وأضاف الحافظ ابن حجر- رحمه الله- كلاما جميلا تعليقا أيضا على هذا الحديث فقال: (أعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه وإن كان غفر الله له لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم، فما فعله صلى الله عليه وسلّم من عزيمة ورخصة فهو في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجد في العمل قياما بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط، وأشار بقوله- أعلمهم- إلى القوة العلمية وبقوله- أشدهم له خشية- إلى القوة العملية، أي أنا أعلمهم بالفضل وأولاهم بالعمل به) «1» .
وأعتقد أن من الحكم في أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرخص في بعض الأمور؛ هو التوسعة على الأمة، وإرادة رفع الحرج عنها، ولذلك كان الذم كل الذم لمن لم يرض بالتوسعة فرد الرخص. قال الإمام النووي- رحمه الله-: (وإنما يكون القرب إليه- سبحانه وتعالى-، والخشية له على حسب ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم لا بمخيلات النفوس وتكلف أعمال لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلّم) «2» . لذلك قلت انفا: إن مدار الأمر كله في الاتباع وليس في التعمق في العبادة. والحرص على نشر السنة وتبليغها للناس أمر عظيم من أبواب محبة النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه؛ لأن في ذلك سعيا لإعلاء سنته، ونشرا لهديه بين الناس، ومن مقتضيات ذلك الحرص على إماتة البدع والضلالات المخالفة لأمره وهديه، ولا شك في أن الابتداع في دينه من خوارم المحبة الصادقة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» .
ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية «3» - قدس الله روحه حيث يقول: (ومن المعلوم أنه لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط الحديث من قلبه، وقيل عن بعض رؤوس الجهمية- إما بشر المريسي «4» أو غيره: أنه قال: ليس شيء أنقص لقولنا من القران، فأقرّوا به في
__________
(1) انظر «فتح الباري» (13/ 279) .
(2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (15/ 107) :
(3) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام ولد في حران، عام (661 هـ) ، ومات بدمشق عام (728 هـ) .
(4) هو بشر بن غياث ابن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العدوي بالولاء، أبو عبد الرحمن: فقيه معتزلي عرف بالفلسفة يرمى بالزندقة، وهو رأس الطائفة «المريسية» القائلة بالإرجاء وإليه نسبتها، كان قصيرا دميم المنظر، مات عام (218 هـ) .(2/18)
الظاهر، ثم حرّفوه بالتأويل، ويقال إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه، خلافا لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه) «1» .
7- الوعيد الشديد لمن كذب على صاحبها صلى الله عليه وسلّم:
إن من كمال تعظيم سنته صلى الله عليه وسلّم وتمام ذلك، هو البعد كل البعد عن الكذب على صاحب السنة الغرّاء والحرص كل الحرص على نشر سنته صلى الله عليه وسلّم وتبليغها على أكمل وجه حيث قال صلى الله عليه وسلّم: «ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب» «2» . وقوله: «بلغوا عني ولو اية» «3» .
عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ كذبا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «4» .
وقد عظّم الله- سبحانه وتعالى- أمر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم غاية التعظيم وذلك بتشديد عقوبته والتفريق بين الكذب عليه والكذب على غيره من البشر، ذلك أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم إنما هو كذب على الله عزّ وجلّ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم إنما هو مبلغ عن ربه، قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، وسنتكلم إن شاء الله- تعالى- عن هذا الحديث الشريف من خلال ثلاثة محاور، الأول: ثبوت الحديث، الثاني:
مظاهر تعظيم الحديث للكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم، ونختم بالثالث وهو بعض فوائد الحديث.
[محاور حول الحديث]
أولا: ثبوت الحديث:
لا خلاف بين العلماء أن هذا الحديث بلغ- ولله الحمد والمنة- حد التواتر، قال الإمام النووي- رحمه الله- تعالى-: (وأما متن الحديث فهو حديث عظيم في نهاية من الصحة، وقيل: إنه متواتر ذكر أبو بكر البزار في مسنده أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلّم نحو من أربعين نفسا
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية (5/ 217، 218) .
(2) البخاري، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، برقم (105) ، ومسلم، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679) ، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3461) ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت، برقم (1291) ، ومسلم، كتاب: في المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، برقم (4) .(2/19)
من الصحابة رضي الله عنهم وحكى الإمام أبوبكر الصيرفي «1» في شرحه لرسالة الشافعي- رحمهما الله- أنه روي عن أكثر من ستين صحابيّا مرفوعا وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن منده «2» عدد من رواه فبلغ بهم سبعة وثمانين ثم قال وغيرهم، وذكر بعض الحفاظ أنه روى عن اثنين وستين صحابيّا وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، قال: ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيّا إلا هذا، وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة) «3» .
وأقول: إن تواتر هذا الحديث لهو أدل دليل على إرادة الله- سبحانه وتعالى- تعظيم أمر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم باشتهار هذا الحديث وتواتره مثل هذا التواتر العجيب، من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصرنا هذا، كما يدلنا هذا التواتر على بالغ عناية الصحابة بهذا الحديث لأن فيه حفظ سنة نبيهم صلى الله عليه وسلّم.
ثانيا: مظاهر تعظيم الحديث للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم:
باستقراء روايات الحديث الصحيحة والتي وردت في صحيحي البخاري ومسلم والوقوف على ألفاظها يتبين لنا ما في هذا الحديث من التخويف الشديد والوعيد الأكيد بحق من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ومن ذلك:
1- الحكم باستواء عقوبة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم سواء كان الراوي يدعي السماع يقظة من النبي صلى الله عليه وسلّم أو من أصحابه أو التابعين، أو يدعي أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلّم مناما، وذلك لما ورد في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «سمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، ومن راني في المنام فقد راني، فإنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «4» . فالنبي صلى الله عليه وسلّم قد ذكر عقوبة الكذب بعد أن ذكر رؤيته في المنام، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- تعالى-: (ختم البخاري الباب بحديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في
__________
(1) هو محمد بن بدر الصيرفي، أبوبكر، من موالي بني كنانة: قاض، فقيه. ولي القضاء بمصر ثلاث مرات. وتوفي بها وهو على القضاء، عام (330 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (6/ 51) .
(2) هو عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق، ابن منده العبدي الأصبهاني، أبو القاسم: حافظ، مؤرخ جليل القدر، واسع الرواية، توفي في أصبهان، عام (470 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (3/ 327) .
(3) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 68) .
(4) البخاري، كتاب: الأداب، باب: من سمى بأسماء الأنبياء، برقم (6197) .(2/20)
اليقظة أو في المنام. وهذا مما يعظّم أمر التحريم جدّا) «1» .
2- المباينة الشديدة بين الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم والكذب على غيره لقوله صلى الله عليه وسلّم: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد» ، فإذا كان الكذب على الناس مذموما شرعا، وهو من كبائر الذنوب، التي تفضي إلى الفجور ثم إلى النار، لما ثبت عند مسلم، عن عبد الله رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكون صدّيقا، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» «2» .
وهو إحدى علامات المنافق، لما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «اية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» «3» . فإذا كان الكذب على الناس يؤدي بصاحبه إلى النار، فكيف الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم وإذا كان الكذب على الخلق من علامات المنافق فما بالكم بالكذب على سيد الخلق، ولتقريب الصورة أكثر وأكثر إلى ذهن القارئ، فإني أقول: إذا كان أبو سفيان رضي الله عنه قد استقبح- قبل إسلامه- أن يكذب على كافر- وهو هرقل عظيم الروم- في شأن عدو لهما- وهو النبي صلى الله عليه وسلّم وخاف أن يجلب له هذا الكذب المعرة، فكيف لا يستقبح المسلم أن يكذب على صاحب أعظم منة وفضل عليه من البشر، وهو النبي صلى الله عليه وسلّم أما يخشى المعرة في الدنيا والآخرة؟!، أما يخشى العقوبة الشديدة التي وردت في الحديث، أما يستحي من الله- تبارك وتعالى- أن يكذب في دينه وشرعه.
وللتذكرة فإني أقول: إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم يدخل قطعا في الكذب على الله تبارك وتعالى، من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو إلا مبلغ عن ربه تبارك وتعالى، والذي يتقول عليه، فكأنما يتقول على الله، لأن لسان حاله يقول: (إن الذي أدعيه من القول وأنسبه للنبي صلى الله عليه وسلّم هو وحي من الله تعالى أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلّم) . فادعى أن كلام البشر الناقص الذي يفتقر إلى كمال الحكمة والبيان هو من كلام النبوة الموافق لعظيم الحكمة وجميل البيان، قال- تعالى-: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
__________
(1) انظر «فتح الباري» (1/ 202- 203) .
(2) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، برقم (2607) .
(3) البخاري، كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ برقم (6095) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، برقم (59) .(2/21)
سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] .
ولا يخفى على أحد أن الذي كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم أراد- بسوء النية أو بحسن النية- أن يجعل الناس يتعبدون الله بغير ما أراد الله عزّ وجلّ وكفى بذلك شرّا وفسادا في الأرض، والذي ذكرته من مفاسد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم هو الحكمة الشرعية في جعل الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ليس كالكذب على غيره من البشر.
3- تغليظ عقوبة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم ودليله ما ورد في حديث الباب: «فليتبوأ مقعده من النار» . قال الإمام النووي- رحمه الله (قال العلماء: معناه فلينزل: وقيل:
فليتخذ منزله من النار، وقيل: إنه دعاء بلفظ الأمر، أي بوأه الله ذلك، وكذا «فليلج النار» ، وقيل: هو خبر بلفظ الأمر أي معناه: فقد استوجب ذلك فليوطّن نفسه عليه) «1» .
لطيفة:
لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلّم وصف العقوبة بقوله: «فليتبوأ مقعده من النار» .
أعتقد- والله أعلم- أنه لما كان أغلب الكذب مبعثه حبّ الكاذب أن يتبوأ بكذبه مقعدا بين الناس، جعل الله جزاءه مقعدا في النار، وما أعدله- سبحانه وتعالى- أن جعل الجزاء من جنس العمل.
أما عقوبة الكاذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم في الدنيا، فقد قال الإمام النووي ما نصه: (ثم إن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمدا في حديث واحد فسق وردّت روايته وبطل الاحتجاج بجميعها، ولو تاب وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصير في من فقهاء أصحابنا الشافعيين وأصحاب الوجوه منهم ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك ولا تقبل روايته أبدا، بل يحتم جرحه دائما. وأطلق الصير في وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعّفنا نقله لم نجعله قويّا بعد ذلك) «2» .
وقد ضعف النووي رحمه الله- تعالى- هذا الرأي ولكنه برر ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة بقوله: (ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرّا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة) . وقد علل الإمام النووي ما ذهب إليه من تضعيف ما قاله هؤلاء العلماء بقوله: (وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية
__________
(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 68) .
(2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 70) .(2/22)
والمختار القطع بصحة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على ألا يعود إليها فهذا هو الجاري على قواعد الشرع) «1» .
وأقول:
لا خلاف عند علماء المسلمين أن التوبة النصوح لمن كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم مقبولة إن شاء الله- تعالى- وترفع عنه الإثم في الدنيا والآخرة، ولكن الخلاف في قبول روايته مرة أخرى، فقد تقبل التوبة مع بقاء رد الرواية وهذا ليس بغريب في الشرع، فإن قاذف المحصنة لا خلاف في قبول توبته، ولكن اختلف العلماء في قبول شهادته بعد التوبة، فقد أورد ابن كثير- رحمه الله- تعالى- في تفسير قوله- تعالى-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) [النور: 4] . الخلاف في قبول شهادة القاذف بعد التوبة، وقال ما نصه: (إنما يعود الاستثناء على الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة. ذكره شريح «2» ، وإبراهيم النخعي «3» ، وسعيد بن جبير «4» ، ومكحول «5» وعبد الرحمن بن زيد بن جابر «6» ) «7» .
الخلاصة:
سواء قبلت رواية من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم أم لم تقبل، فإن الذي يهمني هنا أن أبينه للقارئ عظيم أمر الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم عند الله عزّ وجلّ وكذا عند علماء الأمة الأجلاء، ليتنبه المسلم ويتروى قبل أن ينسب أي قول أو فعل أو تقرير إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليه أن يشعر عند رواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه يمشي على صراط أحدّ من السيف وأدق من الشعر وليس تحته إلا النار- أعاذنا الله منها- إن هو كذب.
__________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية: من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة، في زمن عمر وعثمان وعلى ومعاوية، مات بالكوفة، عام (78 هـ) .
(3) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي، من مذحج: من أكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث. من أهل الكوفة. كان إماما مجتهدا له مذهب، مات عام (96 هـ) .
(4) هو سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، أبو عبد الله: تابعي، كان أعلمهم على الإطلاق. وهو حبشي الأصل. قتله الحجاج بواسط، عام (95 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (3/ 93) .
(5) هو مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل، أبو عبد الله، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث. أصله من فارس، ومولده بكابل طاف كثيرا من البلدان طالبا للحديث، توفي عام (112 هـ) .
(6) هو عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي القرشي: كان من أتم الرجال خلقة. روى الحديث عن أبيه وغيره. ولا يزيد بن معاوية مكة سنة (63 هـ) ، وتوفي عام (65 هـ) .
(7) انظر «تفسير القران العظيم» (3/ 266) .(2/23)
ثالثا: بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
التحذير الشديد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال الإمام النووي:
(يؤخذ من الحديث تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله) «1» . وقال الحافظ ابن حجر: (الفرق بين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم والكذب على غيره أن الكذب عليه توعّد فاعله بجعل النار له مسكنا بخلاف الكذب على غيره) «2» .
ويتفرع عليه سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم حيث دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلّم أو أخبر أن له مقعدا في النار هو ماله ومسكنه.
الفائدة الثانية:
ليس إثم الكذب كله سواء، فإن أعظم ما يكون فيه الإثم، الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم ثم يأتي بعد ذلك الكذب في الشهادات والكذب لاقتطاع حق امرئ مسلم، والكذب لبيع السلع في الأسواق ... إلى اخره.
الفائدة الثالثة:
جميع أنواع الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم في الحرمة سواء، فلا فرق بين كذب في العبادات وكذب في العادات، كما لا فرق بين كذب في الأحكام وكذب في فضائل الأعمال، ودليله أن الحديث أطلق الكذب ورتب عليه هذا الجزاء المغلظ ولم يقيد الكذب بنوع دون نوع، فعمّ جميع أنواع الكذب.
قال الإمام النووي في شرح الحديث ما نصه: (لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلّم بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه كالتر غيب والترهيب، والمواعظ وغير ذلك فكله حرام من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع خلافا للطوائف المبتدعة الذي يجيزون وضع الحديث في الترغيب والترهيب) «3» .
ويتفرع عليه قبح من يقول زورا وبهتانا عند استدلاله بأحاديث موضوعة في الترغيب والترهيب: (إنما أكذب للنبي صلى الله عليه وسلّم ولا أكذب عليه!!!) وهذه المقولة منه نهاية السفه ومنتهى الضلالة حيث حكموا على شرع الله- سبحانه وتعالى- بالنقص والحاجة إلى الإتمام، والله يقول في محكم التنزيل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
__________
(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 69) .
(2) انظر «فتح الباري» (3/ 162) .
(3) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 70)(2/24)
الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] ، ويقول عز من قائل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] .
وقد بين الإمام النووي بطلان مقولة هؤلاء السفهاء وأورد طرفا من كلامهم، قال رحمه الله: (وهذا الذي انتحلوه وفعلوه واستدلوا به غاية الجهالة ونهاية الغافلة وأدل الدلائل على بعدهم من معرفة شيء عن قواعد الشرع، وقد جمعوا فيه جملا من الأغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة وأذهانهم البعيدة الفاسدة فخالفوا قول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ، وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور وخالفوا إجماع أهل الحل والعقد وغير ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على احاد الناس فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي) «1» .
ويتفرع عليه عظيم الخطر المحدق بالدعاة إلى الله- سبحانه وتعالى- والذين يتساهلون كثيرا في رواية الأحاديث الموضوعة- والتي يكثر ذكرها خاصة في كتب التفسير والسيرة والغزوات وفضائل الأعمال- ولا حجة لهم أنهم ينقلون تلك الأحاديث من مراجع إسلامية، وذلك لعموم النهي عن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم فيستوي الكذب إذا نقل المسلم عن مراجع إسلامية أو غيرها من الكتب، خاصة إذا اشتهر أن تلك المراجع محشوة بأحاديث موضوعة لا سيما في أنواع الكتب التي ذكرتها. وإذا قال أحد الدعاة: إني لا أستطيع التفرقة بين الأحاديث الموضوعة والصحيحة.
قلت له: عليك بالكتب المحققة وهي كثيرة جدّا ولله الحمد، وعليك بكتب السنة الصحاح، فإن تعذر عليك ذلك، فالزم بيتك فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها واحذر الوقوع في الكذب على الله ورسوله.
قال الإمام النووي- رحمه الله-: (يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على ظنه وضعه فمن روى حديثا علم- أو ظن- وضعه ولم يبين حال روايته وضعه فهو داخل في هذا الوعيد مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلّم) «2» .
الفائدة الرابعة:
كما لا تجوز رواية الأحاديث الموضوعة مهما كان موضوعها، فإنه لا يجوز أيضا رواية الأحاديث الضعيفة إلا إذا بين الراوي للمستمعين ضعف الحديث، فيمكن أن يرويه بصيغة التمريض لا بصيغة الجزم، ولكن أنبه على أن السامعين لو كانوا لا يفرقون
__________
(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 70) .
(2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 71) .(2/25)
بين صيغ الجزم والتمريض، فإنه يجب على الراوي أن يوضح لهم ضعف الحديث، ولا تجزئه الرواية بصيغة التمريض لأنها لم تبين للسامع درجة الحديث فاستوى ذكرها مع عدمه.
قال الإمام النووي: (قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر فإن كان صحيحا أو حسنا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم كذا أو فعله أو نحو ذلك من صيغ الجزم، وإن كان ضعيفا فلا يقل: قال، أو فعل، أو أمر، أو نهى وشبه ذلك من صيغ الجزم بل يقول: روى عنه كذا، أو جاء عنه كذا، أو يروى، أو يذكر، أو يحكي، أو يقال، أو بلغنا، وما أشبهه) «1» .
وللدلالة على تعظيم العلماء لرواية الأحاديث النبوية والاحتياط لعدم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم، ما قاله النووي ونصه: (قال العلماء: وينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظة فقرأها على الشك أن يقول عقبه: (أو كما قال) . وأضاف مبينا شروط الرواية بالمعنى: (ويستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده: (أو كما قال) أو نحو هذا كما فعلته الصحابة فمن بعدهم) «2» . ولكن الإمام النووي اشترط للرواية بالمعنى كامل معرفة الراوي، أي كامل معرفته باللغة العربية، ومقاصد الحديث، ودلالة ألفاظه، وإلا وقع الراوي في الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم دون أن يدري.
الفائدة الخامسة:
من تقوى الله تعالى ألايروي المسلم الحديث النبوي إذا خاف أن يقع في الخطأ دون أن يشعر، مع أن الخطأ مرفوع إجماعا عن هذه الأمة، ودليله ما رواه البخاري، عن عبد الله بن الزّبير قال: قلت للزّبير: إنّي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما يحدّث فلان وفلان!! قال: أما إنّي لم أفارقه ولكن سمعته يقول: «من كذب علي فليتبوّأ مقعده من النّار» .
فمع أن الزبير بن العوام رضي الله عنه صحابي جليل لازم النبي صلى الله عليه وسلّم كثيرا كما يذكر في الحديث ولا يخفى على أحد صلة القرابة التي تجمع بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلّم ولا شك أن هذه الملازمة والصلة أتاحت له سماع الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، ومع أنه يعلم فضل الرواية والتحديث: إلا أنه اثر عدم الإكثار من الرواية مخافة أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلّم عن طريق الخطأ، وإلا فإن مثله يستحيل في حقه الكذب تعمدا.
أخي القارئ: بعد هذا الإسهاب في ذكر أقوال العلماء عن حديث الباب، أود أن
__________
(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 71) .
(2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 72) .(2/26)
أنصحك أنه يجب علينا جميعا أن نقف مع أنفسنا طويلا ونحاسبها حسابا عسيرا على تساهلنا في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهذا صحابي يكون معه الحديث الصحيح ويخاف من الرواية حتى لا يقع- ولو خطأ- في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسيكون الصحيح في روايته أكثر بكثير من الخطأ، أما نحن فليس معنا شيء ونتجرأ على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم إما بحجة أن تلك المرويات في مراجع إسلامية مشهورة، أو عدم القدرة على تحقيق الأحاديث، أو لحبنا وهو حب أعمى- ترقيق قلوب الناس والحرص على عودتهم لحظيرة الإسلام، فهل يقبل راوي تلك المرويات أن يعود الناس لحظيرة الإسلام ويتبوأ هو مقعده في النار. ألا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
8- شاهد على سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رجل نصرانيّا فأسلم وقرأ البقرة وال عمران، فكان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم فعاد نصرانيّا، فكان يقول: ما يدري محمّد إلّا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح، وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه لمّا هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا فأصبح، وقد لفظته الأرض. فقالوا هذا فعل محمّد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لمّا هرب منهم فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض. فعلموا أنّه ليس من النّاس، فألقوه) «1» .
هذا شاهد عظيم على سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم، شاهد يقشعر منه البدن وينفطر له القلب، ومن منا يسمع ويتدبر هذا الحديث ولا يخاف من أدنى الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم وستتضمن الفوائد استعراض مظاهر سوء العاقبة التي أحاطت بالرجل.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظيم نصرة الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم وإظهار غيرته عليه للعالمين، حيث انتقم شر الانتقام ممن قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلّم: «ما يدري محمّد إلّا ما كتبت له» . ويتفرع عليه التحذير الشديد لمن كذب على الرسول صلى الله عليه وسلّم فمن منا يحب أن تكون عاقبته مثل هذه العاقبة.
الفائدة الثانية:
مظاهر سوء عاقبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو مرادي من إيراد هذا الحديث:
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3617) .(2/27)
1- غضب الله عليه وانتقامه منه: ورد في رواية مسلم (فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم) «1» . وهو مشعر أن الله لم يمهله كثيرا بعد ما قال، ومشعر أيضا أن ما حدث له بعد موته اعتبره الناس انتقاما من الله الواحد القهار.
2- عدم قدرة باطن الأرض على تحمله: فمع أن الأرض قد حوت في باطنها الكثير ممن تقوّل على الله ورسوله، إلا أنها لم يسعها أن تضم رفات هذا المرتد لشنيع ما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلّم فطرحته الأرض ونبذته من أعماق باطنها ثلاث مرات، ويصف الراوي ما حدث في كل مرة بقوله: (فأصبحت الأرض وقد نبذته على وجهه) ، وهل قصدت الأرض أن تنبذه على وجهه خاصة دون سائر أعضائه لأن الوجه محل تكريم الإنسان فيكون ذلك منتهى الإهانة والمذلة له؟ أم نبذته على الوجه لأن الوجه قد احتوى الجوارح التي كذب بها الرجل على النبي صلى الله عليه وسلّم وهما اللسان والشفتان؟.
3- من أعظم النكايات التي حدثت للرجل أن أصحابه من أهله وعشيرته قد تخلو عنه في وقت هو أحوج ما يكون إليهم، فعند مسلم (فتركوه منبوذا) .
ويتفرع عليه تصديقنا بما أخبرنا به أصدق القائلين- سبحانه وتعالى-، أن يوم القيامة سيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، قال- تعالى-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: 34- 35] .
الفائدة الثالثة:
عجيب قدرة الله- سبحانه وتعالى-؛ إذ جعل في الأرض القدرة على أن تنبذ الرجل وتلفظه، ولا يقف كون القوم قد أعمقوا جدّا حائلا عن امتثال الأرض لأمر الله- سبحانه وتعالى-.
الفائدة الرابعة:
قد يعجل الله عزّ وجلّ العذاب لأعدائه في الدنيا على مرأى ومسمع من الناس، وقد يعذب المكذب ولا يطلع على عذابه أحد من الناس، وقد يؤخر الله العذاب إلى ما بعد الحياة الدنيا، ولكن ما نقطع به أن العذاب النفسي واقع بالمكاذبين في الدنيا لقوله- تعالى-: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) [طه:
124] . وأن العذاب المادي يبدأ لا محالة مع سكرات الموت ويستمر حتى يستقر المكذبون في نار جهنم- أعاذنا الله منها- وكل هذه الأحوال لعذاب المكاذبين في الدنيا والآخرة موافقة للعدل المطلق والحكمة البالغة.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2781) .(2/28)
الفائدة الخامسة:
عناد أهل الزيع والضلال، وترفعهم عن قبول الحق، والانصياع له ليس بسبب التباس الأمر عليهم أو ندرة الآيات الدالة على عظيم قدرة الله- سبحانه وتعالى أو قلة المعجزات الباهرات التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلّم وإنما كان عدم إيمانهم بسبب مرض قلوبهم واستكبارهم وتقديم الدنيا وشهواتها على الآخرة وملذاتها، ذلك أنهم قد علموا أن لفظ الأرض لصاحبهم ليس من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم أو أصحابه أو غيرهم وإنما هو من فعل رب الناس ولذلك سلّموا أنه لا طاقة ولا حيلة لهم لدفنه فتركوه منبوذا من لحظتها، وورد في الحديث: (فعلموا أنه ليس من الناس) . أي أن لفظه على وجهه ليس من فعل الناس.
ثانيا: وجوب تعظيمه وتحريم إيذائه صلى الله عليه وسلّم
1- وجوب تعظيمه وإجلاله صلى الله عليه وسلّم:
إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم وإجلاله لمن أعظم درجات المحبة والتقدير من أحبابه الذين لم يروه، فكيف بهم لو رأوه صلى الله عليه وسلّم في أبهى صوره وجميل خلقه وخلقته؟!.
قال تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] ، ولا شك أن أعظم الحرمات ايات الله ورسله.
وقال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) [الفتح: 9] .
كلام العلماء في تفسير هذه الآية قريب في المعنى، فسأكتفي بذكر ما قاله بعضهم نصّا للدلالة على أقول الآخرين، قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (ويعزروه يعني الإجلال ويوقروه يعني التعظيم، وقيل: يعزروه أي ينصروه، ويوقروه يعني ويفخّموه، وقال اخرون: أمر الله بتسويده وتفخيمه) ، ثم قال- رحمه الله-: (وهذه الأقوال متقاربات المعنى وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها) «1» .
ومعنى التعزير في هذا الموضوع: التقوية بالنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال، ثم قال- رحمه الله-: (وقوله: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، يقول: وتصلوا له يعني لله بالغدوات والعشيات. والهاء في قوله: وَتُسَبِّحُوهُ من ذكر الله وحده دون رسوله) . انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (وتوقروه: من التوقير وهو الاحترام والإجلال
__________
(1) انظر «تفسير الإمام الطبري» (26/ 75) .(2/29)
والإعظام، وتسبحوه بكرة وأصيلا: تسبحون الله أول النهار واخره) «1» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلّم عند ربه تبارك وتعالى، إذ وجه الله عزّ وجلّ أو امر ربانية للمؤمنين في خطاب واحد يرجع بعضها إليه سبحانه، وبعضها خاص بالنبي صلى الله عليه وسلّم دون تفصيل في الآية الكريمة، وإنما كان التفصيل من قبل العلماء، بعلمهم ما يجب لله وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلّم. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وهو: تسبحوه من غير خلاف، وبعضه راجعا إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم وهو:
وتعزروه، وتوقروه أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية) «2» .
الفائدة الثانية:
بلاغة القران الكريم وفصاحته حيث ذكر أمورا عظيمة هي من أصول الإيمان في كلمات معدودة، قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (ذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله وهو: الإيمان بهما والمختص بالرسول وهو التعزير والتوقير والمختص بالله وهو: التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها) «3» .
الفائدة الثالثة:
بيان عظيم حق النبي صلى الله عليه وسلّم على عموم أمته، وما ينبغي له من الإجلال والتوقير، وفاء لما قام به صلى الله عليه وسلّم قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (أي تعظموه وتجلّوه وتقوموا بحقوقه كما كانت له المنة العظيمة في رقابكم) «4» . ويتفرع عليه؛ بيان ما نحن فيه من التفريط في حقه صلى الله عليه وسلّم فما بلغنا معشار ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من إجلال وتوقير وتفخيم شخص النبي صلى الله عليه وسلّم وقد وضحت ذلك في مواضع عديدة من هذا الكتاب. فلله الحمد والمنة.
2. تحريم إيذائه صلى الله عليه وسلّم:
فكما فرض الله- تعالى- على عباده أن يوقروا الرسول صلى الله عليه وسلّم ويعظموه ويكبروه في أنفسهم ويفتدوه بكل شيء فكذلك حرم الله تبارك وتعالى، على عباده أن يؤذوه بأي نوع من أنواع الإيذاء، فقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) [الأحزاب: 57] .
__________
(1) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 186) .
(2) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 267) .
(3) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (792) .
(4) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (792) .(2/30)
وقال- تعالى-: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] .
شددت الآية جدّا في أمر إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم ومن مظاهر ذلك التشديد:
1- إيراد إيذاء الله- سبحانه وتعالى- خالق كل شيء ومليكه- وإيذائه صلى الله عليه وسلّم في اية واحدة مع الجمع بينهما بحرف العطف (الواو) ، ولو لم يقترن ذلك بأي تهديد أو وعيد أو ذكر عذاب لكفى بذلك تغليظا لأمر إيذائه صلى الله عليه وسلّم فكيف إذا اقترن؟
2- تضعيف العذاب على من اذى النبي صلى الله عليه وسلّم حيث جمع الله له بين عذابي الدنيا والآخرة، فعليه في الدنيا لعنة وفي الآخرة لعنة، فهل يفلح رجل يمشي على الأرض عليه لعنتان، إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة، ولعظيم جرمه لم تكن اللعنتان كافيتين، فقد بشرته الآية بعذاب مهين- أي ذي إهانة- أعده القوي العزيز خصيصا له.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
عظيم غيرة الله- سبحانه وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلّم إذ قرن إيذاءه- سبحانه وتعالى- بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم وقد جعل العقوبة على الإيذائين واحدة، فكان غضب الله- سبحانه وتعالى- من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم لا يقل عن غضبه- سبحانه وتعالى- من إيذاء نفسه الكريمة المقدسة.
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (والظاهر أن الآية عامة في كل من اذاه صلى الله عليه وسلّم ومن اذاه فقد اذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله) «1» . وهذه الغيرة إنما تدل على عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم.
فإن سأل سائل: وهل يغار الله عزّ وجلّ؟
قلت: نعم، ودليله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله يغار، وغيرة الله، أن يأتي المؤمن ما حرّم الله» «2» .
الفائدة الثانية:
أثبتت الآية الكريمة أن الله عزّ وجلّ يبلغه إيذاء الناس، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن ادم، يسبّ الدّهر، وأنا الدّهر، بيدي الأمر، أقلّب اللّيل والنّهار» «3» .
__________
(1) انظر «تفسير القران العظيم» (3/ 518) .
(2) البخاري، كتاب: النكاح، باب: الغيرة، برقم (5223) .
(3) الخاري، كتاب: تفسير القران، باب: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، برقم (2246) .(2/31)
أما الضرر فلا يبلغ الله- سبحانه وتعالى- أبدا، ودليله حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه «يا عبادي: إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» «1» .
الفائدة الثالثة:
أثبتت الآية؛ عصمة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث توعدت كل من اذاه بالعذاب المهين، ولو أنه صلى الله عليه وسلّم فعل شيئا يتوجه إليه اللوم بسببه لقيدت الآية العذاب على من اذاه بما لم يفعل أو يقل، كما وردت الآية التي تليها، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) [الأحزاب: 58] .
الفائدة الرابعة:
هذه الآية يجب أن تكون رادعة ومخوفة لكل من تسول له نفسه أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلّم سواء في نفسه، أو أصحابه، أو زوجاته، أو أهل بيته، أو أتباعه إلى يوم الدين، قال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلّم والصلاة عليه؛ نهى عن أذيته وتوعد عليها، وهذا يشمل كل أذية قولية، أو فعلية من سب، وشتم، أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعو عليه بالأذى) . وأضاف- رحمه الله- قائلا: (فأذية الرسول صلى الله عليه وسلّم ليست كأذية غيره؛ لأن العبد لا يؤمن بالله حتى يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلّم وله من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان ما يقتضي ألايكون مثل غيره) «2» .
3- إفراد إيذائه بالوعيد:
إن كل من تسوّل له نفسه أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد توعده رب العزة- تبارك وتعالى بأشد أنواع العذاب؛ لأنه- سبحانه وتعالى- عاصم نبيّه وحافظه من كل سوء، فمقامه صلى الله عليه وسلّم التعظيم، وليس الإيذاء أو الانتقاص. قال- تعالى-: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 60، 61] . وأوردت هذه الآية، ردّا على من قد يتوهم من الباب السابق، أن الوعيد متوجه لمن يؤذى الله ورسوله معا، فالأمر ليس كذلك. ففي الآية تخويف ووعيد لكل من يتجرأ على السنة وصاحبها صلى الله عليه وسلّم بغمز أو لمز، تصريحا كان أو تعريضا، صغيرا أو كبيرا؛ لأن الآية أطلقت، ولم تحدد نوع الإيذاء ولا حجمه، فيدخل فيه كل ما ذكر. وهذا تعظيم وحماية لجانب النبوة.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه-: (من سب النبي صلى الله عليه وسلّم من مسلم
__________
(1) مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، برقم (2577) .
(2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (671) .(2/32)
أو كافر؛ فإنه يجب قتله، وهو مذهب عامة أهل العلم، ثم ذكر- رحمه الله- تعالى- أن هذا هو مذهب مالك والليث «1» وأحمد وإسحاق بن راهواه «2» ، والشافعي) «3» ، ونقل عن القاضي عياض «4» قوله: (أجمعت الأمة على قتل منتقص النبي صلى الله عليه وسلّم أو من سابه من المسلمين، كما نقل عن الإمام إسحاق بن راهواه قوله: أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلّم أو دفع شيئا مما أنزل الله عزّ وجلّ، أو قتل نبيا من أنبياء الله عزّ وجلّ، أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، أما الإمام أحمد- رحمه الله- فقد نقل عنه قوله: كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلّم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أنه يقتل ولا يستتاب) .
4- غضب غلمان الصحابة لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم، وانتقامهم لذلك:
عن عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه أنّه قال: (بينا أنا واقف في الصّفّ يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنّيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عمّ هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنّه يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم والّذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتّى يموت الأعجل منّا. قال: فتعجّبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في النّاس. فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الّذي تسألان عنه. قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتّى قتلاه ثمّ انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبراه. فقال: «أيّكما قتله؟» فقال كلّ واحد منهما: أنا قتلت. فقال:
«هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. فنظر في السّيفين، فقال: «كلاكما قتله» ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرّجلان؛ معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء) «5» .
__________
(1) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي: بالولاء، أبو الحارث: إمام أهل مصر في عصره، حديثا وفقها. أصله من خراسان ومولده في قلقشندة، كان من الكرماء الأجواد. توفي في القاهرة، عام (175 هـ) .
(2) هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي، أبو يعقوب ابن راهواه: عالم خراسان في عصره. أحد كبار الحفاظ أخذ عنه الإمام أحمد والبخاري ومسلم، وغيرهم، توفي بنيسابور عام (238 هـ) .
(3) انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 3، 7) لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتصرف.
(4) هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، أبو الفضل: عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، ولي قضاء سبتة، ثم قضاء غرناطة، مات مسموما على يد يهودي بمراكش، عام (544 هـ) .
(5) البخاري، كتاب: فرض الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب ... ، برقم (3141) ، ومسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، برقم (1752) .(2/33)
الشاهد في الحديث:
هو قول كل غلام: «أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم»
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في شمائل النبي صلى الله عليه وسلّم:
1- عظيم منزلته عند أصحابه، وغضبهم له أشد الغضب، وإرادة الانتقام من كل من يؤذيه، فإن سأل سائل، ألم ير الغلامان أن الشرك بالله أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟
قلت: بلى، ولكنهما ذكرا السب؛ لأن كل عسكر الكفار كانوا يكفرون بالله، فاستوى ذلك الذنب في حقهم جميعا، ولكنهما عظّما قبح أمر أبي جهل أنه أضاف إلى كفره بالله، سبّه للنبي صلى الله عليه وسلّم لذلك نصّا في مقولتيهما على السب.
2- رحمته صلى الله عليه وسلّم بأصحابه حيث حكم للغلامين، بقتل أبي جهل، تطييبا لخاطرهما، فقال: (كلاكما قتله) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلّم رأى الدم على سيفيهما جميعا.
3- فراسته صلى الله عليه وسلّم، حيث طلب النظر إلى سيفيهما ليعلم أيهما قتل أبا جهل.
4- عدله صلى الله عليه وسلّم حيث قضى بالسلب لمعاذ بن عمرو، وذلك لأن معاذ بن عمرو هو الذي أثخن أبا جهل بالضربة الأولى ثم ضربه معاذ بن عفراء بعد ذلك، فقال لهما صلى الله عليه وسلّم: كلاكما قتله، تطييبا لخاطرهما، فلما جاء القضاء بالسّلب قضى به لمعاذ بن عمرو لأنه هو الذى يستحقه شرعا فلم يكن صلى الله عليه وسلّم ليفعل غير ذلك. وهذا لا يمنع من أنه صلى الله عليه وسلّم قد أرضى معاذ بن عفراء بعد ذلك بشيء من المال على سبيل المكافأة أو الهدية أو غير ذلك، أو كان له سهم في المغانم، فاكتفى به صلى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
في الغلامين:
1- أدبهما: حيث خاطبا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رضي الله عنه بقولهما (يا عم) للتوقير، فقد راعيا كبر سنه وحداثة أسنانهما.
2- شجاعتهما: حيث طلبا معرفة أبي جهل ليقتلاه، رغم صغر سنهما قال الراوي:
(حديثة أسنانهما) ، وانظر أين سيكون القتل؟! في موقعة فيها الكر والفر والتحام الصفوف، وتطاير النبال والسهام، وكل ذلك لم يخفهما أو يثبط من عزيمتهما.
3- تصميمها على قتل أبي جهل أو الموت دونه، قال كل منهما: (والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا) ، فالأمر بالنسبة إليهما لم يكن مجرد محاولة لقتل أبي جهل، أو أداء الواجب، بل تصميم وعزيمة، لا يثنيها شيء، فقد أقسما بالله(2/34)
أنهما لن يفارقاه في حال رؤيته حتى يموت أحدهما، ولو مسّهما من العذاب ما مسهما.
4- حبّهما الشهادة في سبيل الله: والحرص عليها، واستعدادهما لها، من قبل دخول المعركة، لقولهما: (حتى يموت الأعجل منا) .
5- قوتهما: ويظهر ذلك من قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (تمنيت أن أكون بين أضلع منهما) . والضلاعة هي القوة، فيظهر هذا جليّا في تصرفهما لما رأيا أبا جهل، لقول الراوي: (فابتدراه بسيفيهما فضرباه) ، وهو يدل على غاية القوة، وكمال الشجاعة.
6- حبهما البالغ للنبي صلى الله عليه وسلّم رغم حداثة سنهما، ويظهر ذلك في:
أ- سؤالهما عن أبي جهل ليقتلاه، ولما سئلا عن حاجتهما له قال كل منهما: (أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ، فكأنهما لم يريا شيئا في أبي جهل يستحق عليه القتل أعظم من أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذا يدل على شدة غضبهما على من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولو بالقول دون العمل، وإرادة الانتقام منه، وبذل أقصى الجهد لتحقيق ذلك، فإما موت أبي جهل، وإما موتهما، ولم يفكرا في حل ثالث، وكأنهما لا يستطيعان العيش، وأحد المشركين يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وانظر إلى فصاحة كل منهما في قوله: (أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ، فهما لم يسمعا السب، ولم يخبرانا عن اسم من أخبرهما، فكل هذا لا يهم، المهم عندهما، قتل من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وانظر إلى استخدامهما لفظ (أخبرت) دون (سمعت) ، فكأن إخبارهما بالخبر كان مقصودا به الانتقام لرسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ لأن السماع يشترك فيه كل الناس، من يهمه الأمر ومن لا يهمه، ومن يقصد إيصال الخبر إليه ومن لا يقصد، كما أن لفظ «أخبرت» يشعر بعزة نفس كل منهما، وعلو شأنهما، وهو أمر محمود في ساحة القتال.
ب- ذهابهما مباشرة بعد قتل أبي جهل، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكأن غايتهما من حضور الغزوة قد انتهى بالقضاء على من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والدليل على أنهما ما قتلا أحدا بعده، أن دم أبي جهل ما زال على سيفيهما، فقد ورد في الحديث: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا:
لا. وأعتقد أنهما حرصا على بقاء دم أبي جهل حتى يشعرا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنهما قد انتقما له من أبي جهل، فالإخبار بالقتل غير معاينة الدم.
ج- رد كل منهما على سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أيكما قتله؟» ، بإجابة واحدة: (أنا قتلته) ، مع أن القاتل الحقيقي واحد، وهو الذي أثخن جرحه وأعجزه عن المبارزة، ولكن ادعى كل(2/35)
منهما ذلك لاسترضاء النبي صلى الله عليه وسلّم، وحرصهما على إظهار حبهما له، وأن يتشرف كل منهما بإدخال الفرحة والسرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
7- أدبهما في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث لم يتجادلا أمامه فيمن أعجل أبا جهل بالضرب، واكتفى كل واحد منهما بقوله: (أنا قتلته) . حتى بعد أن حكم النبي صلى الله عليه وسلّم بالسلب لمعاذ بن عمرو بن الجموح، لم يعقب على الحكم معاذ بن عفراء، مع صغر سنه، وحرصه على قتل أبي جهل أو الموت دونه، ولكن الرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثالثة:
معرفة الهمّ الذي كان يشغل أولاد الصحابة، حديثي الأسنان رضي الله عنهم، والوقوف على أولوياتهم في التفكير، فقد علمنا من الحديث أن همهم الأكبر وأولى أولوياتهم، قتل من ينتهك حرمات الله- سبحانه وتعالى-، وحريّ بنا هنا أن نذكّر بحكمتهما وسعة أفقهما، حيث إن الغلامين قد وقفا عن يمين ويسار عبد الرحمن بن عوف، قال رضي الله عنه: (فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار) ، والحكمة من الوقوف على هذه الكيفية، أن يسمعاه جيدا، فقد راعيا أنهما من صغار السن، أجساد صغيرة وأصوات غير مسموعة، ومن حكمتهما أيضا، أنهما غمزا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قبل التحدث معه، ليلفتا انتباهه فينظر أيمن وأشأم منه.
الفائدة الرابعة:
استخفاف الله- سبحانه وتعالى- بأبي جهل، كما كان يستخف بالنبي صلى الله عليه وسلّم ووجه ذلك:
1- أنه سبحانه جعل موت أبي جهل على يد غلام حدث صغير السن، وليس على يد رجل فارس قوي.
2- جعل مكان دفنه هو قليب بدر، بعد أن تعفنت جثته وجثث أقرانه.
3- وقوف النبي صلى الله عليه وسلّم على رأسه في القليب على مرأى ومسمع من أصحابه، رضي الله عنهم، يوبخه ويوبخ من هلك معه ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خبر هؤلاء القتلى بعد أن ألقوا في البئر قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقّا!!» قال عمر: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟! قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا» «1» .
__________
(1) مسلم، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، برقم: (2873) .(2/36)
ثالثّا: تأديب الأمة في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلّم
1- اداب الاستئذان منه صلى الله عليه وسلّم:
قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) [النور: 62] .
أمر الله- سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين باداب الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلّم إذا كانوا معه على أمر جامع، كصلاة جمعة أو عيد أو اجتماع في مشورة أو جهاد، وأنزل في ذلك اية كاملة من كتابه العزيز فيها توجيهات للمؤمنين وتوجيهات للنبي صلى الله عليه وسلّم تبين عظم قدر اجتماع النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه رضي الله عنهم وأن الذهاب عنه يجب أن يكون باداب معينة ولحاجة مهمة، وهذه التوجيهات هي:
1- وجوب استئذان الصحابة رضي الله عنهم من الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل الذهاب من عنده في حال كونهم معه على أمر تتطلب الضرورة، أو المصلحة أن يكونوا معه جميعا.
2- ألا يكون الاستئذان إلا لشأن هام (وهو الشغل أو المصلحة) قال- تعالى-: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ [النور: 62] .
3- للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يأذن لمن شاء من أصحاب الأعذار، وله أن يرد من شاء بدون إذن.
يتفرع على ذلك، أن نعلم أن الله عزّ وجلّ أراد أن يربي هذه الأمة على العزيمة والطاعة المطلقة لولي الأمر، ويتمثل ذلك في عدم الإذن لكل مستأذن أن ينصرف.
4- أمرت الآية النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستغفر لمن استأذن من أصحاب الأعذار، والعجيب أن الآية وجهت النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستغفر للمستأذن، ولم توجهه بأن يعتذر لمن لم يإذن له بالانصراف.
هذه هي التوجيهات الربانية للنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بخصوص الاستئذان،
[فوائد الآية]
أما فوائد الآية الكريمة فهي:
الفائدة الأولى:
تعظيم أمر استئذان الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك في:
1- جعل الله تعالى الاستئذان من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله، والعجيب أن يذكر ذلك قبل ذكر الاستئذان وبعده، فقبل ذكره قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ(2/37)
وَرَسُولِهِ، فبدأت الآية ب إِنَّمَا التي تفيد الحصر، فكأنما حصرت الآية صفات الذين استكملوا الإيمان في أمرين هما: الإيمان بالله ورسوله، واتباع اداب الاستئذان من النبي صلى الله عليه وسلّم، وبعد ذكر الاستئذان أكدت الآية هذا المفهوم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لهذا الحد وصل تعظيم الاستئذان من النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويتفرع عليه؛ تعظيم كل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلّم فإذا كان الالتزام باداب الاستئذان منه هو من الإيمان، فمن باب أولى أن يدخل في الإيمان حبه والتزام سنته وتوقير زوجاته وأهل بيته وكثرة الصلاة والسلام عليه، فكل ذلك من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله.
2- عدم جواز الاستئذان إلا إذا كانت هناك ضرورة لهذا الاستئذان، قال- تعالى-:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ.
3- ليس الاستئذان للضرورة أو المصلحة موجبا لصدور إذن النبي صلى الله عليه وسلّم بالذهاب، فالله- سبحانه وتعالى- أعطى للنبي صلى الله عليه وسلّم حق الإذن من عدمه، قال تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ.
4- الاستئذان للضرورة موجب لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلّم للمستأذن، فمع أن المستأذن لم يستأذن إلا للضرورة، ومع أنه لم يذهب إلا بمشيئة النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أن الآية قد أمرت النبي صلى الله عليه وسلّم بالاستغفار له، ولكن ما حكمة الاستغفار؟ قال الشيخ السعدي «1» - رحمه الله تعالى: (لما عسى أن يكون مقصرا في الاستئذان) . انتهى.
كما يمكن القول: إن الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلّم في الأمر الجامع يجب الاستغفار منه؛ لأن هيئة الاستئذان والخروج لا تناسب ما أمر الله به الصحابة من وجوب تقديم النبي صلى الله عليه وسلّم على أنفسهم حتى ولو كان سبيله التضحية بمصالحهم وجميع شأنهم، قال- تعالى-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كما أنه على كلام الشيخ- رحمه الله تعالى- فإن الاستغفار شرع لمن كان مقصرا في استئذانه والآية لم تقيد حالا دون حال.
الفائدة الثانية:
إثبات أن للعبد مشيئة تنسب إليها كل أفعاله، ويكون الحساب يوم القيامة لأفعاله التي صدرت عن مشيئته، قال تعالى-: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ.
كما يؤخذ من الآية: أنه لا يجب علينا أن نذكر في كل كلامنا، مشيئة الله، قبل ذكر مشيئة العبد فلا يجب أن نقول مثلا: (شاء فلان أن يسافر بعد مشيئة الله) ، ودليله أن الآية
__________
(1) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (576) .(2/38)
قد أثبتت للنبي صلى الله عليه وسلّم مشيئة في الإذن دون أن تقيدها بمشيئة الله- تعالى- أو حتى تذكرها.
الفائدة الثالثة:
إن اجتمع في الأمر الواحد ضرران وتعذر رفعهما معا، فيجب دفع أعظمهما ولا ضير في إبقاء أخفهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان من حقه ألا يأذن لمن يشاء، مع أن عدم الإذن لصاحب العذر فيه ضرر عليه، ولكن الإذن له فيه ضرر أعظم، فدفع الضرر الأعظم بالضرر الأخف، وهذه من القواعد الشرعية العظيمة إذ كان صلى الله عليه وسلّم ينظر في أحوال أصحابه، فمن كان الإذن له أخف ضررا أذن له، وإلا لم يأذن له.
الفائدة الرابعة:
قد تأتي الأوامر الشرعية بعكس ما يتمنى الإنسان ويهوى أو ضد ما يراه من مصالحه الدنيوية، فيجب عليه أن يسلم بكل ما أمر الله- سبحانه وتعالى- بنفس راضية مطمئنة وليعلم أنه يجب عليه أن يضحي بأمور كثيرة في طريقه إلى الله ورسوله، وأن الجمع بين كل أمور الدنيا وكل طاعة لله ورسوله أمر مستحيل، ألم تر أن الله- سبحانه وتعالى- قد أمر التاجر أن يترك تجارته عند النداء إلى الصلاة من يوم الجمعة أليس في هذه التجارة مربح له كما يعتقد؟ ألم تر أن الله قد أمرنا أن ندع الطعام والشراب من طلوع الفجر حتى غروب الشمس شهرا كاملا، وهو ما قد يؤثر سلبا على قضاء البعض لمصالحه الدنيوية، وغير ذلك كثير، وشاهده من الآية التي معنا أن المستأذن لعذر قد لا يؤذن له.
الفائدة الخامسة:
استغفار النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه وهو قطعا أرجى في القبول من استغفار الصحابة لأنفسهم، ولذلك أمر الله- سبحانه وتعالى- النبي صلى الله عليه وسلّم بالاستغفار لمن أذن له بالذهاب، وهذا يدل أيضا على حب الله- سبحانه وتعالى- للصحابة رضي الله عنهم والأمر بكل ما من شأنه أن ينقيهم من اثار ارتكاب الذنوب أو تركهم للأولى من الأمور.
2- اداب زيارته والدخول عليه في بيته صلى الله عليه وسلّم:
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] .
كما علم الله- سبحانه وتعالى- الأمة ما ينبغي عليهم اتباعه والتحلي به عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلّم أو الاستئذان منه، علمهم أيضا اداب دخول بيوته صلى الله عليه وسلّم كما سنرى:
أولا: أسباب نزول الآية الكريمة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش دعا القوم(2/39)
فطعموا، ثمّ جلسوا يتحدّثون، وإذا هو كأنّه يتهيّأ للقيام، فلم يقوموا، فلمّا رأى ذلك قام فلمّا قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثمّ إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا فجاء حتّى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... الآية) «1» .
ثانيا: بيان اداب دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم:
1- أكدت الآية أن الأصل في دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم هو التحريم، ثم لا يكون الدخول إلا بشروط، ودليله أن الآية بدأت بقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، والنهي يقتضي التحريم.
2- نصت الآية على شروط دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يكون الدخول مشروعا غير محرم، والشروط هي:
أ- الدعوة إلى الطعام، قال- تعالى-: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ.
ب- عدم تحين وقت نضج الطعام لقوله تعالى-: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير ناظرين إلى وقت نضجه. قال الحافظ ابن كثير: (أي غير متجينين نضجه واستواءه أي لا ترقبوا الطعام إذا نضج حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه) «2» .
ج- وقت الدخول لتناول الطعام يكون عند الإذن.
قال القرطبي- رحمه الله- (فأكد المنع وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، قال ابن العربي «3» وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا) «4» .
د- تحريم الاسترسال في الحديث بعد تناول الطعام، قال الإمام القرطبي: (وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة) ، كما قال: (أمر- تعالى- بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام وإنما جاز لأجل الأكل فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القران، باب: قوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، برقم (4791) .
(2) انظر «تفسير القران العظيم» (3/ 506) .
(3) هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر ابن العربي: قاض، من حفاظ الحديث. ولد في إشبيلية، ورحل إلى المشرق وبرع في الأدب وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، توفي عام (543 هـ) .
(4) انظر «الجامع لأحكام القران» (14/ 226) .(2/40)
وعاد التحريم إلى أصله) «1» . انتهى.
وكلام القرطبي يؤكد ما ذكرته من أن الأصل في دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم هو التحريم، وهذا مقتضى كلام الشيخ السعدي- رحمه الله- حيث قال في تفسيره للآية الكريمة: (لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم إلا بشرطين: الإذن لكم بالدخول، وأن يكون دخولكم بمقدار الحاجة وذلك قبل الطعام وبعده) . ومما يؤكد أن الأصل في الدخول هو التحريم ما قاله الإمام القرطبي ونصه: (يقول الله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أيها الذين امنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أن تدعوا إلى طعام تتناولونه فيها) «2» .
مما ذكر يتضح بجلاء عظيم شأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم وما ضمنه الله- تبارك وتعالى- في كتابه العزيز من حفظ تلك البيوت وإلزام المؤمنين توقيرها وعدم التعدي عليها وعلى أهلها بما يؤذيهم أو يهتك سترهم أو يشق عليهم، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما ورد في نفس الآية من الآداب الواجب اتباعها عند سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم متاعا، وهو ما سأورده- إن شاء الله- في باب (تعظيم زوجاته صلى الله عليه وسلّم) .
ثالثا: بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
جود النبي صلى الله عليه وسلّم مع أضيافه وإيثارهم على نفسه وأهل بيته، فمع أن البيوت كان لا يوقد فيها نار لشهرين بثلاثة أهلة، إلا أنه صلى الله عليه وسلّم كان يتكلف الطبخ لأضيافه إن استطاع، لقوله- تعالى-: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، ويترتب عليه استحباب إكرام الضيف بطبخ ما يقدر عليه أهل البيت.
الفائدة الثانية:
وجوب إجابة الدعوة إلى الطعام، لقوله- تعالى-: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا يصدّق ذلك: أنّ ابن عمر رضي الله عنه كان يقول عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب؛ عرسا كان أو نحوه» «3» .
الفائدة الثالثة:
من الآداب الإسلامية الرفيعة في الزيارة عدم المشقة على أهل البيت المضيف، فلا يشرع الاسترسال في الحديث بعد الطعام، إلا إذا علم أن صاحب البيت يحب ذلك، ولكن يجب التنبيه في وقتنا الحاضر، أن صاحب البيت يمكن أن يستأنس بحديث أصحابه مع وجود بالغ المشقة على أهله، فيجب على الزائر مراعاة ذلك.
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القران» (14/ 226) .
(2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (670) .
(3) مسلم، كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، برقم (1429) .(2/41)
الفائدة الرابعة:
الأدب القراني في تعليم الأمة:
أ- قال تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وعفّ عن الأمر بالخروج، مع أن اللفظين بمعنى واحد، ولكن قد يكون في قوله: (فاخرجوا) أذى لأذن السامع ومشاعره، ويتفرع عليه أن على المعلم أو الداعية أن يتخير من الألفاظ أبعدها عن إيذاء السامع.
ب- ذكر حكمة الأمر أو النهي؛ لأن في هذا سلوى لمن توجه إليه الخطاب، خاصة إذا كان الأمر يحول بينه وبين ما يحب، قال- تعالى-: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ.
الفائدة الخامسة:
غيرة الله- سبحانه وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلّم وحرصه عزّ وجلّ على رفع أي أذى يصيبه ولو كان أذى معنويّا، ومن شدة عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه وحبه لإظهار تلك العناية للعالمين، أن القران لم يكتف برفع الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلّم، بل نص على أن ذلك الحكم ما كان إلا بسبب تأذي النبي صلى الله عليه وسلّم. قال تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب: 53] .
ويتفرع على ذلك: التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لمن تسبب في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بعد وفاته؛ لأن الله عزّ وجلّ لا يحب أدنى إيذاء له صلى الله عليه وسلّم وإن كان هذا الإيذاء قد وقع بسبب أمور يعتقدها الناس من العادات وليس من العبادات، فما بالكم لو وقع الإيذاء فيما هو أكبر من ذلك، وهو ما يتعلق بأمور التشريع والسنة؟!.
الفائدة السادسة:
إثبات عدم استحياء الله عزّ وجلّ من الحق، ولكن إذا كان على المسلم أن يقول الحق، فيجب عليه أن يتخير أحسن الطرق وأجمل الألفاظ لتوصيل الحق إلى السامع كما نوّهت انفا.
3- اداب مخاطبته صلى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) [الحجرات: 2، 3] .
وهذا أدب اخر، علمه الله- سبحانه وتعالى- الأمة، وأمرهم أن يتبعوه عند مخاطبة أشرف الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وهو عدم رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم بحيث يعلو صوت المتكلم على صوته، وهو أدب رفيع ربّى الله- سبحانه وتعالى- الأمة عليه كما سيأتي(2/42)
مفصلا- إن شاء الله- تعالى- وسنذكر أولا سبب نزول الآية، ثم ما في الآية الكريمة من فوائد، ثم نختم بكيفية تفاعل الصحابة مع الآية.
أولا: سبب نزول الآية:
ذكر العلماء عدة أسباب لنزول الآية، تدور كلها في معنى واحد وهو رفع طائفة من الصحابة صوتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلّم كالأعراب الذين يتصف الغالب منهم بالجفاء في الحديث والغلظة في المعاملة، وقد ورد في سبب النزول عن ابن أبي مليكة قال: (كاد الخيّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النّبيّ صلى الله عليه وسلّم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل اخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلّا خلافي. قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية، قال ابن الزّبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه) «1» .
تدبر أخي القارئ فيمن نزلت هذه الآية الكريمة، لقد نزلت في خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلّم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في رجلين معلوم فضلهما وسبقهما إلى الإسلام، فما من أحد أعظم منة على الإسلام وأهله من الصديق، وما من أحد أعز الله به الإسلام أكثر من عمر، رضي الله عنهما، ومع ذلك لا يستحي الحق- تبارك وتعالى- أن يأدبهما ويرشدهما إلى السلوك القويم الذي ينبغي أن يسلكاه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا قدّر الله- سبحانه وتعالى- أن يتسامح مع أحد في رفع صوته فوق صوت نبيه صلى الله عليه وسلّم لتسامح مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحسبهما قربهما من النبي صلى الله عليه وسلّم وحبه لهما، فكيف نتصور أن يتسامح الله عزّ وجلّ لمن هو دونهما في الفضل والسبق، إذا لم يتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم؟! واسمع لما يقول ابن أبي مليكة: (كاد الخيران أن يهلكا) . فلم يشفع لهما مكانتهما أن يهلكا إذا لم يلزما الأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم.
ثانيا: بعض فوائد الآية:
الفائدة الأولى:
تحريم رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم بحيث يعلو صوت المتكلم صوته صلى الله عليه وسلّم قال القرطبي- رحمه الله تعالى-: (معنى الآية الأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القران، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، برقم (4845) .(2/43)
وراء الحد الذي يبلغه بصوته وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم وجهره باهرا لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته واضحة) «1» . وأعتقد أن رفع الصوت المذكور في الآية من كبائر الذنوب؛ لأن الله- تبارك وتعالى- رتب عليه عقوبة عظيمة وهي إحباط العمل، كما سيأتي.
الفائدة الثانية:
في الآيات الكريمات مظاهر عديدة تدل على تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن مظاهر ذلك:
1- لم تقتصر الآية الأولى على تحريم رفع الصوت فحسب بل ضمت له أدبا اخر وهو تحريم الجهر له بالقول، كما يجهر أفراد المسلمين بعضهم لبعض، أي أن الحديث مع النبي صلى الله عليه وسلّم ومناداته والخطاب معه يجب أن يكون متميزا عن الخطاب مع غيره من عموم المسلمين، خطاب يدل على توقيره وإجلاله وتعظيم شأنه، يوضح ذلك قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، وقد وضح الإمام القرطبي طرفا من اداب الحديث مع النبي صلى الله عليه وسلّم ومخاطبته بقوله: (أي لا تخاطبوه: يا محمد ويا أحمد ولكن يا نبي الله، ويا رسول الله توقيرا له، وأضاف- رحمه الله- أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه فيما بينهم وهو الخلوة من مراعاة أبهة النبوة وجلالة قدرها وانحطاط سائر الرتب وإن جلّت عن رتبتها) «2» .
كما ذكر الشيخ السعدي- رحمه الله- تعالى- في تفسير قوله- تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ما نصه: (ولا يجهر له بالقول بل يغضّ الصوت ويخاطبه بأدب ولين وتعظيم وتكريم ولا يكون الرسول كأحدهم بل يميزه في خطابه كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة ووجوب الإيمان به والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به) «3» .
2- أن الآية لم تسوّ بين مقام النبوة، ومقام أي فرد من أفراد الأمة مهما عظم شأنه وجل قدره، حيث نهت الآية أن نسوّي حديثنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم بحديثنا مع جميع أفراد الأمة بدون تقيد لمنزلة أي فرد من أفراد الأمة لقوله- تعالى-: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، فدلت الآية أن
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القران» (13/ 306- 307) .
(2) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 306) .
(3) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (799) .(2/44)
قدر أي أحد من أفراد الأمة لا يستوي مع قدر النبي صلى الله عليه وسلّم ولا ينبغي له من التعظيم والإجلال ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلّم.
ويتفرع على ذلك أننا يجب أن نميز بين حديثنا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم وحديثنا عن أشراف وسادات الناس. فيجب أن يكون هناك فرق في التعظيم والإجلال والإكبار بين النبي صلى الله عليه وسلّم وغيره، ولو كان من عظاماء المسلمين، لأننا إن لم نفعل ذلك وقعنا في النهي؛ قال تعالى:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
نقل القرطبي كلاما نفيسا عن القاضي أبي بكر ابن العربي نصه: (حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به) «1» .
وقد نوّه ابن كثير- رحمه الله- عن وجوب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم بعد مماته بقوله: (قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلّم كما كان يكره في حياته صلى الله عليه وسلّم لأنه محترم حيّا وفي قبره صلى الله عليه وسلّم دائما) «2» .
3- من أبلغ مظاهر تعظيم الآية لمقام النبي صلى الله عليه وسلّم، أن جعلت عقوبة رفع الصوت عليه هي حبوط العمل، وفي هذا أبلغ التعظيم للمحظور، وهو رفع الصوت، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: (إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري) «3» .
وأعتقد أن العقوبة المترتبة على رفع الصوت، لا يشترط لها غضب النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا لم يغضب لم تكن هناك عقوبة، ولكني أعتقد أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم بعدم رفع الصوت عليه هو أمر مطلوب لذاته وهو من مقتضيات الإيمان، ويعاقب تاركه وإن لم يتأذّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والدليل على ذلك أن الآية لم تقيد حبوط العمل بغضب النبي صلى الله عليه وسلّم ولكن قيدته فقط برفع الصوت.
[فوائد الآية الثانية:]
أما فوائد الآية الثانية: وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ ... [الحجرات: 3] :
فتتلخص في عظيم الحث على التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم بغضّ الصوت عنده، مع أبلغ الثناء
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 307) .
(2) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 208) .
(3) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 208) .(2/45)
على من التزم هذا الأدب، يتبين ذلك من:
1- حثت الآية المسلمين على مطلق غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهي أبلغ من الآية التي قبلها في وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلّم حيث زكّت من يغض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم سواء تكلم معه أم مع غيره في مجلسه، كما لم تقيد خفض الصوت بحيث يكون أخفض من صوت النبي صلى الله عليه وسلّم ولكنها حثت على مطلق خفض الصوت بغض النظر عن صوت النبي صلى الله عليه وسلّم في المجلس.
وهذا ما كان يفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان يخفض صوته جدّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآيات الكريمات حتى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يطلب منه إعادة ما يقول ليفهم منه، ذكر ذلك في الحديث الذي أوردته عن سبب نزول الآية: (فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) .
2- بينت الآية الكريمة أن خفض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي من علامات تقوى القلوب، بل إن هذه القلوب قد طهرها الله من كل قبيح ورذيل بفضل التزام أصحابها غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قوله: (طهرهم من كل قبيح وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى) «1» .
3- ختمت الآية بذكر عظيم الثواب الذي أعده الله عزّ وجلّ لمن تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث معه بقوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، فقد وعدهم الله بأمرين عظيمين، هما: المغفرة من ذنوبهم، ومن لوازمه ستر الذنوب ومحوها، والأجر العظيم، أي الجزاء الذي يتصف بالعظمة في قدره وكمّه ومن لوازمه دخول جنات الفردوس التي أعدها الله لعباده الصالحين.
وتدبر أخي القارئ عظيم بركة التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم في مجال واحد من مجالات التأدب وهو خفض الصوت، قلب تعمره التقوى قد تنزه عن الشكوك والشبهات، ذنوب قد غفرت ومحيت من الصحائف فابيضت تلك الصحائف لخلوها من الذنوب والآثام، أجور عظيمة قد كتبت في تلك الصحائف فازدادت بياضا على بياضها وجمالا على جمالها، فما بالك أخي القارئ لو استوفى المسلم جميع الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلّم ماذا سيكون جزاؤه وعاقبته في الدنيا والآخرة؟!.
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 308) .(2/46)
ثالثا: تفاعل الصحابة رضي الله عنهم مع الآية الكريمة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكّسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل الأرض، فأتى الرّجل فأخبره أنّه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس فرجع المرّة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: «اذهب إليه فقل له: إنّك لست من أهل النّار، ولكن من أهل الجنّة» «1» .
وقد أوردت هذا الحديث كشاهد على تفاعل الصحابة رضي الله عنهم مع ايات الذكر الحكيم لأثبت أن الصحابة فهموا الغرض الحقيقي من نزول القران الكريم، فكانوا يقفون عند كل اية ليتدبروا ما فيها من أحكام تشريعية وتكليفات إلهية، فما كان في استطاعتهم فعلوه في الحال، كالنهي مثلا عن شرب الخمر، وما كان في غير مقدورهم- حسب فهمهم للآية- شكوا حالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليجدوا عنده المخرج، ومثاله ما رواه البخاري، عن عبد الله قال: (لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيّنا لم يظلم؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ) «2» .
ومثاله أيضا الحديث الذي معنا، ونذكر سريعا طرفا من فوائده:
[بعض فوائد الحديث]
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1- تفقّد النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه وسؤاله عن الغائب منهم لما ثبت في رواية مسلم: (فسأل النبي صلى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ فقال سعد: إنه كان لجاري وما علمت له بشكوى) «3» . وهذا يدل على حب النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه واعتنائه بهم.
2- عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه ورغبته في إدخال السرور عليهم والمبادرة إلى ذلك ما أمكن، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يستدع ثابت بن قيس ليبشره بالبشارة العظيمة، ولكنه رد إليه سعد بن معاذ مرة أخرى ليبشره، وأظن أن النبي صلى الله عليه وسلّم فعل ذلك حبّا منه أن يخرج ثابت ابن قيس من بيته- الذي حبس نفسه فيه- فرحا مرفوع الرأس مستبشرا بالجنة، بعد أن
__________
(1) البخاري، كتاب، المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3613) .
(2) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: ظلم دون ظلم، برقم (32) .
(3) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، برقم (119) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(2/47)
مكث في بيته منذ أن نزلت الآية منكس الرأس.
الفائدة الثانية:
في مناقب ثابت بن قيس رضي الله عنه:
1- خوفه الشديد من غضب الله- سبحانه وتعالى- عليه وعاقبة السوء ودليله:
أ- اعتزاله الناس جميعا، حتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم.
ب- جلوسه في بيته منكس الرأس، قال الراوي: (فوجده جالسا في بيته منكّسا رأسه) .
2- تعظيمه لأوامر الله- سبحانه وتعالى- ونواهيه، حيث وصف ما وقع فيه من رفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم بكلمة واحدة بليغة (شر) .
3- تيقنه من خبر القران الكريم وتصديقه المطلق به، لقوله: (كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله) . فذكر (قد) لإفادة التحقيق، بالإضافة إلى ذكره (حبط) بصيغة الماضي، فلم يقل مثلا (فربما يحبط عملي) . وورد في رواية مسلم: (فأنا من أهل النار) .
4- تحقيره لأمر الدنيا ومن يركن إليها، حيث حكم على نفسه بعد أن تيقن أن عمله قد حبط، قال: (وهو من أهل الأرض) ، ويستنبط منه، تعظيمه لأمر الآخرة وأهلها.
5- أدبه مع التنزيل وعدم اعتراضه على أوامر الله- سبحانه وتعالى- حيث إن ثابت بن قيس كان جهير الصوت خلقة وجبلّة، قال الإمام النووي- رحمه الله- تعالى:
(وكان ثابت رضي الله عنه جهير الصوت وكان يرفع صوته وكان خطيب الأنصار) «1» . فلم يقل ثابت عندما نزلت الآية: (وما ذنبي أن صوتي جهير، وكيف يعاقبني الله على أمر قد جبلت عليه) . ولم يقل: (أنا لا أرفع صوتي من قلّة أدب ولكني تعودت على ذلك من كوني خطيبا) .
هذه الاعتراضات كلها لم يفكر فيها الصحابة بل لم تخطر على بالهم وعقولهم، فليس عندهم إلا الأدب والتسليم التام، وهو ما ينقصنا في هذه الأيام.
6- أنه من أهل الجنة، وهي منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه ولم تكن البشرى أنه من أهل الجنة فحسب بل جاءت بما هو أعظم من ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلّم: «إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة» «2» .
__________
(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/ 134) .
(2) البخاري، كتاب: تفسير القران، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، برقم: (4846) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(2/48)
7- أنه ما كان يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا لعذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما افتقده قال لسعد بن معاذ كما في رواية مسلم: «يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟» .
الفائدة الثالثة:
1- رجاحة عقول الصحابة رضي الله عنهم وكراهيتهم أن يتلبسوا بهيئة الرجل الذي وقع في المعصية، ولو كان على سبيل الرواية، وذلك من شدة كراهيتهم للمعاصي، ودليله من الحديث عدول الراوي عن نقل كلام ثابت بن قيس رضي الله عنه بصيغة المتكلم بل قال: (شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل الأرض) ، وهذا الالتفات كثير في السنة النبوية الشريفة.
ويتفرع عليه سفاهة عقل وسوء أدب من يقع في المعاصي ويحكيها بصيغة المتكلم، بل ويتباهى بها، وهذا يدلنا على البون الشاسع بين الصحابة رضي الله عنهم وبيننا.
2- تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لأمر الجنة، حيث وصف الراوي قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» ، بالبشرى ووصف تلك البشرى بالعظيمة.
الفائدة الرابعة:
هذا الحديث يدل قطعا على أن اية الباب إنما نزلت في حق من يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم من غير قصد سوء الأدب، ودليله أن ثابت بن قيس رضي الله عنه حمل الآية على نفسه وهو قطعا ما كان يرفع صوته بسوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم ولذلك قال القرطبي ما نصه: (وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون) «1» .
الفائدة الخامسة:
كل من ارتكب المعاصي ولم يتب منها فهو في شر، حتى يرجع إلى الله سبحانه وتعالى- مهما بلغت منزلته؛ لأن ثابت بن قيس، وهو صحابي جليل لما سأل عن حاله قال: (شر) وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلّم ولم ينكره، كما يؤخذ منه أن المعاصي شر، وبذلك تكون الطاعات- التي هي ضد المعاصي- كلها خير، لما تسببه للعبد من سعادة في الدنيا والآخرة.
4- تحريم التقديم بين يديه صلى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) [الحجرات: 1] . الشاهد في الآية:
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القران» (16/ 307) .(2/49)
قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقد ذكر العلماء- رحمهم الله- تعالى- أقوالا عديدة في معنى التقديم بين يدي الله ورسوله، كلها متقاربة المعنى أذكر منها:
1- لا تسارعوا في الأشياء بين يديه بل كونوا تبعا له في جميع الأمور.
2- لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقيل: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه صلى الله عليه وسلّم.
3- لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.
4- لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله، وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا، ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلّم فقد قدمه على الله- تعالى لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم إنما يأمر عن أمر الله عزّ وجلّ.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
وجوب تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم حيث نهت الآية، أن نقول حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم وأن نفعل حتى يفعل، فإذا كان النهي عن القول أو الفعل حتى يفعل أو يقول صلى الله عليه وسلّم فمن باب أولى أن يعظم النهي إذا قال أو فعل صلى الله عليه وسلّم وإذا كان المسلمون لا يسعهم أن يقولوا أو يفعلوا قبل قول الرسول صلى الله عليه وسلّم وفعله فهل يسعهم أن يجانبوا قوله أو فعله بعد تحققهما.
ويتفرع على ذلك: تحريم العدول عن سنة النبي صلى الله عليه وسلّم القولية أو الفعلية لقول أي أحد ولو كان من العلماء المشاهير، وهذا هو نهج أهل السنة والجماعة، فإنهم قد اتفقوا على أن الحديث إذا صح فهو مذهبهم.
كما يتفرع عليه وجوب التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن أمر الله بعدم التقديم على النبي صلى الله عليه وسلّم بقول أو فعل لهو من أعظم الآداب، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى: (هذه ايات أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلّم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام) «1» . وقال الشيخ السعدي- رحمه الله-: (هذا متضمن للأدب مع الله- تعالى ومع رسول الله صلى الله عليه وسلّم والتعظيم له واحترامه وإكرامه) «2» .
الفائدة الثانية:
جاءت الآية الكريمة بأبلغ الحث على عدم التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومن مظاهر ذلك:
1- ابتداء الآية بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاسترعاء سمع المؤمنين
__________
(1) انظر «تفسير القران العظيم» (4/ 206) .
(2) انظر «تيسير الكريم الرحمن» (799) .(2/50)
وانتباههم، وبيان أن طاعة الأمر الذي سيتلى هو من مقتضيات الإيمان ولوازمه، وأن عدم الامتثال لهذا الأمر يقدح في كمال إيمان العبد.
2- اقتران النهي عن التقديم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالنهي عن التقديم بين يدي الله عزّ وجلّ. ولا يخفى ما في ذلك من تعظيم لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، وفيه أبلغ الحث على طاعته والتأدب معه، كما فيه إشعار أن الذي يمتثل أمر الله عزّ وجلّ آناء الليل والنهار ولا يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقد عصى الله عزّ وجلّ وأنه في الحقيقة لم يمتثل أمره- سبحانه وتعالى-؛ لأن الآية لم تفرق بين طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، فهما في وجوب التعظيم والامتثال سواء، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم ما هو إلا مبلغ عن ربه- سبحانه وتعالى- يصدّق ذلك قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) [النساء: 80] .
ويتفرع عليه وجوب عدم التفريق بين أوامر القرآن، وأوامر السنة الصحيحة، لا من حيث الحجية ولا من حيث الوجوب، ولا من حيث جواز نسخ أحدهما للآخر؛ لأن الآية إنما ذكرت تحريم التقديم بين يدي الله (القرآن) ويدي النبي صلى الله عليه وسلّم (السنة الصحيحة) في نهي واحد إلماحا بالمساواة بين القرآن والسنة من حيث الأمور التي ذكرتها، وصدق من ذكر أن المصدر الأول للتشريع هو القرآن والسنة، ولم يجعل السنة مصدرا ثانيا.
3- أمرت الآية المؤمنين بتقوى الله عزّ وجلّ بعد الأمر بعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، إشعارا بأن عدم التقديم هو من تقوى الله عزّ وجلّ وأن العبد كلما زادت تقواه لله كلما زاد حرصه على امتثال أوامر الله ورسوله وتأدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلّم.
4- اختتمت الآية الكريمة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وفي هذا أبلغ الحث على عدم مبادأة الله ورسوله بقول أو فعل؛ لأن من لوازم علم الله وسمعه أنه سيجازي الذي امتثل أوامره خيرا وسيعاقب الذي عصاه بما يستحق من العذاب والنكال.
الفائدة الثالثة:
من مظاهر عدم تقديم الصحابة رضي الله عنهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلّم ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدريّ قال: (كنّا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إنّ سيّد الحيّ سليم، وإنّ نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنّا نأبنه «1» برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا، فلمّا رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟
__________
(1) أي: ما كنا نظنه يرقي.(2/51)
قال: لا ما رقيت إلّا بأمّ الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتّى نأتي أو نسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فلمّا قدمنا المدينة ذكرناه للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «وما كان يدريه أنّها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم» ) «1» .
وهو حديث يبين بجلاء ما كان عليه الصحابة من الأدب الجم مع النبي صلى الله عليه وسلّم وعدم التقديم بين يديه في أي أمر من الأمور، وشاهده من الحديث أن هؤلاء النفر من الصحابة قد أبوا أن يأكلوا شيئا من قطيع الغنم حتى يأتوا الرسول صلى الله عليه وسلّم ويسألوه عن مشروعية أخذ الأجر على الرقية.
ويتفرع عليه ما نحن فيه من سوء الأدب مع مقام النبوة ليس بعدم التقديم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم بل في الجدال في سنته والسعي في نقضها والمجادلة في حجيتها. وغير ذلك كثير.
