباحهم ضربهن، وهي تصحيف، ولعل الصواب ما أثبتناه.(2/345)
حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ وذهبت الصفرة، وأردف أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ ضَمَّ زِمَامَ الْقَصْوَاءِ نَاقَتِهِ، حَتَّى أَنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ طَرْفَ رَحْلِهِ، ثُمَّ مَضَى يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ- وَكِلاهُمَا ضِرْبٌ مِنَ السَّيْرِ وَالنَّصُّ آكِدُهُمَا، وَالْفَجْوَةُ الْفُسْحَةُ مِنَ النَّاسِ- كُلَّمَا أَتَى رَبْوَةً مِنْ تِلْكَ الرَّوَابِي أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلا حَتَّى يَصْعَدَهَا، وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسَّكِينَةِ فِي السَّيْرِ، فَلَمَّا كَان فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الشِّعْبِ الأَيْسَرِ نزل عليه السلام فيه فبال وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، وَقَالَ لأُسَامَةَ: «الْمُصَلَّى أَمَامَكَ» . أَوْ كَلامًا هَذَا مَعْنَاهُ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الآخِرَةَ مَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ دُونَ خُطْبَةٍ، لَكِنْ بِآذَانٍ وَاحِدٍ لَهُمَا مَعًا وَبِإِقَامَتَيْنِ، لِكُلِّ صَلاةٍ مِنْهُمَا إِقَامَةً، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَامَ وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالنَّاسِ بِمُزْدَلِفَةَ يَوْمَ السَّبْتِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الأَضْحَى، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ مُغَلِّسًا أَوَّلَ انْصِدَاعِ الْفَجْرِ، وَهُنَاكَ سَأَلَهُ عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ الطَّائِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ عَمَلَهُ أَلَهُ حَجٌّ؟ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ:
«إِنَّ مَنْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ- يَعْنِي صَلاةَ الصُّبْحِ- بِمُزْدَلِفَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ النَّاسِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَإِلا فَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَاسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ فِي أَنْ يَدْفَعَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ لَيْلا فَأَذِنَ لَهُمَا، وَلأُمِّ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ، وَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وَأَذِنَ أَيْضًا عَلَيْهِ السَّلامُ لِلنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ وُقُوفِ جَمْعِهِمْ بِمُزْدَلِفَةَ، وَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِهَا، إِلا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَذِنَ لِلنِّسَاءِ فِي الرَّمْيِ بِلَيْلٍ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِلرِّجَالِ فِي ذَلِكَ، لا لِضُعَفَائِهِمْ وَلا لِغَيْرِ ضُعَفَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ السَّلامُ الصُّبْحَ كَمَا ذَكَرْنَا بِمُزْدَلِفَةَ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ بِهَا، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا بِهَا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، وَقَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَدَفَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَئِذٍ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَقَدْ أَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَانْطَلَقَ أُسَامَةُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي سِبَاقِ قُرَيْشٍ، وَهُنَالِكَ سَأَلَتِ الْخَثْعَمِيَّةُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَجَّ عَنْ أَبِيهَا الَّذِي لا يُطِيقُ الْحَجَّ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَصْرِفُ بِيَدِهِ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَإِلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ الْفَضْلُ أَبْيَضَ وَسِيمًا، وَسَأَلَهُ أَيْضًا عَلَيْهِ السَّلامُ رَجُلٌ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلَتِ الْخَثْعَمِيَّةُ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ، وَنَهَضَ عَلَيْهِ السَّلامُ يُرِيدُ مِنًى، فَلَمَّا أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ نَاقَتَهُ قَلِيلا، وَسَلَكَ عَلَيْهِ السَّلامُ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تُخْرِجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي(2/346)
عِنْدَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهَا عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ أَسْفَلِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الْمُؤَرَّخِ بِحَصًى الْتَقَطَهَا لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مِنْ مَوْقِفِهِ الَّذِي رَمَى فِيهِ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَأَمَرَ بِمِثْلِهَا، وَنَهَى عَنْ أَكْبَرِ مِنْهَا، وَعَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، فَرَمَاهَا عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ قَطَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ التَّلْبِيَةَ، وَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَرَمَاهَا عَلَيْهِ السَّلامُ رَاكِبًا، وَبِلالٌ وَأُسَامَةُ، أَحَدُهُمَا يُمْسِكُ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالآخَرُ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ مِنَ الْحَرِّ. وَخَطَبَ عَلَيْهِ السَّلامُ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ بِمِنًى خطبة كررها أَيْضًا، فِيهَا تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ وَالأَعْرَاضِ وَالأَبْشَارِ، وَأَعْلَمَهُمْ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهَا بِتَحْرِيمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَحُرْمَةِ مَكَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْبِلادِ، وَأَمَرَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ قَامَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَخْذِ مَنَاسِكِهِمْ، فَلَعَلَّهُ لا يَحُجُّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ وَالنَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَمَرَ أَنْ لا يَرْجِعُوا بعده كفارا، ولا يجرعوا بَعْدَهُ ضُلالا، يَضْرِبُ بَعْضَهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، ثُمَّ أمر علينا فَنَحَرَ مَا بَقِيَ مِنْهَا مِمَّا كَانَ عَلِيٌّ أَتَى بِهِ مِنَ الْيَمَنِ، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَى بِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ تَمَامَ الْمِائَةِ. ثُمَّ حَلَقَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأْسَهُ الْمقدس، وَقَسَمَ شَعَرَهُ، فَأَعْطَى مِنْ نِصْفِهِ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ، وَأَعْطَى نِصْفَهُ الثَّانِي كُلَّهُ أَبَا طَلْحَةَ الأنصاري، وضحى عن نسائه بالبقرة، وأهدى عمن كان اعتمر منهم بَقَرَةً، وَضَحَّى هُوَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَحَلَقَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَقَصَّرَ بَعْضَهُمْ، فَدَعَا عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْبُدْنِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بَضَعَةً، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ وَطُبِخَتْ، فَأَكَلَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ أَشْرَكَ عَلِيًّا فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا بِقَسْمَةِ لُحُومِهَا كُلِّهَا وَجُلُودِهَا وجلالها، وَأَنْ لا يُعْطِيَ الْجَازِرَ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى جِزَارَتِهَا، وَأَعْطَى عَلَيْهِ السَّلامُ الأُجْرَةَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنْ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ حَاشَى بَطْنِ عُرَنَةَ، وَأَنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مُوْقِفٌ، حَاشَى بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَأَنَّ مِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ، وَأَنَّ فِجَاجَ مَكَّةَ كُلَّهَا مَنْحَرٌ، ثُمَّ تَطَيَّبَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طواف الإفاضة، ولا حلاله قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ الْمَذْكُورُ، طَيَّبَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ، ثُمَّ نَهَضَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الْمَذْكُورِ نَفْسِهِ، فَطَافَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ طواف الإفاضة،(2/347)
وهو طواف الصدر قبل الظهر، وشر مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِالدَّلْوِ، وَمِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ إِلَى مِنًى، فَصَلَّى الظُّهْرَ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَجَابِرٌ: بَلْ صَلَّى الظُّهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بمكة،
وهذا هو الفضل الذي أشكل علينا لفصل فِيهِ لِصِحَّةِ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ، وَلا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ، وَالثَّانِيَ صَحِيحٌ، وَلا نَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ.
وَطَافَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى بَعِيرِهَا مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَهِيَ شَاكِيَةٌ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهَا، وَطَافَتْ أَيْضًا عَائِشَةُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَفِيهِ طَهُرَتْ، وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَائِضًا أَيْضًا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَطَافَتْ أَيْضًا صَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْلَةَ النَّفْرِ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مِنًى، وَسُئِلَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَئِذٍ عَنْ مَا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالنَّحْرِ وَالإِفَاضَةِ، فَقَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: «لا حَرَجَ» وَكَذَلِكَ قَالَ أَيْضًا فِي تَقْدِيمِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ، وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إِلا الْهَرَمَ، وَعَظَّمَ إِثْمَ مَنِ اقْتَرَضَ عِرْضَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ظُلْمًا، فأقام هنالك باقي يوم السب وَلَيْلَةَ الأَحَدِ، وَيَوْمَ الأَحَدِ وَلَيْلَةَ الاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الاثْنَيْنِ وَلَيْلَةَ الثُّلاثَاءِ، وَيَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَهَذِهِ أَيَّامُ مِنًى، وَهَذِهِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي الْجِمَارَ الثَّلاثَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ لِكُلٍّ جَمْرَةً، يَبْدَأُ بِالدُّنْيَا وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى، وَيَقِفُ عِنْدَهَا لِلدُّعَاءِ طَوِيلا، ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ الْوُسْطَى، وَيَقِفُ أَيْضًا عِنْدَهَا لِلدُّعَاءِ كَذَلِكَ، ثُمَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيُكَبِّرُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَخَطَبَ النَّاسَ أَيْضًا، يَوْمَ الأَحَدِ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ، وهو يوم الرؤوس.
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ خَطَبَهُمْ أَيْضًا يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَهُوَ يَوْمُ الأَكَارِعِ. وَأَوْصَى بِذِي الأَرْحَامِ خَيْرًا، وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ لا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى، وَاسْتَأْذَنَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ فِي الْمَبِيتِ بِمَكَّةَ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأَذِنَ لِلرِّعَاءِ أَيْضًا فِي مِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ نَهَضَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الثُّلاثَاءِ الْمُؤَرَّخِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ إِلَى الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ الأَبْطَحُ، فَضُرِبَتْ بِهَا قُبَّتُهُ، ضَرَبَهَا أَبُو رَافِعٍ مَوْلاهُ، وَكَانَ عَلَى ثِقْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لأُسَامَةَ إِنَّهُ يَنْزِلُ غَدًا بِالْمُحَصَّبِ خَيْفَ بَنِي كِنَانَةَ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي ضَرَبَ فِيهِ أَبُو رَافِعٍ قُبَّتَهُ وَفَاقَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْلَةَ النَّفْرِ بَعْدَ أَنْ أَفَاضَتْ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ: «أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ» ، فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْفِرَ، وَحَكَمَ فِيمَنْ كَانَتْ حَالُهُ كَحَالِهَا أَيْضًا بِذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ السَّلامُ(2/348)
بِالْمُحَصَّبِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الآخِرَةَ مِنْ لَيْلَةِ الأَرْبَعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الأَرْبَعَاءِ الْمَذْكُورَةَ، وَرَقَدَ رَقَدْةً. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ النَّفْرِ رَغِبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ أَنْ يُعْمِرْهَا عُمْرَةً مُفْرَدَةً، فَأَخْبَرَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ مِنْ حَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا، وَأَنَّ طَوَافَهَا يَكْفِيهَا وَيُجْزِئَهَا لِحَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا فَأَبَتْ إِلا أَنْ تُعْمِرَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً، فَقَالَ لَهَا: «أَلَمْ تَكُونِي طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْتِ» ؟ قَالَتْ لا، فَأَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَخَاهَا أَنْ يُرْدِفَهَا وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَفَعَلا ذَلِكَ، وَانْتَظَرَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَعْلَى مَكَّةَ حَتَّى انْصَرَفَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا تِلْكَ، وَقَالَ لَهَا: هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكَ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لا يَنْصَرِفُوا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمُ الطواف بالبيت، وَرَخَّصَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ. لِلْحَائِضِ الَّتِي قَدْ طَافَتْ طَوَافَ الإِفَاضَةِ قَبْلَ حَيْضِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الأَرْبَعَاءِ الْمَذْكُورَةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ، لَمْ يَرْمُلْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ سَحَرًا قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الأَرْبَعَاءِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ كَدًى أَسْفَلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى، وَالْتَقَى بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ نَاهِضٌ إِلَى الطَّوَافِ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ، وَمَضَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ فَوْرِهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى، فَكَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَكَّةَ مُنْذُ دَخَلَهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى مِنًى، إِلَى عَرَفَةَ، إِلَى مُزْدَلِفَةَ، إِلَى مِنًى، إِلَى الْمُحَصَّبِ، إِلَى أَنْ وَجَّهَ رَاجِعًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ بَاتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ كَبَّرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَقَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهو على كل شيء قدير، آئبون تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْمَدِينَةَ نَهَارًا مِنْ طَرِيقِ المعرس، والحمد لله وحده.
وأما عمره عليه السلام فأربع رُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَرْبَعًا، عُمْرَتَهُ الَّتِي صَدَّهُ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَتَهُ أَيْضًا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حِينَ صَالَحُوهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَتَهُ حِينَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَتَهُ مَعَ حَجَّتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمْرَةَ الْجِعِرَّانَةِ [1] كَانَتْ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شوال.
__________
[ (1) ] الجعرانة: ما بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.(2/349)
سَرِيَّةُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى أُبْنَى وَهِيَ أَرْضُ الشُّرَاةِ نَاحِيَةَ الْبَلْقَاءِ
قَالُوا: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ لأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ مُهَاجَرِهِ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَعَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقَالَ: «سِرْ إِلَى مَوْضِعِ مَقْتَلِ أَبِيكَ فَأَوْطِئْهُمُ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجَيْشَ، فَأَغِرْ صَبَاحًا عَلَى أَهْلِ أُبْنَى، وَحَرِّقْ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرِعِ السَّيْرَ تَسْبِقِ الأَخْبَارَ، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وهذ مَعَكَ الأَدِلاءَ، وَقَدِّمِ الْعُيُونَ وَالطَّلائِعَ مَعَكَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَرْبَعَاءِ بُدِئَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَحُمَّ وَصُدِعَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَقَدَ لأُسَامَةَ لِوَاءً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «اغْزُ بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ» فَخَرَجَ بِلِوَائِهِ مَعْقُودًا، فَدَفَعَهُ إِلَى بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الأَسْلَمِيّ، وَعَسْكَرَ بِالْجُرْفِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ وُجُوهِ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَالأَنْصَارِ، إِلا انْتُدِبَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حُرَيْسٍ، فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ وَقَالُوا: يَسْتَعْمِلُ هَذَا الْغُلامَ، عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةً وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الناس، فما قالة بَلَغَتْنِي عَنْ بَعْضِكُمْ فِي تَأْمِيرِي أُسَامَةَ، وَلَئِنْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَتِي أُسَامَةَ لَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إمارتي إياه من قبله، وأيم الله إن كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنَّ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ لخليق للإمارة، إن كَانَ لِمَنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّهُمَا لَمُخَيَّلانِ لِكُلِّ خَيْرٍ- أَيْ لِمَظَنَّةٍ لِكُلِّ خَيْرٍ- فَاسْتَوْصُوا بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ مِنْ خِيَارِكُمْ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ، وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مَعَ أُسَامَةَ يُوَدِّعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَخْرُجُونَ إِلَى الْمُعَسْكَرِ بِالْجُرْفِ، وَثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: «أَنْفِذُوا بعث أسامة» . فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحَدِ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَدَخَلَ أُسَامَةُ مِنْ مُعَسْكَرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْمُورٌ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَدُّوهُ فِيهِ، فَطَأْطَأَ أُسَامَةُ فَقَبَّلَهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَتَكَلَّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَضَعُهُمَا عَلَى أُسَامَةَ، قَالَ أُسَامَةُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي، وَرَجَعَ أُسَامَةُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، ثُمَّ دَخَلَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفِيقًا، فَقَالَ لَهُ: «اغْدُ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ»
فَوَدَّعَهُ أُسَامَةُ وَخَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَبَيْنَا هُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ إِذَا(2/350)
رَسُولُ أُمِّهِ أُمِّ أَيْمَنَ قَدْ جَاءَهُ يَقُولُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمُوتُ، فَأَقْبَلَ وَأَقْبَلَ مَعَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، فَانْتَهَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمُوتُ، فَتُوُفِّيَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ عَسْكَرُوا بِالْجُرْفِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَدَخَلَ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحَصِيبِ بِلِوَاءِ أُسَامَةَ مَعْقُودًا حَتَّى أَتَى بِهِ بَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَرَزَهُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا بُويِعَ، لأَبِي بَكْرٍ أَمَرَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ أَنْ يَذْهَبَ بِاللِّوَاءِ إِلَى بَيْتِ أُسَامَةَ لِيَمْضِيَ لِوَجْهِهِ، فَمَضَى بِهِمْ إِلَى مُعَسْكَرِهِمُ الأَوَّلِ، فَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ كُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي حَبْسِ أُسَامَةَ فَأَبَى، وَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ أُسَامَةَ فِي عُمَرَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ فَفَعَلَ، فَلَمَّا كَانَ هِلالُ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ خَرَجَ أُسَامَةُ، فَسَارَ إِلَى أُبْنَى عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: (يَا مَنْصُورُ أَمِتْ) فَقَتَلَ مَنْ أَشْرَفَ لَهُ، وَسَبَى مَنْ قَدِم عَلَيْهِ، وَحَرَّقَ فِي طَوَائِفِهَا بِالنَّارِ، وَحَرَّقَ مَنَازِلَهُمْ وَحَرْثَهُمْ وَنَخْلَهُمْ، فَصَارَتْ أَعَاصِيرَ مِنَ الدَّخَاخِينَ، وَأَجَالَ الْخَيْلَ فِي عَرَصَاتِهِمْ، وَأَقَامُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَعْبِئَةِ مَا أَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمْ، وَكَانَ أُسَامَةُ عَلَى فَرَسِ أَبِيهِ سُبْحَةَ، وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْغَارَةِ، وَأَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا، وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَمْسَى أَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، ثُمَّ أَغَذَّ السَّيْرَ [1] فَوَرَدُوا وَادِي الْقُرَى فِي تِسْعِ لَيَالٍ، ثُمَّ بَعَثَ بَشِيرًا إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَلامَتِهِمْ، ثُمَّ قَصَدَ بَعْدُ فِي السَّيْرِ، فَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتًّا، وَمَا أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ. وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَلَقَّوْنَهُمْ سُرُورًا بِسَلامَتِهِمْ، وَدَخَلَ عَلَى فَرَسِ أَبِيهِ سُبْحَةَ، وَاللِّوَاءُ أَمَامَهُ يَحْمِلُهُ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحَصِيبِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ، وَبَلَغَ هِرَقْلَ وَهُوَ بِحِمْصَ مَا صَنَعَ أُسَامَةُ، فَبَعَثَ رَابِطَةً يَكُونُونَ بِالْبَلْقَاءِ، فَلَمْ تَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى قَدِمَتِ الْبُعُوثُ إِلى الشَّامِ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ذِكْرُ الْحَوَادِثِ جُمْلَةً بَعْدَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةِ
فِي السَّنَةِ الأُولَى:
جُعِلَتْ صَلاةُ الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَقْدَمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِشَهْرٍ، وَفِيهَا صَلَّى الْجُمُعَةَ حِينَ ارْتَحَلَ مِنْ قُبَاءٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، صَلاهَا فِي طَرِيقِهِ بِبَنِي سَالِمٍ، وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلاهَا، وَأَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا فِي الإِسْلامِ، وَفِيهَا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ وَمَسْجِدَ قُبَاءَ، وَفِيهَا بَدْءُ الآذَانِ، وفيها
__________
[ (1) ] أي أسرع.(2/351)
الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بَعْدَ مَقْدَمِهِ بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيهَا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، ومات أسعد بن زرارة، وأعرس النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ، وَبَعَثَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي ثَلاثِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِي رَمَضَانَ، وَبَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ فِي سِتِّينَ رَجُلا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ، وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْخَرَّارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي عِشْرِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، يَعْتَرِضُ لِعِيرِ قُرَيْشٍ، وَغَزْوَةُ الأَبْوَاءِ، وَغَزْوَةُ وَدَّانَ فِي صَفَرٍ.
وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ:
غَزْوَةُ بُوَاطٍ، وَطَلَبُ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ. وَغَزْوَةُ ذِي الْعَشِيرَةِ، وَسَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ إِلَى نَخْلَةَ، وَغَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى، وَوَفَاةُ رُقَيَّةَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَرِيَّةُ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَرِيَّةُ سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَغَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَغَزْوَةُ السَّوِيقِ، وَغَزْوَةُ كَرْكَرَةِ الْكُدْرِ، وَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ، وَفَرْضُ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَفَرْضُ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمَيْنِ، وَوَفَاةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَشْهَدِهِ بَدْرًا، وَفِيهَا ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ، وَالآخَرُ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَمَوْلِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَوْلِدُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَعْرَسَ عَلِيٌّ بِفَاطِمَةَ.
وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ:
السَّرِيَّةُ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، وَغَزْوَةُ غَطَفَانَ، وَغَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ، وَسَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْقَرَدَةِ، وَغَزْوَةُ أُحُدٍ، وَغَزْوَةُ حَمْرَاءِ الأَسَدِ، وَسَرِيَّةُ أَبِي سَلَمَةَ، إِلَى قَطَنٍ، وَسَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدٍ بِعُرَنَةَ وَبِئْرِ معونة والرجيع، وتزوجيه على السلام حفصة بنت عمر، وَتَزْوِيجُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، وَتَزْوِيجُهُ زينب بنت خزيمة، وتزويج عثمان بن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْلِدُ الْحَسَنِ بْنِ علي، وتحريم الخمر، فِي الرَّابِعَةِ.
وَفِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ:
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَغَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَبَدْرُ الْمَوْعِدِ، وَذَاتُ الرِّقَاعِ، وَصَلاةُ الْخَوْفِ، وَرَجْمُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ الْيَهُودِيَّ وَالْيَهُودِيَّةَ، وَمَوْلِدُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَوَفَاةُ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، وَتَزْوِيجُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أُمَّ سَلَمَةَ، وَتَزْوِيجُهُ أَيْضًا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، عَلَى الأَصَحِّ، وَنُزُولُ الْحِجَابِ.
وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ: غَزْوَةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَغَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ، وَحَدِيثُ الإِفْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلافُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ [1] . وَغَزْوَةُ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَتَزْوِيجُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ يَزِيدَ
__________
[ (1) ] سورة المنافقين: الآية 8.(2/352)
النَّضْرِيَّةَ، وَجُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَرْثِ، وَسَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ إِلَى أَبِي رَافِعٍ، وَسَرِيَّةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى الْقُرَطَاءِ، وَفِيهَا زُلْزِلَتِ الْمَدِينَةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله سيعتبكم فَأَعْتِبُوهُ» . وَفِيهَا سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ.
وَفِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ:
غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ، وَغَزْوَةُ الْغَابَةِ، وَسَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ إِلَى الْغَمْرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ فَأُصِيبُوا، وَبَعَثَ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ فَهَرَبُوا. وَسَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى الْعَيْصِ، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى الْعَيْصِ، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى الطَّرْفِ، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى حَسْمِيٍّ، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى أُمِّ قِرْفَةَ، وَسَرِيَّةُ ابْنِ عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَعَلِيٍّ إِلَى بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَابْنِ عَتِيكٍ إِلَى أَبِي رَافِعٍ عَلَى قَوْلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْخَامِسَةِ. وَسَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ وَسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ لِقَتْلِ أَبِي سُفْيَانَ بِمَكَّةَ، وَعُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَفِيهَا قَحِطَ النَّاسُ، فَاسْتَسْقَى لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُقُوا فِي رَمَضَانَ.
وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ:
غَزْوَةُ خَيْبَرَ، وَسَرِيَّةُ عُمَرَ إِلَى تُرَبَةَ، وَسَرِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى بَنِي كِلابٍ أَوْ فَزَارَةَ، وَبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى بَنِي مُرَّةَ، وَغَالِبٍ اللَّيْثِيِّ إِلَى الْمَيْفَعَةِ، وَبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى يَمَنٍ وَجُبَارٍ، وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ، وَسَرِيَّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَسَرِيَّةُ غَالِبٍ إِلَى بَنِي الْمُلَوَّحِ، وَسَرِيَّتُهُ إِلَى فَدَكَ، وَتَزْوِيجُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَقُدُومُ جَعْفَرٍ مِنَ الْحَبَشَةِ وَأَبِي مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَإِسْلامُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ. وبعثه عليه السلام الرسل إى الْمُلُوكِ، وَاتِّخَاذُ الْخَاتَمِ لِخَتْمِ الْكتب، وَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ.
وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ:
قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَأَسْلَمُوا، وَسَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ، وَكَعْبِ بْنِ عمرو إلى ذات أطلاح، غزوة مؤتة، سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى ذَاتِ السُّلاسِلِ، وسرية لخبط، وَسَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ إِلَى خَضِرَةَ، ثُمَّ إِلَى بطن إضم، غزوة الْفَتْحِ، سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى سُوَاعٍ، وَسَعْدِ بْنِ زيد الأشهلي إلى مناة في رَمَضَانَ، سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جزيمة، غزوة حنين، سرية الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين، غزوة الطائف، سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم، سرية قطبة بن عامر إلى خثعم، بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق، اتخاذ الْمِنْبَرِ وَالْخُطْبَةُ عَلَيْهِ، وَحَنِينُ الْجِذْعِ،(2/353)
وَهُوَ أَوَّلُ مِنْبَرٍ عُمِلَ فِي الإِسْلامِ، وَفِيهَا أَقَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنْ هُذَيْلٍ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، وَمَوْلِدُ إبراهيم بن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَفَاةُ زَيْنَبَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَفِيهَا وَهَبَتْ سَوْدَةُ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ حِينَ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلاقَهَا.
وَفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ:
إِيلاؤُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ نِسَائِهِ، وَسَرِيَّةُ الضَّحَّاكِ إِلَى بَنِي كِلابٍ، وَعَلْقَمَةَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَعَلِيٍّ إِلَى الْفُلْسِ، وَعُكَّاشَةَ إِلَى الْجُنَابِ وَتَبُوكَ، وَهَدْمُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَقُدُومُ الْوُفُودِ، وَلِعَانُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلانِيِّ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَمَوْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَحَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، وَنِدَاءُ عَلِيٍّ بِسُورَةِ بَرَاءَةَ، وَمَوْتُ أُمِّ كُلْثُومٍ، بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْتُ النَّجَاشِيِّ.
وَفِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ:
سَرِيَّةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْمُدَانِ بِنَجْرَانَ، وَعَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ وَنُزُولُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [1] الآية، ونزول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [2] الآيَةَ، وَكَانُوا لا يَفْعَلُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَوْتُ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ نُبْذَةٍ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا نُورِدُهُ هُنَا قَدْ سَبَقَ إِيرَادُهُ لَكِنْ مُفَرَّقًا، وَالْغَرَضُ الآنَ ذِكْرُهُ مَجْمُوعًا كَمَا فَعَلْنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَمِنْ ذلك: القرآن، وهو أعظمهما، وَشَقُّ الصَّدْرِ، وَإِخْبَارُهُ عَنِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَأَنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ تَعَاقَدُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ في صدورهم،
وأقبل حتى قام على رؤوسهم، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»
وَحَصَبَهُمْ، فَمَا أَصَابَ رَجُلا مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَصَى إِلا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَرَمَى يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ فِي وُجُوهِ القوم، وفهزمهم اللَّهُ تَعَالَى، وَنَسَجَ الْعِنْكَبُوتُ عَلَيْهِ فِي الْغَارِ، وما كان من أمر سراقة بن ملك بْنِ جَعْشَمٍ، إِذْ تَبِعَهُ فِي خَبَرِ الْهِجْرَةِ، فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ فِي الأَرْضِ الْجَلْدِ، وَمَسَحَ عَلَى ضَرْعِ عَنَاقٍ وَلَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ فَدَرَّتْ، وَقِصَّةُ شَاةِ أُمِّ مَعَبْدٍ، وَدَعْوَتُهُ لِعُمَرَ أَنْ يُعِزَّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَدَعْوَتُهُ لِعَلِيٍّ أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَهُوَ أَرْمَدُ فَعُوفِيَ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَمْ يَرْمَدْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرَدَّ عَيْنَ قَتَادَةَ بن
__________
[ (1) ] سورة المائدة: الآية 3.
[ (2) ] سورة النور: الآية 58.(2/354)
النعمان بعد أن سالت على خذه فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِالتَّأْوِيلِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَدَعَا لِجَمَلِ جَابِرٍ فَصَارَ سَابِقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْبُوقًا، وَدَعَا لأَنَسٍ بِطُولِ الْعُمُرِ، وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَدَعَا فِي تَمْرِ حَائِطِ جَابِرٍ بِالْبَرَكَةِ فَأَوْفَى غُرَمَاءَهُ، وَفَضَلَ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَسْقًا، وَاسْتَسْقَى عَلَيْهِ السلام فمطروا أسبوعا، ثم استصحى لهم فانجابت السحابة، وَدَعَا عَلَى عُتَيْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَأَكَلَهُ الأَسَدُ بِالزَّرْقَاءِ مِنَ الشَّامِ،
وَشَهِدَتْ لَهُ الشَّجَرُ بِالرِّسَالَةِ فِي خَبَرِ الأَعْرَابِيِّ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الإِسْلامِ فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَاهِدٍ عَلَى مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ هَذِهِ السَّمُرَةُ» [1] ثُمَّ دَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ، فَاسْتَشْهَدَهَا فَشَهِدَتْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ ثَلاثًا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا، وَأَمَرَ شَجَرَتَيْنِ فَاجْتَمَعَتَا ثُمَّ افْتَرَقَتَا، وَأَمَرَ أَنَسًا أَنْ يَنْطَلِقَ إِلَى نَخْلاتٍ فَيَقُولُ لَهُنَّ: أَمَرَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَجْتَمِعْنَ، فَاجْتَمَعْنَ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَهُنَّ بِالْعَوْدِ إِلَى أَمَاكِنِهِنَّ فَعُدْنَ، وَنَامَ فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَيَقْظَ ذُكِرَتْ لَهُ فَقَالَ: «هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فِي أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيَّ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ لَيَالِيَ بُعِثَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ، وَحَنَّ إِلَيْهِ الْجِذْعُ، وَسَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ، وَسَبَّحَ الطَّعَامُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَأَعْلَمَتْهُ الشَّاةُ بِسُمِّهَا، وَشَكَا إِلَيْهِ الْبَعِيرُ قِلَّةَ الْعَلَفِ. وَكَثْرَةِ العلم، وَسَأَلَتْهُ الظَّبْيَةُ أَنْ يُخَلِّصَهَا مِنَ الْحَبْلِ لِتُرْضِعَ وَلَدَيْهَا وَتَعُودَ، فَخَلَّصَهَا فَعَادَتْ، وَتَلَفَّظَتْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَخْبَرَ عَنْ مَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمْ يَعُدْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَصْرَعَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أُمَّتِهِ يَغْزُونَ فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّ أُمَّ حَرَامٍ بِنْتَ مِلْحَانَ مِنْهُمْ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: تُصِيبُهُ بَلْوَى شَدِيدَةٌ فَأَصَابَتْهُ وَقُتِلَ، وَقَالَ لِلأَنْصَارِ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً» فَكَانَتْ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ فِي الْحَسَنِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» فَصَالَحَ مُعَاوِيَةَ، وَحَقَنَ دِمَاءَ الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْبَرَ بِقَتْلِ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الْكَذَّابِ، وَهُوَ بِصَنْعَاءَ لَيْلَةَ قَتْلِهِ وَبِمَنْ قَتَلَهُ، وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: «تَعِيشُ حَمِيدًا وَتُقْتَلُ شَهِيدًا، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَارْتَدَّ رَجُلٌ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ فَبَلَغَهُ أَنَّهُ مَاتَ فَقَالَ: إِنَّ الأَرَضْ لا تَقْبَلُهُ، فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ لِرَجُلٍ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ: «كُلْ بِيَمِينِكَ» فَقَالَ: لا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ لَهُ: «لا اسْتَطَعْتَ» فَلَمْ يُطِقْ أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ. وَدَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَالأَصْنَامُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُعَلَّقَةٌ وَبِيَدِهِ قضيب
__________
[ (1) ] وهو نوع من شجر الطلح.(2/355)
فَجَعَلَ يُشِيرُ بِهِ إِلَيْهَا وَيَقُولُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ» وَهِيَ تَتَسَاقَطُ.
وَقِصَّةُ مَازِنِ بْنِ الغضوبة، وخبر سودا بن قارب: وأمثالهما كَثِيرٌ، وَشَهِدَ الضَّبُّ بِنُبُوَّتِهِ، وَأَطْعَمَ أَلْفًا مِنْ صَاعِ شَعِيرٍ بِالْخَنْدَقِ فَشَبِعُوا، وَالطَّعَامُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ، وَأَطْعَمَهُمْ مِنْ تَمْرٍ يَسِيرٍ أَيْضًا بِالْخَنْدَقِ، وجمع فضل الأزواد على النطع فدعا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَسَمَهَا فِي الْعَسْكَرِ، فَقَامَتْ بِهِمْ، وَأَتَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِتَمَرَاتٍ قَدْ صَفَّهُنَّ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: ادْعُ لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ؟
فَفَعَلَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَخْرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا وَسْقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ حَتَّى انْقَطَعَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَدَعَا أَهْلُ الصُّفَّةِ لِقَصْعَةِ ثَرِيدٍ،
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلَ لِيَدْعُونِي حَتَّى قَامَ الْقَوْمُ، وَلَيْسَ فِي الْقَصْعَةِ إِلَّا الْيَسِيرُ فِي نَوَاحِيهَا فَجَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ لُقْمَةً، فَوَضَعَها عَلَى أَصَابِعِهِ وَقَالَ لِي: «كُلْ بِسْمِ اللَّهِ» ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا زِلْتُ آكُلُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعْتُ، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ حَتَّى شَرِبَ الْقَوْمُ، وتوضئوا وهم ألف وأربعمائة، وَأَتَى بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي الْقَدَحِ فَلَمْ تَسَعْ، فَوَضَعَ أَرْبَعَةً مِنْهَا وَقَالَ: «هلموا فتوضؤا أَجْمَعِينَ»
وَهُمْ مِنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، وَوَرَدَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى مَاءٍ لا يَرْوِي وَاحِدًا وَالْقَوْمُ عِطَاشٌ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ، فَأَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَأَمَرَ بِغَرْسِهِ فِيهِ، فَفَارَ الْمَاءُ وَارْتَوَى الْقَوْمُ، وَكَانُوا ثَلاثِينَ أَلْفًا، وَشَكَا إِلَيْهِ قَوْمٌ مُلُوحَةً فِي مَائِهِمْ، فَجَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بِئْرِهِمْ، فَتَفَلَ فِيهِ فَتَفَجَّرَ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ الْمَعِينِ، وَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِصَبِيٍّ لَهَا أَقْرَعَ، فَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ فَاسْتَوَى شَعْرُهُ فَذَهَبَ دَاؤُهُ، وَانْكَسَرَ سَيْفُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَعْطَاهُ جِذْلا مِنْ حَطَبٍ، فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا، وَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَزَتْ كُدْيَةٌ بِالْخَنْدَقِ عَنْ أَنْ يَأَخْذُهَا الْمِعْوَلُ فَضَرَبَهَا فَصَارَتَ كَثِيبًا أُهِيلَ، وَمَسَحَ عَلَى رِجْلِ ابْنِ عَتِيكٍ فِي خَبَرِ أَبِي رَافِعٍ وَقَدِ انْكَسَرَتْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَكِهَا قَطُّ. وَمُعْجِزَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَهَا كِتَابٌ، أَوْ يَحْصُرَهَا دِيوَانٌ.
ذِكْرُ أَوْلادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ وُلِدَ لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ:
الْقَاسِمُ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، ثُمَّ وُلِدَتْ لَهُ: زَيْنَبُ، ثُمَّ: رُقَيَّةُ، ثُمَّ: فَاطِمَةُ، ثُمَّ: أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ فِي الإِسْلامِ: عَبْدُ اللَّهِ، فَسُمِّيَ الطَّيِّبَ الطَّاهِرَ، وَأُمُّهُمْ جَمِيعًا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْ وَلَدِهِ الْقَاسِمُ. ثم(2/356)
مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ: قَدِ انْقَطَعَ وَلَدُهُ فَهُوَ أَبْتَرُ، فأنزل الله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [1] وَقِيلَ: بَلِ الطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ ابْنَانِ سِوَاهُ وَقِيلَ:
كَانَ لَهُ الطَّاهِرُ وَالْمُطَهَّرُ وُلِدَا فِي بَطْنٍ، وَقِيلَ: كَانَ لَهُ الطَّيِّبُ وَالْمُطَيَّبُ، وُلِدَا فِي بَطْنٍ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كُلُّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ، ثُمَّ زَيْنَبُ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ رُقَيَّةُ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ، هَكَذَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا أَبُو عُمَرَ فَحَكَى عَنِ الزُّبَيْرِ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، ثُمَّ زَيْنَبُ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الطَّيِّبُ، وَيُقَالُ لَهُ: الطَّاهِرُ، وُلِدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ رُقَيَّةُ، هَكَذَا الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاسِمُ بِمَكَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ وَلَدِهِ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ مَاتَ أَيْضًا بِمَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ إسحق: وَلَدَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: زَيْنَبَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةَ، وَالْقَاسِمَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَالطَّاهِرَ، وَالطَّيِّبَ، فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا بَنَاتُهُ فَكُلُّهُنَّ أَدْرَكْنَ الإِسْلامَ وَأَسْلَمْنَ وَهَاجَرْنَ مَعَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيُّ: أَوْلادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْقَاسِمُ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، ثُمَّ زَيْنَبُ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: زَيْنَبُ، ثُمَّ الْقَاسِمُ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ رُقَيَّةُ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَغَيْرُهُ تَخْلِيطٌ، وَكَانَتْ سَلْمَى مَوْلاةُ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تُقَبِّلُ خَدِيجَةَ فِي أَوْلادِهَا، وَكَانَتْ تَعُقُّ عَنْ كُلِّ غُلامٍ بِشَاتَيْنِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ. وَكَانَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ لَهَا سَنَةٌ، وَكَانَتْ تَسْتَرْضِعُ لَهُمْ، وَتَعُدُّ ذَلِكَ قَبْلَ وِلادِهَا. فَأَمَّا زَيْنَبُ فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ خَالَتِهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيًّا، أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَمَاتَ مُرَاهِقًا، وَأُمَامَةَ تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ بَعْدَ خَالَتِهَا فَاطِمَةَ، زَوَّجَهَا مِنْهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَكَانَ أَبُوهَا أَبُو الْعَاصِ أَوْصَى بِهَا إِلَى الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَتْ أُمَامَةُ مِنْهُ قَالَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ النَّخَعِيَّةُ.
أَشَابَ ذُؤَابَتِي وَأَذَلَّ رُكْنِي ... أُمَامَة حِينَ فَارَقَتِ الْقَرِينَا
تُطِيفُ بِهِ لِحَاجَتِهَا إِلَيْهِ ... فَلَمَّا اسْتَيْأَسَتْ رَفَعَتْ رَنِينًا
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عَلِيٍّ الْمُغِيرَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فولدت له
__________
[ (1) ] سورة الكوثر: الآية 3.(2/357)
يَحْيَى بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَهَلَكَتْ عِنْدَهُ، وَقَدْ قِيلَ إنها لم تلد لعلي ولا للمغيرة. ولدت زَيْنَبُ سَنَةَ ثَلاثِينَ مِنْ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهَا، وَكَانَ زَوْجَهَا أَبُو الْعَاصِ مُحِبًّا فِيهَا، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ إِلَى الشَّامِ:
ذَكَرْتُ زَيْنَبَ لَمَّا وَرَّكْتُ أَرَمًا ... فَقُلْتُ سُقْيا لِشَخْصٍ يَسْكُنُ الْحَرَمَا
بِنْتُ الأَمِينِ جَزَاهَا اللَّهُ صَالِحَةً ... وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا
وَأَمَّا رُقَيَّةُ فَتَزَوَّجَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ، مَاتَ بَعْدَهَا، وَقَدْ بَلَغَ سِتَّ سِنِينَ. وَتُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ يَوْمَ قُدُومِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بَشِيرًا بِقَتْلَى بَدْرٍ، وَقِيلَ: كَانَ مَوْلِدُهَا سَنَةَ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ مِنْ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا أُمُّ كُلْثُومٍ فَتَزَّوَجَهَا عُثْمَانُ بَعْدَ مَوْتِ رُقَيَّةَ، وَمَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَمْ تَلِدْ لَهُ. وَأَمَّا فَاطِمَةُ فَتَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ وَبَنَى بِهَا مَرْجِعَهُمْ مِنْ بَدْرٍ فَوَلَدَتْ لَهُ حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَمُحَسِّنًا، مَاتَ صَغِيرًا، وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ، وَمَاتَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ أَبِيهَا بِثَلاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بِسِتَّةٍ، وَقِيلَ: بِثَمَانِيَةٍ، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي مَوْلِدِهَا. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَبْلَ النُّبُوَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيَّ يَقُولُ: وُلِدَتْ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنْ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، قال أبو عمر: وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ دَخَلَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعِنْدَهُ الْكَلْبِيُّ، فَقَالَ هِشَامٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْن حَسَنٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، كَمْ بَلَغَتْ فَاطِمَةُ مِنَ السِّنِّ؟ فَقَالَ: ثَلاثِينَ سَنَةً، فَقَالَ هِشَامٌ لِلْكَلْبِيِّ: كَمْ بَلَغَتْ مِنَ السِّنِّ؟
فَقَالَ خَمْسًا وَثَلاثِينَ سَنَةً، فَقَالَ هِشَامٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: اسْمَعِ الْكَلْبِيَّ يَقُولُ مَا تَسْمَعُ، وَقَدْ عَنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن حسن: يا أمير المؤمنين سلمني عَنْ أُمِّي، وَسَلِ الْكَلْبِيَّ عَنْ أُمِّهِ،
وَكَانَ علي رضي الله عنه قَدْ خَطَبَ عَلَيْهَا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ، فَأَنْكَرَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: وَاللَّهِ لا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا قَالَ: فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن حنبل، فثنا يعقوب بن إبراهيم، فثنا أَبِي عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدّولِيُّ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ لَقِيَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَفِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، وَفِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «وَاللَّهِ لا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» «وَبِنْتُ(2/358)
عَدُوِّ اللَّهِ مَكَانًا وَاحِدًا أَبَدًا» .
قُلْتُ: كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ عَنِ الْمِسْوَرِ وأنا مُحْتَلِمٌ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الْمِسْوَرَ مِمَّنْ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ مَوْلِدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلْم يُدْرِكْ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نحو الثمانية أعوام، ولا يعد من كان هَذِهِ سِنُّهُ مُحْتَلِمًا. وَقَدْ رَوَى الإِسْمَاعِيلِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، فثنا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ يَعْقُوبَ فَذَكَرَهُ بِسَنَدِهِ وَفِيهِ عَنِ الْمِسْوَرِ: (وَأَنَا يَوْمَئِذٍ كَالْمُحْتَلِمِ) يَعْنِي فِي ثَبْتِهِ وَحِفْظِهِ مَا يَسْمَعُهُ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّوَابَ، وَدَارَ الْحَمْلُ فِيهِ عَلَى مَنْ دونَ يَعْقُوبَ بَيْنَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ، وَوَجَدْتُ الطَّبَرَانِيَّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ قَدْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، فَبَرِئَ مُسْلِمٌ مِنْ عُهْدَتِهِ أَيْضًا، كَمَا بَرِئَ يَعْقُوبُ وَمَنْ فَوْقَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحْمَدَ، فَهُوَ حَدِيثٌ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى يَعْقُوبَ، جَوَّدَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ الْقِبْطِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَقَّ عَنْهُ بِكَبْشٍ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، حَلَقَهُ أَبُو هِنْدٍ، فَتَصَدَّقَ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينَ، وَأَمَرَ بِشَعْرِهِ فَدُفِنَ فِي الأَرْضِ، وَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَا قَالَ الزُّبْيَرُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سَمَّاهُ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ، وَكَانَتْ قَابِلَتَهَا سَلْمَى مَوْلاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَتْ إِلَى زَوْجِهَا أَبِي رَافِعٍ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَدْ وَلَدَتْ لَهُ غُلامًا، فَجَاءَ أَبُو رَافِعٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرَهُ فَوَهَبَ لَهُ عَبْدًا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ عشر وقد بلغ ستة شعر شَهْرًا. وَقَدْ قِيلَ فِي سِنِّهِ وَوَفَاتِهِ غَيْرُ ذَلِكَ،
مَاتَ فِي بَنِي مَازِنٍ عِنْدَ ظِئْرِهِ [1] أُمِّ بُرْدَةَ خَوْلَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدٍ وَغَسَّلَتْهُ، وَحُمِلَ مِنْ بَيْتِهَا عَلَى سَرِيرٍ صَغِيرٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، وَقَالَ: «الْحَقْ بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» وَقَالَ: «إِنَّ لَهُ ظِئْرًا تَتِمُّ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ» وَقَالَ: «لَوْ عَاشَ لَوُضِعَتِ الْجِزْيَةُ عَنْ كُلِّ قِبْطِيٍّ» . وَقَالَ: «لو عاش إبراهيم مارق له خال» .
__________
[ (1) ] أي مرضعته.(2/359)
ذِكْرُ أَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ مَنَافٍ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الْكَعْبَةِ، وأم حكيم، وعاتكة، وبرة، وأوى، وَأُمَيْمَةُ وَأُمُّهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَقِيقُ هؤلاء، وقد تقدم ذكره، وحمزة، والمقوم، وحجل وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْعَوَّامُ، وَأُمُّهُمْ هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بِنْتُ عَمِّ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمِّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبَّاسُ، وَضِرَارٌ، وَأُمُّهُمَا نَتْلَةُ، وَقِيلَ: نُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابِ بن كلب بن النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ وَالْحَارِثُ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَشَقِيقُهُ قُثَمُ، وَهَلَكَ قُثَمُ صَغِيرًا، وَأُمُّهُمَا صَفِيَّةُ بِنْتُ جُنْدُبِ بن حجر بْنِ زياب بْنِ حَبِيبِ بْنِ سَوَاءَةَ، وَأَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى، وَأُمُّهُ لُبْنَى بِنْتُ هَاجرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ ضَاطِرِ بْنِ حَبَشِيَّةَ بْنِ سَلُولٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَالْغَيْدَاقُ، وَاسْمُهُ مُصْعَبٌ، وَقِيلَ: نَوْفَلٌ، وَلُقِّبَ الْغَيْدَاقُ لِجُودِهِ، وَأُمُّهُ ممنعَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَأَعْمَامُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ اثْنَا عَشَرَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهُمْ عَشَرَةً، فَيُسْقِطُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: هُوَ المقوم، ويجعل الغيداق وحجلا واحد، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهُمْ تِسْعَةً فَيُسْقِطُ قُثَمَ.
وأما عمامته فَسِتٌّ لا خِلافَ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّهُنَّ بَنَاتُ فَاطِمَةَ الْمَخْزُومِيَّةِ إِلَّا صَفِيَّةَ، فَهِيَ مِنْ هَالَةَ الزُّهْرِيَّةِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النَّسَبِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَرْوَى لِفَاطِمَةَ الْمَخْزُومِيَّةِ.
وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَعْمَامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَّا حَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ حَكَى إِسْلامَ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَأَمَّا الْعَمَّاتُ فَإِسْلامُ صَفِيَّةَ مَعْرُوفٌ مُحَقَّقٌ وَفِي أَرْوَى خِلافٌ. ذَكَرَهَا العقيلي(2/360)
فِي الصَّحَابَةِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ وَأَبَى غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي خَبَرٍ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي إِسْلامِ عَاتِكَةَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَاتِكَةَ لَمْ تُسْلِمْ هِيَ صَاحِبَةُ الرُّؤْيَا يَوْمَ بَدْرٍ. فَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَوَلَدُهُ طَالِبٌ وَعَقِيلٌ وَجَعْفَرٌ وَعَلِيٌّ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلاءِ أَكْبَرَ مِنَ الَّذِي يَلِيهِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَأُخْتُهُمْ أُمُّ هَانِئٍ فَاخِتَةُ أَسْلَمُوا وَيُقَالُ: هِنْدٌ، قِيلَ:
وَحمانَةُ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أُخْتٌ ثَانِيَةٌ لَهُمْ، قَسَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثِينَ وَسْقًا مِنْ خَيْبَرَ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا طَالِبًا.
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ فَوَلَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ، شَهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَبَتَ مَعَهُ، وَكَانَ فَارِسًا مَشْهُورًا، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ابْنُ عَمِّي وَحِبِّي» وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «ابْنُ أُمِّي وَحِبِّي»
قَالَ أَبُو عُمَرَ: لا أَحْفَظُ لَهُ رِوَايَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَتْ أُخْتَاهُ ضُبَاعَةُ، وَأُمُّ الْحَكَمِ، وَكَانَتْ سِنُّهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ سَنَةً، وَقُتِلَ شَهِيدًا بِأَجْنَادِينَ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ بَعْدَ أَنْ أَبْلَى بِهَا بَلاءً حَسَنًا، وَضُبَاعَةُ وَصَفِيَّةُ وَأُمُّ الْحَكَمِ وَأُمُّ الزُّبَيْرِ بَنَاتُ الزُّبَيْرِ، لَهُنَّ صُحْبَةٌ، وَلا عَقِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ هَذَا. وَأَمَّا حَمْزَةُ فَأَسْلَمَ قَدِيمًا وَعَزَّ بِهِ الإِسْلامُ، وَكَفَّتْ قُرَيْشٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَنَالُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُ سَيَمْنَعُهُ، وَكَانَ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ الأَسْلَمِيَّةُ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، وَأُمُّ كُلٍّ مِنْهُمَا ابْنَةُ عَمٍّ لأُمِّ الآخَرِ، شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُحُدًا، وَبِهَا مَاتَ شَهِيدًا، قَتَلَهُ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قِيلَ: كَانَ يُقَاتِلُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَيْفَيْنِ وَيَقُولُ:
أَنَا أَسَدُ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ،
وَرَوَى بِسَنَدِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ حَمْزَةَ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ أَسَدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» .