__________
(1) البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب، برقم (5007) ، ومسلم، كتاب: السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201) .(2/52)
رابعا: ألطف الخطاب في القرآن حتى عند معاتبته صلى الله عليه وسلّم
1- اللطف عند العتاب:
لم يقتصر لطف الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم على دفع ما ظاهره تكذيبه، أو عدم الخطاب بما يوهم الهجر، ولكن تعدى خطاب القرآن إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، تعدى إلى ما هو أجمل وأتم، تعدى إلى اللطف عند العتاب، وهل في العتاب رقة في التعبير؟ نعم إذا كان العتاب بين حبيب وحبيبه، إذا كان العتاب من الله- سبحانه وتعالى إلى صفوته من خلقه وخليله صلى الله عليه وسلّم وسنضرب لذلك مثلين من كتابه العزيز.
الشاهد الأول:
قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) [التوبة: 43] هذا مثال للطيف عتاب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم.
وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلّم أذن لطائفة من المنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، قال القرطبي- رحمه الله-: «قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون» «1» .
ووجه اللطف في هذا العتاب واضح جدّا: وهو أن الله عزّ وجلّ بدأ العتاب الكريم بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلّم بعفو ربه، ذكر ابن كثير عن عون قوله: «هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذه؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة» ، كما ذكر أيضا قول قتادة: «عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النّور: 62] » «2» .
وقال القرطبي: (أي سامحك الله وغفر لك ما أجريت، لم أذنت لهم في التخلف، وكان عليك أن تمتحنهم ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق) «3» .
وقال القرطبي أيضا: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ هو افتتاح الكلام كما يقول: أصلحك الله
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (8/ 155) .
(2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 361) .
(3) انظر الجامع للحكام القرآن (8/ 154) .(2/53)
وأعزك ورحمك، وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا) ، وأضاف: (قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى فقدم له العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب) «1» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم إذ دعا له بعفوه، وتظهر عظمة هذا الدعاء أن جعل فاعل عفا هو لفظ الجلالة.
وقد يكون قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ من باب الإخبار لا الدعاء، فيكون هذا أبلغ في الحب والشفقة إذ أخبره- سبحانه وتعالى- أنه عفا عنه بالفعل الماضي قبل أن يوجّه له العتاب حتى يتيقن صلى الله عليه وسلّم أن هذا العتاب لن يؤثر مطلقا في مكانته عند ربه عزّ وجلّ.
الفائدة الثانية:
حاجة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى عفو ربه الحنان المنان، ولذلك دعا الله له بالعفو.
ويتفرع عليه حاجة الناس كلهم جميعا إلى عفو ربهم من لدن آدم حتى أدنى رجل من المسلمين، وعلى المسلمين أن يدعوا ليل نهار بعفو ربهم عسى أن يشملهم ويعمهم، ومن سوء الأدب أن يشعر المسلم لصلاحه وتقواه أنه في غنى عن عفو ربه.
الفائدة الثالثة:
ثبوت صفة العفو لله عزّ وجلّ، ويتفرع على ذلك، أن على المسلم ألا ييأس من عفو ربه مهما بلغت ذنوبه، وعليه أن يعلم أن اليأس من العفو هو كفر يخرج من ملة الإسلام؛ قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] .
الفائدة الرابعة:
عدم علم النبي صلى الله عليه وسلّم لأمور الغيب- إلا ما علّمه له الله- حيث أثبتت الآية أن إذن النبي صلى الله عليه وسلّم للبعض في التخلف عن الغزو جعله لا يعلم الصادق منهم والكاذب، وهذا الغيب الذي لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلّم هو غيب نسبي، فمن باب أولى فإنه صلى الله عليه وسلّم لا يعلم الغيب المطلق.
الفائدة الخامسة:
ذم صفة الكذب أعظم الذم، حيث إن الله- سبحانه وتعالى- قد وصف بها الذين أظهروا طاعة الله ورسوله وأضمروا في قلوبهم المعصية، قال مجاهد:
(نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا) «2» .
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (8/ 155) .
(2) انظر تفسير الطبري (10/ 142) .(2/54)
الشاهد الثاني:
قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) [عبس 1- 10] ، لا خلاف في سبب نزول هذه الآية، كما لا خلاف فيمن نزلت فيه الآية، وتتشابه أقوال المفسرين في بيان ذلك، وأكتفي بما قاله الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يوما يخاطب أحد عظاماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن شيء ويلحّ عليه، وودّ النبي صلى الله عليه وسلّم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله الآية) . انتهى «1» .
ثانيا: وجه اللطف في العتاب:
وجه اللطف في هذا أن الله- سبحانه وتعالى- وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم العتاب بصيغة ضمير الغائب، قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) ، ولما انتهى العتاب وجه إليه الخطاب بصيغة المخاطب، قال- تعالى-: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) [عبس: 3] ... إلى آخر الآيات، وهذا يدل على عظيم حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلّم، وعظيم شفقته به أن توجّه إليه كلمة تحزنه مع بيان علو منزلته عند ربه، قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (أنزل الله على نبيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيما له، ولم يقل: عبست وتوليت ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: وَما يُدْرِيكَ) «2» .
بعض فوائد الآيات الكريمات:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1- عناية الله- سبحانه وتعالى- به صلى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك من:
أ- تربيته أحسن التربية، حيث لامه- سبحانه وتعالى- في كل ما فعل مع ابن أم مكتوم رضي الله عنه، ويتضمن أمرين: الأمر الأول: في الوجه وهو العبوس، والثاني:
بالجسد كله وهو الإعراض.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 471) .
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 213) .(2/55)
ب- لما كان توجيه العتاب قد يفهم منه وقوع النبي في التقصير في الدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى-، بيّن- سبحانه وتعالى- أن هذا العتاب نتج بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلّم حّمل نفسه ما لم يكلف شرعا وهو التصدي للكافر، قال- تعالى-: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلّم الأمر السهل، وهو إجابة سؤال المسلم، وتعرض للصعب، وهو دعوة الكافر للإسلام.
ج- إرادة التهوين على النبي صلى الله عليه وسلّم وتسليته ورفع ما يشق عليه، فبين الله عزّ وجلّ له أنه رسول ومبلغ، وليس عليه هداية الناس، إنما هذا لله وحده، قال تعالى: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) .
2- ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم من اجتهاد في تعليم الأمة حيث كان يقصده كل أحد من الناس- حتى الضرير الذي يشق عليه ذلك- ليسأله عن حاجته.
3- صحة وقوع الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلّم، فيما لا وحي فيه- وأن الله عزّ وجلّ لا يقره على اجتهاد صدر منه إلى خلاف الأولى، وموضع الاجتهاد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى أن الاسترسال مع الكافر ومحاولة هدايته إلى الإسلام أولى من إجابة سؤال المسلم الحريص على أمر دينه، فالمسلم الذي جاء بمحض إرادته يسأل لا يخشى عليه الفتنة، فالأمر بالنسبة إليه فيه سعة.
قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلّم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله- تبارك وتعالى- عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة) «1» .
4- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئا من أمر الوحي أبدا، وأنه قد أدى أمانة تحمّل القرآن وتبليغه أحسن ما يكون، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتم شيئا من الوحي أو كان يسعه أن يكتم شيئا، لكتم آيات العتاب.
5- بذل النبي صلى الله عليه وسلّم غاية جهده لنشر دين الله عزّ وجلّ والدعوة إلى الإسلام، واستنقاذ البشر من الكفر والضلال، ولو تعرض في سبيل ذلك لأبلغ الأذى المادي والمعنوي، المادي: كما حدث له صلى الله عليه وسلّم في الطائف، أما المعنوي: لما عرض نفسه صلى الله عليه وسلّم على القبائل، وفي الحادثة التي معنا التي تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتصدى للكفار، وقيل: معنى يتصدى أي:
يتعرض لهم كما يتعرض العطشان للماء، وانظر كيف كان حاله صلى الله عليه وسلّم وهو يدعوهم
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 213) .(2/56)
للإسلام، وكيف كان حالهم هم، أشد حالات الزهد والإعراض وعدم المبالاة والاكتراث لما يسمعونه، وهي معان يدل عليها جميعا قوله تعالى-: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) ، ويدل على حالة النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يدعوهم قوله- تعالى-: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وصدق من قال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] .
الفائدة الثانية:
عدم استحياء الله- تبارك وتعالى- من الحق، حيث عاتب أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثالثة:
حبّ الله- تبارك وتعالى- إظهار الحق للناس وتعليمه لهم، فلم يكتف بتوجيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلّم سرّا أو إلهاما أو مناما، ولكن أنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، وأظهر في هذا القرآن الحقّ الذي لم يتضرر منه صاحبه، فالأعمى لا يتضرر إذا عبس أحد في وجهه.
الفائدة الرابعة:
غنى الله- سبحانه وتعالى- عن إيمان الناس ولو كانوا سادة في أقوامهم، أغنياء في أموالهم، وأن من أعرض عن الله أعرض الله عنه ولم يبال به، ويتبين ذلك من قوله تعالى: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ، وفي عتاب النبي صلى الله عليه وسلّم بسبب انشغاله بالكافر عن المسلم.
الفائدة الخامسة:
ميزان الشرع في التفاضل بين الناس هو تقوى الله وإقبالهم عليه، وحرصهم على الخير ولو كانوا أشد الناس فقرا.
الفائدة السادسة:
تزكية ابن أم مكتوم رضي الله عنه أبلغ التزكية ووجه ذلك:
أ- ذكره بصفته في القرآن الكريم، ولا يعلم في ذلك خلاف أنه هو المقصود من الآية.
ب- عناية الله- سبحانه وتعالى- به وبأمثاله من الفقراء- إذ عاتب نبيه صلى الله عليه وسلّم فيه.
ج- بيان حرصه على ما ينفعه؛ إذ جاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم سعيا مع أنه ضرير، في حالة كونه يخشى، قال القرطبي- رحمه الله- في تفسير كلمة يَخْشى أي يخاف الله. وأظن أن هذا تفسير ببعض ما يحتمله اللفظ، أما جمال اللفظ فهو أن نفسره بكل ما يحتمله، خاصة أن الله سبحانه وتعالى- لم يقيده بمعنى دون معنى، فنقول: إنه- رضي الله عنه- كان يخشى الله ويخشى الطريق، ويخشى فوات المصلحة بعدم وجود النبي صلى الله عليه وسلّم، ويخشى أن يجبيبه النبي صلى الله عليه وسلّم بما لا يستطيع فعله. وإثبات كل هذه المعاني أبلغ في تزكية ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وتصوّر حاله أثناء مجيئه، وأوجه في توجيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلّم.(2/57)
الفائدة السابعة:
توجيهات إلى أهل العلم وأصحاب الفتوى.
1- يجب أن يعتقدوا أن وقوع الخطأ منهم أمر وارد، سواء في الاجتهاد أو معاملة الناس، وعليهم أن يقبلوا التوجيه ولا يستنكفوا عنه.
2- إرشاد المتعلم أو السائل بما يزكيه ويذكّره، ولو كان ذلك زائدا على قدر سؤال السائل.
3- على العالم أن يتحلى عند التعامل مع الناس- مهما قلّت مستوياتهم- ببشاشة الوجه والإقبال على السائل، وأنه ليس من تقوى الله التجهم والعبوس والانشغال عن السائل، فلربما كره السائل- خاصة لو كان من عوام الناس- أهل العلم إذا لم يعطه العالم حقه من الوقت والاهتمام.
4- العالم المحب للخير والدعوة إلى الله- سبحانه وتعالى- لا يقتصر عمله فقط على ما أوجب الله عليه فعله، ولكن عليه أن يجتهد في كل أبواب الخير، حتى لو كلفه ذلك بعض الإيذاء المادي أو المعنوي، شريطة ألا يضيع ما هو أوجب منه. ودليله أن الله عز وجل ما كلف نبيه- عليه الصلاة والسلام- أن يتعرض لهداية الكفار كما كان يفعل ويشق على نفسه، ومع ذلك حمل نفسه ما يجهدها حبّا للخير، وتوجه إليه العتاب الرباني لأنه انشغل بذلك عما هو أوجب منه، وهو إجابة سؤال المسلم، ولم يكن العتاب لمجرد التصدي للكافر.
الفائدة الثامنة: توجيهات إلى عموم المسلمين:
1- على المسلم أن يجد في نفسه التزكية أو التذكرة بعد السماع والأخذ من أهل العلم الربانيين، ومن حرم ذلك فقد حرم خيرا كثيرا، وعليه أن يفتش في قلبه مما عسى أن يكون منع بسببه من التزكية.
2- وجوب أن يسلك المسلم في عتابه ولومه مسلك الأدب، خاصة لو كان الموجه إليه العتاب رفيع القدر، لأن هذا أحرى في قبول الحق وعدم رد النصح والإرشاد.
3- عدم الاستهانة بأصحاب العاهات وعدم احتقارهم أو التهوين من شأنهم، خاصة لو كانوا على العلم حريصين على التعلّم مقبلين.
4- لا ضرر أن يقال للذي فقد بصره: أعمى، وليس هذا من الغيبة شريطة أن يكون في هذا الوصف مصلحة شرعية وألا يتأذى المسلم من هذا الوصف وألا يكون إطلاق هذا(2/58)
الوصف للاحتقار أو الامتهان فإن كان لذلك فهو محرم شرعا.
5- الحث على طلب العلم وتحمل المشاق في سبيل ذلك، فإذا كان الأعمى مطلوب منه السعي في طلب العلم، فيجب على المبصر الاجتهاد في ذلك من باب أولى.
6- من الأدب أن يسعى السائل للمسئول والمتعلم للعالم.
7- لا يعيب المسلم أن يكون جاهلا بأمر من أمور دينه، ولكن العيب ألا يجتهد في تحصيله وطلبه.
كما يؤخذ من الآية أن شفاء العي السؤال، ودليله أن الله زكى ابن أم مكتوم، ولم يعتب عليه أنه جاء جاهلا بأمر من أمور دينه.
الفائدة التاسعة:
التزكية غير التذكرة وأن حاجة الكافر إلى التزكية مقدمة على حاجته للتذكرة، وأن الذي يمنع وصول الإيمان إلى الكافر هو عدم زكاء نفسه، والفرق بين تزكية المسلم وتزكية الكافر أن المسلم معه أصل التزكية بتوحيده وبالعلم تزيد هذه التزكية التى توصله إلى التذكرة، أما الكافر فليس معه شيء منها وبالتالي لن ترجى منه التذكرة حتى يتزكى بالإيمان.
2- لم يناد باسمه كبقية الأنبياء:
لم يناد النبي في القرآن باسمه أبدا، وإنما نودي بصفة الرسالة، أو النبوة، وإذا ذكر باسمه يكون بايات خبرية كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح: 29] ، وكقوله- تعالى-: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمّد: 2] .
3- عدم مخاطبته بما يوهم الهجر:
قال تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضّحى: 3] . وسيأتي الكلام عن الآية الكريمة مبسوطا في باب كذب ادعاء الكفار أن الله قد قلاه صلى الله عليه وسلّم.
4- دفع ما ظاهره تكذيبه:
قال- تعالى-: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) [المنافقون: 1] .
هذه الآية الكريمة تحتاج إلى تأمل وتدبر من كل مسلم يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم، والسبب في ذلك أنها توضح بجلاء مدى عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلّم، ومكانته العالية(2/59)
الرفيعة عند ربه التي لا يعلوها أحد في الأولين والآخرين، وأن الإرادة الحكيمة لله عز وجل قد اقتضت ألا يتوجه إليه صلى الله عليه وسلّم أي خطاب- ولو كان على لسان الكفار- فيه أدنى إيذاء أو شبهة تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلّم، فلو كان الكلام على لسان الكفار أو المنافقين دفع الله شبهة المعاندين وأبطلها، كما بينت ذلك مفصلا في باب «دفع شبهات الكفار» ، وإن كان سياق الكلام حكاية من الله عز وجل عن أحوال المعاندين، دفع الله عز وجل ما يوهم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلّم، ودليله من آية الباب: أن المنافقين لما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليشهدوا أنه رسول الله، ولما كانت هذه الشهادة التي قالوها بألسنتهم تنافي ما في قلوبهم من التصديق، وأراد الله أن يكذبهم في شهادتهم دون أن ينسحب التكذيب على صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم، ذكر القرآن الكريم جملة اعتراضية بين شهادة المنافقين، وتكذيب الله عزّ وجلّ لهم في شهادتهم، بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] ، وبذلك أثبت القرآن الكريم شهادة المنافقين وتكذيبها دون المساس بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، وهذا من أكبر الدلالات على عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلّم عند ربه.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه، حيث ذكرت الآية علم الله برسالة النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن تذكر كذب المنافقين في شهادتهم، كأن الله- سبحانه وتعالى- أراد أن يقول لنبيه صلى الله عليه وسلّم: لا يهمنك تكذيب المنافقين لك وإنكارهم رسالتك، فإن ذلك لا يضيرك، فيكفيك أن الله- سبحانه وتعالى- يعلم أنك رسوله، فكفى بالله شهيدا على ذلك. وفي هذا أبلغ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم، وتطمينه أن تكذيب المنافقين له لا يقدح في رسالته.
وهذه الفائدة تختلف عما ذكرته آنفا، فتدبر.
الفائدة الثانية:
في الآية الكريمة بيان ظاهر لقبح ما عليه المنافقون ويظهر ذلك من:
1- قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ بينت الآية أن المنافقين هم الذين سعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فهو لم يذهب إليهم، ولم يستدعهم، فكان حريّ بمن جاء بنفسه للشهادة من تلقاء نفسه، أن يكون صادقا في شهادته وأن تكون هذه الشهادة مطابقة لما في قلبه، ولكن جاء الأمر منهم عكس ذلك تماما.
2- صيغة شهادتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم، وهي قول الله تعالى على لسانهم: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وفيها:(2/60)
أ- أتوا بلفظ الشهادة التي هي أعظم ما يتكلم به الإنسان، فلم يقولوا: «نعلم إنك لرسول الله» . فكذبهم في شهادتهم- من حيث مخالفتها لما في قلوبهم- أشدّ قبحا.
ب- أتوا بتوكيد شهادتهم بمؤكدين هما: حرف التوكيد «إن» ، وباللام الموطئة للقسم في لَرَسُولُ اللَّهِ.
ج- اجتراؤهم على الله- سبحانه وتعالى-، حيث إن أمرهم مع الرسول صلى الله عليه وسلّم لا يخرج من حالين: إما أنهم يعلمون أنه رسول الله حقّا ولكنهم كذبوه، وإما أنهم ينكرون أنه رسول الله ومع ذلك شهدوا زورا وبهتانا- حسب اعتقادهم- أنه رسول الله، وفي كلتا الحالين هو اجتراء على الله- جل في علاه-، يستحق فاعله العذاب والنكال في الدنيا والآخرة.
3- صيغة رد القرآن عليهم، حيث رد الله عليهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وفيها أسوأ التقبيح لصنيعهم من حيث:
أ- شهادة الله العظيم عليهم، وكفى بها شهادة، والله لا يفلح أحد شهد الله عليه بسوء اعتقاده، ولو استشهدت الآية على كذب المنافقين بأحد دون الله- سبحانه وتعالى- لكان الأمر أهون من ذلك بكثير، لأن الذي شهد على المنافقين هو أصدق الشاهدين، وهو الذي يملك نواصي المشهود عليهم وإليه مالهم وعليه حسابهم.
ب- توكيد شهادة الله- سبحانه وتعالى- بأداة التوكيد «إن» واللام الموطئة للقسم، في قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ.
ج- وصفهم بأقبح الصفات وهي الكذب.
وهذا الكذب ينسحب على أمرين في المنافقين: الأمر الأول: شهادتهم الزور التي تخالف ما يعتقدونه، الأمر الثاني: اعتقادهم الفاسد كذب النبيّ صلى الله عليه وسلّم، ومن الجميل أن يعود لفظ لَكاذِبُونَ على الأمرين معا.
الفائدة الثالثة:
إعجاز القرآن الكريم، ويتضح إعجازه في هذه الآية الكريمة من جهتين:
الجهة الأولى:
الإعجاز اللفظي البلاغي، حيث استل النبي صلى الله عليه وسلّم مما ظاهره تكذيبه، كما قابل شهادة المنافقين بشهادة الله- سبحانه وتعالى- بنفس النظم دون أي تكلف في إثبات الجملة المعترضة، أو شعور القارئ بأي ملل من تكرار نظم الشهادتين بل القارئ لا يكاد(2/61)
يفهم مقصود الآية وما فيها إلا بحسن تدبر وتأمل، وهذا هو مكمن الجمال والكمال في آيات القرآن الكريم.
الجهة الثانية:
بيان ما تنطوي عليه قلوب المنافقين، مما لا يمكن أن يطلع عليه إلا صاحب هذا القلب أو الذي خلقه وهو عالم الغيب والشهادة- جل وعلا-، ومن قرأ سورة «المنافقون» حتى آخرها رأى العجب في ذلك.
ويتفرع عليه بيان عناد أهل الزيغ والضلال، حيث تتلى عليهم الآيات البينات التي تخبرهم بما في صدورهم وقلوبهم مما لا يعلمه إلا الله، ومع ذلك يصرون على الحنث العظيم وهو الكفر بالله- سبحانه وتعالى-.
الفائدة الرابعة:
تعظيم رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم، حيث أضافها الله عز وجل إلى نفسه الكريمة المقدسة، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، كما أكدها بمؤكدين، سبق الإشارة إلى ما يماثلهما.
ويتفرع عليه أمر عظيم، وهو التهديد الشديد لمن كذب برسالة النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن لسان حاله يقول: إن علم الله- سبحانه وتعالى- لا يوافق الواقع، حيث إن الواقع- وحسب اعتقاده الفاسد- أن محمدا صلى الله عليه وسلّم ليس برسول من عند الله، وهذا طعن عظيم في صفة من أوسع صفات الله- سبحانه وتعالى- وهي صفة العلم.
الفائدة الخامسة:
أفادتنا الآية في معرفة من هم المنافقون، فهم الذين يقولون بألسنتهم ما يخالف ما في قلوبهم، وإذا كان في أمر يتعلق بالعقيدة فهو نفاق اعتقادي يجعل صاحبه في الدرك الأسفل من النار، وإذا كان في أمر من السلوكيات فهو نفاق عملي، يجعل في صاحبه صفة من صفات المنافقين، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلّم من ذلك أشد التحذير في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» «1» .
وأود أن أنبه هنا إلى سلوك قد يقع فيه البعض عمدا أو جهلا أو خطأ، وهو أن يظهر من كلامه أو على محيّاه تقوى وخوف من الله- سبحانه وتعالى- أكثر مما في قلبه، وأخشى أن يكون ذلك السلوك من النفاق الذي يؤدي بصاحبه إلى التهلكة.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: علامة المناقب، برقم (34) .(2/62)
ويتفرع على ذلك تحذير الأمة أشد التحذير من خطر المنافقين؛ لأنهم يكيدون لنا أعظم الكيد في الخفاء، ولسان حالهم ومقالهم يقول: إنهم معنا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، بل قد يظهرون من الغيرة على الإسلام ما لا يظهره أهله الصالحون.
الفائدة السادسة:
يؤخذ من الآية أن العلم أوسع من الشهادة؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- لما أراد أن يثبت رسالة نبيه صلى الله عليه وسلّم أعظم الإثبات، أثبتها بصفة العلم، ولم يقل:
«والله يشهد إنك لرسوله» . وهذا هو الصحيح أن صفة العلم أوسع من الشهادة؛ لأن الشهادة فرع عن العلم، والعلم هو الأصل.
أخي القارئ:
من كل ما تقدم نعلم علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلّم بالنظر إلى آية واحدة فقط من القرآن الكريم، فكيف سيكون الأمر إذا تدبرنا جميع ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم وهو كثير.
والذي يجب علينا تعلمه من هذه الآية ونلتزم به هو: كيف نتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلّم، بحيث يكون حديثنا كله عنه صلى الله عليه وسلّم ينضح بغاية التوقير والإجلال والإكبار.(2/63)
خامسا: مظاهر حب الله- عزّ وجلّ- وعنايته به صلى الله عليه وسلّم
1- عموم اعتناء الله- عزّ وجلّ- به صلى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] .
هذه الآية من أعظم الآيات التي تدل على كمال اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلّم حيث أثبتت الآية أنه صلى الله عليه وسلّم بمرأى ومسمع من الله تعالى، في كل أحواله وتقلباته صلى الله عليه وسلّم، في أولاه وأخراه، في حياته ومماته، قبل البعثة وبعدها، في حله وترحاله، في عاداته وعباداته، بل نجزم أن هذه العناية والرعاية الإلهية قد شملته صلى الله عليه وسلّم قبل ميلاده بقرون طويلة، ألم تر كيف اختار الله له نسبه الشريف، من لدن إبراهيم عليه السلام وحتى عبد المطلب، ودليله ما رواه مسلم، عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» .
وقد حكمت بأن العناية والرعاية قد شملت كل ما ذكر؛ لأن الآية لم تأت مقيدة بزمن دون زمن، ولا بحال دون حال، قال تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، وقد أثبتّ ذلك في باب حفظه صلى الله عليه وسلّم منذ الصغر وباب ملء القلب إيمانا وحكمة، قال القرطبي رحمه الله في تفسيره للآية: (أي أنت بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل، وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحو طك ونحرسك ونرعاك) . انتهى «2» .
وقال ابن كثير كلاما مشابها لما ذكره القرطبي، وقال الشيخ السعدي: (أي بمرأى منا وحفظ واعتناء بأمرك) . انتهى «3» .
ويؤخذ من الآية كمال عصمة النبي صلى الله عليه وسلّم من الناس، وتمام عصمته من الزلات والهفوات، ورفعة منزلته وعلو شأنه، في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا مقام من رعاه الله وحفظه في كل أحواله.
2- حفظه صلى الله عليه وسلّم في الصغر:
عن جابر بن عبد الله يحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه
__________
(1) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلّم ... ، برقم (276) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (17/ 78) .
(3) تيسير الكريم الرحمن (818) .(2/64)
إزاره، فقال له العبّاس عمّه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة!! قال: فحلّه فجعله على منكبه فسقط مغشيّا عليه قال: فما رئي بعد ذلك اليوم عريانا) . [رواه مسلم] «1» .
الشاهد في الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلّم أغشي عليه بمجرد أن حل إزاره، وما كان ذلك إلا من الله، الحافظ له، قال الإمام النووي رحمه الله: (وفي هذا الحديث بيان بعض ما كرم الله- تعالى- به رسوله صلى الله عليه وسلّم، وأنه صلى الله عليه وسلّم كان مصونا محميّا في صغره عن القبائح وأخلاق الجاهلية) . انتهى «2» .
والدليل أن هذه الواقعة قد حدثت في صغر النبي صلى الله عليه وسلّم، ما ورد في إحدى روايات مسلم: (لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلّم وعباس ينقلان الحجارة) ، ومعلوم أن واقعة إعادة بناء الكعبة كانت- قطعا- في صغر النبي صلى الله عليه وسلّم
ونلخص مظاهر عناية الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم في هذه الواقعة في أمرين:
الأمر الأول:
أنه أغشي عليه، بمجرد أن تعرى، والإغشاء من الله، - تبارك وتعالى؛ لأن الحديث لم يبين بأي سبب كان الإغشاء إلا التعري، فعلمنا أن الإغشاء كان منة من الله، ووجه المنة أن يكون الإغشاء للستر، وفيه ضمان أنه ما تعرى إلا فترة وجيزة من الزمن؛ لأن الإغشاء قد حدث بعد التعري مباشرة، ورد في الحديث: «فجعله على منكبه فسقط مغشيّا عليه» .
الأمر الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما رئي بعد ذلك عريانا، وهذا إطلاق لكل أنواع التعري، فلا يلزم من كونه صلى الله عليه وسلّم كان يجامع زوجاته أو يغتسل معهن أنه كان يرى عريانا. ونحكم بذلك؛ لإطلاق الحديث، ولأن عدم التعري حتى في حال الجماع والغسل هو من المروءة، وأولى الناس بصفات المروءة النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويجب على كل مسلم أن يتدبر هذا الحديث جيدا، فإذا كان الله- تبارك وتعالى- أبى إلا أن يحفظ نبيه صلى الله عليه وسلّم منذ صغره من أمر كان مشهورا في الجاهلية، فكيف كان حفظه- تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم في بقية شئونه، وفيها ما هو أعظم من ذلك بكثير خاصة بعد البعثة، أقول: كيف حفظ الله- سبحانه وتعالى- لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم؟، وكيف حفظ عقله وقلبه؟
__________
(1) مسلم، كتاب: الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة، برقم (340) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 35) .(2/65)
وكيف حفظ عرضه؟ كيف حفظ دينه وكتابه؟ بلا شك كان الحفظ أتم وأكمل.
3- حفظ عرضه صلى الله عليه وسلّم من السب واللعن:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمّما ويلعنون مذمّما وأنا محمّد» «1» . سيأتي التعليق على الحديث إن شاء الله تعالى في باب: رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم.
4- رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] .
أقول أولا:
إن رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم لهو من أعظم وأجل النعم، ومن الشمائل الحميدة، التي تدل على حب الله- سبحانه وتعالى- لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم وهي أجل شأنا من الصلاة عليه قطعا؛ لأن رفع الذكر يشمل أمورا عديدة، يأتي منها الصلاة عليه، فالصلاة فرع من رفع الذكر، والغريب أن كثيرا ممن يهتمون بالشمائل النبوية، ويجتهدون في حصرها لا يذكرون رفع الذكر، فأسأل الله العلي القدير أن أوفّق في بيان مفهوم رفع الذكر؛ ليتبين للقارئ فضل الله العظيم على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلّم رغم علمي- والله مسبقا- أن مثلي أحط قدرا وأصغر شأنا أن يتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأستغفر الله مسبقا.
ثانيا: كلام بعض العلماء عن معنى رفع الذكر-:
قال الإمام ابن كثير:
(قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم قال ابن كثير: حكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان يعنى ذكره فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت:
أعز عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس: أشهد
وشقّ له من اسمه يجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال آخرون:
رفع الله ذكره في الأولين والآخرين ونوّه به حين أخذ الميثاق على جميع
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، برقم (3533) .(2/66)
النبيين أن يؤمنوا به وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ثم شهر ذكره في أمته فلا يذكر الله إلا ذكر معه) . انتهى كلام ابن كثير «1» .
وقال القرطبي:
(وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له: ما ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد الله- جل ثناؤه-، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافرا.
وقيل:
أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل:
رفعنا ذلك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات) «2» .
وقال الشيخ السعدي- رحمه الله
-: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي: أعلينا لك قدرك وجعلنا لك الثناء الحسن العالي الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسول صلى الله عليه وسلّم كما في دخول الإسلام وفي الأذان والإقامة والخطب وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم، وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزي نبيّا عن أمته) .
انتهى «3» .
بعض الفوائد المستفادة من قول الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.
الفائدة الأولى:
في الصيغة التي وردت بها الآية:
1- اقترن فعل (رفع) ب (نا) التي تفيد التعظيم لله- عزّ وجلّ- وفائدة ذلك هو تعظيم أمر الرفع ومعرفة قدر المرفوع ذكره إذا استشعرنا عظمة من تكفل بذلك. وإذا كان رفيع القدر- سبحانه وتعالى- هو الذي تكفل برفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم، ويذكر ذلك في القرآن الكريم في سياق الثناء والمدح على رسوله صلى الله عليه وسلّم مع تذكيره بنعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى، فيصعب علينا أن نتخيل قدر هذا الرفع وعلو شأنه.
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 525) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (20/ 107) .
(3) تيسير الكريم الرحمن (929) .(2/67)
2- جاء فعل (رفع) بصيغة الماضي؛ لإفادة أن الرفع لم يقترن بميلاد النبي صلى الله عليه وسلّم بل كان قبل ذلك، كما بقي بعد انتقاله صلى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى، وهذا هو المشاهد، كما أن عدم اقتران الرفع بزمن معين مستقبلا، يفيد أن رفع الذكر سيبقى بحوله وقوته أبد الآبدين، فلله الحمد كله.
3- ورد لفظ (لك) في الآية؛ ليتبين للنبي صلى الله عليه وسلّم ولأمته أن هذا الرفع هو أمر مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلّم، كما يشعر أنه لم يشاركه في هذا الأمر أحد.
وكان يمكن أن تكون الآية بصيغة: «ورفعنا ذكرك» .
كما أن إطلاق (رفع الذكر) بدون تقييد على أحد دون أحد، أفادنا أن الله- سبحانه وتعالى- قد رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم على الخلق كلهم جميعا.
4- نصت الآية على رفع (الذكر) لا رفع (الاسم) لأن الذكر أعم من الاسم؛ لأنه يشمل جميع ما يخص النبي صلى الله عليه وسلّم؛ ولذلك أقول: إن قصر أوجه رفع الذكر باقتران اسمه صلى الله عليه وسلّم باسم الخالق، - عزّ وجلّ- في الأذان وغيره، هو حجر لواسع، أو أراد به العلماء ضرب مثال لبعض معاني اللفظ.
الفائدة الثانية:
بعض أوجه رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم.
1- اقتران اسمه صلى الله عليه وسلّم مع اسم الله- سبحانه وتعالى- وهو أعظم وأجل أوجه رفع الذكر، وأضيف هنا على ما ذكره بعض المفسرين، فأقول: لا يمكن أن نستوعب عظيم هذا الأمر، إلا إذا علمنا ووقر في قلوبنا عظيم شأن الله، - سبحانه وتعالى- الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، العالم بكل شيء، المقدر لكل أمر، النافذ حكمه في كل أحد، قال تعالى واصفا قدرته وعظمته: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] ، وقال تعالى واصفا إحاطته بعلم كل شيء: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ
[الأنعام: 59] ، وقال تعالى مثبتا ملكه لكل شيء: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى [طه: 6] ، وقال تعالى حاكيا قيومته لكل نفس منفوسة: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: من الآية 33] ، وغير ذلك مما يصعب إيراده في هذا المجال، ولكن أوردت طرفا يسيرا منه؛ ليستشعر القارئ الكريم من هو الله(2/68)
الخالق البارئ، هذا الله الواحد الصمد المتفرد بصفات الجمال والكمال، التي لا ينازعه فيها أحد، قد قدر وقضى بل ورضي أن يرفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلّم بحيث لا يذكر هو العظيم الحكيم، إلا وذكر معه نبيه صلى الله عليه وسلّم.
فهل بعد هذا الحب من حب، وهل بعد هذا التكريم والتشريف من رتبة أعلى؟ لا والله، فقد بلغ صلى الله عليه وسلّم الغاية في التشريف والتعظيم.
تنبيه وتحذير:
ليس معنى أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلّم كلما ذكر الله- سبحانه وتعالى- مثل التشهد والأذان، أن ذلك يعني التشريك في الأمر أو المساواة في التعظيم أو أن للنبي صلى الله عليه وسلّم أدنى أدنى تصرف في ملك الله- عزّ وجلّ- حاشا لله، فما زال الله خالقا مالكا معبودا وحده، وما زال النبي صلى الله عليه وسلّم مخلوقا مملوكا عبدا، وهو يفتخر بذلك أشد الافتخار، وقد ذكرت ذلك في هذا الكتاب كثيرا، فلا يجب أن نخلط بين الأمرين، فكما أن الله- عزّ وجلّ- هو الذي علمنا أنه رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم وصدقنا ربنا في ذلك، هو نفسه الذي علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم ليس له من الأمر شيء، قال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] ، فلماذا نصدق الأولى، ونماري في الثانية، ألهوى في قلوبنا؟ من فعل ذلك فقد خسر الدنيا والآخرة، فعلينا أن نؤمن بالكتاب كله، ونقول:
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7] .
2- ذكره صلى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى وفي الحضرة الإلهية، وذلك بصلاة الله والملائكة عليه، بالثناء والذكر الحسن بل العجيب أن ينسحب هذا الثناء والذكر الحسن إلى المؤمنين ببركة صلاتهم عليه، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من صلى علّي صلاة صلى الله عليه بها عشرا» . [رواه مسلم] «1» .
3- ذكره صلى الله عليه وسلّم في الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، ليس ذكر اسمه فحسب بل نعته كاملا، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] ، وقد بلغ أمره صلى الله عليه وسلّم من الشهرة والصيت، أن أهل الكتاب يعرفون أوصافه وشمائله وسيرته صلى الله عليه وسلّم كمعرفتهم أولادهم الذين جاؤا من
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (384) .(2/69)
أصلابهم، وتربوا أمام أعينهم يوما بعد يوم، فهل يضل الوالد عن ولده، والله إنه ليعرفه من صوته أو من مشيته أو من رائحة عرقه، حتى ولو غاب عنه عقدا من الزمان، هكذا يعرف أهل الكتاب رسولنا صلى الله عليه وسلّم، لا تختلف عليهم أوصافه أبدا، وما كانت هذا المعرفة لتتم إلا بوصف دقيق له صلى الله عليه وسلّم في كتب الله المنزلة وهذا بلا شك من رفع الذكر، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] .
4- حفظ عرضه صلى الله عليه وسلّم من سب ولعن كفار قريش، روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتمون مذمّما ويلعنون مذمّما وأنا محمّد» «1» ، فمن تمام رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم أن لا يخدش بأدنى ذم أو لعن، فمن كمال رفع الذكر أن يذكر الإنسان بكل الصفات الحميدة وأن يبرأ من كل سب ولعن، فمن الذي تكفل بإثبات الأولى ودفع الثانية عن النبي صلى الله عليه وسلّم؟ إنه الله وحده، الأولى: بالصلاة عليه في العالمين العلوي والسفلي، والثانية: أنه هو الذي صرف كفار قريش عن سبه ولعنه لما ورد في الحديث: «ألا تعجبون كيف صرف الله عني شتم قريش ولعنهم» . فأثبت الحديث ثلاثة أمور:
الأول: أن قريشا كانت حريصة على السب واللعن.
الثاني: أن الذي صرف عنه السب واللعن هو الله سبحانه وتعالى.
الثالث: أن أمر صرف هذا اللعن والسب مع حرص كفار قريش عليه، من الأمور العظيمة التي يتعجب منها، وما يتعجب منه يجب الوقوف عنده للتأمل والتدبر.
5- لم يناده الله، - سبحانه وتعالى- باسمه أبدا في القرآن العظيم، فلم ترد آية واحدة بصيغة (يا محمد) كما ورد عن بقية الأنبياء، عليهم جميعا الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى على سبيل المثال: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وقوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، وهكذا مع كل الأنبياء، ولما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلّم كان على سبيل الإخبار وأتبع بصفته، قال تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ولا شك أن توجيه الخطاب إليه في القرآن الكريم، دائما بصيغة الرسالة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ أو بصفة النبوة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لهو من علامات رفع الذكر.
وتدبر أخي القارئ، أن نبينا صلى الله عليه وسلّم قد توجه إليه الخطاب في القرآن الكريم (سواء بخبر أو أمر أو نهي) بكل أنواع الخطاب الممكنة، فقد توجه إليه الخطاب بصيغة النداء بدون ذكر
__________
(1) سبق تخريجه.(2/70)
اسمه، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، وتوجه إليه الخطاب بكاف المخاطبة قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، كما توجه إليه الخطاب بضمير الفاعل المحذوف قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، وكذا بضمير الغائب قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، ولا يشك قارئ القرآن أن كل هذه الصيغ المقصود بها النبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يحدث ذلك في القرآن إلا معه صلى الله عليه وسلّم وهذا فضل عظيم من الله- سبحانه وتعالى-.
6- من أجلّ مظاهر رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم أن الله- عزّ وجلّ- قد أبطل كل شبهات الكافرين وأكاذيبهم حوله صلى الله عليه وسلّم، فما من شبهة أثارها الكفار أو أكذوبة مثل الجنون والسحر وادعاء كتابة القرآن من عنده أو من غيره من البشر إلا أقام القرآن الحجج الدامغة على كذبها وفريتها، حتى لا تبقى أي حجة للكافرين يظن ظان أنها تشوب رفع الذكر، وقد بينت ذلك في باب (دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلى الله عليه وسلّم) .
7- ومن مظاهر رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى أمر بعدم التسوية بين دعائه ودعاء غيره، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: من الآية 63] .
8- من كمال رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم بعض الأمور التي جمعتها في فقرة واحدة؛ لتشابهها وهي:
أ- جعل الله- سبحانه وتعالى- كتابه أحسن الكتب، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23] ، بل جعل كتابه صلى الله عليه وسلّم مهيمنا على بقية الكتب، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: من الآية 48] .
ب- أظهر الله- سبحانه وتعالى- له دينه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، قال القرطبي: (أي: في جزيرة العرب) .
ج- أتم الله له أمر هذا الدين؛ لما رواه البخاري من حديث الخباب بن الأرت عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون» «1» ، وقال ابن حجر: (المراد بالأمر هو الإسلام) .
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3612) .(2/71)
د- خصه- سبحانه وتعالى- بأزكى الخلق وأتمها وأثنى عليه بها في كتابه العزيز، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] .
وكل ما ذكرته، وغيره من أمثاله كثير، من تمام رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم لأنه لو فرض أن أحدا آتاه الله كتابا خيرا من كتابه صلى الله عليه وسلّم، لقيل: إنه سبق النبي صلى الله عليه وسلّم بل علا عليه في هذا المجال، ولنقص رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا المضمار، ولو وجد في خلق النبي صلى الله عليه وسلّم أدنى نقيصة، لنقص ذكره الحسن وقدر الثناء عليه بقدر ما عنده من نقص في خلقه- حاشا الله- وهكذا كل ما ذكر، فاختصاصه صلى الله عليه وسلّم بالأتم والأكمل والأشرف من كل أمر؛ لتكتمل منظومة رفع ذكره، وليتم عقد الثناء عليه على أحسن ما يكون، فسبحان الذي يتفضل ويعطي بغير حساب.
الفائدة الثالثة:
فيما يترتب على ثبوت رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم.
1- ثبوت أنه لم يأت منه صلى الله عليه وسلّم ما يخل بهذا الرفع أبدا، مثل التقصير في تبليغ دين الله، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو صدور أدنى ما يخدش الحياء، فتجزم قطعا أن كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلّم عبادة وعادة، ينسجم مع رفع ذكره.
2- يقيننا الجازم بطهارة أعراض أزواجه- رضي الله عنهن جميعا- حال حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلّم لأن أعظم ما يخدش الثناء الحسن ويقلل من الذكر الطيب لأي إنسان هو الكلام على أعراضه، بأدنى أدنى سوء، فمن فعل ذلك أو اعتقده فقد كذّب بظاهر القرآن، ونخاف عليه من خاتمة السوء. وانظر كيف أنزل الله قرآنا محكما يتلى إلى يوم القيامة يبرئ أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها
3- كل من أراد الطعن في الكتاب المنزل عليه صلى الله عليه وسلّم أو في شريعته المطهرة، أو في سنته الشريفة، فلن ينال منها، ولن يبوء بالخسران إلا هو؛ لأن الذي رفع ذكره صلى الله عليه وسلّم هو الله رب الأكوان والأبدان، فهو الذي سيحفظه ويحفظ كل ما يخصه، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: من الآية 43] .
5- القسم بحياته صلى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] .
أولا: بعض كلام المفسرين في الآية الكريمة والتي تثبت أن المقصود من قوله تعالى:
لَعَمْرُكَ أي: وحياتك يا محمد.(2/72)
1- ذكر القرطبي رحمه الله كلام العلماء في الآية فقال: (قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلّم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون، قلنا: وهكذا قال القاضي عياض:
أجمع أهل التفسير في أن هذا قسم من الله بمدّة حياة محمد صلى الله عليه وسلّم، ويكون معنى القسم:
وبقائك يا محمد وقيل: وحياتك) . انتهى «1» .
2- قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلّم، قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا) «2» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
بلغ النبي صلى الله عليه وسلّم المنتهى في تكريم الله- سبحانه وتعالى-، فقد بلغ التشريف ذروته، بأن أقسم الله بحياته، نقل الإمام القرطبي عن القاضي عياض قوله:
(وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف) ، كما نقل عن أبي الجوزاء قوله: (ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه أكرم البرية عنده) «3» .
الفائدة الثانية:
في قسم الله- سبحانه- بحياة نبيه صلى الله عليه وسلّم، دون غيره من الأنبياء، دليل على فضله صلى الله عليه وسلّم وعلو منزلته وزيادة شرفه على بقية الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام، قال الإمام القرطبي: (ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلّم يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده) انتهى «4» .
الفائدة الثالثة:
حياة النبي صلى الله عليه وسلّم كانت كلها حياة مباركة طيبة، استغرقها صلى الله عليه وسلّم كلها في طاعة الله- عزّ وجلّ- فإن قسم الله- عزّ وجلّ- بها دليل على رضاه ومباركته لهذه الحياة، وأنه لم يحدث فيها أي قصور أو تقصير، ولم يشبها أي خلل أو عيب، ولولا ذلك ما أقسم الله بها.
وعليه، فإن من تعرض لحياة النبي صلى الله عليه وسلّم بغمز أو لمز، أو ذكرها بأدنى تنقص، أو أراد أن ينتقد شيئا من عبادته أو عاداته صلى الله عليه وسلّم التي فعلها في حياته الشريفة، فقد ذم ما مدحه الله، وعاب ما حكم الله له بالكمال والجمال، وطعن فيما زكاه الله ورضي به وأثنى عليه غاية الثناء.
الفائدة الرابعة:
ليس معنى أن الله- عز وجل- قد أقسم بحياة أشرف الخلق نبينا
__________
(1) تفسير الطبري (10/ 39) .
(2) تفسير الطبري (14/ 44) .
(3) تفسير الطبري (10/ 39) .
(4) تفسير الطبري (10/ 40) .(2/73)
محمد صلى الله عليه وسلّم أنه يجوز لنا أن نقسم به صلى الله عليه وسلّم فالله- عزّ وجلّ- يقسم بما يشاء على ما يشاء، فقد أقسم سبحانه وتعالى بالقلم والنجم والشمس والطور، أما المخلوق فلا يقسم إلا بالله جل وعلا، وهي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلّم، روى البخاري في صحيحه: عن عبد الله رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «1» ، وفي رواية عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلّا بالله فكانت قريش تحلف بابائها فقال لا تحلفوا بابائكم» «2» .
6- تعظيم المكان بإقامته صلى الله عليه وسلّم فيه:
قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) [البلد: 1- 2] ، فالبلد المعنية بالآية الكريمة- بالاتفاق- هي مكة المكرمة، المشرفة المعظمة على سائر القرى والبلدان، ولكن الله- تبارك وتعالى- لما أقسم بها، ذكر إقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة فتزداد شرفا وعزّا، فيزداد القسم توكيدا، قال صاحب تفسير الزبد «3» : (أي استحل منك مشركو مكة أن يؤذوك في البلد الحرام يا محمد. وقيل: المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم فيه تشريفا لك وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيما شريفا) .
وقال صاحب المنتخب «4» : (أقسم قسما مؤكدا بمكة البلد الحرام وأنت مقيم بهذا البلد تزيده شرفا وقدرا) .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى-، فقد عظم القسم بالبلد الحرام بذكر مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه.
الفائدة الثانية:
تتفاضل القرى والبلاد بتفاضل من يسكنها ويعمرها، فإذا كانت مكة المكرمة التي لها من الحرمة والتعظيم والتشريف ما ليس لغيرها، قد ازدادت شرفا ورفعة بإقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها، فمن باب أولى ما دونها من البلدان. ويتفرع عليه عظيم قدر مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته صلّى الله عليه وسلّم وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ إذ دفن فيها صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) البخاري، كتاب: الشهادات، باب: كيف يستحلف، برقم (2679) .
(2) البخاري، كتاب: المناقب، باب: أيام الجاهلية، برقم (3836) .
(3) تفسير الزبد.
(4) المنتخب.(2/74)
7- الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] . إذا كانت أعظم نعمة أنزلها الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم هي القرآن الكريم، وإذا كانت أعظم معجزة خص الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم هي الإسراء والمعراج، وإذا كان أعظم تشريف حبا الله به نبيه صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة، هي الشفاعة العظمى، فإن أعظم مظاهر حب الله، - تبارك وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم هي الصلاة عليه منه- تبارك وتعالى- ومن ملائكته الكرام، وأمر المؤمنين بذلك.
ويحسن أن نبدأ بنبذة عن أقوال بعض العلماء عن تلك الصلاة عند شرحهم لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (المقصود من هذه الآية أن الله- سبحانه وتعالى- أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه ثم أمر الله تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا) «1» .
وقال القرطبي رحمه الله: (هذه الآية شرّف الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، في حياته وموته وذكر منزلته وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء أو في أمر زوجاته ونحو ذلك، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره) «2» .
وقال الشيخ السعدي في شرح الآية: (وهذا فيه تنبيه على كمال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورفعة درجته وعلو منزلته عند الله وعند خلقه ورفع ذكره. والصلاة من الله هي الثناء عليه بين الملائكة وفي الملأ الأعلى لمحبته تعالى له وتثني عليه الملائكة والمقربون ويدعون له ويضرعون) «3» .
وسأعلق، بعون الله تعالى على قوله- عز وجل-: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ على شكل فوائد، فأقول:
الفائدة الأولى:
في الآية تشريف عظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الوجوه التالية:
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 508) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (14/ 232) .
(3) تيسير الكريم الرحمن (671) .(2/75)
1- تعظيم أمر الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد شمل هذا التعظيم كل الوجوه من حيث المقتدى به في فعل الأمر، وهو الله- سبحانه وتعالى- وكذا ملائكته؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ، والآمر بالصلاة على النبي هو الله جل في علاه، لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ، ومن حيث المأمورين بالصلاة عليه، وهم صفوة خلق الله من عباده الذين اتصفوا بصفة الإيمان فلم يتوجه الأمر للناس ولا للمسلمين، بل للمؤمنين، فأحاط الله- سبحانه وتعالى- الأمر بجميع أنواع التعظيم، وذلك ليستقر في نفوس الخلق جميعا، عظيم المأمور به.
2- جاء الأمر بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بصيغة لم يأت بها أي أمر في القرآن والسنة على شاكلته أبدا، وفي هذا تنويه إلى أن هذا الأمر الشرعي يختلف عن جميع الأوامر الشرعية الآخرى التي تصدرت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
3- أن توجيه الأمر بالصلاة عليه كان بموجب آية قرآنية تتلى إلى يوم القيامة، ثم تأتي السنة الشريفة لتبين صيغ الصلاة، والأوقات التي يتأكد فيها الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وثواب تلك الصلاة.
4- لم يفرد الله- سبحانه وتعالى- أحدا من الأولين والآخرين في القرآن الكريم بالصلاة عليه منفردا كما أفرد نبيه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية، فقال عز من قائل في السلام على الأنبياء: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] ، وقال في الصلاة على المؤمنين: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] ، ولا يخفى أن إفراد الله- سبحانه وتعالى- نبيه بالصلاة عليه، يظهر علوّ شأنه وعظيم قدره صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، وأن هذا القدر سبق به الأولين والآخرين، ولم يسبقه إليه أحد، كما لن يلحق به أحد، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [المائدة: 54] .
5- وردت بالآية عدة أمور بلاغية تزيد الأمر تعظيما وتشريفا وهي:
أ- صدر الله- عز وجل- الأمر بحرف التوكيد (إن) لإفادة توكيد الأمر وتثبيته في قلوب المؤمنين.
ب- عبر الله، - عز وجل-، عن نفسه بلفظ الجلالة، فقال: إِنَّ اللَّهَ وهو الاسم الذي لا يشارك الله فيه أحدا أبدا، وكان يمكن أن تأتي بلفظ: (إن ربكم) أو (إنني) ، ولا يخفى وقع قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ على الآذان والقلوب المؤمنة، والذي يختلف عن أي لفظ آخر.
ج- أضاف المولى- سبحانه وتعالى- الملائكة إلى نفسه الشريفة؛ تعظيما لها وتكريما؛(2/76)
ليستشعر السامع مكانة هذا الخلق العظيم الذي يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
د- أتت الآية بلفظ: يُصَلُّونَ [الأحزاب: 56] بصيغة الفعل المضارع، الذي يفيد الاستمرار والثبوت.
6- جاءت صيغة الأمر الإلهي إلى المؤمنين بالصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحسن صورة، يتبين ذلك من:
بدأ الأمر بأداة النداء (يا) لاسترعاء السمع وحضور القلب، ثم أداة التنبيه (ها) في (أيها) لتوكيد استرعاء السمع.
جاءت صفة من وجّه لهم الخطاب، بصيغة الفعل الماضي: آمَنُوا فهذا الأمر غير موجه لكل أحد، بل للمؤمنين الذين استقر في قلوبهم ونفوسهم صفة الإيمان، وتلبسوا بها غاية التلبس وأصبحت صفة ملازمة لهم، وهذا ما يفيده الفعل الماضي: آمَنُوا؛ لذا عدلت الآية عن قول (يا أيها المؤمنون) .
ختمت الآية بالفعل المطلق تَسْلِيماً للتوكيد، وليعلم المؤمنون أن التسليم المأمورين به يجب أن يكون تسليما خاليا من كل أذى، مطهرا من كل سوء.
7- أطلقت الآية عدة أمور ولم تقيدها تعظيما للأمر، وتلك الأمور هي:
أ- لم تقيد الآية زمان صلاة الله وملائكته على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأعتقد خطأ من قيد تلك الصلاة المباركة بحياة وممات النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه تقييد بدون دليل، وإذا لم تقيّد الصلاة بزمان، علمنا أن صلاة الله وملائكته على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، قد استوعبت كل الزمان، وهذا غاية التشريف ومنتهاه للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ب- لما أثبتت الآية أن الصلاة قد وقعت من الملائكة، ولم تحدد نوع الملائكة ولا مكانهم، علمنا أن الأمر قد عمّ جنس الملائكة، جبريل وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، وحملة العرش، وخزنة الجنة والنار، وملك الجبال، والملائكة السيارة، والحفظة، أي جميع الملائكة، الذين لا يعلم عددهم وقدرهم إلا الذي خلقهم- سبحانه وتعالى-.
ج- لم تقيد الآية الغاية من صلاة الله والملائكة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما جاءت آية صلاة الله عز وجل- على المؤمنين مقيدة بالسبب، فغاية صلاة الله على المؤمنين، هو إخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ(2/77)
وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] ، والحكمة من عدم تقييد آية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بغاية أو سبب، لتستوعب الآية كل غاية وسبب ممكنين، فالإطلاق هنا أريد به التعظيم.
د- كما لم تقيد الآية الأمر الموجه للمؤمنين بزمن معين مثل: أي ساعة من الليل أو النهار، أو في شهر فضيل من أشهر السنة، أو يوم مبارك من أيام الأسبوع، أو بعد عبادة معينة، كما لم تقيد الآية الصلاة بعدد مرات في عمر المؤمن، كما تكون سائر العبادات من صلاة وصوم، فعلمنا من هذا الإطلاق إرادة المولى- سبحانه وتعالى- الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل زمان ومكان، وكلما زاد المؤمن صلاة كان ذلك خيرا له.
8- شملت الآية أعظم الحث على الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يأت الحث بذكر الجزاء الموفور كبقية العبادات، بل أتى الحث بأعظم من ذلك بكثير، أتى الحث بكون الله- سبحانه وتعالى- قد بدأ الأمر بنفسه وثنّى بملائكته، فالذين يريدون أن يفعلوا أمرا يفعله الله- سبحانه وتعالى- وتواظب عليه ملائكته، فليصلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم لذا يقول بعض خطباء المساجد في خاتمة خطبة الجمعة: (يا أيها المؤمنون إن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه وثنّى بملائكته) .
9- ضمنت الآية ألا تنقطع الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أبدا، فاليوم يصلي الله عليه وملائكته والمؤمنون، فإذا مات آخر مؤمن على وجه الأرض، فسيبقى الله وملائكته يصلون على النبي، وإذا ماتت الملائكة عن آخرهم، فسيبقى الحي الذي لا يموت يصلي على نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا من عظيم اعتناء الله بنبيه أن لم يوكل أمر الصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالبشر، فتنقطع تلك الصلاة بكفر أهل الأرض جميعا، قبل يوم القيامة، أو بموتهم، ولذلك ستبقى الصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالرحمة والفضل- متصلة أبد الآبدين.
10- كما ضمنت الآية استمرار الثناء والذكر الحسن والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل مكان، في الحضرة الإلهية وفي الملأ الأعلى وفي السماوات والأرض وما بينهما. ويتفرع على كل ما ذكر، وجوب زيادة شعورنا بمدى إجلال وإكبار نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن يترجم هذا الإجلال والإكبار إلى منهج وسلوك.
الفائدة الثانية:
ثواب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» «1» .
__________
(1) سبق تخريجه.(2/78)
فثواب الصلاة الواحدة على النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر صلوات من الله سبحانه وتعالى، فالثواب إذن عظيم، وكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يشعرنا بذلك فقابل في الحديث الواحدة بالعشرة.
ومن مظاهر تعظيم الثواب أيضا، أن الصلاة منك لا يقابلها صلوات من خلق- مثلك أو أعظم منك- بل يقابلها الصلاة من الله- عز وجل- فشتان بين الأمرين. وترتيب مثل هذا الثواب العظيم يدلنا على حب الله- سبحانه وتعالى- لهذه العبادة الجليلة، ألا وهي الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن في ترتيب هذا الثواب أبلغ الحث للمؤمنين على الإكثار منها، وترطيب اللسان بذكرها.
والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من علامات حب المسلم لنبيه، قال الشيخ السعدي رحمه الله عند شرحه لقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً: (اقتداء بالله وملائكته وجزاء له على بعض حقوقه عليكم وتكميلا لإيمانكم وتعظيما له ومحبة وإكراما وزيادة في حسناتكم وتكفيرا من سيئاتكم) . انتهى «1» .
وتدبر أخي القارئ ماذا قال العلامة رحمه الله: (وجزاء له على بعض حقوقه) أي أن حقوقه صلّى الله عليه وسلّم علينا كثيرة جدّا، وهي أعظم من أن نقابلها بأي عمل، ولكن الصلاة عليه تأتي ردّا لبعض الجميل، كما أن من معاني ما قال، أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، إنما هي عمل نحن في أشد وأمس الحاجة إليه؛ لأنه يزيد حسناتنا ويكفر سيئاتنا، ومن هذا يتبين سوء أدب من زهد في الصلاة والسلام على الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: إن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من سمة المؤمنين ومن أعظم مكملات الإيمان، ودليل ذلك أن الله- عز وجل- ما أمر بها إلا من تلبّس بهذه الصفة العظيمة، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، وعلى من يريد أن يتأكد أن الإيمان قد باشر قلبه واستقر فيه، أن ينظر إلى حاله، هل يحب أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويجد حلاوة في ذلك، أم يجد أن الأمر ثقيل عليه، وإذا كان هذا هو حاله، ونعوذ بالله من سوء الحال، فليبك على نفسه ويعالجها حتى يذهب ما بها.
الفائدة الثالثة:
آداب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم:
اعلم أخي المسلم، أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من العبادات العظيمة، التي أمرنا الله بها على الوجه الذي ذكرته، وما دامت عبادة، فيجب عند أدائها أن نستشعر كل آداب العبادة
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (671) .(2/79)
من استحضار النية وخشوع القلب؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] ، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها ذكر الله؛ لأنها توجّه إليه بالدعاء.
كما يشترط في هذه العبادة العظيمة الاتباع وتبطل بالابتداع، والاتباع فيها هو التقيد بالصيغ التي وردت في كيفية الصلاة عليه، ومن أتم هذه الصيغ، ما رواه الشيخان، عن أبي حميد السّاعديّ أنّهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيّته، كما صلّيت على آل إبراهيم وبارك على محمّد وأزواجه وذرّيّته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» «1» .
ومن مظاهر الابتداع في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يفعله بعض العوام من التمايل والرقص ودق الطبول والمزامير ورفع الصوت بالصلاة عاليا، وعندما يخرجهم الشيطان من دائرة الوعي، يقولون: إنه الجذب، ويطلقون كلاما ما أنزل الله به من سلطان، وأنا لا أنكر أنهم فعلا يخرجون من دائرة الوعي، ولكن الذي يخرجهم هو الشيطان، ودليله أنهم يفعلون عبادة لا يتبعون فيها هديا من كتاب أو سنة، وأقول لهم: أأنتم أشد حبّا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أم أصحابه رضي الله عنهم؟ إن قلتم: نحن، فقد كذبتم، وإن قلتم: هم، فقد أقمتم الحجة على أنفسكم، لأنهم ما كانوا يذكرونه بهذه الطريقة، وما كانوا يخرجون عن الوعي.
هذا بالإضافة إلى ما يحدث في مجالس هذه الأذكار من اختلاط بين الرجال والنساء، وأكثر من ذلك مما يعف اللسان عن ذكره، وكذا إثبات بعض الصفات للنبي صلّى الله عليه وسلّم التي لم يثبتها لنفسه؛ لأنها صفات لا تنبغي إلا لله- عز وجل- ويا ليت من يقوم بهذه الأعمال، التي يظن أنه يتقرب بها إلى الله- سبحانه وتعالى-، قد حرم الأجر فحسب- وإن كانت هذه مصيبة وحدها- ولكن المصيبة الأعظم أنه لن يسلم من وزر ما فعل، وهو يتفاوت في درجته من معصية الابتداع والاختلاط إلى الشرك بالله العلي العظيم إذا نسب للنبي أنه يعلم الغيب أو يعتقد أن بيده النفع والضر، أو أنه معنا حيث نكون يسمعنا ويرانا، ويرضى أو يحزن على أفعالنا وأن الله ما خلق الخلق إلا من أجله إلى غير ذلك من البواطل الفواقر.
هيا أخي المسلم نتوب إلى الله- عز وجل- ونقلع عن كل ما يخالف الكتاب وسنة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم ونتمسك بخير الهدي وأكمله، هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم فما وجدناه صحيحا صريحا في
__________
(1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، برقم (3369) ، ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (407) .(2/80)
سنته اتبعناه، وإلا تركناه وهجرناه بل وكرهناه، وأمرنا الناس باجتنابه.
وأود هنا أن أنبه على عجالة مما يقع من بعض الناس، من ألفاظ يتداولونها، أقل ما يقال عنها: إنها من سوء الأدب وامتهان لحرمات الله- عز وجل-، ومنها على سبيل المثال:
1- صلي علي اللى يشفعلك، الكلمة في حد ذاتها ليس فيها شيء، ولكنها تقال في غير موضعها وبطريقة غير لائقة، وتكون غالبا لفض المنازعات، ولا يقوم أحد من الحاضرين بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيا ليتنا تركنا هذه المقولة تعظيما لأمر هذه العبادة.
2- قول أحدهم: يعني كسبنا الصلاة على النبي، وهذا من سوء الأدب وعلينا أن ننأى عن مثل هذه المقولات وننهى الناس عنها، إذا أردنا فعلا التقرب إلى الله- عز وجل-.
3- ما يقوم به البعض في الأعراس والحفلات وعند فوز فريقه، من الغناء والرقص، مع قولهم: وصلي صلي صلي، على النبي صلي إلى آخره، بنغمة معينة، مما يستحيي المسلم أن ينطق به أو يسمعه فضلا أن يتغنى به، أهكذا يردّ الجميل لمن فضله علينا أعظم من فضل الوالدين، بل لا نرى أحدا سبقه في الفضل إلا الذي خلقنا وهدانا، ويا ليت الأمر يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده، بل يتعلق بالله- سبحانه وتعالى- الذي أمرنا بهذه العبادة، وشرعها لنا ورتب عليها أعظم المثوبة، أقول لهؤلاء وغيرهم ممن لا يعظمون شعائر الله: أفلا تتوبون إلى الله وتستغفرونه والله غفور رحيم؟!.
4- قول أحدهم لإسكات الآخر: صلينا على النبي، يعني اسكت، وكذا قول أحدهم: خذ هذا بالصلاة على النبي.
الفائدة الرابعة:
وفيها أنبه إلى بعض المواضع التي لا يشرع فيها الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم لعدم ورود السنة بها، ولكن للأسف اعتادها بعض الناس:
1- بعد العطاس.
2- عند البحث عن شيء مفقود.
3- نهاية دعاء السفر.
4- صلاة المؤذن على النبي بعد الأذان بمكبر الصوت. والصحيح هو الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الجميع المؤذن وغيره، ولكن كلّ في سره.
وفي الختام أسأل الله- عز وجل- أن يجعل صلاتي وصلاة المؤمنين على نبينا صلّى الله عليه وسلّم زكاة(2/81)
وطهورا وضياء لنا يوم العرض عليه، وأن يحفظها لنا، فهو الذي لا تضيع عنده الودائع، وأن يرزقنا بها شفاعة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم إنه نعم المولى ونعم المجيب.
8- جعل صلاته واستغفاره صلّى الله عليه وسلّم رحمة للمؤمنين:
عظم الله- تبارك وتعالى- شأن صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على المؤمنين، أي: دعاؤه لهم بمغفرة ذنوبهم وتخفيف فتنة القبر عليهم ودخولهم الجنة، وغير ذلك من أنواع الأدعية كثير، فجعلها الله- تبارك وتعالى- صلاة مباركة طيبة تقبل قبولا حسنا، بل إن الله- تبارك وتعالى- حث المؤمنين أن يذهبوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، بل الأعظم من ذلك أن الله- تبارك وتعالى- جعل من علامات المنافقين الاستكبار عن الذهاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم، قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون: 5] ، قال صاحب التفسير الميسر:
(وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: أقبلوا تائبين معتذرين عما بدر منكم من سيئ القول وسفه الحديث يطلب لكم رسول الله من ربه أن يعفو عنكم: حرّكوا رؤسهم استهزاء واستكبارا وأبصرتهم- يا محمد- يعرضون عنك وهم مستكبرون عن الامتثال لما طلب منهم) .
ولأن شواهد ذلك كثيرة ومتنوعة فسأضرب شاهدين فقط:
الشاهد الأول:
قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103] ، قال الإمام الطبري رحمه الله: (يقول تعالى ذكره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي تنميهم وترفعهم بها عن خسيس منازل أهل النفاق إلى منازل أهل الإخلاص وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ منها إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم) «1» ، وقال رحمه الله في موضع آخر: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وقال بعضهم: رحمة لهم) «2» .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ: (أي طمأنينة لقلوبهم واستبشارا لهم) «3» .
__________
(1) تفسير الطبري (11/ 16) .
(2) انظر المصدر السابق.
(3) تيسير الكريم الرحمن (250) .(2/82)
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر ربه فكان يستغفر لمن كان يأتيه بالصدقات، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهمّ صلّ عليهم» . فأتاه أبو أوفى بصدقته، فقال: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» «1» .
الفائدة الثانية:
في الآية دليل على تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وصلاته عليهم وتيقنهم أن دعاءه مقبول عند الله- تبارك وتعالى- فبدعائه صلّى الله عليه وسلّم تمحى السيئات وتقال العثرات وترفع الدرجات وتشفى الأمراض، ووجه استنباط ذلك من الآية: أن الله تبارك وتعالى- أبلغنا أن قلوب الصحابة تطمئن بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثالثة:
إثبات فضيلة خاصة للصحابة رضي الله عنهم تميزوا بها دون سائر الأمة، ألا وهي استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم وصلاته عليهم، ولم يضيعوا رضي الله عنهم هذه المزية ولم يفوتوها عليهم، فكثيرا ما كانوا يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدعاء لهم ولأولادهم، وقد أوردت شواهد على ذلك في باب: (استجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم) .
وإذا سأل سائل فقال: لماذا ميز الله- سبحانه وتعالى- الصحابة بهذه المزية وحرمنا منها؟ قلت: لأن الله تعالى علم أن الصحابة سيفعلون ما لن نفعل، وسيقدمون ما لن نقدم، فقد جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وضحوا بكل غال ونفيس لإعلاء كلمة التوحيد، فكان لهم السبق في نصرة الله ورسوله، فكان من عدل الله الحكيم الخبير أن يعطيهم ما لم يعطنا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم إن الله- تبارك وتعالى- لم يحرمنا- حاشا لله- لأن الحرمان معناه ألا يعطينا ما نستحق أو يمنعنا حقّا لنا- والله منزه عن ذلك. وإن فاتنا هذا الخير الكثير فإننا أدركنا أبوابا من الخير، نسأل الله- عز وجل- أن يتقبلها منا، ألا وإن أعظمها إيماننا وتصديقنا وحبنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن لم نره. وما فعلنا ذلك إلا تصديقا بكلام ربنا- تبارك وتعالى-.
الفائدة الرابعة:
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (في الآية استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه- لمن أدى زكاته- بالبركة، وأن ذلك ينبغي أن يكون جهرا بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه، ويؤخذ من المعنى أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين بالكلام اللين والدعاء
__________
(1) مسلم، كتاب: الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، برقم (1078) .(2/83)
له، ونحو ذلك، مما يكون فيه طمأنينة وسكون لقلبه) «1» .
الشاهد الثاني:
قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) «2» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
فعل الطاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي وجود شخصه الكريم، أحب إلى الله- تبارك وتعالى- وأكثر قبولا وأجرا مما لو لم يكن موجودا، وكذلك استغفاره صلّى الله عليه وسلّم للمذنبين أرجى قبولا من استغفارهم لأنفسهم، والدليل على ذلك أن استغفار المذنبين لو كان يستوي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعند غيره ما أمرهم الله أن يذهبوا إليه ويستغفروا ربهم عنده صلّى الله عليه وسلّم ولكان الأمر بحضورهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحصيل حاصل- حاشا لله-، ولو كان استغفارهم لأنفسهم يغني عن استغفار الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم أو لا يتأكد به مغفرة الرب، ما كان لطلب الاستغفار من الرسول صلّى الله عليه وسلّم حكمة شرعية.
الفائدة الثانية:
روى بعض المفسرين- رحمهم الله تعالى- في تفسير هذه الآية أثرا رواه أبو صادق عن علي قال: (قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحثا على رأسه من ترابه. فقال: قلت يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك. وكان فيما أنزل الله عليك: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية. وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر إنه قد غفر لك) «3» .
وهذا (أثر منكر أبو صادق هو مسلم بن يزيد لم يدرك عليّا، فهو منقطع ولم يذكر المصنف من رواه عنه، والمتن منكر جدّا، ولو صح لفعله عشرات الصحابة) «4» .
قلت: هل يعقل أن يكون الاستغفار عند قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مشروعا وقربة إلى الله- تبارك وتعالى- ولم يفعله إلا أعرابي، ولا ينقل عن آلاف الصحابة، ولا التابعين بسند صحيح أنهم فعلوه، مع أنهم أحرص الناس على السنة من هذا الأعرابي المجهول الهوية،
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (351) .
(2) تفسير ابن كثير (1/ 520) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (5/ 265) .
(4) من تعليق المحقق لتفسير القرطبي.(2/84)
نريد دليلا واحدا صحيحا عن أعلم الناس بسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بمشروعية ذلك. كما أقول: إن نفي مشروعية الذهاب إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم للاستغفار لا يعد تقليلا من شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يروّج السفهاء- ولكن لا نفعل ذلك لأن الله- تبارك وتعالى- لم يأمرنا به، ولم يشرعه لنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وليس لنا فيه من الصحب الكرام أسوة حسنة.
9- سماع الله لتلاوته صلّى الله عليه وسلّم:
عن أبي هريرة أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصّوت بالقرآن يجهر به» . [متفق عليه] «1» .
الشاهد في الحديث:
أذن الله، أي استمع، والسماع هنا ليس من باب السماع العام، بل هو سماع الرضا والقبول، فالسماع ثلاثة أنواع:
سماع إحاطة، وقد ثبت في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما [المجادلة: 1] .
وسماع يقصد به التهديد والوعيد، وقد ثبت في قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] ، والدليل على أن المقصود بهذا السماع، هو التهديد والوعيد، قوله- عز وجل-: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
أما النوع الثالث من السماع: فهو سماع رضا وقبول، ومثاله حديث الباب، والذي قصده العلماء من هذا التقسيم، هو شرح مقصود الله- عز وجل- من إثبات السماع والحكم المترتب عليه، فقد يسمع ويرضى عما سمع ويرتب على ذلك أجزل الثواب، وقد يسمع ويغضب عظيم الغضب مما يقال ويرتب على ذلك أشد العذاب، وقد يكون السماع من باب الإحاطة بما يفعل العباد.
وفي الحديث إثبات حسن صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، يؤيده ما رواه مسلم، عن عديّ بن ثابت قال: سمعت البراء بن عازب قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ في العشاء بالتّين والزّيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه «2» .
__________
(1) البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الماهر بالقرآن مع الكرام البررة ... ، برقم (7544) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (792) .
(2) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، برقم (464) .(2/85)
10- تثقيل موازينه صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة:
عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . [رواه مسلم] «1» .
الشاهد في الحديث:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه» ، وحيث إن الرسول هو الذي دل على كل خير، ودعا إلى كل هدى، وحذر من كل ضلالة، فإن له من الأجر الموفور يوم القيامة، مثل أجور هذه الأمة جميعا، ولذلك فلا غرابة، أن تكون له الدرجة العالية الرفيعة في الجنة، التي لا تنبغي إلا له صلّى الله عليه وسلّم.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظيم ما أعده الله- عز وجل- وادخره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة من الأجر والثواب، ولم يقتصر مصدر هذا الأجر العظيم على هدايته ونصحه للأمة، بل من كون أنّ له من الأجر ضعف أجر أفراد الأمة على كل ما يصيبه من البلاء وكل ما يقوم به من الطاعات، ودليله ما رواه مسلم، عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنّك لتوعك وعكا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل، إنّي أوعك كما يوعك رجلان منكم» . قال: فقلت: ذلك أنّ لك أجرين؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل» . ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشّجرة ورقها» «2» .
الفائدة الثانية:
فضيلة الإرشاد لأعمال الخير، وتعليم الناس، والتواصي بالحق، ومساعدة فاعل الخير قدر الإمكان؛ لقوله: «من دعا إلى هدى» ، ويتفرع على ذلك الفائدة التالية.
الفائدة الثالثة:
الحث على تلقي العلم، حيث إن المسلم لن يدل على خير ويعلّمه الناس، حتى يعلم أن هذا العمل خير، وموافق لسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، حتى لا يدعو إلى بدعة أو يقع في محظور آخر، دون أن يدري، والذي يدل على وجوب العلم أولا قبل العمل، قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] ، وبوّب الإمام
__________
(1) مسلم، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة ... ، برقم (2674) .
(2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، برقم (2571) .(2/86)
البخاري رحمه الله لهذه الآية بابا سماه (العلم قبل العمل) ، ولكن يجب أن يفهم هذا الكلام فهما صحيحا، ونكون وسطا، بين من ينصح ويأمر الناس دون أي علم، ودون أن يحقق شيئا حتى أمر التوحيد، وبين من يأخذ العلم جلّ وقته، ويترك النصح لأفراد المسلمين بحجة تلقي العلم أولا. فالقصد القصد، ومتى علم المسلم شيئا من المسائل وفهمها، فعليه إبلاغها، دون إفتاء أو توسع في الأمر، حتى لا ينجر إلى مسائل أخرى لا يعلمها، فيفتي بدون علم، ويجب عليه أن يتقي الله، فلا يستحي أن يقول: (لا أعلم) لمجرد أن الناس فهموا من نصحه أنه عالم، كما أن على الناس، أن ينتبهوا ممن يأخذون دينهم، فلا يتساهلون ويسألون من تيسّر أمامهم؛ لأنه ينصح أو يبدو عليه سمة الصلاح والتقوى، أو أنه متساهل في الفتوى، بل عليهم أن يجتهدوا، في معرفة أمور الحلال والحرام، ويعلموا أنهم إذا سألوا من لا علم عنده فقد أعانوا عليه الشيطان، ومرة بعد مرة، يتجرأ هذا الناصح على الفتيا ويتحرج أن يقول: (لا أعلم) .
الفائدة الرابعة:
البدعة في الدين أعظم وزرا من المعصية؛ لأن المعصية يتوب منها العبد، وخطرها- في الغالب- مقصور على صاحبها، أما البدعة فخطرها متعدّ لكل من رآها وعمل بها إلى يوم القيامة.
الفائدة الخامسة:
سعة ما عند الله- عز وجل- من الأجر والمثوبة لعباده المؤمنين، حيث يعطي من دعا إلى هدى أجره وأجر من عمل بدعوته إلى يوم القيامة، سبحانه هو الغني، وكذا سعة ما عنده من العقوبة.
الفائدة السادسة:
علمنا من الحديث أن أحدا لا يحمل عن أحد وزره، حتى ولو كان هو الذي أضله، ولكن الذي دعا إلى ضلالة يحمل مثل وزر من أضله، أي أنه يحمل وزرين:
وزر الضلال ووزر الإضلال، وعلى هذا المعنى يفهم قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [النحل: 25] .
11- الأمر بالصدقة بين يدي نجواه صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12] .
إنّ أمر الله المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم- أي الإسرار إليه- لهو من أبين الأدلة على عناية الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، بما يضمن رفع شأنه وإظهار فضله(2/87)
وبيان عظيم مكانته، وما قلته ليس من باب المبالغة في شيء، ولكن هذا فحوى ما قاله العلماء في تفسير الآية، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى: (أمر الله عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقدم بين ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله؛ لأن يصلح لهذا المقام) . انتهى «1» .
وتدبر كلام ابن كثير، فإن معناه: أن مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، هي مقام مخصوص، لا يستوي مع غيره من المقامات، فإنه يشترط لمن يريد الوقوف بين يديه لمناجاته، إخراج صدقة يضمن بها طهارة نفسه وتزكيتها. فانظر لهذا المستوى الذي بلغت إليه مكانة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (أمر الله تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم تأديبا لهم وتعليما وتعظيما للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين وأطهر أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم وتحصل لكم الطهارة من الأدناس التي من جملتها ترك احترام الرسول صلّى الله عليه وسلّم) . انتهى «2» .
وعليه فإن الشيخ قد جعل مجرد تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هو خير للمؤمنين وأطهر وبه يكثر الأجر والخير.
وقد يقول القائل: كيف أمرت الآية المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ إظهارا لمكانته، وقد نسخت الآية، وقيل: إنه لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟.
أقول: إن الآية قد أثبتت فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم بوجوب دفع الصدقة قبل مناجاته، وبينت أن هذا هو الخير والأطهر للمؤمنين، وكون الآية قد نسخت إلا أن الحكمة منها لم تنسخ، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وقد استقرت ولله الحمد في نفوس الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
12- رؤية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء: 217- 220] .
الشاهد في الآية:
أثبتت الآية رؤية الله- عز وجل- لنبيه، وهي رؤية خاصة، المقصود بها العناية والحفظ، وليست رؤية إدراك وإحاطة، حيث إنها وردت بعد الأمر بالتوكل، وكأنها تحث عليه وترغب فيه، ولو كانت رؤية عامة، ما كان لذكرها مزية بعد الأمر بالتوكل؛ لأن الرؤية العامة تشمل الناس جميعا: متوكلين وغير متوكلين.
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 327) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (847) .(2/88)
ومثال الرؤية الخاصة: قوله تعالى لموسى وهارون: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] .
وفي الآية فوائد منها:
الفائدة الأولى:
كمال عبادته لله- سبحانه وتعالى- من جميع الوجوه، والتي منها التواضع بها لله والخشوع، وحسن القيام والسجود، وتمام الإخلاص، حيث إن الآية وردت على سبيل التمدح من الله- عز وجل- والله لا يمتدح شيئا فيه نقص أو خلل، بدون توجيه، خاصة إذا كان يتعلق بقدوة هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
وعد الله- عز وجل- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالنصر والظهور على أعدائه، والرحمة له ولأمته، حيث أمره- سبحانه وتعالى- بالتوكل عليه، ورغّبه في ذلك بصفتين من صفاته، وهما العزة والرحمة.
الفائدة الثالثة:
عظيم أمر التوكل فبه يكفينا الله- عز وجل- أمر أعدائنا بالنصر عليهم، وويكفينا شرور أنفسنا بغفران السيئات.
الفائدة الرابعة:
ختمت الآيات بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فهو- سبحانه وتعالى- الذي يسمع دعاءك ويعلم حالك، وكأنه وعد منه- تبارك وتعالى- بتحقيق سؤله واستجابة دعائه، وقد تم ذلك كله بما تقر به عينه صلّى الله عليه وسلّم.
13- ولاية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] .
قيل: إن اللتين تظاهرتا على النبي صلّى الله عليه وسلّم هما عائشة وحفصة- رضي الله عنهما- حيث ذكرا له أن به ريح مغافير من العسل الذي يشربه عند إحدى نسائه، ولما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يجد أحد منه ريحا كريهة، حرم على نفسه العسل، فنزلت الآية توجه العتاب واللوم لعائشة وحفصة، وتعرض عليهما التوبة إلى الله بسبب ما بدر منهما وميلهن عما ينبغي من الورع والتوقير وعدم المشقة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل روايات أسباب النزول لا تختلف كثيرا عما ذكرت وهي روايات في الصحاح.
والشاهد في الآية
على اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بالنبي صلّى الله عليه وسلّم غاية العناية: أن الآية ذكرت أن الله- عز وجل- هو مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمولى هو المعين والناصر، وهو الذي يتولى أمر مولاه في كل شئونه.(2/89)
مما يوضح هذا المعنى ويجليه ويبين أن ولاية الله هي واحدة من أعظم شمائل النبي صلّى الله عليه وسلّم التي ربما نغافل عنها، أقول: مما يوضح ذلك، ما ذكره الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية، ونصه: (أي الجميع أعوان للرسول مظاهرون ومن كان هؤلاء أعوانه فهو المنصور، وغيره- مما يناوئه- مخذول. وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين حيث جعل البارئ نفسه الكريمة وخواص خلقه أعوانا لهذا الرسول الكريم) . انتهى.
وفي الآية فوائد منها:
الفائدة الأولى:
عظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث ذكرت الآية أن الله- عز وجل- وصفوة خلقه هم مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم تقتصر الولاية على الله- عز وجل-، وإن كانت لتكفي ولو كان خصم النبي صلّى الله عليه وسلّم هم أهل السماوات والأرض، ولكن الولاية انسحبت لتشمل جبريل أعظم الملائكة قدرا وتشمل صالحي المؤمنين، ولم تقف الآية عند هذا الحد، بل جاء عموم الملائكة كلهم جميعا ناصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأعتقد أن الهدف الأعظم من ذكر أحد مع الله- تبارك وتعالى- في ولاية النبي صلّى الله عليه وسلّم، هو بيان فضله على الأولين والآخرين.
الفائدة الثانية:
في الآية الكريمة تخويف شديد ووعيد أكيد لمن يصدر منه أدنى إيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء في حياته أو بعد مماته، فإذا كانت الآية قد نزلت في حق زوجتين كريمتين طاهرتين، هما من أحب النساء إليه صلّى الله عليه وسلّم، في أمر قد يكون سهلا بسيطا جدّا لو حدث مع غير النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما بالكم لو صدر الإيذاء ممن هو دونهما في الفضل والشرف، وفيما هو أشد وأعظم، فما بالكم لو صدر الإيذاء ممن جعل نفسه خصما للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو محاجّا له أو مشاقّا لسنته، وإذا كان المولى- سبحانه وتعالى- لم يرض من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا كمال الأدب ولم يتسامح معهن في أقل القليل، فهل يرضى الله منا ما يفعل من تقصير في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟!.
أيها المسلمون: الأمر أعظم بكثير مما نتصور كيف نتجرأ على تجاوز الأدب مع نبي قد ضمن الله له النصرة والموالاة من نفسه الكريمة ثم من أهل السماوات والصالحين من أهل الأرض؟.
الفائدة الثالثة:
في الآية إثبات أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم هو إيذاء لله وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين، بل إن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يسبب قطعا غضب الرب وملائكته لأنهم جميعا مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعليه فمن لا يتأذى ولا يغضب إذا انتهكت حرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم فنجزم قطعا أنه لا(2/90)
يدخل في زمرة صالح المؤمنين.
الفائدة الرابعة:
في الآية أبلغ الحث على حب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومناصرته واتباع سنته؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- إذا كان يحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وينصره، فهو قطعا يحب من يتبعه وينصر من ينصره.
لطيفة:
لم يقتصر التأديب الرباني لزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم على إنزال هذه الآية العظيمة، بل أعقبتها آية هي أشد وقعا على جميع أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- وهي قوله تعالى:
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 5] ، فجاء التهديد القرآني الذي يراد به مراعاة عظيم الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنقاط التالية:
1- إمكانية التطليق، وفي هذا أشد الحرمان لهن، لما فيه من انقطاع شرف الانتساب لبيت النبوة، وجوار النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، ويا ليت الأمر يقتصر على ذلك بل سيحل محلهن زوجات أخريات، يفزن بهذا الشرف والجوار.
2- إن الذي سيبد له بالزوجات بعد التطليق هو الله تبارك وتعالى، الذي هو مولاه، فلن يترك الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الاختيار، وإذا كان الذي سيختار الزوجات هو الله، فنعم المختار، وما أحسن المختارات.
3- إثبات أن الزوجات- المبدل بهن- هن خير من الزوجات الكريمات اللاتي في عصمته صلّى الله عليه وسلّم، فهن على أحسن الأوصاف وأسمى الأخلاق، مع مراعاة أن الآية ذكرت التنوع في أصنافهن ففيهن الأبكار والثيبات، حتى لا يقول قائل: سيأتي الطلاق بالتشديد على الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الحال عند بقية الناس- بل سيكون حاله صلّى الله عليه وسلّم بعد طلاق جميع نسائه في منتهى التوسعة.
فتدبر أخي القارئ كيف جاءت الآية على أحسن ما يكون في تهييج مشاعر الحب والغيرة في قلوب أمهات المؤمنين، بما يضمن عدم عودتهن إلى ما بدر منهن ولو كان أمرا بسيطا.
وقد بينت في عدة مواضع، أن الكافرين كانوا إذا اتهموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بأي تهمة نزل القرآن بما يبرئه من هذه التهمة، وبما يرفع من قدره ويعلي شأنه، وهذا أيضا قد حدث في هذه الواقعة، والتي تحكي شأنا من شئون أمهات المؤمنين، فنزل القرآن بما يرشدهن إلى وجوب سلوك غاية الأدب، وبما يرفع أيضا شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث ثبتت له ولاية الله وجبريل(2/91)
والملائكة وصالح المؤمنين، مع وعده إذا طلق نساءه أن يجعل الله له ما يقر عينه، وهذه النكتة اللطيفة تحتاج إلى تأمل وتدبر.
14- معية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40] .
الشاهد في الآية:
أثبتت الآية معية الله- عز وجل-، لنبيه وصاحبه، قال تعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وهي معية خاصة؛ لأنها ذكرت بعد النهي عن الحزن، الذي حصل بسبب خوف أبي بكر الصديق على الرسول، وارتفع هذا الخوف بعلمه أن الله معهما بنصره وتأييده، فلن يصل إليهما أذى الكفار، ويؤكد هذا المعنى ما رواه البخاري عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا!!. فقال: «ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» «1» .
أما المعية العامة، والتي يقصد بها العلم والإحاطة، ففي قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة: 7] .
وفي الآية فوائد منها:
الفائدة الأولى:
ما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم
1- نصرة الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم، وهى نصرة تكفيه عن نصرة الناس أجمعين، فهمنا ذلك من قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، وورود النصر بصيغة الماضي دليل على تحققه وثبوته وإن لم يحدث بعد، ويؤيد نصرة الله له وحمايته من جميع الأعداء قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84] ، فلولا أن الله حاميه، وتكفل بنصرته، ما أمره بالجهاد ومدافعة الكفار ولو كان وحده؛ لأن فيه تهلكة له، قال تعالى:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: من الآية 67] .
2- لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة مهاجرا إلى المدينة طواعية لطلب السلامة والأمن، بل
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر، برقم (3653) .(2/92)
أخرج منها مضطرا، قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقد بينت ذلك في التعليق على حديث بدء الوحي.
3- حسن ظن النبي صلّى الله عليه وسلّم بربه، وعظيم توكله عليه، وكامل ثقته بأنه سينجز له وعده.
4- عظيم اعتناء الله- عز وجل- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بنصرته بإنزال التأييد المعنوي، وهو السكينة في القلوب، والتي نسبها- سبحانه وتعالى- إلى نفسه الشريفة فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ، وكذلك التأييد المادي بالجنود غير المرئية من قبل أحد من الناس، وإذا كانت الآية لم تذكر ماهية الجنود، بل نفت أن أحدا رآها، فإثبات تعشيش الحمام على الغار، ونسج العنكبوت، فيه نظر، إلا إذا ثبت بالحديث الصحيح، أما إذا كانت أخبارا لا تصل لمنزلة الصحيح، فيجب عدم الأخذ بها، لمناقضتها صريح القرآن، ونستفيد من الآية، عظيم قدرة الله- عز وجل-، إذ نجى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه الصديق، وهما في شدة الضعف والحول، على أعدائهما وهم في شدة القوة والصول. فسبحان من ينصر من يشاء بما يشاء على من يشاء.
الفائدة الثانية:
ما يتعلق بمناقب الصديق رضي الله عنه
1- تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالهجرة معه، وما صاحب ذلك من خلوته بالنبي صلّى الله عليه وسلّم عدة أيام، ينفرد به في الأكل والشرب والحديث، بل ويكون في خدمته وحده، لا شك أن ذلك منقبة عظيمة للصديق، لم يشاركه أحد فيها، مما يدل على أفضلية الصديق عن بقية الصحابة رضي الله عنهم.
2- إثبات الصحبة منقبة عظيمة، أما إثباتها في القرآن الكريم، فهي منقبة ما بعدها منقبة، لأنه ينبني عليها، أن من أنكر صحبة أبي بكر فقد كذب بظاهر القرآن، لأنه لا خلاف بين الأمة أن الذي هاجر مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هو أبو بكر، أما الذي يذمه، فهو في خطر عظيم، لأن الله مدحه في هذه الآية أبلغ المدح، فكيف يكون المدح يتلى إلى يوم القيامة، في حق من يذم ويسب، على حد قولهم.
3- إثبات معية الله- عز وجل- له، منقبة أخرى تضم إلى ما سبق، وينطبق عليها ما سلف.
4- ذكر الله- سبحانه وتعالى- له مع نبيه في ضمير واحد يشركهما معا، له فضل كبير من الله على صديق هذه الأمة، قال تعالى: إِذْ هُما فِي الْغارِ، ينضم إليه إثبات أنه(2/93)
ثاني الاثنين، أي ليس معهما أحد من البشر، قال تعالى: إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين.
5- تعظيم شأن هجرته، حيث ذكر الله خروجه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق المدح، وهذا أكبر دليل على أنها كانت في سبيل الله، وإثبات المعية والصحبة، يتوجب تضعيف الحسنات ورفع الدرجات، لأن الهجرة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليست كالهجرة مع غيره، فهي مناقب بعضها فوق بعض، لا ندري أيها أعظم.
6- يتفرع على ما سبق، وجوب حب صدّيق هذه الأمة. ومن علامات هذا الحب، كثرة الثناء عليه، وذكر مناقبه، والذب عن عرضه، والامتنان له بما قدمه لله ورسوله، روى البخاري عن ابن عبّاس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الّذي مات فيه عاصب رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «إنّه ليس من النّاس أحد أمنّ عليّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متّخذا من النّاس خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام أفضل، سدّوا عنّي كلّ خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر» «1» . أقول: حسبنا هذا الحديث لمعرفة فضل الصديق.
الفائدة الثالثة:
يستدل من الآية أن الهجرة كانت نصرا للرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ ذكرت الخروج بعد إثبات نصرة الله لرسوله، قال تعالى: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
الفائدة الرابعة:
وهي لطيفة من لطائف القرآن العظيم، حيث ورد في الآية:
وَكَلِمَةُ اللَّهِ مرفوعة، على أنها مبتدأ، ولم تعطف على وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا، كما يتبادر إلى ذهن القارئ، وهذا يفيد أن الله هو الذي جعل كلمة الذين كفروا في السفال، أما كلمة الله، فهي دائما في علو قبل وبعد الهجرة.
ونستفيد أيضا، ملاءمة ما يذكر في ختام الآية، من أسماء وصفات لله تعالى، مع معنى الآيات، وما يذكر فيها من أحكام، فالآية هنا ختمت بصفتي العزة والحكمة، فبعزة الله- سبحانه وتعالى-، نصر عبده وصاحبه على جحافل الكفار، وبحكمته قدّر الهجرة لتكون نصرا مبينا لدينه ونبيه صلّى الله عليه وسلّم. ونصيحة لكل مسلم أن يتدبر القرآن وهو يقرأه، ليتلمس ما فيه من البدائع والفوائد، وأن يأخذ بالأسباب التي تعينه على مطلوبه.
__________
(1) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، برقم (467) .(2/94)
15- الوعد بنصره صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [الحج: 15] .
فالآية أثبتت أن الله- عز وجل- ناصر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم لا محالة في الدنيا والآخرة، وأن كيد أعدائه لن يستطيع أن يرد نصر الله له، قال ابن كثير في شرح هذه الآية الكريمة: (من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة) . انتهى «1» .
وقد ذكر القرطبي عن النحاس «2» معنى آخر للآية فقال: (من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه فليطلب صلة يصل بها إلى السماء ثم ليقطع النصر إن تهيأ له) «3» .
والحاصل أن كل التفاسير تتفق في معنى واحد للآية، وهو أن الله ناصر نبيه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة.
وفي الآية عدة فوائد منها:
الفائدة الأولى:
أن الله، - عز وجل-، قد وعد نبيه- وهو في مكة قبل الهجرة، وهو لا يزال مستضعفا- بالنصرة في الدنيا والآخرة، وهذه البشرى من أعظم دلائل نبوته، صلّى الله عليه وسلّم، ولولا أن هذا الوعد من الله، ولولا صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، في التبليغ عن ربه، ما أحرج نفسه أمام أصحابه رضي الله عنهم بإعلان هذا الوعد، ولكان اكتفى بذكر النصر في الآخرة دون الدنيا، لأن تحقق الوعد من عدمه لن يخفى على أحد في الدنيا بعكس الآخرة، وبعد أن تحققت هذه البشرى في الدنيا كأحسن ما يكون، لم يبق للكفار حجة على الله في تكذيب نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
إذا كان النصر في الدنيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم يكون بالظهور على الأعداء وانتشار دينه والتمكين لأهله في الأرض، فكيف يكون نصره صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة؟، أقول: يكون بمنحه أعظم المنح والمقامات، كالشفاعة العظمى واللواء المعقود ونهر الكوثر، وإسكانه
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 21) .
(2) هو أحمد بن محمد المفسر توفي عام (338 هـ) . انظر الأعلام للزركلي (8/ 14) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (12/ 21) .(2/95)
الدرجة العالية الرفيعة في الجنة، التي لا يكون لغيره مثلها أبدا، مع إكرام أصحابه وأتباعه بإدخالهم الجنة، والتفضل عليهم بكل أنواع النعم. ومن تمام النصر في الآخرة، إدخال أعدائه النار وتعذيبهم وألايكون لهم أدنى ذكر حسن في الآخرة، بل الذم كل الذم، والتبكيت والتشفي، بل الندم والحسرة أن لو كانوا اتبعوه صلّى الله عليه وسلّم، وصدقوه، قال تعالى:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] ، فسبحان الذي جعل الظالم يذكر أن سبب حسرته وندمه هو عدم اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثالثة:
أن النصر بيد الله، - عز وجل-، وحده وهو يأتي من السماء، وإذا كان النصر من عنده وحده، فيجب على المسلمين ألايطلبوا العون والنصر إلا منه- سبحانه وتعالى- وألا يتوكلوا إلا عليه، وأن يتيقنوا أن أحدا لا يقدر على رد نصر الله لهم، قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160] .
الفائدة الرابعة:
على المسلمين ألا يبأسوا من نصر الله لهم في الدنيا، فهذا واقع لا محالة، لأن الآية وعدت بنصر النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، أي كل زمن الدنيا لعدم ورود التقييد في الآية، ومن لوازم نصر الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن ينصر دينه وكتابه وأتباعه، شريطة أن نعود إلى الله- عز وجل- وأن نتمسك بالعروة الوثقى، وأن نتبع سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وقد أثبت القرآن الكريم أن الله ناصر رسله والذين آمنوا في الدارين، قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] .
5- أثبتت الآية غيظ الكفار من نصرة الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ولكتابه ولدينه، وأنهم حريصون كل الحرص على أن يطفئوا نور هذا الدين، ويفضّوا الناس من حول بكل أنواع المكائد الممكنة.
16- جعله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين:
قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب: 40] .
من كريم نعم الله على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، أن ختم به النبيين، لأن الخاتم يثبت له ما لا يثبت لإخوانه من الأنبياء، ومن ذلك على سبيل المثال:
1- أن يكون كتابه هو المهيمن على بقية الكتب السماوية المنزلة، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ(2/96)
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] .
2- أن تكون شريعته هي الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة، لأنه لا شريعة بعد شريعته صلّى الله عليه وسلّم.
3- ألايحدث أي نسخ- بعد مماته- لكل ما جاء به من كتاب أو سنة.
4- مطالبة كل أمة- تحت أديم السماء- من يوم بعثته إلى يوم القيامة- بالإيمان به والتصديق التام بكل ما جاء به، بل يكون الإيمان بجميع الرسل داخلا في طيات الإيمان به؛ لأنه هو الذي دل على نبوتهم جميعا.
5- أن يكون هو صلّى الله عليه وسلّم، الحكم على أفعال كل الأمم السابقة، يزكي حسناتهم ويحذر من سيئاتهم، ولم يثبت ذلك لأمة من الأمم، ثم إن جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام مبشرون به مزكون لأمته.
ومعلوم أن الخاتم لكل شيء هو أحسن وأجمل ما في الشيء، ولذلك يزين به، ولا يكتمل جمال الشيء إلا به، قال تعالى واصفا جمال شراب أهل الجنة: خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: 26] ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير الآية الكريمة ما نصه: (فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم إليهم ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله- تبارك وتعالى- في كتابه، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في السنة المتواترة عنه ألانبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك ضال مضل) . انتهى «1» .
وقد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله ومثل بقية الأنبياء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون:
هلّا وضعت هذه اللّبنة! قال: فأنا اللّبنة وأنا خاتم النّبيّين» «2» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
إثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه خاتم النبيين، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى: (فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 95) .
(2) البخاري، كتاب: المناقب، باب: خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم، برقم (3535) .(2/97)
الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس) .
انتهى «1» .
الفائدة الثانية:
علل الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى ورود الآية على هذا النسق، بكلام لطيف، وهذا نصه: (ولما كان هذا النفي عامّا- يقصد نفي أبوة النبي لأحد من رجال الأمة- في جميع الأحوال إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره، أي: لا أبوة نسب ولا أبوة ادعاء، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أب للمؤمنين كلهم، وأزواجه أمهاتهم فاحترز أن يدخل هذا النوع في عموم النهي فقال: ولكن رسول الله وخاتم النبيين، أي:
هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع المهتدى به المؤمن له الذي يجب تقديم محبته على محبة كل أحد الناصح الذي لهم- أي: للمؤمنين- من برّه كأنه أب لهم) . انتهى كلامه رحمه الله «2» .
الفائدة الثالثة:
من اعترض على نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو اعترض على كونه خاتم النبيين وما يستتبع ذلك من أحكام، فقد طعن في علم الله- عز وجل-؛ لأن الآية قد بينت أن الله بمقتضى واسع علمه، قد اختص النبي بكونه خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.
الفائدة الرابعة:
إذا كان نفي أبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأي من رجال الأمة، تنسحب على أبوة النسب، فتكون هذه الآية هي من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، حيث لم يبلغ الحلم ولد من أولاده الذكور عليهم جميعا الصلاة والسلام.
17- النبي صلّى الله عليه وسلّم خليل الله:
عن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كنت متّخذا من أهل الأرض خليلا لاتخّذت ابن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» . [رواه مسلم] «3» .
الخلة لله- سبحانه وتعالى- هي أعظم مقامات العبد، بل هي منتهى تلك المقامات، فليس بعدها من مقام، فهي أرفع قطعا من مقام المحبة، حيث ثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له، ولكن الخلة لم تثبت إلا لاثنين لا ثالث لهما، هما محمد وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام.، وقد ثبتت خلة إبراهيم بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] .
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 494) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (667) .
(3) مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2383) .(2/98)
وللخلة معان كثيرة ذكرها العلماء، فالخلة من العبد معناها: الافتقار والانقطاع، فخليل الله هو المنقطع إليه وقيل: سمّي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته، وقيل: هو الذي ليس في محبته خلل.
أما خلة الله للعبد، فمعناها: نصرة العبد وجعله إماما لمن بعده، وقيل: هي كامل المحبة والاصطفاء. وأضيف فأقول: إذا كانت رؤية الله- عز وجل- ثبتت للمؤمنين يوم القيامة، وإذا كان الكلام سيحدث أيضا بين الله وبين عباده المؤمنين ليس بينه وبينهم ترجمان، فإن الخلة ستبقى هي الخصلة التي اختص بها محمد وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام- لم يشاركهما فيها أحد في الدنيا والآخرة.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
كمال عصمته صلّى الله عليه وسلّم وتمام هداية الله له، فمن ثبتت خلته لله، وخلة الله له، فقد ثبت له كمال العصمة وتمام الهداية، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر» ، رواه البخاري «1» ، وقال في حديث الباب: (ولكن صاحبكم خليل الله) .
الفائدة الثانية:
الذي اتخذه الله خليلا، لا ينبغي له أن يتخذ أحدا من خلق الله خليلا له، لأن الخليل لا يتسع قلبه إلا لخليل واحد، أما المحبة فيتسع القلب لأكثر من حبيب، والدليل على ذلك أن محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ثبتت لأصحابه رضي الله عنهم ولأزواجه.
الفائدة الثالثة:
الأخبار التي ورد فيها أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا؟ وأما إلى الله فإن علمه بحالي يغني عن سؤالي هي أخبار لا أصل لها ولم يثبت فيها حديث، وينبغي ألانتناقلها؛ لأنها تشعر بتنقص إبراهيم لجبريل- عليهما الصلاة والسلام- وذلك في قول إبراهيم: «أما لك فلا» ، كما أنها تشعر بعدم الحاجة للتوجه إلى الله بالدعاء والتضرع، فضلا عن عدم ثبوت الرواية.
الفائدة الرابعة:
وهي فائدة عامة، أراني مضطرا لذكرها في كل مناسبة؛ وذلك لعظيم أثرها في الفرد والمجتمع، ولترسخ في نفوس جميع أهل الإسلام، بل وفي نفوس غير المسلمين، وهي الحذر كل الحذر من تنقص مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الترفع عن طاعته واتباعه أو الطعن في سنته؛ لأننا إذا فعلنا ذلك- والعياذ بالله- فقد عادينا عبدا قد اتخذه الله خليلا،
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سدوا الأبواب» ، برقم (3654) .(2/99)
وبموجب هذه الخلة يغضب الله لغضبه، ويعادي عدوه، ويبغض باغضه، وينتقم ممن أراد به سوآ، وفي المقابل يثبت الخير من الله لكل من أحبه واتبع سنته صلّى الله عليه وسلّم.
18- النبي صلّى الله عليه وسلّم كليم الله:
إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم من عظيم فضله ورفيع قدره قد شارك إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- في منزلة الخلة، فقد شارك موسى- عليه الصلاة والسلام- في الكلام مع ربه قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، وهي منزلة عظيمة، قال القرطبي- رحمه الله تعالى: (تكليما مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان من يقول خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما، وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا) . انتهى «1» .
أما كلام الله- عز وجل- مع الحبيب محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد كان ليلة الإسراء والمعراج ونعلم بثبوت كلام الله لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أن الله- عز وجل- لم يخص نبيا من أنبيائه بفضيلة إلا كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم منها أوفر الحظ وأكمله، فقد شاركهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل الفضائل والشمائل- حتى المعجزات الحسية، وزاد عليهم- بفضل الله ومنته- شمائل عظيمة انفرد بها دون غيره، وقد ذكر بعضها مبسوطا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
19- تطهير قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حظ الشيطان:
عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشقّ عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظّ الشّيطان منك، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثمّ لأمه، ثمّ أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه- يعني ظئره- فقالوا: إنّ محمّدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللّون. قال أنس: وقد كنت أرئي أثر ذلك المخيط في صدره. [رواه مسلم] «2» .
الشاهد في الحديث:
قول جبريل عليه السلام: «هذا حظ الشيطان منك»
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
كانت للنبي عليه السلام طفولة يلعب فيها مع الغلمان، ويعجبه ما
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (6/ 18) .
(2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، برقم (162) .(2/100)
يعجب الغلمان، إلا أن الله- عز وجل-، عصمه منذ طفولته مما يخدش الحياء، أو يطعن في المروءة، حتى من الأشياء التي يتساهل فيها الغلمان، مثل التعرى، أو سماع المعازف والأغاني المحرمة، فهذه الأمور ما كان النبي عليه السلام يشارك فيها أقرانه حتى وهو غلام لم يجر عليه القلم بعد.
الفائدة الثانية:
اعتناء المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم غاية الاعتناء منذ صغره، ويتبين ذلك من:
1- إرسال جبريل أعظم الملائكة للقيام بهذه المهمة المباركة، وكان يكفي أن يقوم بها أي ملك آخر خاصة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما زال صغيرا.
2- عصمة الله، - عز وجل-، لنبيه منذ الصغر، باستخراج حظ الشيطان من قلبه، وهذا يدل على عصمته قبل وبعد النبوة، وأن الشيطان ليس له أي دخل في أعماله وأقواله، التي صدرت منه في كل أحواله، ومن يشكك في ذلك فقد كذّب بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن كذّب النبي فقد كذّب الله- عز وجل-، وأقول: أن الحكمة من غسل القلب بعد استخراج العلقة منه، هو تطهير مكان العلقة بعد إزالتها حتى يتأكد من التطهير الكامل للقلب، من العلقة وأثرها.
3- دلنا شرف الغاسل، وشرف المادة المستخدمة في الغسل، ونفيس الوعاء، على شرف المغسول، وهو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويدلنا أيضا على اعتناء الآمر بالغسل، وهو الله- عز وجل-.
الفائدة الثالثة:
التكاليف الشرعية للملائكة، غير تكاليف عباد الله المؤمنين، كما أن هيأتهم، ليست كهيأتنا، والدليل على ذلك استخدام الملائكة طستا من ذهب لغسل قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يقال: إن هذا قبل تحريم استخدام الذهب للمسلمين، فهذا بعيد جدّا، لأني لا أتصور أن شرائع الملائكة يدخل فيها النسخ، لعدم وجود علل النسخ في حقهم، كما أن المستخدم هنا للذهب هم الملائكة وليس النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى نقول أن هناك نسخا.
الفائدة الرابعة:
غسل القلب كان يمكن أن يكون بغير شق الصدر، وبغير إرسال جبريل عليه السلام وبغير أن يصرع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن تحققت فوائد كثيرة من هذه العملية وهي:
1- إظهار عجائب قدرة الله- عز وجل-، وما منحه الله لملائكته من عظيم خوارق العادات، فجبريل عليه السلام يفتح صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما زال غلاما، ويستخرج(2/101)
القلب ويغسله بالماء، ثم يعيده مكانه، ثم يلأم الجرح مرة أخرى، وتظهر علامة هذا الالتئام، كأنه المخيط في صدره، كل ذلك دون أن يشعر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأدنى ألم، أثناء وبعد العملية، ودون أن يستخدم جبريل أي أدوات جراحية، أو أجهزة طبية لضمان بقاء النبي صلّى الله عليه وسلّم حيّا، كل ذلك كان إظهارا لعجائب قدرة الله- سبحانه وتعالى-، فتدبر أخي المسلم.
2- إجراء هذه العملية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووجود أثر مخيط في صدره، يراه هو ويراه غيره، كلما كشف عن صدره، فيه:
أ- تذكير النبي عليه السلام بعظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض والسماوات، فيكون ذلك أدعى له بتصديق كل ما وعده الله به، حتى وإن كانت أمورا خارقة للعادة، ستحدث على غير المألوف من نواميس الكون، والدليل على ذلك أنه استقبل حادثة الإسراء والمعراج بنفس مطمئنة مصدقة لما حدث، وذلك لسابق علمه بقدرة الله، وأنه قد عايش هذه المعجزات من قبل.
ب- تذكيره صلّى الله عليه وسلّم بعناية الله به منذ صغره، فالذي اعتنى به وأرسل له جبريل يغسل صدره، لن يخذله ولن يتخلى عنه بعد البعثة من باب أولى.
ج- رؤية الصحابة رضي الله عنهم أثر المخيط في صدره، فيه تثبيت لهم، وإعلام بعلو قدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، وبيان قدرة المولى- سبحانه وتعالى-. وهذه من أعظم حكم المعجزات الحسية، قال أنس: (وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) .
كل تلك الحكم، ما كانت لتحدث لو أن غسل القلب حدث بدون شق الصدر، فمن عاين ليس كمن سمع.
الفائدة الخامسة:
بركة وشرف ماء زمزم؛ لأن جبريل عليه السلام قد غسل قلبه- عليه الصلاة والسلام.، بهذا الماء في هذه الواقعة العظيمة، ولو كان هناك ماء أشرف منه لاستخدمه جبريل عليه السلام. ولكن لا يؤخذ من هذه الواقعة اعتقاد أن ماء زمزم له مزية إذا استخدم في غسل الجسم، أو الوضوء، أو غسل كفن المسلم، كما يفعله بعض المسلمين من بلاد آسيا، وذلك للأسباب التالية:
أ- استخدام ماء زمزم كان لغسل الباطن، وهو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس لاستخدام الأعضاء الظاهرية كما في الغسل والوضوء.(2/102)
ب- ما تفعله الملائكة ليس بتشريع لنا، لأن الله لم يأمرنا بالاستنان بأفعالهم.
ج- لم يشرع لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم استخدام ماء زمزم في الغسل والوضوء، ولم يحثنا على ذلك، ولم يرتب على الوضوء والغسل بماء زمزم أي ثواب أو مزية، ومازال الصحابة والتابعون وعلماء الأمة يشربون من ماء زمزم ويدعون بخيري الدنيا والآخرة مما يدل على شرف هذا الماء واستعماله لما يستعمل له.
الفائدة السادسة:
نجزم قطعا أن هذه الحادثة كانت يقظة وليست مناما، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعاها ورآها عيانا، وكذلك رآها البعض، وذلك للأسباب التالية:
1- قول أنس: (أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه) .
2- رؤية الغلمان ما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا شهود عيان لما حدث، لقول الراوي:
(وجاء الغلمان إلى أمي- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل) .
3- لو كان غسل القلب حدث مناما، ما كان هناك حاجة إلى شق الصدر حقيقة ولأمه ووجود أثر المخيط للالتئام، لأن طبيعة المنام تختلف اختلافا بينا عن طبيعة اليقظة.
الفائدة السابعة:
وجود علقة في قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإرسال جبريل لاستخراجها، وغسل القلب من أثرها، يدل دلالة قاطعة، أن كل أحد دون النبي صلّى الله عليه وسلّم، من باب أولى، يوجد في قلبه هذه العلقة وعلى المسلم أن يعتقد ذلك، حتى يبقى في جهاد مع نفسه التي يوجد بها حظ للشيطان، كما عليه أن يسأل الله- عز وجل- الثبات في الأمر، وألا يركن إلى نفسه أبدا.
الفائدة الثامنة:
القلب هو سيد الأعضاء وهو الذي يأمرها وينهاها، فبصلاحه يصلح الجسد كله، وبفساده يفسد الجسد كله، والدليل على ذلك من الحديث، أن العلقة، وهي حظ الشيطان، موجودة في القلب وحده، ولو كان هناك عضو آخر له هذا التأثير على البدن لأمر جبريل عليه السلام بغسله.
20- ملء القلب إيمانا وحكمة:
عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أنا عند البيت بين النّائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول أحد بين الثّلاثة فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا» . قال قتادة: قلت لأنس بن مالك: ما يعني؟ قال:(2/103)
«إلى أسفل بطني فاستخرج قلبي فغسل قلبي بماء زمزم ثمّ أعيد مكانه ثمّ حشي إيمانا وحكمة» «1» .
الشاهد في الحديث:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم حشي إيمانا وحكمة» .
[فوائد الحديث]
وقد أوردت هذا الحديث، وأفردت له بابا مستقلّا، رغم مشابهته تماما لحديث الباب الذي قبله، وذلك لعدة فوائد هي:
الفائدة الأولى:
إثبات أن الواقعتين مختلفتان تماما، وأن شق صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم وغسل قلبه، قد وقع مرتين، والدليل على ذلك ما ورد في الحديث الأول: (أتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان) ، أي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يزال غلاما في رعاية ظئره، أما الواقعة التي معنا في حديث الباب، فكانت ليلة الإسراء والمعراج قطعا، فقد ورد في إحدى روايات الحديث عند مسلم: «فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة ثم أوتيت بدابة أبيض يقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه أقصى طرفه» «2» .
الفائدة الثانية:
إظهار عظيم اعتناء المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه الكريم صلّى الله عليه وسلّم عند إثبات أن واقعة شق الصدر وغسل القلب حدث مرتين لا مرة واحدة.
الفائدة الثالثة:
الوقوف على الفارق الجوهري بين الواقعتين، فالواقعة الأولى التي حدثت أيام صبا النبي صلّى الله عليه وسلّم حدث فيها إخراج العلقة التي هي حظ الشيطان من قلبه صلّى الله عليه وسلّم.
والواقعة الثانية التي حدثت ليلة الإسراء والمعراج، حدث فيها حشو القلب إيمانا وحكمة، فما حدث في كل واقعة يناسب المرحلة التي كان يمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان غلاما كان في حاجة ماسة إلى عدم تعرضه لوساوس الشيطان، أما بعد البعثة، فكان أحوج ما يكون صلّى الله عليه وسلّم للإيمان والحكمة، إيمان يعينه على مواجهة المحن والمصائب، وحكمة يتحلى بها في مواجهة المواقف والأزمات، وقد رأينا ذلك جليّا من خلال سيرته الزكية صلّى الله عليه وسلّم.
وفي كلتا الواقعتين، غسل القلب بماء زمزم لحاجة الإنسان المستمرة لطهارة القلب ونقائه، فلله الحمد والمنة.
لطيفة:
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثم حشي إيمانا وحكمة» ، وفيه:
1- بيان قدرة الله- سبحانه وتعالى- التي لا يقدر على وصفها واصف ولا يقدر على
__________
(1) مسلم بنحوه، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، برقم (164) .
(2) سبق تخريجه، انظر ما قبله.(2/104)
فهم كنهها عاقل، حيث جعل الله- عز وجل- الجواهر أعراضا، والمعنويات محسوسات، حيث جاء جبريل بالإيمان والحكمة في طست من ذهب، ورد في إحدى روايات البخاري: «ثم أوتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوّا إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه ثم أطبقه» «1» .
وعلى العبد ألا يتعجب من هذا، فإن الله كان قادرا على أن يجعل الإيمان والحكمة أعراضا نراها ومحسوسات نلمسها، ولكن قضت حكمته، عز في علاه، أن يجعل الإيمان والحكمة جواهر، ويقلبها وقتما شاء أعراضا، فالكل في قدرته سواء، وهي في حق الإنسان معجزات لأنه لم يألفها، بل ألف عكسها وضدها.
2- حشو القلب بالإيمان والحكمة، دليل قاطع على أنه ليس في قلب رسولنا صلّى الله عليه وسلّم أي محل لما يمكن أن يطرأ عليه من تغيرات إيمانية، فلو عرضت- حاشا لله- أي شبهة أو نزوة فلن تجد لها منفذا لتستقر في هذا القلب الشريف، لعدم وجود أقل مكان لها، حيث ملئ المحل كله بالإيمان والحكمة، وقد ضربت هذا المثل مع استحالته لتقريب الصورة إلى الأذهان، وليعلم كل أحد منزلة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
3- استخدام لفظ (حشي) أبلغ في إيصال المعنى المراد، وهو أتم فائدة من لفظ (ملأ) ، لأن لفظ (الحشو) يستخدم فيما ملئ بقوة، مع الحرص التام على عدم ترك أي ثغرة بدون إيصال المادة المحشو بها، أما لفظ (الملء) فهو أقل من ذلك معنى، فمع الملء قد يكون الهواء، أما مع الحشو فيستحيل، وهذا الفهم يزيدنا إيمانا بعلو منزلة نبينا صلّى الله عليه وسلّم عند ربه.
الفائدة الرابعة:
خير ما يملأ به العبد قلبه هو الإيمان والحكمة، ولو كان هناك أعظم منهما في نفع العبد لملئ به قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان هناك ما يماثلهما أو يحتاج إليه العبد مثل حاجته للإيمان والحكمة لجعلت في قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
21- إسلام قرينه صلّى الله عليه وسلّم:
عن عائشة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج من عندها ليلا قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع فقال: «ما لك يا عائشة أغرت» فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أقد جاءك شيطانك» قالت: يا رسول الله أو معي شيطان قال: «نعم» قلت: ومع كلّ إنسان قال: «نعم» قلت ومعك يا رسول الله قال: «نعم ولكن ربّي أعانني
__________
(1) البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، برقم (7517) .(2/105)
عليه حتّى أسلم» . [رواه مسلم] «1» .
الشاهد في الحديث:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» .
في الحديث فوائد منها:
الفائدة الأولى:
في شمائل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
1- خرق الله- سبحانه وتعالى- العادة له بإسلام قرينه الشيطان، وما حدث ذلك إلا بإعانة الله له صلّى الله عليه وسلّم.
2- كمال عصمته صلّى الله عليه وسلّم فبالإضافة إلى غسل قلبه بماء زمزم، وإخراج حظ الشيطان من قلبه، جاء إسلام قرينه، حتى تكتمل منظومة العصمة، وكان يمكن أن يموت ذلك القرين، أو لا يكون هناك قرين أصلا، ولكن المعجزة أنه يسلم ولا يموت، حتى يأمره بالخير، فهي معجزة على معجزة، وعصمة فوق عصمة، جاء عند مسلم: «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» ، فالقلب قد طهر وغسل ونزع منه حظ الشيطان، وملئ بدلا من ذلك إيمانا وحكمة، والقرين قد أسلم، ويأمره بالخير، واللسان قد حفظ فلا ينطق عن الهوى، والبصر قد شملته الرعاية الإلهية، فلا يزيغ ولا يطغى، والذكر قد رفع، والذنب قد محي، مع عدم وجوده أصلا، فله الحمد، - سبحانه وتعالى- أن طهر نبينا من كل ما يسوء، ومنحه كل ما يعلو به ويرفع قدره.
3- لطف النبي صلّى الله عليه وسلّم مع زوجاته وعذره لهم على ما يجدنه في نفوسهنّ من الغيرة الشديدة عليه، وعدم نهرهن على ذلك، لعلمه بضعف المرأة، ورحمته بهذا الضعف، لأنه لما رأى أن عائشة تبحث عنه، وهي متحيرة، تظن أنه قد ذهب لغيرها في ليلتها، لم ينهرها عن هذا الظن، بل لم يزد عن كلمة واحدة، (أغرت) وهذا أيضا من كمال عقله وحكمته، وتظهر أيضا فراسته، حيث علم من حال عائشة- دون أن تتكلم- ما أصابها من الغيرة.
وعلينا جميعا أن نسلك هذا المسلك مع نسائنا، فنرحم ضعفهن، ولا نعين الشيطان عليهن، ولا نضع أنفسنا في موضع الشبهات، حتى لا نشعل في نفوسهن الغيرة، التي قد تدفعهن إلى ما لا تحمد عاقبته من الأمور، وهذا امتثال لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: من الآية 21] .
4- وضاءة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند زوجاته وعلو منزلته عندهن، والاعتراف له بذلك، فهذه
__________
(1) مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، برقم (2815) .(2/106)
عائشة رضي الله عنها، المرأة التي لم يتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بكرا غيرها، التي قالت عنها أمها في حديث الإفك: إنها وضيئة، والتي كانت تصغر النبي صلّى الله عليه وسلّم، بخمس وأربعين سنة، تقول للتقليل من شأنها بجوار شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولتعظيم شأنه بجوار شأنها: (ومالي لا يغار مثلي على مثلك) .
ولتأخذ المرأة المسلمة العبرة والدرس من أم المؤمنين في معاملتها الزوجية، فلا تعالي ولا ترفّع على الزوج، بل الإقرار له بحقه ومكانته والتواضع معه، وعلى المرأة أن تعلم أن هذا الإقرار لن يحط من شأنها، بل يرفع من قدرها عند زوجها، وقبل ذلك فإنها تنال رضا خالقها ومولاها.
5- مجاهدة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لشيطانه حتى أسلم، ونستدل على أن تلك المجاهدة قد حدثت، من قولهه: «أعانني عليه» ، وجعل غاية إعانة الله أن الشيطان قد أسلم، قال «حتى أسلم» .
6- إقراره صلّى الله عليه وسلّم بالضعف والعبودية، في جنب الله- عز وجل-، وإعلان حاجته الدائمة له، وذلك من قوله: «ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم» ، وفيه أيضا تعليم للأمة وإرشاد لها، أنه لا يطلب العون إلا من الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا ينبغي للعبد أن يعتمد على ما عنده من إيمان وفضل، وليعلم كل أحد أن الاستعانة بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كفر يخرج من ملة الإسلام.
الفائدة الثانية:
في فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
1- ظهور حبها الشديد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى أنها تقلق وتتحير، عند ما تفتقده ليلا، مع تواضعها الجم، في قولها: (ومالي لا يغار مثلي على مثلك) .
2- فقهها وطلبها للعلم، وانشغالها بالأهم من الأمور عن المهم، يؤخذ ذلك من تركها لموضوع الغيرة تماما، وانشغالها بالسؤال عن الشيطان، وهل مع كل إنسان شيطان، وهل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله، وكل ذلك الاستقصاء والاستفصال منها، زادنا علما وفقها في أمور الدين، فجزاها الله عنا خيرا، وهكذا يجب أن تكون المرأة المسلمة، من الاهتمام بالأمور الشرعية، وترك المهم للسؤال عن الأهم، خاصة إذا تعلق بأمور دينها.
3- ومن فقهها أيضا، أنها لم تستح من الحق، وسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشيطان فقالت:(2/107)
(ومعك يا رسول الله) ولكن انظر كيف توسطت وتأدبت، مع مقام النبوة، حيث قالت:
(ومعك يا رسول الله) ولم تذكر في كلامها الشيطان ولم تنسبه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه قال لها: «أوقد جاءك شيطانك» . وهذا الأدب ينبغي لنا أن نتحلى به عند الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكنت قد بوبت هذا الباب بعنوان: (إسلام شيطانه) ، ثم رأيت أن هذا من سوء الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث نضيف إليه الشيطان، فغيرت العنوان إلى: (إسلام قرينه) ، ولما تدبرت الحديث؛ علمت أن هذا الأدب، قد سبقتني إليه أم المؤمنين رضي الله عنها فسبحان من جعلهم يسبقوننا في كل خير، ولا نسبقهم في أي شيء.
الفائدة الثالثة:
بشرية النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو بشر، يجري عليه كل ما يجري على البشر من سنن الله الكونية، ولا نثبت له ما يخالف البشرية، إلا بدليل من الكتاب أو السنة، حتى لا نقع في الغلو الذي نهينا عنه، والذي أهلك من كان قبلنا، فقد روى البخاري عن ابن عبّاس سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» «1» .
فما كان لنا أن نحكم أو نعتقد بإسلام قرين النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بعد ثبوت الدليل على ذلك، ويجب أن يكون الدليل صحيحا صريحا، حتى لا نقع في الكذب على الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أثبت الله- عز وجل-، في القرآن الكريم، بشرية النبي صلّى الله عليه وسلّم في آية لا تحتمل التأويل قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: من الآية 110] .
وهذه الآية أصل أصيل في إثبات كل الصفات البشرية للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ما ورد الدليل بغيره، وقد فهمت عائشة رضي الله عنها ذلك، وأثبتته في الحديث؛ لأنه لما وضح لها أن الشيطان مع كل إنسان، وكانت عائشة تتيقن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنسان، له صفات كل إنسان، سألته فقالت: (ومعك يا رسول الله) . ولولا علمها بذلك، ما سألته عن القرين أو حتى كانت تستحي أن تسأله عن ذلك، ولولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر، فيه كل صفات الإنسان، لأنكر عليها السؤال، أو وجهها إلى الحق في المسألة، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم أقرها على سؤالها، وبين لها الإجابة غاية البيان.
وأنصح كل من يقرأ كتابي هذا- مع تواضعه-، في حق خير المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، ألايأخذ منه ما يشتهي، ويترك منه ما لا يعجبه، كإثبات بشرية الرسول، لأن من فعل ذلك، فقد
__________
(1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا، برقم (3445) .(2/108)
اتبع هواه، ولم يتبع ما جاء بالكتاب والسنة، وقد تعمدت أن أستفيض في مثل هذه الأمور، حتى يتبين للناس الحق من الباطل، ولن نكون نحن أعظم حبّا للنبي صلّى الله عليه وسلّم من ربه- تبارك وتعالى-. فما أثبته الله، - عز وجل-، لرسوله الكريم، أثبتناه، وما نفاه عنه نفيناه، وما سكت عنه من الصفات، اعتقدنا أنه صلّى الله عليه وسلّم، يشترك مع الناس فيها، لعموم الآية التي ذكرتها آنفا، ولأننا متبعون ولسنا مبتدعين.
الفائدة الرابعة:
وجوب غيرة كل مسلم، يؤمن بالله واليوم الآخر، على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودليله أن عائشة رضي الله عنها كانت تغار على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تكون هذه الغيرة، لأنه زوجها ولها ضرائر، ولكن في المقابل، فإن حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، علينا جميعا أعظم من حق الزوج على زوجته، فوجب علينا أن نغار عليه صلّى الله عليه وسلّم، ومظاهر تلك الغيرة، أن نغضب إذا تعرضت سنته، لأي غمز أو لمز، بتصريح أو تعريض، في قليل أو كثير، بل علينا أن نكره من يقوم بذلك ونتجنبه، ولو كان أقرب الناس إلينا، وهذا يكون أكبر دليل على حبنا له صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الخامسة:
على كل مسلم، أن يكون دائما في جهاد مع قرينه، يسأل الله- عز وجل- دائما الثبات، لأن ليس هناك إنسان مهما ارتفع شأنه، وعلا وصفه، إلا ومعه القرين، لما ورد في حديث الباب: (قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: «نعم» قلت: ومع كل إنسان؟ قال: «نعم» ) . فإذا أثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن مع عائشة شيطان فمن باب أولى أنه مع كل إنسان، ولما سألته عائشة لم يستثن أحدا، فعلى كل مسلم أن يحذر ويحذر، فإذا كان الشيطان قد يأتي لعائشة مع مكانتها الرفيعة، فكيف لا يأتي لغيرها.
22- إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم:
أولا: إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا:
قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] .
عن البراء بن عازب: (أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أوّل ما قدم المدينة نزل على أجداده- أو قال:
أخواله- من الأنصار، وأنّه صلّى قبل بيت المقدس ستّة عشر شهرا- أو سبعة عشر شهرا.،
وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنّه صلّى أوّل صلاة صلّاها صلاة العصر وصلىّ معه(2/109)
قوم، فخرج رجل ممّن صلّى معه فمرّ على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مكّة. فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلّي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب فلمّا ولىّ وجهه قبل البيت أنكروا ذلك) .
قال زهير: حدّثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا أنّه مات على القبلة قبل أن تحوّل رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم؟! فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» .
الشاهد في الحديث:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى قبل بيت المقدس، ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ولكن كان يحب أن تحول القبلة إلى المسجد الحرام، قبلة إبراهيم عليه السلام، وكان من علامات رجائه في تحويل القبلة، أنه كان يقلب وجهه في السماء، طلبا لذلك، قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] .
ونلمح في الآية مدى إكرام الله- عز وجل- لنبي هذه الأمة، في النقاط التالية:
1- إثبات رؤية الله، - سبحانه وتعالى-، لكل أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى في حال تقليب وجهه في السماء متمنيا تحويل القبلة، وهي رؤية خاصة، علمنا منها عظيم الاعتناء به صلّى الله عليه وسلّم، والدليل على أنها رؤية خاصة، ذكرها في القرآن الكريم، وأنه ببركتها قد تحقق مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2- خص السماء بالذكر في قوله تعالى: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ؛ لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها وما يعود منها، حكاه القرطبي عن الزجاج.
3- ما كان نسخ التوجه لبيت المقدس، والأمر بالتوجه للمسجد الحرام، إلا لإرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث ذكرت الآية كل الأفعال مضافة إليه: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ، قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ، وبعد أن ذكرت الآية سبب تغيير القبلة، والأمر الخاص الموجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتوجه قبل المسجد الحرام، وجهت الآية الأمر إلى الأمة، وكأنها تابعة لنبيها، قال تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
يتفرع على ذلك، علمنا بعظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى-، لأن القبلة وهي من أعظم شعائر الله، - سبحانه وتعالى-، تحوّل لإرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينص القرآن الكريم على ذلك.
__________
(1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، برقم (41) .(2/110)
ويتفرع عليه أيضا، ضرورة اعترافنا بمنة الله علينا أن جعلنا، بفضله وكرمه، أتباعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي اصطفاه واجتباه وفضله على الأولين والآخرين، وعلينا أيضا، تعظيم هذا النبي الكريم في قلوبنا وتقديمه على كل ما نحب من أموال وأولاد ودنيا؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم أهل لذلك، وبسببه تشرفنا بالصلاة قبل أطهر بقاع الأرض وأشرفها، وهو المسجد الحرام.
وخلاصة القول أن الله تعالى، قد أرضى نبيه في الدنيا، أن جعل قبلته المسجد الحرام، كما أرضاه في الآخرة، في قوله تعالى في الحديث القدسي: «إنا سنرضيك في أمتك» . وهو الحديث التالي، فماذا بعد الإرضاء في الدنيا والآخرة، وهل من شرف بعد هذا الشرف، وإذا كان الإرضاء في حديث الباب مقيدا بالتوجه نحو البيت الحرام، وفي حديث الباب التالي مقيدا بإدخال أمته الجنة، وعدم تخليد أحد منها في النار، فإن آية سورة الضحى عامة في الإرضاء، فيدخل فيها جميع ما يرضيه ويفرحه ويسعده ويقرّ عينه صلّى الله عليه وسلّم قال تعالى:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
إثبات أن في شرع الله- سبحانه وتعالى-، ما هو حسن وما هو أحسن، فالتوجه قبل بيت المقدس حسن، ولكن التوجه قبل البيت الحرام هو الأحسن؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان له أن يتطلع إلا إلى ما هو أحسن، وما كان الشرع ليأمرنا بأقل مما هو حسن، وقد نص القرآن على وجود الحسن والأحسن، في قوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: من الآية 55] ، ولو لم يكن هناك الحسن في الشرع، ما كان هناك معنى للأمر باتباع الأحسن، ولأمرنا بمطلق اتباع ما جاء به الشرع. كما أن في قوله تعالى:
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: من الآية 106] ، دليل آخر على الحسن والأحسن.
الفائدة الثانية:
إثبات النسخ في شرع الله، حيث نسخ حكم التوجه قبل المسجد الأقصى، إلى التوجه قبل المسجد الحرام، قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: من الآية 144] .
[أقسام النسخ]
وللنسخ أقسام هي:
1- نسخ الحكم إلى ما هو أصعب:
ومثاله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: من الآية 43] ، حيث كان شرب الخمر مباحا بالأصل، فنسخ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ(2/111)
آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
2- نسخ الحكم إلي ما هو أيسر:
ومثاله قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: من الآية 187] ، فنسخ تحريم الجماع بعد الاستيقاظ من النوم ليالي الصيام، وأصبح مشروعا إلى الفجر، في كل الأحوال.
ومثاله أيضا: نسخ وجوب الثبات وعدم التولي أمام الكفار إن كانوا عشرة أمثال عدد المسلمين، قال تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: من الآية 65] ، ثم نسخ الأمر بقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: من الآية 66] ، فأجاز الله- عز وجل- التولي إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعف عدد المسلمين.
3- نسخ الحكم إجمالا دون تشريع حكم آخر:
ومثاله نسخ الأمر بالصدقة قبل مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12] ، ونسخ الأمر بالصدقة بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13] .
4- نسخ الأمر إلى الأحسن:
كنسخ التوجه نحو بيت المقدس، وهذا ليس فيه أصعب أو أسهل.
وقد استفضت قليلا، في آية النسخ، للرد على من يدعي عدم جوازه في الشرع.
الفائدة الثالثة:
مسارعة الصحابة رضي الله عنهم في طاعة الله ورسوله، حيث سمع الصحابة، وهم راكعون في الصلاة من ينادي بتحويل القبلة، فبادروا بالتوجه قبل المسجد الحرام، والعجيب أنهم لم ينتظروا انتهاء الصلاة، ليتيقنوا الخبر من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يستفسروا منه عن الحكمة، في واحدة من أعظم شعائر الإسلام، وهي القبلة، بل لم يقولوا: نبدأ من الفريضة القابلة، بل توجهوا على هيئتهم وهم راكعون، وهذا منتهى الطاعة والامتثال لأوامر الشرع، مع الأدب الجم مع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الرابعة:
بيان ما كان عليه الصحابة- رضي الله عنهم جميعا- من الحرص على تبليغ أوامر الشرع، والفقه في الدين، أما الحرص فنأخذه من قول الراوي: (فخرج رجل ممن صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع(2/112)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مكة) .
أما فقههم فمن النقاط التالية:
1- أنهم لم يخرجوا من الصلاة، ليعيدوا ما صلوه قبل بيت المقدس، وذلك لعلمهم أن ما انقضى من الصلاة قبل معرفتهم تحويل القبلة صحيح مقبول عند الله، وأنهم مكلفون بأوامر الشريعة من وقت العلم، وليس من وقت النزول.
2- أنهم داروا كما هم في الصلاة، ولم يفعلوا أي ركن بعد الإعلام بتحويل القبلة، وذلك لعلمهم أن الصلاة تبطل، إذا توجه المسلم لغير القبلة، ولو في ركن واحد من أركانها.
3- علمهم أن هذه الحركة في الصلاة، وهي الاستدارة، لا تبطل الصلاة.
4- عدم إفتائهم في دين الله بغير علم، وهذا يدل على الفقه وكمال الورع، انظر إلى قول الراوي: (إنه مات على القبلة قبل أن تحوّل رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم) .
5- كما يتجلى فقه الصحابة في روايتهم للحديث الشريف، وكيفية صياغته، والاعتناء بملابسات الواقعة التي يستنبط منها الأحكام والدروس، وانظر كم استفدنا من قول الراوي: (فداروا كما هم) ، وكل السّنة النبوية جاءت بمثل هذه الصنعة المتقنة، مما جعلنا وكأننا نعيش معهم ونسمع منهم، وهذا الفن لا يأتي به اليوم من يحملون أعلى الشهادات العلمية، من سهولة في الألفاظ، ودقة التعبير والأمانة في النقل، ولو في الشيء اليسير.
والدليل على صحة كل ما فعلوه في الصلاة، أن أمرهم قد اشتهر، وما علق عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسكوته عليه علامة على موافقته للصواب.
الفائدة الخامسة:
إعجاب اليهود وفرحهم بأن نتبعهم في شيء من ملتهم، وغضبهم لمخالفتنا لما هم عليه، لقول الراوي: (وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى قبل البيت أنكروا) ، وقد حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخالف أهل الكتاب في كل شيء.
الفائدة السادسة:
اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بهذه الأمة، ومن مظاهر ذلك، الإجابة عن كل ما يجول في خاطر أفرادها، ورفع الالتباس عن كل ما يشتبه عليهم بقرآن يتلى إلي يوم القيامة، حتى تكون الأمة على بينة من أمرها، وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة، وهذا من أعظم الأدلة على شرف هذه الأمة، وعلوّ منزلتها، وحب الله لها، قال الراوي(2/113)
(وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم) ، فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة: من الآية 143] .
الفائدة السابعة:
إطلاق الإيمان على أعمال الجوارح؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما أهمهم شأن من مات وقد صلى إلي بيت المقدس، نزل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، فأطلقت الآية لفظ الإيمان على الصلاة.
الفائدة الثامنة:
قال العلامة ابن حجر العسقلاني رحمه الله، في شرح هذا الحديث ما نصه: (وفيه أن تمني تغير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك) «1» . انتهى قوله. وكنت أتمنى أن يقيد ذلك التمني في تغير بعض الأحكام، بعصر الوحي والتشريع، إذ بعد اكتمال التشريع لا يجوز تمني تغيير أي من الأحكام الشرعية، لأنها بعد ثبوتها تكون في غاية الكمال والجمال، وأي أمنية من أحد بالتغيير يكون تمنيا للنقص، لأنه ليس بعد الحق إلا الباطل.
ثانيا: إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله- عز وجل-: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ... الآية، وقال عيسى- عليه السّلام.: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فرفع يديه وقال: «اللهمّ أمّتي أمّتي» ، وبكى، فقال الله- عز وجل-: «يا جبريل اذهب إلى محمّد- وربّك أعلم- فسله ما يبكيك؟
فأتاه جبريل- عليه السّلام- فسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال- وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمّد فقل: إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» . [رواه مسلم] «2» .
الشاهد في الحديث:
قول الله تعالى: «يا جبريل اذهب إلى محمّد فقل إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» .
ومن المناسب أن نذكر المقصود من الإرضاء في جملة شمائله صلّى الله عليه وسلّم المستفادة من الحديث ونجعلها على هيئة نقاط:
النقطة الأولى: حسن تدبره صلّى الله عليه وسلّم
وتأمله في آيات الله- عز وجل- وهو يتلوها، لأنه لما قرأ قول إبراهيم في قومه، وكذا قول عيسى، بكى صلّى الله عليه وسلّم، وما بكى إلا بعد تفكر وتدبر
__________
(1) فتح الباري (1/ 98) .
(2) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته، برقم (202) .(2/114)
لأحوال الأمم وقول الأنبياء في أتباعهم، وأن من أتباع الأنبياء من سيعذب ويدخل النار.
النقطة الثانية: رقة قلبه صلّى الله عليه وسلّم
حيث إنه بكى وهو يدعو الله، والمسلم إذا استشعر- وهو يدعو- فقره وضعفه وشدة حاجاته إلى من يسمع دعاءه، وأنه إذا استجيب له سيكون سعيدا، وإذا ردّ عليه الدعاء لعدم اكتمال شروطه، سيكون ذليلا، مع استحضار عظمة وجلال من يدعوه، وهو الغني الحميد، القوي العزيز، وأنه إذا أراد شيئا قال له: كن، إذا استشعر العبد كل ذلك، بكى أملا في الإجابة، وخوفا من رد الدعاء.
النقطة الثالثة: خوفه صلّى الله عليه وسلّم
من أن يعذب أحد من أمته في النار، والمقصود من الأمة هنا كل أتباعه صلّى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة، يخاف كل ذلك الخوف ويبكي، وهو الذي بشره الله- سبحانه وتعالى-، بالمقامات العاليات الرفيعة يوم القيامة، التي لن يشاركه فيها أحد، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، يخاف هذا الخوف وهو يعلم أن وعد الله متحقق له ولو لم يؤمن به أحد.
النقطة الرابعة: حسن تعبده لله- عز وجل
-، وأدبه البالغ مع مقام الرب- تبارك وتعالى- نأخذ ذلك من:
1- توجهه صلّى الله عليه وسلّم إلى الله بالدعاء، لما أحزنه أمر من الأمور، وهذا من كمال تعبده، وحسن ثقته بالله، واعتماده عليه.
2- رفع يديه صلّى الله عليه وسلّم لإعلان كامل الافتقار، والتذلل بين يديه، فالذي يدعو هو الفقير، والمدعوّ هو الغني الحميد.
3- افتتاحه صلّى الله عليه وسلّم الدعاء بقوله: «اللهم» .
4- بكاؤه صلّى الله عليه وسلّم في الدعاء إعلانا لشدة حاجته لإجابة الدعاء، وأن الأمر المدعو به قد أحزنه وأهمه. وهو أيضا، لاستدرار رحمات الله وإحسانه.
النقطة الخامسة: إثبات سماع الله لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم
، وهو سماع خاص، ونجزم أنه سماع خاص، لحسن إجابة الله لهذا الدعاء، كما سيأتي.
النقطة السادسة: جميل حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم
ويظهر ذلك في كيفية إجابة هذا الدعاء:
1- إرسال جبريل، عظيم الملائكة وأمين وحي السماء، ليسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يبكيه وفيه:(2/115)
أ- أنه كان يكفي أن يلهم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع دعاءه ولن يخزيه.
ب- كان يكفي أن يرسل الله جبريل ليخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع دعاءه واستجاب له، ولكن الله من عظيم اعتنائه بسيد البرية، أرسل جبريل أولا، ليسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يبكيه، والله أعلم به، ثم يرسله مرة أخرى ليعلمه إجابة دعائه. ولا يخفى على المتأمل في هذه الوقفة مدى حفاوة الله بنبيه صلّى الله عليه وسلّم.
2- أمر الله جبريل عليه السلام أن يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يبكيه، فكأن بكاء النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان وراء إرسال جبريل، ولا يخفى أيضا أن هذا من عظيم اعتناء الله برسوله، حيث إن بكاءه كان سببا في حديث الله مع جبريل، وإرسال جبريل مرتين إلى الأرض، ونعرف قدر المعتنى به من عظيم قدر المعتني.
3- كانت الإجابة عقب الدعاء، يدلّنا على ذلك استخدام الفاء، في قوله: (فقال الله عز وجل-: يا جبريل) مما يشعر بعدم وجود فاصل زمني بين الدعاء والإجابة، وهذا يدل على شدة الاعتناء، ويؤكد أنه كان سماعا خاصّا.
4- كمال الإجابة، ويتمثل في:
أ- توجيهها مباشرة من الله- عز وجل- إلى رسوله، ولم يكن لجبريل دخل فيها أو واسطة، قال تعالى: «فقل: إنا سنرضيك» ، ولم يقل الله: (فقل له: إني سأرضيه) .
ب- استخدام لفظ: «سنرضيك» دون غيره؛ لأن الحرص على الإرضاء، لا يكون إلا ممن يحب لمن أحب، ويدل اللفظ على أن مراد الله هو أن ينال النبي صلّى الله عليه وسلّم غاية ما يتمناه، ويفرحه ويقر عينه في الآخرة كما أقر عينه غاية الإقرار في الدنيا، ونلمح أنه لم يقل له:
سنفرحك في أمتك، لأنه قد يحدث الفرح مع عدم حدوث الرضى الكامل.
ج- إيراد ألفاظ، سنرضيك وأمتك ولا نسوءك، بكاف المخاطبة، يشعر أن هذه الإجابة التي تتمثل في رحمة الله بهذه الأمة، إنما كان تشريفا وإكراما لنبيها صلّى الله عليه وسلّم، خصوصا أنها نزلت بعد بكائه ودعائه.
د- نصت الإجابة على أمرين، هما الإرضاء وعدم المساءة؛ لأن الإرضاء قد يحدث بالعفو عن بعض أفراد الأمة ويدخل الباقي النار، لكن بعدم المساءة ضمن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لن يبقى أحد من أمته مخلدا في النار.
هـ- استخدام لفظ: «ولا نسوءك» يدل على الحرص على عدم إصابة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأدنى ما(2/116)
يكره، فلم يقل: ولا نغضبك أو لا نحزنك، فقد تحدث أدنى المساءة مع رفع الغضب والحزن.
النقطة السابعة: عظيم بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم
، حيث عمّت تلك البركة جميع أفراد أمته من عصر الصحابة إلى آخر من يموت مؤمنا قبل قيام الساعة، لأن الإجابة جاءت بلفظ: «في أمتك» بغير تقييد لطائفة دون طائفة، أو لعصر دون عصر. فمن رحمة الله أنه لم يقل: (في صالح أمتك) أو (أتباعك من أمتك) ، أو أي لفظ يشابه ذلك.
وفي الحديث فوائد أخرى منها:
الفائدة الأولى:
رفيع قدر جبريل عليه السلام، حيث يكلمه الله- سبحانه وتعالى- ويختصه أن يزفّ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه البشرى العظيمة.
الفائدة الثانية:
إثبات صفة الكلام لله- عز وجل-، وهو يتكلم وقتما شاء بما شاء، وما دام ثبت الكلام لله، علمنا أن الكلام صفة كمال، كما أن عدم الكلام أو العجز عنه، صفة نقص، ومن حديث الله مع جبريل، علمنا أيضا خطأ من قال: إن الله تكلم بما شاء منذ الأزل؛ لأن السياق يدل على أن الله ما تكلم بذلك إلا بعد أن سمع دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلماذا التأويل والتحريف وتحكيم العقل القاصر.
الفائدة الثالثة:
قد يسأل الله- عز وجل- العبد وهو أعلم منه بالإجابة، وذلك لحكم كثيرة، ذكرت إحداها آنفا، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: من الآية 116] ، فقد يكون السؤال للتوبيخ أو لإقامة الحجة على المسئول أو السامع، أو للتقرير.
الفائدة الرابعة:
وجوب أن يقر جميع أفراد الأمة بفضل نبيهم، وأن يشعروا بالامتنان له، على رحمة الله الحاصلة لهم بسبب إرضاء الله لنبي الأمة، وأن كل هذا الفضل المتوالي من الله كان بسببه صلّى الله عليه وسلّم.
ويجب أن يكون هذا الامتنان بالقلب والقول والفعل، ومن ذلك: حبّه صلّى الله عليه وسلّم أكثر من النفس والمال والولد، وكثرة الصلاة عليه، واتباعه سنته الشريفة، والذب عنها، ومناصرة من يحبها، ومعاداة من يجافيها، وتعظيم أهل بيته، وحب أصحابه وكثرة الترضي عنهم، وكفّ اللسان عما شجر بينهم، مع ذكر محاسنهم.
الفائدة الخامسة:
حث جميع المسلمين على اتباع السّنة وعدم ارتكاب البدعة التي(2/117)
تخرجهم من دائرة (أمة النبي) ، حتى تشملهم رحمة الله- عز وجل-، وعلينا جميعا أن نتذكر أن بعض طوائف من هذه الأمة سيحال بينهم وبين ورود الحوض، لإحداثهم في الدين ما ليس منه، فإذا أخبرت الملائكة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، دعا عليهم بالهلاك، في وقت لا يستطيعون أن يرفعوا عن أنفسهم شؤم هذا الدعاء بالتوبة أو العمل الصالح، والعجيب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحسبهم من أمته، والظاهر أن ذلك بسبب علامات السجود والوضوء الظاهرة فيهم.
فقد روى البخاري، عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم» . قال أبو حازم: فسمعني النّعمان بن أبي عيّاش وأنا أحدّثهم هذا فقال: هكذا سمعت سهلا؟ فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدريّ لسمعته يزيد فيه: قال: «إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» «1» .
23- كماله وعصمته صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [الأحزاب: 21]
الشاهد في الآية:
جعل الله- عز وجل- الرسول صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة لنا، نقتدي به في كل شيء، لذا نقطع أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم معصوم، وأن كل ما فعله، موافق للصواب والحكمة، ظاهرا وباطنا، يرضى عنه الرب- تبارك وتعالى-، ويكافئ عليه خيرا، وإلا فكيف يأمرنا الله باتباع من يزل أو يخطئ، والله لا يأمر إلا بالعدل، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] ، وبالقطع كان صلّى الله عليه وسلّم معصوما؛ لأن الله أمرنا باتباعه المطلق، فلو أن النبي بدر منه أي شيء محرم، حاشا لله، واتبعه أحد في هذا الفعل المحرم امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى-، فلن يخرج أمر المتبع من حالين، إما أن يحمل وزرا، وهذا ينافي كمال عدل الله، وإما أن يثاب وهذا ينافي بالغ حكمته- عز وجل-، فثبتت عصمته صلّى الله عليه وسلّم من
__________
(1) البخاري، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... ، برقم (7051) .(2/118)
الصغائر والكبائر، ولا شك أن الذي ثبتت له العصمة في كل شيء، يثبت له الكمال البشري في كل أحواله، وهذا ما أردت إثباته، فلله الحمد والمنة، على عصمة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وإليك بعض فوائد الآية:
الفائدة الأولى:
تزكيد النبي بالغ التزكية، من الوجوه التالية:
1- إثبات أن كل ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العادات والعبادات، في الأمر والنهي، في القول والفعل، في الجد والضحك، في الرضا والغضب، في النوم واليقظة، في الأكل والشرب، في الحل والترحال، لنا فيه قدوة وأسوة، لأن الآية لم تحدد مجال الأسوة، فلم تقل: لقد كان لكم في عبادات رسول الله أسوة حسنة، ولكن جعلت الآية الأسوة في كل شخصه الكريم صلّى الله عليه وسلّم، من شعر رأسه حتى أخمص قدميه، من أول حياته حتى مماته صلّى الله عليه وسلّم، في كل ما تفوه به في كل حالاته، فهو في نفسه بكل ما فيه أسوة.
2- افتتحت الآية الكلام بمؤكد، وهو لَقَدْ والتي تفيد التحقق، وكانَ التي تفيد ثبوت الأمر.
3- جعلت الآية كل ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم موافقا للصواب، بل نزهت كل تلك الأفعال عن الخلل، حيث وصف الله الأسوة بأنها حسنة، وحاشا لله، أن يصف ما فيه خلل بالحسن.
4- يتفرع على ما سبق، أن كل أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ظاهرة وباطنة، مقبولة عند الله- سبحانه وتعالى-.
5- ذكرت الآية أن في النبي صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، فليست تلك الأسوة لأي أحد، فهذه أبلغ تزكية لصاحب الأسوة، أن يقتفي أثره من حقق الإيمان بالله واليوم الآخر.
الفائدة الثانية:
التهديد الشديد لمن يطعن في أي شيء من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، قولية أو فعلية، أو يطعن في شيء يخص عاداته أو عباداته، لأن كل أحواله صلّى الله عليه وسلّم مزكاة من الله- عز وجل-، فمن طعن في شيء منها، فقد رد تزكية الله، أو ادعى أن الله قد زكى ما يستحق الذم، أو أن الله لم يطلع على ما يستحق الطعن من أفعاله صلّى الله عليه وسلّم، وننزه الله من كل ذلك.
فعلى كل مسلم، أن ينتبه لهذه الأمور عند الحديث عن سنة خير الأنام، ونخشى على من يتعرض لها بأدنى أدنى لمز أو غمز، أو لم يرض بها كمنهج للحياة، أو يحكم عليها بعدم ملاءمتها لظروف العصر، نخشى عليه سوء الخاتمة.(2/119)
الفائدة الثالثة:
نستفيد من الآية أن كل من اتبع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في عاداته واستحضر نية الاقتداء أنه يثاب على عمله هذا، حيث إن الآية حثت على مطلق الاتباع، لأنها لم تقيد الأسوة في العبادات، دون العادات، وكل ما حث الله عباده على فعله، فلهم فيه الأجر والمثوبة.
والدليل على هذا الفهم، أن الصحابة رضي الله عنهم، قد اقتفوا أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء، دون تفريق بين عادة وعبادة، ألم تر إلى أنس رضي الله عنه كيف أحب الطعام الذي يحبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد بينت ذلك في مواضع عديدة من هذا الكتاب.
الفائدة الرابعة:
يقوى الاتباع ويضعف، بقوة وضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، ولأن الناس مختلفون في اليقين، فهم متفاوتون في الاتباع، ويجب أن يعلم المسلم أنه بالاتباع سيزيد اليقين عنده، فالعلاقة بين الأمرين متلازمة.
الفائدة الخامسة:
لا يقدح في عصمته صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل خلاف الأولى، بناء على عدم وجود أمر من الله في تلك المسألة، أو أخذا بمبدأ الشورى، المأمور به المهم أن الله- سبحانه وتعالى- يدله ويأمره بالأولى والأحسن في كل مسألة، وتستقر السنة على ذلك، وتكون السنة كلها موافقة للصواب، والأحسن في كل أمر.
24- يبيت صلّى الله عليه وسلّم يطعمه ربّه ويسقيه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال، فقال: له رجال من المسلمين: فإنّك يا رسول الله تواصل! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّكم مثلي، إنيّ أبيت يطعمني ربّي ويسقين» . فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثمّ يوما ثمّ رأوا الهلال، فقال: «لو تأخّر لزدتكم» . كالمنكّل بهم حين أبوا) «1» . [رواه الشيخان] .
الشاهد في الحديث:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» ، ومناسبة هذا القول أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يواصل صيام عدة أيام من شهر رمضان بدون إفطار فلما أراد الصحابة أن يفعلوا مثله ذكر لهم هذه المقولة.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
اجتهاده صلّى الله عليه وسلّم في العبادة، حيث إنه كان يواصل عدة أيام في شهر رمضان بدون إفطار، دليله: (فقال له رجال من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل) .
__________
(1) البخاري، كتاب: الحدود، باب: كم التعزير والأدب، برقم (6851) .(2/120)
الفائدة الثانية:
شفقته صلّى الله عليه وسلّم ورحمته بالأمة، حيث نهى الأمة عن وصال الصيام، مع أنه كان يواصل، قال الراوي: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال) .
الفائدة الثالثة:
اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم دون البشر- بأمور تبين فضله وتزيد شرفه، ودليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم مثلي» ، فنفى أن يكون أحد من الصحابة مثله، ووضح صلّى الله عليه وسلّم وجه عدم المثلية، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم يبيت يطعمه ربه ويسقيه، وذكر الإمام النووي في شرح الحديث رأيين لأهل العلم:
أ- أن الله يجعل فيه قوة الطاعم والشارب ورجح الإمام النووي هذا الرأي، وحجته في ذلك أنه إذا أكل حقيقة لم يكن مواصلا.
ب- أنه صلّى الله عليه وسلّم يطعم من طعام الجنة كرامة له.
أقول: إن الرأي الثاني- غير مستبعد- لأنه لا يلزم من أكله من طعام أهل الجنة منافاة الصيام، لعدم علمنا بطبيعة هذا الأكل وكيفيته، ولا داعي أن نعدل عن ظاهر الحديث.
وأي من الرأيين كان صحيحا، فإننا نعتقد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يطعمه ربه ويسقيه، وهي كرامة عظيمة له صلّى الله عليه وسلّم.
وأود أن أوضح هنا أن عدم مثلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه لا تقتصر على هذه المسألة، ولكن ثبتت عدم المثلية في أمور كثيرة، ذكرتها في مواضع مختلفة من هذا الكتاب.
الفائدة الرابعة:
حرص الصحابة رضي الله عنهم على متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر من أموره، حتى الأمور التي فيها مشقة ظاهرة، حيث إنهم أبوا أن ينتهوا عن الوصال، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين لهم سبب قدرته على الوصال، ففي الحديث: (فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما) .