وَرَوَى أَنَّ حَمْزَةَ قُتِلَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ يَعْلَى وَعُمَارَةُ، وَقَالَ مُصْعَبٌ: وُلِدَ لِحَمْزَةَ خَمْسَةُ رِجَالٍ لِصُلْبِهِ، وَمَاتُوا وَلَمْ يعقبُوا، وَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَلَمْ يُعْقَبْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي حَمْزَةَ إِلَّا يَعْلَى وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ وُلِدَ لَهُ خَمْسَةُ رِجَالٍ لِصُلْبِهِ، وَمَاتُوا وَلَمْ يُعْقَبُوا. وَمِنْ أَوْلادِ حَمْزَةَ أُمَامَةُ، وَيُقَالُ: أَمَةُ اللَّهِ. وَكَانَ الْوَاقِدِيُّ يَقُولُ فِيهَا عُمَارَةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: انْفَرَدَ الْوَاقِدِيُّ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَإِنَّمَا عُمَارَةُ ابْنُهُ لا ابْنَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَلَهُ أَيْضًا ابْنَةٌ تُسَمَّى أُمُّ الْفَضْلِ، وَابْنَةٌ تُسَمَّى فَاطِمَةُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهُمَا وَاحِدَةً، وَفَاطِمَةُ هَذِهِ إِحْدَى الْفَوَاطِمِ الَّتِي قَالَ عليه السلام لعلي وقد بعث له حُلَّةً تَشُقُّهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ، وَهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ أُمُّ عَلِيٍّ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ زَوْجُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَةُ حَمْزَةَ هَذِهِ، وَفَاطِمَةُ ابْنَةُ عُتْبَةَ.(2/361)
وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَيُكَنَّى أَبَا الْفَضْلِ بِابْنِهِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثٍ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ، وَإِلَيْهِ كَانَتْ عُمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالسِّقَايَةُ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْتَرِطَ لَهُ عَلَى الأَنْصَارِ، وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ مُكْرِهًا، وَفَدَى يَوْمَئِذٍ نَفْسَهُ، وَعَقِيلا وَنَوْفلا ابْنَيْ أَخَوَيْهِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَارِثِ وَأَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلامَهُ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَظْهَرَهُ، وَقِيلَ: أَسْلَمَ قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ، وَشَهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَثَبَتَ. وَهُوَ الْقَائِلُ:
أَلَا هَلْ أَتَى عِرْسِي مَكَرِّي وَمَقْدَمِي ... بِوَادِي حُنَيْنٍ وَالأَسِنَّةُ تَشْرَعُ
وَكَيْفَ رَدَدْتُ الْخَيْلَ وَهِيَ مُغِيرَةٌ ... بِزَوْرَاءَ تُعْطِي فِي الْيَدَيْنِ وَتَمْنَعُ
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ سَبْعَة ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا
وَثَامِنُنَا لاقَى الْحِمَامَ بِسَيْفِهِ ... بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لا يَتَوَجَّعُ
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِ: «الْعَبَّاسُ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا» .
وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمْ يَمُرَّ بِعُمَرَ وَلا بِعُثْمَانَ وَهِمَا رَاكِبَانِ إِلَّا نَزَلا حَتَّى يَجُوزَ إِجْلالا لَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجِلُّهُ، وَاسْتَسْقَى بِهِ عُمَرُ عَامَ الرّمَادَةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فَسُقُوا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
بِعَمِّي سَقَى اللَّهُ الْحِجَازَ وَأَهْلَهُ ... عَشِيَّةَ يَسْتَسْقِي بِشَيْبَتِهِ عمر
توجه بالعباس في الجدب راغبا ... فماكر حتى جاء بالديمة المطر
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَهُوَ يَسْتَسْقِي: اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّاعِي لا تُهْمِلُ الضَّالَّةَ، وَلا تَدَعَ الْكَبِيرَ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ، فَقَدْ ضَرَعَ الصَّغِيرُ، وَرَقَّ الْكَبِيرُ، وَارْتَفَعَتِ الشَّكْوَى، فَأَنْتَ تَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُمَّ فَأَغِثْهُمْ بِغِيَاثِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْنِطُوا فَيَهْلِكُوا، فَإِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رُوحِكَ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. وَفَضَائِلُ الْعَبَّاسِ كَثِيرَةٌ وَمَنَاقِبُهُ مَشْهُورَةٌ، تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ، وَقِيلَ فِي وَفَاتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ. وَوُلِدَ الْعَبَّاسُ سَبْعَةً لأُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ نَسَبِهَا عِنْدَ ذِكْرِ أُخْتِهَا مَيْمُونَةَ فِي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ: الْفَضْلُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَمَعْبَدٌ، وَقُثَمُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ شَقِيقَتُهُمْ، وَتَمَّامٌ، وَكَثِيرٌ، لأُمِّ وَلَدٍ، وَالْحَارِثُ وَأُمُّهُ مِنْ هُذَيْلٍ، وَعَوْنُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ أُمِّهِ، قَالَ، وَكُلُّ بَنِي الْعَبَّاسِ لَهُمْ رِوَايَةٍ، وَلِلْفَضْلِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ سَمَاعٌ وَرِوَايَةٌ. وَكَانَ الْفَضْلُ أَكْبَرَهُمْ، وَتَمَّامٌ أَصْغَرَهُمْ،
وَقَدْ رَوَى تَمَّامٌ(2/362)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُلَّحًا [1] اسْتَاكُوا» .
وَكَانَ الْفَضْلُ جَمِيلا، وَعَبْدُ اللَّهِ عَالِمًا وَعُبَيْدُ اللَّهِ سَخِيًّا جَوَّادًا، وَكَانَ تَمَّامٌ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَطْشًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَحْمِلُ تَمَّامًا وَيَقُولُ:
تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرَهْ ... يَا رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ كِرَامًا بَرَرَهْ
وَاجْعَلْ لَهُمْ ذِكْرًا وَأَنْمِ الثَّمَرَهْ
وَيُقَالُ: مَا رُؤِيَتْ قُبُورٌ أَشَدَّ تَبَاعُدًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنْ قُبُورِ بَنِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. اسْتَشْهَدَ الْفَضْلُ بِأَجْنَادِينَ، وَمَاتَ مَعْبَدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإِفْرِيقِيَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بِالطَّائِفِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بِالْيَمَنِ، وَقُثَمُ بِسَمَرَقَنْدَ، وَكَثِيرٌ بِالْيَنْبُعِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي ذَلِكَ خِلافٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ. وَأَمَّا الْحَارِثُ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى.
قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمْ يُدْرِكِ الإِسْلامَ، وَأَسْلَمَ مِنْ أَوْلادِهِ أَرْبَعَةٌ: نَوْفَلٌ، وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ، فَكَانَ نَوْفَلٌ أَسَنَّ إِخْوَتِهِ، وَأَسَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْمُغِيرَةُ فِيهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ فِي الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ خَامِسًا لَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْمُغِيرَةَ اسْمَ أَبِي سُفْيَانَ، وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ، يَعْنِي أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَأَمَّا أَبُو لَهَبٍ فَأَبُوهُ كَنَّاهُ بِذَلِكَ لَحُسْنِ وَجْهِهِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: كُنِّيَ بِأَبِي لَهَبٍ مقدمَةً لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهَبِ، وَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ فِيهِ لا يَشُكُّ مُؤْمِنٌ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ- يَعْنِي الْمَوْجُودِينَ- فَإِنَّ الأَطْمَاعَ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنْ إِسْلامِهِمْ. وَامْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، اسْمُهَا الْعَوْرَاءُ، فَوَلَدَ أَبُو لَهَبٍ عُتْبَةَ وَمُعَتِّبًا، شَهِدَا حُنَيْنًا وَثَبَتَا فِيهِ، وَأُخْتُهُمَا دُرَّةُ، لَهَا صُحْبَةٌ، وَأَخُوهُمْ عُتَيْبَةَ، قَتَلَهُ الأَسَدُ بِالزَّرْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عُتْبَةَ المكبر عقير الأسد، وعتبة الصَّحَابِيَّ، وَالْمَشْهُورُ الأَوَّلُ. وَأَمَّا ضِرَارٌ فَإِنَّهُ مَاتَ أَيَّامَ أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَ مِنْ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ جَمَالا وَسَخَاءً. وَأَمَّا الْغيدَاقُ فَكَانَ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مالا، وكان جوادا. وأما المقوم وجحل فَوُلِدَ لَهُمَا وَانْقَطَعَ الْعَقِبُ مِنْهُمَا. وَأَمَّا عَبْدُ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يُدْرِكِ الإِسْلامَ وَلَمْ يَعْقُبْ. وَأَمَّا قُثَمُ فَهَلَكَ صَغِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا أُمُّ حَكِيمٍ وَهِيَ الْبَيْضَاءُ فَكَانَتْ عِنْدَ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَامِرًا، وَبَنَاتٍ مِنْهُنَّ أروى أم عثمان بن عفان، وهي توأمة عَبْدِ اللَّهِ وَالِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِلافٍ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ التي وضعت جفنة
__________
[ (1) ] الفلج: صفرة أو خضرة تعلو الأسنان.(2/363)
الطِّيبِ لِلْمُطَّيِّبِينَ فِي حِلْفِهِمْ، وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي لَحَصَانٌ [1] فَمَا أُكَلَّمُ، وَصَنَاعٌ [2] فَمَا أُعَلَّمُ. وَأَمَّا عَاتِكَةُ فَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ لَهُ صُحْبَةٌ، وَزُهَيْرًا وَقُرَيْبَةَ، مُخْتَلِفٌ فِي صُحْبَتِهِمَا، وَهُمْ إِخْوَةُ أُمِّ سَلَمَةَ لأَبِيهَا، وَهِيَ صَاحِبَةُ الرُّؤْيَا بِمَكَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمْتَ. وَأَمَّا بُرَّةُ فَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا سَبْرَةَ لَهُ صُحْبَةٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ الأَسَدِ بْنُ هِلالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ أَبِي رُهْمٍ، فَوَلَدَتْ لِعَبْدِ الأَسَدِ أَبَا سَلَمَةَ عَبْدَ اللَّهِ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، تُوُفِّيَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَهُ. وَأَمَّا أُمَيْمَةُ فَكَانَتْ عِنْدَ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بْنِ خُزَيْمَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُجَدَّعَ فِي اللَّهِ بِدُعَائِهِ الْمَقْتُولَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَبَا أَحْمَدَ الشَّاعِرَ الأَعْمَى، وَعُبَيْدَ اللَّهِ أَسْلَمَا أَيْضًا، وَهَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ تَنَصَّرَ هُنَالِكَ عُبَيْدُ اللَّهِ. وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَحَمْنَةُ وَكَانَتْ عِنْدَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا وَعِمْرَانَ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَتْ مِمَّنْ خَاضَ فِي حَدِيثِ الإِفْكِ وَجُلِدَ فِيهِ، إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ جُلِدُوا، وَتُكَنَّى حَمْنَةُ، هَذِهِ أُمّ حَبِيبَةَ عِنْدَ قَوْمٍ، وَعِنْدَ الأَكْثَرِينَ أُمُّ حَبِيبَةَ غَيْرُهَا، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ. حَدِيثُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هُنَّ زَيْنَبُ وَحَمْنَةُ وَأُمُّ حَبِيبٍ، وَيَعُدُّ مَا عَدَا ذَلِكَ وَهْمًا، وَقَيَّدَهُ بِخَطِّهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْفَوَائِدِ الَّتِي كَتَبَهَا عَلَى نُسْخَتِهِ، وَقَدْ عَلَّقْتُ عند هَذِهِ الْفَوَائِد. وَأَمَّا أَرْوَى فَمُخْتَلَفٌ فِي إِسْلامِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ فِي خَبَرٍ يُسْنِدُهُ أَنَّ ابْنَهَا طُلَيْبَ بْنَ عُمَيْرٍ حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ فَوَافَقَتْهُ وَأَسْلَمَتْ، وَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تُعَاضِدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحُضُّ ابْنَهَا عَلَى نُصْرَتِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، فَوَلَدَتْ لَهُ طُلَيْبَ بْنَ عُمَيْرٍ كَانَ بَدْرِيًّا مِنْ فُضَلاءِ الصَّحَابَةِ وَقُتِلَ بِأَجْنَادِينَ شَهِيدًا وَلا عَقِبَ لَهُ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا كِلْدَةُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
__________
[ (1) ] أي عفيفة.
[ (2) ] أي ذات صنعة وعمل.(2/364)
عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ- وَهُوَ عِنْدَ أَبِي عُمَرَ كِلْدَةُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ- فَوَلَدَتْ لَهُ فَاطِمَةَ. وَرَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي عُمَرَ: أَرْوَى، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَوَلَدَتْ فَاطِمَةُ هَذِهِ زَيْنَبَ بَنْتَ أَرْطَاةَ بْنِ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا، فَوَلَدَتْ زَيْنَبُ كَيِّسَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ زَوْجَ مُسَيْلِمَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْكَذَّابِ،
ثُمَّ خَلَفَ عَلَى كَيِّسَةَ ابْنُ عَمِّهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَوَّذَهُ وَتَفَلَ فِي فِيهِ فَجَعَلَ يَتَسَوَّغُ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنَّهُ لَمُسْقَى» فَكَانَ لَا يُعَالِجُ أَرْضًا إِلَّا ظَهَرَ لَهُ الْمَاءُ،
وَهُوَ الَّذِي عَمِلَ السِّقَايَاتِ بِعَرَفَةَ، وَشَقَّ نهر البصرة، وجمع لَهُ عُثْمَانُ بَيْنَ وِلايَةِ الْبَصْرَةِ وَفَارِسَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَخِيًّا جَوَّادًا، وَفِيهِ يَقُولُ زِيَادٌ الأَعْجَمُ:
أَخٌ لَكَ لا تَرَاهُ الدَّهْرَ إِلَّا ... عَلَى الْعلاتِ مُبْتَسِمًا جَوَّادَا
أَخٌ لَكَ مَا مَوَّدَتُهُ بِمذقٍ ... إِذَا مَا عَادَ فَقْر أَخِيهِ عَادَا
سَأَلْنَاهُ الْجَزِيلَ فَمَا تلكى ... وَأَعْطَى فَوْقَ مَنِيَّتِنَا وَزَادَا
وَأَحْسَنَ ثُمَّ أَحْسَنَ ثُمَّ عُدْنَا ... فَأَحْسَنَ ثُمَّ عُدْتُ لَهُ فَعَادَا
مِرَارًا مَا رَجَعْتُ إِلَيْهِ إِلَّا ... تَبَسَّمَ ضَاحِكًا وَثَنِيَ الْوِسَادَا
وَأَمَّا صَفِيَّةُ فَأَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، وَكَانَتْ عند الحرث بْنِ حَرْبٍ أَخِي أَبِي سُفَيْانَ بْنِ حَرْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ صَيْفِيَّ بْنَ الْحَارِثِ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا الْعَوَّامُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، فَوَلَدَتْ لَهُ الزُّبَيْرَ وَالسَّائِبَ صَحَابِيَّيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَعَبْدَ الْكَعْبَةِ، وَأُمَّ حَبِيبٍ، تَزَوَّجَهَا خَالِدُ بْنُ جِزَامٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ حُسَيْنٍ لا عَقِبَ لَهَا. تُوُفِّيَتْ صَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةَ عِشْرِينَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ وَلَهَا ثلاث وسبعون سنة.
ذكر فوائد تتعلق بهذا الفصل سوى ما تقدم
حجل: بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ السِّقَاءُ الضَّخْمُ، قَالَ ابْن دُرَيْدٍ: وَاسْمُهُ مُصْعَبٌ، وَجَحْلٌ لَقَبٌ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ: اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ، كَمَا سَبَقَ وَالْجَحْلُ نُوعٌ مِنَ الْيَعَاسِيبِ، عَنْ صَاحِبِ الْعَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ شَيْءٍ ضَخْمٌ فَهُوَ جَحْلٌ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَكَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ يَقُولُ: هُوَ حَجْلٌ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ، وَيُفَسَّرُ بِالْخلْخَالِ أَوِ الْقَيْدِ. وَقُثَمُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَقِيقُ الْحَارِثِ، وَكَانَ ابن قدامة يقول والحارث لا شَقِيقَ لَهُ،(2/365)
وَالَّذِي رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ يُسْنِدُهُ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ قُثَمَ شَقِيقُ الْعَبَّاسِ وَضِرَارٍ. قَالَ ابْن سِيدَةَ: قَثَمَ الشَّيْءَ يَقْثِمُهُ قَثْمًا جَمَعَهُ وَيُقَالُ: قِثَامٌ، أَيْ أَقْثَمَ، مُطْرَدٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَمَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَقَثَمَ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ قَثْمًا أَكْثَرَ، وَقُثَمُ اسْمُ رَجُلٍ مُشْتَقٌّ مِنْهُ.
وَقثامٌ مِنْ أَسْمَاءِ الضَّبُعِ، وَقُثَمُ الذَّكَرُ مِنَ الضِّبَاعِ، وَكِلاهُمَا مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلٍ وَفَاعِلَةٍ، وقد تكرر هذا الإسلام لابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَالِيًا لِعَلِيٍّ عَلَى مَكَّةَ، أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا لَهُ وَاسْتُشْهِدَ بِسَمَرْقَنْدَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
وَقَالَ الزُّبَيْرُ فِي الشِّعْرِ الَّذِي أَوَّلُهُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
أنه قال بَعْضُ شُعَرَاءِ الْمَدِينَةِ فِي قُثَمَ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَزَادَ الزُّبَيْرُ فِي الشِّعْرِ بَيْتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ:
كَمْ صَارِخٍ بِكَ مَكْرُوبٍ وَصَارِخَةٍ ... يَدْعُوكَ يَا قُثَمُ الْخَيْرَاتِ يَا قُثَمُ
قَالَ: وَلا يَصِحُّ فِي قُثَمِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَذَلِكَ شِعْرٌ آخَرُ عَلَى عَرُوضِهِ وَقَافِيَتِهِ. وَمَا قَالَهُ الزُّبَيْرُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِي قُثَمَ بْنِ الْعَبَّاسِ هَذَا يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ أَسْلَمَ:
عتقتِ مِنْ حِلِّي وَمِنْ رِحْلَتِي ... يَا نَاقُ إِنْ بَلَغْتَنِي مِنْ قُثَمْ
إِنَّكَ إِنْ أَدْنَيْتَ مِنْهُ غَدًا ... خَالَفَنِي الْبُؤْسُ وَمَاتَ الْعَدَمْ
فِي كَفِّهِ بَحْرٌ وَفِي وَجْهِهِ ... بَدْرٌ وَفِي الْعرنينِ مِنْهُ شَمَمْ
أَصَمُّ عَنْ قِيلِ الْخنَا سَمْعُهُ ... وَمَا عَنِ الْخَيْرِ بِهِ مِنْ صَمَمْ
لَمْ يَدْرِ مَا «لا» ، وَبلى قَدْ دَرَى ... فَعَافَهَا وَاعْتَاضَ مِنْهَا «نَعَمْ»
كَذَا قَالَ أَبُو عُمَر، وَإِنَّمَا الشِّعْرُ فِي قُثَمَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْن عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ وَالِيًا عَلَى الْيَمَامَةِ لأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ دَاوُدُ بْنُ أَسْلَمَ مِنْ شُعَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ فَأَيْنَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الزمان. وتقدم ذكر أبي سفيان بن الحرث،
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «أَبُو سُفْيَانَ خَيْرُ أَهْلِي» أَوْ «مِنْ خَيْرِ أَهْلِي» وَفِيهِ كَانَ يَقُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «كُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا» .
وَقِيلَ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ أَخَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ فَارِسًا مَشْهُورًا، وَشَاعِرًا مَطْبُوعًا، أَنْشَدَ لَهُ أَبُو عُمَرَ:(2/366)
لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ غَيْرَ فَخْرٍ ... بِأَنَّا نَحْنُ أَجْوَدُهُمْ حَصانًا
وَأَكْثَرَهُمْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ ... وَأَمْضَاهُمْ إِذَا طعنوا سنانا
وأدفعهم لدى الضَّرَّاءِ عَنْهُمْ ... وَأَبْيَنَهُمْ إِذَا نَطَقُوا لِسَانًا
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَانَ أَحَدَ الْخَمْسَةِ الْمُشَبَّهِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ بْن عَلِيٍّ، وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَالسَّائِبُ بْن عُبَيْدِ بْنِ عَبْد يَزِيدَ بْن هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَى السَّائِبِ هَذَا يُنْسَبُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: فَقُلْتُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا:
بِخَمْسَةٍ شُبِّهَ الْمُخْتَارُ مِنْ مُضَرَ ... يَا حُسْن مَا خَوَّلُوا مَنْ شبهُهُ الْحسنُ
بِجَعْفَرٍ وَابْنِ عَمِّ الْمُصْطَفَى قُثَمَ ... وَسَائِبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنِ
قُلْتُ: وَمِمَّنْ كَانَ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَغِيرًا، فَقَالَ: هَذَا شَبَهُنَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ إِذَا رَآهُ: «يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ هَذَا أَشْبَهُ بِنَا مِنْهُ بِكُمْ» .
وَأَبُو لَهَبٍ اسْمُهُ:
لُبْنَى، كَذَا هُوَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، وَفَسَّرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِشَيْءٍ يَتَمَيَّعُ مِنْ بَعْضِ الشَّجَرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: وَيُقَالُ لِبَعْضِهِ: الْمَيْعَةُ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي اسْمِ أُمِّهِ لُبَّى، عَلَى وَزْنِ فُعْلَى مِنَ اللُّبِّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي حبَّى مِنَ الْحبِّ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: بِنْتُ هَاجِرٍ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) .
ذِكْرُ أَزْوَاجِهِ وَسَرَارِيهِ سَلامُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِنَّ
رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ لخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «مَا تَزَوَّجْتُ شَيْئًا مِنْ نِسَائِي وَلا زَوَّجْتُ شَيْئًا مِنْ بَنَاتِي إِلَّا بِوَحْيٍ جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ عَنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» .
فَأَوَّلُ مَنْ تَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. ثُمَّ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْن لُؤَيٍّ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ:
تَزَوَّجَ عَائِشَةَ قَبْلَهَا، وَأَصْدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سودة أربعمائة، وَأُمُّهَا: الشُّمُوسُ بِنْتُ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِنْتُ أخي سلمى(2/367)
بِنْتِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ السكرانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدٍّ أَخِي سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ وَسُلَيْطٍ وَحَاطِبٍ، وَلِكُلِّهِمْ صُحْبَةٌ، وَهَاجَرَ بِهَا السّكرَانُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَة الثَّانِيَة ثُمَّ رَجَعَ بِهَا إِلَى مَكَّةَ، فَمَاتَ عَنْهَا، فَلَمَّا حَلَّتْ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: فِي الثَّامِنَةِ، وَمَاتَتْ بَعْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي وَفَاتِهَا، وَابْنُ سَعْدٍ يَقُولُ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ فِي خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ قَدْ كَبِرَتْ عِنْدَهُ فَأَرَادَ طَلاقَهَا، فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَأَمْسَكَهَا، وَقِيلَ: بل طلقها وراجعها، والصحيح الأول، قاله الدِّمْيَاطِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: أَسَنَّتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَمَّ بِطَلاقِهَا، فَقَالَتْ: لا تُطَلِّقْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي، فَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أُحْشَرَ فِي أَزْوَاجِكَ، وَإِنِّي قَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، وَإِنِّي لا أُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ، فَأَمْسَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْهَا.
ثُمَّ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، اكْتَنَتْ بِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا بِذَلِكَ، وَأُمُّهَا أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِر بْنِ عُوَيْمِرٍ، وَقِيلَ: بِنْتُ عُمَيْرِ بْنِ عَامِرٍ مِنْ بَنِي دَهْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ. كَانَتْ تُسَمَّى لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، فَسَلَّهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْهُمْ وَزَوَّجَهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَبَنَى بِي، وَأَنَا بِنْتُ تِسْعٍ، وَقُبِضَ عَنِّي، وَأَنَا بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. وَتَزَّوَجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ إِلَى مَكَّةَ يَأْتِيَانِ بِعِيَالِهِ، سَوْدَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةَ وَأُمِّ أَيْمَنَ وَابْنِهَا أُسَامَةَ وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بكير بِعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ أُمِّ رُومَانَ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاء فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَنْزَلَهُمْ فِي بَيْتٍ لِحَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَبْنِي مَسْجِدَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ بَنَى بَيْتًا لِعَائِشَةَ، وَبَيْتًا لِسَوْدَةَ، وَأَعْرَسَ بِعَائِشَةَ، فِي شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجِرِهِ، وَقِيلَ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَكَانَ مُقَامُهُ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ إِلَى أَنْ تَحَوَّلَ إِلَى مَسَاكِنِهِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَقُبِضَ عَنْهَا، وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، يُقَالُ: أَنَّهَا أَتَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَقْطٍ، وَلا يَثْبُتُ، وَكَانَتْ فَضَائِلُهَا جَمَّةً، وَمَنَاقِبُهَا كَثِيرَةً،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ(2/368)
كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» وَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النِّسَاءِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ» ، قِيلَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: «أَبُوهَا» .
وَنَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقُبِضَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: وَرَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَكَابِرَ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: كَانَتْ عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَأَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا فِي الْعَامَّةِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِفِقْهٍ وَلا بِطِبٍّ وَلا بِشِعْرٍ مِنْ عَائِشَةَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْ جُمِعَ عِلْمُ جَمِيعِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمُ جَمِيعِ النِّسَاءِ لَكَانَ عِلْمُ عَائِشَةَ أَفْضَلَ. وَفِيهَا يَقُولُ حَسَّانٌ يَمْدَحُهَا وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهَا:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَي مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ أَصْلٍ [1] مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامُ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خَيْمَهَا [2] ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ بَغْيٍ وَبَاطِلِ
فَإِنْ كَانَ مَا قَدْ قِيلَ عَنِّي قُلْتُهُ ... فَلا رَفَعْت سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِ
تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ لَيْلا. وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا: الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ عَمِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبْيَرِ، وَقَدْ قَارَبَتْ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَوْلِدُهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ النُّبُوَّةِ.
ثُمَّ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّهَا قُدَامَةُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، وَهِيَ شَقِيقَةُ عَبِْد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَسَنُّ مِنْهُ، مَوْلِدُهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، كَانَتْ تَحْتَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا مِنْ جِرَاحَاتٍ أَصَابَتْهُ بِبَدْرٍ، وَقِيلَ: بِأُحُدٍ، وَالأَوَّلُ أَشْهَرُ.
فَتَزَوَّجَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلاثِينَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجِرِهِ عَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ أَوْ بَعْدَ أُحُدٍ عَلَى الثَّانِي. وَكَانَ عُمَرُ قَدْ عَرَضَهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ كَلِمَة، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى عُثْمَانَ حِينَ مَاتَتْ رُقَيَّةُ، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ الْيَوْمَ،
فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَكَا
__________
[ (1) ] سيدة القوم.
[ (2) ] أي طبيعتها وسجيتها.(2/369)
إِلَيْهِ عُثْمَانَ، وَأَخْبَرَهُ بِعَرْضِ حَفْصَةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَتَزَوَّجُ حَفْصَةُ خَيْرًا مِنْ عُثْمَانَ، وَيَتَزَوَّجُ عُثْمَانُ خَيْرًا مِنْ حَفْصَةَ» ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَفْصَةَ، وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عُثْمَانَ، وَطَلَّقَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَفْصَةَ تَطْلِيقَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ، وَمِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِعُمَرَ وَابْنَته بَعْدهَا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُرَاجِعَ حَفْصَةَ، رَحْمَةً لِعُمَرَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَانِيَةً، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لا تُطَلِّقْهَا، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ الْحَدِيثَ،
تُوُفِّيَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، وَحَمَلَ سَرِيرَهَا بَعْضَ الطَّرِيقِ، ثُّمَ حَمَلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى قَبْرِهَا، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا عَبْدُ اللَّهِ وَعَاصِمٌ ابنا عمر، وسالم وعبد الله وحمزة بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ بَلَغَتْ ثَلاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَتْ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَأَوْصَتْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا بِمَا أَوْصَى إِلَيْهَا عُمَرُ، وَبِصَدَقَةٍ تَصَدَّقَتْ بِهَا بِمَالٍ وَقَفتْهُ بِالْغَابَةِ.
ثُمَّ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بن عبد الله بن عمرو بن مَنَافِ بْنِ هِلالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ حَفْصَةَ بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، كَانَتْ تُدْعَى أُمَّ الْمَسَاكِينَ لِرَأْفَتِهَا بِهِمْ، كَانَتْ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ، فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَخُوهُ عُبَيْدَةُ، فَقُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ شَهِيدًا كَمَا سَبَقَ فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ أَحَدٍ وَثَلاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَتُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةٍ وَثَلاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَنَهَا بِالْبَقِيعِ، وَقَدْ بَلَغَتْ ثَلاثِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا. وَلَمْ يَمُتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا هِيَ وَخَدِيجَةُ، وَفِي رَيْحَانَةَ خلاف، وقال أَبُو عُمَرَ: كَانَتْ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، حَكَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: وَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ ثَلاثٍ، وَلَمْ تَلْبُثْ عِنْدَهُ إِلَّا يَسِيرًا شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ أخت ميمونة لأمتها قَالَ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَلَمَّا خَطَبَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ فَتَزَوَّجَهَا، وَاشهدوا صَداقَهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّة وَنَشًّا [1] ،
وَأَرَادَتْ أَنْ تَعْتِقَ جَارِيَةً لَهَا سَوْدَاءَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا
__________
[ (1) ] أي عشرون درهما.(2/370)
تَفْدِينَ بِهَا بَنِي أَخِيكِ» أَوْ أُخْتِكِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ» .
ثُمَّ أُمُّ سَلَمَةَ وَاسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الأَسَدِ، وهما أول من هاجر إلى أرض الحشة، وَلَدَتْ لَهُ بُرَّةَ، سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ، وَسَلَمَةَ، وَعُمَرَ، وَدُرَّةَ، شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَرُمِيَ بِهَا بِسَهْمٍ فِي عَضُدِهِ، فَمَكَث شَهْرًا يُدَاوِيهِ، ثُمَّ بَرَأَ الْجَرْحُ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِلالِ الْمُحَرَّمِ، عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلاثِينَ شَهْرًا، مِنْ مُهَاجِرِهِ، وَبَعَثَ مَعَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِلَى قَطَنٍ وَهُوَ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ فِيدَ، فَغَابَ تِسْعًا وعشرين ليلة، ثم رجع إلى المدينة، فانتقض جُرْحُهُ فَمَاتَ مِنْهُ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ، فَاعْتَدَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَحَلَّتْ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، فَتَزَوَّجَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ الْمَذْكُور، وَأَبُو عُمَرَ يَقُولُ:
تَزَوَّجَهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لأَنَّهُ قَالَ فِي وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّهَا فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَلاثٍ، وَهُوَ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ عُدَّتِهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بِالْوَفَاةِ،
وَقَالَ لَهَا: «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ وَسَبَّعْتُ لِنِسَائِي، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ وَدُرْتُ» فَقَالَتْ: بَلْ ثَلِّثْ. وَخَطَبَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَتْ: إِنِّي مُسِنَّةٌ وَذَاتُ أَيْتَامٍ وَشَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ، فَقَالَ: «أَنَا أَسَنُّ مِنْكِ وَعِيَالُكِ عِيَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَدْعُو اللَّهَ لَكِ فَيُذْهِبُ عَنْكِ الْغَيْرَةَ» فَدَعَا لَهَا فَكَانَ كَذَلِكَ.
تُوُفِّيَتْ فِي خِلافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ سِتِّينَ عَلَى الصَّحِيحِ. وأمها عاتكة بت عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ فِرَاسٍ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسم سَلَمَةَ: رَمْلَةُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
ثُمَّ زَيْنَبُ بِنْتُ جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن داود بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَكَانَ اسْمُهَا بُرَّةَ، فَسَمَّاهَا زَيْنَبَ. أُمُّهَا أُمَيْمَةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت قَبْلَهُ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، مَوْلاهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا حَلَّتْ زَوَّجَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا مِنَ لسماء سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلاثٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بِنْتُ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، وَأَطْعَمَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَفِيهَا نَزَلَ الْحِجَابُ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّه فِي حَقِّهَا: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [1] وَلَمَّا تَزَوَّجَهَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: حَرَّمَ مُحَمَّدٌ نِسَاءَ الْوَلَدِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [2] الآية، وقال:
__________
[ (1) ] سورة الأحزاب: الآية 37.
[ (2) ] سورة الأحزاب: الآية 40.(2/371)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [1] فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، تَقُولُ: آبَاؤُكُنَّ أَنْكَحُوكُنَّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أنكحني إياه فوق سبع سموات وَغَضِبَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهَا لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ: تِلْكَ الْيَهُودِيَّةُ، فَهَجَرَهَا لِذَلِكَ ذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ، ثُمَّ أَتَاهَا، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ وَالإِيثَارِ، وَهِيَ أَوَّلُ نِسَائِهِ لُحُوقًا بِهِ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ عِشْرِينَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: هِيَ الَّتِي تُسَامِينِي فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رَأَيْتُ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي حَقِّهَا: «إِنَّهَا لأَوَّاهَةٌ» قَالَ رَجُلٌ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الأَوَّاهُ؟ قَالَ: «الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» .
ثُمَّ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُذَيْمَةَ، وَهُوَ الْمُصْطَلِقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ربيعة بن حارثة بن عمرو من يقياء بْنِ عَامِرٍ مَاء السَّمَاءِ، سَبَاهَا يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، كَاتَبَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقِي، فَأَدَّى عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَتْ جويرية من ملك اليمن، فَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ وَتَزَوَّجَهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جُوَيْرِيَةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَقِيلَ: جَاءَ أَبُوهَا فَافْتَدَاهَا ثُمَّ أَنْكَحَهَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ اسْمُهَا: بُرَّةَ، فَحَوَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّاهَا: جُوَيْرِيَةَ. وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُسَافِعِ بْنِ صوفان الْمُصْطَلِقِيِّ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ عَلَيْهَا مَلاحَةٌ وَحَلاوَةٌ، لا يَكَادَ يَرَاهَا أَحَدٌ إلا وقعت بنفسه، وعند ما تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ النَّاسُ: صَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فلا نَعْلَمِ امْرَأَةً كَانَتْ أَكْثَرَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا. تُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ بَلَغَتْ سَبْعِينَ سَنَةً لأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ وَهِيَ بِنْتُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَلأَبِيهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ صُحْبَةٌ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ فِي فِدَاءِ ابْنَتِه جُوَيْرِيَةَ بِأَبَاعِرَ، فاسْتَحْسَنَ مِنْهَا بَعِيرَيْنِ فَغَيَّبَهُمَا بِالْعَقِيقِ فِي شِعْبٍ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِمَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم،
__________
[ (1) ] سورة الأحزاب: الآية 5.(2/372)
فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ أشهد أنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسلم. ذكره ابن إسحق وَالْوَاقِدِيُّ.
ثُمَّ رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خنافَةَ بْنِ شَمْعُونَ بْنِ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ مُتَزَوِّجَةً فِيهِمْ رَجُلا يُقَالُ لَهُ: الْحَكَمُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً وَسِيمَةً، وَقَعَتْ فِي سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانَتْ صَفِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَيَّرَهَا بَيْنَ الإِسْلامِ وَدِينِهَا، فَاخْتَارَتِ الإِسْلامَ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَأَصْدَقَهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونشا، وأعرس بها في الحرم سَنَةَ سِتٍّ، فِي بَيْتِ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ النَّجَّارِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً، وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَغَارَتْ عَلَيْهِ غَيْرَةً شَدِيدَةً، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَأَكْثَرَتِ الْبُكَاءَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَرَاجَعَهَا، وَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَتْ مَرْجِعَهُ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَقِيلَ: كانت موطوءة له بملك اليمين، والأل أَثْبَتُ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ، وَأَمَّا أَبُو عُمَرَ فَقَالَ: رَيْحَانَةُ سُرِّيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَوَالِدُهَا شَمْعُونُ، يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَوَالِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ أُمُّ حَبِيبَةَ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الأُمَوِيَّةُ، أُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، عَمَّةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، هَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ حَبِيبَةَ، وَبِهَا كَانَتْ تُكَنَّى، وَتَنَصَّرَ عُبَيْدُ اللَّهِ هُنَاكَ، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى الإِسْلامِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَالَّذِي عَقَدَ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ عَنْ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعمائة دينار على خلاف محكي فِي الصَّدَاقِ، وَالْعَاقِدُ من كَانَ، وَبَعَثَهَا مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ، وَجَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ، كُلّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ. وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهَا هِنْدٌ وَزَوَّجَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَكَانَ الصَّدَاقُ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا النَّجَاشِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْمَدِينَةِ مَرْجِعَهَا مِنَ الْحَبَشَةِ، وَالأَوَّلُ أَثْبَتُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ فِي حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ نَكَحَ ابْنَتَكَ، فَقَالَ: هُوَ الْفَحْلُ لا يُقْدَعُ أَنْفُهُ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ:
تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُكَ ثَلاثًا، فَذَكَرَ مِنْهُنَّ أَنْ تَتَزَوَّجَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمَّ حَبِيبَةَ، يَعْنِي ابْنَتَهُ، فَأَجَابَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَا سَأَلَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ السِّيَرِ وَالْعِلْمِ(2/373)
بِالْخَبَرِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ جَوَابًا يَتَسَاوَكَ [1] هَزْلا فَقَالَ: يَكُونُ أَبُو سُفْيَانَ ظَنَّ أَنَّ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الإِسْلامِ تَجَدَّدَتْ لَهُ عَلَيْهَا وِلايَةٌ، فَأَرَادَ تَجْدِيدَ الْعَقْدِ يَوْمَ ذَلِكَ لا غَيْرَ. تُوُفِّيَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ سَنَةَ أربع أربعين، وبعد موتها استلحق معاوية زيادا، وقيل:
قَبْلَهُ، وَالأَوَّلُ أَشْبَهُ تَحَرُّجًا مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهَا، وَكَانَ الَّذِي جَسَرَهُ عَلَى اسْتِلْحَاقِهِ إِيَّاهُ الأَبْيَاتُ الَّتِي لأَبِي سُفْيَانَ يُخَاطِبُ بِهَا عَلِيًّا:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا خَوْفُ وَاشٍ ... يَرَانِي يَا عَلِيُّ مِنَ الأَعَادِي
لأَظْهَرَ أَمْرَهُ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ ... وَإِنْ تَكُنِ الْمَقَالَةُ عَنْ زِيَادِ
فَقَدْ طَالَتْ مجاملتي ثقيفا ... وتركي فيهم ثمر الْفُؤَادِ
ثُمَّ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بْنِ سَعْيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ أَبِي حَبِيبِ بْنِ النَّضِيرِ بْنِ النَّحَّامِ بْنِ يَنْحُومَ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَانَ أَبُوهَا سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ فَقُتِلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَأُمُّهَا بُرَّةُ بِنْتُ شموَالٍ، أُخْتُ رِفَاعَةَ بْن شموالَ الْقُرَظِيِّ، وَكَانَتْ عِنْدَ سلام بن مكشم، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ الشَّاعِرُ النَّضْرِيُّ، فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَلَمْ تَلِدْ لأَحَدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، فَأَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً لَمْ تَبْلُغْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، وَخَالَفَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ، فَقَالُوا: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جَمَعَ سَبْيَ خَيْبَرَ جَاءَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَقَالَ: أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً» ، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا سَيِّدَةُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَإِنَّهَا لا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا» .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَحَجَبَهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِتَمْرٍ وَسَوِيقٍ، وَقَسَمَ لَهَا،
وَيُرْوَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا:
«مَا يُبْكِيكِ» ؟ قَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ تَنَالانِ مِنِّي وَيَقُولانِ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْ صَفِيَّةَ، نَحْنُ بَنَاتُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجُهُ، قَالَ: أَفَلا قُلْتِ لَهُنَّ كَيْفَ تَكُنَّ خَيْرًا مِنِّي وَأَبِي هَارُونُ وَعَمِّي مُوسَى وَزَوْجِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانَتْ صَفِيَّةُ حَلِيمَةً عَاقِلَةً فَاضِلَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِّينَا أَنَّ جَارِيَةً لَهَا أَتَتْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، فقالت: إن
__________
[ (1) ] أي ضعيفا.(2/374)
صَفِيَّةَ تُحِبُّ السَّبْتَ، وَتَصِلَ الْيَهُودَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا عُمَرُ فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ: أَمَّا السَّبْتُ فَإِنِّي لَمْ أُحَبَّهُ مُنْذُ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّ لِي فِيهِمْ رَحِمًا فَأَنَا أَصِلُهَا، ثُمَّ قَالَتْ لِلْجَارِيَةِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ؟ قَالَتْ: الشَّيْطَانُ، قَالَتْ: اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَكَانَتْ صَفِيَّةُ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لأبيها، فضرب وجهها ضربة أثرت فيه وَقَالَ: إِنَّكِ لَتَمُدِّينَ عُنُقَكِ إِلَى أَنْ تَكُونِي عِنْدَ مَلِكِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَزَلِ الأَثَرُ بِهَا حَتَّى أَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ.
وَمَاتَتْ صَفِيَّةُ سَنَةَ خَمْسِينَ، فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ وَوَرِثَتْ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِقِيمَةِ أَرْضٍ وَعرضٍ، وَأَوْصَتْ لابْنِ أُخْتِهَا بِالثُّلُثِ، وَكَانَ يَهُودِيًّا.
ثُمَّ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحرث بْنِ حَزَنِ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ الْهُزَمِ بْنِ رُوَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَكَانَ اسْمُهَا بُرَّةَ، فَسَمَّاهَا مَيْمُونَةَ، زَوَّجَهُ إِيَّاهَا الْعَبَّاسُ عَمُّهُ، وَكَانَتْ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أُخْتُ لُبَابَةَ الْكُبْرَى، أُمِّ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلُبَابَةَ الصُّغْرَى أُمِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَصْمَاءَ وَعَزَّةَ، وَأُمِّ حَفِيدٍ هُزَيْلَةَ لأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخْوَاتُهُنَّ لأُمِّهِنَّ أَسْمَاءُ وَسَلْمَى وَسَلامَةُ بَنَاتُ عُمَيْسٍ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، وَأُمُّهُنَّ هِنْدُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حمَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّةُ، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ، فَفَارَقَهَا وَخَلَفَ عَلَيْهَا أَبُو رُهْمِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَفِيهَا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقضيةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ: هَلْ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ وَهُوَ حَلالٌ،
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَقَامَ بِهَا عَلَيْهِ السَّلامُ ثَلاثًا، فَجَاءَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ عَنَّا الْيَوْمُ آخِرُ شَرْطِكَ، فَقَالَ: دَعُونِي أَبْتَنِي بِامْرَأَتِي وَأَصْنَعُ لَكُمْ طَعَامًا، فَقَالَ: لا حَاجَةَ لَنَا بِكَ وَلا بِطَعَامِكَ، اخْرُجْ عَنَّا فَقَالَ سَعْدٌ: يَا عَاضَّ بَظْرِ أُمِّهِ، أَرْضُكَ وَأَرْضُ أُمِّكَ دُونَهُ، لا يَخْرُجُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُمْ فَإِنَّهُمْ زَارُونَا لا نُؤْذِيهِمْ»
فَخَرَجَ فَبَنَى بِهَا بِسَرْفٍ حَيْثُ تَزَوَّجَ بِهَا، وَهُنَالِكَ مَاتَتْ فِي حَيَاةِ عَائِشَةَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَقَدْ بَلَغَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَقَدْ قِيلَ فِي وَفَاتِهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهِيَ آخِرُ مَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمَّا جَاءَهَا الْخَاطِبُ وَكَانَتْ عَلَى بَعِيرٍ رَمَتْ بِنَفْسِهَا(2/375)
مِنْ عَلَى الْبَعِيرِ وَقَالَتْ: الْبَعِيرُ وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَهَؤُلاءِ نِسَاؤُهُ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ اثْنَتَا عَشْرَةَ امْرَأَةً، مِنْهُنَّ رَيْحَانَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلافَ فِيهَا، وَمَاتَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ تِسْعٍ مِنْهُنَّ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَمَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَمَنْ خَطَبَهَا وَلَمْ يَتَّفِقْ تَزْوِيجُهَا فَثَلاثُونَ امْرَأَةً عَلَى اخْتِلافٍ فِي بعضهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَلْنَذْكُرُ مَنْ تَيَسَّرَ لَنَا ذِكْرُهُ مِنْهُنَّ، فَمِنْهُنَّ: أَسْمَاءُ بِنْتُ الصَّلْتِ السُّلَمِيَّةُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْجَوْنِ بْنِ شَرَاحِيلَ، وَقِيلَ: بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ مِنْ كِنْدَةَ. وَأَسْمَاءُ بِنْتُ كعب الجونية، ذكرها ابن إسحق مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ، وَلا أَرَاهَا وَالَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا وَاحِدَةً، وَجَمْرَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْغَطَفَانِيِّ، خَطَبَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ لأَبِيهَا، فَقَالَ: إِنَّ بِهَا سُوءًا، وَلَمْ يَكُنْ، فَرَجَعَ فَوَجَدَهَا قَدْ بَرِصَتْ. وَأُمَيْمَةُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ لَهَا ذِكْرٌ فِي صَحِيح الْبُخَارِيِّ. وَحَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّةُ الَّتِي اخْتُلِعَتْ مِنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا، فَتَزَوَّجَهَا ثَابِتٌ، قَالَهُ ابْنُ الأَثِيرِ. وَخَوْلَةُ بِنْتُ الْهُذَيْلِ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ التَّغْلِبِيَّةُ، ذَكَرَهَا أَبُو عُمَرَ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، وَخَوْلَةُ أَوْ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ، كَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً فَاضِلَةً، تُكَنَّى أُمَّ شَرِيكٍ، قِيلَ: هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يَكُونَا اثْنَتَيْنِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَنَا بِنْتُ الصَّلْتِ، وَهِيَ عِنْدَ أَبِي عُمَرَ بِنْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصَّلْتِ، وَقِيلَ: أَسْمَاءُ أَخٌ لَهَا، وَقِيلَ: تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَقِيلَ: مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: لَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ مَاتَتْ مِنَ الْفَرَحِ. وَسَوْدَةُ الْقُرَشِيَّةُ، كَانَتْ مُصِبيَةً، خَطَبَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ فَاعْتَذَرَتْ بِبَنِيهَا، وَكَانُوا خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً فَقَالَ لَهَا خَيْرًا. وَشَرَافٌ بِنْتُ خَلِيفَةَ أُخْتُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ تَزَوَّجَهَا فَهَلَكَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا.
وَصَفِيَّةُ بِنْتُ بَشَامَةَ بْنِ نَضْلَةَ أُخْتُ الأَعْوَرِ بْنِ بَشَامَةَ، أَصَابَهَا سِبَاءٌ، فَخَيَّرَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتِ أَنَا وَإِنْ شِئْتِ زَوْجَكِ، قَالَتْ: زَوْجِي، فَأَرْسَلَهَا إِلَيْهِ، فَلَعَنَتْهَا بَنُو تَمِيمٍ.
وَالْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلابٍ، تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا شَاءَ الله، ثم طلقها، قاله أبو عمر: قال مَنْ ذَكَرَهَا.
وَعَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ الْجَوْنِ الْكِلابِيَّةُ، تَزَوَّجَهَا فَبَلَغَهُ أَنَّ بِهَا بَرَصًا فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تَعَوَّذَتْ منه، فقال لها: «لقد عذت بمعاذ»
فَطَلَّقَهَا وَأَمَرَ أُسَامَةَ فَمَتَّعَهَا بِثَلاثَةِ أَثْوَابٍ. وَعَمْرَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيَّةُ، ذَكَرَهَا ابْنُ الأَثِيرِ. وَأُمُّ شريك(2/376)
الْعَامِرِيَّةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اسْمُهَا غَزِيَّةُ بِنْتُ دُودَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ حُجْرٍ، وَيُقَالُ: حُجَيْرُ بْنُ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، يُقَالُ: هِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ سِوَاهَا. أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ الْغِفَارِيَّةُ، ذَكَرَهَا أَحْمَد بْن صَالِحٍ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاخِتَةُ بِنْتُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، خَطَبَهَا عَلَيْهِ السَّلامُ لأَبِيهَا عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَخَطَبَهَا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، فَزَوَّجَهَا أَبُو طَالِبٍ مِنْ هُبَيْرَةَ. فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلابِيُّ، تَزَوَّجَهَا وَخَيَّرَهَا حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا، فَفَارَقَهَا، فَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَلْفِظُ الْبَعْرَ وَتَقُولُ: أَنَا الشَّقِيَّةُ، اخْتَرْتُ الدُّنْيَا. حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ وَرَدَّهُ، وَقِيلَ: الَّتِي تَقُولُ: أَنَا الشَّقِيَّةُ، هِيَ الْمُسْتَعِيذَةُ مِنْهُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. فَاطِمَةُ بِنْتُ شُرَيْحٍ، قَالَ ابْن الأَمِين:
ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُتَيْلَةُ بِنْتُ قَيْسِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أُخْتُ الأَشْعَثِ، تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ، وَلَمْ تَكُنْ قَدِمَتْ عَلَيْهِ وَلا رَآهَا، قِيلَ: وَأَوْصَى أَنْ تُخَيَّرَ فَإِنْ شَاءَتْ ضُرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ وَحُرِّمَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ شَاءَتْ طُلِّقَتْ وَنَكَحَتْ مَنْ شَاءَتْ، فَاخْتَارَتِ النِّكَاحَ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ.
وَلَيْلَى بِنْتُ الْخُطَيْمِ أُخْتُ قَيْسٍ الأَنْصَارِيَّةُ، عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ، فَقَالَتْ:
أَقِلْنِي، فَقَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» .