الفائدة الخامسة:
حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على تربية أصحابه رضى الله عنهم، لأنهم لما أبوا الانتهاء عن وصال الصيام، واصل بهم يومين، ولولا رؤية هلال شوال لواصل بهم اليوم الثالث تعزيرا لهم، وليعلموا أنه لا طاقة لهم بالوصال مثله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤخذ منه اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم للتربية العملية إذا لم تجد التربية القولية، بل قد يصل الأمر إلى حد التعزير بغرض التعليم، إذ ورد في الحديث «كالمنكل بهم» .
25- زوّجه ربّه من فوق سبع سماوات:
عن أنس قال: (لمّا انقضت عدّة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد: «فاذكرها عليّ» . قال:(2/121)
فانطلق زيد حتّى أتاها وهي تخمّر عجينها، قال: فلمّا رأيتها عظمت في صدري حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرها، فولّيتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن) . [رواه مسلم] «1» .
الشاهد في الحديث:
قول أنس رضي الله عنه: (وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن) .
ملخص القصة:
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تبنى زيد بن حارثة ونسبه إليه، فكان يدعى: زيد ابن محمد، وقد تزوج زيد من زينب بنت جحش، ابنة عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أراد الله- عز وجل- أن يبطل مسألة التبني، نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فدعى زيد مرة أخرى إلى أبيه، وبقيت مسألة أخرى كانت قد استحكمت في نفوس الناس، وهي أن الرجل المتبنّي، لا يحل له أن يتزوج بمطلقة من تبنّاه لأنها بمثابة زوجة ابنه، فأوحى الله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أن زيدا سيطلق زوجته، ثم يتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليبطل تلك العادة، وكان زيد يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم، يشاوره في طلاق زوجته، فيأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصبر عليها ويمسكها بالمعروف ويخفي ما أوحى الله إليه، ولما تم أمر الله بالطلاق وانقضت عدة زينب- رضي الله عنها.، أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا إلى مطلقته يخبرها برغبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالزواج منها، فقالت: أشاور ربي، أي أستخير، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] ، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على زينب بغير إذنها.
الدروس والعبر
من الآية الكريمة والحديث الشريف:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1- بيان فضل ومكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، ووجه ذلك:
أ- أنه سبحانه أنزل قرآنا كريما يتلى إلى يوم القيامة بتزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم من زينب بنت جحش.
__________
(1) مسلم، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، برقم (1428) .(2/122)
ب- أن يتولى الله- عز وجل- أمر تزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينسب ذلك إلى نفسه الكريمة المقدسة، قال تعالى: زَوَّجْناكَها.
ج- تنويع الله- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم صور زواجه، فقد أحل الله له، أن يتزوج بمن وهبت نفسها له وأن يتزوج وهو محرم، ثم يكون غاية التكريم والتشريف أن يزوّجه الله بنفسه بدون ولي ولا شهود ولا حتى مهر، وتدبر حال النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يدخل على امرأة أجنبية عليه بدون إذن ويخبرها أنه زوجها، ورد في الحديث: (ونزل القرآن وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن) ، وهل بعد إذن الله من إذن؟ وهل أمر هذا الزواج يحتاج إلى إشهار وشهود بعد إعلان القرآن.
وهذا التنويع في صور الزواج للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من أفراد الأمة، إنما يدل على شرفه وفضله، وإرادة الله الشرعية في التوسعة عليه.
2- بيان أن كل ما يخص النبي صلّى الله عليه وسلّم من عادات أو عبادات تعدّ من الأمور العظيمة التي يتولى الله- عز وجل- معالجتها، كأمر الزواج وتحزّب النساء عليه، وتأدب أصحابه معه وكيفية دعائه، وآداب الاستئذان منه، وآداب دخول حجراته لتناول الطعام، وكذا الرد على مبغضيه، وغير ذلك كثير مما ذكرته في مواضع مختلفة من هذا الكتاب.
3- إبلاغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته بهذه الآية، لهو من أكبر دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وأكبر برهان أنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يسعه، بل لا يستطيع أن يكتم شيئا من الوحي المنزل، ولو كان بمقدوره أن يكتم شيئا لكتم قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ.
4- في الآية دليل على اعتناء الله- عز وجل- بتربية نبيه صلّى الله عليه وسلّم تربية ربانية لا تقبل أدنى أدنى التفات عن الحق، فالله- عز وجل- قد صوب نبيه صلّى الله عليه وسلّم، لما أمر زيدا أن يبقى على زوجته، مع علمه أن الله قد قضى بطلاقها، وفيه أيضا أن الله لا يستحي من الحق، فمع حب الله العظيم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وعلم الله- تبارك وتعالى- أن الأمر كان صعبا جدّا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلا أن الله أوحى لنبيه باية قد تكون هي الأشد وقعا على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأقول: إن بعض العلماء- رحمهم الله تعالى ونفعنا بعلمهم- يذكرون دائما هذه القصة من باب تزكية أم المؤمنين زينب بنت جحش، من حيث كونها الزوجة الوحيدة، التي زوّجها الله من فوق سبع سماوات، وأنا أقر لها بهذا الفضل العظيم المبارك، وحقّ لها أن(2/123)
تتمدّح بذلك بين أمهات المؤمنين، بل بين نساء الأمة جميعا، ولكن ما كان ليثبت لها هذا الفضل العميم لولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي تزوجها، ولذلك نلمح في القصة أولا فضل الله على نبيه، ثم فضله على أم المؤمنين، زينب رضي الله عنها.
الفائدة الثانية:
في فضل زينب- رضي الله عنها-:
1- أن الله- عز وجل- هو الذي تولى أمر زواجها، وكانت تفخر على بقية أمهات المؤمنين بذلك.
2- تمسكها بما علّمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمر الاستخارة في كل شيء، حتى ولو كان أمرا ظاهره كل الخير، وتتنافس عليه كل امرأة من نساء الأمة، قالت- رضي الله عنها-: (ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي) ، قال ابن حجر كلمة جميلة في تعليل استخارتها، فقال:
(ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه صلّى الله عليه وسلّم) . انتهى «1» .
وإن صح هذا الاستنباط الجميل، فيكون ذلك أجمل وأكمل في حقها، لترويها في الأمر وعدم اندفاعها، مع التفكير في العاقبة، مع علمها بقدر النبي صلّى الله عليه وسلّم فما فائدة الفرح العاجل بالزواج منه صلّى الله عليه وسلّم، ثم قد تكون العاقبة غير محمودة- حاشا لله- إن هي لم توفّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حقه ولكنها كانت- ولله الحمد- خير زوجة لخير زوج مشى على الأرض.
الفائدة الثالثة:
في مناقب زيد رضي الله عنه:
1- أبدأ بما هو الأجل والأعظم في حقه وهي مرتبة رفيعة عالية، لم يشاركه فيها أحد من الصحابة رضي الله عنهم جميعا- مع سبقهم له في الإسلام وعلو قدرهم، وهذا الأمر هو ذكر اسمه في القرآن، وقد حدث ذلك لتعويضه عن أبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، التي حرم منها، بعد تحريم الله للتبني ووجوب أن ينسب الرجل إلى أبيه، قال القرطبي- رحمه الله تعالى: (فلما نزع منه هذا الشرف وهذا الفخر وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يخصّ بها أحدا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي أنه سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب نوه به غاية التنويه فكان في هذا تأنيس له وعوض عن الفخر بأبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم له) . انتهى «2» .
ويمكن أن أضيف إلى أن ذكر اسمه في القرآن كان من باب مكافأته على اختياره أن يكون عبدا عند
__________
(1) لم أقف عليه من قول ابن حجر، وهو من كلام النووي رحمه الله. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 228) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (14/ 194) .(2/124)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحرية عند أهله، ثم طاعته المطلقة وأدبه الجم مع الله ورسوله، كما سيأتي.
2- طاعته المطلقة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعدم شعوره بأي غضاضة من تنفيذ أي أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذهب يخطب زينب- زوجته سابقا- للنبي صلّى الله عليه وسلّم، دون أدنى اعتراض أو شكوى، ورد في الحديث: (لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد فاذكرها عليّ قال: فانطلق زيد حتى أتاها) . هكذا دون أدنى تردد.
3- أدبه الجم رضي الله عنه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، في كل ما يخصه، فقد ذهب يخطب زوجته السابقة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي عاشرها وأفضى إليها وأفضت إليه، يكلمها طوال مدة زواجه إياها بدون تكلف، وهل يتكلف أحد مع زوجته! وهل يستطيع أحد أن يحول الانبساط في الكلام وعدم التكلف في التعامل- بين عشية وضحاها- إلى إجلال وإكبار وعدم القدرة حتى إلى النظر، لا يستطيع ذلك إلا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهيا نرى كيف عامل زيد زينب رضي الله عنها:
أ- لقد عظمت في صدره وما استطاع أن ينظر إليها- وكان ذلك قبل الحجاب- قال زيد: (فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرها) . ذكرها ذكرا فقط ولم تتم الخطبة ولم يتزوجها بعد، قال ابن حجر في الفتح: (هابها واستجلها من أجل إرادة النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوّجها فعاملها معاملة من تزوجها صلّى الله عليه وسلّم في الإعظام والإجلال والمهابة) . انتهى «1» .
وأقول: إنه نظر فيما يمكن أن يئول إليه أمر زينب بنت جحش- رضي الله عنها- فلو لم يجلّها ويوقّرها وأصبحت يوما زوجا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فمن المؤكد أنه سيشعر بذنب عظيم.
ب- ولاها ظهره ونكص على عقبه، أي تأخر عنها وأعطاه ظهره، ورد في الحديث:
(فوليتها ظهري ونكصت على عقبي) ، قال ابن حجر: (لما غلب عليه الإجلال تأخر وخطبها وظهره إليها لئلا يسبقه النظر إليها) . انتهى «2» . ومثل زيد رضي الله عنه في هذه الحادثة، كمثل رجل مضطر للوقوف بجانب النار، ولكنه يخشى أن يقع فيها أو يصيبه لفحها، فماذا يفعل؟
يتأخر عنها ويعطيها ظهره، فهم يعتقدون أن الوقوع في محارم النبي صلّى الله عليه وسلّم، كالوقوع في النار، يجب الحذر كل الحذر عند التعامل مع تلك المحارم.
__________
(1) لم أقف عليه من قول ابن حجر، وهو من كلام النووي رحمه الله. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 228) .
(2) انظر السابق.(2/125)
وأقول: إذا كان هذا هو مسلك الصحابة رضي الله عنهم في تعظيم وإجلال وتوقير امرأة أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم لخطبتها، فكيف بالتي تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم ونالت شرف الدخول بها، من المؤكد أن الأمر سيختلف كثيرا.
4- ثناء الله- عز وجل- عليه غاية الثناء، قال تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أي أنعم الله عليه بالإسلام، فهذا يبين كمال إيمان وتمام إخلاص زيد رضي الله عنه؛ لأن الإسلام بدون إيمان وإخلاص لا يمدح العبد به، ومن أنعم الله عليه فتمّ إيمانه وحسن إسلامه فقد وجبت له الجنة.
تنبيه هام جدّا:
ذكر القرطبي وغيره من المفسرين في سبب نزول هذه الآية ما نصه:
(اختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظيما بالشرف قال له: وَاتَّقِ اللَّهَ- أي فيما تقول عنها- أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه) . انتهى «1» .
وكأن شيخنا الجليل الشيخ السعدي قد مال لهذا التفسير، فقال في الدروس المستفادة من الآية ما نصه: (إن المحبة التي في قلب العبد لغير زوجته ومملوكته ومحارمه إذا لم يقترن بها محظور، لا يأثم عليها العبد ولو اقترن بذلك أمنيته أن لو طلقها زوجها لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما) . انتهى «2» .
وأقول: إذا كان كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب السنة المطهرة المعصوم من ربه- تبارك وتعالى-، فإني أرد هذا الفهم لسبب نزول هذه الآية ردّا جميلا، وأنزه مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أبلغ التنزيه أن يقع في قلبه حب زينب رضي الله عنها أثناء اقترانها بمحبوبه زيد بن حارثة، كيف يعقل أن يقع النبي صلّى الله عليه وسلّم في مثل هذا الأمر، وهو المزكى من ربه- سبحانه وتعالى- في كل ما أتى وترك.
ومع اعتقادي أن إبطال هذا الكلام لا يحتاج إلى برهان لكني أذكر بعض الأدلة على ما ذكرت وهي:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 189) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (666) .(2/126)
1- لم يذكر العلماء دليلا واحدا صحيحا على صحة ما ذكروا من أسباب نزول هذه الآيات، ومعلوم أن سبب نزول الآيات توقيفي لا اجتهاد فيه قطعا.
2- هذا الاجتهاد الخاطئ في سبب نزول الآية الكريمة يفتح بابا من أبواب جهنم يدخل منه أعداء الإسلام، فيمكن أن يقولوا في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قالوه في حق داود عليه السلام، من أنه كان يرسل الرجل للغزو في سبيل الله حتى يموت، ويتزوج هو من زوجته التي أحبها، كما أقول: ألا يخشى الصحابة أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم يحب واحدة من زوجاتهم.
3- سبب زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من زينب قد جاء النص القرآني به أوضح ما يكون، قال تعالى: زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وبذلك يكون ما ذكره العلماء مناقضا لصريح القرآن.
4- توجيه مثل هذا اللوم الشديد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، لا يكون إلا على إخفائه لشيء علمه من وحي الله تعالى، وهو أنه سيتزوج زينب رضي الله عنها بعد أن يطلقها زوجها، ولا يستقيم مع الحكمة الإلهية أن يكون مثل هذا العتاب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخفى عن زيد حبه لزوجته- حاشا لله-، وأظن أن هذا التفسير الخاطئ لسبب نزول الآية هو ما كان يعنيه الإمام ابن كثير بقوله: (ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها فلا نوردها) . انتهى «1» .
26- أثنى عليه ربه باسمين من أسمائه:
قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
الآية كلها- ولله الحمد- ما هي إلا تزكية بليغة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكني اخترت أوضح ما فيها ليكون عنوانا للباب.
مظاهر الثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية الكريمة:
1- بيان أن إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس هو منة من الله- عز وجل-، حيث إنه من جنسهم ويتكلم بلسانهم، قال الشيخ السعدي في تفسير في الآية: (يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم يعرفون حاله ويتمكنون من الأخذ عنه) «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 492) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (356) .(2/127)
وقال القرطبي: (قوله تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يقتضي مدحا لنسب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه من صحيح العرب وخالصها) «1» .
2- شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم البالغة بأمته حيث أوضحت الآية أنه يشق عليه كل ما فيه مشقة على أمته أو يسبب لها الحرج وهو العنت، وهذا يدل أيضا على عظيم حبه لأمته صلّى الله عليه وسلّم.
ومن مظاهر حرصه على عدم إعنات الأمة أنه صلّى الله عليه وسلّم راجع ربه لتخفيف عدد الصلوات المكتوبة، حتى أصبحت خمس صلوات من أصل خمسين صلاة في اليوم والليلة.
ويؤخذ من الآية أنه ليس في الدين كله أي أمر فيه مشقة أو عنت على المسلمين، لأن الله ما كان ليشرع لهذه الأمة ما يشق عليها، وهو يعلم أن هذا يشق على نبيه وخليله، ولو حدث أن شرع لهذه الأمة ما فيه مشقة عليها لطلب النبي صلّى الله عليه وسلّم التخفيف من ربه كما حدث في أمر الصلاة.
3- حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى إيصال كل أنواع الخير إلى أمته، ودفع كل أنواع الشر عنهم، في معاشهم ومعادهم، لأن هذا هو دأب الحريص على غيره، وقيل: إن معنى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على دخولكم الجنة ونجاتكم من النار.
ويتفرع عليه كمال دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته، لأن الله- عز وجل- لم يكن ليزكيه على حرصه على أمته دون أن يقوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعوتهم على أكمل وجه. ومن زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخفى علينا شيئا من الوحي أو أن خيرا لم يدلنا عليه، أو أن شرّا لم ينهنا عنه، فقد كذّب بظاهر القرآن.
4- وهي أعظم ما في الآية، وهو الثناء على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حيث إن الله قد أثنى عليه باسمين من أسمائه الحسنى، وهما الرؤف والرحيم، ولو لم يكن في القرآن ثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا هذا الثناء لكفى، نقل القرطبي في تفسيره عن الحسين بن الفضيل قوله: (لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه قال: بالمؤمنين رؤف رحيم، وقال تعالى: إن الله بالناس لرؤف رحيم) «2» .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: (أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم ولهذا كان حقّه مقدما على سائر حقوق الخلق وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره) . انتهى.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (8/ 301) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (8/ 302) .(2/128)
27- من استهزأ به صلّى الله عليه وسلّم كفر:
قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) [التوبة: 65- 66] .
هذه الآية اختلف المفسرون في سبب نزولها، ولكن كل الأقوال تدور حول استهزاء بعض المنافقين في غزة تبوك بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، حيث قال المنافقون: (ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونا وأكذب ألسنا وأجبن عند اللقاء) ، ولم يثبت في الصحاح شيء في سبب النزول، والذي يهمنا هنا ليس هو سبب النزول لكن الحكم الذي جاءت به الآية الكريمة حيث حكمت بكفر من استهزأ بشيء من الدين سواء كان متعلقا بالله أو باياته أو برسوله صلّى الله عليه وسلّم.
بعض فوائد الآية:
الفائدة الأولى:
إرادة الله الشرعية تعظيم هذا الدين، حيث حكم بكفر من استهزأ بأي أصل من أصوله، ولا تخرج أصول هذا الدين عن الاعتقاد الحق في الله- عز وجل-، وما يتعلق به من أسماء وصفات، وما ينزل من عنده من كتب سماوية وشرائع. ثم آيات الله تنقسم إلى آيات كونية وشرعية، ثم رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما يتعلق به من سنة، سواء كانت سنة قولية أو فعلية أو إقرارية، وسواء تعلقت بالسلوك أو المظهر أو العادات أو الصفات الجبلية، وسواء كان ذلك لرسولنا الكريم أو بقية رسل الله من البشر أو الملائكة عليهم جميعا الصلاة والسلام.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة) «1» .
الفائدة الثانية:
يستوي حكم الاستهزاء في الدين، للجاد والهازل، نقل القرطبي رحمه الله في تفسيره عن القاضي أبي بكر بن العربي قوله: (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدّا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل، انظر إلى قوله: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (242) .(2/129)
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) . انتهى.
ويتفرع عليه خطورة ما يقوم به بعض العوام من التساهل في إلقاء النكات والقفشات التي يذكر فيها أمور تتعلق بالدين، بل وصل الأمر الآن إلى ابتكار نكات تستهزئ بالله ورسوله والقرآن الكريم والسنة النبوية، ويقول قائلها: ما نريد الاستهزاء ولكن نريد الضحك فقط. والحكم كما ذكرت آنفا، هو الكفر المخرج عن ملة الإسلام لمن تكلم بهذه النكات بل، أقول: ينطبق هذا الحكم تماما على من ضحك منها، لأنه كالمشارك والراضي بالكفر، ويكثر هذا الاستهزاء الآن فيما يقال عنه عروض فنية، يشاهدها الكبير والصغير في كل أسرة.
الفائدة الثالثة:
هل للمستهزئ توبة؟ ذكر الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ما نصه:
(من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سخر بذلك أن تنقصه أو استهزأ بالرسول أنه كافر بالله العظيم وإن التوبة مقبولة في كل ذنب وإن كان عظيما) .
انتهى «1» .
تتمة:
وهو حكم الاستهزاء بأحد من المسلمين، فقد ذكر العلماء أن الاستهزاء إن كان مبعثه اتباع المسلم لإحدى السنن كاللحية أو تقصير الثوب أو الأكل باليمين، فيكفر المستهزئ، لأن الذي حمله على الاستهزاء هو اتباع المسلم للسنة، وهذا أمر عظيم يجب الحذر والتحذير منه.
28- أمر المؤمنين بتقديمه صلّى الله عليه وسلّم على أنفسهم:
قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الأحزاب: 6] .
هذه الآية الكريمة تبين بجلاء عظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يستحقه من تبجيل وتوقير وطاعة من المؤمنين، لما له من فضل عليهم، وتوضح في المقابل ما للمؤمنين من حق على النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه يجب فهم قوله تعالى: أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ من الجهتين، من جهة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحق بأداء ما على المؤمنين من حقوق وديون إن أعدموا، ومن جهة أنه يجب على المؤمنين أن يقدموا طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وحبّه على طاعة أنفسهم وحبّها، كما سيأتي بالفوائد.
__________
(1) انظر السابق.(2/130)
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
عظيم حق النبي صلّى الله عليه وسلّم على المؤمنين، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى المؤمنين خبرا يعرفون به حالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومرتبته فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة، فقال: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أقرب ما للإنسان، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه صلّى الله عليه وسلّم بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم فرسول الله أعظم الخلق منّة عليهم من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه، فلذلك وجب عليه إذا تعارض مراد النفس أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أن يقدم مراد الرسول وألايعارض قول الرسول بقول أحد كائنا من كان وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ويقدّموا محبته على محبة الخلق كلهم وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه وهو صلّى الله عليه وسلّم أب للمؤمنين كما في قراءة بعض الصحابة «1» يربيهم كما يربي الوالد ولده) «2» .
وأظن أن ما قاله الشيخ رحمه الله لا يحتاج إلى شرح أو إضافة، فقد جمع وأوعى، فجزاه الله خيرا. وعلى كل مؤمن يريد الله ورسوله والدار الآخرة أن يقارن حاله ومسلكه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بما قاله الشيخ، فيحمد الله على ما عنده وليتمّ النقص والخلل حتى يضمن رضى الله- عز وجل-.
الفائدة الثانية:
عظيم حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لعموم المؤمنين، حيث كان أشفق وأرأف بهم من أنفسهم. ومن علامات هذه الشفقة والرأفة قيامه بأداء الحقوق التي عليهم في حال عسرهم، روى الشيخان في صحيحهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يؤتى بالرّجل المتوفّى عليه الدّين فيسأل: «هل ترك لدينه فضلا؟» فإن حدّث أنّه ترك لدينه وفاء صلّى وإلّا قال للمسلمين: «صلّوا على صاحبكم» . فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي من المؤمنين فترك دينا فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته» «3» .
قال القرطبي: (هذا الحديث تفسير للولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) وهي قراءة شاذة ولا يجوز القراءة بها.
(2) تيسير الكريم الرحمن (1/ 659) .
(3) البخاري، كتاب: الحوالات، باب: من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، برقم (2297) ، ومسلم، كتاب: الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، برقم (1619) .(2/131)
وتنبيهه، وقال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم) «1» .
الفائدة الثالثة:
وهو مثال نأتي به من القرآن الكريم لنوضّح مفهوم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ونبين أن الله- سبحانه وتعالى- قد أكد هذا المفهوم وربى المؤمنين على ذلك، وهو قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: من الآية 120] ، وهذه الآية نزلت في حق من تخلف عن غزوة تبوك من أهل المدينة وقبائل العرب المجاورة لها، ومعنى الآية أنه ما كان ينبغي ولا يليق بالمتخلفين عن الغزو أن يقدموا أنفسهم عن نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي لا يحق ولا يليق بالمؤمنين أن يقدموا راحة أنفسهم وبقاءها وسكونها عن نفس النبي الكريمة الزكية، بل النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومحبته والإيمان التام به أن لا يتخلفوا عنه) . انتهى «2» . وقال القرطبي: (أي لا يحق لهم أن يرضوا لأنفسهم بالدّعة ورسول صلّى الله عليه وسلّم في المشقة) «3» .
29- تتابع الوحي عليه قبل موته صلّى الله عليه وسلّم:
عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك: (أنّ الله- عز وجل- تابع الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتّى توفّي وأكثر ما كان الوحي يوم توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .
الشاهد في الحديث:
قول أنس بن مالك رضي الله عنه: (حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
بيان عظيم إكرام الله- سبحانه وتعالى- لنبيه واعتنائه به إلى يوم وفاته، ومن مظاهر هذا الإكرام كثرة نزول الوحي عليه قبل وفاته، حتى كان أكثر نزولا- بالنسبة لما سلف من جميع أيام حياته- يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
إرادة تسلية الله- عز وجل- لنبيه قبل وفاته وذلك بكثرة نزول الوحي عليه، حتى لا يجد في قلبه ما يجده غيره يوم وفاته من قلة أهميته وهوانه وانقطاع حاجة
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 122) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (355) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (8/ 290) .(2/132)
الناس إليه. ورغبتهم فيه، فهذا كله- قطعا- لم يحدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم وفاته بسبب تتابع الوحي واتصاله بالسماء.
الفائدة الثالثة:
حفظ الله- سبحانه وتعالى- عقل نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقلبه إلى يوم وفاته، لأن الوحي ما كان ينزل عليه وقد ذهل عقله أو غفل قلبه صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الرابعة:
حث المؤمن على أن يكون موصولا بالله- سبحانه وتعالى- فترة شبابه وصحته وشغله حتى يضمن أن يكون موصولا بالله تعالى، في حال وفاته.
30- نعيه وتوديعه صلّى الله عليه وسلّم في القرآن:
قال تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) [النصر: 1- 3.]
عن ابن عبّاس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنّه من قد علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنّه دعاني يومئذ إلّا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عبّاس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت:
هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. فقال عمر: ما أعلم منها إلّا ما تقول) «1» .
الشاهد في الحديث:
هو قول ابن عباس، - رضي الله عنهما-: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وذلك علامة أجلك) ، وفي رواية: (نعيت إليه نفسه) ، وهذا شرف عظيم لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يخبره الله بقرب أجله، وينعيه، ولا يكون ذلك إلهاما ولا مناما، ولكن بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، في سورة كاملة، هي سورة النصر، ولن نعقل هذا الفضل والشرف، إلا إذا عقل المسلم عظيم شأن القرآن، وأنه لا ينزل إلا في الأمور العظيمة، والأحداث الجسيمة، وكل حرف منه جاء لحكمة وبحكمة.
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً، برقم (4970) .(2/133)
وفي الحديث فوائد منها:
الفائدة الأولى:
أدب المجالس، وهو ألايجلس صغار السن مع الأشياخ الكبار، والدليل على ذلك، أن بعض الأشياخ وجد في نفسه شيئا من دخول ابن عباس، - رضي الله عنهما- معهم، ولو أنهم اعتادوا ذلك ما أنكروه، وكان صغار الصحابة سنّا يستحيون أن يتكلموا في حضرة من هو أكبر منهم سنّا، وهذا أدب جم، افتقدناه كثيرا الآن، فعند البخاري، عن ابن عمر قال: كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخبروني بشجرة شبه، أو كالرّجل المسلم، لا يتحاتّ ورقها. قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنّها النّخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان فكرهت أن أتكلّم أو أقول شيئا، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إليّ من كذا وكذا «1» .
الفائدة الثانية:
رسوخ قدم ابن عباس- رضي الله عنهما- في علم التأويل وتفسير القرآن، حيث سبق أشياخ بدر في تأويل مراد الله من قوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وما كان ذلك إلا ببركة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ورد عند البخاري، عن ابن عبّاس: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل الخلاء فوضعت له وضوآ قال: «من وضع هذا؟» فأخبر، فقال: «اللهمّ فقّهه في الدّين» «2» . وهذا من دلائل نبوته.
الفائدة الثالثة:
تعظيم عمر رضي الله عنه، لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال لأشياخ بدر:
(إنه من قد علمتم) فقد يكون إشارة إلى قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بالإضافة إلى رسوخ علمه.
الفائدة الرابعة:
فضل أهل العلم، خاصة علم التأويل والتفسير، وأنّ من السنة تقريبهم من مجالس الأشراف وكبراء القوم، والتحدث بفضلهم، وبيان ذلك للناس، حتى ينتفعوا بهم ويعرفوا قدرهم، ويرجعوا إليهم في مسائل الفتيا وغيرها. علمنا ذلك من دعوة عمر لابن عباس رضي الله عنهم جميعا لحضور مجلس أشياخ بدر، والتنويه بمنزلته في قوله:
(إنه من قد علمتم) ، ثم سؤالهم وسؤاله عن آية في كتاب الله، ليعلمهم فضله عليهم في العلم.
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ، برقم (4698) .
(2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، برقم (143) .(2/134)
الفائدة الخامسة:
التفاوت الكبير بين الناس في علم التأويل والتفسير، حتى بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن فهم ابن عباس للقرآن حجة، وأنه مقدم على فهم غيره من الصحابة، رضي الله عنهم، والدليل على ذلك دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالتفقه في الدين، وتقريب عمر رضي الله عنه له في مجلسه، وأنه لمح ما في الآية من معان غير ظاهرة، وموافقته لعمر رضي الله عنه في هذا الفهم، وهي فضيلة لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه أيضا حيث وافق تأويله تأويل حبر الأمة، الذي اختصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء.
الفائدة السادسة:
قد يكون لبعض آيات القرآن معنى ظاهر، يفهمه عوام الناس، ومعنى آخر خفي يفهم من فحواها ومضمونها، كما فسر أشياخ بدر معنى سورة النصر، بالمعنى الظاهر، وفسرها حبر الأمة بمعنى خفي، ولا حرج في ذلك شريطة، ألا يكون هذا الفهم يتعارض مع أصول الشريعة، وما تقتضيه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
الفائدة السابعة:
حث العبد أن يجتهد في العبادة أكثر وأكثر، كلما تقدم عمره، وشعر بقرب أجله، فيحرص على فعل الطاعات وترك المنكرات، وأن يبذل جل وقته في التوبة والاستغفار، لقوله تعالى في سورة النصر: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ وما كان هذا التسبيح والاستغفار إلا لدنوّ أجل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.(2/135)
31- تزكيته صلّى الله عليه وسلّم:
1- تزكية فطرته صلّى الله عليه وسلّم:
قال أبو هريرة رضي الله عنه: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللّبن قال جبريل: «الحمد لله الّذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمّتك» «1» . رواه البخاري.
الشّاهد في الحديث:
قول جبريل عليه السّلام: «لو أخذت الخمر غوت أمتك» ، وفي رواية مسلم أيضا: «أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك» .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في شمائله صلّى الله عليه وسلّم:
1- عناية الله- سبحانه وتعالى- به إذ هداه للفطرة والتي هي- كما عرفها الحافظ ابن حجر- الاستقامة على الدين الحق «2» .
2- حسن تربيته ونشأته صلّى الله عليه وسلّم ودليله أنه اختار اللبن وردّ الخمر، فسبحان الذي جعل طبعه يوافق ما أبيح وحرّم على هذه الأمة، وليس ذلك في هذا الاختبار فقط ولكن في أمور كثيرة خالف فيها صلّى الله عليه وسلّم ما كان عليه أمر الجاهلية.
3- أدبه صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يردّ الاثنين، وقد يفعل الرجل ذلك إذا خاف سوء الاختيار، وقد يكون ذلك أيضا من فقهه صلّى الله عليه وسلّم حيث علم أنه لا يسعه ردّ الاثنين.
4- فراسته صلّى الله عليه وسلّم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (نفر من الخمر؛ لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت حينئذ مباحة ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم والآخر تستمر إباحته. وأضاف رحمه الله: (واختار اللبن لكونه مألوفا له سهلا طيبا سائغا للشاربين سليم العاقبة بخلاف الخمر في جميع ذلك) «3» .
5- عظيم فضله صلّى الله عليه وسلّم على أمته حيث حفظت الأمة من الغواية باختياره صلّى الله عليه وسلّم اللبن.
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب قوله: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ برقم (4709) ومسلم كتاب: الأشربة، باب: جواز شرب اللبن برقم (168) .
(2) فتح الباري (10/ 33) .
(3) فتح الباري (10/ 33) .(2/136)
ويتفرع على ذلك أنه يجب على الأمة أن تشعر بالامتنان له صلّى الله عليه وسلّم فتوفيه حقه فإن عجزت- وهو الواقع- فلا أقل عن المستطاع.
ولكن ما سبب غواية الأمة في حال اختياره صلّى الله عليه وسلّم الخمر؟.
الجواب: ذكره صاحب تحفة الأحوذي «1» بقوله: (بناء على أنه لو شربها لأحلّ للأمة شربها فوقعوا في ضررها وشرها) «2» .
الفائدة الثانية:
أن الهداية بيد الله- عز وجل-، لقول جبريل عليه السّلام: «الحمد لله الذي هداك للفطرة» ، ويجب على المسلم أن يستشعر ذلك بقلبه وألا يكون ذلك كلاما بلسانه فقط، يقوله على سبيل التواضع، ويؤخذ منه أيضا أن الهداية مما يحمد الله- سبحانه وتعالى- عليه.
الفائدة الثّالثة:
سعة علم الله- سبحانه وتعالى- حيث إن علمه لا ينحصر فقط على ما وقع وسيقع من الأمور وعواقبه، بل شمل عواقب ما لن يقع فيما لو وقع، ودليله أن جبريل عليه السّلام علم ما سيقع فيما لو اختار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخمر، وما علم ذلك إلا بتعليم الله إياه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقوله: «غوت أمتك» يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل أو تقدّم عنده علم بترتيب كل من الأمرين وهو أظهر) «3» .
قلت: بل الأظهر- والله أعلم- ما ذكرته آنفا وهو أن الله هو الذي علمه؛ لأنه الأليق بمقام جبريل عليه السّلام.
الفائدة الرّابعة:
لو خير الرجل بين مباحين فمن الحكمة ورجاحة العقل أن يوازن بين ما فيهما من المصالح والمفاسد، وأيهما رجحت عنده مصلحته على مفسدته اختاره، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرض عليه الخمر واللبن وقت إباحة الخمر، فرجح اللبن لأنه هو الفطرة ولما ذكرته آنفا.
الفائدة الخامسة:
لماذا كان اللبن هو الفطرة؟. نقل صاحب تحفة الأحوذي عن الإمام القرطبي قوله: (يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه) «4» .
2- تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم:
لما كان القلب هو أعظم جوارح الجسد، فبه تصلح جميع الجوارح وبه تفسد، كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن النعمان بن بشير وفيه: «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا
__________
(1) وهو المباركفورى.
(2) انظر تحفة الأحوذي (8/ 447) .
(3) انظر فتح الباري (10/ 33) .
(4) تحفة الأحوذي بشرح الترمذي (8/ 447) .(2/137)
صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب» «1» ، اعتنى الله- عز وجل- اعتناء عظيما بقلب حبيبه وصفيّه من خلقه وخليله صلّى الله عليه وسلّم منذ صغره، فطهر الله- تبارك وتعالى- هذا القلب ونزع منه حظ الشيطان وملأه إيمانا وحكمة، وقد بسطت تلك المسألة في موضع آخر من الكتاب، ولما زكى الله- عز وجل- قلب نبيه في القرآن العظيم وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم زكاه بكل أنواع التزكية- التي نعرفها- فقد زكاه من حيث الوحي الذي أنزل إليه فكان هذا القلب الزكي الطاهر وعاء له، وزكاه من حيث تعامله مع أصحابه، فذكر رقته ورحمته بالمؤمنين، وزكاه من حيث صدقه وحضوره، فحكم عليه بعدم الكذب ومطابقة ما يراه القلب بما يراه البصر، وزكاه من حيث اتصاله الدائم بالله- تبارك وتعالى وعدم غفلته صلّى الله عليه وسلّم عن ذكره، فذكر صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه «2» ، ولا أظن أن هناك تزكية أشمل ولا أعم من تلك التزكية، وسنأتي بعون الله تعالى على كل نوع بشيء من التفصيل. فأقول وبالله التوفيق:
أولا: تزكية القلب من حيث الذي أنزل إليه:
قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء: 192- 195] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك والذي نزل به هو جبريل عليه السّلام الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، أي نزل به ملك كريم ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى، على قلبك يا محمد سالما من الدنس والزيادة والنقص، لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه وتبشر به المؤمنين المتبعين له) «3» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
وهي أبلغ تزكية لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث إن القلب الذي يجمع القرآن تلقيا وحفظا وعلما وعملا، قلب لا يمكن أن يدخله شك أو شبهة أو نفاق، وإذا أردت أخي القارئ أن تقف على كمال وجما لهذا القلب الذي كان أول قلب يتلقى القرآن العظيم،
__________
(1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، برقم (52) ومسلم، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599) .
(2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: التخفيف في الوضوء، برقم (138) ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل، برقم (763) .
(3) تفسير القرآن العظيم (3/ 348) .(2/138)
فانظر وتدبر حفاوة الله- عز وجل- بهذا الكتاب لتعلم مكانة هذا القلب، فقد ذكرت الآيات عظيم من نزل بأمره القرآن، وهو الله- تبارك وتعالى- رب العالمين، ورفيع قدر من نزل به، وهو الروح الأمين جبريل عليه السّلام وفصاحة اللسان الذي نزل به، وهو اللسان العربي المبين، فلا شك أن هذا الاعتناء الإلهي بنزول القرآن الكريم يستلزم اعتناء مثله بالمكان الذي سيكون وعاء وحفظا لهذا القرآن، وهو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو موطن تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم الذي أردت أن أبينه.
الفائدة الثانية:
بيان عظيم شأن القرآن الكريم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم فإنه أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة على أفضل الخلق على أفضل بضعة منه وهي قلبه، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحها وأوسعها، وهو اللسان العربي المبين) «1» .
الفائدة الثّالثة:
إن القلب هو مكان تمكن الشيء واستقراره وتثبيته؛ ولذلك أشار القرآن الكريم أن مكان نزول القرآن هو قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس عقله ولا لسانه، وفيه إشارة أيضا أن مكان حفظ القرآن هو القلب وليس الكتب، مع التنبيه على ضرورة إعمال القلب في تدبر آيات الذكر الحكيم حيث إنه الوعاء الأول الذي نزل فيه القرآن.
الفائدة الرّابعة:
تكفل الله- تبارك وتعالى- بحفظ هذا الكتاب العزيز، من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل، من قبل نزوله، وأثناء نزوله، ومن بعد نزوله إلى قيام الساعة، أما قبل نزوله، فقد منع الله- عز وجل- الشياطين من استراق السمع قال تعالى:
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) [الجن: 9] .
وروى الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: (انطلق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السّماء، وأرسلت عليهم الشّهب، فرجعت الشّياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السّماء، وأرسلت علينا الشّهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السّماء إلّا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء. فانصرف أولئك الّذين توجّهوا نحو تهامة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له. فقالوا:
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (598) .(2/139)
هذا والله الّذي حال بينكم وبين خبر السماء) «1» .
أما حفظه أثناء نزوله، فقد وكّل الله- عز وجل- بإنزاله الروح الأمين، جبريل عليه السّلام، ومع أن جبريل عليه السّلام له صفات عديدة، إلا أن من جمال الآية أنها ذكرت صفة عظيمة تناسب مقام إنزال القرآن وما يحتاج إليه هذا الإنزال من أمانة تقوم على حفظه، فذكرت صفة الأمانة لجبريل عليه السّلام.
أما حفظه إلى قيام الساعة- وهو أهم وأعظم أنواع الحفظ لطول المدة بين النزول وقيام الساعة، وكثرة الحاقدين على هذا الكتاب وما سيقع من فتن عظيمة- فلم يوكل- سبحانه وتعالى- هذه المهمة لأحد أبدا غيره- سبحانه وتعالى- فوعد المؤمنين بحفظه، قال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] ، فضمنّا بذلك أحسن الحفظ وأكمله وأتمه، لأنه حفظ من لا ينام ولا يغافل، ولا ينسى ولا يسهو، حفظ دائم متواصل ممن لا يموت ولا يزول- سبحانه وتعالى-.
وتدبر أخي القارئ كم في آية الحفظ من مؤكّدات، ويكفي أن الله- عز في علاه- قد ذكر فيها نفسه الشريفة المقدسة- خمس مرات- بصيغة الجمع، التي هي صيغة التعظيم، ليطمئن قلب القارئ أن الله سيحفظ كلامه حفظا تامّا يتناسب مع عظمته التامة التي خضع لها كل شيء.
واعلم أخي القارئ أن الآية لم تذكر نوعا معينا للحفظ بل أطلقت الحفظ ليشمل جميع أنواعه: حفظ من الزيادة والنقصان، حفظ من التحريف والتبديل، حفظ لعلومه وفنونه، حفظ لقراءته وتجويده وتلاوته، حفظ لمجالسته ومذاكرته، حفظ في قلوب العباد وفي سطور السجلات، حفظ لحبه في قلوب التالين له العاملين به، وقد تم كل ذلك على الوجه الأتم الأكمل، باتفاق المسلمين وغيرهم.
الفائدة الخامسة:
على الداعية إلى الله- عز وجل- أن يملأ قلبه بالقرآن، حفظا وعلما، وتدبرا ودراية، لأن القرآن خير معين له على أداء مهمته الشريفة، وخير حافظ لقلبه من الشكوك والشبهات، استفدنا ذلك أن الله- تبارك وتعالى- قد علل الغاية من نزول القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يكون نذيرا.
الفائدة السّادسة:
يؤخذ من الآيات الكريمات أن أفصح اللغات وأبينها وأحسنها، هي
__________
(1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: الجهر بقراءة صلاة الفجر (773) ، ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح ... ، برقم (449) .(2/140)
اللغة العربية، لأن الله- عز وجل- قد وصف اللسان العربي، الذي نزل به القرآن، بأنه مبين، وكأن اختيار هذا اللسان ليكون لغة القرآن روعي فيه أن يكون مبينا، فلو كانت لغة أبين وأفصح وأقدر على توصيل المعاني والتعبير عن المراد وترقيق القلوب، من اللسان العربي لنزل به القرآن.
ويتفرع عليه: سوء أدب من يعتقد أن هناك لغة أشرف أو أفصح أو أشد ثراء أو أغزر معاني من اللغة العربية، وسوء أدب من يحب أن يدخل في كلامه مفردات لغة أخرى ظنّا منه أن هذا يرفع قدره عند السامعين، لأن الذي يرفع قدر المتكلم ويجعل لسانه فصيحا هو التكلم بالعربية لغة القرآن الكريم.
ثانيا: تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حيث تعامله مع أصحابه وترفقه بهم.
قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) [آل عمران: 159] .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: (ومعنى الآية: أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم، بيّن الرب- تبارك وتعالى- أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه، «ولنت» : من لان يلين لينا و «الفظّ» الغليظ الجافي، وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة، ومعنى «لانفضوا» : أي تفرقوا، والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم) «1» .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى مخاطبا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينا، لولا رحمة الله بك وبهم، ثم قال رحمه الله:
(والفظ: الغليظ، والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك: غَلِيظَ الْقَلْبِ أي لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم) «2» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
بيان ما جمع الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم من رقة قلب وترفق
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (4/ 248) .
(2) تفسير القرآن العظيم (1/ 420) .(2/141)
بأصحابه وخلق جميل ولسان طيب ووجه بشوش، فتجمع له أصحابه فأحبوه وافتدوه صلّى الله عليه وسلّم بالمال والولد والأهل أجمعين، وقد بينت طرفا من رحمته وشفقته صلّى الله عليه وسلّم بأزواجه وأصحابه وخدمه ويتامى المسلمين، مما يغني عن التفصيل هنا.
ويتفرع عليه: وجوب أن يتحلى كل راع لأمر من أمور المسلمين- وكلنا راعون- بهذه الصفات الحميدة، وأن تسبق رحمتنا غضبنا، وهي من صفات الإله الكريم المتعال، كما يتفرع عليه ذم قاسي القلب فظ اللسان سيئ الخلق، الذي يقسو أكثر مما يرحم ويغضب أكثر مما يرضى، والأدهى والأمرّ من ذلك أن يتصور أن هذه الأخلاق- الذميمة شرعا- من مستلزمات الرجولة والفحولة، والصحيح أنها من أخلاق الشيطان وأعوانه، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فالأخلاق الحسنة من الرئيس تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص. والأخلاق السيئة من الرئيس تنفر الناس عن الدين، وتبغّضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟ أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلّى الله عليه وسلّم من اللين وحسن الخلق والتأليف امتثالا لأمر الله وجذبا لعباد الله لدين الله) «1» .
قلت: ليس هذا الأمر قاصرا على الرئيس في معاملة مرؤسيه، لكن هذا التوجيه الإلهي موجه إلى كل مسلم بالغ عاقل، وبقدر حب المسلم لرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم يكون الاقتداء بأخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة صلّى الله عليه وسلّم.
وعلى كل أحد من المسلمين الأخيار يرى انفضاضا عنه ومجافاة له أن يعلم أن في خلقه سوآ وفي قلبه شرورا وفي وجهه عبوسا وفي لسانه عيوبا فليستعن بالله- عز وجل- وليغير ما به.
الفائدة الثانية:
إرشاد العباد إلى أن الذي يرقق القلوب ويطوعها للناس ويجعلها سهلة لينة هو رب القلوب والأبدان- تبارك وتعالى-، فهذا قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم أطهر قلوب الخلق وأشرفها وأطيبها، ما كان كذلك إلا برحمة الله- عز وجل-.
ويتفرع على ذلك وجوب أن نسأل الله- عز وجل- ونتضرع إليه أن يحسّن أخلاقنا ويطهر قلوبنا ويجعلها رحيمة بعباده.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (154) .(2/142)
الفائدة الثّالثة:
أوضحت الآية رفيع قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه- تبارك وتعالى.، ونلمحه في أمرين توجّه بهما الخالق- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وهما الأمر بالعفو عن المسلمين الذين أساؤا له صلّى الله عليه وسلّم، ويتبين من الآية أنه لولا عفو الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنهم لأخذهم الله- عز وجل- بهذه الإساءة صغيرة كانت أو كبيرة، والأمر الثاني: الاستغفار لأصحابه رضي الله عنهم، ومنها يتبين فضل دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان استغفاره صلّى الله عليه وسلّم يتساوى مع استغفارهم لأنفسهم ولا يتفاضل عليه، لأمر الله المؤمنين بالاستغفار لأنفسهم- خاصة أن الاستغفار عبادة- وقد ظهر هذا الأمر جليّا في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] ، وقوله- جل في علاه-: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) [المنافقون: 5] .
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (ثم أمره تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلّى الله عليه وسلّم ويستغفر لهم في التقصير في حق الله فيجمع بين العفو والإحسان) «1» .
قلت: وهذا من أوجه التربية الفاضلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ونقل الإمام القرطبي عن بعض العلماء كلاما لطيفا في حكمة تدرج أوامره لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية حيث قالوا: (أمره أن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور) «2» .
ثالثا: تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حيث صدقه وحضوره وعدم كذبه.
قال تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] .
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي: اتفق فؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقيا لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشك في ذلك، ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به، من آيات الله العظيمة، وأنه تيقّنه حقّا بقلبه ورؤيته، هذا هو الصحيح في تأويل الآية الكريمة، وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لربه ليلة الإسراء وتكليمه إياه، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بذلك رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لربه في الدنيا،
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (154) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (4/ 249) .(2/143)
ولكن الصحيح القول الأول، وأن المراد به جبريل عليه السّلام كما يدل عليه السياق، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل في صورته الأصلية- التي هو عليها- مرتين، مرة في الأفق الأعلى، تحت السماء الدنيا، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) [النجم: 13] أي رأى محمد جبريل مرة أخرى نازلا إليه) «1» .
والقولان اللذان ذكرهما الشيخ في أول كلامه لا يتعارضان بل يجب الأخذ بهما جميعا، فهذه الآية وإن نزلت في سياق الحديث عن حادثة المعراج لتثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تيقين ما رآه بقلبه ونظره، إلا أنها عامة في كل ما أوحاه الله إليه من قبل ومن بعد، فالعبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سبب نزولها. وصاحب النظر يرى أن الحاجة إلى تواطؤ قلب وبصر النبي صلّى الله عليه وسلّم على تلقي الوحي، أعظم من الحاجة إلى تواطؤ قلبه وبصره صلّى الله عليه وسلّم على ما رآه من مشاهد عظيمة ليلة الإسراء والمعراج، فإذا كان الله- عز وجل- قد مكّن قلبه صلّى الله عليه وسلّم من الرؤية ليلة الإسراء بحيث لا يكذّب قلبه أبدا ما رآه بصره، فمن باب أولى مكن قلبه من الوحي طيلة حياته صلّى الله عليه وسلّم.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
شدة قلبه صلّى الله عليه وسلّم وقوته، إذ ثبت القلب ولم يذهب مع عظيم ما رآه بالملأ الأعلى، كما يؤخذ من الآية أيضا، حضور قلبه صلّى الله عليه وسلّم كحضور بصره سواء بسواء، وكما أن القلب لم يكذب فإن البصر أيضا لم يذهل، ولولا ذلك لاختلف ما يراه البصر عما يراه الفؤاد ولو في شيء قليل.
الفائدة الثانية:
نتعلم من الآية أن القلب هو الذي قد يغافل ويذهل خاصة في الوقائع العظيمة- وهذا هو المشاهد في الصلاة مثلا- ودليله من الآية أن الله- عز وجل- نفى عن القلب عدم الكذب فيما رآه البصر وما نفى الله- عز وجل- ذلك عن البصر.
الفائدة الثّالثة:
على المسلم في الملمات العظيمة أن يفرغ قلبه مما قد يشغله وينكب على ما هو فيه، خاصة عند قراءة القرآن وفي الصلاة، لأن حضور القلب أوعى للإنسان لما يراه ويسمعه ويقرأه.
__________
(1) تفسير السعدي (819) .(2/144)
رابعا: تزكية قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حيث اتصاله الدائم بربه- عز وجل.
عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن رضي الله عنه أنّه سأل عائشة رضي الله عنها؛ كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلّي أربعا، فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعا، فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي ثلاثا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال: «يا عائشة إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» «1» .
هذا من كمال أحواله البشرية صلّى الله عليه وسلّم، أن قلبه لا ينام، وهو من خصائص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، يدل عليه ما رواه البخاري في حديث الإسراء من طريق شريك عن أنس: (وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) «2» .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
كمال قلبه صلّى الله عليه وسلّم حيث إن النوم صفة نقص تعتري النفس البشرية، فلما ثبت لقلبه صلّى الله عليه وسلّم عدم النوم أبدا، كان ذلك صفة كمال له.
الفائدة الثانية:
تعلق قلبه صلّى الله عليه وسلّم الدائم بالله- عز وجل-، إذ لو قدر أن يغافل قلبه صلّى الله عليه وسلّم في حال اليقظة لكان النوم بالنسبة إليه أولى، وأعتقد أن الاتصال الدائم بالله هو الهدف الرئيس من عدم نوم قلوب الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا.
الفائدة الثّالثة:
صحة الوحي إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، نقل صاحب الفتح عن الخطابي قوله: (وإنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه) «3» ، وقال ابن حجر رحمه الله: (ولو لم تكن رؤيا الأنبياء وحيا لما جاز لإبراهيم عليه السّلام الإقدام على ذبح ولده) «4» . قلت: ولو لم تكن وحيا لما أثنى الله على إبراهيم عليه السّلام بالإقدام على ذبح ابنه ولما أثنى على الابن بالتسليم بأمر الله عز وجل. والدليل على صحة الوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، أنه كان ينزل عليه القرآن وهو نائم، والقرآن أشرف ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم من وحي، روى مسلم في صحيحه: عن أنس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثمّ رفع رأسه متبسّما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: «أنزلت عليّ آنفا
__________
(1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالليل، برقم (1147) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل ... ، برقم (738) .
(2) البخاري، كتاب: المناقب، باب: ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم تنام عينه، برقم (3570) .
(3) فتح الباري (1/ 239) .
(4) فتح الباري (1/ 239) .(2/145)
سورة، فقرأ: بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) » .
الفائدة الرّابعة:
النوم في حقه صلّى الله عليه وسلّم غير ناقض للوضوء، وهذا هو الصحيح، لما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ. قال الحافظ في التلخيص الحبير: (لا ينتقض وضوءه صلّى الله عليه وسلّم بالنوم) «1» .
3- تزكية لسانه صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 3، 4] . قال الإمام القرطبي رحمه الله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) ، أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض وإنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس موفورا من غير زيادة ولا نقصان) «2» . وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) . أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى في نفسه وفي غيره) «3» .
بعض فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى:
في الآيتين الكريمتين أبلغ التزكية للسان النبي صلّى الله عليه وسلّم (فهو عضو النطق) ؛ إذ نزهه الله- تبارك وتعالى- عن أي نطق فيه هوى، بل في الآيتين أبلغ تزكية لكل أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن اللسان الذي قد يزل دون شعور من صاحبه، وقد يخطئ دون قصد منه، قد نزهه الله سبحانه وتعالى- غاية التنزيه عن كل قول سوء فما بالنا ببقية جوارحه صلّى الله عليه وسلّم، وما اللسان إلا كالمترجم عنها، حقيق بتلك الجوارح أن تكون في غاية التنزيه عن كل ما يسوءها.
ويتفرع على ذلك إثبات غاية العصمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل أحواله وفي كل ما قاله صلّى الله عليه وسلّم من جهة تنزيهه عن أن ينطق بالهوى، وإثبات أن كل ما نطق به صلّى الله عليه وسلّم وحي من ربه- تبارك وتعالى-.
الفائدة الثانية:
إثبات أن للسنة الشريفة نفس منزلة القرآن الكريم حيث حكم الله- سبحانه وتعالى- على كل ما ينطق به النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه وحي منه- تبارك وتعالى-، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (دلت الآية على أن السنة وحي من الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النساء: 11] ، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه لأن كلامه لا يصدر عن
__________
(1) انظر التلخيص الحبير (3/ 135) .
(2) وردت هذه الفقرة عند ابن كثير (4/ 248) وهي من كلامه، وليست من قول القرطبي.
(3) انظر تفسير السعدي (818) .(2/146)
هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى) . انتهى.
وقد ذكرت في باب «تربية أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق» أن المقصود بالحكمة في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً
(34) [الأحزاب: 34] ، أنها السنة الشريفة.
الفائدة الثّالثة:
يؤخذ من الآيتين الكريمتين، استحالة وجود تعارض أو تناقض بين القرآن الكريم والسنة الشريفة، أو تعارض بين القرآن والقرآن، أو بين السنة والسنة، إذ كلها وحي من الله- تبارك وتعالى-، ويستحيل أن يتكلم الله بما فيه التعارض، قال تعالى-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء: 82] ، ووجود شبهة التعارض عند الإنسان، قد يرجع إلى قلة علمه، خاصة بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، أو لقلة الفهم، فقد يكون الإنسان عالما، وليس لديه حاسة التدبر والاستنباط والتوفيق بين ما ظاهره التعارض، وقد فرق الله- سبحانه وتعالى- بين العلم والفهم في قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 79] ، وإثبات ملكة الفهم من السنة، نستشهد عليه بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (قلت لعليّ رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلّا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما أعلمه إلّا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصّحيفة. قلت: وما في الصّحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألايقتل مسلم بكافر) «1» . وقد يرجع شبهة التعارض والتناقض إلى سوء القصد واتباع الهوى.
4- تزكية بصره صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ، هذه الآية الكريمة من أعظم الآيات التي تدلل على حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم عامة ورفيع أدبه خاصة، ولو لم يكن في القرآن ولا في السنة غير هذه الآية في ذكر خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم لكفته صلّى الله عليه وسلّم فخرا، وللأسف الشديد قد يمر المسلم عليها ويقرأها كثيرا ولا يستشعر ما فيها من كريم خلقه صلّى الله عليه وسلّم، فهذه الآية وردت في معرض ذكر حادثة المعراج بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء السابعة ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى ما شاء الله تعالى، وبالرغم أن من جملة حكم هذه الحادثة هو أن يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم من آيات ربه الكبرى قال تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
__________
(1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، برقم (3047) .(2/147)
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم من كمال أدبه ورفيع خلقه لم يلتفت يمنة أو يسرة للنظر في هذا الملكوت العظيم، والذي ليس به موضع شبر واحد، إلا وفيه آية من آيات الرب- تبارك وتعالى-، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم لم يمتد بصره إلا لما أذن الله له أن يرى، ولن يستطيع أحد مهما أوتي من علم وحكمة أن يتصور مثل هذا الخلق الرفيع أو يقيمه أو يقدره، وليس هذا من باب المبالغة، والسبب في ذلك أن أحدا منا لن يستطيع أن يتصور بعقله عظيم ملكوت الله وما به من آيات كبيرة، والتي استطاع النبي صلّى الله عليه وسلّم بخلقه أن يقصر نظره عنها، فهو خلق عظيم يتناسب مع ما في ملك الله من آيات، فهل بعد هذا الخلق من خلق.
وتصور أخي القارئ أنك دخلت قصرا لملك من ملوك الدنيا تعلم أن فيه ما لم تره عينك ولم تسمع به أذنك ولم يخطر من قبل على قلبك، فكم من أدب تحتاج أن يكون معك حتى لا تنظر يمنة أو يسرة، وشتان شتان بين ما عند الله- تبارك وتعالى- من آيات وما عند الملوك، والفارق بينهما كالفارق بين الثرى والثريا، بل الفارق أعظم من ذلك بكثير، ولولا أن هذا الفعل من النبي صلّى الله عليه وسلّم كان خلقا رفيعا منه، ما ذكره الله- سبحانه وتعالى- في القرآن العظيم في سياق الثناء والمدح.
وأقول: إذا كان هذا خلقه صلّى الله عليه وسلّم فيما لا يقدر عليه غيره، فكيف يكون خلقه فيما يقدر عليه غيره، وإذا كان هذا الأدب منه صلّى الله عليه وسلّم فيما لم يؤمر، فكيف يكون أدبه صلّى الله عليه وسلّم فيما أمر به أو نهي عنه. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: ما ذهب يمينا ولا شمالا وما جاوز ما أمر به، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن قول الناظم:
رأى جنة المأوى وما فوقها ولو ... رأى غيره ما قد رآه لتاها «1»
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (وهذا كمال الأدب منه صلّى الله عليه وسلّم أن قام مقاما أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور إما ألا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينا وشمالا وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلّى الله عليه وسلّم) «2» .
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 253) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (819) .(2/148)
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
بيان مدى اتساع علم الله- تبارك وتعالى- الذي أحاط بكل شيء، خفيا كان أو جليا، ظاهرا كان أو باطنا، بالليل كان أو بالنهار، ودليله من الآية أن الله- سبحانه وتعالى- قد رأى من عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يلتفت يسارا ولا يمينا طيلة رحلته المباركة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السماء السابعة مرورا بالفضاء الخارجي وبقية السماوات إلى سدرة المنتهى ولم يخف عليه- سبحانه وتعالى- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلتف يمنة أو يسرة، ولو بطرف بصره.
الفائدة الثانية:
إرشاد الأمة أن للبصر خلقا يجب التخلق به، وأن له حدودا يجب أن لا يتعداها، وكذا للسمع والفؤاد، قال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] .
الفائدة الثّالثة:
سوء أدب من يلتفت يمينا ويسارا، في طريقه إلى الله- سبحانه وتعالى- ومظاهر ذلك الالتفات وعلاماته كثيرة، فهذا يطلب الكرامات التي لم يعد الله أن يجريها على يد كل مسلم ويتطلع إليها ويجد شكا في قلبه إذا لم يرها، ولم يكفه أعظم الكرامات، وهي أن الله جعله مسلما وهداه للإيمان والقيام بالأركان، وآخر يريد معرفة الحكم والعلل لكل حكم من أحكام الشرع الحنيف، ولم يكتف بما وضحه الله- عز وجل- وبينه من علل بعض الأحكام، وثالث يطلب الهداية من مناهج أخرى مع الكتاب والسنة أو بدونهما.
5- تزكية خلقه صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] .
أكتفي هنا بذكر ما قاله الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير تلك الآية الكريمة التي زكّت خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم تزكية عظيمة، ليس قبلها ولا بعدها تزكية، إذ قال رحمه الله ما نصه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ أي: عليا به، مستعليا بخلقك الذي منّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين [عائشة رضي الله عنها] لمن سألها عنه، فقالت: (كان خلقه القرآن) . وذلك نحو قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 119] ، وقوله تعالى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ، لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (28) [التوبة: 128] . وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلّى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق، والآيات(2/149)
الحاثات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلّى الله عليه وسلّم سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبدّ به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيرته غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلّى الله عليه وسلّم) «1» .
وأضيف كلمة موجزة بعد هذا الكلام النفيس فأقول: على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقارن خلقه بخلق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما كان فيه من خلق يخالف خلقه صلّى الله عليه وسلّم فليعلم أنه خلق قبيح يجب أن ينتهي عنه.
وللتدليل على حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم دوما، قبل البعثة وبعدها، أورد حديثين أثبت بهما ذلك، وفي ثنايا هذا الكتاب عشرات الأحاديث في ذكر حسن خلقه صلّى الله عليه وسلّم.
شاهد على خلقه صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة:
عن عائشة أمّ المؤمنين أنّها قالت: (أوّل ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة في النّوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه- وهو التّعبّد- اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثّالثة ثمّ أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) [العلق: 1- 3] . فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زمّلوني زمّلوني» . فزمّلوه حتّى ذهب عنه الرّوع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا والله ما يخزيك الله أبدا إنّك؛ لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (879) .(2/150)
الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة- وكان امرآ قد تنصّر في الجاهليّة وكان يكتب الكتاب العبرانيّ فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا بن عمّ اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا النّاموس الّذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أو مخرجيّ هم!» قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثمّ لم ينشب ورقة أن توفّي وفتر الوحي «1» .
الشّاهد في الحديث:
أن خديجة رضي الله عنها قد ذكرت طرفا من أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، يدل على عظيم خلقه، فإذا كان هذا خلقه قبل البعثة، ونزول القرآن عليه، فكيف كان خلقه صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، ويتبين لنا من الحديث أن الله- عز وجل- قد اعتنى بالأنبياء منذ نشأتهم، وقد وضحت ذلك في عدة في مواضع.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
كمال خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة- إذ جمعت له خديجة رضي الله عنها جميع مكارم الأخلاق التي يمكن أن يتصف بها أحد، ومن هذا الوصف نعرف أنه كان صلّى الله عليه وسلّم يحسن إلى من يعرف وتربطه به صلة (صاحب الرحم) ، ويحسن إلى من لا يعرف (المعدوم) ، ويحسن إلى من لا يحتاج (الضيف) ، ويحسن إلى من يحتاج (الكلّ) ، ثم الأجمل والأتم، يحسن إلى كل من نزلت به نازلة (تعين على نوائب الحق) ، وهو من أوسع أعمال الخير، لأن هذه الإعانة لا تقتصر على باب واحد من أبواب الخير، لأن صاحب النازلة قد يحتاج إلى مساعدة بالمال، وقد يحتاج إلى مساعدة بالجاه، وقد يحتاج إلى مساعدة بالتصبير والمواساة، أو إلى النصح والمشورة، أو إلى إعالة أحد الأبناء، فكان صاحب النابئة يجد عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به «2» . وقال الإمام النووي رحمه الله: وأما (صلة الرحم) فهي
__________
(1) البخاري كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم (4) ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، برقم (160) .
(2) انظر فتح الباري (1/ 24) .(2/151)
الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. ويدخل في حمل الكلّ الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال وهو الإعياء. وأما قولها: (وتكسب المعدوم) فمعناه: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق وقيل:
معناه: تكسب المال العظيم الذي يعجز عنه غيرك ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم وأما قولها: (وتقري الضيف) ويقال للطعام الذي يضيفه به: قرى ويقال لفاعله: قار، مثل قضى فهو قاض. وأما قولها: (وتعين على نوائب الحق) فالنوائب جمع نائبة وهي الحادثة إنما قالت نوائب الحق؛ لأن النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر «1» .
الفائدة الثانية:
قولها: (أول ما بدئ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم) فيه:
1- أن الرؤيا الصالحة من مبشرات النبوة، بل هي أول المبشرات، يؤخذ ذلك من الحديث الذي رواه البخاري، عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصّامت عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزآ من النّبوّة» . وكما ثبت في القرآن الكريم، أن يوسف عليه السّلام، كان أول ما بدئ به، الرؤيا الصالحة، قال تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] .
2- الرؤيا الصالحة، أي الصادقة، لا تختص بالمؤمنين، ولكن قد تأتي لغير المؤمنين، مثال ذلك رؤيا ملك مصر، قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] ، وقد تحققت الرؤيا بكامل تفاصيلها، كما رأى صاحبا يوسف في السجن رؤيتين قد تحققتا، وكانا كافرين، والدليل على ذلك أن يوسف عليه السّلام قد دعاهما إلى الإسلام قبل أن يؤول رؤياهما، قال تعالى: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) [يوسف: 39] ، ولكن لا تكون تلك الرؤى بشرى للكافر.
3- تعبير الرؤى فضل من الله- عز وجل-، تفضل به على بعض عباده المؤمنين، والدليل على ذلك أن الملأ قالوا لملك مصر: أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [يوسف:
44] ، أي أن تأويل الأحلام له علماء متمرسون، والدليل على أنه فضل من الله، قول يوسف عليه السّلام في آخر ما ذكر القرآن من قصته، قال تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 201، 202) .(2/152)
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يوسف: 101] . فقد أثبت أن الله هو الذي علمه تفسير الرؤى، بل أثبت أنها من المنن العظيمة؛ لأن يوسف عليه السّلام قد أثنى على الله بتعليمه لها، وقرنها بنعمة الملك.
وإذا كان تأويل الرؤى علما ربانيّا فلا ينبغي لأحد أبدا أن يتكلم فيه بدون دراية، كما ينبغي لمن عنده هذا العلم، أن يشكر الله كثيرا على تلك النعمة، ولا يفوتني أن أذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أوتي ذلك العلم، لما رواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى الصّبح أقبل عليهم بوجهه فقال: «هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا» .
4- ما يراه النائم على ثلاثة أضرب، رؤيا صالحة تكون بشرى للمؤمن، يراها أو ترى له، فلا يقصّها المؤمن إلا على من يحب، قال تعالى على لسان يعقوب ناصحا ابنه: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف: 5] .
والضرب الثاني: حلم من الشيطان، فعلى المسلم أن يتفل إذا رأى شيئا من ذلك، وينقلب على جنبه الآخر ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره بإذن الله، لما رواه البخاري، عن أبي سعيد الخدريّ أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبّها فإنّما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدّث بها، وإذا رأى غير ذلك ممّا يكره فإنّما هي من الشّيطان فليستعذ من شرّها ولا يذكرها لأحد فإنّها لا تضرّه» .
والضرب الثالث: يرى النائم أضغاث أحلام لا معنى لها غالبا، فلا يذكر منها شيئا بعد يقظته.
5- من الذنوب العظيمة، أن يدعي الإنسان رؤيا لم يرها، لما ورد في صحيح البخاري، عن ابن عبّاس عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل» «1» .
6- لماذا يبدأ الوحي بالرؤيا الصالحة؟ يبدأ الوحي بالرؤيا الصالحة، لتكون بمثابة إرهاصات للنبوة، وتكون إعدادا نفسيّا وذهنيّا للأنبياء، لتحمل أعباء أعظم المهام في هذه الدنيا، وهي الدعوة إلى الله- عز وجل-، يشعر بها النبي- قبل الوحي- أنه غير البشر العاديين، وأن الله- سبحانه وتعالى- سيختصه بشيء عظيم، حتى إذا جاءه الوحي لم يكن مفاجئا له، أو يظن أن ذلك توهمات من الشيطان، لأنه إذا تدبر حاله وما كان يراه قبل
__________
(1) البخاري، كتاب: التعبير، باب: من كذب في حلمه، برقم (7042) .(2/153)
البعثة من رؤى صالحة اطمئنت نفسه أن ما يراه ويسمعه من وحي الله حقّ وصدق، فإذا كان الشيطان لم ينزغ به وهو نائم، فكيف ينزغ به وهو يقظان، كما أن أهله، والمقربين منه، الذين يعلمون منه الرؤيا الصالحة، إذا سمعوا منه أنه يوحى إليه من ربه كانوا أول المصادقين به، كخديجة رضي الله عنها وصاحبه أبي بكر الصديق، فقد يكون تصديق أبي بكر له من أول وهلة وبدون أدنى تردد كان بسببه علمه بالرؤيا الصالحة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، قبل البعثة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهّد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر) «1» . وقال الإمام النووي رحمه الله: (قال القاضي رحمه الله وغيره من العلماء: إنّما ابتدئ صلّى الله عليه وسلّم بالرّؤيا لئلّا يفجأه الملك ويأتيه صريح النّبوّة بغته فلا يحتملها قوى البشريّة فبدئ بأوّل خصال النّبوّة وتباشير الكرامة من صدق الرّؤيا) «2» .
[مسألتان مهمتان:]
ويتفرع على الإعداد الذهني والنفسي الذي أشرت إليه مسألتان مهمتان:
المسألة الأولى:
يجب الإعداد الجيد ذهنيّا ونفسيّا لكل من يتولى ولاية سواء الكبرى أو الصغرى، سواء في الحياة المدنية أو العسكرية، يجب أن يعدّ إعدادا خاصّا بمعرفة العلوم التي يحتاج إليها، وإعدادا عامّا بالأخلاق والقيم التي يجب أن يتحلى بها كل من يتولى أمرا من أمور الرعية، ويدل على ذلك أن الله- عز وجل- قد هيأ نبيه للرسالة بالرؤيا الصالحة، التي كان يراها قبل البعثة، كما هيأه أيضا باشتغاله برعي الغنم، وكان ذلك له ولإخوانه من الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا، وقد ورد في صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» ، فقال أصحابه: وأنت، فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» «3» .
المسألة الثانية:
الإعداد الذهني والنفسي، يجب الاهتمام به ومراعاته، حتى في إلقاء الأخبار والأنباء العظيمة، التي قد يكذبها السامع من غرابتها، قد يؤخذ ذلك من أن رؤيا النبي عليه السّلام الصادقة، التي كانت تتحقق مثل فلق الصبح، يحتمل أنها كانت عونا لأصحابه على تصديقه في خبر الوحي، فإن قيل: من أين أخذت ذلك، قلت: أخذت ذلك من القرآن الكريم، ألم تر أن الله- عز وجل- حين ذكر معجزة عيسى عليه السّلام، التي كانت فتنة لكثير من الناس لغرابتها، ذكر قبلها قصة زكريا عليه السّلام، كيف اشتعل منه الرأس
__________
(1) فتح الباري (1/ 23) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 198) .
(3) البخاري، كتاب: الإجارة، باب: رعي الغنم على قراريط، برقم (2262) .(2/154)
شيبا، وكانت امرأته عاقرا، وكيف لم يكلم الناس ثلاث ليال، بغير مرض في لسانه، وكانت تلك القصة بمعجزاتها كالتمهيد الذهني لمعجزة أعظم وأغرب على عقول الناس، وهي معجزة عيسى عليه السّلام، واستخدم النبي نفس النهج وهو الإعداد الذهني والنفسي في أول يوم صدع فيه بالدعوة، كما ورد عند البخاري، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا نزلت:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الصّفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عديّ» ، لبطون قريش حتّى اجتمعوا، فجعل الرّجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟» قالوا: نعم؛ ما جرّبنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» «1» .
فيجب علينا أن ننتبه لهاتين المسألتين جيدا، وهما الإعداد الذهني والنفسي لمن سيتولى أمرا هامّا، أو من سنلقي عليه أخبارا لا يألفها.
7- رؤيا الأنبياء حق، لقول عائشة: (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، ولفظة (رؤيا) ، جاءت نكرة في سياق النفي، وهي تقتضي العموم، وحيث إن كل رؤى النبي صلّى الله عليه وسلّم تتحقق، علمنا أن رؤيا الأنبياء حق؛ إذ لو كان للشيطان نصيب منها، لتحقق بعضها ولم يتحقق الآخر.
8- رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، كانت تتحقق على وجه لا يختلف اثنان على تأويلها وتحققها، استفدنا ذلك من قول عائشة: (إلا جاءت مثل فلق الصبح) . فقد شبهت تحقق الرؤيا مثل ضياء الصبح، الذي لا يخالف أحد في وجوده وسطوعه، فكذلك رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو اختلف عليها اثنان ما صح التشبيه قال الإمام النووي رحمه الله: (فلق الصبح هو ضياؤه وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البين) «2» .
الفائدة الثّالثة:
في الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، لقوله:
«ما أنا بقارئ» . وهذا أبلغ في إقامة الحجة على الكفار، في أن القرآن الذي أعجز العرب والعجم كان من عند الله، ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ ويكتب، لادعى الكفار أنه جاء بالقرآن، بعد أن تعلم وقرأ الكتب المنزلة على الرسل، وقد تيقن الكفار أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان أميّا وإلا
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ برقم (4770) . ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ برقم (208) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 197) .(2/155)
لما ادعوا أن الذي يعلمه ويكتب له أحد أصحابه، قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ، ولكن الله- عز وجل- فضح كذبهم، وبين أن الذي يدعون أنه يعلم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ليس من العرب بل هو رجل أعجمي، قال تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] ، حتى أهل الكتاب كانوا على يقين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أميّا، بل تيقنوا أنه لم يقرأ كتب الرسل السابقين، لذلك كانوا يسألونه في مسائل يريدون أن يعجزوه بها، ليس لها جواب إلا في كتبهم، روى البخاري: أنّ عبد الله بن سلام بلغه مقدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ: ما أوّل أشراط السّاعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ قال: «أخبرني به جبريل آنفا» «1» ، بذلك تعلم حكمة الله- عز وجل- في كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أميّا، ولو لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم معجزة إلا أنه تكلم بجوامع الكلم مع كونه أميّا لا يقرأ ولا يكتب، لكفى ذلك حجة على الكفار بصدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم وقد بين الله تعالى رحمته بالناس حيث قدّر على رسوله أن يكون أميّا بقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] .
الفائدة الرّابعة:
على المسلم إذا بدأ في طلب العلم، أو في تعليمه، أن يسمي الله- عز وجل- وأن ينخلع من حوله وقوته، ويكون يقينه بالله وحده، استفدنا ذلك من قوله:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق: 1] قال الإمام ابن حجر رحمه الله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، أي:
لا تقرؤه بقوّتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربّك وإعانته، فهو يعلّمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدّم وغمز الشّيطان في الصّغر، وعلّم أمّتك حتّى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمّيّة) «2» .
ومن رحمة الخالق بخلقه أنه يسر لهم أدوات العلم ولم يتركهم لغياهب الجهل، وهذا من مقتضيات الخلق، يؤيد ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] ، فالله هو الذي منحنا تلك الحواس لنستعين بها على تلقي العلم حيث ذكرت تلك الحواس بعد ذكر خروج الناس من بطون الأمهات لا يعلمون أي شيء، والعلوم النافعة هي توفيق من الله- عز وجل- وفتح رباني، وبقدر ما جعل الله في تلك الحواس من حسن نظر وتفكر وفهم، كان صاحبها في
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: كيف آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه برقم: (3938) .
(2) فتح الباري (1/ 24) .(2/156)
العلم أرسخ، كل ذلك شريطة أن يأخذ الإنسان العلم من منابعه الصحيحة، ويبذل فيه جهده، ويعمل فيه سمعه وبصره وقلبه، مع تقوى الله- عز وجل- لقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 28] ، وليس في الآية أبدا دليل على ما يدعيه بعض الجهلة أن تقوى الله تأتي بعلم رباني- وهو ما يسمونه بالعلم اللادنّي- دون أن يتكلف الإنسان فيه، الصبر والمشقة وعناء طلب العلم وملازمة الشيوخ.
الفائدة الخامسة:
في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) . والعلق: هو الماء المهين، هو أساس مادة الخلق، نفهم من ذلك ضالة قدر الإنسان في مقابل عظيم شأن الله حيث جاءت الآية التي تليها مباشرة: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) [العلق: 3] ، والله- عز وجل- يذكرنا دائما في القرآن الكريم بضالة مادة الخلق، ليتبين لنا ضالة المخلوق من هذه المادة، والحكمة من ذلك ألا نغتر بما عندنا، ولا نتكبر على الخالق العظيم، وأن يكون ذلك رادعا لنا حتى لا نجادل في الله أو في آيات الله، قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4] .
الفائدة السّادسة:
في قولها: (ثم حبّب إليه الخلاء) ، دليل آخر على اعتناء الله بنبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، فقد حبب الله إليه الخلاء، وهو التعبد في خلوة، مع مظاهر الاعتناء الآخرى التي ذكرت في الكتب مبسوطة، قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أبو سليمان الخطّابيّ رحمه الله: حبّبت العزلة إليه صلّى الله عليه وسلّم لأنّ معها فراغ القلب، وهي معينة على التّفكّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشّع قلبه) «1» .
ويتفرع على ذلك: ضرورة أن يربي الداعية نفسه على المجاهدة والصبر، وأن يجعل جزآ من عبادته لله في السر أو في خلوة، ليستعين بذلك على مجاهدة الناس والصبر على أذاهم، حتى تكون الخلوة معينا له على تحقيق الإخلاص؛ لأن جلّ أعمال الداعية يراها الناس، وقد يتهمه الشيطان بالرياء، فتأتي الخلوة لتزيل هذه الشبهة التي قد تعكر عليه صفو عبادته.
ولا يشترط أن ينقطع تماما عن الناس ليحقق الخلوة التي فيها كمال الإخلاص، بل يكفيه أن تكون له بعض العبادات التي لا يراها أحد إلا الله- عز وجل-، كقيام الليل، وذكر الله خاليا، حتى تفيض عيناه من خشية الله، وقد تكون في كفالة يتيم، أو صدقة جارية لا يعلمها إلا الله، وهذه الأمور من الضرورة بمكان لكل أحد، حتى يتأكد من نفسه الإخلاص، وحذار حذار، أن تعلم كلّ أحد بكل أعمالك التي تتقرب بها إلى الله، أو تحبّ
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 198) .(2/157)
أن يطلع عليها الناس، فقد تكون هذه من علامات الرياء.