مُلَيْكَةُ بِنْتُ دَاوُدَ ذَكَرَهَا ابْنُ حَبِيبٍ. مُلَيْكَةُ بِنْتُ كَعْبٍ اللَّيْثِيُّ: تَزَوَّجَهَا، وَقِيلَ: دَخَلَ بِهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلْ بها. هند بنت زيد بْنِ الْبَرْصَاءِ مِنْ بَنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلابٍ. ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: هِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ، قَالَ أَبُو عمر: فيه نظر، لأنه الاضْطِرَابَ فِيهِ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَأَمَّا سَرَارِيهِ فَكُنَّ أَرْبَعَةً: مَارِيَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ الْقِبْطِيَّةُ أُمُّ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ مِنْ جفني مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا، من صعيد مصر، أهداها إليهن الْمُقَوْقِسُ، وَمَعَهَا أُخْتُهَا سِيرِينَ، وَأَلْفُ مِثْقَالٍ، وَعِشْرُونَ ثوبا من قباطي مصر، وَالْبَغْلَةُ الشَّهْبَاءُ، دُلْدُلٌ، وَحِمَارٌ أَشْهَبُ يُقَالُ لَهُ: يَعْفُورُ أَوْ عُفَيْرٌ، وَخَصِيٌّ يُسَمَّى: مَابُورَ، وَقِيلَ: إنه ابن عمها، ومن عسل بنها، فَأَعْجَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَلُ، وَدَعَا فِي عَسَلِ بَنْهَا بِالْبَرَكَةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَرَيْحَانَةُ بِنْتُ يَزِيدَ النَّضْرِيَّةُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ: مَارِيَةُ، وَرَيْحَانَةُ، وَأُخْرَى جَمِيلَةٌ أَصَابَهَا فِي السَّبْيِ، وَجَارِيَةٌ وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيدَتَانِ:
مَارِيَةُ وَرَيْحَانَةُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: رُبَيْحَةُ الْقُرَظِيَّةُ.(2/377)
ذِكْرُ خَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ، وَهِنْدٌ، وَأَسْمَاءُ، ابْنَا حَارِثَةَ الأَسْلَمِيَّانِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبَ نَعْلَيْهِ، كَانَ إِذَا قَامَ أَلْبَسَهُ إِيَّاهُمَا، وَإِذَا جَلَسَ جَعَلَهُمَا فِي ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يَقُومَ، وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ صَاحِبَ بَغْلَتِهِ، يَقُودُ بِهِ فِي الأَسْفَارِ، وَأَسْلَعُ بْنُ شَرِيكٍ، صَاحِبَ رَاحِلَتِهِ، وَبِلالُ بْنُ رَبَاحٍ الْمُؤَذِّنَ، وَسَعْدٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبُو الْخَمْرَاءِ، قِيلَ: اسْمُهُ هِلالُ بْنُ الْحَارِثِ،
وَقِيلَ:
هِلالُ بْنُ ظَفَرٍ، حَدِيثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ بِبَيْتِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ فَيَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» ،
وَذُو مخْمَرٍ ابْنُ أَخِي النَّجَاشِيِّ، وَيُقَالُ: ابْنُ أُخْتِهِ، وَيُقَالُ: ذُو مِخْبَرٍ، وَبُكَيْرُ بْنُ شَدَّاخٍ اللَّيْثِيُّ، وَيُقَالُ: بَكْرٌ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَرُزَيْنَةُ امرأة حديثها عن النبي فِي فَضْلِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَأَرْبَدُ، كَذَا وَجَدْتُهُ فِيهِمْ، غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَقَدْ ذكر إبراهيم بن سعد عن ابن إسحق فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ: أَرْبَدُ بْنُ حِمْيَرٍ، فَلا أَدْرِي أَهُوَ هُوَ أَمْ لا، وَالأَسْوَدُ بْنُ مَالِكٍ الأَسَدِيُّ الْيَمَانِيُّ، وَأَخُوهُ الْحدرجَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَزْءُ بْنُ الْحدرجَانِ، ذَكَرَهُمُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ لَهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ يَحِفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحَدِّثُهُ أَنَّهُ مَرَّ بِبَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَاطَّلَعَ فِيهِ، فَوَجَدَ امْرَأَةَ الأَنْصَارِيِّ تَغْتَسِلُ، فَكَرَّرَ النَّظَرَ، وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ بِطُولِهِ فِي سَبَبِ تَوْبَتِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الرشَاطِيُّ وَقَالَ: أَغْفَلَهُ أَبُو عُمَرَ، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ ابْن فَتْحُونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ، قَالَ فِي ثَعْلَبَةَ، هَذَا: مَاتَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَسَالِمٌ خَادِمُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَوْلاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَبُو سَلْمَى، رَاعِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: سَلْمَى خَادِمَ(2/378)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: هُوَ سَالِمٌ الْمَذْكُورُ، وَسَابِقٌ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ، وَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْكُوفِيِّينَ، اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى شُعْبَةَ وَمِسْعَرٍ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ عَنْهُمَا مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَابِقِ بْنِ نَاجِيَةَ، عن أبي سلام، خادم رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَلا يَصِحُّ سَابِقٌ فِي الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عَنْ أَبِي سَلامٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ما من عَبْدٍ يَقُولُ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَمَنْ قَالَ فِي أَبِي سَلامٍ هَذَا أَبُو سَلامَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ، هُوَ أَبُو سَلامٍ الْهَاشِمِيُّ، ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَفِي خَدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ. وَصَفِيَّةُ خَدَمَتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَتْ عَنْهَا أَمَةُ اللَّه بِنْتُ رَزِينَةَ فِي الْكُسُوفِ مَرْفُوعًا، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَمُهَاجِرٌ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَوَى أَبُو عُمَرَ مِنْ حَدِيثِهِ، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ سِنِينَ، لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ، وَنُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، ذَكَرَ عَنِ ابْنِ مَنْدَهْ. وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: قِيلَ: خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، قيل: مَوْلاهُ، لا أَقِفُ لَهُ عَلَى اسْمٍ. وَمِنَ النِّسَاءِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ: أَمَةُ اللَّهِ بِنْتُ رَزِينَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أُمِّهَا. وَخَوْلَةُ جَدَّةُ حَفْصِ بْنِ سَعِيدٍ، ذَكَرَهَا أَبُو عُمَرَ وَقَالَ: لَهَا حَدِيثٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [1] . لَيْسَ إِسْنَادُهُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ. وَمَارِيَةُ جَدَّةُ الْمُثَنَّى بْنِ صَالِحٍ لَهَا حَدِيثٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَمَارِيَةُ أُمُّ الرَّبَابِ لَهَا حَدِيثٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ ذَكَرَهُمَا أَبُو عُمَرَ وَذَكَرَ حَدِيثَيْهِمَا، وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: لَا أَدْرِي أَهِي الَّتِي قَبْلَهَا أَمْ لا.
__________
[ (1) ] سورة الضحى: الآيات 1- 2.(2/379)
ذِكْرُ مَوَالِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْكَلْبِيُّ، وَابْنُهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَخُوهُ لأُمِّهِ أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدِ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، اسْتُشْهِدَ أَيْمَنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ عَلَى مَطْهَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم، وأسلم ابن عُبَيْدٍ، وَأَبُو رَافِعٍ، وَاسْمُهُ: أَسْلَمُ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: هُرْمُزُ، وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: كَانَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَبِي أُحَيْحَةَ. وَأَبُو رَافِعٍ أَيْضًا وَالِدُ الْبَهِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ رَافِعًا، كَانَ لأَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَمَاتَ فَوَرِثَهُ بَنُوهُ، فَعَتَقَ بَعْضُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ وَهَبَ نَصِيبَهُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الأَوَّلُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَمُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُمَا اثْنَانِ. وَأَبُو أُثَيْلَةَ، رَأَيْتُهُ بِخَطِّ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيِّ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَمْ أَلْقَ لَهُ ذِكْرًا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ أَبَا عُمَرَ قَالَ فِي الصَّحَابَةِ: أَبُو أَثْلَةَ، قِيلَ اسْمُهُ: رَاشِدٌ، حِجَازِيٌّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ، وَكَنَّاهُ: أَبَا أُثَيْلَةَ، مُصَغَّرًا وَأَبُو كَبْشَةَ، وَاسْمُهُ: سُلَيْمٌ، شَهِدَ بَدْرًا. وَأنسَةُ، يُكَنَّى: أَبَا مِشْرَحٍ. وَثَوْبَانُ، وَيُكَنَّى: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ.
وَشُقْرَانُ، وَاسْمُهُ صَالِحٌ، وَرَبَاحٌ أَسْوَدُ، كَانَ يَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسَارٌ، نُوبِيٌّ، وَفَضَالَةُ وَأَبُو السَّمْحِ، قِيلَ: اسْمُهُ إِيَادٌ، ضَلَّ فَلا يُدْرَى أَيْنَ مَاتَ، وَأَبُو مُوَيْهِبَةَ، وَرَافِعٌ، وَكَانَ لِسَعِيدِ بْنِ العاص. وأفلج، وَمَأْبُورٌ، وَمِدْعَمٌ أَسْوَدُ، وَهَبَهُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ، وَكِرْكِرَةُ، كَانَ عَلَى ثُقْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَيْدٌ جَدُّ بِلالِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ.
وَعُبَيْدٌ، وَطَهْمَانُ، وَكَيْسَانُ، وَذَكْوَانُ، وَمَرْوَانُ، وَوَاقِدٌ، وَأَبُو وَاقِدٍ، وَسندرٌ، وَهِشَامٌ، وَحُنَيْنٌ، وَسَعِيدٌ، وَأَبُو عَسِيبٍ وَاسْمُهُ: أَحْمَرُ، وَأَبُو لُبَابَةَ، وَأَبُو لَقِيطٍ، وَسَفِينَةُ وَاسْمُهُ:
مِهْرَانُ بْنُ فَرُّوخَ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ. وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَسَعْدٌ، وَضُمَيْرَةُ بْنُ أَبِي ضُمَيْرَةَ، جَدُّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن ضُمَيْرَةَ. وَأَبُو هِنْدٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعٌ، وَأَخُوهُ نَافِعٌ، وَأَبُو كِنْدِيرٍ سَعِيدٌ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَسَالِمٌ، وَسَابِقٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْخَدَمِ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.(2/380)
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْلَمَ، وَنُبَيْهٌ، وَهِشَامٌ: وَوَرْدَانُ، وَأَنْجَشَةُ وَكَانَ حَادِيًا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ: رِفْقًا بِالْقَوَارِير» . وَبَاذَامٌ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَنَقَلَ لَهُ حَدِيثًا. وَحَاتِمٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الأَثِيرِ عَنْ أَبِي مُوسَى. وَزَيْدُ بْنُ بُولا، وَدَوْسٌ، وَرُفَيْعٌ، وَأَبُو رَيْحَانَةَ شَمْعُونُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ رَيْحَانَةَ هَذِهِ. وَعُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ، وَغَيْلانُ، وقفيز غُلامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَكُرَيْبٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَمُحَمَّدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَمَكْحُولٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهَبَهُ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ: الشَّيْمَاءَ، وَنَبِيلٌ، وَهُرْمُزُ، وَأَبُو الْبَشِيرِ، وَأَبُو صَفِيَّةَ، وَكَانَ يُسَبِّحُ بِالنَّوَى. وَمِنَ النساء: أم أيمن الحبشة، وَاسْمُهَا بَرَكَةُ، وَسَلْمَى أُمُّ رَافِعٍ، وَمَارِيَةُ، وَرَيْحَانَةُ، وَرُبَيْحَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ، وَخَضِرَةُ، وَرَضْوَى، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي عَسِيبٍ، وَأُمُّ ضُمَيْرَةَ، وَأُمُّ عَيَّاشٍ، وَأُمَيْمَةُ مَوْلاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى عَنَهْا جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَقَيْسَرُ الْقِبْطِيَّةُ، أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مَعَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ، قِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهَبَهَا لأَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَقِيلَ: وَهَبَهَا لِجَهْمِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ، وَذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ أَنَّ زَكَرِيَّاءَ بْنَ الْجَهْمِ بْنِ قبس لِقَيْسَرَ أُخْتِ مَارِيَةَ هَذِهِ، وَأَمَّا سِيرِينَ فَوَهَبَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَن مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَيْمُونَةَ بِنْتَ سَعْدٍ وَمَيْمُونَةَ بِنْتَ أَبِي عَسِيبٍ، ذَكَرَهُمَا أَبُو عُمَرَ. وَذَكَرَ مَعَهُمَا مَيْمُونَةَ ثَالِثَةً، وَقَالَ فِي كُلِّ مِنْهُنَّ: مَوْلاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْسِبِ الثَّالِثَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ بِرِوَايَتِهِنَّ. وَذَكَرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَدِيثًا غَيْرَ الآخر.(2/381)
ذكر أسمائه عليه الصلاة والسلام
قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نَبِيٌّ» [1] .
وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَسْمَائِهِ: الرَّسُولُ، وَالْمُرْسَلُ، النَّبِيُّ الأُمِّيُّ، الشَّهِيدُ، الْمُصُدِّقُ، النُّورُ، الْمُعَلِّمُ، الْبَشِيرُ، الْمُبَشِّرُ، النَّذِيرُ، الْمُنْذِرُ، الْمُبَيّنُ، الأَمِينُ، الْعَبْدُ، الدَّاعِي، السِّرَاجُ، الْمُنِيرُ، الإِمَامُ، الذّكرُ، الْمُذَكِّرُ، الْهَادِي، الْمُهَاجِرُ، الْعَامِلُ، الْمُبَارَكُ، الرَّحْمَةُ، الآمِرُ، النَّاهِي، الطَّيِّبُ، الْكَرِيمُ، الْمُحَلِّلُ، الْمُحَرِّمُ، الْوَاضِعُ، الرَّافِعُ، الْمُجِيرُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، ثَانِي اثْنَيْنِ، مَنْصُورٌ، أُذُنُ خَيْرٍ، مُصْطَفَى، مَأْمُونٌ، قَاسِمٌ، نَقِيبٌ، الْمُزَّمِّلُ، الْمُدَّثِّرُ، الْعَلِيُّ، الْحَكِيمُ، الْمُؤْمِنُ، الرؤوف، الرَّحِيمُ، الصَّاحِبُ، الشَّفِيعُ، الْمُشَفَّعُ، الْمُتَوَكِّلُ، نَبِيُّ التَّوْبَةِ، نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.
ذكر كتابه عليه أفضل الصلاة والسلام
أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَخَالِدٌ وَأَبَانٌ ابْنَا سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَبِي أُحَيْحَةَ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ أَيْضًا أَخَاهُمَا: سَعِيدًا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَرْقَمِ الزُّهْرِيُّ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَسَدِيُّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كتب لَهُ مِنَ الأَنْصَارِ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَجُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَلاءُ بْنُ الحضرمي، وعمرو بن
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي في كتاب الأدب باب ما جاء في أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم (5/ 124) رقم 2840.(2/382)
الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيُّ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كتب لَهُ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَنَزَلَتْ فِيهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [1] وُذِكَر فِي كُتَّابِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أَيْضًا: طَلْحَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الأَرْقَمِ الزُّهْرِيُّ، وَالْعَلاءُ بْنُ عُتْبَةَ، وَأَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْن عَبْد الأَسَدِ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ السِّجِلُّ كَانَ كَاتِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ ابْنُ خَطْلٍ يَكتب قُدَّامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان إذا نزل: غَفُورٌ رَحِيمٌ كتب: رَحِيمٌ غَفُورٌ، وَإِذَا نَزَلَ: سَمِيعٌ عَلِيمٌ كتب: عَلِيمٌ سَمِيعٌ. وَفِيهِ، فَقَالَ ابْنُ خَطْلٍ: مَا كُنْتُ أَكتب إِلَّا مَا أُرِيدُ، ثُمَّ كَفَرَ، وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ ابْنَ خَطْلٍ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» فَقُتِلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ،
هَذَا وَهْمٌ، وَالنَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ مُخَرَّجَةٌ فِي الْكتب، وَإِنَّمَا الْحَمْلُ فِيهِ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ مَعْرُوفَةٌ عَنِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ وَهُوَ مِمَّنْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ أَهْدَرَ دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ كَابْنِ خَطْلٍ فَقُتِلَ ابْنُ خَطْلٍ، وَدَخَلَ بِابْنِ أَبِي سَرْحٍ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَرَاجَعَ الإِسْلامَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَبِلَهُ بَعْدَ تَلَوُّمٍ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا فِي يَوْمِ الْفَتْحِ. وَلَمْ يُنْقَمْ عَلَى ابْن أَبِي سَرْحٍ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي إِسْلامِهِ، وَمَاتَ سَاجِدًا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ دِحْيَةَ فِيهِمْ رَجُلا مِنْ بَنِي النَّجَّارِ غَيْرَ مُسَمَّى، قَالَ: كَانَ يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ثُمَّ تَنَصَّرَ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَقْبَلْهُ الأَرْضُ.
ذِكْرُ حُرَّاسِهِ وَمَنْ كَانَ يَضْرِبُ الأَعْنَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُؤَذِّنِيهِ
حَرَسَهُ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَامَ فِي الْعَرِيشِ، سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَيَوْمَ أُحُدٍ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ،
وَحَرَسَهُ لَيْلَةَ بَنَى بِصَفِيَّةَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ بِخَيْبَرَ أَوْ بِبَعْضِ طَرِيقِهَا، فَذَكَرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ احْفَظْ أَبَا أَيُّوبَ كَمَا بَاتَ يَحْفَظُنِي» .
وَحَرَسَهُ بِوَادِي الْقُرَى: بِلالٌ وَسَعْدُ بْنُ أبي وقاص، وذكوان بن عبد قيس.
__________
[ (1) ] سورة الأنعام: الآية 144 وسورة الأعراف: الآية 37 وسورة يونس: الآية 17 وسورة الكهف: الآية 15 وسورة العنكبوت: الآية 68.(2/383)
وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَلَمَّا نزلت: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [1] ترك الحرس. وكان الذي يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ الأَعْنَاقَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرُ، وَالْمِقْدَادُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ.
وَمُؤَذِّنُوهُ: بِلالٌ، وَعَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى، وَسَعْدُ الْقَرَظِ بْنُ عَائِذٍ مَوْلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةُ بْنُ معير، وقيل: أوس.
__________
[ (1) ] سورة المائدة: الآية 67.(2/384)
الْعَشَرَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَالْحَوَارِيُّونَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ
وَلَيْسَ مِنَ الْعَشَرَةِ وَالْحَوَارِيِّينَ إِلَّا مَنْ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ فَلْيَنْظُرْ فِي مَوْضِعِهِ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وسعد بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
وَأَنْشَدْتُ بَيْتًا جَمَعَهُمْ فِيهِ نَاظِمُهُ وَالَّذِي تَقَدَّمَ تَوْطِئَةً لَهُ،
لَقَدْ بُشِّرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... بِجَنَّةِ عَدْنٍ زُمْرَةٌ سُعَدَاءُ
سَعِيدٌ وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَعَامِرٌ ... وَطَلْحَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْخُلَفَاءُ
وَأَمَّا الْحَوَارِيُّونَ: وَالْحَوَارِيُّ: الْخَلِيلُ، وَقِيلَ: النَّاصِرُ، وَقِيلَ: الصَّاحِبُ الْمُسْتَخْلَصُ، فَكُلُّهُمْ من قريش، وهم الخلفاء الأربعة، وحمزة، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الصُّفَّةِ فَقَوْمٌ فُقَرَاءُ لا مَنْزِلَ لَهُمْ غَيْرَ الْمَسْجِدِ. رُوِّينَا عَنِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ ثَلاثِينَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَرْدِيَةٌ. عُدَّ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ، وَقَيْسُ بْنُ طَخْفَةَ الْغِفَارِيُّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي عَدَدِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ بكثير.(2/385)
ذِكْرُ سِلاحِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ
سَيْفٌ يُقَالُ لَهُ: مَأْثُورٌ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ. والعضب: أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى بَدْرٍ، وَذُو الْفَقَارِ، كَانَ فِي وَسَطِهِ مِثْلُ فَقَرَاتِ الظَّهْرِ، غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ لِلْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهٍ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ ذُو الْفَقَارِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا، وَكَانَتْ قَائِمَتُهُ وَقَبِيعَتُهُ وَحَلَقَتُهُ وَعِلاقَتُهُ فِضَّةً (وَهِيَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقُيِّدَ أَيْضًا بِفَتْحِهَا) . وَالصَّمْصَامَةُ: سَيْفُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وَكَانَ مَشْهُورًا، وَأَصَابَ مِنْ سِلاحِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ ثَلاثَةَ أَسْيَافٍ، سَيْفًا قَلَعِيًّا (بِفَتْحِ اللَّامِ نِسْبَةً إِلَى مَرْجٍ قَلْعَةٍ بِالْبَادِيَةِ) وَالْبُتَارَ، وَالْحَتْفَ، وكان له أيضا: الرسوب، والمخدم، أصابهما مما كان على الفلس صنم طيء، (وَهُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ) . وَالْقَضِيبُ، فِتِلْكَ عَشَرَةٌ.
وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ الْفُضُولِ، لِطُولِهَا، أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ حِينَ سَارَ إِلَى بَدْرٍ. وَذَاتُ الْوِشَاحِ. وَذَاتُ الْحَوَاشِي. وَدِرْعَانِ أَصَابَهُمَا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ: السُّغْدِيَّةِ وَفضتي، يُقَالُ: السُّغْدِيَّةُ كَانَتْ دِرْعُ دَاوُدَ، لبسها لقتال جالوت.
والبتراء والخرتق، فَتِلْكَ سَبْعٌ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْقِسِيِّ خَمْسٌ: الرَّوْحَاءُ، وَالصَّفْرَاءُ مِنْ نبعٍ، وَالْبَيْضَاءُ مِنْ شَوْحَطٍ، أَصَابَهُمَا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ. وَالزَّوْرَاءُ، وَالْكَتُومُ، لانْخِفَاضِ صَوْتِهَا إِذَا رَمَى عَنْهَا.
وَكَانَتْ لَهُ جُعْبَةٌ، وَهِيَ الْكِنَانَةُ، يُجْمَعُ فِيهَا نَبْلُهُ، وَمِنْطَقَةٌ مِنْ أَدِيمٍ مَبْشُورٍ ثَلاثٌ حَلَقُهَا، وَإِبْزِيمُهَا وَطَرْفُهَا فِضَّةٌ، وَثَلاثَةُ أَتْرَاسٍ: الزَّلُوقُ وَفتقٌ، وَأُهْدِيَ لَهُ تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ عُقَابٍ أَوْ كَبْشٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ التِّمْثَالَ، وَخَمْسَةُ أَرْمَاحٍ:
ثَلاثَةٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، وَالْمَثْوَى، وَالْمُثَنَّى.
وَكَانَتْ له حربة تسمى: النعة، ذَكَرَهَا السُّهَيْلِيُّ، وَحَرْبَةٌ كَبِيرَةٌ اسْمُهَا:(2/386)
الْبَيْضَاءُ، وَحَرْبَةٌ صَغِيرَةٌ دُونَ الرُّمْحِ شِبْهَ الْعُكَّازِ يُقَالُ لَهَا: الْعَنْزَةُ، وَكَانَ لَهُ مِغْفَرَانِ:
الْمُوَشَّحُ وَالْمَسْبُوغُ، أَوْ ذُو السُّبَوغِ، وَرَايَةٌ سَوْدَاءُ مُرَبَّعَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْعُقَابُ، وَرَايَةٌ بَيْضَاءُ يُقَالُ لَهَا: الزِّينَةُ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهَا الأَسْوَدُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ آخَرَ مِنْهُمْ قَالَ: رَأَيْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْرَاءَ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مَكْتُوبًا بِأَعْلَى رَايَاتِهِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو محمد الدمياطي: قال يوسف بن الْجَوْزِيِّ: رُوِيَ أَنَّ لِوَاءَهُ أَبْيَضُ مَكْتُوبٌ فِيهِ: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وَكَانَ فُسْطَاطُهُ يُسَمَّى: الْكِنَّ، وَكَانَ لَهُ مِحْجَنٌ قَدْرَ ذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ، يَمْشِي وَيَرْكَبُ بِهِ، وَيُعَلِّقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ لَهُ مِخْصَرَةٌ تُسَمَّى: الْعُرْجُونَ، وَقَضِيبٌ يُسَمَّى:
الْمَمْشُوقَ مِنْ شَوْحَطٍ، وَقَدَحٌ يُسَمَّى: الرَّيَّانَ، وَآخَرُ مُضَبَّبٌ يُقَدَّرُ أكثر من نصف المدفية ثَلاثَةُ ضَبَّاتٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَحَلَقَةٌ كَانَتْ لِلسَّفَرِ، وَثَالِثٌ مِنْ زُجَاجٍ، وَكَانَ لَهُ ثَوْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ يُقَالُ لَهُ: الْمُخَضَّبُ، يَتَوَضَّأُ فِيهِ، وَكَانَ لَهُ مِخْضَبٌ مِنْ شبه [1] يَكُونُ فِيهِ الْحِنَّاءُ، وَرَكْوَةٌ تُسَمَّى الصَّادِرَةَ، وَمِغْسَلٌ مِنْ صُفْرٍ [2] ، وَربعة السكندرانية مِنْ هَدِيَّةِ الْمُقَوْقِسِ يَجْعَلُ فِيهَا مِشْطًا مِنْ عاج، ومكحلة ومقراضا وَمِسْوَاكًا وَمِرْآةً. وَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَزْوَاجِ خِفَافٍ، أَصَابَهَا مِنْ خَيْبَرَ، وَنَعْلانِ سَبْتِيَّتَانِ، وَخُفٌّ سَاذِجٌ أَسْوَدُ مِنْ هَدِيَّةِ النَّجَاشِيِّ، وَقَصْعَةٌ، وَسَرِيرٌ، وَقَطِيفَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي صِفَةِ الْخَاتَمِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ خَوَاتِمَ مُتَعَدِّدَةً، وَقَدْ كَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ وَخَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ لَبِسَهُ ثُمَّ طَرَحَهُ، وَخَاتَمُ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ بِفِضَّةٍ، نَقْشُهُ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه) . وَكَانَ يَتَبَخَّرُ بِالْعُودِ وَيَطْرَحُ مَعَهُ الْكَافُورَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ:
تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ثَوْبَيْ حِبَرَةٍ، وَإِزَارًا عُمَّانِيًّا، وَثَوْبَيْنِ صَحَارِيَّيْنِ، وَقَمِيصًا صَحَارِيًّا، وَآخَرَ سَحُولِيًّا، وَجُبَّةً يَمَانِيَّةً، وَكِسَاءً أَبْيَضَ، وَقَلانِسَ صِغَارًا لاطِئَةً ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا. وَإِزَارًا طُولُهُ خَمْسَةُ أَشْبَارٍ، وَخَمِيصَةً، وَمِلْحَفَةً مُوَرَّسَةً، وَكَانَ يَلْبَسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُرْدَهُ الأَحْمَرَ وَيَعْتَمُّ. وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَةٌ يَعْتَمُّ بِهَا يُقَالُ لَهَا: السَّحَابُ، وَهَبَهَا لِعَلِيٍّ، وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَيَلْبَسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَوْبًا غَيْرَ ثِيَابِهِ الْمُعْتَادَةِ كُلَّ يَوْمٍ، وَلا يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا مُعْتَمًّا بِعِمَامَةٍ يُرْسِلُهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيُدِيرُهَا ويغرزها. وكان له رداء مربعا،
__________
[ (1) ] لشّبه: من المعادن، ما يشبه الذهب في لونه، وهو أرفع الصفر.
[ (2) ] الصفر: النحاس الأصفر.(2/387)
وَكَانَ لَهُ فِرَاشٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ، وَكِسَاءٌ أَحْمَرُ، وَكِسَاءٌ مِنْ شَعْرٍ، وَكِسَاءٌ أَسْوَدُ، وَمِنْدِيلٌ يَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ.