الفائدة السّابعة:
الأخذ بالأسباب سنة الأنبياء، وهي لا تنافي التوكل على الله- عز وجل-، فالتوكل كما يعرّفه العلماء هو الأخذ بالأسباب مع قوة اليقين والثقة بالله، وغير ذلك لا يكون توكلا، ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في باب قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئا حتّى يأتيني رزقي. فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله جعل رزقي تحت ظلّ رمحي» «1» وقال: «لو توكّلتم على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا وتروح بطانا» «2» . فذكر أنّها تغدو وتروح في طلب الرّزق قال: وكان الصّحابة يتّجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم) «3» . انتهى.
وسنة نبينا كلها مملوءة بمظاهر أخذه بالأسباب، منها حديث الباب في قول عائشة:
(قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك) ، والتزود هو استصحاب الزاد، أمرنا الله به في محكم التنزيل، قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] .
ومن أراد أن يأخذ الدروس والعبر في حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأخذ بالأسباب، فعليه بقراءة ما جاء في الهجرة المباركة، فكل خطوة خطاها النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ فيها بأحسن الأسباب، كأن الهجرة كانت لتعليم الأمة الأخذ بالأسباب. ومن لا يأخذ بالأسباب ويدعي أن هذا هو منتهى التوكل، أقول له: أأنت أعلم أم الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟! أأنت أشد توكلا أم الرسول؟، أقول له في النهاية: ماذا تقول في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] ، وقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] ، فأثبت الرماية لرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكان التوفيق والتسديد منه- عز وجل- ولكن جاء بعد الأخذ بالأسباب.
الفائدة الثّامنة:
ما كان عليه الصحابة من تعظيم أمر الوحي، وما أنزل من الله- عز وجل-، فكانوا يرون أنه الحق، والحق هو الصدق في الإخبار والعدل في الأحكام، ومن تلقى الوحي بهذا الاعتقاد، سارع في إقامة حدوده بتسليم وقبول، ورضي واطمئنان، لا
__________
(1) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في الرماح.
(2) الترمذي، كتاب: الزهد، باب: في التوكل على الله، برقم (2344) وابن ماجه، كتاب: الزهد، باب: التوكل واليقين، برقم (4164) .
(3) فتح الباري (6/ 113) .(2/158)
يري شيئا أحق منه بالاتباع؛ لأنه الحق وخلافه الظلم، استفدنا ذلك من قول عائشة: (حتى جاءه الحق) ولا يقال: إن المقصود بالحق هنا هو جبريل، لأنها قالت بعدها مباشرة: (فجاءه الملك) ، والملك هو جبريل، قال الإمام النووي رحمه الله: (أي جاءه الوحي) «1» .
الفائدة التّاسعة:
قوله: «فغطني حتى بلغ منى الجهد» ، أي ضمني وعصرني حتى بلغ مني التعب غايته، يصدق ذلك قوله لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» . قال النووي رحمه الله:
(قال العلماء: والحكمة في الغطّ شغله من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له وكرّره ثلاثا مبالغة في التّنبّه ففيه أنّه ينبغي للمعلّم أن يحتاط في تنبيه المتعلّم وأمره بإحضار قلبه) «2» .
والعجيب أن يفعل جبريل عليه السّلام هذا مع الرسول في أول لقاء معه، والذي يفترض فيه أن يكون أكثر ودا وتلطّفا، ولكن هكذا يربّى النبيّ من اليوم الأول للبعثة، يعوّد نفسه على أعباء الرسالة، ويؤهل نفسه على ما سينزل عليه من ربه، قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمل: 5] .
ولا يخفى على أحد ما كان يعانيه النبي من شدة عند نزول الوحي، فقد ورد في البخاري، عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» . قالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا) «3» .
وكذلك شدد عليه جبريل عليه السّلام من أول يوم ليتحمل الأمر في معاندة أهل الزيغ والضلال، فقد روى البخاري، عن عبد الله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتّى سجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كان لي منعة!! قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساجد لا يرفع رأسه حتّى جاءته فاطمة فطرحت عن
__________
(1) شرح صحيح مسلم (2/ 199) .
(2) شرح صحيح مسلم (2/ 199) .
(3) البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم (2) ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم في البرد، برقم (2333) .(2/159)
ظهره فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه) «1» .
وعلى ولي الأمر أن يأخذ درسا من ذلك، إذا أراد أن يربي من يعول، فهكذا تكون التربية، الأخذ بالشدة أولى، والشدة لا تعني عدم الرحمة والشفقة، ولكنها تعني عدم الترف، وعدم تلبية كل ما يحتاج إليه المتربّي، حتى لو كان نافعا.
وقد تجلت التربية الربانية للرسول طوال حياته، انظر إلى صبره على أذى المنافقين والكافرين، انظر إلى شجاعته في الغزوات والمعارك، انظر كيف كان يتحمل المرض والجوع، انظر كيف كان يعالج عوام المسلمين أصحاب الجفاء والغلظة، بل كيف تحمل انقطاع الوحي في حادثة الإفك.
الفائدة العاشرة:
نأخذ من قولها رضي الله عنها: (فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده) ، مع قوله: «لقد خشيت على نفسي» ، وأن الخوف أمر مجبول عليه الإنسان، ولا يقدح في قوته ولا يقلل من شأنه، ولا يتعارض مع خوف الإنسان من ربه، خاصة إذا رأى ما يهدد حياته ويعصف بها، المهم أن يعلم وهو في حالة الخوف، أن الله هو المنجي من المهالك، ولن يضره أحد إلا بإذن الله، وبشيء قد كتبه الله عليه، قال الإمام النووي رحمه الله (ربما خشي ألا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يقدر على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسه) «2» وذكر الإمام ابن حجر عدة أقوال عن حقيقة الخوف الذي انتاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجح منها ثلاثة أقوال؛ وهي: أن يكون خوفه صلّى الله عليه وسلّم من الموت لشدة الرعب، أو المرض، أو دوام المرض «3» ، ومما يؤيد أن الخوف أمر مجبول عليه الإنسان- ولو كان نبيّا- قوله تعالى على لسان موسى وهارون: قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) [طه: 45]
الفائدة الحادية عشرة:
ما يجب أن تكون عليه الزوجة مع زوجها، وكذلك الزوج مع زوجته، نتعلم ذلك من النقاط التالية:
1- يجب على الزوج أن يعلم أن الزوجة هي خير سكن له، يلجأ إليها عند نزول الأمر الجلل وغيره، يستشيرها في أمره، ويشكو إليها ما يجده من مصاعب الحياة، ولا يقدح ذلك في رجولته، لأنها سنة الله في هذا الكون، قال تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف: 189] ، ولو كان اللجوء إلى الصاحب أولى وأنفع في تلك المواقف، لذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر الصديق وهو
__________
(1) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة ... (240) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 200) .
(3) انظر فتح الباري (1/ 24) .(2/160)
الرجل الحكيم ولكن ما ذهب إلا لخديجة، علمنا ذلك من قولها: (فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة) ، وقولها: (فقال لخديجة وأخبرها الخبر) . قال الحافظ ابن حجر: (من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه) «1» .
2- يجب على الزوجة أن تهدئ من روع زوجها، وتكون له خير معين على مصائب الدنيا وهمومها وغمومها، وتقول له ما يناسب المقام، ولا يمكن أن تقوم المرأة بهذه المهمة الشاقة، إلا إذا كانت حكيمة في تصرفاتها، لبيبة في أحكامها، رزينة في أقوالها، فإن الزوج لو اعتاد منها خفة العقل، وسفاهة الرأي وإذاعة السر، انصرف عنها لغيرها، يستشيره في أمره، ويستأمنه على سره، وبذلك تكون قد انقطعت حبال الصلة بين الرجل وزوجته، علمنا ذلك من موقف خديجة رضي الله عنها ترى زوجها يدخل عليها بهذه الحالة من الخوف والرجفة، وهي الزوج الحنون، فلا ترتجف ولا ترتعد، بل تثبت، وتقول له كلمات موجزة أذهبت عنه كل ما يجد: (كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم ... ) .
4- يظهر من الحديث بصورة جلية واضحة، فقه خديجة رضي الله عنها وعلمها وحكمتها وذلك في النقاط التالية:
أ- علمها وإيمانها بالله- عز وجل-، في قولها: (كلا والله) ، وثقتها به في قولها:
(ما يخزيك الله أبدا) .
ب- إحاطتها بما يحبه الله من الأخلاق والأعمال، وأن هذه الأعمال إذا كانت في عبد فلن يسوءه الله أبدا حيث ذكرت أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصفاته، بعد قسمها أن الله لن يخزيه أبدا، ومن فقهها أيضا أنها ذكرت الحكم، وهو عدم الخزي، وقدمت بين يديه علة الحكم، وهو اتصاف الرسول بهذه الصفات.
ج- حسن تصرفها، وذلك أنها ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، ولكن بعد أن هدأت من روعه، ليستطيع أن يقص عليه خبره جيدا، كما أنها بالذهاب إلى ورقة جمعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم العلم العام بالمسألة، وهو علمها، والعلم الخاص، وهو علم ورقة الذي كان يكتب الكتاب العبراني.
د- حكمتها ومن ذلك، أنها لم تحك لورقة ما رأى الرسول مع أنه أخبرها به، ولكن قالت لورقة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك؟ لأن الذي رأى ليس كالذي سمع، كما أنها
__________
(1) انظر فتح الباري (1/ 25) .(2/161)
استرعت انتباه ورقة أولا قبل الحكاية، بقولها: (اسمع) وتلطفت إليه بقولها: (يا بن عم) وبقولها: (من ابن أخيك) ، هذا الفقه والعلم والدراية والحكمة من خديجة، لا أظن أن أحدا نازعها فيهم، لذلك أثنى عليها النبي غاية الثناء وأحبها حبّا لم يحبه لأحد من نسائه سواها، ويجب أن نتأمل أن هذا الفقه والعلم، كان منها قبل البعثة فما بالكم بعدها. قال الإمام النووي في مدح أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (وفيه أعظم دليل وأبلغ حجّة على كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوّة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها) «1» .
الفائدة الثانية عشرة:
في قول خديجة: (والله ما يخزيك الله أبدا) ، حثّ وترغيب لأفراد الأمة أن تتمثل بهذه الأخلاق الحميدة، أولا: لأن الله- عز وجل- يحبها، وأنه يكافئ من اتصف بها بعدم الخزي في الدنيا والآخرة. ثانيا: لأنها أخلاق سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم، التي ربّاه الله عليها قبل البعثة ليأهله للقيام بأعظم المهام.
قال الإمام النووي: (قال العلماء رضي الله عنهم: معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنّك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشّمائل. وذكرت ضروبا من ذلك وفي هذا دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السّلامة من مصارع السّوء) «2» .
الفائدة الثالثة عشرة:
تصديق ورقة بن نوفل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم تصديقا كاملا، وذلك أنه أقر بأن الذي أنزل على الرسول هو الحق، فقال: (هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى) . فعلمنا إيمانه بجبريل وموسى وعيسى، لقول الراوي: (وكان امرآ قد تنصر في الجاهلية) ، وقبل ذلك أنه آمن بالله- سبحانه وتعالى- وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب، بل إنه عزم على نصرة النبي على أعدائه، وأن يهاجر معه عند ما يخرجه قومه، فكل ذلك يدل قطعا على أنه صدق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ونوى النصرة والجهاد في سبيل الله، فإذا قال قائل: كيف تحكم له بذلك، وهو لم يشهد الشهادتين؟.
قلت له: إنه توفي بعد تلك الحادثة، وقبل تتابع الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس أن يؤمنوا به، ويصدقوه ويشهدوا الشهادتين.
الفائدة الرابعة عشرة:
قد يشعر أهل الدين والعلم، بقرب أجلهم، وذلك لقول ورقة:
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 202) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 202) .(2/162)
(ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك) . فكأنه شعر بقرب أجله، يصدق ذلك قول الراوي:
(ثم لم يلبث ورقة أن توفى) ، وهذا أمر مشاهد.
الفائدة الخامسة عشرة:
أن مسلك الكفار مع كل الأنبياء واحد، لا يختلف باختلاف العصور، ولا باختلاف الرسل، أو حتى باختلاف الحضارات والثقافات، ونعلم أيضا، أن سنة الله- عز وجل- في الأرض، هي العداء المستحكم بين الحق والباطل، وأنهما لن يرتفعا ولن يتفقا، والدليل قول ورقة: (لم يأت رجل قط بمثل بما جئت به إلا عودي) ، فإذا كان الأنبياء وهم أحياء يؤمرون بأمر الله، ومعهم المعجزات الظاهرات البينات، لم يسلموا من معاداة الكافرين وإيذائهم، فهل يسلم أتباع الأنبياء من عداوة الكفار؟! من ظن هذا فقد وهم، ويصدّق ما اعتقده ورقة، قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) [إبراهيم: 13] .
يتضح من الآية أن الكافرين لن يرضوا من الأنبياء إلا بأمرين، إما الخروج من أرضهم أو أن يعودوا إلى ملتهم، وترك ما هم عليهم من الدعوة إلى الله- عز وجل-، فهذا هو نهج كل كافر في أي عصر، مع أي رسول في أي وقت، انظر كيف كان ورقة بن نوفل على يقين من إخراج الكافرين للرسول حيث قال: (إذ يخرجك قومك) .
الفائدة السادسة عشرة:
يتفرع على ما سبق، أن أهل الحق كلما كانوا للأنبياء أشد طوعا واتباعا، كان الكفار لهم أشد عتوّا وعداء، ومن ثمّ إذا وجدنا الكفار يحبوننا ولا يعادوننا، فيجب علينا أن نراجع ما نحن عليه من إيمان، فقد يكون فيه دخن، جعل بيننا وبين الكافرين حبّا، ولكن في بعض الأوقات قد يداهن الكفار المؤمنين لضعفهم وقوة أهل الحق.
الفائدة السابعة عشرة:
لا تكون النبوة إلا في الرجال، لقول ورقة: (لم يأت رجل قط) ، ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف: من الآية 109] .
الفائدة الثامنة عشرة:
لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، من مكة مهاجرا إلى المدينة اختيارا، لطلب راحة البال أو سلامة الجسد، بل إنه أخرج منها مكرها، ولولا ذلك ما خرج، لقول ورقة:
(إذ يخرجك قومك) ، وكراهة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمر الخروج وترك مكة نستشعرها من قوله: «أو مخرجيّ هم» .
الفائدة التاسعة عشرة:
في الحديث منقبة لعائشة رضي الله عنها حيث إنها ذكرت كل ذلك عن(2/163)
خديجة، ولم تمنعها غيرتها منها أن تذكر فضلها وعلمها وحكمتها، فقد يكون الإنسان يغار أشد الغيرة من أخيه، ولكن لا تمنعه هذه الغيرة من قول الحق، والثناء عليه بما هو أهله وهذا مسلك أهل الفضل.
شاهد على خلقه صلّى الله عليه وسلّم بعد البعثة:
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: حدّثني ابن عبّاس قال: حدّثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ، قال: انطلقت في المدّة الّتي كانت بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فبينا أنا بالشّأم إذ جيء بكتاب من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبيّ جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. قال: فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقالوا: نعم. قال فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيّكم أقرب نسبا من هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟
فقال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي. ثمّ دعا بترجمانه فقال: قل لهم إنّي سائل هذا عن هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ، فإن كذبني فكذّبوه. قال أبو سفيان: وايم الله لولا أن يؤثروا علىّ الكذب لكذبت. ثمّ قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم. قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قال: قلت:
لا. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: أيتّبعه أشراف النّاس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟ قال: قلت:
لا، بل يزيدون. قال: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال:
قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قال:
قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا؟ يصيب منّا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قال:
قلت: لا ونحن منه في هذه المدّة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا.
ثمّ قال لترجمانه: قل له إنيّ سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنّه فيكم ذو حسب، وكذلك الرّسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرّسل، وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على النّاس(2/164)
ثمّ يذهب فيكذب على الله، وسألتك هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنّهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتّى يتمّ. وسألتك هل قاتلتموه؟
فزعمت أنّكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرّسل تبتلى ثمّ تكون لهم العاقبة. وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنّه لا يغدر، وكذلك الرّسل لا تغدر. وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتمّ بقول قيل قبله قال: ثمّ قال: بم يأمركم؟ قال قلت:
يأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّلة والعفاف. قال: إن يك ما تقول فيه حقّا فإنّه نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أك أظنّه منكم، ولو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغنّ ملكه ما تحت قدميّ. قال: ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأه، فإذا فيه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله، إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ... فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين؛ فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ- إلى قوله- اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللّغط، وأمر بنا فأخرجنا. قال:
فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنّه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه سيظهر حتّى أدخل الله عليّ الإسلام. قال الزّهريّ:
فدعا هرقل عظاماء الرّوم، فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الرّوم هل لكم في الفلاح والرّشد آخر الأبد، وأن يثبت لكم ملككم؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت. فقال: عليّ بهم فدعا بهم. فقال: إنّي إنّما اختبرت شدّتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الّذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه. رواه البخاري «1» .
ملخص الحديث:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل دحية الكلبي رضي الله عنه بكتاب، وأمره أن يسلمه إلى عظيم بصرى ليسلمه عظيم بصرى إلى هرقل عظيم الروم، فلما استلم هرقل الكتاب، أمر أن يبحثوا له عن أحد من قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم ليسألهم عن خبره، فتصادف وجود أبي سفيان بن حرب في الشام
__________
(1) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا، برقم (4553) .(2/165)
(وكان كافرا يومئذ) ، وكان بين قريش وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم هدنة في تلك الفترة، وهي صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وكانت مدتها عشر سنين، فدعي أبو سفيان إلى مجلس هرقل، وأجلس أصحابه خلفه- أي خلف أبي سفيان- وبدأ يسأله عن خبر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الشّاهد في الحديث:
أن أبا سفيان بن حرب، وكان ما يزال كافرا زكّى خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم من كل الوجوه، كما سيأتي مفصلا- إن شاء الله.
فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل والذي فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم» ، فوائد منها:
1- استحباب بدأ الكتب بالبسملة، ويبدو أن هذا كان نهج الأنبياء من قبل، ويصدق ذلك قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل: 30] ، ولا يفرق في ذلك بين الكتاب المرسل إلى مسلم أو ذمي أو كافر، فكلها تبدأ بالبسملة.
2- البسملة تتكون من جار ومجرور، وهما: «باسم» ، ومضاف ومضاف إليه، وهما:
«باسم الله» ، ثم صفتين من صفات الباري- سبحانه وتعالى- وهما: «الرحمن الرحيم» ، والجار والمجرور هنا يحتاج إلى متعلق، والمتعلق محذوف، فيقدّر حسب المناسبة، فإذا كان العبد يفتتح القراءة فيكون المتعلق باسم الله أقرأ، وإذا كان يريد الذبح، يكون المتعلق باسم الله أذبح، وهكذا في الخروج والدخول، والكتابة، وغير ذلك، والتسمية أمرها عظيم، وهي من الكلمات المباركة التي لا غنى للعبد عنها خاصة في بعض المواطن كالأكل والشرب ودخول البيت، فعن جابر بن عبد الله أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا دخل الرّجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشّيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشّيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال:
أدركتم المبيت والعشاء» . رواه مسلم «1» ، وعن ابن عبّاس يبلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنّ أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله اللهمّ جنّبنا الشّيطان وجنّب الشّيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضرّه» . رواه البخاري «2» ، والذبح أيضا، لقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) [الأنعام: 118] .
__________
(1) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2018) .
(2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، برقم (141) .(2/166)
وبالتسمية يبارك الله- سبحانه وتعالى- أي عمل، وبدونها تنزع البركة من أي عمل، بل بها يحل لنا الأكل من الذبائح، وعند تركها عمدا تأخذ الذبيحة حكم الميتة، فيحرم الأكل منها، فاحرص أخي المسلم أن تبدأ كل عمل لك بتسمية الله، واعلم أنك إذا سميت بهذا اللفظ، فقد سميت بكل اسم لله- تبارك وتعالى- لأن لفظ (باسم) نكرة مضاف، فيشمل كل اسم لله تعالى، وكفى بذلك ترغيبا في البسملة.
3- السنة، حسب رأي الجمهور، أن يبتدئ كاتب الكتاب باسمه قبل اسم المرسل إليه، فيقول: من فلان بن فلان إلى فلان، والأرجح إذا كان المرسل إليه من أهل العلم والصلاح، أن نبدأ باسمه توقيرا له وعرفانا بفضله، قال الإمام ابن حجر: (فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه) «1» .
4- من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من محمد رسول الله» ، علمنا أن «رسول الله» أصبحت علما له صلّى الله عليه وسلّم وإلا لقال: من محمد بن عبد الله، خاصة أنه يرسل إلى ملك لا يؤمن به ولا يعرفه، وعلمنا أيضا أن صفة الرسالة ألصق به من نسبه، وأن ذلك أولى- أي أنه يدعى بصفة الرسالة- بل أوجب عند ذكره، وقد ذكرت في موضع آخر سوء أدب من يقول: (محمد بن عبد الله) ، فالأدب الأدب مع مقام النبوة والرسالة.
5- في قوله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل: «عظيم الروم» ، التلطف مع من تدعوه إلى الإسلام، فلم يكتب اسمه مجردا من الألقاب، بل قال: عظيم الروم؛ لأنه إذا حقر أمره، قد يحقر المرسل إليه أمر الكتاب، وما جاء فيه، وقد يتعدى ويسب الإسلام وهذه مفسدة، وقد نهينا عن ذلك، في قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: من الآية 108] .
فإذا كان سب الكفار مصلحة، إلا أن سب الله- تبارك وتعالى- مفسدة عظيمة، وأي مفسدة أعظم منها!، وعندنا قاعدة عظيمة، أن درأ المفاسد أولى من جلب المنافع.
ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إلى هرقل ملك الروم) ؛ لأن ملكه غير شرعي، لم يوله الله- تبارك وتعالى- كما أنه لم يقل: إلى هرقل العظيم بل نسب عظمته إلى الروم فقط، حتى لا يثبت له العظمة المطلقة، بل قيد اللفظ، وهذا الكلام يفهمه أمثال هرقل جيدا، يصدق ذلك قوله تعالى على لسان الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
__________
(1) فتح الباري (1/ 38) .(2/167)
هذا [الأنبياء: من الآية: 63] ، فأضاف كبره إلى بقية الآلهة، ولم يقل: بل فعله الكبير، ومثل هذه التوافقات بين الأنبياء، والتي ذكرت طرفا منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب، تدلنا على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد نهلوا من منبع واحد، وهو المنبع الرباني الذي رباهم كلهم جميعا، على كمال التوحيد، وتمام العبودية، قال الإمام النووي رحمه الله:
(لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: ملك الروم، لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا من ولاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ولاه من أذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل: إلى هرقل فقط، بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم، أي الذين يعظمونه ويقدمونه، وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام) «1» .
الفائدة الثانية:
قوله: «سلام على من اتبع الهدى» ، فيه دليل على أن الكافر لا يبدأ بالسلام حيث لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: (سلام عليك) ، وما دام هرقل لم يتبع الهدى، فإنه ليس له حظ من هذا السلام، فإن قيل: ولماذا ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في بداية الخطاب؟ قلت: قد يكون ذلك من باب الترغيب له في دخول الإسلام واتباع الهدى، فكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول له، حرمت السلام في هذا الخطاب لعدم اتباعك الهدى، فإن اتبعت شرفت بإلقاء السلام، ويكون السلام هنا بمعنى الخبر، الذي يقصد به الترغيب. والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: (ليس المراد من هذا: التحية، وإنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم) «2» .
الفائدة الثّالثة:
فيه استحباب أن يقال في صدر الكتاب بعد تصديره بالبسملة، (أما بعد) ، وهي تضفي على الكلام جمالا، وأما ما قيل أن (أما بعد) هي فصل الخطاب الذي آتاه الله داود، والمشار إليه في قوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] ، فهذا بعيد جدّا، وكذا استبعده الشيخ/ العثيمين رحمه الله، ومعنى (أما بعد) أي:
أما الابتداء فهو باسم الله، وأما المكتوب فهو ما سيأتي.
وعلى كل حال فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يبدأ بها الخطب والمواعظ والرسائل.
الفائدة الرّابعة:
قوله: «بدعاية الإسلام» ، أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهي كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص، والتي لا يقبل من إنسان عمل صالح إلا إذا أتى بها.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) .
(2) فتح البارى (1/ 38) .(2/168)
الفائدة الخامسة:
قوله: «أسلم تسلم» ، منتهى البلاغة، لما فيها من الجناس الاشتقاقي، فالكلمتان من ثلاثة حروف فقط، السين واللام والميم، ومع ذلك تشتمل الكلمتان على معان كثيرة بحروف قليلة مع بديع الجناس، أما المعاني الكثيرة، فهي تشتمل على الأمر بالدخول في الإسلام والانقياد له، وذلك في قوله: «أسلم» ، وهذا الأمر من الرسول في غاية القوة؛ لأن فيه عدم مداهنة الكفار والتملق إليهم، ولو كانوا في موضع قوة، ويملكون ما لا نملك من العدد والعدة، فمن أسلم فقد سلم في الدنيا من الحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال، وفي الآخرة من الخزي والخلود في جهنم، ومن لم يسلم فلن يسلم من كل ذلك، ففي قوله: «تسلم» ترغيب إن أسلم، وترهيب إن لم يسلم، لأن الذي يفوته مغانم السلامة، سيناله مغارمها.
لم يحتج النبي صلّى الله عليه وسلّم لبيان كل ذلك إلا بكلمتين خفيفتين على اللسان والأذن، وذلك لما أعطاه الله من جوامع الكلم، وهذه القوة في الدعوة. وعرض ما عندنا من حق، ليست بغريبة على الرسل، انظر إلى ما كتبه سليمان عليه السّلام إلى بلقيس في كتابه الكريم: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 31] ، فسليمان لم يرجوهم ولم يستسمحهم، بل أمرهم أمرا بالدخول في الإسلام، وهم الذين لم يؤذوه ولم يناصبوه العداء، بل لم يكن يعرف عنهم أي شيء قبل بلاغ الهدهد له بالنبأ المبين، ولم يكن في هذا النبأ ما يعيبهم إلا قول الهدهد: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: 2] ، هذا كل الذي أغضب سليمان عليه السّلام، فجيّش لذلك الجيوش، مع أن الملكة قد حاولت مصالحته، وأن تبدي له أنها تريد السلام لا الحرب وأنها لا تعاديه، فأرسلت له بهدايا عظيمة فلم يقبل تلك الهدايا، لماذا؟ والمثل الشائع يقول: الرسول قبل الهدية، ولكنه لم يقبلها وردها عليهم بل وتوعدهم بالخروج من ديارهم أذلة، لأنها رشوة، في مقابل أن يسكت على ما هم فيهم من الشرك بالله، وقد أكد الله- عز وجل- أن قتال الكفار واجب على المسلمين، إلى أن يكون الدين كله في الأرض لله، لا يعبد معه شيء آخر، قال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39] . قال الإمام النووي رحمه الله: (وفيه استحباب المبالغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة، فإن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلم تسلم» في نهاية الاختصار، وغاية من الإيجاز والمبالغة، وجمع المعاني، مع ما فيه من بديع التجنيس وشمولاه لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل، وأخذ الديار والأموال، ومن عذاب الآخرة) «1» .
__________
(1) شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 108) .(2/169)
وقد وضح الحافظ ابن حجر رحمه الله عظيم ما في كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من جوامع الكلم بقوله: (اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله: «أسلم» والترغيب بقوله: «تسلم ويؤتك» والزجر بقوله: «فإن توليت» والترهيب في قوله: «فإن عليك» والدلالة بقوله: «يا أهل الكتاب» وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم صلّى الله عليه وسلّم) «1» .
الفائدة السّادسة:
في الحديث عظيم أمر الوالي، ومن يقوم مقامه، وكذلك من يرعى رعية صغيرة أو كبيرة، لأن الناس له تبع وهو لهم قدوة، ينقادون لما انقاد له، ويؤمنون بما آمن به، وقد قالوا قديما وحديثا: الناس على دين ملوكهم، عرفنا ذلك من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لهرقل: «يؤتك الله أجرك مرتين» ، وذلك أن بإسلامه سيدخل السواد الأعظم من رعيته في الإسلام، وهذا أيضا ترغيب من النبي صلّى الله عليه وسلّم لهرقل، لما سيناله من مضاعفة الأجر إذا أسلم، أجره وأجر من أسلم بإسلامه، يصدق ذلك ما رواه مسلم، عن أبي مسعود الأنصاريّ قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّي أبدع بي فاحملني فقال: «ما عندي» ، فقال رجل: يا رسول الله أنا أدلّه على من يحمله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» «2» . وكما رغبه بالأجرين رهّبه من الإثمين، أي تضعيف العذاب إذا لم يدخل في الإسلام، وذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين» أي إثم رعاياك الذين لن يسلموا بعدم إسلامك، يضاعف الله- عز وجل- عليه الإثم دون أن يخفف ذلك من آثامهم شيئا.
وقد يسأل سائل، كيف يستقيم أن يتحمل العبد وزر غيره؟ وقد قال الله- عز وجل- في محكم التنزيل: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ، أي: لا تتحمل نفس مكلفة وزر نفس أخرى، والرد أنه لا تعارض، لأن النفس التي كانت سببا في إضلال نفس أخرى عليها وزران، وزر ضلالها ووزر إضلال غيرها، دون تحمل وزر النفس التي أضلتها، وذلك منتهى العدل، يصدق ذلك قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [النحل: 25] .
الفائدة السّابعة:
في سند الحديث، بيان ما كان عليه الصحابة والسلف رضي الله عنهم، من الحرص على علو الإسناد، فها هو ذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يخبرنا أن هذا
__________
(1) فتح الباري (1/ 38) .
(2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم ... ، برقم (2276) .(2/170)
الحديث أخذه من فم أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه بلا وساطة، فقال: (حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ) .
الفائدة الثّامنة:
قد يسأل سائل، كيف تقبل الأمة هذا الحديث، من أبي سفيان بن حرب، وكان وقتها كافرا، لم يسلم بعد؟ أقول: إن هناك فرقا بين وقت تحمل الحديث، ووقت أداء الحديث- أي روايته- فالأخير هو الذي يهم أهل الحديث، فيجب أن يكون الراوي وقت الأداء، مسلما صادقا عدلا، فأبو سفيان وقت تحمل هذا الحديث كان كافرا، ولكن عند الأداء كان مسلما، مثاله الحديث الذي رواه البخاري عن محمود بن الربيع، والذي ذكر فيه أنه عقل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجّة مجّها في وجهه، وهو ابن خمس سنين «1» ، فوقت تحمل الصحابي هذا الحديث كان صغيرا لا تقبل منه الرواية، ولكن قبلت منه الرواية لما كبر.
الفائدة التّاسعة:
في الحديث ذكاء هرقل وحكمته، ويتبين ذلك في النقاط التالية:
1- أنه لما جاءه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعوته إلى الإسلام، لم يصدقه ولم يكذبه، حتى يتأكد من أمره، فتوسط في الأمر فقال: (هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي) ، كما أن من حكمته أيضا، أن سأل عن قوم يعرفون مدخله ومخرجه ليسألهم عنه. وهذا من حكمة الرجل، التريث وعدم الحكم دون تروّ أو تفكر.
وتذكّرنا هذه الواقعة بحكمة بلقيس ملكة سبأ، والتي تنضح كل قصتها بالحكمة، فنعم الملكة كانت، لما جاءها كتاب سليمان عليه السّلام حكمت عليه بأنه كتاب كريم، ولم تتخذ قرارا سريعا بل شاورت الملأ حتى لا يعتب عليها أحد إذا أخطأت في قرارها، ثم أرسلت إلى سليمان هدية، لتعلم هل يريد دنيا فيقبل هديتها، أم يريد الآخرة فيرد عليها هديتها، ثم لما رأت عرشها عند سليمان عليه السّلام، تروّت في حكمها لما سئلت عنه، فلم تستطع أن تنفي أنه عرشها، لأنه مشابه جدّا له، ولم تحكم أنه هو حيث تركته خلفها باليمن، ولا يعقل أن يأتي قبلها فكانت من حكمتها أنها قالت: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل: 42] ، ولما دعاها سليمان عليه السّلام أن تدخل القصر- وأرض القصر ظهرت لها كأنها بحر عميق فإذا خافت ولم تدخل عيب عليها خوفها وهي ملكة، وإن هي دخلت ابتل لباسها- فكل ما فعلته دون تردد أن كشفت عن ساقيها.
__________
(1) فتح الباري (1/ 37) .(2/171)
وأردت بالإشارة هنا إلى حكمة بلقيس، لنتعلم منها، حسن التصرف وعدم استباق الأمور، وعدم التكذيب أو التصديق، قبل التبين والتحقيق.
2- أنه سأل عن أقرب الوفد نسبا للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث إنه أدرى الناس به، وأعلمهم بحاله، وحريّ به ألايكذب عليه وهو من أهل قرابته. قال الإمام بن حجر رحمه الله:
(وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب) «1» .
3- أنه أمر أن يكون أبو سفيان بين هرقل وبين بقية الركب، فيكون الركب خلف أبي سفيان، فلا يستحيوا أن يكذبوه، ويكونوا أمام هرقل، فيعرف كذب أبي سفيان في وجوههم، وإن لم يصرحوا بذلك، فكان هذا من دهائه وذكائه قال الإمام النووي رحمه الله «إنما فعل ذلك ليكون عليهم أهون في تكذيبه إن كذب، لأن مقابلته بالكذب في وجهه صعبة بخلاف ما إذا لم يستقبل» «2» .
الفائدة العاشرة:
هل كان هرقل يريد حقّا التأكد من صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أقول: نعم كان يريد ذلك، بل إنه استفرغ جهده ليصل للحقيقة، وذلك أنه سأل عن رجل يعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم سأل عن أقرب الناس نسبا إليه، ولم يكتف بذلك، بل وضع أصحاب أبي سفيان على الهيئة التي ذكرت آنفا ليتأكد من صدقه، والأعظم من ذلك والأهم- والذي منه نعرف أنه كان يريد الحق- هو استعراض الأسئلة التي ألقاها على أبي سفيان، فلم يسأله عن فروع الشريعة، التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتي قد يختلف فيها، وتكون مجالا للأخذ والعطاء، فتلك الفروع تختلف من شريعة لآخرى، فلا يستطيع أن يناظرها بما عنده من علوم السابقين، بل سأله عن الأصول الكلية للشريعة ليناظرها، مثل صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وحسبه ونسبه، وبماذا يأمرهم وعماذا ينهاهم؟، وهذه أسئلة من يريد معرفة الحق فعلا، فنتعلم من ذلك أننا إذا أردنا معرفة الحق فيجب أن نأخذه من أقرب مصادره وأوثقها وأصدقها، وهذا ما فعله هرقل عندما سأل عن أقربهم منه نسبا.
كما نتعلم أنه لا يجوز لمسلم، إذا أراد أن يسأل أحدا عن أمور دينه، أن يذهب إلى مبتدع، أو جاهل أو يذهب إلى من يستقي معلوماته من كتب تطعن في الكتاب والسنة،
__________
(1) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2018) .
(2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، برقم (141) ومسلم، كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع برقم (1434) .(2/172)
كذلك إذا سأل فيجب عليه أن يكون حكيما في أسئلته، يتخير منها المفيد، والذي يوصل إلى الحق من أقرب طريق، ويتجنب الأسئلة التي يكثر فيها الجدل والنقاش.
وهنا أحب أن أهمس في أذن بعض الشيوخ الذين يذهبون إلى تلك المنتديات لعرض الإسلام، فيتجادلون مع الخصوم في الفروع، وليس في الأصول، مثل: لماذا تعدد الزوجات؟ والحال أن الرجال لا تعدل، لماذا الطلاق حق للرجل وهو يسيء استخدامه؟
لماذا للذكر مثل حظ الأنثيين؟ والمرأة الآن تعمل وتشارك الرجل في كل الأعباء المعيشية، بل تقوم بها وحدها في بعض الأحيان، لماذا الذهب حرام على الرجال؟ وبعض المعادن الآخرى الأغلى ثمنا تحل له، وغير ذلك من الأسئلة، وأقول: إنه لا ينبغي لأحد من الشيوخ، وهي وجهة نظر، أن يشترك في تلك الحوارات، وذلك لأن الله- عز وجل- لما دعا أهل الكتاب للإسلام والمحاورة، قال لهم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] ، ولما أراد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إقامة الحجة على الملك الكافر ماذا قال له؟:
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] ، انظروا ماذا قال ربنا: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فالنقاش والجدال الصحيح على المنهج المستقيم، لا يستغرق وقتا طويلا، فهذه جملة واحدة من إبراهيم، أفحمت الملك وألجمت لسانه وألزمته الحجة، وانظروا إلى كل آيات القرآن في إقامة الحجج على الكافرين والمعاندين، وكذلك السنة الصحيحة، هل تجادلت معهم في الفروع أو في حكمة كل حكم من أحكام الدين، هذا لم يحدث أبدا، بل إن الكفار لما أثاروا شبهة في العصر النبوي، وهي لماذا يأكل المسلمون الذبيحة التي ذبحوها بأيديهم ولا يأكلون الميتة التي ماتت بقضاء الله؟! ذكر الله- عز وجل- تلك الشبهة في القرآن، وحذّر المؤمنين من الاغترار بها، وتجاوز هذه الشبهة، ولم يتكلف القرآن الردّ عليها، رغم أنه أفاض واستفاض في الرد على شبه المبطلين، وأهل الزيغ والضلال، ولكن ليس في تفصيلات الشريعة، وإنما في أمور العقيدة والتوحيد، قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) [الأنعام: 121] ، وإذا كانت المجادلة والمحاجة في فروع الشريعة وإقامة الحجة على المعاندين فيها خير لعلّمناها الله، ولأرشدنا إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بل لسبقنا إليها مع كفار قريش، فلما لم يحدث هذا أو ذاك علمنا أن هذا ليس بخير، ولا يجب أن نخوض فيه أبدا، وما سمعت طرفا من تلك المناظرات إلا كان(2/173)
الصوت العالي فيها، لأهل الزيغ والضلال، لأن عندهم شبهات كثيرة، وانظر مثلا إلى الشيخ/ أحمد ديدات رحمه الله، عندما حاور وجادل في أصول الشريعة، كيف كانت له الغلبة والنصر في كل الأحيان، وذلك لأن له في تلك المناظرات دليلا وبرهانا من الكتاب والسنة، ومن الحديث الذي بين أيدينا نعلم إن كان المجادل يريد الحق أم يريد أن يثير الشبهات؟!
الفائدة الحادية عشرة:
لماذا إذن لم يعلن هرقل إسلامه بعد كل تلك الأسئلة وما ذكرته من إرادته الحق؟ أقول: إن هرقل وبلا أدنى شك علم بهذه الأسئلة صدق نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنه النبي المنتظر ولكن منعه حبّ الملك عن الدخول في الإسلام. قال الإمام النووي رحمه الله: (ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما شح في الملك، ورغب في الرياسة، فاثرها على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري: (ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة) «1» . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (لو تفطن هرقل لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الكتاب الذي أرسل إليه: (أسلم تسلم) وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه) «2» .
الفائدة الثانية عشرة:
في الحديث ذم الكذب، وأنه عادة سيئة وطريقة مشينة، يستقبحها الكفار، فهذا أبو سفيان رضي الله عنه، وهو كافر عدو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويسأل عنه من رجل يقال عنه: عظيم الروم، ويود ألايرتفع للإسلام راية، وأصحابه معه كلهم على دينه، ويبغضون الإسلام ويكرهون نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ومع كل هذا لا يستطيع أبو سفيان أن يكذب ولو مرة واحدة على هرقل، هو لا يخاف أن يكذبه قومه في مجلس هرقل، بل كان يخاف فقط أن يأثروا عليه الكذب عندما يعودون إلى مكة، قال الإمام ابن حجر: (وفي قوله: يأثروا دون قوله: يكذبوا، دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا) . انتهى «3» .
وأقول: لم يستطع أبو سفيان أن يدخل كلمة واحدة كذبا في حديثه، إلا في إجابته عن سؤال هرقل، هل يغدر؟ فكانت إجابته: (نحن معه في مدة- أي هدنة- لا ندري ما هو صانع فيها) . أي: لا نعلم أيحفظ ويصون العهد أم لا؟ وهذا في الحقيقة كذب؛ لأنه على
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) .
(2) فتح الباري (1/ 38) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 108) .(2/174)
يقين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لن يغدر، وليس من خلقه الغدر، ولكن لا أحد من أصحابه يمكن أن يأخذها عليه كذبة، لأن ما في الغيب لا يعلمه إلا الله، وإذا حكم الإنسان عما في الغيب بقوله: لا أدري، فليس بكذب صريح، قال الإمام ابن حجر: (ولما كان الأمر مغيبا- لأنه مستقبل- أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه) .
وما كان هذا التفصيل مني في هذا الأمر إلا لأبين شناعة الكذب، فكيف يتنزه الكفار قبل الإسلام عن الكذب، ويقع فيه المسلمون دون مواربة ولا مداراة من الصغير والكبير، من الرجل والمرأة، من طلبة العلم أحيانا والعوام في أغلب الأحيان، يكذب الرجل لا لشيء إلا أنه اعتاد الكذب، يتكلم الرجل ولا يبالي أكاذب هو أم صادق، يكذب الرجل أمام زوجته وأولاده، دون أدنى درجات الحياء منهم، يتكلم الرجل في المجلس ويكذب ويعلم أن كل من في المجلس يعلمون كذبه ولا يبالي، الأدهى من ذلك أنهم لا يعيرونه بكذبه، وقد يقبلون شهادته بعد ذلك، والأعظم والأدهى، أن الرجل يكذب، ولو استحلف على صدق كلامه ما استحيا من الله- عز وجل- بل أكد كلامه بأغلظ الأيمان، لا يبالي بغضب الله وسخطه.
ولا يتسع المجال أن أستفيض في شناعة هذه الخصلة الحقيرة، إلا أني سأذكر كلمات قليلة جدّا للترغيب في الصدق، وتشنيع أمر الكذب، فأقول: كيف يكذب المسلم ولا يصدق في كلامه؟ وقد رأى في الحديث أن الكافر لا يكذب، أيصدق الكافر ويكذب المسلم؟ أقول: كيف يكذب المسلم ولا يتحرى الصدق وقد ورد في الصحيح عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . كيف يكذب المسلم وقد رأى ما أحدثه الكذب بمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واقعة الإفك؟ ويكفي أن الكذب قد آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف لا يصدق المسلم وقد رأى فضل الصدق على الذين خلّفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فنجّاهم الصدق، بل رفعهم وهم الذين ارتكبوا معصية بتخلفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: إن الصدق رفعهم حتى أنزل فيهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، ما كان ذلك إلا لصدقهم، بل إن هرقل في هذا الحديث قد استدل على صدق نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم(2/175)
بصدقه قبل النبوة. فو الله لا أرى في هذه الدنيا فضيلة أعظم من الصدق، ورذيلة أقبح من الكذب، ووددت لو أني تكلمات عما فعله الكذب في مجتمعات المسلمين، ولكن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
الفائدة الثالثة عشرة:
قد يدفع الإنسان ما يجده في قلبه من كره أو بغض لأحد، إلى الكذب والافتراء على خصمه، ولو كان يستقبح الكذب، وذلك لقول أبي سفيان رضي الله عنه: (وأيم الله لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت) ، ولذلك يجب أن نحرص في الخصومات من الكذب وقول الزور، حتى ولو كان الخصم عدوّا، بل أقول: ولو كان الخصم كافرا، ألم تسمع للقرآن كيف صدق مع خصومه، ولم يكذب عليهم، وذكر خصلة حسنة فيهم، قال تعالى عن أهل الكتاب: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، والقنطار هو المال الكثير، فما بالنا نحن إذا خاصمنا فجرنا، ولم نذكر أي حسنة في خصمنا.
الفائدة الرابعة عشرة:
كان هرقل على علم بأوصاف خصال الأنبياء السابقين، ولذلك سأل أبا سفيان عن تلك الخصال، ليتأكد من وجودها في النبي، فعلمنا بذلك أن الصفات المشتركة بين الأنبياء هي: أن يكون نسبهم أشرف الأنساب وأفضلها، ويصدّق ذلك الحديث الذي رواه مسلم عن أبي عمّار شدّاد أنّه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» ، وتجد كذلك أن أغلب أتباع الأنبياء من الضعفاء دون الأغنياء. يصدق ذلك قوله تعالى على لسان المكاذبين بنوح عليه الصلاة والسلام: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] ، وما حكاه الله عن جميع أتباع الأنبياء: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سبأ:
34] ، وأن أتباع الرسل دائما في زيادة، يصدق ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، وأن الحرب بين الحق والباطل، لا تكون دائما بنصرة الحق بل جعلها الله سجالا، وهذا ما حدث في غزوة بدر ثم أحد، وإذا سأل سائل لماذا تكون الحرب سجالا بين المؤمنين والكفار، والله يؤيد المؤمنين ويحبهم ويواليهم؟ قلت: حتى يكون للجهاد معنى، ويكون للتضحية وتقديم
__________
(1) فتح الباري (1/ 40) .(2/176)
النفس والنفيس لله- سبحانه وتعالى- سبيلا، ولئلا يؤمن- كذبا وخداعا- أصحاب القلوب المريضة ويدخلون الإسلام؛ لأن الإسلام ينتصر دائما، ثم إن غلبة الكفار على المؤمنين يكون ذلك استدراكا لهم ومكرا من الله- عز وجل-، والحاصل أن حكمة الله قد اقتضت لتلك الأسباب، ولغيرها أن تكون المدافعة والجهاد بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين، كما يدلنا الحديث على أن الأنبياء كلهم يأمرون بكل خير وينهون عن كل شر، وأول ما يدعون إليه هو توحيد الرب تبارك وتعالى قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
الفائدة الخامسة عشرة:
في الحديث مدح ما بعده مدح لأخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم ولشريعته حيث أثبت أبو سفيان- وهو ما يزال كافرا- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكذب ولا يغدر، وأنه ذو حسب ونسب، وأنه يأمر بالصلاة التي هي حق الله على العبد، ويأمر بالزكاة التي هي حق العباد، ويأمر بالصلة التي هي حق أصحاب الأرحام، وبعد أن فصل في الحقوق، جمع فأوعى، فذكر أنه يأمر بالعفاف، وهو اسم جامع، لكل محمود يجب أن يتحلى به العبد، وكل مذموم يجب أن يبتعد عنه العبد، لأنه كما قيل في تعريفه: هو الكف عن المحارم وخوارم المروءة، وقيل: هو الكف عما لم يحل، ولو رأى أبو سفيان من النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يسيئه أو يشينه سواء في صغره أو كبره، قبل البعثة أو بعدها، لذكرها أبو سفيان رضي الله عنه، لأنه كان حريصا كل الحرص أن يشوه سمعة النبي ولو كذبا، فعلمنا من ذلك- أي في عدم ذكر أبي سفيان لأي عيب- أن الله قد عصم النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل حياته، قبل البعثة وبعدها.
الفائدة السادسة عشرة:
تزكية أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لأن أبا سفيان رضي الله عنه أنكر أن يكون أحد منهم ارتد عن دينه بعد أن دخل فيه سخطة له، أي لكراهة الإسلام وعدم الرضا به، فهذا الارتداد هو الذي يقدح في الدين، أما أن يرتد أحد بغرض دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهذا بالقطع لا يقدح في الدين، بل يقدح في المرتد.
الفائدة السابعة عشرة:
في الحديث تنبيه إلى ما يجب على أتباع الرسل فعله مع الرسل أصحاب الفضل والخير، علمنا ذلك من قول هرقل: (ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) .
فقد تمنى أن يكون عنده ليغسل قدميه أي يكون له خادما، قال الإمام ابن حجر رحمه الله:
(وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه- إذا وصل إليه سالما- لا ولاية ولا منصبا، وإنما يطلب ما تحصل له به البركة) «1» ، وأقول لهرقل وأمثاله: قد
__________
(1) مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، برقم (1893) .(2/177)
فعل أصحاب النبي أكثر من ذلك بكثير، وقد أوردته مفصلا في أماكن متفرقة من هذا الكتاب، فلله الحمد والمنة.
مما سبق من كلام هرقل نقطع بأنه كان يعترف بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وانظر إلى قوله أيضا:
(وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه فيكم) ؛ لأنه كان يظن أنه سيخرج من بني إسرائيل.
الفائدة الثامنة عشرة:
قد يؤخذ مما سبق، أن أغلب الناس لا يؤبه لرأيهم ولا يعتد بقولهم، وكما قلت: هم على دين ملوكهم، يؤمنون إذا آمن الملوك، ويكفرون إذا كفر الملوك، هذا في الغالب، وبذلك تنهار فكرة الديمقراطية من أساسها، والتي يقصد بها حكم الشعب للشعب عن طريق الشعب، وقد عوضنا الإسلام بالشورى عن الديمقراطية.
الفائدة التاسعة عشرة:
في الحديث أن أهل الباطل، ولو كانوا أقوياء فإنهم يخافون من أهل الحق ولو كانوا ضعفاء، انظر إلى فارق القوة بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهرقل وقت إرسال هذه الرسالة، ومع ذلك يقول أبو سفيان في الحديث: (إنه ليخافه ملك بني الأصفر) .
الفائدة العشرون:
يؤخذ من الحديث أن الفلاح والرشد، إنما يأتيان بالتمسك بتعاليم الإسلام، وكذا من أراد أن يثبت ملكه، لقول هرقل لعظماء الروم لما دعاهم يعرض عليهم الإسلام: (يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت لكم ملككم) ، وقد أشار الله- عز وجل- إلى ذلك في قوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] ، أي: شرفكم، وهذا هو المشاهد في القرون الأولى المفضلة كيف كان فيها للمسلمين الرشد والفلاح والعزة والشرف؟!.
الفائدة الحادية والعشرون: يؤخذ من الحديث، أن في الملك والكراسي والمناصب فتنة عظيمة، فيؤدي ذلك إلى هلاك من يقدمها على الحق، وقد لا يتصور أحد ذلك، إلا إذا نظر إلى هرقل، كيف كان على يقين لا يساوره فيه شك أن رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم هو النبي المنتظر، وذلك من قوله: (كنت أعلم أنه خارج) . وقوله: (ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه) ، وكذلك كل تعليقاته في أجوبة أبي سفيان رضي الله عنه، مع ما قاله لعظماء الروم لما اجتمع بهم، فأراد فعلا أن يسلم، ولكنه أراد أن يجمع بين الإسلام والملك، فلما عجز عن ذلك، فضل الملك الفاني على الإسلام الباقي، وباع الآخرة بالدنيا، وهذا درس لنا جميعا أن المنصب والإسلام قد لا يجتمعان، فانظر أيهما تختار، هذا هرقل اختار المنصب فكم بقي معه، وكم تمتع به، بل الصحيح أن نقول: كم عذّب به من يوم أن مات، حتى تقوم الساعة، وبعد الساعة يكون الأمر أدهى وأمر.(2/178)
6- تزكية صدقه صلّى الله عليه وسلّم في التبليغ عن ربه:
قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) [الحاقة:
44- 46] .
هذه الآيات الكريمات دليل صريح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكذب على ربه في أي شيء من الوحي، صغيرا كان أم كبيرا، كما سنرى في الفوائد- إن شاء الله-.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
زكت الآيات الكريمات النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم تزكية إذ أثبتت له منتهى الصدق في التبليغ عن ربه- عز وجل- بلا زيادة أو نقصان أو كتمان حيث ذكرت الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الفرض- لو تقوّل على الله- وحاشاه من ذلك- في أقل شيء لعذبه الله وأهلكه فداه أبي وأمي ونفسي- وما دام لم يحدث هذا الوعيد طيلة حياة الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم، بل نصره الله وآزره وأيده بالروح القدس والمعجزات الباهرات البينات إلى يوم أن قبضه إليه جميل الوجه محمود السيرة، دل ذلك على أن شيئا من الزيادة أو النقص في التبليغ لم يحدث وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد صدق ربه وصدق الناس في كل ما أخبر به، قال الشيخ السعدي رحمه الله:
(فلو قدر أن الرسول- حاشا وكلا- تقوّل على الله لعاجله بالعقوبة وأخذه أخذ عزيز مقتدر لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي ألايمهل الكاذب عليه) «1» ، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد؛ لأن الله- عز وجل- مقرّر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات) «2» .
الفائدة الثانية:
عظيم أمر الوحي- قرآن وسنة- إذ رتب الله- سبحانه وتعالى- مثل هذه العقوبة الشنيعة على التقول في أمر الوحي، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (تقوّل: أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه، لأخذناه بالقوة والقدرة، وعبّر عن القوة باليمين؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ يعني نياط القلب، أي لأهلكناه، وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه) «3» .
الفائدة الثّالثة:
عدم محاباة الله في الحق أحدا أبدا، وكذا نعلم أن الله لا يستحيي من الحق، ودليله من الآية أن الله- سبحانه وتعالى- إذا قدر أن يحابي أحدا في الحق- حاشا لله
__________
(1) تفسير السعدي (885) .
(2) تفسير القرآن العظيم (4/ 418) .
(3) الجامع لأحكام القران (18/ 275، 276) .(2/179)
- لحابى أحب الخلق إليه محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لم يحدث شيء من هذا بل وجه إليه مثل هذا الخطاب القرآني، فمن باب أولى نعلم أنه- سبحانه وتعالى- لن يحابي أحدا ممن هو دونه صلّى الله عليه وسلّم، وكل الخلق دونه صلّى الله عليه وسلّم.
ويتفرع على ذلك التهديد الشديد والوعيد الأكيد لكل من يتجرأ بالكذب على الله- سبحانه وتعالى- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فعلى كل مسلم أن يتقي الله في كل ما يفتي به في دين الله عز وجل- وأن يجعل هذه الآية نصب عينيه.
7- تزكية من علمه صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] .
الآية الكريمة تدل على أن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي علم النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن وغيره من الوحي حيث نفت الآية أن الله علم النبي صلّى الله عليه وسلّم الشعر، فنفي تعليم الشعر، يثبت أنه- سبحانه وتعالى- هو الذي تكفل بتعليمه، لأنه لو كان أحد غير الله هو الذي يعلم نبيه صلّى الله عليه وسلّم لأثبت له عدم تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم الشعر، أما قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) ، فهو جبريل عليه السّلام، فلا تنافي بين هذه الآية وما ذكرته آنفا حيث إن جبريل علم النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي الذي أنزله الله- تبارك وتعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فنسبة التعليم إلى الله عز وجل- من حيث إنه هو الذي أنزل على عبده الوحي، ونسبته إلى جبريل من حيث إنه هو الذي باشر إنزال الوحي، بإذن الله وعلمه.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
من طعن في شيء من السنة الصحيحة، فقد طعن في الله- عز وجل-، لأنه هو الذي علم النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي كله، قرآنا وسنة.
الفائدة الثانية:
لا يليق بشخص النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يناسب دعوته تعلّم الشعر، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (ما ينبغي للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول الشعر، وجعل الله- عز وجل- ذلك علما من أعلام نبيه عليه السّلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر) «1» .
ويتفرع على ذلك أن كل ما تكلم به النبي صلّى الله عليه وسلّم من كلام موزون- وهو قليل- ليس
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (15/ 55) .(2/180)
بشعر، ومثاله ما رواه البخاري في صحيحه:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقال الإمام القرطبي: من وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به شعرا فليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا) «1» .
الفائدة الثّالثة:
اعتناء القرآن الكريم بالرد على شبهات الكفار حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لما اتهموه صلّى الله عليه وسلّم أنه شاعر في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] ، رد الله عليهم شبهتهم بنفي تعلمه صلّى الله عليه وسلّم الشعر، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (حسم الله جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ، وأخبر أنه ما علّمه الشعر وما ينبغي له) «2» .
وسيأتي الرد على كل شبهات الكافرين مبسوطا إن شاء الله تعالى.
الفائدة الرّابعة:
أثبتت الآية الكريمة صفة البيان لهذا القرآن، فهو بيّن في نفسه، فلا شبهة فيه ولا التباس، ولا تناقض فيه ولا اعوجاج، بيّن الدلالات واضح الآيات، كما أنه قد أبان كل شيء، الحق من الباطل، والهدي من الضلالة، والمستقيم من المعوج وذلك بتصريف الآيات، وضرب المثلات، وجمع المتماثلات، والتفريق بين المتناقضات، فسبحان الذي رفع ذكره، وأعلى شأنه، فجعله بيّنا في نفسه غاية البيان، مبينا لغيره غاية التبيان، ويتفرع على ذلك الفائدة التالية.
الفائدة الخامسة:
أن في القرآن غنى عما سواه، من علوم الفلسفة والمنطق وغيرها، فلا ينبغي لنا أن نطلب الهداية من تلك العلوم- التي غالبا ما تعارض القرآن- وقد أنزل الله علينا كتابا بينا مبينا، أنار لنا الطريق، وبين لنا السبيل، فأغنانا عن كل بديل، كما يتفرع عليه أن كل من تدبر القرآن ولم يهتد، فهو إما جاهل بلغة القرآن، وإما مستكبر عن الحق، لأن في القرآن غاية البيان.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (15/ 55) .
(2) تفسير السعدي (699) .(2/181)
8- تزكية ما أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم من كل وجه:
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) [محمد: 2] .
هذه الآية قد زكت الوحي الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء كان قرآنا أو سنة- بكل أنواع التزكية الممكنة فيما نعلم، فقد نصت الآية على أنواع للتزكية وهي:
أ- تزكية الوحي من حيث الجهة التي جاء منها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي جهة العلو، قال تعالى: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، ومعلوم أن جهة العلو جهة شريفة، والدليل على ذلك أن الله- عز وجل- ما ذكر ما أوحى به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا وأثبت له صفة الإنزال في سياق المدح لما أنزل، ومثاله قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] وغيره كثير.
ب- تزكية الوحي من حيث من أنزله، وهو الله- تبارك وتعالى-، الذي يعلم ما ينفع الناس وما يضرهم، وما يعمر الأرض وما يفسدها، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ج- تزكية الوحي من حيث ما اشتمل عليه من عقائد وشرائع وقصص، قال تعالى:
وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ والمقصود بالحق: الأمر الثابت المستقر الذي لا يتغير ولا يتبدل، فهو صدق في الإخبار وعدل في الأحكام، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 115] .
د- تزكية الوحي من حيث الثواب المترتب على الإيمان به، قال تعالى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ. قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي كفّر الله عنهم سيئاتهم صغارها وكبارها، وإذا كفّرت سيئاتهم نجوا من عذاب الدنيا والآخرة، وأصلح بالهم: أي أصلح دينهم ودنياهم وقلوبهم وأعمالهم وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيته وأصلح جميع أحوالهم، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الحق الذي هو الصدق واليقين وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم) «1» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
تعظيم الوحي الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتأكيد على شأن الإيمان به
__________
(1) تفسير السعدي (784) .(2/182)
تفصيلا حيث خصّت الآية بالذكر الإيمان به، بعد النص على مطلق الإيمان، قال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم) «1» .
الفائدة الثانية:
في القرآن العظيم وفي هدي سيد الأنام صلّى الله عليه وسلّم الشفاء من كل أمراض العصر، كالقلق والتوتر والعصبية وغير ذلك كثير، لقوله تعالى: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ، ولقوله جل في علاه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] .
وعلى كل من يعاني من تلك الأمراض أن يعالج نفسه بالقرآن الكريم، علما وعملا وتلاوة، فسيجد فيه الشفاء من كل داء، وإذا لم يجد المسلم في القرآن ما يشفي صدره ويريح باله، فليعلم أن العيب فيه، إما لتقصيره في التلاوة والتدبر، أو لضعف اليقين بما وعد به الله- عز وجل-، أو لوجود شك في قلبه أو شبهة في عقله تمنع وصول الحق إليه، ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى أصلح بالهم: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي أمرهم وقال مجاهد: أي شأنهم وقال قتادة: حالهم، والكل متقارب) «2» .
ويتفرع على ذلك: أن نحكم على كل من يعاني من تلك الأمراض أنه بعيد عن منهج الله سبحانه وتعالى- ويعلم قدر بعده عن هذا المنهج بقدر ما أصابه من تلك الأمراض، كما يتفرع عليه تفاوت الناس تفاوتا كبيرا في التمسك بما نزّل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لتباينهم في صلاح شأنهم وأحوالهم، ويتفرع عليه أيضا عدم أمانة الطبيب الذي يعالج هذه الأمراض دون نصح المريض بالتمسك بالكتاب والسنة، والخيانة الكبرى أن يعالج الطبيب المريض بما يناقض ما جاء في الكتاب والسنة، كالطبيب الذي يعالج بسماع الموسيقى والأغاني مثلا.
الفائدة الثّالثة:
عظم شأن العمل الصالح، وهو الذي يتوفر فيه شرطا الإخلاص والمتابعة حيث إن الآية قد قيدت إصلاح شئون الدنيا والآخرة بالإيمان والعمل الصالح.
9- تزكية همته صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة (على لسان مشركي مكة) :
قال تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ [ص: 6] ، الشاهد في الآية: قوله تعالى: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ، أي: يريده النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقصده، وليس قول عابر سيتركه بعد أيام أو ليال معدودات، وما علم الكفار ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 173) .
(2) المرجع السابق.(2/183)
بقرائن، وهي همته العالية في الدعوة وتحمله صلّى الله عليه وسلّم في سبيل ذلك كل صعب وشاق، وهذه الفائدة تعلمتها من فضيلة الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى-.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
عظم ما لاقاه النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته إلى الله- سبحانه وتعالى- ويتمثل ذلك في إصرار الكفار على التمسك بعقيدتهم الباطلة أشد التمسك حتى إنهم يتواصون فيما بينهم على عدم الوقوف لسماع الحق، والصبر على عبادة الأصنام، ومدافعة دعوة النبي لتوحيد الله- عز وجل-. قال الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ:
(والانطلاق: الذهاب بسرعة، أي: انطلق هؤلاء الكافرون من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بعضهم لبعض: امضوا على ما أنتم عليه ولا تدخلوا في دينه) «1» .
قلت: وعدم تقييد انطلاق الكفار من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الأولى والأجمل، الأولى: حيث لم يرد دليل على التقييد بذلك، والأجمل: لأنه يضيف معنى أتم، وهو أن انطلاق الكفار كان حسيّا ومعنويّا، فهم ينطلقون من كل مكان وفي كل زمان، يتواصون فيما بينهم بعدم اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
في الآية إشارة وحث لأهل الحق والدعوة إلى ما يجب أن يكونوا عليه، من الصبر على الدعوة والصبر على تعنت أهل العناد والشقاء، والإيذاء في سبيل الله- سبحانه وتعالى- حيث لاقى النبي صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك وصبر عليه، وهو لنا قدوة، بالإضافة إلى أن الكفار كان يأمر بعضهم بعضا بالصبر على عبادة الأصنام ومخالفة أمر النبي، وأهل العلم والدعوة أولى بالصبر؛ للحق الذي هم عليه، ولجزيل المثوبة والثواب من الله- سبحانه وتعالى- بل عليهم أن يتواصوا بذلك فيما بينهم، يصدق ذلك قوله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [سورة العصر: 1- 3]
وقد زكى الكفار النبي صلّى الله عليه وسلّم في موضع آخر حيث قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ [سبأ: 43] ، وانظر أخي القارئ إلى ما في هذه الآية من بدائع تتمثل في المسائل التالية:
المسألة الأولى: تزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم على لسان الكفار حيث ذكروا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد أن
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (15/ 151) .(2/184)
يصدهم، ولا يكون الصد إلا ببذل غاية الجهد بكل قوة، لإثناء الخصم عما يعتقده.
المسألة الثانية: في مقابل تزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم، سفهوا أنفسهم بذكر حجتهم علي اعتقادهم الفاسد حيث جعلوا كل حجتهم في عبادة الأوثان هو اتباع الآباء، فعرفوا الحق بالرجال.
والصواب: أن يعرف الرجال بالحق الذي معهم، ولو كانوا يعتقدون أن الذي معهم هو الحق، لتواصوا بالصبر عليه، بدلا من التواصي بالصبر على ما كان يعبد الآباء، يصدق ذلك ما ورد في صحيح البخاري، أن أبا جهل كان يقول لأبي طالب حين حضرته الوفاة:
(أترغب عن ملة عبد المطلب؟) «1» ، وورد فيه، أن آخر ما قال أبو طالب: (هو على ملة عبد المطلب) .
المسألة الثالثة: توجيه أشد التوبيخ إلى الكفار، بما يدل على خفة عقولهم، وسفاهة أحلامهم حيث ذكرت الآية، أن الكفار قد تليت عليهم الآيات البينات الواضحات، التي بمثلها يؤمن أي عاقل لبيب، تليت عليهم من غيرهم، بغير كلفة منهم أو طلب أجر عليها، جاءتهم ولم يأتوا إليها، فلم يتكلفوا حتى مشقة السعي إليها، فردوا تلك الآيات البينات، مقابل ما كان يعبد آباؤهم، وهذا منتهى السفه، وقلة العقل، وبدلا من أن يشكروا فضل من جاءهم بالحق ولم يطلب منهم الأجر، قللوا من شأنه، وذكروه بصيغة النكرة، كأنهم لا يعرفون شرفه وحسبه وصدقه، فقالوا: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ، وهذا غاية الجحود.
المسألة الرابعة: يؤخذ من الآية ذم تقليد الآباء والشيوخ، بغير حجة من الله وبينة؛ لأن الواجب على المسلم أن يستمع إلى الآيات البينات، يعمل بما فيها، لأن الله تعبدنا بها، ولو كان في اتباع الآباء حجة عند الله- عز وجل- في رد الآيات البينات، ما وبخ الله الكفار على هذا السلوك.
10- تزكية دعوته صلّى الله عليه وسلّم ووصفه بالسراج المنير:
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45- 46] .
زكى الله- سبحانه وتعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأحسن أنواع التزكيات، ومدحه بأبلغ صفات المديح، فكانت الآيتان كلتاهما لرفع ذكره صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، فقد وصفه الله- عز وجل- في هاتين الآيتين بخمس صفات، الأولى: أنه الشاهد على أمته يوم القيامة بما عملوا من خير أو شر وأنه شاهد عليهم بالإبلاغ، الثانية: أنه المبشر برحمة الله تعالى ورضوانه لمن
__________
(1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، برقم (1360) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ... ، برقم (24) .(2/185)
أطاعه واتقاه، الثالثة: أنه النذير بعذاب الله وانتقامه لمن عصاه وعاداه، الرابعة: أنه يدعو إلى الله- سبحانه وتعالى-، الخامسة: وهي أجملها وأتمها وهي الصفة التي جمعت ما سبق وهي وصفه صلّى الله عليه وسلّم بالسراج المنير، ومن كانت تلك بعض صفاته (وليست كلها) كان أحق الخلق عند رب الخلق بالاصطفاء والاجتباء، وأحق الناس عند الناس بالاقتداء والافتداء.
بعض فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية- على صاحبها الصلاة والسلام-:
1- إثبات أن كل دعوته صلّى الله عليه وسلّم حق، وأنه لم يدخل عليها باطل في كبير ولا صغير حيث إن الله- عز وجل- أعلمنا أنها كانت بإذنه، والله لا يأذن إلا في حق، وهذا غاية التشريف لدعوته صلّى الله عليه وسلّم.
2- إثبات أن دعوته صلّى الله عليه وسلّم كانت كلها خالصة لوجه الله- سبحانه وتعالى- وأنه صلّى الله عليه وسلّم ما أراد بها وجاهة ولا رئاسة ولا مالا؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو ابتغى من دعوته شيئا من عرض الدنيا، ولو كان أقل القليل، ما صدق عليه قوله- سبحانه وتعالى-: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ.
3- إثبات أن دعوته صلّى الله عليه وسلّم كلها من أولها إلى آخرها كانت برعاية الله ومباركته وحفظه، لأن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي أذن بها، فحقيق به- جل في علاه- أن يحفظها ويحفظ من يقوم بها، قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48] .
وفي هذا أبلغ الحث للدعاة إلى الله أن يخلصوا في دعوتهم، حتى تكون دعوتهم بإذن الله، يحفظها الله ويوفق القائم عليها.
4- إثبات كمال عدالته وصدقه صلّى الله عليه وسلّم إذ رضي الله به أن يكون شاهدا على أمته، كما أن الأمة سترضى بهذه الشهادة ولن تطعن فيها، وقد بينت ذلك تفصيلا في باب: (أمة وسط) .
5- إثبات سعة علمه صلّى الله عليه وسلّم بالله وأسمائه وصفاته وما ينبغي إثباته لله، وما ينبغي نفيه عنه- سبحانه وتعالى- وما يحبه الله وما يكره، وما حرم وما أحل، فلولا علمه صلّى الله عليه وسلّم بذلك ما استطاع أن يقوم بالدعوة إلى الله على الوجه الأكمل.
6- ظهور بالغ حكمته صلّى الله عليه وسلّم في الموازنة بين البشارة والنذارة حيث أثبتت له الآية الكريمة أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبشرا ونذيرا، ولولا قيامه بهاتين الوظيفتين على الوجه الأكمل ما كان لهذا المدح من معنى، فقد نهج النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه دائما أن يخوفهم من عذاب الله إن هم(2/186)
عصوه، ويؤملهم في رحمة الله- سبحانه وتعالى- إن هم أطاعوه وأنابوا إليه.
7- إثبات صفتين هما أحسن ما يكون من الصفات الزكية، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم سراج ومنير، فهو الذي أضاء الله به الدنيا بعد شدة الظلمة، وأشاع به العلم بعد غياهب الجهل، فأنار به طريق العابدين، وهدى به قلوب العارفين، وشرح به صدور العالمين، فصلى الله عليه وسلّم إلى يوم الدين. ولا يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم سراجا منيرا ويثني الله- تبارك وتعالى- عليه بذلك إلا إذا بلغ صلّى الله عليه وسلّم الكمال في نفسه وفيما جاء به، وهذا هو الواقع والمشاهد، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم طيبا طاهرا في نفسه (طيب اللسان، زكي النفس، طاهر القلب، ودودا رحيما تقيّا نقيّا) مع كمال كل ما جاء به ودعا إليه من كتاب كريم، وسنة شريفة، وعقائد سليمة، وشرائع حكيمة، وأحكام بلغت المنتهى في الإتقان والإحكام؛ لأن السراج لا يكون منيرا يذهب عن الناس ما هم فيه من ظلمة ويغنيهم عما سواه، إلا إذا كان زجاجه جيدا وفتيله وزيته كذلك.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في شرح السراج المنير: (أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند) «1» .
الفائدة الثّانية:
ذمت الآية الكريمة كل من لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من لم يصدق بكتابه أو يهتدي بسنته أو يسلم بشرعه، وهذا مما ذمته الآية أبلغ الذم، إذ كيف يعمى الإنسان عن رؤية السراج المنير أو كيف يجادل فيه، وهو ظاهر بين، وهو ظاهر في نفسه وظاهر في أثره، لا شك أنه لا يماري في السراج المنير إلا من ختم الله على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، أو من كان عنده حظ وافر من العناد والكبر، فرأى الحق باطلا والباطل حقّا، ورأى شدة الظلام نورا، ورأى النور الساطع ظلاما حالكا.
الفائدة الثّالثة:
ظهور حاجة العباد في كل مكان، والبلاد في كل زمان، إلى هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم والتمسك بسنته واقتفاء أثره، حتى يضمنوا لأنفسهم وجود السراج المنير، الذي ينير لهم الطريق ويوضح لهم السبيل.
ويتفرع عليه: علمنا بما كان عليه الناس قبل بعثته الميمونة صلّى الله عليه وسلّم، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «وذلك يقتضي أن الخلق كانوا في ظلمة عظيمة لا نور يهتدي به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها، حتى جاء الله بهذا النبي الكريم فأضاء الله به
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (3/ 498) .(2/187)
تلك الظلمات وعلّم به من الجهالات وهدى به ضلّالا إلى الطريق المستقيم، فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، واستناروا به لمعرفة معبودهم، فعرفوه بأوصافه الحميدة وأفعاله السديدة وأحكامه الرشيدة» .
انتهى «1» .
الفائدة الرّابعة:
إرشادات ربانية وتلميحات قرآنية لأهل العلم والفضل.
1- إعلامهم بأنهم يقومون بأشرف الوظائف وهي وظيفة الدعوة إلى الله- عز وجل-، وهي وظيفة نبينا ومن قبله من الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام.
2- وجوب أن تكون دعوتهم خالصة لوجه الله- سبحانه وتعالى- لا يبتغون منها عرضا من أعراض الدنيا.
3- عليهم أن يعالجوا أمراض الأمة بالتبشير والإنذار، فلا تخويف يصل بالناس إلى حد اليأس من رحمة الله، ولا رجاء يصل بهم إلى حد الإغراء بارتكاب المعاصي.
4- إعلامهم بحاجة جميع العباد إليهم- مسلمين وغير مسلمين-؛ لأنهم أعرف الناس بالسراج المنير الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
11- تزكية دعوته صلّى الله عليه وسلّم على لسان الكافرين:
قال تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] .
وجه تزكية دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم على لسان الكافرين أنهم أقروا أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما يدعوهم لعبادة إله واحد، وذلك واضح في قولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. كما سيأتي مفصلا في الفوائد:
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
أوجه تزكية الكافرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- دعوته صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد الخالص وترك عبادة الأصنام، فلا يختلف عاقلان أن دعوة الأصنام غاية الضلالة والغواية، وأن الدعوة إلى التوحيد كمال الرشاد والهداية، قال الإمام القرطبي في قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، أي: هل صيّر الآلهة إلها واحدا «2» .
__________
(1) تفسير السعدي (668) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (15/ 149) .(2/188)
2- كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الله وحده، وما كان يدعو إلى نفسه، فلو كان يدعو إلى نفسه لذموه بذلك، فهو أبلغ في التشنيع، لعدم اختلاف الناس في قبح هذا الفعل، كما علمنا أيضا من مقولة كفار مكة، أنه صلّى الله عليه وسلّم ما طلب منهم أجرا على ذلك، لأنه كان يكفي أن يتهموه بذلك لينفضّ الناس من حوله، بدلا من أن يتهموه أنه يدعو إلى التوحيد.
3- كما أن من أوجه تزكية النبي صلّى الله عليه وسلّم المستنبطة من مقولة الكافرين، أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعرف عنه أبدا أنه عبد الأصنام قبل البعثة؛ لأن الكفار لو علموا عنه ذلك لعيروه صلّى الله عليه وسلّم أنه ترك ما كان يعبد من قبل وأنه كفر بما كان يعبد، أو أنه هو الذي تحول عما اجتمعوا عليه من قبل، والذي يظهر جليّا أن الكفار لم يجدوا ما يذمون به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو ينتقصونه به أو ما ينقضون به رسالته صلّى الله عليه وسلّم فذهبوا يتخبطون فاتهموه بما كان له ثناء ومدحا من كل وجه، وهو أنه كان يدعو إلى التوحيد.
الفائدة الثّانية:
ظهور سفه الكفار وخفة عقولهم، وبيان ذلك:
1- اتهامهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما يزكيه أبلغ تزكية ويرفع من قدره عند الله وعند الناس، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو إلى التوحيد.
2- إنكارهم لدعوة التوحيد رغم كل الأدلة العقلية والشرعية التي تليت عليهم آناء الليل وآناء النهار، ومما يزيد من سفههم ويؤكد خفة عقولهم أن جعلوا هذه الدعوة أمرا عجيبا فحقيق بالناس أن يتعجبوا منه، وجهلوا أن تلك دعوة إبراهيم عليه السّلام، التي تدعي كل أمة الانتساب إليه، لشرفه وكمال دعوته إلى التوحيد.
12- تزكية كل أحواله صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) [يس: 3- 4] .
لم يكتف القرآن العظيم بتزكية لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبصره وفؤاده ودعوته وأخلاقه الفاضلة، بل زكى القرآن الكريم كل أحواله صلّى الله عليه وسلّم بأن أثبت له صلّى الله عليه وسلّم أنه على صراط مستقيم، ولم تكن هذه هي التزكية الوحيدة لأحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم بل جاءت على نسقها تزكيات متعددة، منها على سبيل المثال قول الحق- تبارك وتعالى-: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:
79] ، فوصف القرآن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه على الحق المبين، دون تخصيص هذا الوصف بأمر معين:
قد أفادنا أن هذا الوصف قد انسحب على كل ما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان صلّى الله عليه وسلّم على الحق- الذي لا يخالطه أدنى باطل- في عباداته وعاداته، فيما يقول وفيما يحكم، وفيما يعتقد(2/189)
وفيما يشرع، إذا سكت عن أمر كان هذا هو الحق، وإذا تكلم عن نفس الأمر في موضع آخر كان هذا هو الحق، إذا غضب من أمر كان غضبه موافقا تماما للحق، وكذلك إذا مزح وتبسط مع أصحابه، ولا تعجب أخي القارئ من ذلك، لأن الله- تبارك وتعالى-، وهو الحق المبين، هو الذي وصف عبده بهذا الوصف الأتم الأكمل.
كما أن من التزكيات العظيمة التي ذكرها المولى- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم هو قوله تعالى:
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون: 73] . ووجه التزكية هي موافقة ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان يدعو إليه، وهي أعظم منقبة لأي داعية.