وَسُئِلَتْ حَفْصَةُ: مَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: مِسْحٌ يَثْنِيهِ ثَنْيَتَيْنِ فَيَنَامُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ ثَنَيْتُهُ بِأَرْبَعِ ثَنَيَاتٍ لِيَكُونَ أَوْطَأَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ:
«مَا فَرَشْتُمْ لِي» ؟ قُلْنَا: هُوَ فِرَاشُكَ، ثَنَيْنَاهُ أَرْبَعًا، قَالَ: رُدُّوهُ لِحَالِهِ الأَوَّلِ، فَإِنَّهُ مَنَعَتْنِي وَطْأَتُهُ صَلاةَ اللَّيْلِ» . ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.
وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ يُوضَعُ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَكَانَ لَهُ سَرِيرٌ يَنَامُ عَلَيْهِ، قَوَائِمُهُ مِنْ سَاجٍ [1] ، بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فَكَانَ النَّاسُ بَعْدَهُ يَسْتَحْمِلُونَ عَلَيْهِ مَوْتَاهُمْ تَبَرُّكًا بِهِ.
ذكر فوائد تتعلق بهذا الفصل سوى ما تقدم
البتار والمخدم: الْقَاطِعُ. وَالْحَتْفُ: الْمَوْتُ. وَالرَّسُوبُ: مِنْ رَسَبَ فِي الْمَاءِ إِذَا غَاصَ فِيهِ، لأَنَّ ضَرْبَتَهُ تَغُوصُ فِي الْمَضْرُوبِ بِهِ. وَمَرْجُ الْقَلْعَةِ: قَرِيبٌ مِنْ حُلْوَانَ، عَلَى طَرِيقِ هَمْدَانَ. وَالسُّغْدُ: مَوْضِعٌ تُصْنَعُ بِهِ الدُّرُوعُ، عَنِ ابْنِ الْقَطَّاعِ. وَالْخِرْنِقُ:
وَلَدُ الأَرْنَبِ. وَالْفُسْطَاطُ: الْبَيْتُ مِنَ الشَّعَرِ. وَالْكِنُّ: مَا يَسْتُرُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
وَالْمِغْفَرُ: مَا يَلْبَسُهُ الدَّارِعُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ زَرْدٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَرِدَاءٌ مربعٌ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ في عرضه، فقيل: ذراع وشبر، وقيل: ذرعان وَشِبْرٌ. وَقَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ (مَفْتُوحُ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةَ سَاكِنُ الْيَاءِ آخِرُ الْحُرُوفِ) . وَالْعَيْدَانُ: النَّخْلَةُ السَّحُوقُ، قال الشاعر:
إن الريح إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عَيْدَانَ نَجْدٍ وَلَمْ يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ
بَنَاتُ نَعشٍ وَنَعشٌ لا كُسُوفَ لَهَا ... وَالشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْهَا الدَّهْرَ فِي الرَّقَمِ
__________
[ (1) ] نوع من الشجر يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا وله ورق كبير.(2/388)
ذكر خيله عليه أفضل الصلاة والسلام وماله مِنَ الدَّوَابِّ وَالنَّعَمِ
السَّكْبُ: وَكَانَ اسْمُهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ: الضَّرِسَ، اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ أَوَاقٍ أَوَّلَ مَا غَزَا عَلَيْهِ أُحُدًا لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرَهُ. وفرس أبي بردة بن نيار، ويسمى: ملاوح، وَكَانَ أَغَرَّ طَلقَ الْيَمِينِ مُحَجَّلا كُمَيْتًا، وَقِيلَ: كَانَ أَدْهَمَ، رَوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، شبه بفيض الماء وانسكابه، والضرس الصعب السيء الْخُلُقِ، وَالْمُلاوِحُ: الضَّامِرُ الَّذِي لا يَسْمَنُ، وَالْعَظِيمُ الأَلْوَاحِ، وَهُوَ الْمِلْوَاحُ أَيْضًا. وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ: الْمُرْتَجِزُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحُسْنِ صَهِيلِهِ كَأَنَّهُ يَنْشُدُ رَجَزًا، وَكَانَ أَبْيَضَ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ فِيهِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَجَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ الطِّرْفُ (بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ) نَعْتُ الْمُذَكَّرِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: هُوَ النَّجِيبُ وَالطِّرْفُ، وَالنَّجِيبُ: الْكَرِيمُ مِنَ الْخَيْلِ. وَكَانَ لَهُ أَيْضًا: اللَّحِيفُ، وَلِزَازٌ، وَالظَّرِبُ، فَأَمَّا اللَّحِيفُ فَأَهْدَاهُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي الْبَرَاءِ، وَأَمَّا لِزَازٌ فَأَهْدَاهُ لَهُ الْمُقَوْقسُ، وَأَمَّا الظَّرِبُ فَأَهْدَاهُ لَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْجُذَامِيُّ. اللَّحِيفُ:
فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، كَأَنَّهُ يَلْحَفُ الأَرْضَ بِذَنَبِهِ، وَقِيلَ فِيهِ: بِضَمِّ الَّلامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى التَّصْغِيرِ. ولزاز قَوْلِهِمْ لازَزْتُهُ أَيْ: لاصَقْتُهُ، كَأَنَّهُ يَلْتَصِقُ بِالْمَطْلُوبِ لِسُرْعَتِهِ،. وَقِيلَ:
لاجْتِمَاعِ خَلْقِهِ، وَالْمُلَزَّزُ الْمُجْتَمِعُ الْخَلْقِ، وَالظَّرِبُ وَاحِدُ الظِّرَابِ، وَهِيَ الرَّوَابِي الصِّغَارُ، سُمِّيَ بِهِ لِكِبَرِهِ وَسِمَنِهِ، وَقِيلَ: لِقُوَّتِهِ وَصَلابَتِهِ، وَفَرَسٌ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، أَهْدَاهُ لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، فَأَعْطَاهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاعُ بِرُخْصٍ فَقَالَ لَهُ: لا تَشْتَرِهِ، وَالْوَرْدُ لَوْنٌ بَيْنَ الْكُمَيْتِ وَالأَشْقَرِ. وَفَرَسٌ يُدْعَى سَبْحَةَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ سَابِحٌ. إِذَا كَانَ حَسَنَ مَدِّ الْيَدَيْنِ فِي الْجَرْيِ، وَسَبْحُ الْفَرَسِ جَرْيُهُ، قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهَذِهِ سَبْعَةٌ متفق عليها: وهي:
السكب، والمرتجز، واللحيف، والزاز، وَالظَّرِبُ، وَالْوَرْدُ وَسَبْحَةُ. وَكَانَ الَّذِي يَمْتَطِي عَلَيْهِ وَيَرْكَبُ: السَّكْبُ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ أَفْرَاسٌ أُخَرُ غَيْرُهَا: وَهِيَ الأَبْلَقُ، حَمَلَ عَلَيْهِ(2/389)
بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَذُو الْعقَالِ، وَذُو اللِّمَّةِ، وَالْمُرْتَجِلُ، والمراوح، وَالسِّرْحَانُ، وَالْيَعْسُوبُ، وَالْيَعْبُوبُ، وَالْبَحْرُ وَهُوَ كُمَيْتٌ، وَالأَدْهَمُ، وَالشَّحَاءُ، وَالسّجل، وَمُلاوِحٌ، وَالطّرفُ، وَالنَّجِيبُ. هَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي خَيْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: الضَّرِيسُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيهَا مَنْدُوبًا، وَذُو الْعُقَالِ (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبَعْضُهُمْ يُشَدِّدُ قَافَهُ، وَبَعْضُهُمْ يُخَفِّفُهَا) وَهُوَ ظَلْعٌ [1] فِي قَوَائِمِ الدَّوَابِّ. وَاللِّمَّةُ بَيْنَ الْوَفْرَةِ وَالْجُمَّةِ، فَإِذَا وَصَلَ شَعْرُ الرَّأْسِ إِلَى شَحْمَةِ الأُذُنِ فَهِيَ وَفْرَةٌ، فَإِذَا زَادَتْ حَتَّى أَلَمَّتْ بِالْمِنْكَبَيْنِ فَهِيَ لِمَّةٌ، فَإِذَا زَادَتْ فَهِيَ جُمَّةٌ. وَالارْتِجَالُ خَلْطُ الْفَرَسِ الْعَنَقِ بِالْهَمْلَجَةِ، وَهُمَا ضَرْبَانِ مِنَ السَّيْرِ. وَالْمِرْوَاحُ مِنَ الرِّيحِ لِسُرْعَتِهِ. وَالسِّرْحَانُ: الذِّئْبُ، وَهُذَيْلٌ تُسَمِّي الأَسَدَ سِرْحَانًا. وَالْيَعْسُوبُ: طَائِرٌ، وَهُوَ أَيْضًا أَمِيرُ النَّحْلِ. وَالسَّيِّدُ: يَعْسُوب قَوْمهُ، وَالْيَعْسُوبُ غُرَّةٌ تَسْتَطِيلُ فِي وَجْهِ الْفَرَسِ. وَالْيَعْبُوبُ: الْفَرَسُ الْجَوَادُ، وَجَدْوَلٌ يَعْبُوبٌ: شَدِيدُ الْجَرْيِ، وَالشَّحَاءُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ بَعِيدُ الشَّحْوَةِ، أَيْ بَعِيدُ الْخُطْوَةِ.
وَمَنْدُوبٌ، مِنْ نَدْبِهِ فَانْتَدَبَ أَيْ دَعَاهُ فَأَجَابَ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحُمُرُ فَكَانَتْ لَهُ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ يُقَالُ لَهَا: دُلْدُلٌ، أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مَعَ حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ. وَبَغْلَةٌ يُقَالُ لَهَا: فِضَّةٌ، أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْجُذَامِيُّ مَعَ حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: يَعْفُورٌ، فَوَهَبَ الْبَغْلَةَ لأَبِي بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه. وبعلة أهداها له ابن العلماء صاحب أبلة. وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَغْلَةٍ وَجُبَّةٍ مِنْ سُنْدُسٍ. وَقِيلَ: أَهْدَى لَهُ كِسْرَى بَغْلَةً وَلا يَثْبُتُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً فَكَانَ يَرْكَبُهَا. فَهَذِهِ سِتٌّ.
وَأَمَّا النَّعَمُ فَكَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ الَّتِي هَاجَرَ عَلَيْهَا تُسَمَّى، الْقَصْوَاءَ، وَالْجَدْعَاءَ، وَالْعَضْبَاءَ، وَكَانَتْ شَهْبَاءَ. وَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَرْمِي عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ، وَالصَّهْبَاءُ، الشَّقْرَاءُ. وَعَنْ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، وَبَعَثَ عَلَيْهِ السَّلامُ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى قُرَيْشٍ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ. وَكَانَ فِي هَدْيِهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَلٌ كَانَ لأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مَهْرِيًّا، وَكَانَتْ لَهُ عِشْرُونَ لِقْحَةً بِالْغَابَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَغَارَ عَلَيْهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الفزاري، وقد سبق
__________
[ (1) ] أي عرج.(2/390)
خَبَرُهَا وَلِقْحَةٌ غَزِيرَةٌ تُحْلَبُ كَمَا تُحْلَبُ لَقْحَتَانِ غَزِيرَتَانِ أَهْدَاهَا لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ.
وَكَانَتْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ لِقْحَةً بِذِي الْجدر [1] يَرْعَاهَا يسار، وأغار عَلَيْهَا الْعُرَنِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَبَرُ عن ذَلِكَ. وَكَانَتْ لَهُ بِذِي الْجَدَرِ أَيْضًا سَبْعُ لَقَائِحَ، وَكَانَتْ لَهُ لِقْحَةٌ تُسَمَّى الْحَفَدَةَ السَّرِيعَةَ، وَمَهْرِيَّةٌ بَعَثَ إِلَيْهِ بِهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مِنْ نعم بن عُقَيْلٍ. وَكَانَتْ لَهُ لِقْحَةٌ تُسَمَّى مَرْوَةَ. وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَنَمِ مِائَةُ شَاةٍ لا يُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ، كُلَّمَا وَلَّدَ الرَّاعِي بُهْمَةً ذَبَحَ مَكَانَهَا شَاةً، وَكَانَتْ لَهُ شَاةٌ تُسَمَّى غَوْثَةَ، وَقِيلَ: غَيْثَةَ، وَشَاةٌ تُسَمَّى قَمَرٌ وَعَنْزٌ تُسَمَّى الْيَمِنُ، وَكَانَتْ لَهُ سَبْعَةُ أَعْنُزٍ مَنَائِحَ تَرْعَاهُنَّ أُمُّ أَيْمَنَ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكَ مِنْهَا شيئا.
__________
[ (1) ] موضع، يبعد عن المدينة ستة أميال.(2/391)
ذِكْرُ صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَقُرِئَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بن عبد المؤمن بن أبي الفتح الصوري وَأَنَا أَسْمَعُ بِدِمَشْقَ، أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخَانِ: أَبُو الْيُمْنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، وَأَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سُكَيْنَةَ إِجَازَةً قَالا: أَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ سَمَاعًا عَلَيْهِ، زَادَ ابْنُ سُكَيْنَةَ وَالْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ السَّمَرْقَنْدِيُّ سَمَاعًا قَالا: أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ: قَالَ ابْن سُكَيْنَةَ، وَأَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حَكِيمٍ الْخبرِيِّ قَالَتْ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْمُسْلِمَةِ قَالا: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ الْجَرَّاحِ الْوَزِيرُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد البغوي، فثنا عمر بن زرارة، فثنا الْفَيَّاضُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طريقٍ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَادِيثَ، سَمِعَ بَعْضَهَا مِنْهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُحَلِّيَ لَنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فَخْمًا مُفَخَّمًا، يَتَلأْلَأُ وَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ، وَأَطْوَلَ الْمَرْبُوعِ، عَظِيمَ الْهَامَةِ، رَجِلَ الشَّعْرِ، إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتَه فَرَقَ، وَإِلَّا فَلا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِذَا هُوَ وَفْرَة، أَزْهَرَ اللَّوْنِ، وَاسِعَ الْجَبِينِ، أَزَجَّ الْحَاجِبَيْن، سَوَابِغ فِي غَيْرِ قَرَنٍ، أَقْنَى الْعِرْنَيْنِ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ، يَحْسَبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ أَشْنَبَ، مُفَلَّجَ الأَسْنَانِ، دَقِيقَ الْمَسْرَبَةِ، كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدُ دُمْيَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ، مُعْتَدِلَ الْخُلُقِ، بَادِنًا، مُتَمَاسِكًا، سَوَاءَ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، عَرِيضَ الصَّدْرِ، بَعِيدَ مَا بني الْمَنْكِبَيْنِ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرِّدِ، مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ، عَارِي الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ أَشْعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنَاكِبِ، وَأَعَالِي الصَّدْرِ، طَوِيلَ الزَّنْدَيْنِ سَائِرَ الأَصَابِعِ شئن الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ سَبْطَ(2/392)
الْعِظَامِ، خَمْصَانَ الأَخْمَصَيْنِ، مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ، يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رُوِّينَا حديث الحسن بن علي: فثنا خالي هند بن أَبِي هَالَةَ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كَمَا سَبَقَ، وَفِيهِ: أَزَجَّ الْحَاجِبَيْنِ، سَوَابِغَ مِنْ غَيْرِ قَرَنٍ بَيْنَهُمَا عَرَقٌ يَدُرُّهُ الْغَضَبُ. وَفِيهِ: كَثَّ اللِّحْيَةِ، أَدْعَجَ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ، ضَلِيعَ الْفَمِ، وَفِيهِ: إِذَا زَالَ زَالَ تَقَلُّعًا، وَيَخْطُو تَكَفُّؤًا!، وَيَمْشِي هَوْنًا، ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، خَافِضَ الطَّرْفِ، نَظَرُهُ إِلَى الأَرْضِ، أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلاحَظَةُ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلامِ. قُلْتُ: صِفْ لِي مَنْطِقَهُ؟ قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاصِلَ الأَحْزَانِ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَة، وَلا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، طَوِيلَ السُّكُوتِ، يَفْتَتِحُ الْكَلامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَضْلا لا فُضُولَ فِيهِ وَلا تَقْصِيرَ، دَمِثًا لَيْسَ بِالْجَافِي وَلا بِالْمُهِينِ، يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ، وَلا يَذُمُّ شَيْئًا، لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلا يَمْدَحُهُ، وَلا يقام لغضه إِذَا تَعَرَّضَ لِلْحَقِّ بِشَيْءٍ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، لا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلا يَنْتَصِرُ لَهَا، إِذَا أَشَارَ أشار بكفه كلها، وإذا نعجب قَلَّبَهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا، فَضَرَبَ بِإِبْهَامِهِ الْيُمْنَى رَاحَتَهُ الْيُسْرَى، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، وَإِذَا فَرَحَ غَضَّ طَرْفَهُ، جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، وَيَفْتُرُ عَنْ مِثْلِ حُبِّ الْغَمَامِ. قَالَ الْحَسَنُ: فَكَتَمْتُهَا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ زَمَانًا ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَسَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَخْرَجِهِ وَمَجْلِسِهِ وَشَكْلِهِ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ الْحُسَيْنُ: سَأَلْتُ أَبِي عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَجْلِسِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ، جُزْءًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَجُزْءًا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزءا جُزْآهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَلا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ ذِي الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ، قِسْمَتُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ، مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوائِج، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ وَيُشْغِلُهُمْ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ، وَالأُمَّةَ فِي مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ، وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ، وَيَقُولُ: لَيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، وَأَبْلِغُونِي حَاجَة مَنْ لا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغَ حاجته، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ، وَلا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ، يَدْخُلُونَ رُوَّادًا، وَلا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ، وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً، يَعْنِي: فُقَهَاءَ. قُلْتُ:
فَأَخْبِرْنِي عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ؟ قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يخزن لسانه إلا ما يَعْنِيهِمْ وَيُؤْلِفُهُمْ وَلا يُفَرِّقُهُمْ، يُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِيهِ عَلَيْهِمْ، وَيُحَذِّرُ النَّاسَ(2/393)
وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ بِشَرِّهِ وَخلقِهِ، وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ، وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ وَيُصَوِّبُهُ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوهِنُهُ مُعْتَدِلَ الأَمْرِ غَيْرَ مُخْتَلفٍ، وَلا يَغْفَلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفَلُوا أَوْ يَمَلُّوا، لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ، لا يُقْصِرُ عَنِ الْحَقِّ وَلا يُجَاوِزُهُ إِلَى غَيْرِهِ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ، خِيَارُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وَمُؤَازَرَةً. فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ عَمَّا كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ فَقَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَجْلِسُ وَلا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ، وَلا يُوطِنُ الأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْقَوْمِ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ حَتَّى لا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حتى يكون هو المنصرف عنه، من سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَدْ وَسِعَ النَّاسَ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِالتَّقْوَى، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ، لا تُرْفَعُ فِيهِ الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته يتعاطفون بالتقوى متواضعين يوفرون فيه الكبير ويرحمون الصغير ويرفدون الْحَاجَةِ وَيَرْحَمُونَ الْغَرِيبَ.
فَسَأَلْتُهُ عَنْ سِيرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُلَسَائِهِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَلا سَخَّابٍ وَلا فَحَّاشٍ وَلا عَيَّابٍ وَلا مَدَّاحٍ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يَشْتَهِي وَلا يُؤَيِّسُ مِنْهُ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ: الرِّيَاءِ، وَالإِكْثَارِ، وَمَا لا يَعْنِيهِ وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاثٍ: كَانَ لا يَذُمُّ أَحَدًا وَلا يُعَيِّرُهُ وَلا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ، وَلا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطَّيْرُ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ، مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يفرغ حديثهم حَدِيثِ أَوَّلِهِمْ. يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَيَعْجَبُ مِمَّا يَعْجَبُونَ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي المنطق، ويقول: «إذا رَأَيْتُمْ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَارْفدُوهُ، وَلا تَطْلُبُوا الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ» ، وَلا يَقْطَعُ عَلَى أحد حديثه حتى يجوزه فَيَقْطَعَهُ بِانْتِهَاءٍ أَوْ قِيَامٍ» . قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ؟ قَالَ: كَانَ سُكُوتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ: عَلَى الْحِلْمِ، وَالْحَذَرِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّفَكُّرِ، فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تَسْوِيَةِ النَّظَرِ وَالاسْتِمَاعِ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا تَفَكُّرُهُ فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى، وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّبْرِ فَكَانَ، لا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ يَسْتَفِزُّهُ، وَجُمِعَ لَهُ فِي الْحَذَرِ أربع وأخذه بِالْحَسَنِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَتَرْكُهُ الْقَبِيحِ لِيُنْتَهَى عَنْهُ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ بِمَا أَصْلَحَ أُمَّتَهُ، وَالْقِيَامُ لَهُمْ بِمَا جَمَعَ لَهُمْ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قَالَ(2/394)
الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بْنُ مُوسَى الْيَحْصُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ هِنْدِ بْنِ أبي هالة هذا:
فصل في تفسير غريب هَذَا الْحَدِيثِ وَمُشْكِلُهُ
قَوْلُهُ: الْمُشَذَّبُ، أَيْ: الْبَائِنُ الطُّولِ فِي نَحَافَةٍ، وَهُوَ مَثَلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْمُمَّغِطِ. وَالشَّعْرِ الرَّجِلِ: الَّذِي كَأَنَّهُ مُشِّطَ، فَتَكَسَّرَ قَلِيلا لَيْسَ بِسَبْطٍ وَلا جَعْدٍ. وَالْعَقِيقَةُ: شَعْرُ الرَّأْسِ، أَرَادَ إِنِ انْفَرَقَتْ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهَا فَرَقَهَا، وَإِلَّا تَرَكَهَا مَعْقُوصَةً، وَيُرْوَى عَقِيصَتُهُ. وَأَزْهَر اللَّوْنِ نَيِّرُهُ، وَقِيلَ: أَزْهَرُ حَسَنٌ، وَمِنْهُ زَهْرَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ: زِينَتُهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ لَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلا بِالأَدَمِ. وَالأَمْهَقُ: هُوَ النَّاصِعُ الْبَيَاضِ، وَالأَدَمُ الأَسْمَرُ اللَّوْنِ، وَمِثْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: أَبْيَضُ مُشَرَّبٌ، أَيْ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَالْحَاجِبُ الأَزَجُّ: الْمُقَوَّسُ الطَّوِيلُ الْوَافِرُ الشَّعْرِ، وَالأَقْنَى السَّائِلُ الأَنْفُ الْمُرْتَفِعُ وَسَطُهُ، وَالأَشَمُّ الطَّوِيلُ قَصَبَة الأَنْفِ. وَالْقَرَنُ:
اتِّصَالُ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ، وَضِدُّهُ الْبَلَجُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ وَصْفُهُ بِالْقَرَنِ، وَالأَدْعَجُ الشَّدِيدُ سَوَادِ الْحَدَقَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: أَشْكَلَ الْعَيْنِ، وَأَسْجَرَ الْعَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي فِي بَيَاضِهِ حُمْرَةٌ. وَالضَّلِيعُ: الْوَاسِعُ. وَالشَّنَبُ: رَوْنَقُ الأَسْنَانِ وَمَاؤُهَا، وَقِيلَ: رِقَّتُهَا وَتَحْزِينُ فِيهَا، كَمَا يُوجَدُ فِي أَسْنَانِ الشَّبَابِ وَالْفَلَجُ فَرْقٌ بَيْنَ الثَّنَايَا. وَدَقِيقُ الْمَسْرَبَةِ: خَيْطُ الشَّعْرِ الَّذِي بَيْنَ الصَّدْرِ والسرة، وبادن ذُو لَحْمٍ مُتَمَاسِكٍ، مُعْتَدَلِ الْخَلْقِ، يُمْسِكُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: لَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلا بِالْمُكَلْثَمِ أَيْ لَيْسَ بِمُسْتَرْخِي اللَّحْمِ، وَالْمُكَلْثَمُ: الْقَصِيرُ الذَّقَنِ. وَسَوَاءُ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ: أي مستويهما. وشيخ الصَّدْرِ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَيَكُونُ مِنَ الإِقْبَالِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي أَشَاحَ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ بَادِي الصَّدْرِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِهِ قَعَسٌ، وَهُوَ تَطَامَنَ فِيهِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ قَوْلُهُ: قَبْلَ سَوَاءِ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، أَيْ: لَيْسَ بِمُتَقَاعِسِ الصَّدْرِ وَلا مُفَاضِ الْبَطْنِ، وَلَعَلَّ اللَّفْظَ، مَسِيحٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى عَرِيضٍ، كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى. وَحَكَاهُ ابْن دُرَيْدٍ. والكراديس: رؤوس الْعِظَامِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: جليل المشاش والكتد، والمشاش رؤوس الْمَنَاكِبِ، وَالْكَتَدُ: مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ. وَشثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَحِيمُهُمَا، وَالزَّنْدَانِ عَظْمَا الذِّرَاعَيْنِ، وَسَائِلُ الأَطْرَافِ، أَيْ: طَوِيلُ الأَصَابِعِ. وَذَكَرَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ رَوَى ساين(2/395)
(بِالنُّونِ) وَهُمَا بِمَعْنَى تَبَدُّلِ اللامِ مِنَ النُّونِ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الأُخْرَى وَسَائِرُ الأَطْرَافِ فَإِشَارَةٌ إِلَى فَخَامَةِ جَوَارِحِهِ، كَمَا وَقَعَتْ مُفَصَّلَةٌ فِي الْحَدِيثِ. وَرَحْبُ الرَّاحَةِ أَيْ: وَاسِعُهَا، وَقِيلَ: كَنَّى بِهِ عَنْ سَعَةِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ. خُمْصَانُ الأَخْمَصَيْنِ:
أَيْ مُتَجَافِي أَخْمَصُ الْقَدَمِ. وهو الموضوع الَّذِي لا تَنَالُهُ الأَرْضُ مِنْ وَسَطِ الْقَدَمِ.
وَمَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ: أَيْ أَمْلَسَهُمَا، لِهَذَا قَالَ: يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خِلافٌ هَذَا، قَالَ فِيهِ: إِذَا وَطِئَ بِقَدَمِهِ وَطَئ بِكُلِّهَا، لَيْسَ لَهُ أَخْمَصُ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَعْنَى قَوْلِهِ، مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ، وَبِهِ قَالُوا: سُمِّيَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْمَصُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، لأَنَّهُ كَانَ يُؤْتِي بَذَوِي الْعَاهَاتِ فَيَمْسَحُ عَلَى مَوَاضِعِهَا فَتَزُولُ، وَالْمَسِيحُ الدَّجَّالُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. رَجْعٌ إِلَى الأَوَّلِ، وَقِيلَ: مَسِيحٌ لا لخم عَلَيْهِمَا، وَهَذَا أَيْضًا يُخَالِفُ قَوْلَهُ: شَثْنُ الْقَدَمَيْنِ. وَالتَّقَلُّعُ: رَفْعُ الرِّجْلِ بِقُوَّةٍ، وَالتَّكَفُّؤُ الْمَيْلُ إِلَى سُنَنِ الْمَشْيِ وَقَصْدِهِ، وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ وَالْوَقَارُ. وَالذَّرِيعُ: الْوَاسِعُ الْخَطْوِ أَيْ أَنَّ مَشْيَهُ كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ رِجْلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَيَمُدُّ خَطْوَهُ، خِلافَ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ، وَيقصدُ سمتَهُ، وَكُلّ ذَلِكَ بِرِفْقٍ، وَتَثَبُّتٍ دُونَ عَجَلَةٍ، كَمَا قَالَ: كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ- وَقَوْلُهُ:
يَفْتَتِحُ الْكَلامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ، أَيْ لِسَعَةِ فَمِهِ، وَالْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِهَذَا، وَتَذُمُّ بِصِغَرِ الْفَمِ. وَأَشَاحَ: مَال وَانْقَبَضَ. وَحَبُّ الْغَمَامِ: الْبَرَدُ. وَقَوْلُهُ: فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ، أَيْ جَعَلَ مِنْ جُزْءِ نَفْسِهِ مَا يوصلُ الْخَاصَّة إِلَيْهِ، فَتوصلُ عَنْهُ لِلْعَامَّةِ، وَقِيلَ يَجْعَلُ مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ، ثُمَّ يَبْذُلُهَا فِي جُزْءٍ آخَرَ لِلْعَامَّةِ، وَيَدْخُلُونَ رُوَّادًا، أَيْ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ. وَلا يَنْصَرِفُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ، وَقِيلَ: عَنْ عِلْمٍ يَتَعَلَّمُونَهُ، ويشبه أن يكون على ظاهره، أي فِي الْغَالِبِ وَالأَكْثَرِ. وَالْعَتَادُ الْعُدَّةُ، وَالشَّيْءُ الْحَاضِرُ الْمُعَدُّ. وَالْمُؤَازَرَةُ:
الْمُعَاوَنَةُ. وَقَوْلُهُ: لا يُوطِنُ الْمَوَاطِنَ، أَيْ: لا يَتَّخِذُ لِمُصَلاهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا، وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُهُ عَنْ هَذَا مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَصَابَرَهُ أَيْ: حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ صَاحِبُهُ. وَلا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرُمُ أي: لا يذكرن بسوء. ولا تنثى فَلَتَاتُهُ أَيْ: لا يُتَحَدَّثُ بِهَا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَلْتَةٌ. وَيَرْفِدُونَ: يُعِينُونَ، وَالسَّخَّابُ: الْكَثِيرُ الصِّيَاحِ. وَقَوْلُهُ:
وَلا يُقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ، قِيلَ: مُقْتَصِدٍ فِي ثَنَائِهِ وَمَدْحِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ عَلَى يَدٍ سَبَقَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَسْتَفِزُّهُ: يَسْتَخِفُّهُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي وَصْفِهِ: مَنْهُوس الْعَقَبِ، أَيْ: قَلِيلٌ لَحْمُهَا، وَأَهْدَبُ الأَشْفَارِ، أَيْ طَوِيلٌ شَعَرُهَا.(2/396)
ذِكْرُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ تُشْبِهُ جَسَدَهُ، وفي لفظ: سلعة مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ.
وَقَدْ رُوِي عَنْ أَبِي رِمْثَةَ أَنَّهُ شَعْرٌ مُجْتَمِعٌ عِنْدَ كَتِفَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مِثْلُ بَيْضُ الْحَمَامَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُدَاوِيكَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: «يُدَاوِيهَا الَّذِي وَضَعَهَا» .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: مِثْلُ التِّفَّاحَةِ، وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَقِيلَ: عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ الأَيْسَرِ، وَقِيلَ: كَانَتْ بِضْعَةَ لَحْمٍ كَلَوْنِ بَدَنِهِ، وَقِيلَ: كَانَتْ كَزِرِّ الْحَجَلَةِ، وَقِيلَ:
كَانَتْ ثَلاثَ شَعَرَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَامَةً خَضْرَاءَ مُحْتَفَرَةً فِي اللَّحْمِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، رَأَيْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلانٌ كَأَنَّهَا الثَآلِيلُ عِنْدَ نَاغِضِ، وَرُوِيَ: عِنْدَ غُضْرُوفِ كَتِفِه الْيُسْرَى، وَفِي رِوَايَةِ سود رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقِيلَ: مِثْلُ الْبُنْدُقَةِ.
وَقِيلَ: كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ، وَقِيلَ: كَرُكْبَةِ الْعَنْزِ، أَسْنَدَهُ أَبُو عُمَرَ عن عباد بن عمر، وَقِيلَ:
نُورٌ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ بِسَنَدِهِ إِلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ الرَّضَاعِ وَشَقِّ الصَّدْرِ، وَفِيهِ: وَأَقْبَلَ الثَّالِثُ- يَعْنِي الْمَلَكَ- وَفِي يَدَيْهِ خَاتَمٌ لَهُ شُعَاعٌ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَثَدْيَيْهِ، وَوجدَ بردهُ زَمَانًا، وَقِيلَ: وُلِدَ وَهُوَ بِهِ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا:
لَمَّا شَكُّوا فِي مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ يَدَهَا بَيْنَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ، وَقَدْ رُفِعَ الْخَاتَمُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ. فَهَذَا الَّذِي عُرِفَ بِهِ مَوْتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ.(2/397)
ذكر جمل من أخلاقه عليه أفضل الصلاة والسلام
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [1] قَالَتْ: عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، يَعْنِي التَّأَدُّبَ بِآدَابِهِ، وَالتَّخَلُّقَ بِمَحَاسِنِهِ، وَالالْتِزَامَ لأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ،
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ» .
وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:
«إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهْمُ لا يَعْلَمُونَ» .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ النَّاسِ عَفْوًا، لا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ.
وَلَمَّا تَصَدَّى لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ لِيَقْتُلَهُ وَالسَّيْفُ بِيَدِهِ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ لَهُ: «اللَّه» ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: وَقَدْ أَخَذَ السَّيْفَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي» فَقَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، فَتَرَكَهُ وَعَفَا عَنْهُ،
فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ، وَعَفَا عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ الْيَهِودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ فِي الشَّاةِ بَعْدَ اعْتِرَافِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ لَبِيدَ بْنَ الأَعْصَمِ إِذْ سَحَرَهُ، وَلا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَشْبَاهَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِعَظِيمِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ قَوْلا وَفِعْلا.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْخَى النَّاسِ كَفًّا، مَا سُئِلَ شيئا فقال له. وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ غَنَمًا مَلأَتْ وَادِيًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ. فَقَالَ: أَرَى مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لا يَخْشَى الْفَقْرَ. وَرَدَّ عَلَى هَوَازِنَ سَبَايَاهُمْ، وَكَانَتْ سِتَّةَ آلافٍ، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ مِنَ الذَّهَبِ مَا لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ تِسْعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا يُقَسِّمُهَا فَمَا رَدَّ سَائِلا حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا. وَذُكِرَ عَنْ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ، يَعْنِي: طَبَقًا، وَاجر زغب، يُرِيدُ قِثَّاءً، فَأَعْطَانِي ملء كفه حليا وذهبا.
وروينا عن
__________
[ (1) ] سورة القلم الآية 4.(2/398)
الشافعي: فثنا الحسين بن عبد الله القطان بالرقة، فثنا عمر بن حفص، فثنا أبو عبد الصمد العمي، فثنا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا طَبَخْتَ فَأَكْثِرِ الْمَرَقَ وَاقْسِمْ فِي أَهْلِكَ وَجِيرَانِكَ» .
رواه مسلم [1] عن أبي كامل، وإسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ بِهِ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْجَعَ النَّاسِ، سُئِلَ الْبَرَاءُ: أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ. وَفِيهِ: فَمَا رُئِيَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ وَلا أَنْجَدَ وَلا أَجْوَدَ وَلا أَرْضَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ،
لَقَدْ فُزِّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَاسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ، عرى وَالسَّيْفُ فِي عنقه، وهو يقول: «لن تراعو» .
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً إِلَّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَضْرِبُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كُنَّا إِذَا حَمِيَ أَوِ اشْتَدَّ الْيَأْسُ وَاحْمَرَّتِ الْحُدُقُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا،
وَقِيلَ: كَانَ الشُّجَاعُ هُوَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِهِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً وَأَكْثَرَهُمْ عَنِ الْعَوَرَاتِ إِغْضَاءً، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [2] . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ- الْحَدِيثَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ مَا يَكْرَهُهُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلانٍ يَقُولُ كَذَا، وَلَكِنْ يَقُولُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَصْنَعُونَ أَوْ يَقُولُونَ كَذَا» .
يَنْهَى عَنْهُ وَلا يُسَمِّي فَاعِلَهُ.
وَعَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ لا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَلا سَخَّابًا بِالأَسْوَاقِ، وَلا يُجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ. وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ،
وَعَنْهَا: مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قط.
وروى عنه أنه كان في حيائه لا يثبت بصره في وجهه أَحَدٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يُكَنِّي عَنْ مَا اضْطَرَّهُ الْكَلامُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أوسع الناس صدرا، وأصدق
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب الوصية بالجار والإحسان إليه (4/ 2025) .
[ (2) ] سورة الأحزاب: الآية 53.(2/399)
النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً، هَذَا مِنْ كَلامِ عَلِيٍّ فِي صِفَتِهِ.
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: زَارَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَرَادَ الانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا وَطَأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ [1] فَرَكِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ سَعْدٌ: يَا قَيْسُ، اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ قَيْسٌ: فَقَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارْكَبْ» فَأَبَيْتُ، فَقَالَ: «إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ» فَانْصَرَفْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ارْكَبْ أَمَامِي فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِمُقَدَّمِهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلا أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ: «لَبَّيْكَ» .
وَقَالَ جَرِيرٌ: مَا حَجَبَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَازِحُ أَصْحَابَهُ وَيُخَالِطُهُمْ وَيُحَادِثُهُمْ، وَيُدَاعِبُ صِبْيَانَهُمْ، وَيُجْلِسُهُمْ فِي حِجْرِهِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالأَمَةِ وَالْمِسْكِينِ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ الْمُعْتَذِرِ،
قَالَ أنس: ما التقم أحد أذان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ، وما أخذ بِيَدِهِ فَيُرْسِلُ يَدَهُ حَتَّى يُرْسِلَهَا الآخِذُ. وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ، وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلامِ، وَيَبْدَأُ أَصْحَابَهُ بِالْمُصَافَحَةِ، لَمْ يُرَ قَطُّ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى يَضِيقَ بِهِمَا عَلَى أَحَدٍ، يُكْرِمُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا بَسَطَ لَهُ ثَوْبَهُ، وَيُؤْثِرُهُ بِالْوِسَادَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا إِنْ أَبَى، وَيُكَنِّي أَصْحَابَهُ وَيَدْعُوهُمْ بِأَحَبِّ أَسَمْائِهِمْ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَلا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لا يَجْلِسُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَّا خَفَّفَ صَلاتَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجَتِهِ فَإِذَا فَرَغَ عَادَ إِلَى صَلاتِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا، وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا مَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ أَوْ يَعِظْ أو ويخطب،
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا شَفَقَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَهُمْ، فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ:
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [2] ، قال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [3] قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ فَقَالَ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [4] ومن ذلك تخفيفه وتسهيله
__________
[ (1) ] القطيفة: نسيج من الحرير والقطن، صفيق أوبر، تتخذ منه ثياب وفرش.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 128.
[ (3) ] سورة الأنبياء: الآية 107.
[ (4) ] سورة التوبة: الآية 128.(2/400)
عَلَيْهِمْ وَكَرَاهَتُهُ أَشْيَاءَ مَخَافَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ
كَقَوْلِهِ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بالسواك مع كل وضوء» ،
وخبره صَلاةِ اللَّيْلِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْوِصَالِ، وَكَرَاهِيَةُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ لَيْلا يُعَنِّتُ أُمَّتَهُ، وَرَغْبَتُهُ لِرَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ سَبَّهُ، وَلَعْنَهُ لَهُمْ رَحْمَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِهِ،
وَلَمَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ أَمَرَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، وإن شِئْتِ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ [1] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وَحْدَهُ وَلا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَنْ تُطِيعَكَ، فَقَالَ: أُؤَخِّرُ عَنْ أُمَّتِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ،
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
وَرَوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: «لا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمَ الصَّدْرِ» ،
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أوصل الناس لرحم، وأقوامهم بِالْوَفَاءِ وَحُسْنِ الْعَهْدِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي داود، فثنا محمد بن سنان، فثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ بُدَيْلٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ، ثُمَّ نَسِيتُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلاثٍ، فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَال: «يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلاثٍ أَنْتَظِرُكَ» [2] .
وَعَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم إذا أتى
__________
[ (1) ] قال أبو الوليد الأزرقي: الأخشبان بمكة هما الجبلان، أحدهما: أبو قيس، وهو الجبل المشرف على الصفا إلى السويد إلى الخندمة، وكان يسمى في الجاهلية الأمين، لأنه الحجر الأسود كان مستودعا فيه عام الطوفان. قال الأزرقي: وبلغني عن بعض أهل العلم من أهل مكة أنه قال: إنما سمي أبا قبيس لأن رجلا كان يقال له أبو قبيس بنى فيه، فلما صعد فيه بالبناء سمي الجبل أبا قبيس، ويقال: كان الرجل من إياد، قال: ويقال: اقتبس منه الحجر الأسود فسمي أبا قبيس، والقول الأول أشهرهما عند أهل مكة، قال مجاهد: أول جبل وضعه الله تعالى على الأرض حين مادت أو قبيس. وأما الأخشب الآخر فهو الجبل الذي يقال له الأحمى، وكان يسمى في الجالهية: الأعرف، وهو الجبل المشرف على قعيقعان وعلى دور عبد الله بن الزبير (انظر تهذيب الأسماء واللغات للنوي 3/ 108) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في العدة (5/ 268) رقم 4996.(2/401)
بِهَدِيَّةٍ، قَالَ: «اذْهَبُوا بِهَا إِلَى بَيْتِ فُلانَةٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ، إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ» ،
وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَهَشَّ لَهَا، وَأَحْسَنَ السُّؤَالَ عَنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَ: «إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ» ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنَّ آلَ أَبِي فُلانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءٍ، غَيْرَ أَنَّ لِي رَحِمًا سَأُبُلُّهَا بِبَلالِهَا» .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ: وَفَدَ وَفْدٌ لِلنَّجَاشِيِّ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْدِمُهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: نَكْفِيكَ، فَقَالَ:
«إِنَّهْمُ كَانُوا لأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُكَافِئَهُمْ» .
وَلَمَّا جِيءَ بِأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ الشَّيْمَاءِ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ بَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى أَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا، فَمَتَّعَهَا،
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعًا عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونُ نَبِيًّا عَبْدًا، فَقَالَ لَهُ إِسْرَافِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ، إِنَّكَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَخَرَجَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَامُوا لَهُ، فَقَالَ: «لا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» ، وَكَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَعُودُ الْمَسَاكِينَ، وَيُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مُخْتَلِطًا بِهِمْ، حَيْثُ مَا انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ جَلَسَ، وَقَالَ لامْرَأَةٍ أَتَتْهُ فِي حَاجَةٍ: «اجْلِسِي يَا أُمَّ فُلانٍ فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسُ إِلَيْكَ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ» ، فَجَلَسَتْ وَجَلَسَ، وَكَانَ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالإِهَالَةِ السَّنِخَةِ [1] فَيُجِيبُ، وَحَجَّ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ مَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَأَهْدَى فِي حَجِّهِ ذَلِكَ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلامِ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ: فثنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ مَاهَانَ، فثنا محمد بن عبد الرحمن بن بكر، فثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي بَيْتِهِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ، وَيَعْلِفُ نَاضِحَهُ، وَيَقُمُّ [2] الْبَيْتَ، وَيَعْقِلُ [3] الْبَعِيرَ، وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَعْجِنُ مَعَهَا، وَيَحْمِلُ بِضَاعَتَهُ مِنَ السُّوقِ.
وَعَنْ أَنَسٍ إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث
__________
[ (1) ] يقال: سنخ الدهن والطعام سنخا: أي زنخ.
[ (2) ] أي يكنسه.
[ (3) ] أي يربطه.(2/402)
شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى الأَمِينَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لِمَا عَرَفُوا مِنْ أَمَانَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: كَانَ يُتَحَاكَمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الإِسْلامِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِقُرَيْشٍ: قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ، لا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: مَا لَمَسَتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ لا يَمْلِكُ رِقَّهَا، وَقَالَ: «وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» .
وَعَنِ الْحَسَنِ: مَا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ أَحَدًا بِقَرَفِ [1] أَحَدٍ، وَلا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ، وَكَانَ أَوْقَرَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِهِ، لا يَكَادُ يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الطِّيبَ وَالرَّائِحَةَ الْحَسَنَةَ، وَيَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا، وَمِنْ مُرُوءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيُهُ عَنِ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالأَمْرُ بِالأَكْلِ مِمَّا يَلِي، وَالأَمْرُ بِالسِّوَاكِ، وَإِنْقَاءُ الْبَرَاجِمِ وَالرَّوَاجِبِ [2] وَاسْتِعْمَالُ خِصَالِ الْفِطْرَةِ.
وَأَمَّا زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا وَعِبَادَتُهُ وَخَوْفُهُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فَقَدْ تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَكَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَةَ أَيَّامِ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وَلا شَاةً وَلا بَعِيرًا،
قَالَتْ: وَلَقَدْ مَاتَ وَمَا فِي بَيْتِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، وَقَالَ لِي: «إِنِّي عُرِضَ عَلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ لِي بَطْحَاءُ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ:
لا يَا رَبِّ، بَلْ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ فَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ وَأَدْعُوكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَشْبَعُ فِيهِ فَأَحْمَدُكَ وَأُثْنِي عَلَيْكَ» ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ هُوَ وَأَهْلُهُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا لا يَجِدُونَ عَشَاءً. وَكَانَ يَقُولُ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» ،
وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ عَمَلُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيمَةً [3] ، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُ، وَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ.
وَقَالَ عوف بن مالك: كنت مع
__________
[ (1) ] أي بتهمة.
[ (2) ] ما بين الأصابع.
[ (3) ] أي مستمرا كالمطر الدائم المتابع في تساقطه.(2/403)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فَاسْتَاكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي: فَقُمْتُ مَعَهُ، فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ، فَلا يَمُرُّ بِآيَةٍ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلا بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْعَظَمَةِ» ، ثُمَّ سَجَدَ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ سُورَةً سُورَةً يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّه فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» .(2/404)
ذِكْرُ مُصِيبَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمَّا قَفَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ ذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا، وَضَرَبَ عَلَى النَّاسِ بَعْثًا أَمِيرُهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ آخِرُ بُعُوثِهِ، فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ابْتُدِئَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسلامُهُ بِشَكْوَاهُ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ إِلَى مَا أَرَادَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَكَرَامِتِه، فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ، أَوْ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ مَقْبَرَتِهِمْ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَاسْتَغَفْرَ لَهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْتُدِئَ بِوَجْعِهِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا في رأسي وأنا أقول: وا رأساه، فقال: «بل أنا والله يا عائشة وا رأساه» . قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: «وَمَا ضَرُّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ» . قُلْتُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَتَامَّ بِهِ وَجْعُهُ وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نسائه حتى استعز [1] به وهو في مَيْمُونَةَ، فَدَعَا نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأُذِنَ لَهُ. قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي بن رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ، أَحَدُهُمَا: الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: وَرَجُلٌ آخَرُ عَاصِبًا رَأْسَهُ تَخُطُّ قَدَمَاهُ الأَرْضَ حَتَّى دَخَلَ بَيْتِي. قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: الرَّجُلُ الآخَرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ غُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجْعُهُ، فَقَالَ: أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدُ إِلَيْهِمْ» فَأَقْعَدْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ [2] لِحَفْصَةَ بنت عمرو، ثُمَّ صَبَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى طَفِقَ يَقُولُ: «حَسْبُكُمْ حَسْبُكُمْ» .
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ بن بشير، أن
__________
[ (1) ] أي اشتد ألمه.
[ (2) ] المخضب: الأجانة التي تغسل الثياب فيها.(2/405)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَأَكْثَرَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَفَهِمَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعَرَفَ أَنَّ نَفْسَهُ يُرِيدُ. فَقَالَ: نَفْدِيكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَبْنَائِنَا. فَقَالَ: «عَلَى رَسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثُمَّ قَالَ:
«انْظُرُوا هَذِهِ الأَبْوَابَ اللافِظَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ فِي الصُّحْبَةِ عِنْدِي يَدًا مِنْهُ» ، وَأَرَادَ عُمَرُ فَتْحَ كَوَّةٍ لِيَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْعَبَّاسِ: مَا فَتَحْتُ عَنْ أَمْرِي وَلا سَدَدْتُ عَنْ أَمْرِي» وَاسْتَبْطَأَ النَّاسُ فِي بَعْثِ أُسَامَةَ فَخَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ- وَقَدْ كَانَ النَّاسُ قَالُوا فِي إِمْرَةِ أُسَامَةَ: أَمَّرَ غُلامًا حَدْثًا عَلَى جُلَّةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ- فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ، فَلَعَمْرِي لَئِنْ قُلْتُمْ فِي إِمَارَتِهِ لَقَدْ قُلْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا بِهَا» . ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْكَمَشَ [1] النَّاسُ فِي جِهَازِهِمْ وَاسْتَعَزَّ بِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وَجْعُهُ، فَخَرَجَ أُسَامَةُ وَخَرَجَ جَيْشُهُ مَعَهُ حَتَّى نَزَلُوا الْجُرْفَ مِنَ الْمَدِينَةِ، عَلَى فَرْسَخٍ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرُهُ، وَتَتَامَّ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ أُسَامَةُ وَالنَّاسُ لِيَنْظُرُوا مَا اللَّهُ قَاضٍ فِي رَسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كعب بن مالك أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِالأَنْصَارِ يَوْمَ صَلَّى، وَاسْتَغْفَرَ لأَصْحَابِ أُحُدٍ، وَذَكَرَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ: اسْتَوْصُوا بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّ النَّاسَ يَزِيدُونَ، وَإِنَّ الأَنْصَارَ عَلَى هَيْئَتِهَا لا تَزِيدُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَيْبَتِي الَّتِي أَوَيْتُ إِلَيْهَا، فَأَحْسِنُوا إِلَى مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» . ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا [2] ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةِ فَقَالَ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ، فَقَالَ: «أَنَا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلاءُ وَيُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ» .
وَعَنْ عَلْقَمَةَ: قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوْعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا! قَالَ: «أَجَلْ، إني أوعك كما يوعك رجلان
__________
[ (1) ] أي أسرعوا.
[ (2) ] يتألم ألما شديدا.(2/406)
مُنْكُمْ» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ ... الْحَدِيثَ.
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ فِيمَا رُوِّينَا سَبْعَ عشرة صلاة، وصلى لنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْتَمًّا بِهِ رَكْعَةً ثَانِيَةً مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَضَى الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ وَقَالَ: «لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ» .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ: «مُرِ النَّاسَ فَلْيُصَلُّوا» يَقُولُ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ، فَذَهَبَ ابْنُ زَمْعَةَ فَقَدَّمَ عُمَرَ لِغَيْبَةِ أَبِي بَكْرٍ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ صَوْتَهُ أَخْرَجَ رَأْسَهُ حَتَّى أَطْلَعَهُ لِلنَّاسِ مِنْ حُجْرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: «لا، لا، لا، ليصلّ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ» .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَالَ: فَانْفَضَّتِ الصُّفُوفُ، وَانْصَرَفَ عُمَرُ، فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى طَلَعَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَكَانَ بِالسُّنْحِ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَتَبَسَّمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَا رَأَى مِنْ هَيْئَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي صَلاتِهِمْ سُرُورًا بِذَلِكَ. وَقَالَ: ائْتُونِي أَكتب لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» فَتَنَازَعُوا فَلَمْ يَكتب.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ لا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ.
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَامَّةُ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: «الصَّلاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَبْلَ ذَلِكَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ» قَالَتْ: فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ:
«اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» فَعَلِمْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ. وَفِي خَبَرٍ عَنْهَا: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَمُوتُ وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ» .