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير آية الباب: (ثم أخبر الله- عز وجل- بأعظم أوصاف الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدالة على رسالته، وهو أنه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: معتدل، موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وذلك الصراط المستقيم مشتمل على أعمال، وهي الأعمال الصالحة، المصلحة للقلب والبدن، والدنيا والآخرة، والأخلاق الفاضلة، المزكية للنفس المطهرة للقلب المنمية للأجر) «1» .
13- قيامه صلّى الله عليه وسلّم بالدعوة على أكمل وجه:
قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: (أي أعرض عنهم واصفح عنهم، فما أنت بملوم عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نقل عن مجاهد قوله: ليس يلومك ربك على تقصير كان منك) . انتهى «2» .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (فليس عليك لوم في ذنبهم وإنما عليك البلاغ وقد أديت ما حملت وبلّغت ما أرسلت به) .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
إثبات قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعوة على أكمل وجه، من حيث بذله كل جهده ووقته في الدعوة إلى الله، ومن حيث الصدق والأمانة في تبليغ كل ما أمر به، ومن قبل ومن بعد كمال الإخلاص لله- سبحانه وتعالى- عند القيام بهذه الرسالة العظيمة.
الفائدة الثّانية:
إثبات رضى الله- عز وجل- بما قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم، من الدعوة
__________
(1) تفسير السعدي (692) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (17/ 54) .(2/190)
والجهاد، رضى سلم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المساءلة أو اللوم على عدم إيمان من تولى، قال تعالى:
فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي عن توليهم وكفرهم، فقد أديت الأمانة وبلغت الرسالة، فرفعت عنك الملامة.
الفائدة الثّالثة:
في الآية تسرية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بإبلاغه أن عدم إيمان من آمن لا يرجع إلى تقصير منه صلّى الله عليه وسلّم حيث لو كان التقصير لكانت الملامة.
الفائدة الرّابعة:
يؤخذ من الآية أيضا أن أجره صلّى الله عليه وسلّم يكون له يوم القيامة كاملا موفورا غير منقوص، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لن يؤاخذ بعدم إيمان من لم يؤمن أو تقصير من قصر من المؤمنين. حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يفرط، فإذا انضم إلى ذلك أن أجور حسنات كل أمته في ميزانه- من دون نقص في أجورهم- لأنه صلّى الله عليه وسلّم هو الذي دلهم على كل خير، ونهاهم عن كل شر، علمنا ما أعده الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من جزيل الثواب وعظيم العطاء، فلله الحمد ربنا في الأولى والآخرة على ما أنعم على عبده وتفضل.
الفائدة الخامسة:
في الآية الكريمة توجيه للعلماء والدعاة إلى الله أن عليهم ألا يبالوا بمن أعرض عن دعوتهم، إذا أخلصوا النية وصدقوا الله- عز وجل- في دعوتهم، وأنّ تولّي من تولّى عنهم يجب ألايثبط عزائمهم أو يثنيهم عن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فقد تولى الناس من قبل عمن هو أفضل منهم في الدعوة وأخلص منهم في النية، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن في الآية أيضا ترهيبا للعلماء والدعاة إلى الله- عز وجل- إن هم قصروا ولم يخلصوا حيث إن اللوم والعتاب سيتوجه إليهم من الله- عز وجل-.
32- تسلية الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم
المقصود بتسلية الله- عز وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم هو أن الله يذكر له كل ما من شأنه أن يخفف عنه حزنه وغمه وهمه، فيصبّره على تكذيب عدوه وعناده، وتوليه عن سماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم، بتعليمه الأسباب الباعثة لهم على ذلك كالجحود والاستكبار وموت القلوب، مع تطمينه أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يقصر أبدا في الدعوة إلى الله- عز وجل- وإبلاغ الحق إلى الخلق. وأن الله تبارك وتعالى- ناصره، ومعلي شأنه، ومعذب من عاداه وآذاه، وسنأتي إن شاء الله تعالى على بعض أنواع التسلية الموجودة في الكتاب الكريم، ولا يفوتني أن أقول: إن إثبات تسلية الله تبارك وتعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم هي أعظم مظاهر حب الله له، خاصة إذا علمنا أن هذه التسلية قد شملت جميع الأنواع.(2/191)
1- وعده النصر على عدوه:
قال تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] . وهي آية مكية، وحدث النصر والتمكين في المدينة.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بوعده النصر على عدوه، كانت منذ بدايات البعثة وقبل أول منازلة مع الكفار، فسورة القمر مكية إجماعا وغزوة بدر الكبرى وقعت في السنة الثانية من الهجرة المباركة. ويمكن أن يكون من حكمة نزول مثل تلك الآيات المكية مبكرا، هو تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم على الاستعداد للجهاد بإعلامه صلّى الله عليه وسلّم أن أمر المنازلة واقع لا محالة.
الفائدة الثّانية:
إثبات الآية الكريمة لبعض صفات الله- سبحانه وتعالى- وهي العلم والقدرة وتقدير الأمور قبل وقوعها، فقد أخبر الله- سبحانه وتعالى- بايات قرآنية تتلى على رؤس الأشهاد في مكة وغيرها- بوقوع المنازلة- قبل حدوثها بعدّة سنوات وبنتيجتها غير المتوقعة لكثرة معسكر الكفار وقلة معسكر المؤمنين- بل أخبر- عز وجل- بكيفية انصراف الكافرين من المعركة: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. فليس الأمر هزيمة فحسب بل هزيمة وجبن وعار.
الفائدة الثّالثة:
التصديق المطلق للنبي صلّى الله عليه وسلّم بوعد ربه حيث ورد بدعائه صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر:
«أنشدك عهدك ووعدك» «1» . يشير إلى قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ.
وجميع ما جاء في قصص الأنبياء هو من التسلية حيث ذكر القرآن الكريم في جميعها جهاد الأنبياء في الدعوة والتبليغ، وعناد من أرسل إليهم وتكذيبهم واستهزاءهم بأنبيائهم، وكيف أن الله- عز وجل- نصر أولياءه وخذل أعداءه، والنصر قد يتأخر لحكمة بالغة، ولكنه يأتي لا محالة، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده.
2- إخباره بتعذيب أعدائه في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) [المسد: 1- 5] .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: قوله تعالى: ما قيل في درع النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (2915) .(2/192)
أولا: سبب نزول الآية الكريمة:
روى البخاري في صحيحه، عن ابن عبّاس: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش فقال: «أرأيتم إن حدّثتكم أنّ العدوّ مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدّقوني؟» ، قالوا: نعم، قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟! تبّا لك. فأنزل الله- عز وجل-: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ إلى آخرها.
بعض فوائد الآية الكريمة والحديث الشريف:
الفائدة الأولى:
أوجه تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآية الكريمة ومظاهر حب الله له:
1- نزول سورة قرآنية كاملة، تتلى إلى يوم القيامة، فيمن أساء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن علم قدر هذا الكتاب العظيم، علم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، أن أنزل سورة في القرآن يسليه بها ويرفع عنه حزنه وضيق صدره مما يجد من أعدائه.
2- نزلت السورة الكريمة مباشرة بعد مقولة أبي لهب الشنيعة، ورد في الحديث:
(فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ) . والفاء للتعقيب، وهذا يدل على عظيم غيرة الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم وشدة غضبه على من آذاه وناوأه.
3- افتتحت السورة الكريمة بالدعاء على عدو النبي صلّى الله عليه وسلّم- أبي لهب-: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ثم ورد في نفس الآية تحقق ذلك الدعاء بقوله تعالى: وَتَبَّ. واللافت للنظر أن يأتي الدعاء على أبي لهب بنفس الصيغة التي نطق بها لسانه المشئوم، وهذا يؤكد ما ذكرته في الفقرة السابقة. قال الإمامان الطبري وابن كثير- رحمهما الله تعالى-: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ دعاء عليه من الله وقوله: وَتَبَّ فإنه خبر) . انتهى «1» . وتب أي: خسر وهلك.
4- نزول السورة بالدعاء على أبي لهب والإخبار بتحقق ذلك الدعاء، قطع كل أمل في نجاة الرجل وزوجه، كما أن إغلاق باب التوبة على الرجل وزوجه في زمن الإمهال- أي في الحياة الدنيا وقبل غرغرة الموت- يدل على غضب الله الشديد عليهما، فلم يذكر القرآن العظيم سوء خاتمة أحد بكنيته إلا أبي لهب. وهذا من شؤم عمله واستعجاله العذاب بإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري (30/ 336) ، وتفسير ابن كثير (4/ 565) .(2/193)
الفائدة الثّانية:
السورة الكريمة معجزة ظاهرة للقرآن الكريم وهي من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، ذلك أن القرآن الكريم قد حكم على أبي لهب وزوجته أنهما سيموتان على الكفر، وقد حدث ذلك فعلا، فما الذي منعهما أن يظهرا الإسلام- ولو ظاهرا- طعنا في دين الإسلام، فالله- عز وجل- بقدرته لم يحل بينهما وبين إظهار الإسلام على الحقيقة فحسب، ولكن حال أيضا بينهما وبين إعلان الإسلام ولو خداعا ونفاقا، وهذا من عجائب قدرته تبارك وتعالى، ودالّ على أن قلوب العباد بيديه- سبحانه وتعالى- يقلبها كيفما شاء. وأما أن الآية الكريمة من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم، فظاهر فلولا أنه صلّى الله عليه وسلّم يوحى إليه من ربه ما جاء بهذا الحكم القاسي على أبي لهب وزوجته وأحرج نفسه- حاشا لله- إن هم دخلا في الإسلام. فقد حكم الله- عز وجل- عليهما بسوء الخاتمة في زمن الإمهال، وهذا لم يحدث، - فيما نعلم- في حق أحد من الكفار، مع ذكر كنيته إلا أبي لهب وزوجته، حتى إنه لم يحدث لفرعون الذي ادعى الألوهية، وهى معجزة ظاهرة للقرآن، وتكريم عظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتهديد شديد لكل من يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثّالثة:
أنه لا ينفع الكافر صلة قرابته بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كما لا ينفعه ماله ولا ولده ولا حسن وجهه، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (أبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وكنيته أبو عتيبة وإنما سمّي أبا لهب لإشراقة وجهه وكان كثير الأذية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والبغضة له والازدراء به والتنقص له ولدينه) «1» .
الفائدة الرّابعة:
يقين أهل مكة- خاصة أهل قرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم- من صدقه وعدم كذبه، والذي لا يكذب على الناس كيف يكذب على رب الناس، ورد في الحديث: «أرأيتكم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني» ؟ قالوا: نعم.
وأضرب مثالا آخر سريعا لانتقام الله- عز وجل- من أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين آذوه وعادوه، وهو حكم الله- تبارك وتعالى- في القرآن الكريم على مبغض الرسول بأنه أبتر- أي مقطوع ذكره، قال الله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا: بتر. فلما مات أبناء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: بتر؛ فأنزل الله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) وهذا يرجع إلى ما قلناه أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، وحاشا وكلا، بل قد أبقى الله ذكره
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 565) .(2/194)
على رؤس الأشهاد وأوجب شرعه على رقاب العباد مستمرا على دوام الآباد إلى يوم الحشر والمعاد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد) . انتهى «1» .
3- بذكر استهزاء الكفار لمن قبله من الرسل:
قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10] .
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية ما نصه: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم مسليا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبة ما يلقى منهم من أذى الاستهزاء به والاستخفاف في ذات الله: هوّن عليك يا محمد ما أنت لاق من هؤلاء المستهزئين بك المستخفين بحقك وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيهم وإصرارهم على المقام على كفرهم نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم غيرهم من تعجيل النقمة لهم وحلول المثلات بهم) «2» .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (هذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذبه من قومه ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة) «3» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
ليس في النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يبعث على استهزاء وسخرية الكافرين- هلك وخاب من اعتقد خلاف ذلك- فهو صلّى الله عليه وسلّم أكمل الناس خلقا وأجملهم وجها وأحسنهم صوتا وأفصحهم لسانا وأبلغهم بيانا وأرجحهم عقلا وأصدقهم قولا وأوفاهم عهدا وأجودهم نفسا وأرقهم قلبا، ومن قبل ومن بعد: أعلمهم وأتقاهم لله رب العالمين، ولكن استهزاء الكفار هو مسلكهم مع الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام.، فإذا كان كفار مكة ليسوا بدعا من الكفار في استهزائهم بالأنبياء، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الأنبياء في استهزاء الكفار به، فإن لله- عز وجل- سنة واحدة وهي نصرة النبيين وإهلاك المستهزئين، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وبذلك تكون الآية قد سلّت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أحسن وجه بأن ذكرت أن من استهزئ به من قبل هم خير الخلق وذكرت عاقبة المستهزئين. فرفعت الحرج الذي يمكن أن يجده النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين نفسه أو أمام أزواجه أو أصحابه رضي الله عنهم جميعا.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 560) .
(2) تفسير الطبري (7/ 153) .
(3) تفسير القرآن العظيم (2/ 125) .(2/195)
الفائدة الثّانية:
بيان عاقبة السوء بمن استهزأ بشيء من حرمات الله تبارك وتعالى، والتي من أعظمها، رسله إلى خلقه حيث ذكرت الآية أن العذاب سيحيق بهم، أي- سيحيطهم من كل جانب، وما أسوأ هذا العذاب وأبشعه.
الفائدة الثّالثة:
ومن جنس تسليته صلّى الله عليه وسلّم بذكر استهزاء المشركين بالأنبياء من قبله، تسليته صلّى الله عليه وسلّم بذكر تكذيب الأمم السابقة لإخوانه الأنبياء، مع أنهم جاؤا قومهم بايات الله البينات، الكونية والشرعية قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر: 25] .
وأيضا: قوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ [الأنبياء: 36] .
4- بذكر أسباب تولي الكفار وتكذيبهم:
والغرض من تلك التسلية أن يتيقن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تولي الكفار وعدم سماعهم وإعراضهم عنه ليس بسبب تقصيره في النصح والإرشاد أو ضعف حجته وبيانه أو خلل في قرآنه وسنته، ولكن إعراضهم بسبب تكبرهم واستكبارهم وجحودهم وإنكارهم وأمثلة هذه التسلية في القرآن كثيرة، ولكن سنكتفي بثلاثة أمثلة فحسب:
المثال الأول:
توليهم بسبب جحودهم بايات الله:
قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (إنهم لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم) «1» . وقال الشيخ السعدي رحمه الله:
(قد نعلم أن الذي يقوله المكذبون فيك يحزنك ويسوءك، ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية، فلا تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك أو شك فيه فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ؛ لأنهم يعرفون صدقك ومدخلك ومخرجك وجميع أحوالك، حتى إنهم كانوا يسمونك- قبل البعثة- الصادق الأمين) «2» .
المثال الثاني:
توليهم بسبب موتهم وصمم آذانهم.
قال تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/ 130) .
(2) تفسير السعدي (254) .(2/196)
قال صاحب المنتخب: (إنك- أيها الرسول- لا تستطيع هدايتهم، فإنهم كالموتى في عدم الوعي، وكالصم في فقدان أداة السمع، فليسوا مستعدين لسماع دعوتك لتماديهم في الإعراض عنك) ، وقال رحمه الله: (ولست بمستطيع أن تهدي إلى الحق من عميت أبصارهم وبصائرهم ولا يمكنك أن تسمع إلا من يقبل على الإيمان باياتنا فهم مطيعون مستجيبون) .
المثال الثالث:
توليهم بسبب اتباعهم الهوى.
قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] . قال الشيخ السعدي رحمه الله:
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فلم يأتوا بكتاب أهدى منه فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ، أي:
فاعلم أن تركهم اتباعك ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ولا إلى هدى، وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم) «1» .
33- كفاية الله له صلّى الله عليه وسلّم:
الكفاية في اللغة:
من كفى وهو الاستغناء يقال كفاه الشيء يكفيه أي استغنى عن غيره فهو كاف وكفىّ.
قد قسمت كفاية الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى ثلاثة أقسام وهي (كفايته شرعا- كفايته قدرا- كفايته شرعا وقدرا) ليتبين للقارئ مدى حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وحفظه من جميع الوجوه، وإلا فإن الأقسام الثلاثة قد تتداخل، وقد أتيت بشواهد قليلة لهذه الكفاية لعدم الإطالة- قدر الإمكان- وأترك للقارئ الكريم تدبر القرآن ليتبين له شواهد تلك الكفاية، والتي من أمثلتها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، وقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] .
1- كفايته شرعا:
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الصف: 28] . قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، يقول جل ثناؤه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: (أشهدك يا محمد ربّك على نفسه أنه سيظهر الدين الذي بعثك به
__________
(1) تفسير السعدي (618) .(2/197)
وحسبك به شاهدا) ، وقال رحمه الله: (أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله) «1» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
أظهرت الآية بجلاء حب الله سبحانه وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث بينت الآية كفاية الله له صلّى الله عليه وسلّم من كل وجه يتبين ذلك من:
1- ثناء الله- تبارك وتعالى- البالغ على ما أرسل به النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يضره بعد ذلك ذم القادحين ولا يزيده مدح المادحين، فالحمد لله الذي كفى نبيه شر الصنف الأول، وأغناه عن الصنف الثاني. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، أي بالعلم النافع والعمل الصالح فإن الشريعة تشتمل على شيئين علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح والعمل الشرعي مقبول فإخباراتها حق وإنشاآتها عدل) «2» .
2- كفاه الله- سبحانه وتعالى- همّ ظهور هذا الدين: هل سيظهر هذا أم لا؟ هل سيعلو على كل الأديان أم لا؟ فطمأنه الله- تبارك وتعالى- وكفاه حمل هذا العبء الثقيل، بأن وعده أنه سيمكن له دينه صلّى الله عليه وسلّم غاية التمكين، فو الله لو خذل الناس جميعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فسيظهر هذا الدين لأن الذي تكفل بذلك هو الله- عز وجل- ألم تسمع لقوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ.
3- كفاه الله- سبحانه وتعالى- شهادة كل أحد من الخلق على صدق نبوته وإظهار دينه، قال تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، قال الإمام الطبري رحمه الله ما نصه: (أشهدك يا محمد ربك على نفسه أنه سيظهر الدين الذي بعثك به وحسبك به شهيدا) «3» . وقال صاحب تفسير الزبد: (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على إظهار الدين الذي وعد المسلمين به وعلى صحة نبوة نبيه صلّى الله عليه وسلّم) ، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أنه رسوله وهو ناصره) «4» .
الفائدة الثّانية:
من شكك في نصرة الله- سبحانه وتعالى- نبيه وصحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم أو شكك في أن ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم هو الحق والهدى، فقد طعن في شهادة الله- سبحانه وتعالى-.
الفائدة الثّالثة:
في الآية الكريمة أبلغ التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة، بأن الغلبة في نهاية الأمر لدين الله- تبارك وتعالى-. قال الإمام الطبري رحمه الله:
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 109) .
(2) تفسير القرآن العظيم (4/ 204) .
(3) تفسير الطبري (26/ 109) .
(4) تفسير القرآن العظيم (4/ 204) .(2/198)
(وهذا إعلام من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسليهم بذلك عما نالهم من الكابة والحزن بسبب انصرافهم عن مكة قبل دخولها وقبل طوافهم بالبيت) «1» .
2- كفايته قدرا:
قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 94، 95] . قال الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: (أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم) «2» .
بعض فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى:
حب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وغضبه الشديد- عز وجل- على من تعرض لخليله صلّى الله عليه وسلّم فوعده بالانتقام منهم، واللافت للنظر أن هؤلاء المستهزئين قد كفروا بالله وصدوا عن سبيله ولكن الله- سبحانه وتعالى- لما ذكر صفاتهم ابتدأ بصفة الاستهزاء وكأنها الباعث على الانتقام الإلهي منهم. قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: (اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله فإن الله كافيك من آذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة وهم: الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة أهلكهم الله جميعا قبل يوم بدر في يوم واحد لاستهزائهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم) «3» .
الفائدة الثّانية:
في الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لكل من استهزأ بأدنى شيء يخص نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ويكفي أن أقول له: يكفيك أنك قد جعلت الله خصما لك، ويا ويل من فعل ذلك، فو الله إنّ قدر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم عند ربه وقت بعثته ومن قبلها ومن بعدها إلى يوم القيامة لا يتغير ولا يتبدل، وغضب الله- سبحانه وتعالى- على من استهزأ به صلّى الله عليه وسلّم وانتقامه منه لا يمكن أن يتخلف؛ لأن وعد الله- سبحانه وتعالى- بكفاية نبيه صلّى الله عليه وسلّم المستهزئين لا يرتبط بزمان دون زمان ولا بأمة دون أمة، فقد تهلك قرية بأكملها أو تمحق منها البركة أو تصيبها الأمراض المزمنة أو تنتشر فيها الرذيلة والفحشاء لأن بعض أهل القرية قد تعرض للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأدنى إيذاء ولم يجدوا من يأخذ على أيديهم، ولا أستبعد أن يكون بعض ما أصاب الأمة
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 109) .
(2) تفسير القرآن العظيم (2/ 560) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (10/ 62) .(2/199)
الإسلامية الآن بسبب تفريطها في حقوق النبي صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة الملحدين والمستهزئين به وبشريعته وسنته صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثّالثة:
عظيم علم الله وحكمته وقدرته- سبحانه وتعالى- فبعلمه اطلع على المستهزئين، وبحكمته وعد نبيه بإهلاكهم، وبقدرته أنفذ وعده ونصر عبده صلّى الله عليه وسلّم.
شاهد ثان على كفايته صلّى الله عليه وسلّم قدرا:
قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [المائدة: 67] .
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك) «1» .
أقول: وهذه الآية الكريمة من أكبر دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم وأنه يوحى إليه من ربه؛ فقد تضمنت الآية حكما يستحيل أن يضمنه أحد من البشر، مهما كانت قوته ومهما بلغت سطوته، فلا يقدر أحد أن يحمي أحدا أو يعصمه طوال حياته من جميع الناس وفي كل الأحوال، إلا الله- سبحانه وتعالى- خاصة إذا كان مثل الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي امتلأت حياته بالغزوات ومنازلة الكفار حيث الكر والفر، بالإضافة إلى خطر المنافقين الذين ملأوا أرجاء المدينة مع حرصهم الشديد على إيذائه. فما الذي يدفع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن للناس أن الله قد عصمه، وما سيتبع ذلك الإعلان من لزوم الاستغناء عن أي حرس من البشر.
وأقول لكل منصف- من غير المسلمين- هل يعقل أن يدعي أحد النبوة ويكذب على ربه طمعا في الدنيا وزينتها ورغد العيش فيها، ثم يعرض نفسه للتهلكة، بدعوى أن الله- سبحانه وتعالى- عاصمه، ثم الأعجب من ذلك أن الله- تبارك وتعالى- بالفعل يعصمه ويحميه- رغم دعوى الخصم أنه يكذب على ربه- هذا لا يقوله عاقل.
شاهد ثالث على كفايته قدرا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قال:
فقيل: نعم، فقال: واللّات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته أو لأعفّرنّ وجهه
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (239) .(2/200)
في التّراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه قال: فقيل له: ما لك؟! فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا وأجنحة!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» ، قال: فأنزل الله- عز وجل- لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) [العلق: 6- 13] ، يعني أبا جهل أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ (19) ، زاد عبيد الله في حديثه قال: وأمره بما أمره به. وزاد ابن عبد الأعلى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، يعني قومه) «1» .
3- كفايته شرعا وقدرا:
قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 36] .
قلت:
إن هذه الآية تدل على كفاية الله- سبحانه وتعالى- شرعا وقدرا- أي أنها كفاية من كل الوجوه- لأن الآية لم تقيد الكفاية بنوع معين، فعلمنا أنها تشمل كل أنواع الكفاية في الدين والدنيا والآخرة وفي الحياة وفي الممات. قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فإن الله سيكفيه في أمر دينه ودنياه ويدفع عنه من ناوأه بسوء) «2» ، وقال صاحب التفسير الميسر:
(أليس الله بكاف عبده محمدا وعيد المشركين من أن ينالوه بسوء؟ بلى إنه سيكفيه في أمر دينه ودنياه ويدفع عنه من أراده بسوء) ، ومعنى كفاية الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقوم بمصالحه ومهامه.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
وجوب أن يعتقد كل مسلم أن الشريعة الإسلامية، كتابا وسنة، أصولا وفروعا، فرائض وسننا، كاملة أبلغ الكمال لا تحتاج إلى زيادة، حسنة أشد الحسن وأظهره، لا تحتاج إلى من يجملها أو يحسنها، وهذا الفهم هو مقتضى مفهوم الآية الكريمة، فمن اعتقد أن الشريعة تحتاج إكمال ولو في أمر واحد، أو تحتاج إلى إخفاء شيء منها لعدم حسنه، أو أن في غيرها ما هو خير منها، فقد طعن في شهادة الله- تبارك وتعالى- الذي
__________
(1) مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، برقم (2797) .
(2) تيسير الكريم الرحمن (725) .(2/201)
أبلغناه- وهو الأصدق حديثا- أنه قد كفى عبده في أمره كله.
الفائدة الثّانية:
العبودية هي أشرف منازل المرسلين ومن أرسل إليهم، لأن الله- تبارك وتعالى- لما ذكر منزلة عظيمة من منازل نبيه صلّى الله عليه وسلّم وهي منزلة كفايته العامة، لم يذكره بصفة الرسالة أو النبوة مع شرفها وعلو قدرها ولكن وصفه بصفة العبودية.
الفائدة الثّالثة:
في الآية الكريمة حثّ لكل مسلم أن يحقق في نفسه صفة العبودية، بامتثال طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأن يربي نفسه على خوف الله وتقواه، وأن يشعر أنه هو الذليل المسكين الفقير، وأن الله- سبحانه وتعالى- هو الغني القوي العزيز، وأن يترجم هذا الشعور إلى سلوك في أقواله وأفعاله وأخلاقه. وبقدر ما يحقق المرء أمر العبودية لله بقدر كفاية الله له، وليس معنى هذه الكفاية، ألا يصيب العبد سوء أو مكروه، في نفسه أو أولاده أو ماله، ولكن معناها أن يصلح الله له باله ويوفقه لما يحب ويرضى، يشكر في النعماء ويصبر على الضراء، فلا يتسخط على شيء من أمور الدين أو الدنيا.(2/202)
سادسا: مظاهر العناية الإلهية بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين
أ- تربيتهن على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق وعدم تسويتهن ببقية نساء الأمة:
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً
(34) [الأحزاب: 28- 36] .
لم يقتصر اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده، ولكن شمل هذا الاعتناء الإلهي أزواجه الطاهرات الميامين، فأمرهن بأفضل الأقوال والأفعال، وشرّفهن على النساء جميعا لمنزلتهن وقربهن من خير الخلق نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسنأتي على مظاهر ذلك من الآيات الكريمات:
1- وجوب الزهد في الدنيا:
لما اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه وطلبن منه زيادة النفقة والكسوة، أنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] ليعلمهن أن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يليق بهن التعلق بشيء من الدنيا أو التشوف إليها، وكفاهن ما هن فيه من القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسماع القرآن والحكمة النبوية.
2- حثهن على اختيار الله ورسوله والدار الآخرة:
من دلائل حب الله لأمهات المؤمنين- رضي الله عنهنّ- أن رغّبهنّ أعظم الترغيب في اختيار الله ورسوله والدار الآخرة، فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ(2/203)
[الأحزاب: 29] فمن مظاهر الترغيب في الآية:
* تصدير جواب الشرط ب- «إن» لإفادة توكيد الأجر للمحسنات.
* نصت على الآية أن الذي أعد الأجر هو الله- سبحانه وتعالى-، لقوله: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الأحزاب: 29] وكفى بذلك تنويها لكريم الأجر وعظيم قدر من أعدّ له الأجر.
* وصف من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة بأعلى مراتب الإيمان وهو الإحسان فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الأحزاب: 29] .
* تخصيص الأجر العظيم لمن اختارت الله ورسوله دون سواهما قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ [الأحزاب: الآية 29] إشعارا بأن هذا الأجر لن يشاركهن فيه أحد أبدا.
* وصف الأجر المترتب على اختيار الله ورسوله ب (العظيم) ، ولك أخي القارئ أن تتخيل مقدار هذا الأجر فهو عظيم في قدره، عظيم في وصفه، ويكفي أن الذي أعده هو العظيم، وقد وصفه بالعظيم.
3- تضعيف العذاب لمن ارتكبت شيئا (حاشا لله) :
وهذا أيضا من أوجه التأديب الرباني لأمهات المؤمنين، ليزداد حذرهن من الفواحش، وليشعرن أن أعراضهن ليست كأعراض غيرهن من النساء، قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (فلما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظا صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع) . انتهى «1» .
ويختلف نظر المؤمن والمنافق لهذه الآية، فأما المؤمن فيرى فيها عظيم قدر أعراض أمهات المؤمنين، وأن الله أراد بهذه الآية إظهار شرفهن وفضلهن، وأما المنافق فيرى أن فعل الشرط دليل على إمكانية وقوعه، وآيات القرآن الكريم تردّ عليه، قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزّمر: 65] فهل يتصور أحد أن يقع الشرك منه صلّى الله عليه وسلّم ومثاله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزّخرف: 81] ، فكما يقول علماء اللغة:
(الشرط لا يقتضي الوقوع) .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 483) .(2/204)
4- مضاعفة الأجر للقانتات منهن (وهن جميعا كذلك) :
لما حذرهن الله- سبحانه وتعالى- من الوقوع في الفواحش بمضاعفة العذاب، كان من المناسب أن يرغّبهنّ في طاعة الله ورسوله بمضاعفة الأجر، قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 31] قال: (أي في الجنة فإنهن في منازل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش) «1» .
5- عدم تسويتهن ببقية النساء:
قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32] ، وهذا تشريف عظيم لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن حيث أثبت الله أنهن باستكمال التقوى لن يساويهن أحد من نساء الأمة، وفي الآية أيضا أبلغ الحث لهن بتقوى الله عز وجل لضمان بلوغ هذه المنزلة العالية الرفيعة التي لن تبلغها امرأة من نساء الأمة.
6- أمرهن بأحسن الأفعال والأقوال والأخلاق:
أما أحسن الأفعال: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وتبليغ الكتاب والسنة، والتزام الحجاب والعفة.
وأحسن الأقوال: أن يكون كل كلامهن معروفا.
وأما أحسن الأخلاق: عدم الخضوع بالقول (أي التكسّر فيه) والقرار في البيت.
7- إرادة الله كمال طهرهن وعفتهن:
وهي إرادة خاصة بأهل البيت، ودليله من الآية قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] وهذه الإرادة الخاصة تدل على عظيم اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بأمهات المؤمنين وزيادة شرفهن على كل أفراد الأمة.
8- تذكيرهن بشرف بيوتهن:
قال تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] ، وهي أعظم منة امتن الله بها على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد زواجهن منه، أن جعل بيوتهن محلّا لتلاوة
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 483) .(2/205)
القرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة، وإذا كان واجبا على كل مسلم أن يسعى إلى حلق العلم والذكر فأعتقد أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مكلفات بذلك لأن العلم والذكر قد جاء إلى بيوتهن وبذلك قد كفاهن الله مؤونة السعي إليهما، وهذا مما يزيد في شرفهن وفضلهن.
وقد ذكر القرطبي ثلاثة معان للفظ الذكر الوارد في الآية الكريمة:
الأول: اذكرن موضع النعمة إذ صيّركنّ الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة.
والثاني: اذكرن آيات الله واقدرن قدرها وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى.
الثالث: احفظن واقرأن وألزمنه الألسن «1» .
9- إعلامهن بلطف الله بهن:
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً [الأحزاب: 34] ؛ قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (أي بلطفه بكن بلغتنّ هذه المنزلة وبخبرته بكنّ وأنكنّ أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك) «2» . وقال ابن جرير: (أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة- وهي السنة- خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله) «3» .
من كل ما تقدم نعلم المنزلة العالية الرفيعة لأمهات المؤمنين، حيث لم يدع الله- سبحانه وتعالى- معروفا إلا حثهن عليه ورغبهن فيه، ولم يترك محرما إلا حذرهن منه، كما لم يترك شرفا ولا فضلا إلا وأثبته لهن بأكمل وأوفر ما يكون، وما كان ذلك إلا لقربهن واقترانهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وللتمة فإني سأذكر بعض فوائد الآيات الكريمات عسى الله أن ينفعنا بها، وقد رأيت أن أذكر فوائد كل آية على حدة، حتى لا تختلط الفوائد على القارئ، وليعلم بالضبط موضع الاستنباط، فأقول وبالله التوفيق:
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الأحزاب: 28] فيها:
1- قال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- كلاما نفيسا، قال ما نصه: «في آية التخيير فوائد:
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 184) .
(2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 487) .
(3) انظر تفسير ابن جرير (22/ 9) .(2/206)
منها: الاعتناء برسوله وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
ومنها: سلامته صلّى الله عليه وسلّم بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الأحزاب: 38] .
ومنها: تنزيهه عن لو كان فيهن من تؤثر الدنيا على الله ورسوله والدار الآخرة عنها، وعن مقارنتها.
ومنها: سلامة زوجاته رضي الله عنهنّ من الإثم والتعرض لسخط الله ورسوله.
فحسم الله بهذا التخيير عنهن التسخط على الرسول الموجب لسخطه المسخط لربه الموجب لعقابه.
ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهنّ، إن كان الله ورسوله والدار الآخرة مرادهن ومقصودهن دون الدنيا وحطامها.
ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يكنّ زوجاته في الدنيا والآخرة.
ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد الله أن تكون نساؤه كاملات مكملات طيبات مطيبات وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النّور: 26] .
ومنها: أن هذا التخيير داع وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه.
ومنها: أن يكون اختيارهن هذا سببا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يكن بمرتبة ليس فيها أحد من النساء» «1» .
2- ظنت أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- أنه يمكن الجمع بين زيادة النفقة في الدنيا وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فلما خيّرن علمن أن هذا الجمع محال فاخترن جميعا الله ورسوله بلا تردد، روى البخاري في صحيحه، عن الزّهريّ قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرّحمن أنّ عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبرته: «أنّ رسول الله جاءها حين أمره الله أن يخيّر أزواجه فبدأ بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّي ذاكر لك أمرا فلا
__________
(1) انظر تفسير السعدى (1/ 663) .(2/207)
عليك ألاتستعجلي حتّى تستأمري أبويك» - وقد علم أنّ أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه- قالت: ثمّ قال: «إنّ الله قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] ... » إلى تمام الآيتين- فقلت له: ففي أيّ هذا أستأمر أبويّ؟! فإنيّ أريد الله ورسوله والدّار الآخرة» «1» .
3- حث الأمة على الزهد في الدنيا، فلولا أن الزهد في الدنيا من أسباب الفوز والفلاح، ما رغّب الله نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه بل وجعله شرطا في البقاء بجوار النبي صلّى الله عليه وسلّم.
4- ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من كمال الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة ودليله أن الله عز وجل لم يرض من زوجاته إلا هذا المسلك، وأمرهن به وحثهن عليه، فكيف يرضى من نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأقل من الكمال فيه.
وكأن الآية الكريمة تلمح إلى أن الإنسان بقدر ما تعلق بالدنيا بقدر ما نقص تعلقه بالآخرة، فالتعلق التام بالدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب واحد، وتزهيد الصحابة في الدنيا كان مسلك النبي صلّى الله عليه وسلّم في تربيتهم، روى البخاري عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنكبي فقال: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» «2» .
وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) .
4- حث الرجال على تسريح زوجاتهن- إذا تم الطلاق- تسريحا جميلا، ففي الآية أمر من الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، أن امرأة من زوجاته لو اختارت الدنيا- رغم حقارتها على جوار النبي صلّى الله عليه وسلّم- ألا يعنفها ولا يقبحها ولا يقف الأمر عند ذلك، بل يجب تسريحها تسريحا جميلا، فما بالكم لو وقع الطلاق بين زوجين لسبب أقل من ذلك ألا ينبغي أن يكون السراح جميلا؟!.
5- في الآية دليل على مشروعية طلاق المرأة التي تشغل الرجل عن أمور آخرته لحبها للدنيا وتعلقها بها، وهي أيضا من حقها أن تطلب الطلاق إذا كان زوجها لا يوفر لها أسباب الفوز والفلاح في الآخرة.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ [الأحزاب: 29] .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ، برقم (4786) .
(2) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كن في الدنيا كأنك غريب ... » ، برقم (6416) .(2/208)
1- لم تقيد الآية إرادة الله ورسوله بشيء معين من أمور الشرع؛ كالحب أو الطاعة فلم تقل الآية مثلا: (وإن كنتن تردن حب الله ورسوله) ، أو (وإن كنتن تردن طاعة الله ورسوله) ، ولكن الآية أطلقت لتوجيه العبد أن عليه أن يقصد كل أمر يتقرب به إلى الله ورسوله، فإن على العبد أن يجمع في طريقه إلى الله- سبحانه وتعالى- بين الخوف والرجاء والحب والطاعة، وكذلك حب النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوقيره وإجلاله واتباع سنته.
2- ذكرت الآية تُرِدْنَ [الأحزاب: 28] للتنويه على أن الإرادة هي التي توصل العبد إلى الله ورسوله، وهي التي يثاب عليها العبد، أما مجرد التمني دون الإرادة فليس للعبد فيها حظ، وأقصد بالتمني هنا تسويف العبد للأعمال الصالحة، والتمني قد ذمه الله تعالى في قوله: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 14] .
3- عطفت الآية الدار الآخرة على الله ورسوله، مع أنها داخلة قطعا في إرادة الله ورسوله، وهذا العطف لأسباب منها:
أ- مقابلة إرادة الحياة الدنيا التي ذكرت في الآية السابقة بإرادة الدار الآخرة.
ب- الإشارة إلى أن تعلق العبد بالدار الآخرة وما أعد الله فيها من الثواب الجزيل لعباده هي أعظم ما يعين العبد على اختيار الله ورسوله.
ج- التذكير بأن الأجر العظيم الذي أعده الله للمحسنين والمحسنات إنما يكون قطعا في الآخرة، وهذا مما يزهّد الإنسان في الدنيا.
4- إثبات أن الجنة موجودة الآن، لقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الأحزاب: 29] وأعد فعل ماض، لا يصرف عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب والسنة.
5- إحاطة علم الله بكل شيء قبل حدوثه، حيث دلت الآية أن الله قد أعد لمن اختارت الله ورسوله الأجر العظيم قبل وقوع الاختيار من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
6- ثبوت درجة الإحسان لكل أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- لاختيارهن جميعا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
7- ثبوت الأجر العظيم لكل أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- لاختيارهن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
8- الإحسان هو أعظم منازل العبد، ولو أن هناك منزلة هي أعظم من الإحسان(2/209)
لوصف الله بها أمهات المؤمنين اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وليكون أبلغ في حثهن.
9- لا يبلغ العبد منزلة الإحسان إلا إذا زهد في الدنيا واختار الله ورسوله والدار الآخرة.
قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب: 30] .
1- عدم استحياء الله- تبارك وتعالى- من الحق، حيث ذكر مثل هذه الآية في كتابه الكريم، في حق من؟ زوجات أحب الخلق إليه صلّى الله عليه وسلّم.
2- أنساب الناس وشرفهن في الدنيا ليس معتبرا شرعا ولا يقي من عذاب الله- سبحانه وتعالى-، ولو أن الحسب والنسب يقي من عذابه لكان أولى الناس بالانتفاع بهما هن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الله قد رتب لهن أشد العذاب إذا خالفن أوامره.
3- يجب على المسلمين- خاصة أهل الصلاح والتقوى- ألا يأمنوا شر المعاصي من حيث الوقوع فيها، ولا من عذاب الله إن هم وقعوا فيها، فهؤلاء أفضل النساء قد حذرهن الله- سبحانه وتعالى- من الوقوع في الشرور والآثام، بل ومن سوء الأدب أن يظن الرجل الصالح أنه في مأمن من المعاصي.
4- قد يضاعف العذاب أكثر على أهل الصلاح والتقوى إن باشروا بعض المعاصي والآثام ولم يتوبوا منها لعظيم حق الله عليهم ولما آتاهم من العلم أكثر من غيرهم، فما كان تشديد العقوبة على أمهات المؤمنين إن وقع منهن شيء- وحاشا لله أن يقع منهن منكر- إلا لعظيم فضل الله عليهن عن بقية نساء الأمة، بل نساء العالمين.
5- الإشارة إلى قدرة الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا يصعب عليه شيء لقوله تعالى:
وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [النّساء: 30] .
قوله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] .
1- عدل الله- سبحانه وتعالى- المطلق، حيث ضاعف لكل زوج من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الأجر على طاعتها في مقابل تضعيف العذاب على ارتكاب النواهي.
2- فضل الله- سبحانه وتعالى- العظيم على عباده المؤمنين، إذ أرشدهم لكل عمل صالح، ووفقهم لمباشرته، ورزقهم من الصحة والعافية والمال والأجل ما يجعلهم يقدرون على عمل الصالحات ثم كافأهم أحسن المكافأة على عملهم الذي هو محض فضله من كل(2/210)
وجه، وسمّى تلك المكافأة أجرا.
فسبحان الذي أظهر عدله وفضله في آية واحدة.
3- التنويه على ضرورة أن يكون العمل صالحا حتى يكون مقبولا، وشرط صلاح العمل الإخلاص والمتابعة.
قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] .
1- عظيم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنزلته عند ربه- جل وعلا-، إذ حكم بعدم المساواة بين زوجات النبي وغيرهن من نساء العالمين، وما كان ذلك إلا باقترانهن وقربهن من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان الله قد حكم لنسائه بعدم تسويتهن مع بقية النساء فكيف نتصور أن يتساوى النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أي من الخلق؟!
2- الزواج من النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعيش معه تحت سقف واحد، هو عمل صالح يترتب عليه ثواب عظيم ومنزلة عالية رفيعة لا يمكن أن تبلغها امرأة أخرى مهما صنعت من الأعمال الصالحة ولو استغرقت كل عمرها، لأن الآية نصت على أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم- في حالة تقواهن- لا يستوين مع غيرهن من النساء دون تقيد لتقوى غيرهن ولا كثرة أعمالهن الصالحة، وكفى لهنّ شرفا أن جعل الله تأديبهن وتوجيههن بايات من الذكر الحكيم.
3- لا يجوز لأي امرأة مسلمة مهما بلغت من الدين والحسب والنسب والمال والعلم الشرعي أن تعتقد أنها تتساوى مع أقل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم قربا منه، أو حتى تقترب منها في الفضل والشرف، لأن الله قد حكم بعدم المساواة.
4- فضل تقوى الله- سبحانه وتعالى- وعظيم أثرها على العبد المسلم، حيث أن الآية قد اشترطت وجود تقوى الله لأي من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يحكم لها بمباينة النساء من غير أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
5- خطورة الخضوع بالقول عند تحدث النساء مع الرجال، لأن ذلك يهيج مشاعر من في قلبه مرض، وإذا كان الله عز وجل قد نهى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وحذرهن من هذا الخلق المذموم مع كونهن أمهات المؤمنين، ومع ما في قلوب جميع المؤمنين من تعظيم لحرمة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخطر ذلك على من دونهن من النساء أولى وأولى.
6- في الآية تنويه إلى أن أسباب إشاعة الفتنة هي في يد المرأة أكثر من كونها في يد الرجل، حيث وجّه الله- سبحانه وتعالى- لها النهي عن الخضوع بالقول، فعلى النساء أن(2/211)
يتقين الله عز وجل ولا يكن أعوانا للشيطان في إشعال الفتنة وإشاعة الفواحش في المجتمع المسلم.
7- قلوب الرجال من حيث إثارة الغرائز الكامنة على قلبين، قلب مريض يثار بأدنى سبب، وقلب صحيح معافى يثبت أمام من يدعوه إلى الوقوع في المحرمات، وعلى أصحاب القلوب المريضة أن يداووا قلوبهم، وألا يتعرضوا لدواعي الفتن حتى لا تقع في المحظور، وفي الآية أيضا أن حب الشهوات مرض يصيب القلب.
8- في الآية إرشاة إلى ضرورة إزالة الالتباس الذي قد يقع فيه السامع، لأن الآية الكريمة لما توجهت إلى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن الخضوع في القول، وقد نفهم من ذلك أن عليهن الغلظة في القول، أزال الله- سبحانه وتعالى- هذا الالتباس بقوله تعالى: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب: 32] .
9- في الآية حث على التزام المسلم بقول المعروف في تعامله مع الناس. والقول المعروف هو الذي يتصف بالأدب ومجانبة كل ما يخدش الحياء والبذاءة من غير غلظة ولا جفاء.
قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33] .
الأصل للنساء هو القرار في البيت، فهو الأسلم والأحفظ للمجتمع من شرور الاختلاط وآفاته.
2- ذم التبرج غاية الذم، حيث وصف التبرج في الآية بأنه من عادات الجاهلية الأولى، وعليه فإنه محرم لنهي الآية عنه، ولوصفه بعادات الجاهلية- في سياق الذم- ومعلوم أن من أعظم مقاصد الشريعة مجانبة عادات الجاهلية المذمومة.
ويتفرع عليه ذم أغلب المجتمعات المسلمة في وقتنا الحاضر والتي غلب عليها وتفشى فيها مظهر من مظاهر الجاهلية الأولى وهو التبرج وإن كان في زمننا هذا بصورة أقبح عما عرفته الجاهلية الأولى.
3- اقترنت الصلاة بالزكاة في أغلب آيات القرآن الكريم لأنهما أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين، ولأن الصلاة حق الله- سبحانه وتعالى-، والزكاة حق العباد.
4- طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح كل خير وسبيل كل رشد، ودليل ذلك أن تكرر ذكرها ثلاث مرات في خمس آيات متتاليات، ويؤخذ من ذلك وجوب طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم(2/212)
وعظم قدرها كطاعة الله- سبحانه وتعالى- سواء بسواء حيث قرن الله طاعته بطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الآيات الثلاثة، بل في أكثر آيات القرآن، بل أفردت بعض الآيات طاعة مستقلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، كقوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النّور: 56] ، وقد بينت أن للنبي صلّى الله عليه وسلّم طاعة مستقلة.
5- التحذير كل التحذير من إرادة أدنى السوء بزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الأطهار الميامين، لأن من أراد ذلك وسعى فيه أو حتى تمناه، فقد ضاد الله في مراده حيث أراد الله سبحانه وتعالى- لهن أكمل الصفات وأحسن الأخلاق، بأن يذهب عنهن كل أذى وشر وأن يلبسهن لباس الطهر والعفاف.
6- نجزم قطعا بأنّ كل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتبرن من أهل البيت الذين لهم من الإجلال والتوقير ما ليس لغيرهم، ودليله أن الآيات المتتاليات من رقم (28) من سورة الأحزاب- التي معنا- موجهة قطعا بنص القرآن إليهن، ثم ختمت الآيات الكريمات بذكر الحكمة من توجيه هذا الخطاب الرباني بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ، فلا يماري في ذلك أحد، ويتفرع عليه عظيم التخويف بالمساس بهن وأعظم الحث على تبجيلهن وتوقيرهن.
7- ذهاب الرجس وثبوت التطهر للعبد إنما يكون بامتثال طاعة الله ورسوله وكل ما ورد في الآيات الكريمات من توجيهات، وبقدر مخالفة العبد لتلك التوجيهات بقدر ما يكون معه من رجس يناقض الطهر والعفاف.
قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] .
1- تلاوة آيات القرآن والسنة في البيوت هي من النعم العظيمة التي يتفضل الله بها على العباد.
ويتفرع عليها الحثّ على الإكثار من تلاوة القرآن والسنة في البيوت، وأن البيت الذي تكثر فيه تلك التلاوة هو بيت مبارك.
2- الأمر بتلاوة آيات الله والأحاديث النبوية وتدبرها والوقوف عند فوائدها ووجوب تبليغها للأمة، بناء على ما ذكر الإمام القرطبي من معاني قوله تعالى:
وَاذْكُرْنَ [الأحزاب: 34] .
3- عظيم أمر السنة النبوية الشريفة حيث أمر الله- سبحانه وتعالى- بتلاوتها في(2/213)
البيوت كما أمر بتلاوة آيات القرآن الكريم، كما أنه عز وجل سماها حكمة، وفي هذا أبلغ الحث على الإقبال عليها حفظا وعملا.
4- في الآية إشارة إلى أنه لا يمكن للمسلم أن يستغني عن السنة بالقرآن الكريم، وأنه في حاجة إلى السنة كحاجته إلى القرآن. فما من عبادة أمرنا بها في القرآن إلا واحتجنا للسنة في بيان فرائضها وقدرها ووقتها وهيئتها ونواقضها ومكملاتها ونوافلها وهكذا الشرع كله.
5- شرف بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم على جميع بيوتات العالمين، لأن القرآن لا يتلى فيه فحسب، بل وينزل فيه.
ب- جعلهن قدوة لغيرهن:
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: 59] .
هذه الآية دليل على أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم هن قدوة لغيرهن من نساء الأمة جميعا، في الامتثال لأوامر الله تعالى. وجميع الآيات القرآنية التي توجه خطاب الأمر أو النهي إلى أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل فيه قطعا نساء الأمة، إلا ما ورد الدليل بتخصيصهن بهذا الأمر دون غيرهن.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وبناته هن أفضل نساء الأمة إطلاقا، ودليله أن الله- سبحانه وتعالى- أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يوجه الخطاب أولا لهن ثم يأتي من بعد ذلك نساء الأمة، وما كان ذلك إلا لشرفهن رضي الله عنهن جميعا.
الفائدة الثانية:
على الداعية أن يبدأ بأهل بيته أولا ثم بالأبعد فالأبعد، وأن أهل بيت الداعية هم محط أنظار عامة الناس، فهم يحكمون على صدق الداعية بالنظر إلى أحوال أهله.
ويتفرع عليه أن أهل الداعية عليهن مسئولية عظيمة في تصديق الناس للداعية أو تكذيبه فعليهن أن يتقين الله في ذلك.
الفائدة الثالثة:
قد يؤخذ من الآية أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم شرفا من بناته، لذلك بدأ الله بهن الأمر بالحجاب، وقد يقوي ذلك أن أزواجه صلّى الله عليه وسلّم أمهات للمؤمنين ولم يثبت ذلك الحكم لبناته- رضي الله عنهن جميعا.(2/214)
ج- إلزام الأمة توقيرهن:
قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] .
هذا الحكم من أجلّ صور تكريم وتشريف أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن جعلهن الله- تبارك وتعالى- بمنزلة أمهات المؤمنين. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (شرف الله تعالى أزواج نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال وحجبهن- رضي الله عنهن- بخلاف الأمهات، وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات) «1» .
كما قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. انتهى «2» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
وجوب تعظيم وإجلال وتوقير جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلهن على أفراد الأمة مثل حقوق الأمهات، وتدبر أخي القارئ، أن الآية خلت من أداة التشبيه، فلم تقل مثلا: (وأزواجه مثل أمهاتهم) ، بل قالت وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وذلك لتوكيد أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم هن فعلا أمهات للمؤمنين لهن جميع حقوق الأمهات، سواء بسواء، فالأمر ليس للتشبيه أو التقريب ولكن تمام المماثلة.
ويتفرع عليه أنه يجب على كل مسلم ومسلمة أن يقارن حاله مع أمهات المؤمنين، وما ينبغي أن يكون حاله مع أمه، فإن وجد أنه يفضل أمه في شيء عن أمهات المؤمنين أو أنه يعظم أمه أكثر أو أن يقبل أن يسمع في أمهات المؤمنين ما لا يقبل أن يسمعه على أمه فليعلم أن في قلبه شيئا وأنه قد أساء الأدب مع الله ورسوله.
الفائدة الثانية:
مدى عناية الله- سبحانه وتعالى- بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان الله عز وجل قد اعتنى بمنزلة الأم لأنها حملت وولدت وأرضعت وسهرت فأمر أولادها- الذين يعدون على أصابع اليد- أن يعاملوها أحسن المعاملة وأكرمها وجعل توجيه أدنى كلمات الضجر لها من كبائر الذنوب وقرن برّها بتوحيده- سبحانه وتعالى-، فانظر كيف
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 123) .
(2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 469) .(2/215)
اعتنى الله بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ أمر الأمة جميعا- رجالها ونساءها، شبابها وشيخوخها، من عاصرهن ومن لم يعاصرهن، من سمع منهن العلم والدين ومن لم يسمع- أن يوقروهن توقير الأم، وما ذلك إلا لعظيم حقهن على جميع الأمة وعلو شرفهن بقربهن من نبي هذه الأمة صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثالثة:
نعلم من الآية عظيم حق الأم على أولادها، لأن الله- سبحانه وتعالى- لما أراد أن يوجهنا إلى توقير وإجلال أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلهن أمهات لنا، ولو كان هناك أعظم من الأم، لجعل الله لأمهات المؤمنين مثل حقوقهن.
الفائدة الرابعة:
قد يطلق الحكم في القرآن أو السنة ولا يراد به جميع أفراد الحكم، ويعلم المفردات الداخلة في الحكم أو الخارجة عنه بالنظر فيما ورد بالكتاب أو السنة فيما يتعلق بهذا الحكم، وهي قاعدة عظيمة وهي التي تفرق بين عالم وآخر بل هي من أهم أسباب اختلاف العلماء فيما بينهم.
ودليل هذه القاعدة من الآية أن الله حكم أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم هن أمهات لنا في كل شيء، أي من حيث التوقير والإجلال وتحريم الزواج منهن.
وهل الخلوة بهن والنظر إليهن أمر مباح أيضا كما للأمهات من النسب؟ لا، فإنه يحرم الخلوة والنظر إليهن، علمنا ذلك من قوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] فهذه الآية قد خصصت آية الباب.
يتفرع عليه، أن من حكم الله العظيمة في هذا الدين أنه دين العلم والعلماء وأهل النظر الصحيح والفكر السليم، حيث لم يجعل الله- سبحانه وتعالى- الحكم الشرعي الواحد في موضوع محدد من الكتاب أو السنة يرد فيه كل ما يتعلق به من أحكام واستثناآت ومكملات ومكروهات، بل جعل ذلك متفرقا في مواضع كثيرة من القرآن والسنة. ومن الحكم العظيمة كذلك، حث المسلمين على طلب العلم وشحذ عقول العلماء على النظر في الأدلة والشواهد الشرعية، بل والاجتهاد إن لزم الأمر، كما يتفرع عليه حاجة عوام المسلمين لهؤلاء العلماء، وأنه لا غنى لهم عن سؤال أهل العلم والرجوع إليهم.
د- تحريم النظر إليهن بالكلية:
قال تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] .
هذا أدب آخر علّمه الله- سبحانه وتعالى- للمؤمنين عند مخاطبتهن أمهات المؤمنين-(2/216)
رضي الله عنهن- حيث نهاهم الله أن يسألهن المتاع- وهو ما احتيج إليه من أواني المنزل أو غيره وسائر المرافق من أمور الدنيا والآخرة- إلا من وراء ستر، وهذا الأدب إذا انضم إلى آداب دخول بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم تم عقد الآداب المرعية في التعامل مع بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الشريفات العفيفات، فاية واحدة علّمت الصحابة ما ينبغي لهم أن يفعلوه إذا دعوا إلى طعام أو إذا احتاجوا إلى متاع.
بعض أقوال العلماء في الآية الكريمة:
قال الإمام الطبري- رحمه الله تعالى-: (إذا سألتم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أو نساء المؤمنين متاعا فاسألوهن من وراء حجاب من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن البيوت) «1» .
وقال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (في هذه الآية دليل على أن الله- تعالى- أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى بما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها) . انتهى «2» .
ولكن يبدو أن كشف وجه أمهات المؤمنين للشهادة محرم، بخلاف سائر نساء المؤمنين، ودليلي في ذلك أن جلّ الدين أخذ عنهن من وراء حجاب، والدين أعظم من الشهادة.
أما الإمام ابن كثير فقال: (أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب) .
وما ورد في كلام ابن كثير من تحريم النظر إليهن بالكلية، هو ما دفعني إلى اختيار عنوان الباب وهو الذي جعلني أعتقد بتحريم كشف وجوههن في الشهادة وغيرها بعكس ما قد يتجوز فيه بالنسبة لنساء المؤمنين.
وأعتقد أن هذا الرأي هو الذي كان يميل إليه الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- حيث قال: (وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه إما أن يحتاج إليه وإما لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه كأن يسألن متاعا أو غيره
__________
(1) انظر تفسير الطبري (22/ 39) .
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 227) .(2/217)
فإنهن يسألن من وراء حجاب أي يكون بينكم وبينهن ستر يستر عن النظر لعدم الحاجة إليه فصار النظر إليهن ممنوعا بكل حال وكلامهن فيه التفصيل الذي ذكره الله) . انتهى «1» .
ولو قال الشيخ رحمه الله: (فإن لم يحتج إليه فلا حاجة إليه ويجب تركه) ، لكان أولى؛ لأن الآية تشعر أن الكلام مع أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- إنما يحل فقط في حالة الضرورة؛ كطلب متاع أو غيره، وهذا هو الأولى في تعظيمهن وصيانة حرمتهن.
بعض فوائد الآية:
الفائدة الأولى:
رفيع قدر أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- إذ أنزل الله فيهن قرآنا يوجه الأمة إلى الأمور التالية:
أ- تحريم سؤالهن ما احتيج إليه إلا من وراء حجاب، وهذا النهي لا يخص سؤالهن في حال كونهن في البيوت، لعدم التخصيص في الآية.
ب- عدم جواز الكلام معهن إلا لحاجة وإلا لما قيّدت الآية الكلام بسؤال المتاع.
ج- عدم جواز الدخول عليهن، لأنه إذا كان سؤال المتاع حراما إلا من وراء حجاب فالأولى تحريم الدخول عليهن.
د- الحكم بعدم جواز النظر إليهن بالكلية.
الفائدة الثانية:
حرص الشرع على طهارة قلوب المؤمنين والمؤمنات والحفاظ على سلامتها مما قد يصيبها من حب الفواحش، وأن وسائل الشر ومقدماته تأخذ نفس حكم مواقعة الشر، وهو التحريم، فكل ما من شأنه أن يفضي إلى حرام فهو حرام، وهذا من القواعد الحكيمة لشرعنا الحنيف.
الفائدة الثالثة:
خطأ من يدعي أنه يمكنه التبسط في الحديث مع الأجنبيات (أو المرأة مع الأجنبي) دون الوقوع في المحظور، بدعوى أن قلبه نظيف ومقصده شريف ولسانه عفيف وهي في محل أخته إلى آخر هذه الأقوال السخيفة التي يتذرع بها الشيطان لإيقاع المسلمين بسببها في الفواحش، والدليل على خطأ هذا الادعاء أن هذه الآية نزلت في حق أفضل الأمة قلوبا ونفوسا وألسنا ومع ذلك عللت الآية تحريم سؤال المتاع إلا من وراء حجاب لأجل سلامة القلب وطهارته.
__________
(1) انظر تفسير السعدى (1/ 670) .(2/218)
الفائدة الرابعة:
لا يحكم أحد على قلبه بالطهارة إلا إذا كان قلبه بعيدا عن حب ارتكاب الفواحش أو حتى تمنى مواقعتها، مع حرصه على البعد عن أسباب ودوافع الوقوع فيها.
هـ- تحريم الزواج منهن:
قال تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] .
من أعظم مظاهر تعظيم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، اللاتي هن أمهات المؤمنين، تحريم الزواج منهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومما يوضح مظاهر ذلك من الآية الكريمة:
1- بدأت الآية الحديث عن تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- بتأسيس قاعدة عظيمة، وهي تحريم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] ، أي ما كان ينبغي لكم أو يليق بكم، وهو أشد أنواع النهي في القرآن الكريم، وهي صيغة مشعرة بأن جميع أنواع الإيذاء في جميع الأحوال محرمة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا استقر هذا المفهوم في القلوب والأذهان جاء ذكر تحريم الزواج من أمهات المؤمنين.
2- ورد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم في سياق تحريم إيذائه بأعظم صفاته وهي رَسُولَ اللَّهِ، فلم يذكر باسمه ولم يذكر بصفة النبوة، بل ذكر صلّى الله عليه وسلّم بصفة الرسالة، وإضافة لفظ الجلالة إلى الرسول لها مغزى عظيم، وهو تعظيم أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكونه رسولا من الله- تبارك وتعالى-، والإشعار بأن إيذاءه يسبب- قطعا- إيذاء لله- تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي أرسله، والغرض من ذلك كله هو تعظيم أمر الإيذاء، ولو جاءت الآية بعبارة: (وما كان لكم أن تؤذوا الرسول) ما أفادت هذا المعنى.
3- لفظ: مِنْ بَعْدِهِ يفيد إحدى العلل الرئيسة في تحريم الزواج من أمهات المؤمنين، وهو أن هذا الزواج سيكون بعد نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم لهن، وكفى بذلك تعظيما لتحريم أمر هذا الزواج كما سيأتي- إن شاء الله- عند بيان علل التحريم.
4- قوله تعالى: أَبَداً وهو لفظ يفيد إرادة الله- سبحانه وتعالى- إغلاق جميع أبواب هذا الزواج، وإفادة عدم وجود أي استثناآت أو حالات يمكن القول فيها بحلّ هذا الزواج، فلفظ (أبدا) زادت من تعظيم هذا التحريم، للحكم باستحالة حله في أي زمان أو مكان أو حالة من الحالات.(2/219)
5- أبلغ مظاهر هذا التحريم جاءت في ختام الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] ، وفيها:
أ- بدأت بأداة التوكيد (إن) لتوكيد أمر التحريم عند الله لدى السامع.
ب- الفعل الماضي (كان) أفادنا بتحقق هذا التحريم وثبوته.
ج- قوله: عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] أفادنا أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أو التزوج من أزواجه قد بلغ المنتهى في التحريم، وأن الله- سبحانه وتعالى- يغضب لهذا أشد الغضب بمقتضى كونه عظيما عنده؛ ولذلك فلا غرابة فيما نقله القرطبي عن الإمام الشافعي- رحمهما الله تعالى- قال: (وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن ومن استحل ذلك كان كافرا) «1» .
فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
تحريم فعل ما فيه أدنى إيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء كان هذا الإيذاء بسبب إضافة ما لا يليق إلى شخصه الكريم صلّى الله عليه وسلّم، أو لشرعه المطهر، أو لسنته الشريفة، أو لأهل بيته الكرام الميامين، أو لأحد من أصحابه، فكل ذلك في الإيذاء سواء، ودليله أن الآية نهت عن مطلق إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم دون تقييد بإيذاء مباشر أو غير مباشر، أو إيذاء صغير أو كبير، وذكرت الآية أن هذا الإيذاء- المطلق- هو أمر عظيم عند الله.
الفائدة الثانية:
في حكمة هذا التحريم الأبدي للزواج من أمهات المؤمنين، ذكر العلماء أسبابا لهذا التحريم، نورد بعضها:
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين) «2» .
وقال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (حرّم الله نكاح أزواجه صلّى الله عليه وسلّم من بعده، وجعل لهن حكم أمهات المؤمنين، وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلّى الله عليه وسلّم) ، وأضاف قائلا: (وإنما منع من التزوج بزوجاته لأنهن أزواجه في الجنة وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها) «3» .
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) .
(2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 507) .
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) .(2/220)
وقال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى-: (هذا من جملة ما يؤذيه فإنه صلّى الله عليه وسلّم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته بعده يخل بهذا المقام، وأيضا فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته؛ فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته) «1» .
ما أجمل ما قاله الإمام القرطبي حيث قال ما نصه: (وإنما جعل الموت في حقه لهن بمنزلة المغيب في حق غيره كونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس) «2» .
وأضيف أن من الحكم الجليلة لهذا التحريم:
1- أن أي بيت من البيوت لا يخلو أبدا من الخلافات الزوجية، والتي يحدث فيها أن يرفع الرجل صوته على زوجته أو يوبخها، بل قد يصل الأمر إلى ضربها وهجرها، وهذا قطعا لو تصوّر حدوثه لإحدى أمهات المؤمنين فإنه يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولن يفلح رجل آذى النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة إذا كان هذا الإيذاء في أهل بيته.
2- أعتقد أن من الحكمة الشرعية تحريم مثل هذا الزواج لأنه- كما نقول في كلامنا الدارج- أنّ نسب فشل مثل هذا الزواج أكبر من نسب نجاحه، بل إنه سيكون زواجا محكوما عليه بالفشل، وذلك لاستحالة وجود رجل مهما بلغ من الحكمة والقوة والدين أن يرضي امرأة عاشت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأت منه ما رأت من الكمال والجمال في كل شيء، فلن يمر موقف أو حادث إلا وقارنت بين زوجها وبين ما كانت ترى من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وستكون نتيجة المقارنة أنها لن ترضى من زوجها شيئا، وستسخط عليه في كل شيء، فشتان بين اثنين أحدهما: مشرع متبوع ظهر فضله وسيادته على الناس كلهم جميعا، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني: مشرّع له تابع مفضول بأنبياء وأولياء، وإذا كان هذا هو حال الرجلين، فهل من الأدب أن يحل الأدنى مكان الأكمل؟!
3- إذا كان من الشروط التي يجب مراعاتها عند الزواج- وهي الضمان الأكبر لنجاح الزواج- هو إعمال مبدأ التكافؤ بين الرجل والمرأة، فأين الرجل الكفؤ لامرأة تزوجت من الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ فكانت تفضي إليه ويفضي إليها.
فالحمد لله الذي وافق هذا الحكم الإلهي- وهو تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- النقل والعقل.
__________
(1) انظر تفسير السعدى (1/ 671) .
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 229) .(2/221)
الفائدة الثالثة:
ما الحكمة في توجيه خطاب النهي عن الزواج بأمهات المؤمنين للأمة، ولم يوجه الخطاب لنساء معدودات- هن أمهات المؤمنين-، وستكون نفس النتيجة، وهي عدم وقوع الزواج منهن، أعتقد أن الحكمة من ذلك قد تكون واحدة أو أكثر من الحكم التالية أو هي جميعا، والله الموفق للصواب.
1- إظهار مكانة وفضل أمهات المؤمنين؛ إذ توجّه الخطاب لكل رجال الأمة.
2- حبس رجال الأمة جميعا عن مجرد التفكير في الزواج بإحدى أمهات المؤمنين؛ إذ إن الخطاب قد توجه لكل فرد من أفراد الأمة.
3- التنويه على أن الأصل في طلب المرأة للزواج أن يصدر من الرجل، فناسب توجيه الخطاب إليه.
4- توجيه خطاب التحريم إلى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، قد يفهم منه أنه سيحدث قدرا أن يتقدم أحد لخطبة إحداهن فترفضه، وهذا الأمر لا يليق أن يحدث أصلا.
5- قد يكون في توجيه الخطاب للأمة إشارة إلى أن أمهات المؤمنين لا ينبغي لهن التفكير في الزواج بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أنهن لن يفكرن أصلا في ذلك، فيكون من غير الحكمة توجيه الخطاب لهن.
6- الإشارة إلى أن الرجال قد يطمعن في الزواج من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لشرفهن وفضلهن، ولكنهنّ لن يطمعن في أحد من الرجال لأنهم جميعا أقل شرفا وفضلا ممن تشرفن بالزواج منه، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم.
تنويه:
ذكرت هذا الباب- وهو تحريم الزواج من أمهات المؤمنين- رضي الله عنهن- في سياق الحديث عن شرفهن وفضلهن، ولم أذكره فيما اختص الله- سبحانه وتعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم من خصائص، لأشير إلى عدة نقاط مهمة:
1- فضل الله العظيم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما في تحريم الزواج منهن من حفظ مكانتهن في قلوب المسلمين، وعدم انقطاع صلتهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، فإنهن زوجاته في الجنة بل في المنزلة العالية الرفيعة منها- وهي الوسيلة.
2- التأكيد على أن الله- سبحانه وتعالى- أراد- قدرا وشرعا- تمييزهن عن نساء الأمة، وعدم تسويتهن بهن في واحدة من أوكد حقوق المرأة وهي زواجها بمن تشاء بعد وفاة زوجها.(2/222)
3- ومن جملة فضلهن في هذه المسألة، أنه لا يخشى عليهن الفتنة بعدم الزواج بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونقطع أن الله يعلم ما هن فيه من اكتمال الإيمان والتقوى الذي يصون أعراضهن، وإلا ما عرضهن للفتنة بعدم الزواج، وهذا أبلغ ما يوضح عظيم فضلهن وعلو قدرهن على بقية نساء الأمة.
4- إيثارهن الله ورسوله على زينة الدنيا ومتاعها، وذلك أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة مع علمهن بتحريم زواجهن بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، مع ما كنّ يلاقينه من شظف العيش وضيق ذات اليد.
وتبرئة أعراضهن:
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) [النور: 11- 14] .
نزلت هذه الآيات الكريمات في تبرئة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، عائشة- رضي الله عنها-، مما خاض فيه طائفة من الصحابة والمنافقين من حديث الإفك، وقد أوردت الحديث كاملا، في باب صبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأذى، وذكرت ما في الحديث من فوائد عظيمة، ولكن إيرادي للآيات هنا لإثبات عظيم شأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله- تبارك وتعالى-، وحرص القرآن الكريم على تبرئتهن وإثبات ما يستحقه الخائضون في أعراضهن الشريفة من العذاب العظيم في الدنيا والآخرة.
وسأذكر أولا مظاهر ذلك من الآيات الكريمات ثم بعض فوائد الآيات، وإن كنت أود أن أنبه إلى أن نزول القرآن (ولو آية واحدة تلميحا أو تصريحا) لتبرئة أعراض زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم لهو أعظم دلائل مكانة هؤلاء الزوجات- رضي الله عنهن جميعا- عند الله- تبارك وتعالى- وهو ما تشير إليه عائشة- رضي الله عنها- في الحديث الصحيح: «ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، لكنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرئني الله بها» «1» .
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770) .(2/223)
أولا: مظاهر تعظيم الله- تبارك الله وتعالى- لأعراض زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم
وتبرئتهن من كل سوء، وبيان شناعة الأمر الذي وقع وقبحه.
1- تسميته إفكا:
والإفك هو الكذب الشنيع، وهو لفظ شديد وقعه على الأذن، حتى وإن لم يفهم المرء معناه الحرفي. وتدبر أخي القارئ جملة: جاؤُ بِالْإِفْكِ [النّور: 11] ، فهي مشعرة أن هذا الإفك كله مختلق ليس له أي أساس من الصحة، كما أنه ليس له مبررات، ولا شواهد تبرر ادعاءه، ومشعرة أيضا أن هذا البهتان دخيل على الجو الإيماني الذي كان يعمر المدينة وقلوب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2- إثبات أن كل من خاض فيه قد تحمل الإثم
؛ لقوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النّور: 11] . فمن عظيم غضب الله لهذه المقولة جاءت الآية بصيغة تؤكد ألّا أحد ممن تكلم مهما بلغت منزلته عفي من تحمل الإثم.
3- نزول الآيات المبّرّئات بأبلغ التسلية:
وذلك أن أبلغ ما كانت تريده عائشة- رضي الله عنها-، هو أن يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم رؤيا تبرئها، كما أشرت آنفا، ولكن جاء ما هو أعظم من ذلك، وهو أن الله قد تكلم في شأنها، ولكن هل جاءت الآيات لترفع عنها الشر الذي أصابها فحسب؟ لا، بل جاءت لها بالخير العميم الذي ستناله في الدنيا والآخرة، قال تعالى-: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النّور: 11] وهذا ما قصدته بأبلغ التسلية، ومن بركة عائشة- رضي الله عنها-، أن بسببها نزل الخير لها وللأمة، وما ذلك بغريب عنها فقد ورد عند البخاري، قول أسيد بن حضير لعائشة- رضي الله عنهما-، لما نزلت آية التيمم بسبب فقدان الماء بعد حبس عائشة جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر» «1» .
4- وصف الإفك بأوصاف عديدة:
وصف الله- تبارك وتعالى- ما خاض فيه المنافقون وبعض الصحابة بأوصاف شنيعة، بغرض بيان عظم ما وقع فيه الناس عند الله- تبارك وتعالى-، ولتقبيح فعلهم غاية التقبيح، ولزجرهم عن العودة إليه مرة أخرى، وتلك الأوصاف هي:
أ- الإفك المبين:
والمبين هو البين في نفسه، فالذي وقع من الخوض في عرض عائشة- رضي الله عنها-، هو كذب شنيع ظاهر أنه كذب، ما كان ليختلف اثنان عليه، وكلما كان
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ... ، برقم (4607) .(2/224)
الكذب ظاهرا بيّنا لكل أحد، كان الوقوع فيه أعظم جرما؛ لعدم التباس أمره على الناس، وفي وصفه بهذا الوصف أبلغ المدح لعائشة- رضي الله عنها-، حيث وضحت الآية أن الحديث كان إفكا، وهو إفك ظاهر بيّن، وما كان هذا وصفه لا يحتاج إلى إقامة الدليل لنقضه.
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى- في شرح قوله تعالى: إِفْكٌ مُبِينٌ [النّور: 12] ما نصه: (أي كذب ظاهر على أم المؤمنين- رضي الله عنها-، فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل هذا على رؤس الأشهاد، بل كان يكون هذا لو قدّر خفية مستورا) . انتهى «1» .
كما أنوه أن وصف الإفك بأنه مبين فيه توبيخ شديد لمن وقع فيه.
ب- الأمر العظيم:
من مظاهر تقبيح القرآن الكريم لهذا الإفك، وصفه بأنه عظيم، ولبيان شدة عظمه أن الله- تبارك وتعالى- نسب هذا العظم إليه، فقال: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النّور: 15] ، ولم يقل: (وتحسبونه هينا وهو عظيم) .
ج- البهتان العظيم:
قال تعالى: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النّور: 16] . وتدبر أخي القارئ كم مرة ذكر لفظ عَظِيمٌ [النّور: 16] في تلك الآيات المباركات، فقد ذكر أن الأمر عند الله عظيم والبهتان عظيم والعذاب المترتب عليه عظيم، وما ذلك إلا ليستشعر المؤمن عظم الأمر عند الله- تبارك وتعالى-.
د- نفي جواز التكلم به:
لقوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النّور: 16] ، فجاء القرآن الكريم بتأديب الصحابة- رضي الله عنهم- بما ينبغي أن يفعلوه إذ سمعوا ذلك الإفك، وهو أن يقولوا: (إنه لا ينبغي لنا أن نتفوه وننطق بهذا الكلام) ، فأرشدهم الله- سبحانه وتعالى- بعدم الوقوع في هذا الإفك بأقل مباشرة ممكنة وهو مجرد الكلام، وهذا أبلغ بيان لفحش هذا الإفك، وإذا كان الكلام فيه محرما، فكيف إشاعته أو اعتقاده؟! - نعوذ بالله من هذا-.
هـ- بيان أن نفي الإفك من مقتضيات تنزيه الله- سبحانه وتعالى
-: لقوله تعالى: ما
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 274) .(2/225)
يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ [النّور: 16] ، فأشارت الآية إلى أن الباعث على نفي التكلم بهذا الإفك هو تنزيه الله- سبحانه وتعالى- أن يمسّ عرض وجناب خاتم أنبيائه وسيد مرسليه بسوء، وهذا صحيح؛ لأن الحكمة الإلهية تقتضي أن يحفظ الله- سبحانه وتعالى- عرض نبيه صلّى الله عليه وسلّم باختيار زوجات كريمات عفيفات طاهرات، ولأن تدنيس عرض واحدة منهن يشكك في أعراضهن جميعا، وهو كذلك ضرر متعدّ لنبيه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن من شأنه القدح في ذريته وأهل بيته، وهو كذلك ضرر متعدّ أيضا للدين كله لما سيترتب عليه من رد جميع العلم المنقول للأمة من جهة زوجاته- رضي الله عنهن جميعا-، وهذا خطره عظيم، واسمع لما قاله الله- تبارك وتعالى- في آية كريمة جاءت بعد آيات الإفك: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النّور: 26] .
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسير الآية الكريمة: (أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا وهي طيبة لأنه صلّى الله عليه وسلّم أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا) «1» .
5- وصف الخائضين بأقبح الصفات:
وصفت الآيات الذين خاضوا في الإفك بأقبح صفة يمكن أن تلحق بمسلم، وهي صفة الكذب، وكفى بتلك الصفة تشنيعا بأصحاب مقولة الإفك، ولم يقتصر الأمر على ذلك، أو ذكر أنهم كاذبون عند الناس- أي في أوساط الناس-، بل ذكرت الآية أنهم كاذبون عند الله- أي في علم الله- تبارك وتعالى-، فكان ذلك تشنيعا على تشنيع.
كما وصفت الآيات الكريمات الخائضين في الإفك بأنهم يقولون ما لا علم لهم به، قال تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النّور: الآية 15] ، فكان كلامهم عن جهل بحقيقة الأمر، وجهل بعظمه وجهل أيضا بعلو شأن وقدر من خاضوا في عرضها، وهي زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
6- إثبات العذاب العظيم للخائضين في الإفك:
قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النّور: 14] . فالآية قد أثبتت أن الخائضين في الإفك يستحقون عذابا موصوفا بالعظيم، للدلالة على شناعة ما وقعوا فيه.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 279) .(2/226)
والغريب هو ما أشارت إليه الآية، بأن عدم نزول العذاب احتاج إلى شمول عباد الله المذنبين بصفتين من صفات الكمال المستحقة لله- تبارك وتعالى-، وهما الفضل والرحمة، ولو أن هذه الآية قد أوضحت ما كان يمكن أن يقع للمذنبين لولا فضل الله ورحمته، فإن الآية الآخرى، وهي قوله- تعالى-: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [النّور: 20] أبهمت ما كان يمكن أن يصيب الخائضين، والغرض من هذا الإبهام هو المزيد من التخويف والتهويل من شأن العذاب، فلله الحمد والمنة على وافر فضله وواسع رحمته، التي كان من أثرها أن رفع العذاب العظيم بعد استحقاقه.
وإن كان لي تعليق بعد ذكر ما جاء في الآيات الكريمات، فأقول: إنني لم أذكر تلك الآيات لبيان براءة عائشة- رضي الله عنها- حاشا لله- فإن شأني أحقر من ذلك بكثير، وهل هي في حاجة إلى أن يبرئها أحد من الخلق بعد أن برأها رب الخلق؟! ولكني ذكرت تلك الآيات فقط لبيان اعتناء الله- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم وأزواجه العفيفات، وغيرته على عرض نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فليس الشأن أن نعلم كم آية نزلت في عائشة- رضي الله عنها-، ولكن الشأن كل الشأن أن نعلم كيف جاء نظم تلك الآيات وما فيها من الدفاع عن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان ذلك إلا لاقترانهن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثانيا: بعض فوائد الآيات الكريمات:
الفائدة الأولى:
لا يتعجل المسلم الحكم على الأمر الذي أصابه أنه شر، فقد يكون فيه كل الخير له، كما أن المسلم المحتسب لن يحرم الخير في كل بلاء أصابه، لما رواه مسلم في صحيحه، عن صهيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبا لأمر المؤمن! إنّ أمره كلّه خير، وليس ذاك لأحد إلّا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له» «1» .
الفائدة الثانية:
كذب مقولة: «كل دخان من نار» أو «ليس دخان إلا من نار» ؛ لأن واقعة الإفك كان فيها دخان كثيف بدون نار، فيجب الانتهاء عن هذه المقولة لأنها قد تكون بمثابة قذف الأبرياء.
الفائدة الثالثة:
عدل الله المطلق في حكمه بين العباد؛ إذ أثبتت الآية أن المرء لا يسأل
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: الزهد، باب: المؤمن أمره كله خير، برقم (2999) .(2/227)
إلا بقدر ما اكتسبه من الآثام، قال- تعالى-: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النّور: 11] . وفي هذا إشارة إلى عدم استوائهم جميعا في مقدار الإثم، ودليله قوله- تعالى- في تمام الآية: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [النّور: 11] ، ففرّق بين أول من تكلم بالإفك وحرص على إشاعته وبين من نقله لقلة تقواه أو لذهوله عما كان يجب عليه أن يفعله إزاء هذا الإفك.
الفائدة الرابعة:
بيان واسع فضل الله ورحمته لعموم المؤمنين، وأن هذا الفضل وتلك الرحمة لا يعدمها أصحاب المعاصي والآثام مهما بلغت ذنوبهم، إن هم تابوا وأقلعوا.
الفائدة الخامسة:
لم تذكر الآيات الكريمات اسم عائشة- رضي الله عنها-، للإشارة إلى أن تعظيم أمر الإفك لم يكن بسبب شخص عائشة- رضي الله عنها-، ولكن لأن الحادثة تتعلق بإحدى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا التهديد والوعيد ينسحب على كل من يتكلم على أي واحدة منهن، فهن في ميزان الشرع سواء، بل إن الطعن في عرض واحدة كالطعن في عرضهن جميعا، ولذلك فضلت أن أذكر في التعليق على الآيات، (أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم) بصيغة الجمع، ترسيخا لهذا الأصل.
الفائدة السادسة:
يجب على كل مسلم أن يظن بإخوانه خيرا كما يظن بنفسه سواء بسواء، وأن يغضب لعرض أخيه كما يغضب لعرض نفسه، لقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النّور: 12] . وهذا المسلك يسهل على المؤمن إذا تذكر ما رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» «1» . ويؤخذ من الآية أيضا أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولى ببعض.
الفائدة السابعة:
قد يطلق الظن في القرآن في حق العباد، ويراد به اليقين، لقوله- تعالى-: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ [النّور: 12] .
الفائدة الثامنة:
نصاب الشهود في حد الزنا أربعة شهداء، فمن شهد على أحد بالزنا ولم يكن معه هذا النصاب يقام عليه حد القذف.
الفائدة التاسعة:
ذم من يتكلم بلسانه ويقول بفيه ما ليس له به علم، والتحذير الشديد من ذلك؛ لقوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النّور: 15] .
الفائدة العاشرة:
الفقه في الدين وتعلّم الحلال والحرام هو الذي يقي الإنسان-
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم (13) .(2/228)
بإذن الله تعالى- من الوقوع في المعاصي والآثام؛ لأن العلم هو الذي يضمن للمسلم توافق ما عنده مع ما عند الله؛ قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النّور: 15] ، فيكون من الله أخوف، ومن المحرمات أبعد.
الفائدة الحادية عشرة:
النهي عن التكلم بالسوء- حتى من دون اعتقاده- خاصة إن لم تكن هناك مصلحة شرعية، فإن كانت هناك مصلحة فيجب أن يكون الكلام بما يحقق المصلحة، يصدق ذلك قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النّساء: 148] .
الفائدة الثانية عشرة:
في قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً [النّور: 17] ، أبلغ إشارة إلى أن وقوع الفاحشة من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في حيز المستحيل وغير ممكن الوقوع؛ وذلك لورود النهي المطلق عن الخوض في أعراض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم دون تقييد لحال دون حال، فلم تأت الآية بقوله: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إلا ببينة) . وإذا تدبرنا قوله تعالى: أَبَداً [النور: 17] علمنا أن التحذير الشديد عن هذا الإفك ينسحب على جميع الأحوال والأزمنة.(2/229)
سابعا: ثناء الله وثناء رسوله صلّى الله عليه وسلّم على زوجاته وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم جميعا-
وكل ثناء عليهم فهو ثناء عليه من باب أولى
1- الثناء على زوجاته صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً [الأحزاب: 32] .
2- سلام الله عز وجل والروح الأمين على خديجة بنت خويلد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» «1» . رواه البخاري.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن عليّ رضي الله عنه يقول: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة» «2» .
3- سلام الروح الأمين على عائشة (- رضي الله عنها-) :
عن أبي سلمة عن عائشة- رضي الله عنها- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السّلام» . فقالت: وعليه السّلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى؟! تريد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» .
4- فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة:
عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مرحبا بابنتي» . ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثمّ أسرّ
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: تزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم خديجة، برقم (3821) .
(2) رواه البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ ... [آل عمران: 42] (3432) .
(3) رواه البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، برقم (6249) .(2/230)
إليها حديثا، فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا، فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عمّا قال، فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى قبض النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألتها فقالت: أسرّ إليّ: «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة وإنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه إلّا حضر أجلي، وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقا بي» . فبكيت، فقال: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة أو نساء المؤمنين» . فضحكت لذلك «1» .
5- الثناء على أصحابه:
أ- الثناء العام في القرآن
(على المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم) :
قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] .
وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29] .
فقد أثنى الله عليهم بأنهم في معية رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أي معه على طريقته وسنته، كما أثنى عليهم بكمال الباطن أنهم أشداء على الكفار وهذا يقتضي بغض الكفار في الله ومعاداتهم والتبرؤ منهم من باب أولى، والصحابه رحماء بينهم، وهذا يقتضي حبهم في الله والولاء فيما بينهم والنصرة.
وتأمل أنه بدأ بالشدة وثنى بالرحمة، فكأن الرحمة في قلوبهم بعضهم لبعض لن تكون إلا بعد بغضهم للكفار، فيجب تطهير القلب أولا من حب الكفار، حتى يتمكن حبّ المؤمنين في القلب، وصدق من قال: التخلية قبل التحلية، فالشدة على الكفار من باب التخلية، كما أثنى عليهم بكمال الظاهر أنهم مستغرقون في عبادة الله عز وجل، يظهرون وهم في أشرف الأحوال (الركوع والسجود) شدة الافتقار إلى الله يبتغون الفضل والرضا.
كما قال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8] .
وقال تعالى في حق الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية [الحشر: 9] .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] ، وبذلك يكون الله
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3624) .(2/231)
عز وجل قد أثنى على المهاجرين والأنصار وكل من اتبع رسوله صلّى الله عليه وسلّم بإحسان إلى يوم الدين، وكفى بذلك شرفا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعليه؛ فقد خرج من هذا الثناء كل من تعرض لأصحابه- رضي الله عنهم جميعا بسوء في القول أو الاعتقاد-؛ لأن ذلك يدل على أنّ في قلبه غلّا للذين آمنوا.
فعن أنس رضي الله عنه قال: بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلمّا قدموا، قال لهم خالي: أتقدّمكم فإن أمّنوني حتّى أبلّغهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإلّا كنتم منّي قريبا، فتقدّم فأمّنوه فبينما يحدّثهم عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر فزت وربّ الكعبة، ثمّ مالوا على بقيّة أصحابه فقتلوهم إلّا رجلا أعرج صعد الجبل. قال همّام: فأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السّلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّهم قد لقوا ربّهم فرضي عنهم وأرضاهم، فكنّا نقرأ: أن بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا ثمّ نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصيّة الّذين عصوا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم «1» .
ب- إثبات معية الله وصحبة رسوله لأبي بكر الصديق:
عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا. فقال: «ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!» «2» .
مر الكلام عليه مبسوطا في باب معية الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ج- موافقة عمر بن الخطاب لربه:
عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (وافقت ربّي في ثلاث؛ فقلت: يا رسول الله لو اتّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى! فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلّمهنّ البرّ والفاجر! فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه، فقلت لهنّ: عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدّله أزواجا خيرا منكنّ، فنزلت هذه الآية) «3» .
د- فرار الشيطان من عمر بن الخطاب
عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده نساء من قريش
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: من ينكب في سبيل الله، برقم (2801) .
(2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم ... ، برقم (3653) .
(3) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة ... ، برقم (402) .(2/232)
يكلّمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبت من هؤلاء اللّاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» . قال عمر: فأنت يا رسول الله أحقّ أن يهبن. ثمّ قال عمر: أي عدوّات أنفسهنّ أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قلن: نعم أنت أغلظ وأفظّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والّذي نفسي بيده ما لقيك الشّيطان قطّ سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك» «1» .
هـ-- اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ:
عن جابر رضي الله عنه سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ» «2»
وتأييد الروح القدس لحسان بن ثابت:
عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف أنّه سمع حسّان بن ثابت الأنصاريّ يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله هل سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: يا حسّان أجب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهمّ أيّده بروح القدس» قال أبو هريرة: نعم «3» .
ز- شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين:
روى البخاري في صحيحه عن خارجة بن زيد أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
نسخت الصّحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها فلم أجدها إلّا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الّذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادته شهادة رجلين وهو قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] «4» .
ح- نزول القرآن في أنس بن النضر:
قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) [الأحزاب: 23] .
عن ثابت قال: قال أنس: (عمّي الّذي سمّيت به لم يشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا،
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه، برقم (2397) .
(2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه، برقم (3803) .
(3) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الشعر في المسجد، برقم (453) .
(4) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: قول الله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ... ، برقم (2807) .(2/233)
قال: فشقّ عليه قال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غيّبت عنه، وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليراني الله ما أصنع؟ قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمر وأين؟
فقال: واها لريح الجنّة، أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتّى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمّتي الرّبيّع بنت النّضر: فما عرفت أخي إلّا ببنانه. ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، قال: فكانوا يرون أنّها نزلت فيه وفي أصحابه «1» .
الشاهد في الحديث:
قول الراوي في آخر الحديث: فكانوا يرون أنها نزلت فيه- أي في أنس- وفي أصحابه- أي الذي شهدوا معه غزوة أحد.
- وقد أثنت عليهم آية الباب بصفات حميدة:
الأولى:
أنهم رجال، وهذه اللفظة تعطي للسامع انطباع القوة والشجاعة والهمة العالية، مثاله قوله تعالى في الثناء على أهل مسجد قباء: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التّوبة: 108] . ولم تذكر لفظة رجال في القرآن إلا للمديح.
الثانية:
أن هؤلاء الرجال فيهم صفة الصدق وهي صفة كمال، قلّ من يتصف بها.
الثالثة:
أن هؤلاء الرجال عاهدوا الله- سبحانه وتعالى-، فكان خروجهم للجهاد لله، وفي ذلك تزكية عظيمة لهم؛ إذ إن نية خروجهم لا يشوبها أي شائبة، بل كانت وفاء للعهد مع الله، والذي يدل على تلبسهم بهذا العهد ووفائهم به أنه قال: صَدَقُوا.
الرابعة:
وهي من كمال صدقهم مع الله وإخلاص النية، مع كمال رجولتهم أنهم لم يبدلوا أي تبديل ولم يدخل في عهدهم أي تسويف أو شبهة رياء، وهذا من باب التوكيد الشديد على وفائهم بالعهد وصدق نياتهم.
فقد ينوي الإنسان عمل الخير إذا استطاع وهو صادق في نيته، ولكن إذا جاء الاختيار ويسّر له العمل ووافته الفرصة تقاعس وسوّف أو بخل واستغنى، كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1903) .(2/234)
[فوائد الحديث]
أما الحديث ففيه الفوائد التالية:
الفائدة الأولى:
مشروعية التسمية بأسماء أهل الفضل والعلم رجاء أن يكونوا أمثالهم، لأن أنس بن مالك في أول الحديث يشير إلى أن تسميته بهذا الاسم جاءت لتوافق اسم عمه أنس بن النضر، وحيث إن هذا الاسم مجردا لم يرغب فيه الشارع، علمنا أن تسمية أنس بن مالك من قبل والدته لم تأت إلا لتوافق اسم أنس بن النضر.
الفائدة الثانية:
وفيه بيان ما كان يلاقيه الصحابة من مشقة وحرج لتخلفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أي أمر من أموره لقوله: «فشق عليه» ، وكان يقصد بذلك، كما نص الحديث، غيابه عن غزوة بدر، وهذه المشقة التي يجدها في نفسه كانت في أمر لم يعزم فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم حضوره، ولم يعتب على من تخلف، فقد رغبهم فقط في حضور بدر، لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقصد العير ولم يقصد القتال، وأراد الله أمرا آخر، فما بالكم لو كان أنس بن النضر تغيب عن موقعة بدر وكان حضوره وشهوده مع الرسول واجبا.
الفائدة الثالثة:
الأمر عند الصحابة يعظم إن كان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء كان غزوات أو غيرها، لأن أنس بن النضر قال: (في أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . ولو كان الأمر عنده سواء، ما ذكر أن المشهد شهده رسول الله، ولقال أي كلمة غيرها، مثل: أول مشهد في الإسلام، أو أول مشهد ضد كفار قريش، حتى لما عاهد الله أن يعوض ما فات نص على أن يكون المشهد مع رسول الله لتكون واحدة بواحدة.
وهذا يدل كما أسلفنا على تعظيم الصحابة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالغزوة التي يغزونها معه لا تستوي مع السرايا.
وهذا هو الواجب على كل مسلم إلى قيام الساعة أن يستشعر مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولن يحدث هذا إلا بالاطلاع على سيرته، سواء من القرآن أو السنة.
ويؤخذ من الحديث أن على المسلم أن يحرص على مصاحبة العلماء وأهل الخير لأن في صحبتهم البركة، لأنه لن تخلو مجالسهم من ذكر أو مدارسة بعكس أصحاب السوء.
الفائدة الرابعة:
على المسلم إذا فاته أمر من أمور الخير والقرب إلى الله، حاول تعويض ما فاته، وأن يعزم النية على استدراك أمر الخير مستقبلا، حتى وإن لم يكن الذي فاته أمرا واجبا، فحضور الغزوة لم يكن واجبا.
الفائدة الخامسة:
بيان ما كان عليه الصحابة من ورع وتقوى وعدم التحدث كثيرا عما(2/235)
في قلوبهم من النيات الصادقة، فإن أنس بن النضر قال: ليراني الله ما أصنع! قال الراوي: فهاب أن يقول غيرها، أي أنه لم يقل: سأفعل وأفعل في المعركة، وذلك مخافة أن يعجز أو مخافة العجب منه أو به، أو قد يكون ذلك تواضعا مع الله عز وجل، ولا مانع من إرادته كلّ ذلك. فعلى كل مسلم أن يتعلم هذه الأخلاق الحميدة ويعمل بها، فيضمر في قلبه ما فعله لله عز وجل وما هو عازم أن يفعله، وإن كانت هناك مصلحة في التكلم كان بقدر الحاجة فقط، والله عز وجل مطلع على البواطن اطلاعه على الظواهر سواء بسواء، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] ، وهو يعلم إن كان الرجل يتكلم لمصلحة أم لا، وإن كان تكلم بقدر الحاجة أو توسّع بما لا يفيد.
الفائدة السادسة:
وفي الحديث نرى ما كان عليه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من شجاعة وإقدام وتضحية وفداء لله ورسوله، فقد طعن أنس بن النضر أكثر من ثمانين طعنة قبل أن يلاقي ربه، ولا شك أنه ما كان يطعن إلا وهو يحارب، فكيف كان يتحامل على نفسه ويقف شامخا يحارب مع كل تلك الطعنات مما ضيع معالمه كلها فلم تعرفه أخته إلا بإصبعه.
الفائدة السابعة:
بيان حب الصحابة الشديد للجنة، فكانوا يبذلون من أجلها النفس والنفيس، والله إني لأتعجب غاية العجب كيف كانوا يحرصون على الشهادة وهم يعلمون أنهم بموتهم سيفارقون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الأعز عندهم؟! كيف كانوا يتحملون أن يذهبوا إلى القتال ويودعوا الرسول، وهم يعلمون أنهم لن يروه مرة أخرى في حال شهادتهم، ولكن أقول في نفسي: إنهم أحبوه بعقولهم وقلوبهم، فقدموا الشهادة في سبيل الله على الصحبة في الدنيا، وذلك لأنّ صحبة الدنيا ستنقطع لا محالة إما لموتهم أو موت النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه بشر قال الله فيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزّمر: 30] . وبموتهم في سبيل الله ضمنوا صحبته الأبدية في الجنة.
الفائدة الثامنة:
طمع الصحابة في الجنة لأن أنس بن النضر رضي الله عنه اندفع إلى المعركة اندفاعا شديدا وأبلى فيها بلاء حسنا، وكان آخر ما قال فيما علمنا: «لريح الجنة أجده دون أحد» ، فكأن هذا هو الذي دفعه للموت في سبيل الله، ومن هنا نعلم خطأ بل جهل من يقول: إنني أعبد الله حبّا له ليس طمعا في الجنة، إنما هي عبادة التجار، وهذا تكذبه آيات القرآن الكريم الكثيرة التي تبين أبلغ تبيان أن المؤمنين يعبدون الله طمعا في جنته، وخوفا من عقابه بل حتى الملائكة الذين جبلوا على الطاعة إنما يخافون الله عز وجل ويظهرون هذا الخوف لأنه من تمام عبوديتهم لله، بل إن الله هو الذي رغب عباده في الطاعات بأن جعل ثوابها الجنة.(2/236)
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التّوبة: 111] .
هذا، وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من مغبة المعاصي ورغّبهم في التوبة منها، حتى لا يقع عليهم العذاب، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التّحريم: 6] .
أما الملائكة فقال في حقهم: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28] ، والخشية هي الخوف مع المحبة والإجلال، ومُشْفِقُونَ أي وجلون من ربهم، وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم فهم مجبولون على الطاعة والتسبيح، وقال تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النّحل: 50] .
فهل بعد بيان الله من بيان؟!، وهل يتجرأ أحد أن يظن أنه أفضل من الصحابة في فهم نصوص الكتاب والسنة، أو أنه أتقى لله منهم، وأنه يعبد الله بعبادة الحب التي هي في ظنه أفضل من الخوف والرجاء؟! حتى قال أحدهم: لو بنى الله لي خيمة في النار فأدخلها وأنا عنه راض. وقال الآخر: اللهم إن كنت أعبدك طمعا في جنتك فلا تدخلنيها أبدا، وإن كنت أعبدك خوفا من نارك فأدخلنيها.
أقول: ما هذه الجرأة على الله عز وجل، وما هذه الاستهانة بالجنة أو بالنار، ألم يسمعوا ما قاله الله في القرآن الكريم على لسان الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل الخلق بعد نبينا؟!: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشّعراء: 82] ، وذلك خوفا من عقوبتها وهو من هو. وقال تعالى على لسانه أيضا: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشّعراء: 85] .
فالحاصل أن أهل السنة يعبدون الله عز وجل حبّا في الله وبما أنعم عليهم من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة، كما أنهم يعبدونه ويتوسلون له ويتذللون لعظمته آناء الليل وأطراف النهار لينالوا المرغوب فيه وهو الجنة، وينجوا من المرهوب منه وهو النار.
ط- نور أسيد وعباد بن بشر:
عن أنس رضي الله عنه: (أنّ رجلين خرجا من عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ليلة مظلمة وإذا نور بين أيديهما حتّى تفرّقا فتفرّق النّور معهما، وقال معمر عن ثابت عن أنس: إنّ أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار. وقال حمّاد: أخبرنا ثابت عن أنس: كان أسيد بن حضير(2/237)
وعبّاد بن بشر عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) «1» .
ي- نزول السكينة بقراءة أسيد بن حضير:
عن أبي إسحاق: سمعت البراء بن عازب- رضي الله عنهما- يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدّار الدّابّة فجعلت تنفر فسلّم فإذا ضبابة أو سحابة غشيته، فذكره للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اقرأ فلان فإنّها السّكينة نزلت للقرآن، أو- تنزّلت للقرآن» «2» .
ك- تبشير الكثير منهم بالجنة في حياتهم:
وإيراد جميع آيات الثناء على الصحابة في القرآن يحتاج إلى مؤلف خاص.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: منقبة أسيد بن حضير ... ، برقم (3805) .
(2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3614) .(2/238)
ثامنّا: دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلّى الله عليه وسلّم:
1- تكذيب ادعائهم إضلاله صلّى الله عليه وسلّم لهم:
قال تعالى على لسان الكفار أنهم قالوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 42] .
ادعى الكفار أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كاد أن يكون السبب في إضلالهم وصرفهم عن عبادة الأوثان، فدفع الله هذا الادعاء الكاذب، بإثبات أنهم سوف يرون العذاب، وما داموا سيرون العذاب، علمنا أنهم هم الذين على ضلال، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي على الحق المبين، قال الشيخ السعدي- رحمه الله- في تفسيره للآية: «إن كاد- هذا الرجل- ليضلنا عن آلهتنا- بأن يجعل الآلهة إلها واحدا- لولا أن صبرنا عليها- لأضلنا- أي زعموا- قبحهم الله- أن الضلال هو التوحيد، وأن الهدي ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه، قال- تعالى-: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] . انتهى «1» .
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
اجتهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم غاية الاجتهاد في ثني الكفار عن عبادة الأوثان، حتى أو شك أن يفعل ذلك لولا تواصيهم بالصبر على عبادة الأوثان، وما قاله المشركون من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كاد أن يضلهم هو أبلغ الثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث أرادوا ذمه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو المنتهى في الغباء من الكفار.
الفائدة الثانية:
إذا كان الكفار قد تواصوا فيما بينهم بالصبر على عبادة الأوثان، وهو ضلال بيّن لكل عاقل، فمن باب أولى أن يتواصى المسلمون بالصبر على الحق البين الذي هم عليه.
الفائدة الثالثة:
يرى الناس- كلهم جميعا- يوم القيامة الحق حقّا، والباطل باطلا، وتزول عن أعينهم الغشاوات التي كانت تحول بينهم وبين رؤية الحق، ودليله من الآية قوله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
__________
(1) انظر تفسير السعدى (1/ 583) .(2/239)
2- شبهة الأكل والمشي في الأسواق:
قال- تعالى-: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 7] .
الشاهد في الآية:
أراد الكفار أن يطعنوا في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بأنه يحتاج، كبقية البشر لأكل الطعام، والمشي في الأسواق ليؤمن حاجاته، فرد الله عزّ وجلّ شبهتهم بقوله- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان: 20] ؛ أي: أن كل الأنبياء قبله كانت عادتهم وطبيعتهم التي فطرهم الله عزّ وجلّ عليها، أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل، قال- تعالى-: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] .
بعض فوائد قوله- تعالى-
: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) :
الفائدة الأولى:
إذا كان الكفار قد كذبوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فقد أقام القرآن عليهم الحجة أنهم قد كذبوا بكل الرسل؛ لأنهم جميعا كانوا يباشرون ذلك، وقد بين القرآن- في عدة مواضع- أن الذي يكذب رسولا، فقد كذب بجميع الرسل، لأن ربهم واحد ودعوتهم واحدة، فقوم نوح أرسل إليهم نبي واحد، ومع ذلك قال الله- سبحانه وتعالى- في حقهم: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ، يتفرع على ما ذكر أن الكفار يضاعف عليهم العذاب يوم القيامة؛ لأن الذي يعذب بتكذيبه رسولا واحدا، ليس كالذي يعذب على تكذيب كل الرسل.
الفائدة الثانية:
بينت الآية الحكمة من رفع الناس بعضهم على بعض، بما يذهب غيظ قلوبهم، وما يجدونه من حقد وحسد من بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعلت الآية تفاضل الناس بعضهم على بعض، فتنة واختبارا، ليرى عزّ وجلّ أيصبرون على ذلك أم لا، ولكن الحسد أعمى قلوبهم، قال- تعالى-: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] .
الفائدة الثالثة:
من حكمة الله- سبحانه وتعالى- إرسال المرسلين من جنس من أرسل إليهم، يأكلون ويشربون، يمرضون ويموتون، يتزوجون ويتناسلون؛ قال الله- تعالى-:(2/240)
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ [الأنبياء: 8] ، والله عز وجل كان قادرا أن يرسل فيهم ملائكة، ولكن سيكون لهم شبهة أخرى، وهى كيف نتبع من ليس منا ولا على شاكلتنا، وهل يعقل أن يكون القدوة إلا من نفس جنس المأمور بالاقتداء، هم لم يرضوا أن يقتدوا بمن يتكلم بلسانهم، ويعلمون مدخله ومخرجه منذ ولادته، فهل كانوا سيرضون بمن ليس من جنسهم البشري. وكفى لهم حجة أن يقولوا: هو يستطيع ما لا نستطيع، ويقدر على ما لا نقدر عليه، والله قد امتن على الأمم أن الرسول كان منهم ويتكلم بلسانهم، قال تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، ولو قدر الله عز وجل إرسال ملائكة، لأرسلهم على هيئة رجال، حتى يتمكن البشر من الأخذ منهم، قال- تعالى-: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] .
الفائدة الرابعة:
في الآية تزكية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث اختتمت الآية بقوله- تعالى-:
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً فهو بصير بعباده، يعلم من يستحق منهم شرف النبوة، ومن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، فببصيرته بالخلق، جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، قال- تعالى-: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ، وختم على قلوب المعاندين من كفار قريش، فرفعت الآية قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفعت شبهة المبطلين، وحكمت عليهم باستحقاق الضلال.
3- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلمه بشر:
قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] .
وهذه الآية- أيضا- نزلت لدفع إحدى الشبهات التي أثارها كفار مكة حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعلم القرآن من غلام أعجمي- لا يتكلم العربية- فكذبهم القرآن الكريم، وأظهر براءة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعلى شأن ما أنزل إليه، بأن وصفه باللسان العربي المبين، أي أنه أفصح ما يكون من العربية
ذكر القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق في سبب نزول الآية وفيمن نزلت قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني- كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له: جبر النصراني كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلقنه القرآن» انتهى. «1» وكل التفسيرات لا تختلف إلا في اسم الغلام
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (10/ 177) .(2/241)
الذي كان يجلس إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال القرطبي في اختلاف أسماء هؤلاء: «والكل محتمل؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله وكان ذلك بمكة، وقال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأنه يجوز أن يكونوا أومئوا إلى هؤلاء جميعا وزعموا أنهم يعلمونه» انتهى «1» .
ولا شك أن اهتمام القرآن برد كل فرية افتراها الكفار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهي من دلالات الاعتناء الإلهي به، والحرص على تبرئة ساحته، وكان يمكن أن يقوم هو بالدفاع عن نفسه، ولكن نزول القرآن كان أجل وأعظم.
بعض فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى:
بيان كره الكفار للرسول صلّى الله عليه وسلّم ولما أنزل إليه من الآيات والذكر الحكيم، واتضح ذلك جليّا في محاولاتهم إثبات أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يوحى إليه من ربه.
الفائدة الثانية:
غباء الكفار وسفاهة عقولهم، حيث اتهموا النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه يتعلم القرآن من أعجمي لا يجيد العربية، ويبدو أن الحقد قد أعمى قلوبهم وأذهب عقولهم فلم يجيدوا حتى الكذب.
وقد يكون هذا من باب مكر الله بهم، حيث جعلهم يتكلمون بما يفضحهم ويبين كذبهم وحقدهم وتخبطهم.
الفائدة الثالثة:
هذه الواقعة ومثيلاتها لهي أبلغ برهان على أن القرآن كتاب من عند الله عزّ وجلّ، والدليل من الواقعة أن الذي يكذب- كما فعل الكفار في هذه الفرية سرعان ما يتضح كذبه ويفضح بين الخلائق وهو لا يستطيع أن يستمر في إتقان كذبه مدة طويلة، وكما ذكرت فهو من مكر الله به، فهل يعقل أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم- من عند نفسه- بهذا القرآن ويتكلم به على مدار ثلاث وعشرين سنة، ولا يظهر للناس جميعا على اختلاف مللهم ونحلهم أيّ تناقص في الكتاب الكريم ينم عن الكذب أو حتى التناقض.
الفائدة الرابعة:
بيان ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من حرص على تبليغ الدعوة إلى كافة الناس عربهم وعجمهم، ودليله ما ذكره المفسرون في سبب نزول الآية، من أنه كان يجلس إلى الغلمان الأعاجم يعلمهم القرآن، فسبحان الله العظيم، كلما أراد الكفار أن يخفضوا من مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم تكون أجل مناسبة ليعلي الله شأنه ويرفع ذكره
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن (10/ 178)(2/242)
ألم تر أن الله ختم الآية بقوله: وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فقد زكى القرآن الذي أنزل إليه من الوحي غاية التزكية، وهي تزكية له صلّى الله عليه وسلّم.
4- كذب الادعاء بأن الله قد قلاه صلّى الله عليه وسلّم:
عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمّد إنيّ لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) تقرأ بالتّشديد والتّخفيف؛ بمعنى واحد: ما تركك ربّك وقال ابن عبّاس: ما تركك وما أبغضك «1» .
وهذا أيضا من باب كذبهم وافترائهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث ادعوا كذبا وحقدا أن الذي يأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو شيطان، وليس وحيا من السماء.
ونتكلم أولا عن فوائد الحديث، وإن كانت الآيات أشرف، إلا أن الحديث هو سبب نزول الآيات الكريمات.
أولا: بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عناية الله عزّ وجلّ بنبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث أنزل قرآنا يسلّي فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ويرد على مقالة الحاقدين، وكان يكفي للرد على مقولة أم جميل العوراء أن يتواصل الوحي، ولكنه الحب.
الفائدة الثانية:
ورد في صحيح البخاري روايتان، إحداهما بلفظ: «قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك فنزلت: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) ، والثانية بلفظ:
«فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك» ، وقد رجح ابن حجر- رحمه الله- أن تكون صاحبة المقالة الأولى هي: خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنها قالت: «يا رسول الله» وعبرت عن جبريل بقولها: «صاحبك» .
وصاحبة المقالة الثانية هي: أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب وامرأة أبي لهب «2» ، ويكون معنى كلام ابن حجر أن الآية نزلت ردّا على المقالتين، ولكن شتان بين المراد من المقالتين، فالأولى قيلت توجعا وأسفا والثانية قيلت تهكما وشماتة.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، برقم (4950) ، ومسلم، كتاب: الجهاد، باب: ما لقى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين، برقم (1797) .
(2) انظر فتح البارى (3/ 9) .(2/243)
الفائدة الثالثة:
كره الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما ينزل عليه من الوحي، وتمنيهم لو أن هذا الوحي قد انقطع، لقول أم جميل: «يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك» فقد سمته شيطانا وتمنت أن يكون قد ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثانيا: الآيات الكريمات:
كما تعودنا من صنيع القرآن، وكما بينت في المواضع سالفة الذكر، أن القرآن العظيم لا ينزل لدفع تهمة أو درء شبهة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ونزل معها في الآيات ما يفرحه ويقر عينه، إلا أن سورة الضحى كانت أبين ما يكون في هذا الشأن، مع ملاحظة أنها ما تعرضت مثل مثيلاتها لصاحبة القول- وهي أم جميل- وما علمنا سبب النزول إلا من الحديث الشريف، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى أن المرأة وزوجها قد نزل فيهما سورة كاملة، هي سورة المسد، وكأن الله عزّ وجلّ أراد أن يجعل سورة الضحى خالصة للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
بعض فوائد الآيات الكريمات:
الفائدة الأولى:
بدأت السورة الكريمة بأن أقسم الله عزّ وجلّ بايتين كونيتين، هما من أعظم دلائل قدرته- سبحانه وتعالى- وهما الضحى، والليل إذا سجى، وعظيم المقسم به يدل على عظيم المقسم من أجله، وهو أن الله ما تخلى عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم كما أن اختيار هذا القسم لطيفة من اللطائف، لمناسبته المقسم من أجله، فكما أن الله قد جعل الضحى للسعي والتعب ثم جعل الليل يأتي بعده ليأخذ الإنسان فيه قسطا من الراحة والسكينة، ليكون قادرا على مواصلة السعي من غده، فكذلك فترة انقطاع الوحي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرصة لتهدأ نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم من مشقة التنزيل؛ لأنه كان يعاني منه شدة عظيمة، وليكون بعد هذا الانقطاع في أشد الشوق لمعاودة تنزّل الوحي عليه.
الفائدة الثانية:
لما كان الوداع يحدث بين الحبيب وحبيبه، والقلى- الذي هو البغض- يحدث بين المتخاصمين، جاء القرآن الكريم بإضافة كاف المخاطبة لأول فعل، وهو التوديع فقال عزّ وجلّ: ما وَدَّعَكَ ثم أتى بالفعل الثاني بدون كاف المخاطبة، فقال: وَما قَلى، وهذا من جميل خطاب القرآن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى في حالة نفي صدور الفعل لاحظ الخطاب القرآني أجمل الأساليب.
الفائدة الثالثة:
أما تفسير قوله- تعالى-: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) ، فقد قال فيها الشيخ السعدي- رحمه الله- تعالى-(2/244)
ما يقر به عين أحباب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فقد قال ما نصه: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ؛ أي: ما تركك منذ اعتنى بك ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أحسن تربية، ويعليك درجة بعد درجة. وَما قَلى الله إياك؛ أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحا، إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم الماضية والحاضرة، أكمل حال وأتمها، محبة الله له واستمرارها، وترقيته في درج الكمال، ودوام اعتناء الله به.
وأما حاله المستقبلية، فقال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) [الضحى: 4] ؛ أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل صلّى الله عليه وسلّم يصعد في درج المعالي، ويمكّن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب. ثم بعد ذلك، لا تسأل عن حاله في الآخرة من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام؛ ولهذا قال: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة. انتهى كلام الشيخ- رحمه الله «1» .
5- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم ساحر:
عن ابن عبّاس أنّ ضمادا قدم مكّة وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الرّيح فسمع سفهاء من أهل مكّة يقولون: إنّ محمّدا مجنون فقال: لو أنّي رأيت هذا الرّجل لعلّ الله يشفيه على يديّ قال: فلقيه فقال: يا محمّد إنّي أرقي من هذه الرّيح وإنّ الله يشفي على يدي من شاء؛ فهل لك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله، أمّا بعد قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرّات قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السّحرة وقول الشّعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام قال: فبايعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلى قومك؟» قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة فمرّوا بقومه فقال صاحب السّريّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة فقال: ردّوها فإنّ هؤلاء قوم ضماد «2» .
__________
(1) انظر تفسير السعدى (1/ 928) .
(2) رواه مسلم، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (868) .(2/245)
الشاهد في الحديث:
هو قول ضماد: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في النبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- تعظيم الصحابي الجليل، ابن عباس- رضي الله عنهما- لشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ وصف من تكلم في النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسفه؛ لقوله: «فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون» وهذا الذي اعتقده الصحابي، صدق وعدل، فإن كل من يتكلم عن الرسول بما ينقصه، فهو سفيه، لأنه لم يميز بين ما ينفعه وما يضره، ولم يميز بين الحق الذي جاء به الأنبياء، والباطل الذي وجد عليه الآباء، فهو سفيه لأنه لو كان عنده مسحة عقل، لآمن واتبع، وقدّم الباقي على الفاني، واشترى أخراه بدنياه، ولو كان عنده عقل، لتدبر وتفكر في أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، في صدقه، وأمانته، وتقواه، ونصحه، وجوامع كلمه، وعظمة القرآن الذي أنزل عليه، فعلم- بواحدة من هؤلاء- أنه نبي حقّا وأنه ليس بمجنون.
وعلينا جميعا أن نعتقد سفه من لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أعطي من العقل أكمله فيما يرى الناس؛ لأن العقل إذا لم يدل صاحبه لما خلق له، وهو التوحيد والاتباع، كان هذا العقل في حكم العدم، وقد حكم الله عزّ وجلّ على من لم يؤمن بعدم وجود العقل، مع أننا نرى منه فيما نظن، أنه أعقل الناس، قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179] .
2- بيان ما أوتيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من جوامع الكلم، وعظيم البيان، وحلاوة المنطق، ورصانة القول، إذ إن ضمادا لما سمع منه خطبة الحاجة، ولم يسمع منه أكثر من ذلك، قال:
«فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر» ؛ أي: وسط البحر ولجته، مع أن ضمادا رضى الله عنه، سمع من كل الطوائف ولكنه علم أن كلام النبوة له طابع خاص يختلف تماما عن كلام الناس جميعا، ولو أن أحدا من الناس تكلم بمثل هذا الكلام من قبل، أو يمكن أن يتكلم به من بعد، ما حكم ضماد بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما تكلم به النبي صلّى الله عليه وسلّم، لهو من أعظم الأدلة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(2/246)
3- حسن ثنائه على الله عزّ وجلّ، وتأدبه الجم مع مقام الألوهية، والإقرار أنه- سبحانه وتعالى-، المتصرف في كل شيء؛ حيث تضمنت خطبة الحاجة ما يلي:
أ- إثبات أن الحمد كله لله- سبحانه وتعالى-، واللام في لفظ (لله) ، هي للاختصاص، والحمد هو الثناء على الله بكل صفات الكمال والجمال، ونفي كل صفات النقص ومشابهة الخلق، فالثناء على الله، كان سببه، أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
والثناء كان سببه أيضا، أن له الأسماء الحسنى والصفات العلا. ومعناه، أنه قد تنزه عن النوم والأكل والشرب واتخاذ المعين والناصر والولي من الذل. فكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال:
«إن الحمد لله» ، ذكر كل ذلك، وما من أحد يحب الثناء عليه، مثل حب الله له، لما رواه البخاري، عن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرّم الفواحش، وما أحد أحبّ إليه المدح من الله» «1» .
ب- إثبات أن الله- سبحانه وتعالى- هو المستعان على قضاء الأمور، ودفع الكروب. وفي الاستعانة بالله عزّ وجلّ، إعلان لضعف العبد؛ لأنه لا يطلب الاستعانة إلا من رأى ضعف نفسه، وأنه لا حول له ولا قوة، كما أنه لا يطلب الاستعانة إلا من قوي قادر على قضاء الحاجات، عليم سميع، يعلم ويسمع لمن استعان به، كما أننا لا نطلب الاستعانة إلا ممن نحسن الظن به، أنه يرحم من يدعوه، ويعطي من يرجوه، نحسن الظن به، أنه لا يخذل من استجار به، ولا يرد من استعان به، كما نحسن الظن به، من حيث إنه لا يعجزه أي شيء، ويقدر على كل شيء، فالاستعانة، هي الخروج من حول الإنسان وقوته، إلى حول الله وقوته، وهي إعلان غاية الضعف والعجز في مقابل غاية القوة والقدرة.
والحاصل أن الاستعانة هي من أعظم مظاهر التعبد لله، التي تحققت كلها، في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ج- إثبات أن الهداية- وهي أعظم النعم- بيد الله وحده، وكذا الضلالة، وأنه لا أحد ينازع الله- سبحانه وتعالى- في ذلك، فإن الله إذا أراد الهداية لأحد، فلن يمنع وصولها أو حجبها عنه أهل السماوات والأرض، وكذا إذا أراد أن يضل أحدا، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» ، وفي هذا تعليم للأمة، أن على العبد
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: الغيرة برقم (5220) .(2/247)
دائما أن يطلب الهداية والتوفيق والثبات من الله تعالى، كما يسأله أن يجنبه كل أسباب الضلالة والغواية.
ويتفرع على ذلك: إثبات ضعف أهل السماوات والأرض، فإذا كانوا لا يستطيعون أن يهدوا أحدا، ولا يستطيعون أن يضلوا أحدا، فمن باب أولى لا يستطيعون أن ينفعوا أحدا أو يضروه، وكذا في أبواب الرزق والإحياء والإماتة، فكل ذلك لا يطلب إلا من الله وحده، القادر عليه.
وقد يسأل سائل: لماذا هدى الله هذا وحجب الهداية عن ذاك؟
فأقول: إن مشيئة الله- سبحانه وتعالى- النافذة في عباده، تدور بين الفضل والعدل، فهداية العبد من تمام فضله، وضلاله من كمال عدله، والإنسان الذي يقبل بقلبه وعقله على الله عزّ وجلّ، يسلّم بحكمة الله في كل شيء، ولن يرد عليه هذا السؤال أصلا، وإذا ورد تذكر قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فدفع بهذه الآية كل وسواس، وردّ بها كل شيطان.
د- مراعاة الأدب مع مقام الألوهية، حيث لما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم الهداية نسبها إلى الله، قال: «من يهده الله فلا مضل له» ، ولما ذكر الضلالة، لم يذكر لفظ الجلالة تأدبا مع الله، فقال: «ومن يضلل فلا هادي له» فإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد راعى كمال الأدب مع الله، حتى في الأمور الثابتة لله، فيجب علينا من باب أولى، عدم إضافة أو إثبات أي أمر من الأمور لله إلا بدليل صحيح وصريح، خاصة في الأسماء والصفات وما يختص بالقضاء والقدر، وجميع الغيبيات التي لا تعلم إلا من الكتاب والسنة.
وكذا التأدب مع الله عزّ وجلّ في حديث بعضنا مع بعض، فلا نذكره- سبحانه وتعالى، في النكات والقفشات، ولا نكثر من القسم باسمه، في الجد والهزل، ولا نذكر اسمه تبارك وتعالى- إلا باستحضار الخوف والرهبة والخشية، فالمذكور- جل فى علاه- عظيم الشأن رفيع القدر.
قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] كما أن من عظيم أدبه مع الله- تبارك وتعالى- أنه لما نطق بالجزء الثاني من الشهادة، وهو قوله: «وأن محمدا عبده ورسوله» راعى أمرين عظيمين؛ وهما:(2/248)
- الأول: أنه أثبت لنفسه صفة العبودية، قبل مقام الرسالة، ليعلم الخلق أجمعين بعظيم صفة العبودية لله عزّ وجلّ، وأنها مقدمة على مقام الرسالة، وإذا كانت صفة الرسالة لم تتحقق إلا لبعض البشر فإن تحقيق صفة العبودية لله، متاح للبشر أجمعين، يتنافسون فيها.
كما نلمح من تقديم العبودية، إقرار النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن الله قد امتن عليه بالرسالة، لأنه حقق كمال العبودية، وأنه مهما بلغ من الدرجات العاليات في الدنيا والآخرة، ومهما تحقق على يديه من المعجزات الباهرات، فإنه لن يخرج من مقام العبودية لله- سبحانه وتعالى ولن ينازع الله- سبحانه وتعالى- في أمر من أموره، وانظر كيف أثبت لله الحمد والثناء والاستعانة والهداية والإضلال، وفي المقابل أثبت لنفسه أنه عبد الله ورسوله وكم تحمل لفظة العبد، من الذل والخضوع والاستكانة والافتقار، للمعبود- تبارك وتعالى.
الثاني: أنه انسلخ من نفسه، فلم يأت بالشهادة بصيغة المتكلم بأن قال: «وأني عبده ورسوله» وذلك لأمرين:
أولهما: ألايرى نفسه ولا يذكرها، بعد ذكره للخالق الباري المنعم عليه بكل فضل، وهذا نهاية الأدب والتواضع.
ثانيهما: الإشعار بأنه ينطق بالشهادة امتثالا لأمر الله- سبحانه وتعالى-، فكأنه يتكلم عن آخر، ولا يتكلم عن نفسه، وكأنه مأمور كبقية العباد، أن يشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهذا نهاية الطاعة والامتثال.
هـ- إثبات وحدانية الله- سبحانه وتعالى- وأنه لا معبود بحق إلا هو، وأنه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في حكمه، حيث إن قوله: «لا شريك له» نفي لكل أنواع الشركاء، كما أن قوله: «لا إله إلا الله» نفي لكل أنواع الآلهة وإثبات لألوهية الله وحده، وتوسط لفظ «وحده» لتوكيد عدم وجود الآلهة، أو الشركاء، سبحان الذي تفرد بالخلق كله، والأمر كله، والحكم كله، فلا نعبد إلا إياه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نثق إلا به، ولا نتوجه إلا إليه. وقد جاءت كلمة التوحيد في الحديث، كالدليل على كل ما أثبته النبي صلّى الله عليه وسلّم، لله عزّ وجلّ، وليعلمنا أن الحمد والاستعانة والهداية لا تكون إلا لله الذي لا إله إلا هو، فمن أثبت لله هذه الأمور، فقد جاء توحيده كاملا لا نقص فيه، مستقيما لا عوج فيه، ومن باب مفهوم المخالفة، أن من أتى بما يناقض الحمد والثناء أو الاستعانة بالله وحده، أو أثبت التصرف في ملك الله لأحد سوى الله، فقد ناقض كلمة التوحيد.(2/249)
4- حرصه صلّى الله عليه وسلّم على هداية الناس، ومباشرة كل عمل من شأنه إيصال هذه الهداية إلى قلوب العباد، وذلك أنه أعاد كلامه ثلاث مرات؛ بناء على طلب الصحابي ضماد، مع ملاحظة أن ضمادا لم يطلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا الإعادة مرة واحدة، فزاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدد المرات، رجاء أن تصل هذه الكلمات إلى عقله وقلبه، وهو الرجل إلى جاء ليرقيه من الجنون، فأي رحمة وشفقة بالأمة أعظم من ذلك، ومع مسلك لا يخلو من التواضع الجم، لم يقل له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قد قلت ما سمعت وإن واحدة لتكفي، خاصة أنه كان صلّى الله عليه وسلّم أفصح الناس لسانا، وأبلغهم بيانا.
الفائدة الثانية: في الصحابي ضماد رضي الله عنه:
1- علمه بالله، وما ينبغي إثباته لله عزّ وجلّ قبل إسلامه، حيث ذكر لنفسه أنه يرقى، وأثبت لله- سبحانه وتعالى- أنه هو الشافي، فعلم أنه سبب ليس له من أمر الشفاء شيء، وأن مسبب الأسباب هو الله، قال ضماد: «لعل الله يشفيه على يديّ» ، كما أن من بالغ أدبه، أنه علق الشفاء بمشيئة الله، فمع الأخذ بأسباب الشفاء، يبقى الأمر موكولا إلى الله عزّ وجلّ، يشفي من يشاء، ويرجئ شفاء من يشاء، قال ضماد: «وإن الله يشفي على يديّ من شاء» وهذا الأدب مع الله من قبل رجل لم يسلم بعد، قد افتقده كثير من المسلمين في وقتنا هذا.
2- أدبه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث إنه لم يضف إليه أي كلمة، مما تكلم به سفهاء مكة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، كل ما قاله: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح» ، ويقصد بالريح، الجنون، فلم يلفظ بلفظ الجنون، وهو اللفظ الذي سمعه من سفهاء مكة، كما أنه لم يعد على سمعه ما قالوه حتى لا يؤذيه، كما أن من أدبه أنه قال آخر مقالته للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «فهل لك» بأسلوب عرض وإغراء، لا بأسلوب أمر أو استخفاف.
3- رجاحة عقله، وذلك أنه استعرض في ذهنه في وقت قصير، قول الكهنة، والسحرة، والشعراء، وقارنه بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتيقن أنه رسول من عند الله، فسبحان الله، دخل ضماد على النبي صلّى الله عليه وسلّم يرقيه مما اتهمه به سفهاء مكة، فخرج من المجلس وقد أسلم وتشرف ببيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصافحت يده يد أحب الخلق إلى الله، فانظروا من شفى من؟، ومن الطبيب ومن المطبوب؟
وأظن أن نعمة الله قد شملت ضمادا، ببركة أدبه مع الله ورسوله بعكس من تعرض(2/250)
للقرآن والسنة بسوء أدب، فإنه يحرم الهداية ويستحق- بفعله- الغواية.
4- انسلاخه من العصبيات والقوميات، التي كانت سائدة في القبائل قبل الإسلام، وذلك أنه بمجرد أن نطق بالشهادتين، جعل ولاءه للإسلام، ودليله ما جاء في الحديث:
«وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي» وهذا دليل على أن الولاء للإسلام، ولا ولاء في الإسلام لأي جنسيات أو شعارات أو مذهبيات.
الفائدة الثالثة:
أن نؤمن حقّا أن الهداية بيد الله وحده، فكم سمع الكفار من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل من آيات الذكر الحكيم، ولم يؤمنوا، بل ازدادوا ضلالة وغواية، وهذا ضماد لم يسمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا كلمات معدودة ليست من القرآن، بل من كلامه هو صلّى الله عليه وسلّم، فامن من وقته بغير تردد ولا تحير.
6- شبهة أن يكون صلّى الله عليه وسلّم غنيّا لا يحتاج إلى التكسب:
قال- تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) [الفرقان: 7- 8] اقترح الكفار ليؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يكون له كنز، ينفق منه فلا يحتاج إلى العمل، أو السعي لكسب الرزق، فإن لم يكن هناك كنز، فلا أقل من أن تكون له جنة، يأكل من ثمارها ويستظل بظلها، فيكون منعّما، لأنهم يستكبرون أن يتبعوا رجلا فقيرا؛ قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وهي نفس شبهة من كفر بنوح صلّى الله عليه وسلّم؛ قال- تعالى-: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] ، والمتأمل يرى أن كل شبهات الكفار واحدة على مر العصور.
والحاصل: أن الكفار اقترحوا في آية الباب أن ينزل الله على عبده صلّى الله عليه وسلّم كنزا من السماء، أو تكون له جنة في الأرض، فبين الله أولا أن الذي دفعهم إلى هذه الشبهة هو ظلمهم؛ حيث قال تعالى: وَقالَ الظَّالِمُونَ، ثم بين تعالى أنه لو شاء لجعل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ما اقترحوه، بل خيرا منه: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ولكن علق الله عزّ وجلّ ذلك بالمشيئة، وحيث إن كل مشيئة لله- تعالى- فهي مقرونة بالحكمة البالغة، علمنا أنه ليس من الحكمة أن يكون للنبي جنات وأنهار
وأكد القرآن مرة أخرى في سياق تفنيد ادعاآتهم، أن الذي دفعهم إلى هذا القول هو(2/251)
تكذيبهم بالساعة، قال- تعالى-: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الفرقان: 11] ، وتوعدهم الله عزّ وجلّ على هذا التكذيب بالعذاب الشديد.
7- دفع ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب القرآن:
قال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] فهذا كذب آخر منهم، حيث ادعوا أن هذا القرآن، ما هو إلا حكايات وأحاديث الأولين، التي فيها الصدق القليل، والكذب الكثير، فرد الله عزّ وجلّ عليهم بأبلغ البيان؛ قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 6] ، فألمحت الآية إلى أن الذي يقدر على إنزال هذا القرآن، هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ولماذا نصت الآية على عالم السر؟
المتأمل للقرآن يعلم الجواب، ففي القرآن طرف عظيم، من أسرار ملكوت العالم السفلي والعلوي، وأسرار علم الغيب الماضي والحاضر والمستقبل، وأسرار المخلوقين، ملائكة وإنسا وجنّا، وفيه الحديث عن سرائرهم، وما تخفي نفوسهم، فأنزل ما يصلحهم، يتكلم القرآن عن كل ما سبق كأن الكون وما فيه، سره وعلانيته، خفيه وجليه، دقيقه وحقيره، ظاهره وباطنه، كأنه كتاب مفتوح لمن أنزل القرآن، فهل يعقل أن يكون الذي أنزل القرآن أحد غير الخالق، الذي يعلم السر وأخفى، فالذي يدعي أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، هو الذي أتى بهذا القرآن، قد رفعه فوق منزلة البشر، لأنه ليس من البشر أحد يعلم السر، وكفى بذلك حجة أن القرآن من عند الله خالق كل شيء.
فإن أصروا على أن هذا القرآن من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلماذا لم يأتوا بمثله؟ وقد تحداهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] ، فلما عجزوا عن أن يأتوا بمثله كاملا، تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود: 13] فلما أعجزهم هذا الأمر أيضا، تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، في موضعين من القرآن، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] ، وقال- عز من قائل-:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 23] .(2/252)
أقول: ليس المراد من سرد الآيات إطلاع القارئ عليها؛ فهي معلومة لكل أحد، ولكن المراد بيان أن هذا التحدي هو في ذاته معجز، وأن الله عزّ وجلّ قد ألزمهم به الحجة، وأنه دليل لكل ذي لب على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد، وذلك أن العرب في زمن البعثة كانوا أبلغ الناس فصاحة وبلاغة، وكانوا يقيمون الأسواق والمنتديات؛ ليتباروا في كتابة المعلقات، وهذا لا ينكره أحد، فأن يأتي الرسول صلّى الله عليه وسلّم- على سبيل التنزل مع المجادلين- فيضع نفسه في مأزق أمام أصحابه وعشيرته، الذين آمنوا به وبايعوه على أنه نبي من عند الله، فيأتي ويتحدى المكاذبين له أمام الناس أجمعين، ويسجل ذلك في القرآن، ويقترح عليهم أن يتظاهروا ويتساعدوا فيما بينهم، ليأتوا بمثل هذا القرآن، فلا يشترط عليهم، تحرزا لنفسه، أن يأتوا به فرادى، بل يتحدى الإنس والجن معا، وما يدريه ما عند الجن من قوة، فضلا على ما عند العرب مما ذكرنا من فصاحة وبلاغة وبيان، ما الذي يدفعه لذلك، ويضحّي بما وصلت إليه منزلته عند أصحابه، فلمّا عجز العرب عن ذلك لم يسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تحقق له ما أراد من تعجيزهم، بل يتنزل معهم، فيتحداهم بالإتيان بعشر سور، فيعجزون، فلا يرضى المتحدي بهذا التعجيز الظاهر، ويصر على إكمال التحدي، في سورة واحدة، وفي كل مرة يرتفع شأنه أكثر عند أصحابه ويكون دافعا لهم على رسوخ الإيمان، بمن أنزل القرآن، وبمن أنزل عليه القرآن، وفي المقابل يحتقر شأنهم أكثر بعجزهم فيما برعوا فيه، ألم يفكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا سيكون الموقف إذا وفّقوا في هذا التحدي، أو رأى وسمع أصحابه من يأتي بمثل القرآن.
والسؤال الآن لماذا لم يستطيعوا أن يأتوا بالسورة، مع وجود الدافع، وانتفاء المانع، فقد حرصوا كل الحرص على تكذيبه وإبطال دعوته، فقالوا: شاعر،. وقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، وكادوا له بكل أنواع الكيد، قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) [آل عمران: 54] ، وقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إبراهيم: 46] ، علمنا أن مكرهم الذي تزول منه الجبال، وتضحيتهم بالمال والنفس والعرض والأولاد، كان أيسر عندهم من الإتيان بسورة واحدة من القرآن، وليعلم كل أحد أن إنكاره أن القرآن من عند الله- سبحانه وتعالى- سيوقعه في إشكال كبير، وهو كيف يأتي رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب بكلام يعجز العرب والعجم، والإنس والجن مجتمعين، فهل يعقل أن يكون هذا الذي أنزل القرآن بشرا، وهل أتى بشر من قبله، أو من بعده بكلام(2/253)
أعجز الأولين والآخرين، إن كان لا، ألزمناهم أن يرفعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فوق منزلة البشر، لأنه وحده أتى بما لم يأت به الإنس والجن مجتمعين، وكيف يفعلون ذلك، وهو لم يدّع أنه فوق البشر، بل لم يدع أصلا أنه كتب هذا القرآن من عنده، وهل يعقل أحد أن رجلا يستطيع أن يعجز الإنس والجن، ثم ينسب كذبا- حاشا لله- هذا الإعجاز لغيره، من فعل هذا قبله؟ ولماذا؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.(2/254)
الباب السادس مظاهر حب وإجلال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم(2/255)
1- التصديق المطلق
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو «1» من الطّعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: إنّي محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخلّيت عنه، فأصبحت. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟» قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخلّيت سبيله. قال: «أما إنّه قد كذبك وسيعود» ، فعرفت أنّه سيعود؛ لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه سيعود» ، فرصدته فجاء يحثو من الطّعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: دعني فإنّي محتاج وعلي عيال لا أعود، فرحمته فخلّيت سبيله، فأصبحت. فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟» قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخلّيت سبيله. قال: «أما إنّه قد كذبك وسيعود» . فرصدته الثّالثة، فجاء يحثو من الطّعام فأخذته، فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود!! قال: دعني أعلّمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:
255] ، حتّى تختم الآية فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنّك شيطان حتّى تصبح فخلّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني الله بها فخلّيت سبيله قال: «ما هي؟» قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أوّلها حتّى تختم الآية اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتّى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنّه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟» قال: لا. قال: «ذاك شيطان» «2» .
الشاهد في الحديث:
أن الرجل الذي جاء يحثو من طعام الصدقة، وهو في الأصل شيطان، يتمثل في صورة إنسان، كان في كل مرة، يعد أبا هريرة أنه لن يعود، وفي كل مرة يرصده أبو هريرة،
__________
(1) أي: يأخذ من الطعام بملء كفيه.
(2) علقه البخاري بهذا النحو، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه، وقد وصله البخاري في موقع آخر مختصرا، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، برقم (5010) .(2/257)
ويتيقن أنه سيعود، وما ذاك إلا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أبا هريرة أنه سيعود.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في شمائل النبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- إعلامه صلّى الله عليه وسلّم ببعض أمور الغيب: حيث ابتدأ أبا هريرة بالسؤال عن الأسير، بعد أول ليلة، وما انتظر إخبار أبي هريرة، وذلك ليتيقن أبو هريرة بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بالأصح يزداد يقينا على يقينه، وهذه من أعظم فوائد المعجزات- وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم كل صباح يسأل أبا هريرة عن أسيره، ثم ينبّئه أنه سيعود ويأتي، رغم أن الأسير يؤكد في كل مرة أنه لن يأتي، وهذا الإخبار بالغيب في أمر يعلم فيه الصدق من عدمه مساء نفس اليوم، لهو أمر عظيم، يدل قطعا على صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم وتأييد الله عزّ وجلّ له، ويقينه صلّى الله عليه وسلّم بذلك.
2- حسن تعليمه صلّى الله عليه وسلّم وصبره على هذا التعليم: حيث إنه ترك أبا هريرة ليلتين بعد الليلة الأولى، وما أخبره، بمن هو أسيره، لتتحق زيادة اليقين، ويترسخ عند أبي هريرة رضي الله عنه وعند بقية الأمة.
3- فصاحته صلّى الله عليه وسلّم وتمام بيانه: يتبين ذلك من قوله: «صدقك وهو كذوب» . فلو اقتصر على: «صدقك» لكان فيه تزكية لذاك الشيطان، وقد يظن ظان أن الأصل فيه الصدق، ولو اقتصر على قوله: «كذوب» لاشتمل الحكم على كذبه فيما أخبر عنه في فضائل آية الكرسي، فقال بحكمة: «صدقك وهو كذوب» .
يتفرع على ذلك، ألايحملنا بغضنا لأحد، ولو كان ألد أعدائنا، أن نكذّبه في كل شيء، بل يجب علينا أن نقول فيه كلمة الحق، ونبين ما صدق فيه وما كذب، بل نبدأ بصدقه قبل كذبه، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو أننا كذبنا كل ما يقول عدونا حتى في حالة صدقه، لتلبسنا بأقبح الخصال، وهي الكذب.
الفائدة الثانية: في القرآن الكريم:
1- عظيم شأن القرآن، وبركته العميمة، لاحتوائه على الكثير من الآيات المباركات النافعات، التي تقي الإنسان المهالك وشرور أعدائه، خاصة شياطين الجن، وكذا الآيات التي يرقي الإنسان بها نفسه ومن يحبّ، وآيات يدفع بها المسلم شر العين وأضرارها، والآية التي معنا في هذا الحديث الشريف، يحفظ الله بها من يقرأها طوال الليل حتى يصبح فلا يقربه شيطان كما ورد في الحديث: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا(2/258)
هُوَ حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح» .
وللدلالة على عظيم بركتها، أن ضمنت لمن يقرأها أمرين، ولو كان أمرا واحدا لكفى:
الأمر الأول: وجود الحافظ، الذي هو من الله، فهو أتى بأمر الله ويستمد قوته من الله، وقد سمي حافظا، فهو لن يضيع ما استحفظ عليه، وهو نفس المؤمن، وإلا ما استحق هذا الوصف الدقيق.
الأمر الثاني: عدم قرب الشيطان، ولم يقل: (ولا يمسنك شيطان) . وشتان بين القرب والمس؛ لأن الشيطان قد لا يمس المؤمن، ولكن قد يوصل إليه أدنى أذى ولو من بعيد، ولكن هذا لن يحدث ببركد قراءة المؤمن لآية الكرسي.
2- ثبوت تفاضل آيات القرآن الكريم، وأن بعضها أعظم من بعض في النفع والبركة، مع إيماننا أن القرآن كله عظيم ومبارك، قال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) [الأنعام: 155] .
الفائدة الثالثة:
في مناقب أبي هريرة رضي الله عنه:
1- فقهه: حيث إنه لم يرفع الأسير إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا رآه يأخذ من مال الصدقة لإقامة حد السرقة عليه، إما لعلمه باستحباب تعافي (أي دفع) الحدود قبل أن تصل إلى الإمام، أو لعلمه أن الأسير له حق في هذه الصدقة لحاجته وعياله، والحد لا يقام على الفقير خاصة إذا سرق من المال العام الذي له فيه حق بقدر ما يحتاجه ويفتقر إليه.
2- حسن ظنه بالناس: حيث إنه صدق الأسير لما أعلمه بحاله، وكذا رحمته بالفقير، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت) . وما كان ليرحمه إلا بعد تقديم حسن الظن به في صدق حديثه.
3- أمانته: حيث كان يترصد الأسير كل ليلة، ويمنعه من الأخذ من مال الصدقة، المأمور بحفظها، وما استطاع الأسير أن يغافله ويسرق ولو مرة واحدة، خاصة أنه كان يأتي ليلا، وهو الوقت الذي ينام فيه الحراس غالبا.
4- تصديقه المطلق للنبي صلّى الله عليه وسلّم: حيث كان في كل ليلة يتيقن من عودة الأسير، وما كان ذلك إلا لتصديق أبي هريرة لخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: (فعرفت أنه سيعود لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: إنه سيعود) ، فما نظر أبو هريرة، رضي الله عنه إلى القرائن التي توحي بأنه لن يعود، وما قارنها بالأسباب التي توحي بعدم عودته، وإنما كان كل الذي اعتقده أن الأسير سيعود(2/259)
لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا التصديق المطلق ديدن أبي هريرة رضي الله عنه فقد صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في أعظم من ذلك، وهو أنه أخبر بأن بقرة تتكلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصّبح، ثمّ أقبل على النّاس فقال: «بينا «1» رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنّا لم نخلق لهذا، إنّما خلقنا للحرث. فقال النّاس: سبحان الله بقرة تكلّم! فقال: فإنّي أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثمّ «2» .
والعجيب أنه حكم لأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، أنهما سيصدقان الخبر إذا سمعاه، وهي منقبة عظيمة للخليفتين الراشدين، أن يشتهر عنهما تصديقهما المطلق لكل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان مخالفا للعادة والعرف بل والعقل، ومتى كان الصحابة رضي الله عنهم يحكمون عقولهم، في أخبار الوحي؟!.
5- أدبه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يذكر له ما نصحه به الأسير بصيغة الجزم، قال: (زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) . فأتى بلفظ (زعم) ، وما أكد الخبر بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم من باب عدم التقديم بين يدي الله ورسوله، وهذا أيضا من فقهه رضي الله عنه. كما أن من أدبه رضي الله عنه أنه راعى علو قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: (لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .
6- حرصه على الخير، وكذا جميع صحبه الكرام، رضي الله عنهم جميعا، قال الراوي: (وكانوا أحرص شيء على الخير) . وحب أبي هريرة رضي الله عنه للخير، هو الذي دفعه لإطلاق أسيره في الليلة الثالثة، مقابل أنه يعلمه ما ينفعه الله به.
الفائدة الرابعة:
إيمان الشياطين بالله، وأنه النافع لقوله: (أعلمك كلمات ينفعك الله بها) . فهل اعتقد عوام المسلمين اليوم، ما كان تعتقده الشياطين ولا يزالون، أن النافع والضار هو الله وحده؟.
ولم يكن هذا التصديق المطلق ديدن المؤمنين فقط ولكن شمل هذا التصديق الكافرين أيضا واعطي لذلك مثالا:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدّث عن سعد بن معاذ: أنّه قال: كان صديقا لأميّة بن خلف وكان أميّة إذا مرّ بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مرّ بمكّة نزل على أميّة، فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة انطلق سعد معتمرا، فنزل على أميّة بمكّة، فقال لأميّة: انظر لي ساعة خلوة لعليّ أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النّهار،
__________
(1) بينا: أي بينما.
(2) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3471) .(2/260)
فلقيهما أبو جهل. فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل:
ألا أراك تطوف بمكّة آمنا، وقد أويتم الصّباة «1» وزعمتم أنّكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنّك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما. فقال له سعد ورفع صوته عليه:
أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنّك ما هو أشدّ عليك منه طريقك على المدينة، فقال له أميّة:
لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيّد أهل الوادي، فقال سعد: دعنا عنك يا أميّة فو الله لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول: «إنّهم قاتلوك» قال: بمكّة؟ قال: لا أدري؛ ففزع لذلك أميّة فزعا شديدا، فلمّا رجع أميّة إلى أهله قال: يا أمّ صفوان ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أنّ محمّدا أخبرهم أنهم قاتليّ، فقلت له: بمكّة؟
قال: لا أدري فقال أميّة: والله لا أخرج من مكّة، فلمّا كان يوم بدر استنفر أبو جهل النّاس قال: أدركوا عيركم، فكره أميّة أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنّك متى ما يراك النّاس قد تخلّفت وأنت سيّد أهل الوادي تخلّفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتّى قال:
أمّا إذ غلبتني فو الله لأشترينّ أجود بعير بمكّة، ثمّ قال أميّة: يا أمّ صفوان جهّزيني، فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربيّ؟! قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلّا قريبا. فلمّا خرج أميّة أخذ لا ينزل منزلا إلّا عقل بعيره فلم يزل بذلك حتّى قتله الله عزّ وجلّ ببدر «2» .
ملخص الحديث:
كان أمية بن خلف لعنه الله صديقا لسعد بن معاذ رضي الله عنه وقد نزل سعد ضيفا على أمية بمكة، ولما ذهبا يطوفان بالبيت، قريبا من الظهيرة، رآهما أبو جهل لعنه الله فأنكر على سعد بن معاذ رضي الله عنه طوافه بالبيت آمنا، وهو من القوم الذين نصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما تخاصما وأراد أمية أن يخفض من صوت سعد بن معاذ، أخبره سعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنه سيقتل أمية بن خلف.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
التصديق المطلق من الكافرين لكل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم وشاهده من الحديث:
1- فزع أمية بن خلف، لما أخبره سعد بن معاذ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
__________
(1) يقصد بالصباة: النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. والصابئ: هو من يترك دينه وينتقل إلى دين آخر.
(2) البخاري، كتاب: المغازي، باب: ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم من يقتل ببدر، برقم (3950) .(2/261)
إنهم (أي المسلمين) قاتلوه، قال الراوي: (ففزع أمية فزعا شديدا) ، وظهر ذلك على وجهه وبقية أعضائه وكذا تصرفاته، لذا وصف الفزع أنه كان شديدا، وما ذلك إلا لتيقنه من صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2- قول أمية بن خلف، لما سمع مقولة سعد بن معاذ رضي الله عنه كما في إحدى روايات البخاري: (والله ما يكذب محمد إذا حدّث) «1» ، ونلمح في هذه المقولة بعض النقاط وهي:
أ- أنه استفتح كلامه بالقسم؛ وذلك للتوكيد مع أنه لم يطلب منه ذلك.
ب- أنه نفى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جميع أنواع الكذب في حديثه، لقوله: (إذا حدث) أي:
(بأي شيء حدث) دون تقييد.
ج- أنه صدّق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمر عظيم، يشمل عدة أمور، وهي: أنه سيخرج للقاء المسلمين وأن أجله سيمتد حتى يقابل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزو، وأنه سيموت على ما هو عليه من الكفر.
وكان من شدة تصديقه لمقولة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن صدرت منه عدة أمور وهي:
أنه سأل معاذا رضي الله عنه عن المكان الذي سيقتل فيه، حيث ورد في الحديث: (قال:
بمكة؟ قال: لا أدري) ، مما يؤكد أن الأمر قد ثبت عنده، واستقر في قلبه غاية الاستقرار، وما بقي إلا أن يعلم أين يقتلونه.
أنه رجع إلى امرأته، يخبرها بما سمع، وكان من مقولته لها: (أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي) .
عدم خروجه أول الأمر، وتخلفه عن استنفار أبي جهل، وما خرج إلا بإلحاح من أبي جهل، لخوفه أن الناس سيتخلفون بتخلفه، قال له أبو جهل: (إنك متي ما يراك الناس قد تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك فلم يزل به) . أي: أنه ما خرج إلا تحت الإلحاح الشديد.
أنه اشترى أجود بعير بمكة؛ حتى يستطيع أن يهرب عليه إذا رابه شيء، وقد عزم ألا يسير مع الجيش إلا قليلا، بالإضافة إلى حفاظه على البعير غاية المحافظة، مخافة أن يهرب منه، قال الراوي: (ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره) . أي ربطه.
وهذا التصديق التام بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان من أمية وحده، بل اشتركت معه زوجته، ومن شدة تصديقها أنها قالت له لما عزم على الخروج: (يا أبا صفوان وقد نسيت ما
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3632) ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(2/262)
قال لك أخوك اليثربي؟!) .
ويتفرع على ذلك، علمنا بمدى اعتقاد كفار مكة صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه يصدق في كل ما يقول، بل إنه يوحى إليه، ولذلك صدقوا بعلمه ببعض أمور الغيب على سبيل التفصيل لا الإجمال، حيث سأل الرجل عن مكان قتله، لا عن مجرد القتل، فكيف يستوي تكذيبهم للنبوة مع تصديقهم علمه الغيب الذي أطلعه الله عليه، مما يدل على أنهم ما كفروا إلا عنادا واستكبارا، وصدق الله حيث قال: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .
كما يتفرع عليه، ما كان عليه الكفار من جبن وسفه، أما الجبن فيتضح من شدة الخوف والذعر الذي انتاب أمية بن خلف، أما السفه، فهو أن أمية لا يخلو حاله من أمرين، إما أن يكون قد صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الواقع، فكيف يريد أن يهرب من قضائه وقدره الذي صدقه، وحاله الثاني أن يكون قد كذّب الرسول صلّى الله عليه وسلّم فما الداعي لكل هذا الخوف.
الفائدة الثانية:
في مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه:
1- شجاعته رضي الله عنه:
أ- وذلك أنه ذهب إلى مكة معتمرا، مع علمه بعداوة كفار مكة لمن آوى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونصره، وكونه اختار الظهيرة لأداء العمرة، فهذا لا يقدح في شجاعته، لأنه لا يخلو البيت حتى في الظهيرة من الطوافين، ودليله أنه لقي أبا جهل، وهو ألد الأعداء للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ب- خاصم رضي الله عنه أبا جهل، ورفع صوته عليه، بل هدده بما هو أخطر وأعظم من تهديد أبي جهل له، حيث قال له: (أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة) ، ولا شك أن الذي يقدر على قطع الطريق الذي يلتمسه التجار من مكة إلى الشام، أقوى من الذي يمنع الناس من الطواف بالبيت، ويجب أن نقارن بين شجاعة سعد بن معاذ رضي الله عنه وجبن أمية.
2- تصديقه المطلق بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال لأمية بن خلف: (فو الله لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنهم قاتلوك) ، فلولا تصديقه التام لكل ما يخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أخبر أمية بذلك، خاصة أنه كان في مجال التنازع والتخاصم معه.
3- قوة عقيدته وصحتها، نلمحها في علمه أن إخبار أمية بن خلف، بخبر قتله، لن يؤخر أو يقدم، وقوع القتل، لاعتقاده أن الله- سبحانه وتعالى- إذا قضى أمرا فإنما يقول(2/263)
له كن فيكون، وأن الحذر لا يمنع من وقوع القدر، فها هو أمية علم بخبر قتله، وأخذ الحيطة والحذر، فأخرجه الله- سبحانه وتعالى- من بيته رغم أنفه، وسار مع الجيش حتى قتل، فلولا يقين سعد بن معاذ رضي الله عنه بهذا، لأخفى عن أمية الخبر.
يتفرع على ذلك، وجوب أن يؤمن المسلم بأن قضاء الله وقدره نافذ لا محالة، وأن كل شيء مقدر ومعلوم ومكتوب عند الله- سبحانه وتعالى- وهو مقتضى الإيمان بسادس الأركان، وهو الإيمان بقضاء الله وقدره، وكلما قويت تلك العقيدة عند المسلم، كلما قل همه وغمّه وأسفه وجزعه بما يلاقيه من أقداره الله المؤلمة، وما يفوته من حظوظ الدنيا.
الفائدة الثالثة:
منقبة عظيمة لأهل المدينة وهم الأنصار، قال أبو جهل: (وقد أويتم الصّباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم) ، فقد أثبتت المقولة، أن الأنصار رضي الله عنهم، هم الذين آووا المؤمنين المهاجرين ونصروهم وأعانوهم، ويتضمن هذا الإقرار، أن الأنصار قد عادوا كل الدنيا، من أجل نصرة الله ورسوله.
ولعل سائلا يسأل: هل كافأ النبي صلّى الله عليه وسلّم الأنصار ورد لهم جميل صنيعهم؟، والجواب:
أن رد هذا المعروف من النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أكمل وأجمل، فكفى لأهل المدينة شرفا ورفعة وسؤددا، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عاد معهم بعد أن فتح الله له مكة، زادها الله تشريفا وتعظيما، وهي بلده التي أخرج منها، بل هي أشرف البقاع، ومع ذلك عاد إلى المدينة مع الأنصار، وبقي معهم وبينهم بقية حياته، حتى دفن بين أظهرهم.
ومن أراد الوقوف على المزيد فليراجع باب: تفضيل مدينته ومسجده، ليعلم عظيم بركة نصرة أهل المدينة للرسول صلّى الله عليه وسلّم ونقول بحق وصدق: ربح البيع، ربح البيع يا أهل المدينة، يا أنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
2- طاعتهم المطلقة له صلّى الله عليه وسلّم
عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أنّه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتّى سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيته، فخرج إليهما حتّى كشف سجف «1» حجرته، فنادى: «يا كعب بن مالك» . فقال: لبّيك يا رسول الله، وأشار إليه أن ضع من دينك الشّطر. قال: قد فعلت يا رسول الله. قال: «قم فاقضه» «2» .
__________
(1) السجف: السّتر.
(2) البخاري كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت في المساجد، برقم (471) ، وأخرجه كذلك (457) ، (2418) ، (2424) وغيرها.(2/264)
الشاهد في الحديث:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر كعب أن يضع من دينه الشّطر ففعل.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
قد يقع بين الصحابة رضي الله عنهم الخطأ، مثل ما حدث في هذا الحديث، من التخاصم على أداء الدين، ورفع الصوت في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بينت في موضع آخر من الكتاب، أنهم بشر وليسوا معصومين، وعلى المنصف أن يزن بين أعمالهم الصالحة التي كالجبال وبين زلاتهم التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة.
الفائدة الثانية:
طاعة الصحابة المطلقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتتمثل هنا في:
1- رد كعب بن مالك رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (لبيك) مما يوحي أنه قد أطاع الأمر قبل سماعه، أو حتى صدوره، وهل يعقل أن يجيب الرجل الآمر، بلبيك، ثم يعترض على الأمر؟!
2- الأمر من النبي صلّى الله عليه وسلّم لكعب رضي الله عنه، ما كان ليحتاج إلى كلام لإقناعه أن يضع شطر ماله، بعد هذه الخصومة في المسجد، ولكن كل ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أشار بيده لكعب، أن يضع شطر ماله، مع أن كعبا، كان يسمع نداء النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل أنه أجاب نداءه، وقال: (قد فعلت) ، ولكن يبدو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم من أصحابه عظيم أدبهم معه، وسرعة امتثالهم لأمره، فلم يحتج إلا إلى إشارة لفض النزاع بينهم.