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ خَبَرًا فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ مِنْ أَجَلِهِ ثَلاثٌ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ إِكْرَامًا لَكَ، وَتَفْضِيلا لَكَ، وَخَاصَّةً لَكَ، يَسْأَلُكَ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، يَقُولُ لَكَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَفِيهِ إِنَّ ذَلِكَ ثَلاثٌ الْمَرَّةُ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: صَحِبَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فِي قَبْضِ نَفْسِهِ أَوْ تَرْكِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِطَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا أَحْمَدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَيْكَ، قَالَ: «فَاقْبِضْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ كَمَا أُمِرْتَ بِهِ» ، قَالَ جِبْرِيلُ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا آخِرُ مَوْطِئِ الأَرْضِ. فَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلا يَرَوْنَ الشَّخْصَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ المصاب(2/407)
مَنْ حُرِمَ الثَّوَابُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته. وقد ذكر أن هذا المعزية هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ [1] .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَوْمُ الاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ: فَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَجُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّهُ: الثَّانِي عَشَرَ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سَالِمٍ: وَهَذَا لا يَصِحُّ، وَقَدْ جَرَى فِيهِ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنَ الْغَلَطِ مَا عَلَيْنَا بَيَانُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ السُّهَيْلِيُّ إِلَى بَيَانِهِ، لأَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ وَقْفَتُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ يَوْم الاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، سَوَاءَ أَتَمَّتِ الأَشْهُرُ كُلُّهَا أَوْ نَقَصَتْ كُلُّهَا، أَوْ تَمَّ بَعْضُهَا وَنَقَصَ بَعْضُهَا. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخُوَارَزْمِيُّ: أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْهُ، وَكِلاهُمَا مُمْكِنٌ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَّتْهُ الْمَلائِكَةُ [2] دُهِشَ النَّاسُ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا عُمَرُ فَكَانَ مِمَّنْ خُبِلَ [3] ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حِينَ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا عُثْمَانُ فَأُخْرِسَ حَتَّى جَعَلَ يُذْهَبُ بِهِ وَيُجَاءُ وَهُوَ لا يَتَكَلَّمُ. وَأُقْعِدَ عَلِيٌّ، وَأُضْنِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ مِنَ الضَّنَى، وَهُوَ الْمَرَضُ. وَبَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرُ، وَكَانَ بِالسُّنْحِ، فَجَاءَ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلانِ، فَقَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي، وَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَتَكَلَّمَ كَلامًا بَلِيغًا سَكَنَ بِهِ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ جَأْشُهُمْ، وَكَانَ أَثْبَتَ الْقَوْمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَغَسَّلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَابْنَاهُ: الْفَضْلُ وَقُثَمُ، وَمَوْلَيَاهُ: أُسَامَةُ وَشُقْرَانُ، وَحَضَرَهُمْ أَوْسُ بْنُ خَوْلَى الأَنْصَارِيُّ، وَكُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْذَاذًا [4] لَمْ يَؤُمَّهُمْ أَحَدٌ، وَفُرِشَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ كَانَ يَتَغَطَّى بِهَا، وَدَخَلَ قَبْرَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ وَشُقْرَانُ، وَأُطْبِقَ عَلَيْهِ تِسْعُ لَبِنَاتٍ، وَدُفِنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَفَّاهُ اللَّهُ فِيهِ حَوْلَ فِرَاشِهِ، وَكَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي غُسْلِهِ، فَقَالُوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله في ثيابه كما نجرد مَوْتَانَا، أَوْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا ألقى الله عليهم النوم، وكلمهم
__________
[ (1) ] انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 258) .
[ (2) ] أي غطته الملائكة.
[ (3) ] أي فسد عقله وجن.
[ (4) ] أي جماعة بعد أخرى.(2/408)
مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: اغْسِلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، يَصُبُّونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَيُدَلِّكُونَهُ وَالْقَمِيصُ دُونَ أَيْدِيهِمْ: فَأَسْنَدَهُ عَلِيٌّ إِلَى صَدْرِهِ، وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ يُقَلِّبُونَهُ مَعَهُمْ، وَأُسَامَةُ وَشُقْرَانُ يَصُبَّانِ الْمَاءَ، وَعَلِيٌّ يُغَسِّلُهُ بِيَدِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ:
هَلْ يَكُونُ فِي مَسْجِدِهِ أَوْ مَعَ أَصْحَابِهِ؟ فقال أبو بكر: ادفنوه في الموضع الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ، فَعَلِمُوا أَنْ قَدْ صَدَقَ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يصرخ كَحفرِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سهل يلحد كأهل المدينة، فاختلفوا كَيْفَ يُصْنَعُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَّهَ الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَالآخَرُ لأَبِي طَلْحَةَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ فَحَضَرَ أَبُو طَلْحَةَ فَلَحَدَ لَهُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جِهَازِهِ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ،
قَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ سَمِعْنَا هَمْهَمَةً وَلَمْ نَرَ شَخْصًا، سَمِعْنَا هَاتِفًا يَقُولُ: ادْخُلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُمْ، ثُمَّ دُفِنَ مِنْ وَسَطِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الأَرْبَعَاءِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ شَكْوَاهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَلَمَّا دُفِنَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ عَلَيْهَا السَّلامُ:
اغْبَرَّ آفَاقُ السَّمَاءِ وَكُوِّرَتْ ... شَمْسُ النَّهَارِ وَأُظْلِمَ الْعَصْرَانِ
فَالأَرْضُ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ كَئِيبَةٌ ... أَسَفًا عَلَيْهِ كَثِيرَة الرُّجْفَانِ
فَلْيَبْكِهِ شَرْقُ البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمان
وليبكه الطود المعظم ضوءه ... وَالْبَيْتُ ذُو الأَسْتَارِ وَالأَرْكَانِ
يَا خَاتَمَ الرُّسُلِ الْمُبَارَكَ ضَوْءُهُ ... صَلَّى عَلَيْكَ مُنَزِّلُ الْفُرْقَانِ
وَيُرْوَى أَنَّهَا تَمَثَّلَتْ بِشِعْرِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الأَحْجَمِ:
قَدْ كُنْتَ لِي جَبَلا أَلُوذُ بِظِلِّهِ ... فَتَرَكْتَنِي أَمْشِي بِأَجْرَدِ ضَاحِ
قَدْ كُنْتَ ذَاتَ حَمِيَّة مَا عِشْتَ لِي ... أَمْشِي الْبراز وَكُنْتَ أَنْتَ جَنَاحِي
فاليوم أخضع للذيل وَأَتَّقِي ... مِنْهُ وَأَدْفُع ظَالِمِي بِالرَّاحِ
وَإِذَا دَعَتْ قَمَرِيَّةٌ شَجَنًا لَهَا ... لَيْلا عَلَى فَنَنٍ دَعَوْتَ صَبَاحِ
وَمِمَّا يُنْسَبُ لِعَلِيٍّ أَوْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ ... أَلا يَشُمُّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ عدن لياليا(2/409)
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا الأَيْدِي من دفنه الأَيْدِي مِنْ دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَتُعَزِّ المسلمين في مصائبهم الْمُصِيبَةُ بِي» .
وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ: «أَنَا فَرَطٌ لأُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي،
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يُرْثِيهِ:
أَرَقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لا يَزُولُ ... وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةُ فِيهِ طولُ
وَأَسْعَدَنِي الْبُكَاءُ وَذَاكَ فِيمَا ... أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ قَلِيلُ
لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ ... عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمَّا عَرَاهَا ... تَكَادُ بِنَا جَوَانِبُهَا تَمِيلُ
فَقَدْنَا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل
وَذَاكَ أَحَقُّ مَا سَالَتْ عَلَيْهِ ... نُفُوسُ النَّاسِ أَوْ كَرِبَتْ تَسِيلُ
نَبِيٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَّ عنا ... بما يوحي إليه ما يَقُولُ
وَيَهْدِينَا وَلا نَخْشَى ضَلالا ... عَلَيْنَا وَالرَّسُولُ لَنَا دَلِيلُ
أَفَاطِمُ إِنْ جَزَعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ ... وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي ذَاكَ السَّبِيلُ
فَقَبْرُ أَبِيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ ... وَفِيهِ سَيِّدُ النَّاسِ الرَّسُولُ
وَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ الإِكْثَارِ، وَسَمَحْنَا بِإِيرَادِ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الأَشْعَارِ، لَخَرَجْنَا عَمَّا جَنَحْنَا إِلَيْهِ مِنَ الإِيجَازِ وَالاخْتِصَارِ، فَالأَشْعَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلأَنْوَاع الأَسَى وَالأَسَفِ مُثِيرَة، فَيَا لَهُ مِنْ خَطْبٍ جَلٌّ عَنِ الْخُطُوبِ، وَمَصَائِب علمَ دَمْعُ الْعَيْنِ كَيْفَ يَصوبُ، وَرُزْءٌ غَرَبَتْ لَهُ النَّيِّرَاتُ، وَلا تُعَلّلُ بِشُرُوقِهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَحَادِثٌ هَجَمَ هُجُومِ اللَّيْلِ، فَلا نَجَاءَ مِنْهُ لِهَارِبٍ، وَلا فِرَارَ مِنْهُ لِمَطْلُوبٍ، وَلا صَبَاحَ لَهُ فَيَجْلُو غَيَاهِبَهُ الْمُمِلَّةَ، وَدَيَاجِيهِ الْمُدْلَهِمَّةَ، وَلِكُلِّ لَيْلٍ إِذَا دَجَى صَبَاحٌ يَؤُوبُ، وَمَنْ سَرَّ أَهْلَ الأَرْضِ ثُمَّ بَكَى أَسًى بَكَى بِعُيُونٍ سَرَّهَا وَقُلُوبٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مِنْ نَارٍ حَنِيَتْ عَلَيْهَا الأَضَالِعُ لا تَخْبُو وَلا تَخْمُدُ، وَمُصِيبَةٌ تَسْتَكُّ مِنْهَا الْمَسَامِعُ، لا يَبْلَى عَلَى مَرِّ الْجَدِيدَيْنِ حُزْنُهَا الْمُجَدَّدُ:
وَهَلْ عَدَلْتَ يَوْمًا رَزِيئَة هَالِكٍ ... رَزِيئَة يَوْمَ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ
وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ ... وَلا مِثْلُهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ
صَلَّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.(2/410)
وقد انْتَهَى بِنَا الْغَرَضُ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ إِلَى مَا أَرَدْنَاهُ، وَلَمْ نَسْلُكْ بِعَوْنِ اللَّهِ فِيهِ غَيْرَ الاقْتِصَادِ الَّذِي قَصَدْنَاهُ فَمَنْ عَثَرَ فِيهِ عَلَى وَهْمٍ أَوْ تَحْرِيفٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ تَصْحِيفٍ، فَلْيُصْلِحْ مَا عَثَرَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلْيَسْلُكْ سبيل العلماء في قبول العذر هنالك. ومن مَرَّ بِخَبَرٍ لَمْ أَذْكُرْهُ أَوْ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ فلعله بِحَسْبِ مَوْضِعِهِ مِنَ التَّبْوِيبِ أَوْ نَسَقِهِ فِي التَّرْتِيبِ أَوِ الاخْتِصَارِ الَّذِي اقْتَضَاهُ التَّهْذِيبُ، أَوْ لِنكَارَةٍ فِي مَتْنِهِ تَنْقَمُ عَلَى وَاضِعِهِ، أَوْ لأَنِّي مَا مَرَرْتُ بِهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَمَنْ بَرِئَ مِنَ الإِحَاطَةِ أَيُّهَا النَّاظِرُ إِلَيْكَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُلْزِمَهُ بِكُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ.(2/411)
ذِكْرُ الأَسَانِيدِ الَّتِي وَقَعَتْ لِي مِنَ الْمُصَنِّفِينَ
الَّذِينَ أَخْرَجْتُ مِنْ كُتُبِهِمْ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ ما أخرجته وما كَانَ فِيهِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
فأَخْبَرَنَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْعِزِّ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ الْحَرَّانِيُّ بِقِرَاءَةِ وَالِدِي رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ: أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْبَيِّعِ الْحَافِظُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وأنا أسمع ببغداد سنة ستمائة وَغَيْرُهُ إِجَازَةً، قَالُوا: أَنَا أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ عِيسَى قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّاوُدِيُّ، قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن حَمُّوِيَةَ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْفَرَبْرِيُّ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
فَأَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْفُتُوحِ نَصْرِ بْنِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُصْرِيُّ قِرَاءَةً وَأَنَا أَسْمَعُ لِجَمِيعِهِ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُؤَيِّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ إِجَازَةً قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّاعِدِيُّ الْفَرَاوِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ الْجُلُودِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو سُفْيَانَ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ. وَقَدْ سَمِعْتُ قِطْعَةً مِنْهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَافِظِ أَبِي الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَنْمَاطِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الأَنْصَارِيِّ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ. وَبِإِجَازَتِهِ مِنَ الْمُؤَيِّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ الأَوَّلُ: أنبأنا، وَقَالَ الثَّانِي: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفُرَاوِيُّ بِسَنَدِهِ.
وما كان فيه سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ.
فأَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو الْفَضْلِ عبد الرحيم بن يوسف بن يحيى بن الْعلمِ الْمَوْصِلِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ لِجَمِيعِهِ خَلا منْ قَوْله: بَاب الْمُسْتَبَانِ إِلَى بَابِ الأُرْجُوحَةِ فَإِجَازَةً قَالَ:(2/412)
أَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَبَرْزَذٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ، وَهُوَ سَمِعَ الْكِتَابَ كَامِلا مِنْ أَبِي الْبَدْرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْكَرْخِيِّ بَعْضَهُ، وَمِنْ أَبِي الْفَتْحِ مُفْلِحِ بْنِ أَحْمَد بْن مُحَمَّدٍ الدُّومِيِّ، كَمَا هُوَ مُثْبَتٌ عِنْدِي عَلَى الأَصْلِ. قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ، قَالَ: أَنَا أبو بكر عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيِّ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ.
فَأَخْبَرَنَا بِجَمِيعِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ ترجم الْمَازِنِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ لِبَعْضِه وَبِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ لِبَعْضِهِ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْكَرَمِ نَصْرِ بْنِ الْبَنَّا قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ لِبَعْضِهِ قَالَ: أَنَا أبو الفتح عبد الملك بم أَبِي الْقَاسِمِ الْكُرُوخِيُّ قَالَ: أَنَا بِجَمِيعِهِ الْقَاضِي أَبُو عَامِرٍ مَحْمُودُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَزْدِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْغورجِيُّ، وَأَخْبَرَنَا مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ التِّرْيَاقِيُّ، وَمِنْ مَنَاقِبِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى آخِرِ كِتَابِ الْعِلَلِ أَبُو الْمُظَفَّرِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَس قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَحْبُوبِيُّ فَثَنَا التِّرْمِذِيُّ.
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ سُنَنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ.
فَأَخْبَرَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِنَا سَمَاعًا قَالَ: أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَالِمِ بْنِ بَاقَا الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو زُرْعَةَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدِ بْنِ الْحَسَنِ الدُّونِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْكَسَّارِ قَالَ: أَنَا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحق بْنِ السُّنِّيِّ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ.
فَقَدْ قَرَأْتُ الْكِتَابَ كَامِلا عَلَى أَبِي عَلِيٍّ يَعْقُوبَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَضَائِلَ الْحَلَبِيِّ، قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَكَ الإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ يُوسُفَ الْبَغْدَادِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتَ تَسْمَعُ بِحَلَبٍ فَأَقَرَّ بِهِ قَالَ: أَنَا أَبُو زُرْعَةَ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو منصور محمد بن الحسين المقومي إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا ثُمَّ ظَهَرَ سَمَاعُهُ قَالَ: أَنَا أَبُو طَلْحَةَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي الْمُنْذِرِ الْخَطِيبُ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ عَنْهُ.(2/413)
وما كان فيه عن ابن إسحق فَمِنْ كِتَابِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ النَّحْوِيِّ وَتَهْذِيبِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى أَبِي الْمَعَالِي أَحْمَدَ بْنِ إسحق الأَبَرْقُوهِيِّ إِلَّا يَسِيرًا، فَسَمِعْتُهُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْقَوِيِّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجبابِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسَمْعُ وَإِجَازَةً لِمَا خَالَفَ الْمَسْمُوعَ إِنْ خَالَفَ. وَمِنْ أَصْلِ ابْنِ الْجبابِ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ غَدِيرٍ السَّعْدِيُّ قَالَ: أَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْخُلَعِيُّ قَالَ: أَنَا ابْن النَّحَّاسِ قَالَ: أَنَا ابْن الْوَرْدِ عَنِ ابْنِ الْبَرْقِيِّ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ. وَلِي فِي هَذَا الْكِتَابِ أَسَانِيدُ أُخَرُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ شَيْخِنَا الإِمَامِ عِزِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَرَجِ الْفَارُوثِيِّ أَكْثَرَ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَجَازَ لِي سَائِرَهُ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلَ بن علي بن بانكين الْجَوْهَرِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْمُقَرّبِ الْكَرْخِيِّ قَالَ: أَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ حَمْزَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الشُّونِيزِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زَنْجُوِيَةَ الْمُخَرَّمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ القرشي الكتاب، فَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْخَضِرِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ عَبْدَانَ الأَزْدِيِّ الدِّمَشْقِيِّ بِهَا بَعْضَ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَجَازَنِي سَائِرَهُ، وَنَاوَلَنِي جَمِيعَهُ قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبنِّ الأَسَدِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ قَالَ: أَنَا جَدِّي، قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي الْعَلاءِ، قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْعَقِبِ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيُّ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ فَمِنْ كِتَابِ الطَّبَقَاتِ الْكَبِيرِ لَهُ، وَقَدْ قَرَأْتُ مُعْظَمَ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى الشَّيْخِ الإِمَامِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْمُحْسِنِ بْنِ الصَّاحِبِ مُحْيِيِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ الْعُقَيْلِيُّ وَأَجَازَ لِي جَمِيعَ مَا يَرْوِيهِ، وَكَانَ سَمِعَهُ كَامِلا مِنَ الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، وَذَهَبَ يَسِيرٌ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ، فلم يقدر عليه حين قراءتي إياه(2/414)
عَلَيْهِ قَالَ ابْن خَلِيلٍ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَهْبَلِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَارَةَ سَمَاعًا عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ، قَالَ: أَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيِّ قَالَ: أَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ بْنِ حَيُّوِيَةَ قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى الْخَشَّابِ وَأَنَا أَسْمَعُ في شعبان سنة ثمان عشرة وثلاثمائة قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ التَّمِيمِيُّ قَالَ: أَنَا ابْن سَعْدٍ. هَذَا الإِسْنَاد مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى آخِرِ مَا فِيهِ مِنْ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ مَا أُخْرِجَ. وَقَدْ يَتَغَيَّرُ إِسْنَادُهُ فِي بَاقِي الْكِتَابِ، وَلا حَاجَةَ بِنَا إِلَى بَيَانِهِ، غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ كَتَبَهُ عَنِ ابْنِ دَهْبَلٍ، أَسْنَدَهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ سَمَاعًا لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ إِجَازَةً مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ: ذِكْرُ مُقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بمكة من حين نبيء إلى الهجرة. وعن أبي إسحق الْبَرْمَكِيِّ أَيْضًا إِجَازَةً قَالا: أَنَا ابْن حَيُّوِيَةَ، وَالَّذِي وَقَعَ لِي فِي إِسْنَادِ ابْنِ خَلِيلٍ بِالْعَنْعَنَةِ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ السَّمَاعُ مِنَ الإِجَازَةِ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِهِ إِجَازَةً الشَّيْخُ الْمُسْنِدُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ علي ابن نصر بْنِ مَنْصُورٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ كَارَةَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسَمْعُ بِسَنَدِهِ لِبَعْضِهِ وَإِجَازَةً لِسَائِرِهِ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيِّ، فَأَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ الصُّورِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، وَبِقِرَاءَةِ الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمَزِّيِّ، أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخَانِ أَبُو الْفَخْرِ أَسْعَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ رَوْحٍ الصَّالْحَانِيُّ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ عَائِشَةُ بِنْتُ مَعْمَرِ بْنِ الْفَاخِرِ إِجَازَةً مِنْ أَصْبَهَانَ قَالا: أَخْبَرَتْنَا أُمُّ إِبْرَاهِيمَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْزِدَانِيَّةُ وَعَائِشَةُ حَاضِرَةٌ، قَالَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ رِيذَةَ قَالَ:
أَنَا الطَّبَرَانِيُّ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، فَأَخْبَرَنَا بِهِ أَيْضًا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: أَنَا أبو مسلم المؤيد بن عبد الرحيم بن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأُخْوَةِ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ مَعْمَرِ بْنِ الْفَاخِرِ إِجَازَةً قَالا: أَنَا أَبُو الْفَرَجِ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الرَّجَاءِ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو نَصْرٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكِسَائِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ الدَّوْلابِيِّ فَهُوَ مِمَّا قَرَأْتُهُ بِدِمَشْقَ عَلَى الشَّيْخِ الإِمَامِ أَبِي(2/415)
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْفَارُوثِيِّ، أَخْبَرَكُمُ الأَمِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ السَّيِّدِيُّ قَالَ: أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ سَمَاعًا قَالَ: أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الصَّقَرِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الواحد بن الفضل بن نظيف الفاري أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ رَشِيقٍ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ فمن الفوائد المعروفة بالغيلانيات، من رواية أبي طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غَيْلانَ الْبَزَّارُ عَنْهُ، وَقَدْ سَمِعْتُهَا عَنْهُ بِقِرَاءَةِ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ الرحيم بن يوسف بن يحيى بن العلم ثُمَّ قَرَأْتُهَا عَلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ غَازِي بْنِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الدِّمَشْقِيِّ قَالا: أخبرنا أبو أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَبَرْزَدَ قَالَ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ ابْنِ غَيْلانَ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي عَرُوبَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ الْحَرَّانِيِّ فَمِمَّا سَمِعْتُهُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، عَنْ زَاهِرِ بْنِ أَبِي طَاهِرٍ وَمَحْمُودِ بْنِ أَحْمَدَ الثقفيين، وهشام بن عبد الرحيم الأصبهانيين إِجَازَةً بِسَمَاعِهِمْ، مِنْ أَبِي نَصْرٍ، مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْكِبْرِيتِيِّ قَالَ: أَنَا أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مهزبرد النَّحْوِيُّ قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ جُمَيْعٍ الْغَسَّانِيِّ فَمِنْ مُعْجَمِهِ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ عُذَيْرٍ الْقَوَّاسِ بِعَرْبِيلَ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ بِغُوطَتِهَا، أَخْبَرَكُمُ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ حضورا في الرابعة سنة تسع وستمائة قَالَ: أَنَا جَمَالُ الإِسْلامِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن المسلم بن محمد السلمي قال: أنا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَالِبٍ الْخَطِيبُ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي عُمَرَ فَمِنْ كِتَابِ الدُّرَرِ فِي اخْتِصَارِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ لَهُ وَهُوَ مِمَّا رَوَيْتُهُ عَنْ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ السَّرَّاجِ عَنْ خَالِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَيْرٍ عَنْ أَبِي الْحَجَّاجِ الشّنتمرِيِّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ عَنْهُ.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الرّشاطِيِّ فَمِنْ كِتَابِهِ فِي الأَنْسَابِ وأَخْبَرَنَا بِهِ وَالِدِي عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ السَّرَّاجِ إِجَازَةً قَالَ: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحُجْرِيُّ إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا عَلَيْهِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا الرّشاطِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ.(2/416)
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْفَضْلِ عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ الْيَحْصُبِيِّ، فَمِنْ كتابه المسمى ب الشفا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ كَامِلا بِقِرَاءَةِ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ بمصر على القاضي الإمام علم الدين أبي الحسن محمد، ابن الشَّيْخِ الإِمَامِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي عَلِيٍّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَتِيقِ بْنِ رَشِيقٍ بِمِصْرَ فِي سَنَةِ سبع وسبعين وستمائة قَالَ: أَنَا الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جُبَيْرٍ الْكِنَانِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ سَنَةَ تسع وستمائة قَالَ: أَنَا الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى التَّمِيمِيُّ إِجَازَةً قَالَ: أَنَا الْقَاضِي عِيَاضٌ سَمَاعًا.
وَمَا كَانَ فِيهِ عَنِ الأُسْتَاذِ أَبِي الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيِّ فَمِنْ رِوَايَتِي عَنْ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ قال: أنا الشيخ الرواية الزَّاهِدُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّرَّاجِ إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا. وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهِ الْكَثِيرَ بِقِرَاءَةِ وَالِدِهِ قَالَ: قُرِئَ كتاب الروض الأنف والمشروع الرَّوِيِّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْخَثْعَمِيِّ السُّهَيْلِيِّ مُصَنّفهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مَرَّتَيْنِ وَأَنَا أَسْمَعُ. وَمِنْ كِتَابِهِ هَذَا أُثْبِتُ مَا أُثْبِتُ عَنْهُ هُنَا.
وَرُبَّمَا أُثْبِتُ فَوَائِد فِي الْفُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِشَرْحِ الأَخْبَارِ السَّابِقَةِ لَهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْغَرِيبِ مِنْ فَوَائِدَ أَلْفَيْتُهَا بِخَطِّ جَدِّي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَّقَهَا، عَنْ شَيْخِهِ الأُسْتَاذِ أَبِي عَلِيٍّ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَزْدِيّ بْنِ الشّلوبينِ عِنْدَ قِرَاءَةِ السِّيرَةِ الْهِشَامِيَّةِ عَلَيْهِ وَأَثْبَتُهَا فِي طُرَرِ كِتَابِهِ، رَحِمَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ، وَنَفَعَنَا بِمَا يَسَّرَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمين.
هذا آخر كتاب السيرة النبوية، والحمد لله رب العالمين لا شريك له، وصلواته وسلامه على خير خلقه وصفوته وخاتم رسله محمد وآله وصحبه وسلم.
تمت بتاريخ ضحوة الخميس 7 شعبان المنير عام 1079 عرفنا الله خيره ووقانا ضيره آمين.(2/417)