3- هذا الأمر الموجه لكعب، بوضع شطر دينه، ليس من الأوامر الشرعية في نظرنا، ولكن الصحابة رضي الله عنهم، خاصة الأكابر منهم، ككعب بن مالك ما كانوا ليفرقون بين أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم الملزم منها وغير الملزم، حتى ولو كانت تتعلق بالمال، الذي عظّم الله شأنه في القرآن.
4- من علامات الطاعة المطلقة للصحابة، مع شدة أدبهم عند تحقيق هذه الطاعة، يتبين من الرد الجميل لكعب على أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ قال له: (قد فعلت) بصيغة الماضي، ولم يقل له: (سأفعل) ، مبالغة في سرعة امتثال الأمر وثبوته والإشعار بعدم وجود أدنى تردد منه، ومن أدبه- أيضا- أنه لم يجادل في الأمر، ولم يطلب منه أن يأمر مدينه بحسن القضاء وسرعته، وهذا غاية الأدب ومنتهى الطاعة، كما أن المدين امتثل أيضا لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث إنه لم يعقّب على الأمر، كأن يطلب منه التأجيل.
الفائدة الثالثة:
جواز التقاضي في المسجد، والنداء بصوت مسموع، والمصالحة بين(2/265)
المتخاصمين، وننوه هنا إلى أن قولهم: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) «1» ليس بحديث. والحث على الشفاعة، وندب المتخاصمين إلى قبولها.
مثال آخر:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم حرّمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلّا الفضيخ «2» البسر والتّمر، فإذا مناد ينادي، فقال:
اخرج فانظر فخرجت، فإذا مناد ينادي: ألا، إنّ الخمر قد حرّمت. قال: فجرت في سكك المدينة. فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها. فقالوا: أو قال بعضهم:
قتل فلان قتل فلان وهي في بطونهم!!. قال: فلا أدري هو من حديث أنس، فأنزل الله عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «3» .
الشاهد في الحديث:
أن الصحابة رضي الله عنهم، وهم الذين اعتادوا شرب الخمر، وكانت عندهم بمثابة الماء، أول ما سمعوا مناديا ينادي: «إن الخمر قد حرمت انتهوا عنها» ، وهذا يدل على أن طاعة الصحابة كانت على الفور وليس على التراخي، والدليل على ذلك، ما قاله أنس رضي الله عنه في الحديث: (فخرجت فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت قال: فجرت في سكك المدينة) ، أي: أنهم قد سكبوا ما عندهم من الخمر في طرقات المدينة، أثناء الإعلام بتحريم الخمر، فهي مبادرة فورية إلى طاعة الله وطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فائدة عظيمة:
وهي أن الامتثال لأمر الله ورسوله واجب على الفور، وليس على التراخي وهذا الذي فهمه الصحابة وطبقوه في كل حياتهم، فما قال أحد منهم: أذهب أتثبت من رسول الله، ولم يقل آخر: أنتظر حتى أعرف الحكمة من تحريمه، ولم يقل أحد:
إنني قد اعتدت عليها وأريد وقتا لأنتهي عن شربها، وهل سمعتم أحدا يقول: هي مصدر رزقي، وعلى الرسول أن يجد لي مصدر رزق آخر حتى لا يموت أولادي جوعا؟!.
هذا كله لم يحدث في الخمر ولا في غير الخمر، وعجبت من أناس على ألسنتهم كلمة واحدة (أقتنع أولا) ، وقولهم: (الإسلام دين عقل، وأنا لست بالة، فقد كرمني الله بالعقل لأفكر) .
__________
(1) انظر «كشف الخفاء» للعجلوني، (1/ 423) .
(2) الفضيخ: خمر يصنع من ثمر النخل.
(3) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب، برقم (1980) .(2/266)
أقول: إن هذا كله من مداخل الشيطان، وسوء أدب مع الله ورسوله، وذلك للأسباب التالية:
1- الشيطان حريص على أن يبعد المسلم عن دينه بحجج واهية، وقد تصيب هذه الحجج هوى في نفس المسلم، وقد تصيب أيضا جهلا منه، وأعظم هذه الحجج أن يأتي له عن طريق العقل، وأن الله فضل الإنسان على الحيوان بالعقل، بل كرمه على سائر المخلوقات بالعقل، فكيف تفعل أي شيء قبل أن تحكّم عقلك، يقصد بذلك أن يصده عن العمل، دون أن يقول له: لا تفعل الأمر، أو يقول له: افعل الحرام، ولكن النتيجة واحدة، وهي أن المسلم ارتكب المخالفات، والسؤال كيف يرد المسلم كيد الشيطان؟. الإجابة بسيطة وهي أن يقول له: يا هذا لم يخلق العقل لهذا «1» ، وأدلة ذلك كثيرة.
الدليل الأولى: لم يكن من عادة الصحابة، وهم خير القرون، أن يراجعوا النبي في حكم الله ورسوله، ومن أعظم الأدلة على ذلك الحديث الذي معنا، فإن الصحابة لم يراجعوا الرسول فيه كما ذكرت، مع أن بعضهم كان حديث عهد بالإسلام.
الدليل الثاني: أن عقول الناس تختلف من زمان إلى زمان، ومن بلد لآخر، بل من شخص لآخر، حتى الأشقاء في المنزل الواحد، مع أن تعليمهم من مشرب واحد، إلا أنك تجد بينهم تفاوتا عظيما في مداركهم، فهل من المعقول أن تكون هذه العقول المتفاوتة، وهذه المدارك المتباينة هي الحكم على حكم الله ورسوله؟
الدليل الثالث: أن الله عزّ وجلّ لما تعبدنا ب (افعل ولا تفعل) ، ورتب الجزاء على الطاعات، والعقاب على المعاصي، لم يربط الأحكام بالاقتناع، ولم يعذرنا بعدم إدراك الحكمة، فلم يجعل للعقل مجالا للاختيار، فمن يفعل يثاب، ومن يعص يعاقب، وعلى هذا مدار التشريع كله، ومن عنده ما يناقض ذلك من القرآن أو السنة الصحيحة فليأت به.
فإذا سأل سائل: ما هو فائدة العقل إذن؟ نقول له: تأمل القرآن الكريم بتدبر، تعلم جيدا ما فائدة العقل، فسيتضح لك سريعا أن فائدته أن يدلك على أعظم ما في هذا الوجود، وهو أمر التوحيد، فقد أتى الله عزّ وجلّ بأدلة عقلية منطقية، على أنه الإله الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في الأمر والخلق، وأنه ليس معه إله آخر يعبد، ولا رب سواه يرجى، وليت المجال يسمح بالاستفاضة، ولكن أعرض أدلة موجزة واضحة توضح المراد،
__________
(1) يعني: لم يخلق العقل للمجادلة في أمر الله ورسوله أو مناقشته بعد ثبوته.(2/267)
قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) [الإسراء: 42] ، وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) [المؤمنون: 91] ، وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) [الطور: 35] ، وقال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] .
وهذه بعض الأدلة من القرآن الكريم توضح مجال استخدام العقل، ومن ذلك أيضا الأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل النهار، أما إذا تحدث القرآن الكريم عن التشريع والأوامر والنواهي فالأسلوب يختلف تماما، ليس فيه جدل ولا أدلة عقلية، لماذا؟ لأن الله عزّ وجلّ يوجه الخطاب للمؤمنين، الذين آمنوا به وصدقوا رسوله، وسلموا له بعد التفكر أن الخلق والأمر، وعلموا أن له الحكمة البالغة في كل ما يأمر وينهى، وأنه منزه عن اللهو والعبث، فيكفي أن يصدر الأوامر والنواهي بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كأنه يقول لهم: إذا آمنتم حقا فهذا هو حكمي، ولا يمنع ذلك أن ينوه ببعض الحكم في بعض المواضع، فيقول عزّ وجلّ في حكمة تحريم الخمر: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) [المائدة: 91] .
ويقول- عز من قائل- في حكمة الصيام: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] ، وفي حكمة الصلاة قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] ، ولكن المتأمل يعلم أنه ليست كل الأحكام بيّن الله- سبحانه وتعالى- الحكمة منها كما فعل في أمور التوحيد.
أما أن تحكيم العقل سوء أدب مع الله عزّ وجلّ فيتضح مما يلي:
1- الذي يريد أن يحكم العقل في أحكام الشريعة، كأنه يقول بلسان الحال لا المقال:
إن أحكام الدين قد لا توافق العقل، أو قد يكون فيها خلل، فيجب أن أنظر فيها أولا، فإن وافقت عقلي سلمت وإلا فلا، والله يقول في محكم التنزيل: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) [المائدة: 50] .
2- الذي يحكم العقل في أمور الدين، جعل من عقله المخلوق القاصر، الذي يدرك القليل، ويغيب عنه الكثير من أمور نفسه فضلا عن أمور غيره، يجعله حاكما على(2/268)
أحكام الله، وهذا منتهى سوء الأدب مع الخالق.
3- المسلم الذي يحكم عقله مع تسليمه بأن الله هو الخالق، قد ناقض عقله، وذلك أن أثبت لله شيئا، وسلب منه لازم هذا الشيء، فمن لوازم تفرد الله بالربوبية أن يكون له الخلق والأمر، قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] ، ومعنى الآية أن جميع الخلق لله وأمرهم أيضا لله، يحكم فيهم وبينهم كيفما يشاء، الدليل على ذلك أن الله عزّ وجلّ لما تكلم في صدر سورة (طه) عن إنزال القرآن الذي فيه الأمر والنهي، وكل ما يحتاج إليه العباد إلى قيام الساعة، قال- سبحانه وتعالى-: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) [طه: 4] ، فكأنه يقول للعباد: وجب عليكم العمل بهذا الكتاب الكريم؛ لأنه من الخالق الذي خلق كل شيء، فكيف ترضون به خالقا، تتنعمون بملكه وتتقلبون في نعمه، ولا ترضون به آمرا ناهيا؟ وتقول لهم أيضا: هل يختلف أحد في عظيم ملكه وبديع صنعه، قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فكما أنه- سبحانه- أبدع كل شيء خلقه، فقد أحكم كل شيء شرعه، فلماذا نتفق على عظيم خلقه ونختلف على عظيم حكمه، وبالمناسبة أقول: إن من بدائع القرآن أنه يستدل دائما على صدقه في المنقول بإثبات صدقه في المعقول، وعلى صدقه في أمور الغيبيات بصدقه في أمور المشاهدات، ألم تسمع لقوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) [آل عمران: 12] ، ونزلت هذه الآية قبل غزوة بدر، التي هزم فيها الكفار هزيمة منكرة، وكما صدق الله عزّ وجلّ في النبوءة الأولى، وهى أنه سيحدث قتال بين المسلمين والكفار، وأن النتيجة هي هزيمة الكفار، فسيصدق في النبوءة الثانية، والتي فيها إثبات يوم القيامة، وإثبات جهنم، وأنها مثوى الكافرين، وأن الذين سيقتلون في بدر سيكون مصيرهم جهنم، كما أثبتت الآية أن الله قد جعل في جهنم أشد أنواع العذاب حيث أثبتت الآية أنها بئس المستقر والمال، ومثل هذا في القرآن كثير، فتدبر.
4- الذي يريد أن يحكّم عقله في أمور الدين، حتى يتأكد أو يتضح له أنها صالحة، أو أنها تلبي حاجاته، ولا تتعارض مع مصالحه، قد حكم على الله بثلاثة أمور عظيمة هي:
الأولى: أنه حكم وألزم العباد كلهم بأوامر واحدة، ولم يعلم أنها قد لا تصلح لقرن من القرون أو أمة من الأمم أو حتى فرد من الأفراد.
الثانية: أن الله خلق الخلق، ولم يحط بما ينفعهم أو يضرهم، والله يقول لهؤلاء(2/269)
وهؤلاء في كلام معجز يفهمه كل أحد: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) [الملك: 14] ، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين: 8] .
الثالثة: أن الله عزّ وجلّ قد ظلم العباد، وذلك بتكليفهم تطبيق ما لا يجلب لهم النفع، ويرفع عنهم الضر، والمسلم ينزه الله عزّ وجلّ عن كل ذلك.
5- والذي يقول: (أحكّم عقلي حتى أقتنع) ، قد حكم على نفسه بقلة العقل لأسباب منها:
أ- أن الناس كلهم جميعا قد علموا أن العقل لا يتدخل إلا في وجود الاختيارات والبدائل وأمور الدين ليس فيها اختيارات ولا بدائل.
ب- هو كالذي ينظر إلى الشمس ضحى فيقول: لن أؤمن أن الشمس ساطعة، إلا إذا تأملت وتفكرت، وإذا سمع من يقول هذا، رمي بالجنون، وذلك أن أحكام الشرع أبلغ وأسطع، في موافقتها للعدل والحكمة من الشمس في رابعة النهار.
ج- هو يكذب نفسه كيف يدعي أنه يؤمن بالله ثم يطلب الدليل العقلي على كل ما يقوله الله- سبحانه وتعالى- ويحكم به.
[خاتمة المسألة]
وأختم هذه المسألة بأن أسرّ في أذن الذي يريد أن يحكم عقله بكلمات موجزة:
الثواب من الله الذي ترجوه أنت ويرجوه كل المسلمين إنما يكون بالإيمان بالغيب، والإيمان بحكمة الله في الأمور كلها، ما علمناه وما لم نعلمه، ما أدركته عقولنا وما لم تدركه؛ لأننا آمنا بالله وسلمنا لحكمته، وأعلنا تذلّلنا وخضوعنا له، فإذا أردت تحكيم العقل فإنك لم تؤمن بغيبيات وإنما آمنت بما دلك عليه العقل، كما أعلنت عدم تسليمك وإيمانك بحكمة الله في كل شيء، فعلى ماذا تريد أن تفوز بالثواب؟!.
أسألك أخي الكريم، أتجادل رئيسك في كل أمر من أوامره وتقول له: أريد الاقتناع والحجة؟ بالطبع لا، وإن جادلت وقلت: نعم أفعل! أقول لك: أيصبر عليك مديرك على هذا الأسلوب أم يفصلك من العمل لسوء خلقك؟ وإن فعلت هذا مع المخلوق؟ فثق أن هذا لا يصلح مع الخالق- جل وعلا-؛ لأنه- سبحانه وتعالى- غني عن هذا العبد الذي لا يتأدب معه.
أقول لأخي الكريم: أن كثيرا من أمور الدين لا يمكن إدراكها بالعقول، بل لا مجال للعقل أصلا فيها ومن أمثلة ذلك: المغرب لماذا هو ثلاث ركعات، والعصر أربع؟(2/270)
لماذا نمسح على ظاهر الخف لا على باطنه؟ لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة، والصلاة أعظم؟ كيف أسري بالنبي في جزء من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلا ورأى ما رأى، ثم عاد؟ الشاهد في هذه الحادثة أنها كانت فتنة واختبارا لما سمعها الناس من النبي صلّى الله عليه وسلّم، إن الذين حكّموا عقولهم أنكروها وارتدوا، أما المؤمنون فقد صدقوا وثبتوا، بل ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ألا تريد أن تكون مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع من المشركين نبأ الحادثة، قال: إن قال فقد صدق، فعلق الأمر كله على صدق الرواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي لا ينطق عن الهوى، وسمي أبو بكر من وقتها بالصديق. ألا تريد أن تكون مثله أو مقتفيا أثره، وما يدريك لعل من حكمة الله في إخفاء بعض حكم الأحكام، هو اختبار العباد وابتلاؤهم ليعلم الصالح منهم والطالح.
وانظر أخي القارئ إلى جمال متابعة الصحابة لنبيهم صلّى الله عليه وسلّم في أمر قد اعتادوا عليه أشد الاعتياد، وهو الحلف بالآباء، قال ابن عمر سمعت عمر يقول: (قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم» . قال عمر: فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذاكرا ولا آثرا) «1» . أي ما نطقت بهذا الحلف متعمدا ولا ناقلا ذلك عن غيري، فهل هناك طاعة أبلغ من ذلك؟! بل انظر كيف أنكرت عائشة- رضي الله عنها- على المرأة التي سألتها عن حكمة قضاء الحائض للصيام دون الصلاة، فكأن هذه المرأة تريد أن تقول: كيف يستقيم الأمر مع أن الصلاة أعظم من الصيام؟ فعن معاذة قالت: (سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت:
ما بال الحائض تقضي الصّوم ولا تقضي الصّلاة؟ فقالت: أحروريّة أنت؟ «2» قلت: لست بحروريّة، ولكنّي أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصّوم ولا نؤمر بقضاء الصّلاة) «3» ، وكان كل رد عائشة- رضي الله عنها- (فنؤمر) فهل بعد الأمر الشرعي أخذ ورد؟!.
مثال لكمال الطاعة المقرون ببالغ التعظيم:
عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» ، فقيل للرّجل بعد ما
__________
(1) البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بابائكم، برقم (6647) .
(2) الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء.
(3) مسلم، كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، برقم (335) .(2/271)
ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» .
الشاهد في الحديث:
قول الصحابي: (لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .
ويتبين وجه الطاعة المطلقة للصحابة مع التعظيم لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأمور التالية التي تستفاد من الحديث:
1- عدم مناقشة الصحابي للنبي صلّى الله عليه وسلّم في سبب تحريم الذهب على الرجال، مع أنه يحلّ للنساء.
2- عدم قيام الصحابي بتبرير فعله للبس الذهب بقوله مثلا: (ما كنت أعلم أنه حرام) ، أو (لو كنت أعلم أنه حرام ما لبسته) ، مع ملاحظة شدة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على لبس الرجل للذهب والذي يتمثل في النزع (وهو الخلع بشدة) ثم الطرح على الأرض، ومن قبل ذلك تشبيه الخاتم بجمرة النار، فقد جمع صلّى الله عليه وسلّم بين الإنكار الشديد باليد وكذلك الإنكار باللسان، ومع ذلك ظهر الأدب المطلق للصحابي في أجمل صورة.
ويتفرع عليه سوء أدب من يسمع مثل ذلك الحديث ويعلم شدة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على لبس الذهب ولو كان أقل شيء وهو الخاتم، ومع ذلك يصرّ على لبسه بحجج واهية، قال الإمام النووي- رحمه الله-: (فيه المبالغة في امتثال أمر رسول صلّى الله عليه وسلّم واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة) «2» .
3- بغض الصحابي القاطع لأخذ الخاتم بعد أن ألقاه النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأرض، وهذا هو أظهر ما في الحديث على تعظيم الصحابة لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مع ضرورة أن نلتفت إلى بعض اللفتات الجميلة في الحديث؛ ليظهر المقصود أكثر وأكثر وتكون الصورة أوضح وأجلى:
أ- ليس هناك ما يمنع شرعا من بيع خاتم الذهب أو الانتفاع به أو حتى ادخاره لوقت الحاجة، وهذا لا خلاف فيه، وهو واضح من نص الحديث، قال الإمام النووي- رحمه الله: (ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم عليه الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره) .
ب- حث الصحابة- ممن حضر الحادثة- الرجل على التقاط الخاتم وبينوا له جواز الانتفاع به، ومع ذلك لم يفعل.
__________
(1) مسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال ... ، برقم (2090) .
(2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» ، (14/ 65) .(2/272)
ج- أقسم الصحابي بالله على عدم أخذ الخاتم بقوله: (لا والله) ، كما أكد عزمه على عدم الأخذ أو الانتفاع به طيلة حياته بقوله: (لا آخذه أبدا) ، وكأنه أراد أن يمنع الصحابة من محاولة إقناعه وتيئيسهم من ذلك.
د- لم يكن المانع من أخذ الخاتم من الأرض هو الكبر أو الترفع عن أخذ شيء ألقي على الأرض، أو الغضب من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن كان المانع أعظم من ذلك بكثير حيث قال الصحابي: (لا أخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .
ويبدو أن الصحابي قد رفض أخذ الخاتم حتى لا يرفع شيئا أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعه، فيكون بذلك مخالفا (ولو ظاهرا) للهيئة التي أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون خاتم الذهب عليها، وهي الطرح على الأرض، ولا يستبعد أنه قال في نفسه: (لو أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أنتفع به لما ألقاه على الأرض ولناولني إياه) .
أخي القارئ الكريم: أين نحن من هذه الطاعة المطلقة والتعظيم الشديد لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أين نحن من هذا الأدب الرفيع؟ هلا تعلّمنا واتبعنا؟!!.
3- كمال المتابعة
ويتضح لنا كمال الاتباع، وليس مجرد المتابعة، من تتبع الصحابة رضي الله عنهم أثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل صغيرة وكبيرة، لأقوال وأفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم على أكمل وجه كما سيتضح من الأمثلة التالية.
المثال الأولى:
عن حصين عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبّحة) «1» .
الشاهد في الحديث:
أن عمارة بن رؤيبة دعا على بشر بن مروان بقوله (قبح الله هاتين اليدين) ، وما ذلك إلا أنه أشار بيده كلها خلافا لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظيم متابعة الصحابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووجه ذلك من الحديث:
أ- دعاء عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه على بشر بن مروان، وما كان ليدعو على أحد من
__________
(1) مسلم، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (874) .(2/273)
المسلمين بمثل هذا الدعاء إلا لشعوره بأنه ارتكب مخالفة شرعية، والغريب أن تلك المخالفة ما كانت لأمر أو نهي وإنما كانت لمخالفة هيئة معينة.
ب- إذا كان الصحابة رضي الله عنهم ينكرون على التابعين في أمور لا نعدها نحن شيئا، وهي الإشارة باليد كلها في خطبة الجمعة، علمنا من ذلك مدى حرصهم ومتابعتهم لكل أمور السّنة صغيرها وكبيرها على حد سواء. يتفرع على ذلك أن نقف على الفارق العظيم بين عصري الصحابة والتابعين، فما كان يفعله التابعون ولا يعدونه شيئا من المخالفات، كان يعده الصحابة أمرا يستحق فاعله أشد الدعاء عليه. ومما يؤكد ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال: (إنّكم لتعملون أعمالا هي أدقّ في أعينكم من الشّعر، إن كنّا لنعدّها على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الموبقات، قال أبو عبد الله: يعني بذلك المهلكات) «1» ، وعلمنا من باب أولى الفارق بين عصر الصحابة والعصور المتأخرة التي تهاون الناس فيها بالسنة الشريفة.
ج- حرص الصحابة رضي الله عنهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم كلها، ويتفرع عليه أيضا، علمنا بتقصيرنا الشديد في هذه العبادة العظيمة:
(عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فالمجتهدون منا- في هذا الباب- يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على من ترك الصلاة، أو الصيام، أو وقع في الشرك الأعظم، وقليل منا من يأمر وينهى فيما هو أقل من ذلك، ولكن انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم في أي أمر كانوا ينهون عن المنكر.
الفائدة الثانية:
جواز الدعاء على من فرط في سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان في أمر هين في نظرنا.
الفائدة الثالثة:
وهي فائدة عظيمة، وهي أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون التقسيمات التي أحدثها الأصوليون- رحمهم الله تعالى- بعد عصر التابعين، للسنة النبوية الشريفة، فهذه سنة مؤكدة وهذه سنة غير مؤكدة، وهذا عمل مكروه يثاب تاركه ولا يأثم فاعله، وآخر مسنون يثاب فاعله ولا يأثم تاركه، ولكنهم رضي الله عنهم كانوا يعتقدون أن كل ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أمر به، أو أقره فإنه ينبغي على المسلمين فعله، وأنه لا ينبغي مخالفة السنة في شيء.
الفائدة الرابعة:
خطأ من يقول: إن الاهتمام بالسنن الشكلية هو من سفاسف الأمور التي لا ينبغي الاهتمام به، بل يصل الأمر إلى التشنيع على من يحرص عليها، فهذا من سوء
__________
(1) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: ما يتقى من محقرات الذنوب، برقم (6492) .(2/274)
الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا عمارد بن رؤيبة يرى أن مخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم في إحدى السنن الشكلية والشكلية جدّا- كما يظن البعض- ونبرأ إلى الله من هذا الظن، يوجب الدعاء على المخالف.
ويتفرع عليه، أننا مأمورون باتباع كل ما جاءت به السنة، وأن تقسيم السنة إلى أمور شكلية وأخرى جوهرية هو من الأمور المحدثة التي تبعد المسلمين عن دينهم، وأما ما ذهب إليه العلماء من تقسيم للسنة النبوية إلى مؤكدة وغير مؤكدة، فقد اضطروا إليه حتى لا يشقوا على الأمة، وإلا فإننا نعلم أنهم كانوا أحرص الناس على اتباع جميع السّنن بلا تفريق بين مؤكدة وغير مؤكدة.
المثال الثاني:
عن عبد الله بن سرجس قال: (رأيت الأصلع، يعني عمر بن الخطّاب، يقبّل الحجر ويقول: والله إنّي لأقبّلك وإنّي أعلم أنّك حجر وأنّك لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّلك ما قبّلتك) «1» .
فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظيم اتباع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث كان يعتقد في نفسه أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، ويعلن على الملأ أنه ما قام بتقبيله- ولا يخفى ما في التقبيل من تعظيم- إلا لرؤيته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقبله، ولولا ذلك ما قبّله، ولا يستحي عمر رضي الله عنه مع ما عرف عليه من القوة والشدة في الحق، أن يعلن ذلك، ولكن ليعلم الجميع أن القوة في الحق ما كان ليترفع بها عن اتباع سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإلا كانت قوة وشدة مذمومتين يدخلان صاحبهما النار.
الفائدة الثانية:
أدب الصحابة الجم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وسنته الشريفة، فهم كانوا يتبعونها اتباعا مطلقا، يقبلون حجرا وهم لا يعلمون الحكمة من تقبيله، ويعلنون للملأ أنهم ما فعلوا ذلك إلا رغبة في الاتباع، لكنهم يعتقدون أن التقبيل سينفعهم قطعا من حيث كونه اتباعا لسنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ويعلمون أنّ الترفع عنه أو المجادلة فيه سيضرهم قطعا لنفس العلة، وهذا هو الفهم الصحيح للاتباع، أما من يشترط أن يعرف حكمة كل أمر حتى يقوم بفعله، فأقول له: أنت لست بمتبع، بل أقول له: لقد تعديت حدود الأدب مع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) البخاري، كتاب: الحج، باب: تقبيل الحجر، برقم (1610) ، ومسلم، كتاب: الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، برقم (1270) .(2/275)
الفائدة الثالثة:
حرص الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حث الأمة على الاقتداء بسنة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم مع حرصه على عدم وقوع الأمة في أي مظهر من مظاهر الشرك، ذكر ابن حجر في الفتح أن عمر أراد بقوله: (لقد علمت أنك حجر) حثّ الأمة على الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تقبيله وينبه على أنه لولا الاقتداء به لما فعله، وإنما قال:
(وإنك لا تضر ولا تنفع) لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف عمر أن يراه بعضهم يقبّله ويعتني به فيشتبه عليه فبينّ أنه لا يضر ولا ينفع بذاته) . انتهى كلامه- رحمه الله- «1» .
تنبيه:
زيد في هذا الحديث كلام مختلق لا أصل له ولم يصح من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويشتبه على الناس هذه الزيادة لعلمهم أن أصل الحديث في الصحيح، ونص هذه الزيادة الغريبة:
(وكان عليّ رضي الله عنه يقف وراء عمر بن الخطاب فقال له: بلى يا أمير المؤمنين فإنه ينفع ويضر، فإني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: من قبل الحجر الأسود جاء يوم القيامة (أي الحجر) شاهدا له عند ربه) . وروايات أخرى مشابهة لهذا المعنى، فأردت أن أنبه على بطلانها.
المثال الثالث:
عن حفص بن عاصم قال: (صحبت ابن عمر في طريق مكّة قال: فصلّى لنا الظّهر ركعتين، ثمّ أقبل وأقبلنا معه حتّى جاء رحله وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلّى فرأى ناسا قياما فقال: ما يصنع هؤلاء. قلت: يسبّحون. قال: لو كنت مسبّحا لأتممت صلاتي، يا ابن أخي إنّي صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السّفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله. وقد قال الله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) «2» .
وهذا مثال ثالث يبين بجلاء معنى الاتباع عند الصحابة رضي الله عنهم، وفي أمر مهم جدّا وهو الصلاة، الركن الركين والشعيرة الأعظم في هذا الدين الحنيف، فما هو وجه الاتباع في هذا الحديث والفوائد المستنبطة منه؟ أقول وبالله التوفيق:
[فوائد الحديث]
الفائدة الأولى:
معلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم، كم كانوا يحبون ويحرصون على أداء
__________
(1) انظر «فتح الباري» ، (3/ 362- 363) .
(2) مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(2/276)
النوافل من الصلوات، لما يجدون فيها من متعة مناجاة الرب تبارك وتعالى، وما فيها من الأجور العظيمة، فلهم بكل تسبيحة، أو تحميدة، أو تكبيرة صدقة، وكذا بكل ركوع وسجود وحرف من قراءة القرآن، ولكن لم يدفعهم ما يجدونه في قلوبهم من لذة مناجاة الرب عز وجل من فعل شئ لم يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الفقيه العابد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يترك أداء النوافل في السفر، لا لتعب أصابه أو لماء افتقده أو لشغل طرأ له، ولكن ترك صلاد النفل- فقط- لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلها.
الفائدة الثانية:
لا يحتج علينا أحد بأن هذا المسلك في الاتباع قد تفرد به النقي التقي، عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأنه قد تشدد في مسألة الاتباع، فهذا الاحتجاج يبطله ما ورد في هذا الحديث أن الاقتصار على الركعتين وعدم الزيادة عنهما- في السفر- كان فعل الخلفاء الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا.
الفائدة الثالثة:
رجاحة عقل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث استنبط أن صلاة النوافل الراتبة لو كانت مشروعة في السفر، لكان الأولى إتمام صلاة الفريضة، وأن أداء النوافل الراتبة يتعارض مع حكمة الله عزّ وجلّ من قصر الصلاة الرباعية للمسافر، وقد قيدت في كلامي صلاة النوافل بالرواتب منها، لأن مطلق النفل في السفر هو من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ويستنبط من قول ابن عمر رضي الله عنهما: (لو كنت مسبّحا لأتممت) مشروعية القياس الصحيح، المبني على كتاب الله وسنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وتأتي أهمية هذا الاستنباط أنه جاء لنا من كلام صحابي عرف عنه عظيم اتباعه وتقيده بالنص.
الفائدة الرابعة:
أفادنا كلام الصحابي عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، الفهم الصحيح لقوله تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ، فليس معنى أنك جعلت الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الأسوة والقدوة لك في حياتك، أن تطيع أمره وتجتنب نهيه فحسب، لا، فإن معنى الأسوة الحسنة أوسع وأشمل من ذلك بكثير، فإن معناها هو الاتباع المطلق لكل ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو تركه، وهذا يبين خطأ من يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى الرباعية ركعتين في السفر، ولكنه لم ينهنا عن إتمامها، وآخر يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصر الرباعية ولكنه لم يحرم أداء النوافل الراتبة، وثالث يقول: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل ولم ينه عن الفعل فلا حرج أن تفعل خاصة إذا كان الفعل عبادة يحبها الله. سبحانه وتعالى-، وهذا كله يرده قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وفهمه للآية الكريمة التي استشهد بها في نهاية حديثه.
الفائدة الخامسة:
منقبة عظيمة لعبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، حيث ثبت له في(2/277)
الحديث صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في السفر وكذا صحبته لأبي بكر وعمر وعثمان حتى توفاهم الله- سبحانه وتعالى-، كما أن من فقهه رضي الله عنه أنه كان يرى أن في أعمال الخلفاء الراشدين سنة متبعة، ولولا ذلك ما استدل على قوله بفعلهم، ولما ذكر فعلهم بعد ثبوت فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أن من فقهه وأدبه أيضا أنه ذكر الخلفاء الراشدين بحسب فضلهم، وحب النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم، حيث ذكر أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم جميعا، فلم يبدأ مثلا بأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر جميع شواهد كمال متابعة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إلى مؤلف خاص ولكن يطيب لي أن أختم الباب بما رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (ما تركت استلام هذين الرّكنين في شدّة ولا رخاء منذ رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستلمهما) . قلت لنافع: (أكان ابن عمر يمشي بين الرّكنين قال: إنّما كان يمشي ليكون أيسر لاستلامه) «1» .
4- كراهة مخالفته صلّى الله عليه وسلّم ولو في الهيئة
عن عبد الله رضي الله عنه قال: (صلّيت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فلم يزل قائما حتّى هممت بأمر سوء. قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) «2» .
الشاهد في الحديث:
قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هممت أن أقعد وأذر النبي صلّى الله عليه وسلّم قائما) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
همة النبي صلّى الله عليه وسلّم في العبادة والتي منها القيام الطويل جدّا في صلاة الليل، وقد بينت طرفا من تلك الهمة العالية في باب مستقل سميته: (همته العالية صلّى الله عليه وسلّم) .
الفائدة الثانية:
في مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
1- تشرّفه رضي الله عنه بالصلاة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قيام الليل وليس معهما أحد، وكفى بذلك شرفا وفضلا.
2- صبره على التعب الذي أصابه من طول القيام وتحامله على نفسه حتى أتم الصلاة قائما.
__________
(1) البخاري، كتاب: الحج، باب: الرمل في الحج والعمرة، برقم (1606) .
(2) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: طول القيام في صلاة الليل، برقم (1135) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (773) .(2/278)
3- سمّى الجلوس في الصلاة أمر سوء، بالرغم أن الجلوس في صلاة النافلة جائز شرعا، حتى ولو لم يشعر المصلى بالتعب فما بالكم إذا شعر بالتعب الشديد، ولكن الأمر السوء عنده ليس الجلوس ذاته ولكنه مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد يكون سماه سوآ لأمر آخر، هو أنه سيستريح بالجلوس ويذهب عنه التعب الذي يشعر به، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما زال يتحمل تعب القيام.
4- لم يلتفت رضي الله عنه إلى الأجر الزائد الذي سيناله إذا واصل القيام مع تعبه الشديد، أو الأجر الفائت بالجلوس، وإن كان هذا أمرا عظيما عند الصحابة رضي الله عنه ولكن الذي التفت إليه وشغله كثيرا هو مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا غرابة في ذلك؛ لأن الذي علمهم كيف يحصلون على أجر الصلاة والصوم وسائر العبادات، هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أنه رضي الله عنه لم يلتفت للأجر الفائت من الجلوس لاعتقاده أن سوء الأدب الذي سيلحقه من مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم خسارة من الأجر الفائت بتحمل طول القيام مع التعب الشديد.
أخي القارئ: إذا كانت مخالفة هيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم في القيام أو الجلوس- وهي أمر لا يؤاخذ عليه المولى- سبحانه وتعالى- أمر سوء عند الصحابة، فما بالكم بمخالفة أمره ونهيه صلّى الله عليه وسلّم، فما بالكم لو رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الناس اليوم ومنهم من يعبد الله- سبحانه وتعالى- على هيئة تخالف ما سنه النبي صلّى الله عليه وسلّم. ماذا سيقول؟ هل تظنون أنه سيكتفي بقوله:
(أمر سوء) ؟.
الفائدة الثالثة:
يؤخذ من الحديث أن هذا الوقوف الطويل في الصلاة لم يكن أمرا سهلا أو معتادا على الصحابة في ذلك الوقت، حتى الأصغر منهم سنّا.
5- غضبهم الشديد رضي الله عنهم من معارضة سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم
عن أبي قتادة قال: كنّا عند عمران بن حصين في رهط منّا، وفينا بشير بن كعب فحدّثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء خير كلّه» . قال: أو قال: «الحياء كلّه خير» . فقال بشير بن كعب: إنّا لنجد في بعض الكتب، أو الحكمة: أنّ منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتّى احمرّتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعارض فيه؟ قال: فأعاد عمران الحديث قال فأعاد بشير. فغضب عمران قال: فما زلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد إنّه لا بأس به «1» .
__________
(1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، برقم (37) .(2/279)
الشاهد في الحديث:
قول الراوي: (فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعارض فيه) .
ومعنى الحديث: أن الصحابي عمران بن حصين كان يروي حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مفاده: أن الحياء كله خير، فاستشكل على بشير بن كعب التوفيق بين عموم الحديث والذي يدل على أن الحياء كله خير، بلا استثناء أي نوع فيه، وما يجده مكتوبا في بعض الكتب أن فيه ضعفا.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجه ذلك من الحديث:
أ- إنكارهم الشديد على كل من يأتي بمعارض للسنة، وهي ليست معارضة حقيقية، يقصد بها الطعن في الحديث، ولكنها معارضة من حيث الظاهر، حيث استشكل فقط على التابعي بشير بن كعب حمل الحديث على عمومه، ورد في عون المعبود شرح سنن أبي داود:
(إنما أنكره عليه من حيث ساقه في معرض من يعارض كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكلام غيره) .
انتهى «1» .
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (أشكل حمله على العموم لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق، والجواب: أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيّا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا، بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو خلق يبعث على ترك القبيح) . انتهى «2» .
ب- غضبهم الشديد لمن يأتي بمعارض لكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ والدليل على أن هذا الغضب كان شديدا، أنه ظهر أثره على عيني عمران رضي الله عنه حتى احمرتا.
واستمر هذا الغضب من الصحابي عمران بن حصين رضي الله عنه كلما أعاد بشير مقولته:
(إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف) .
وأظن أن الصحابي قد غضب مثل هذا الغضب الشديد بسبب معارضة التابعي كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام من هو دونه في المنزلة، بما يوحي للمستمعين أن أحدا من الخلق يمكنه الرد
__________
(1) انظر «عون المعبود» ، (13/ 105) .
(2) نقله أبو الطيب في «عون المعبود» ، (13/ 105) . عن الحافظ ابن حجر.(2/280)
على الأحاديث النبوية بما يعارضها أو يخصمها أو حتى يضيف عليها، وهذا خطره عظيم من حيث عدم إكبار الناس لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو اعتقادهم أنه يسعهم أن يقدموا بين يدي الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو أن السنة لا تكفيهم وعليهم أن ينظروا في كلام الحكماء وكتب السابقين.
وأعتقد أن عمران بن حصين رضي الله عنه لم يكن ليغضب مثل هذا الغضب لو أن التابعي ألقى عليه ما وقع عنده من إشكال في فهم الحديث على هيئة سؤال دون ذكر ما قرأه في الكتب أو سمعه من الحكم.
3- ظن الصحابي عمران بن حصين رضي الله عنه من مجرد معارضة التابعي لكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام آخر أن به شيئا يطعن في دينه، لذلك رد عليه الحاضرون بكلام يهدّئه ويذهب عنه ظنونه بالتابعي، فقالوا له: (إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به) . أي: ليس هو ممن يتّهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة، ذكره الإمام النووي- رحمه الله-.
الفائدة الثانية:
بيان الاعتقاد الجازم للصحابة رضي الله عنهم أن السنة تكفيهم وأنها كلها حق، وأنها قد سلمت من كل نقص وتنزهت عن كل خلل، ودليل ذلك من الحديث هذا الغضب والإنكار الذي صدر من عمران بن حصين رضي الله عنه.
الفائدة الثالثة:
بيان ما نحن عليه من تفريط وسوء أدب وتهاون شديد في سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنا من يجادل فيها، إما حبّا للجدل أو رغبة في إظهار علمه، أو محاولة لتعجيز خصمه، ومنا من يعتقد أنه يسعه الخروج عنها أو أخذ ما يعجبه منها ورد ما لا يعجبه، ومنا من يأتي في كلامه ومقالاته وكتبه بأقوال لفلاسفة ومفكرين تناقض صريح السنة، أو حتى توافقها ولكن لا يقدم تلك السنة على قول المفكرين، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم عرفوا قدر الوحي وأنزلوه منزلته التي أراد الله عزّ وجلّ ووقر في قلوبهم تعظيمه وحبه، وما كانوا ليستبدلوا به شيئا، بل ما كانوا ليذكروا معه شيئا؛ إجلالا له، بل كانوا يرون أن التعقيب على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ببالغ الأدب (كما فعل بشير) هو المنتهى في سوء الأدب. كما ظهر في غضب عمران بن حصين رضي الله عنه.
6- حب الصحابة له صلّى الله عليه وسلّم أكثر من حبهم لأنفسهم
عن زهرة بن معبد عن جدّه قال: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: والله لأنت يا رسول الله أحبّ إليّ من كلّ شيء إلّا نفسي. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«لا يؤمن أحدكم حتّى أكون عنده أحبّ إليه من نفسه» . قال عمر: فلأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الآن يا عمر» «1» .
__________
(1) البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (6632) .(2/281)
الشاهد في الحديث:
قول عمر رضي الله عنه فلأنت الآن- والله- أحبّ إلي من نفسي.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
وجوب حب النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من كل شيء، أكثر من الدنيا وما فيها، من زخرف وزينة، أكثر من الناس الذين فيهم الوالد والولد والزوجة، أكثر من النفس، التي هي ألصق شيء إلى الإنسان، حيث ورد في الحديث قول عمر رضي الله عنه: (والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء) ، وحيث إن قوله: (كل شيء) عامة لأنها جاءت نكرة، فيدخل فيها العظيم من الأشياء والحقير منها، وعندما استثنى عمر النفس، لم يرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم منه ذلك، وما كان ذلك إلا من باب تبليغ الوحي، الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتبليغه وعدم كتمان أي شيء منه.
يتفرع على ذلك، علمنا بعلو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعظيم فضله الظاهر على عموم أفراد هذه الأمة، ووجوب أن يشعر كل مسلم بهذه المنزلة وعظيم الفضل، ومن ثمّ فإن العبد لا يكمل إيمانه حتى يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه التي بين جنبيه، والله.
سبحانه وتعالى-، هو الذي جعل حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الإيمان، بل من أعظم شعبه، ولا غرابة في ذلك، فإن الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، قد جبلت واتفقت على أن النفس السوية تحب من يقدم لها الخير، ويسدي لها المعروف، ويبين لها ما يصلحها وما يفسدها، فهل أحد من البشر قدم لنا من الخير والمعروف أكثر منه صلّى الله عليه وسلّم، وهل أحد نصحنا وأشفق علينا، وجعل كل همه نجاة أمته يوم القيامة مثله؟ بل أقول: هل من أمة ستفرح باتباع نبيها، فرحنا باتباع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم؟ وإننا من أمته وعلى سنته، فلماذا لا نحبه أكثر من أنفسنا! وقد روى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين» «1» .
الفائدة الثانية:
في مناقب عمر رضي الله عنه:
1- ما كان عليه من الصدق، حيث قال في الأولى للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (والله لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء إلا نفسي) ، فلما كان يعلم من حاله أنه يحب نفسه أكثر من الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، ذكر ذلك، فكان صادقا في حديثه.
2- استكماله رضي الله عنه لأعظم شعب الإيمان وهي حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر من نفسه،
__________
(1) البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حب الرسول صلى عليه وسلّم من الإيمان، برقم (15) .(2/282)
وكل شيء، لقوله: (فلأنت الآن والله أحب إلي من نفسي) .
3- ما كان عليه من رجاحة العقل، وصفاء القلب، حيث إنه زرع في قلبه حب النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من نفسه بمجرد علمه أن إيمانه لن يكمل إلا بذلك، ولصفاء قلبه وطهارته، لم يجد مشقة ولم يحتج إلى وقت لاستكمال هذه الشعبة الإيمانية العظيمة.
الفائدة الثالثة:
طبع الإنسان على حب نفسه أكثر من أي شيء، ولا يذم الشرع هذا الحب للنفس؛ لأن مقولة عمر رضي الله عنه تقتضي أنه كان يحب نفسه أكثر من أي شيء، ولكن بعد هذا التوجيه النبوي، يجب على كل مسلم أن يحب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر من نفسه، وإذا كانت النفس تأمر صاحبها في بعض الأوقات بما يضرها، ويكون سبب هلاكها، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمرها دائما بما يصلحها ويضمن لها عدم الهلاك، ولهذا كان حبه صلّى الله عليه وسلّم مقدما على حب النفس.
7- إيثارهم له صلّى الله عليه وسلّم
عن جابر قال: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذات الرّقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجاء رجل من المشركين وسيف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم معلّق بالشّجرة، فاخترطه، فقال: تخافني؟
قال: لا. قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: «الله» «1» .
الشاهد في الحديث:
قول جابر رضي الله عنه: (فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلّى الله عليه وسلّم) . وسيأتي التعليق على هذا الحديث إن شاء الله في باب (حسن توكله صلّى الله عليه وسلّم وثقته بالله) .
8- تعظيم الصحابة رضي الله عنه لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ناقة تسمّى العضباء، لا تسبق. قال حميد: أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابيّ على قعود فسبقها، فشقّ ذلك على المسلمين حتّى عرفه، فقال:
«حقّ على الله ألايرتفع شيء من الدّنيا إلّا وضعه» «2» .
الشاهد في الحديث:
قول الراوي (فشق ذلك على المسلمين) .
__________
(1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، برقم (4137) ، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، برقم (843) .
(2) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (2872) .(2/283)
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
تعظيم الصحابة رضي الله عنهم ليس لشخص النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب، بل امتد هذا التعظيم وانسحب إلى ما يخصه صلّى الله عليه وسلّم، ومثاله القدح الذي كان يشرب فيه صلّى الله عليه وسلّم وفي الحديث الذي في أيدينا مثال على تعظيمهم لناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد حزنوا ليس لموت الناقة أو مرضها، بل لما هو أقل من ذلك بكثير، وهو أنها قد سبقت، ورد بالحديث (فشق ذلك على المسلمين) ، ويبدو أن تلك المشقة التي لحقتهم كانت كبيرة لأنه ظهرت على ملامحهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد لحظ ذلك على وجوههم، فقد ورد في الحديث: (فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه) .
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- (فيه حسن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواضعه وعظمته في صدور أصحابه) «1» .
الفائدة الثانية:
ملاحظته صلّى الله عليه وسلّم أحوال الصحابة حيث عرف ما حدث لهم لما سبقت العضباء، مع رحمته وشفقته بهم صلّى الله عليه وسلّم حيث خفف عنهم ما يجدونه بقوله: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» .
الفائدة الثالثة:
أسس النبي صلّى الله عليه وسلّم قاعدة كونية عظيمة، تخفف ألم كل مكلوم وتواسي كل محزون، وتعرّف الناس بطبيعة الدنيا فلا يغترون بها ولا يعولون عليها، فأي شيء مهما علا وارتفع تكفل الله بخفضه ووضعه. ومصداق ذلك في الحديث قوله: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» . وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الكلام في سياق الحديث عن دابته العضباء، إنما يدل على تواضعه وحرصه على تعليم أمته صلّى الله عليه وسلّم. قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: «وفيه التزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلا اتضع وفيه حث على التواضع وفيه حسن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتواضعه» «2» .
9- حبهم رضي الله عنهم لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم من أمور الدنيا
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إنّ خيّاطا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لطعام صنعه. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فذهبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك الطّعام، فقرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبزا ومرقا فيه دبّاء «3» وقديد، فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتتبّع الدّبّاء من حوالي القصعة. قال:
__________
(1) انظر «فتح الباري» ، (6/ 74)
(2) انظر المصدر السابق.
(3) الدباء: هو القرع واليقطين.(2/284)
فلم أزل أحبّ الدّبّاء من يومئذ) «1» .
وفي رواية عند مسلم: (فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل من ذلك الدّبّاء، ويعجبه. قال:
فلمّا رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه. قال: فقال أنس: فما زلت بعد يعجبني الدّبّاء) «2» .
وعند مسلم أيضا: (فما صنع لي طعام بعد أقدر على أن يصنع فيه دبّاء إلّا صنع) «3» .
الشاهد في الحديث:
أن أنسا رضي الله عنه لما رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحب الدباء ويتتبعه، وهو أمر لا يدخل في أمور الشرع، ولم نؤمر بالعمل به، أقول: لما رأى أنس ذلك، وقع في قلبه مباشرة حبّ هذا الصنف من الطعام، وما كان يحبه ولا يشتهيه من قبل علمه أن الرسول يحبه، وهكذا إذا أحب أحد أحدا وقع في قلبه كل ما يحبه الطرف الآخر، من مأكل ومشرب وملبس وحتى المشية، ألا ترى إذا أحب الشاب الآن أحدا من الممثلين الذين لا خلق لهم ولا دين، يتمثل به حتى في قصة شعره بدون إرادة أو وعي، وإن لم تكن ملائمة له، أو مناسبة لقومه وعشيرته، وقد يعصي أبويه في سبيل هذا الاقتداء، حتى أنه يحب أن من يراه، يعلم بدون كلام أنه يحب الممثل الفلاني، ولكن شتان، بين التبر والتراب، والثرى والثريا، فمن الذي أحب الصحابة اتباعه، إنه أفضل الخلق جميعا، هو الذي باتباعه نسعد فلا نشقى أبدا، حتى إن أنسا يقول: إنه ما صنع طعاما يمكن أن يوضع له فيه دباء إلا وضع فيه، أرأيتم الحب ماذا يفعل بصاحبه؟، وأي حب هذا الذي كان في قلوب الصحابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، إنه لا يمل أن يأكل الدباء في كل طعام، فيكون أشبه بالمريض الذي يعلم أن هذا الدواء فيه شفاء له من مرض عضال فيحب أن يتناوله ولو بجرعة أكبر، ولكن يبدو أن أنسا كان يتلذذ به كلما تناوله لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحبه.
[فوائد الحديث]
وفي الحديث فوائد منها:
الفائدة الأولى:
كيف كان النبي يتتبع حوالي القصعة، وهو الذي أمر الغلام «4» أن
__________
(1) البخاري، كتاب: الأطعمة، باب: من تتبع حوالي القصعة مع أصحابه ... ، برقم (5379) .
(2) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين..، برقم (2041) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) انظر المصدر السابق.
(4) وذلك كان في حديث عمر بن أبي سلمة إذ كان صغيرا تطيش يده في الصحفة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا غلام سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك» ، انظر حديث (5376) في صحيح البخاري.(2/285)
يأكل مما يليه؟ أقول: يمكن أنه فعل ذلك لسببين:
الأول: أنه أراد أن تمس يده الشريفة جميع القصعة فتحل فيها البركة.
الثاني: أنه يعلم أن جليسه لن يتقزز من ذلك بل يحبه، فكان يفعله بغير حرج، بعكس غيره فقد يتأفف الناس منه.
الفائدة الثانية:
إيثار الصحابة لرسول الله، حيث إن أنسا لما رأى النبي يتتبع الدباء، تركه له ولم يطعمه.
الفائدة الثالثة:
على المسلم الذي يحرص على محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويريد أن يناله هذا الشرف العظيم، أن يحب ما كان يحبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء كان ذلك في أمر من أمور الدنيا أو الدين، ما أمرنا به وما لم نؤمر، لأن ذلك يساعد المسلم على أن يتشرّب قلبه بحبه صلّى الله عليه وسلّم.
10- حب مرافقته والقرب منه صلّى الله عليه وسلّم
المثال الأول:
عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال: (رأيت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال:
يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر بن الخطّاب عليك السّلام، ثمّ سلها أن أدفن مع صاحبيّ. قالت: كنت أريده لنفسي فلأ وثرنّه اليوم على نفسي، فلمّا أقبل. قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع، فإذا قبضت فاحملوني ثمّ سلّموا ثمّ قل: يستأذن عمر بن الخطّاب، فإن أذنت لي فادفنوني وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين، إنّي لا أعلم أحدا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النّفر الّذين توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض) «1» .
الشاهد في الحديث:
قول عمر رضي الله عنه: (ثم سلها أن أدفن مع صاحبي) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
مناقب عمر رضي الله عنه:
1- توقيره لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويتمثل ذلك في:
أ- ذكرها بصفتها قبل اسمها، وهذا من باب التوقير لأمهات المؤمنين، الذي أمرنا الله به، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، وشاهده من الحديث: (يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-) .
__________
(1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (1392) .(2/286)
ب- في مقابل ذكره، عائشة رضي الله عنها، بصفتها، لم يذكر صفته هو، أنه أمير المؤمنين، بل ورد في إحدى الروايات عند البخاري: (وقل يقرأ عمر عليك السلام ولا تقل أمير المؤمنين) «1» وهذا لسببين؛ الأول: من باب التواضع مع زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم واستشعارا لقوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ، مع أن عائشة رضي الله عنها لم تتعد الخامسة والثلاثين من عمرها، وهو قد تعدى الستين، وهو الخليقة الراشد، وثاني أفضل الصحابة بعد الصديق، رضي الله عنهم، والثاني: أنه أرسل يطلب من أم المؤمنين رضي الله عنها شيئا من خالص حقها، فمن الأدب أن يشعرها، أنه لا يطلب منها بصفته أميرا للمؤمنين، فقد يسبب ذلك حرجا لها، لأن طاعة ولي الأمر واجبة، بل هي من طاعة الله ورسوله، وإن صح الاستنباط، فيكون ذلك من عمر رضي الله عنه في منتهى الأدب وغايته، مع غاية النصح لله ورسوله، في تولي خلافة المسلمين، حيث لم يرد أن يكسب بخلافته شيئا لصالحه. فمن يتعلم؟.
حتى لما علم رضي الله عنه بموافقة عائشة رضي الله عنها على أن يدفن في المكان الذي يحبه، أمر ابنه عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن يستأذن أم المؤمنين، مرة أخرى قبل دفنه مباشرة، عسى أن تكون استحيت منه في حياته، قال: (فإذا قبضت فاحملوني ثم سلموا ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني) ، ويؤخذ منه، أنه لا ينبغي لأحد أن يأخذ شيئا من أخيه المسلم بسيف الحياء، فقد أعطى عمر رضي الله عنه الفرصة لأم المؤمنين، أن تتحلل من وعدها إذا أرادت.
ج- إقراره، رضي الله عنه بفضل عائشة رضي الله عنها وأنها الأحق بجوار النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه مات وهو عنها راض، قال: (إني لا أعلم أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض) .
2- عظيم حب عمر رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم مع غزير علمه، حيث ذكر أنه ما كان شيء في الدنيا يهمه ويفكر فيه أعظم من مجاورته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، قال: (ما كان شيء أهم إليّ من ذلك المضجع) ، وانظر إلى حرصه إلى هذا الجوار، أنه بادر ابنه السؤال لدى عودته من عند عائشة رضي الله عنها وما استطاع الانتظار حتى يعرض عليه ابنه الإجابة، يقول: (فلما أقبل قال له: ما لديك) ، وهذا يدل على أن هذا الأمر كان يشغله جدّا، وكان يخاف أن تأتي الإجابة بما لا يحب.
__________
(1) البخاري مطولا، كتاب: المناقب، باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان، برقم (3700) ، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(2/287)
أما عن علمه رضي الله عنه فإنه ما حرص هذا الحرص الشديد على مجاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بعلمه بمدى البركة التي ستناله من هذا الجوار المبارك، وهذا، والحمد لله، مشاهد لكل أحد.
كما تبدو حكمة عمر رضي الله عنه أنه لما أراد أن يستأذن عائشة رضي الله عنها قال لابنه: (ثم سلها أن أدفن مع صاحبيّ) ، فأراد بأسلوب فيه الأدب واللطف، أن يبرر لها طلبه، ويستحثها على الموافقة، بأن يذكرها بمكانته من النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: (صاحبيّ) فلما كان له شرف مصاحبتهما الشديدة في الدنيا، رأى أنه له الحق في مثل هذا الشرف بعد الموت، ولو قال لها: أريد أن أدفن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاستوى هو وغيره من عموم المسلمين، الذين لهم جميعا الحق في هذا الطلب، لكونه صلّى الله عليه وسلّم رسولا إليهم جميعا، ولكن من يسامي الصديق والفاروق في شرف الصحبة الخاصة؟ ... لا أحد.
الفائدة الثانية:
في مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ويتبين ذلك من:
1- إرادتها أن تدفن بجواز النبي صلّى الله عليه وسلّم وما قلته عن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة، ينطبق هنا أيضا، فلا داعي للإعادة، قالت أم المؤمنين: (كنت أريده لنفسي) .
2- إيثارها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المضجع الذي كانت تتمناه لنفسها، قالت:
(فلأوثرنه اليوم على نفسي) ، مع أن أحدا لا ينكر أحقيتها بهذا المكان، حيث إنه بيتها، والمدفون فيه زوجها صلّى الله عليه وسلّم الذي كان لا يحب أحدا مثلها، ثم أبوها، الصديق رضي الله عنه وأعتقد أنها آثرت عمر رضي الله عنه اعترافا بفضله وحسن صحبته للرسول صلّى الله عليه وسلّم فكأن هذا رد منها للجميل.
الفائدة الثالثة:
بل هي الفائدة الأولى في الأهمية، وهي أن عظيم بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كعظيم بركته وهو حي صلّى الله عليه وسلّم سواء بسواء فالمكان الذي يضم جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم قطعا لا يستوي مع غيره من الأمكنة، وإلا ما حرص عمر رضي الله عنه أن يدفن في هذا المكان، ويكون ذلك هو كل شغله الشاغل، وكذا عائشة رضي الله عنها، ولا يخفى على أحد ما للاثنين من علم وفقه واتباع للسنة، فاق الجميع، ويتفرع على ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: ما خص الله سبحانه وتعالى به أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما من فضل، إذ لم يكن لأحد من هذه الأمة شرف جوار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته إلا لهما، فسبحان الله الذي جعل الجزاء من جنس العمل، وهذا واضح في هذا الأمر وضوح الشمس في رابعة النهار، وصدق الله الذي قال: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) ، وما أجمل عطاء الله الجواد الكريم، الذي يكافئ على القليل بالكثير، فالعبد إذا قام بعبادة الله. سبحانه وتعالى. طوال(2/288)
حياته وبذل فيها أغلى ما يملك، من مال ونفس وولد، وبذل كل معروف، وكفّ عن كلّ مكروه، ما عدل كلّ ذلك وأمثاله، جوار النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن كما أقول دائما: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المسألة الثانية: إذا كان الميت ينتفع بدفنه بجوار الصالحين، فإنه أيضا يتضرر من جواره لأهل المعاصي والكبائر، وأهل الشقاق والعناد، وعلى المسلم أن يتخير المكان الذي سيدفن فيه، ويوصي به في وصيته، وما عمت به البلوى الآن، أن المسلم لا يبالي أين يدفن، ولا بجوار من سيكون، وانظر إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم لما علم أنه سيموت سأل الله عزّ وجلّ أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، «1» واستجاب الله دعاءه، كما ورد في صحيح البخاري «2» .
المثال الثاني:
فعن ربيعة بن كعب الأسلميّ رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيته بوضوئه وحاجته. فقال لي: «سل» . فقلت: أسألك مرافقتك في الجنّة. قال:
«أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود» «3» .
الشاهد في الحديث:
أن ربيعة بن كعب- وكنيته أبو فراس- طلب مرافقته في الجنة، وليس دخول الجنة فحسب، أي أن الصحابة كانوا يحبون مرافقته ليس في الدنيا فقط، بل في الآخرة، ويرون أن الجنة برفقة الرسول، تكون أسعد بكثير، وإلا لم يكن لطلبه المرافقة معنى.
[فوائد الحديث]
وفي الحديث بعض الفوائد منها:
الفائدة الأولى:
تعظيم الصحابة لأمر الجنة، ومرافقة الرسول فيها، حيث إن ذلك كان الطلب الأول لأبي فراس، ولما عرض عليه الرسول أن يطلب شيئا آخر امتنع، لأنه يرى أنه ليس ثمّة شيء آخر يجب أن يزاحم هذا الطلب، أو أنه كان يستصغر كل طلب مع طلب مرافقة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنة.
الفائدة الثانية:
زهد الصحابة في الدنيا، فإن ربيعة كان فقيرا (من أهل الصفة) وعرض عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يطلب أي شيء من أمر الدنيا أو الآخرة لأنه لم يحدد في عرضه ومع ذلك زهد في كل شيء.
__________
(1) أي قرب الأرض المقدسة بهذا القدر، الرمية بحجر.
(2) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء باب: وفاة موسى ... ، برقم (3407) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) مسلم، كتاب: الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه، برقم (489) .(2/289)
الفائدة الثالثة:
حسن تعامل النبي مع خادمه، يؤخذ ذلك من حب الخادم له، حيث طلب مرافقته في الجنة، ويؤخذ أيضا من ملاطفة الرسول لخادمه، فهو يطلب منه أن يسأله ما يشاء، ويكرر عليه السؤال ليستزيد الخادم.
الفائدة الرابعة:
أن دخول الجنة يحتاج إلى عمل، وإلى مجاهدة النفس، وأرجى وسيلة للمجاهدة هي كثرة السجود، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.
11- كراهيتهم ترهك شيء فارقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنّته «1» فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرّجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا ولم يفتّش لنا كنفا «2» منذ أتيناه. فلمّا طال ذلك عليه ذكر للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: القني به، فلقيته بعد. فقال:
«كيف تصوم؟» قال: كلّ يوم. قال: «وكيف تختم؟» قال: كلّ ليلة. قال: «صم في كلّ شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كلّ شهر» . قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «صم ثلاثة أيّام في الجمعة» . قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «أفطر يومين وصم يوما» . قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «صم أفضل الصّوم، صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كلّ سبع ليال مرّة» . قال عبد الله: فليتني قبلت رخصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذاك أنّي كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السّبع من القرآن بالنّهار والّذي يقرؤه يعرضه من النّهار ليكون أخفّ عليه باللّيل، وإذا أراد أن يتقوّى أفطر أيّاما وأحصى وصام مثلهنّ كراهية أن يترك شيئا فارق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه) «3» .
الشاهد في الحديث:
قول الراوي: (كراهية أن يترك شيئا فارق النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
لم يعظم الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب بل عظموا كل شيء يخصه، وتعدى الأمر إلى أن عظموا كل ما التزموا به أمامه من العبادات أو الأعمال التي فارقهم- بموته صلّى الله عليه وسلّم- وهم يحافظون عليها. وهذا المسلك منهم رضي الله عنهم يدعو- والله- إلى التدبر والتفكر في أدبهم وإجلالهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتضح ذلك من:
__________
(1) أي زوجة ابنه.
(2) أي شيئا مستورا، وتقصد أنه لم يقربها للجماع.
(3) البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: في كم يقرأ القرآن، برقم (5052) ، ومسلم، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... ، برقم (1159) .(2/290)
1- الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص لم يلتزم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو يعاهده على تلك العبادات التي ذكرها في الحديث. وهي صوم يوم وإفطار يوم وختم القرآن في سبعة أيام. وإنما اعتبر نصح الرسول صلّى الله عليه وسلّم له بذلك والتزامه رضي الله عنه بتلك العبادات طيلة حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم كالعهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يجب الوفاء به.
2- العبادات التي التزم بها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ليس من الواجب ولا الفروض ولكنها من السنن.
3- بلغت المشقة بعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أقصاها، لما كبر سنّه، من المواظبة على تلك العبادات.
ومع كل ما ذكر لم يستطع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يترك تلك العبادات، مع أنه يعلم تماما أن المشقة توجب التخفيف، ويتذكر جيدا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم راجعه ليخفف عن نفسه، وما تركها رضي الله عنه مخافة ضياع ثوابها- لأنه يعلم أن الله يكتب للمريض ما كان يفعله وهو صحيح- وإنما لم يتركها كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال الإمام النووي- رحمه الله- (معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشق عليه فعله لعجزه ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف) «1» . وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (ومع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه) «2» .
الفائدة الثانية:
شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، حيث راجع الصحابي عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في أمر زوجته حتى يعطيها حقها، كما راجعه في أمر عبادته حتى لا يشق على نفسه ويجهدها مما قد يضطره إلى قطع تلك العبادة إذا كبر سنه، وهذا فيه بعد نظر جميل من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثالثة:
حياؤه صلّى الله عليه وسلّم وحكمته، أما حياؤه فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصارح عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بما بدر منه تجاه زوجته منذ زواجهما، أما حكمته صلّى الله عليه وسلّم فتتضح من معالجته لأصل المشكلة وهي تفرغ عبد الله بن عمرو للعبادة وانشغاله بها طوال ليله ونهاره.
الفائدة الرابعة:
حب الصحابة رضي الله عنهم للعبادة، لقد ودوا لو استغرقت كل أوقاتهم، لولا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرشدهم دائما إلى القصد وإعطاء كل ذي حق حقه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «فإن
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (8/ 43) .
(2) انظر فتح الباري (4/ 220) .(2/291)
لجسدك عليك حقّا وإن لعينك عليك حقّا وإن لزوجك عليك حقّا وإن لزورك عليك حقّا» «1» .
الفائدة الخامسة:
حياء الصحابة رضي الله عنهم وتقديمهم التعريض على التصريح فيما يخدش الحياء، ولو كان المتحدّث إليه من المحارم، يتضح ذلك جليّا من قول زوجة عبد الله بن عمرو: (لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا) . وهذا أمر نفتقده كثيرا في كلامنا اليوم، فنأتي بكلام يخدش الحياء بمصلحة وبغير مصلحة، وفي جدّنا وهزلنا.
12- عظيم أدبهم معه صلّى الله عليه وسلّم
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليس بيني وبينه إلّا أخرة الرّحل «2» . فقال: «يا معاذ بن جبل» . قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: «يا معاذ» . قلت: لبّيك رسول الله وسعديك. ثمّ سار ساعة ثمّ قال: «يا معاذ» قلت: لبّيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حقّ الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» . ثمّ سار ساعة ثمّ قال: «يا معاذ بن جبل» . قلت: لبّيك رسول الله وسعديك. فقال: «هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوه؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقّ العباد على الله أن لا يعذّبهم» «3» . متفق عليه.
الشاهد في الحديث:
أن النبي قد نادى معاذا ثلاث مرات، وفي كل مرة يرد عليه معاذ ثم يسكت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا يتكلم بكلمة واحدة، فلا يقول معاذ للرسول في أي من مرات الثلاث: ناديتني يا رسول الله فماذا كنت تريد؟، أو يقول: يا رسول الله أنسيت ماذا كنت تريد أن تقول؟ أو أي كلمة مشابهة. ولكن يسكت، والرسول صلّى الله عليه وسلّم ينادي، فلا يمل ولا يقول شيئا، بين يدي النبي، وهذا أدب عظيم.
__________
(1) البخاري، كتاب: الصوم، باب: حق الجسم في الصوم، برقم (1975) ، مسلم كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر ... ، برقم (1159) ، من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) أي الخشبة التي يستند إليها راكب البعير
(3) البخاري، كتاب: اللباس، باب: إرداف الرجل خلف الرجل، برقم: (5967) ، مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، برقم (30) .(2/292)
[فوائد الحديث]
وفي الحديث فوائد كثيرة منها:
الفائدة الأولى:
ما كان يبديه الصحابة من سرعة استجابة وأدب في رد دعاء النبي، حيث رد معاذ في كل مرة بقوله: (لبيك يا رسول الله وسعديك) . ومعنى لبيك: أي طاعة لك بعد طاعة، أو أنا مقيم على طاعتك، أو إجابة بعد إجابة، ومعنى سعديك: أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة «1» . وهذا الأدب هو ما علمه الله عزّ وجلّ للصحابة في قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] .
الفائدة الثانية:
اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بكل أحوالهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، خاصة راوي الحديث، حيث يقول أنس: عن معاذ (ومعاذ رديفه على الرحل) . وهذا مهم جدّا في مثل هذا الحديث؛ لأن هذا القرب أوعى للسامع، وتأكدنا أنه قد ضبط الحديث ولم تشتبه عليه ألفاظه.
الفائدة الثالثة:
في الحديث منقبة عظيمة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث نال شرف القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما كان يفصله عنه إلا مؤخرة الرحل، كما ثبت في لفظ مسلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أعلمه بهذا الحديث العظيم، أعظم بشارة للأمة، وهي الفائدة التالية.
الفائدة الرابعة:
البشارة بأن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وفي ذلك:
1- حجة على من قال: إن أهل المعاصي في منزلة بين منزلتين، لا نحكم لهم بالإيمان، ولا نحكم عليهم بالكفر، ولكنهم مخالدون- حسب زعمهم- في النار وهذا قول المعتزلة، والحديث حجة دامغة عليهم، من حيث ربط النبي دخول الجنة بعدم الشرك، والشرك معروف من الدين بالضرورة، وهو أن تجعل لله عز وجل ندّا في صفاته أو في أفعاله، ومعلوم أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولو كان أهل المعاصي يخالدون في النار ولا يدخلون الجنة، لقال في الحديث: (أن يعبدوه ولا يعصوه) . فيدخل في العصيان الشرك من باب أولى، ولكن لا تدخل المعاصي في الشرك أبدا، لقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] . وقيل عن هذه الآية: إنها أرجى آية في كتاب الله، ويشهد بذلك ما رواه البخاري من حديث الشفاعة الطويل: (فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود) «2» .
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 231) .
(2) البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، برقم: (4476) . من حديث أنس.(2/293)
2- فيه التحذير كل التحذير، من أدنى أدنى أعمال الشرك، لأن الرسول قال «أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا» وكلمة (شيئا) نكرة في سياق النفي، وهي تقتضي العموم، فتشمل أدنى أفعال الشرك.
3- علمنا من الحديث أن الذين يدعون من دون الله أولياء، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، أو يعتقدون أن النفع والضر، يشارك الله فيه أحد، وماتوا على ذلك دخلوا النار مخالدين فيها أبدا.
4- على المسلم المبتغي مرضاة الله، الحريص على الجنة، وحسن الخاتمة، أن يسأل الله الثبات على الإيمان، لأن الإيمان هو الذي يدخل العبد الجنة، وألا يتكل على هذه البشارة، وليعلم أن المعاصي بريد الكفر والشيطان حريص على وقوعه في الشرك، وليعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، وأن يتذكر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران: 102] . وقد فسر العلماء الآية، بأنها أمر من الله بالطاعة والتقوى، ومواصلة الأعمال الصالحة حتى يثبت المسلم ويموت وهو مؤمن، بل إن المسلم الصادق بقدر فرحه بهذا الحديث واستبشاره به، بقدر اجتهاده في العبادة، كما فعل النبي لما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قام لله شكرا على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة عليه وقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» «1» ، وهو نفس ما أمر الله به آل داود، قال- سبحانه وتعالى-: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] .
الفائدة الخامسة:
التأكيد على أمر العبادة، فلم يقتصر حق الله على العباد ألايشركوا به شيئا بل ذكر «أن يعبدوه» والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ورسوله، ونتقرب به إلى الله عزّ وجلّ، أي تشمل جميع أنواع الطاعات، ولو كانت العبادة ليست بشرط في دخول الجنة، ما ذكرها النبي في موضع يبين فيه عظيم امتنان الله على عباده المؤمنين، وفي هذا رد على من يقول: يكفي أن قلبي سليم، والله رب قلوب، وأنا لا أوذي أحدا، وهذا يكفي لدخول الجنة، والحديث حجة على هؤلاء.
الفائدة السادسة:
على العالم ألا يلقي مسائل العلم العظيمة إلا بعد أن يتأكد أن طلبة العلم قد أرعوه كامل انتباههم، ويمكن أن يتأكد أيضا بسؤالهم عما فهموه بعد إلقاء المسألة، وللتفريط الواقع في هذه المسألة نرى كثيرا من طلبة العلم قد ينسبون لمشايخهم ما لم يقولوه.
__________
(1) البخاري، كتاب: الجمعة، باب: قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم الليل، برقم (1130) ، مسلم، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2819) ، من حديث المغيرة بن شعبة.(2/294)
[مثال آخر لعظيم أدب الصحابة مع النبي ص]
وهناك مثال آخر لعظيم أدب الصحابة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مرّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على نفر من أسلم ينتضلون «1» . فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان» ، قال، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لكم لا ترمون؟» قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟! قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ارموا فأنا معكم كلّكم» «2» .
الشاهد في الحديث:
إمساك أحد الفريقين عن الرمي بعد أن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للفريق المقابل: «ارموا وأنا مع بني فلان» .
حقيق بمن تدبر هذا الأدب الجم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتعجب كل التعجب، خاصة إذا تأمل قول الفريق الذي كف عن الرمي «كيف نرمي وأنت معهم» ، وأعتقد أن من أسباب كفهم عن الرمي أنهم سيكونون في وضع (ظاهره) أنهم خصوم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد بينت في عدة مواطن من الكتاب أنهم كانوا يأبون أن يكونوا على هيئة ظاهرها عدم التأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو برضاه، كما حدث مع أبي أيوب الأنصاري، وقد أورد الحافظ ابن حجر- رحمه الله- وجهين آخرين لإمساك الفريق عن الرمي نقلا عن بعض العلماء قال: (أمسكوا لكون النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الفريق الآخر خشية أن يغلبوهم، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم مع من وقع عليه الغلبة، والقول الثاني: أنهم أمسكوا لما استشعروا من قوة قلوب أصحابهم بالغلبة حيث صار النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم، وذلك من أعظم الوجوه المشعرة بالنصر) . انتهى.
وفي الحديث ملاطفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه حيث قال لهم في الأولى: «ارموا وأنا مع بني فلان» . وفيه أيضا حرصه صلّى الله عليه وسلّم على تطييب خاطر أصحابه جميعا، لما قال لهم في الآخرة:
«ارموا فأنا معكم كلكم» .
13- تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم في نفوسهم
تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس كلمات تقال ولا قصصا تروى ولا تكون دعوى باللسان ولا هياما بالوجدان بل لا بد أن يصاحب ذلك: الاتباع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة العملية، فتعظيمه صلّى الله عليه وسلّم ليس ترانيم تغنى ولا قصائد وأناشيد تنشد ولا كلمات تقال ولا خطبا تعلو المنابر فحسب بل محبة وإجلال واقتداء وسلوك وتقديمه صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) ينتضلون: أي يتسابقون في رمي السهام.
(2) البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: التحريض على الرمي، برقم (2899) .(2/295)
على كل شيء من أولاد وأحباء وأخوة وحتى النفس التي بين أضلعنا، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومنها:
الحديث الأول:
عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصّلاة، فجاء المؤذّن إلى أبي بكر فقال: أتصلّي للنّاس فأقيم قال: نعم فصلّى أبو بكر فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والنّاس في الصّلاة فتخلّص حتّى وقف في الصّفّ، فصفّق النّاس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلمّا أكثر النّاس التّصفيق التفت، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، ثمّ استأخر أبو بكر حتّى استوى في الصّفّ، وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى فلمّا انصرف قال: «يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟» . فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لي رأيتكم أكثرتم التّصفيق، من رابه شيء في صلاته فليسبّح، فإنّه إذا سبّح التفت إليه، وإنّما التّصفيق للنّساء» «1» .
الشاهد في الحديث:
أن أبا بكر رضي الله عنه أبي أن يصلي بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أبى أن يكون إماما والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأموما.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
تواضع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتضح ذلك من:
1- ذهابه بنفسه إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، وكان في مقدوره أن يرسل أحدا، أو أكثر ليقوم بهذه المهمة بأمره واسمه.
2- رضاه أن يصلي مأموما، وهو نبي هذه الأمة وقائدها، خلف أبي بكر رضي الله عنه؛ بل إنه أمره أن يثبت مكانه.
الفائدة الثانية:
على الإمام أو من ينوب مكانه في الولايات، أن يحرصوا على أن يصلحوا بين الناس وكذا بين القبائل، ويبذلوا في ذلك غاية جهدهم، امتثالا لقول الله- سبحانه-: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] ، واتباعا لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف للإصلاح، وعليه يتبين خطأ من يعتقد أن وجود الخلافات بين الناس والقبائل يعضد ملكه ويقوي أركانه.
__________
(1) البخاري، كتاب: الأذان، باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول، برقم (684) .(2/296)
الفائدة الثالثة:
في مناقب الصديق رضي الله عنه خير هذه الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وسلّم:
1- علم الصحابة بأنه أفضلهم بعد نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، حيث جاءه المؤذن يسأله أن يصلي بالناس، وما ذهب لغيره من الصحابة، ولو كان فعل المؤذن عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكان الفضل آكد وأثبت، وقد ورد في البخاري الأمر الصريح من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي أبو بكر بالناس وذلك في مرض موته، وقد ذكر بعض شراح حديث الباب، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أمر أن يؤم أبو بكر الناس، ولكن كلام المؤذن لا يوحي بذلك، حيث ورد بالحديث: (فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم) . فالسياق يوحي أن المؤذن إنما يستأذن أبا بكر في الإمامة، فإذا وافق أقام، ولو كان هناك أمر من النبي صلّى الله عليه وسلّم لاستأذنه فقط في الإقامة، أو لأخبره أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بذلك.
2- فقهه رضي الله عنه ويتبين من:
أ- عدم التفاته في الصلاة، لقول الراوي: (وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته) ، لعلمه أن الالتفات اختلاسة من الشيطان، وهو أيضا من كمال أدبه مع الله. سبحانه وتعالى-؛ إذ كيف يلتفت في صلاته، من يعظم الله ويعلم قدره، كما يتبين فقهه من التفاته، على غير عادته، عندما أكثر الناس من التصفيق، فاختار أخف الضررين، وهو الالتفات، أو أنه علم أن الناس لن تكف حتى يلتفت.
ب- علمه رضي الله عنه أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم له بمواصلة إماما، لم يكن على الوجوب، وإنما المقصود منه إظهار فضله وتكريمه، وهذا الفهم منه رضي الله عنه صحيح، وإلا لبين له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الأمر كان للوجوب، وأنه ما كان ينبغي أن يرجع. والوجه الثاني في المسألة، أن الأمر باتمام الصلاة إماما كان للوجوب، ولكن أبا بكر رضي الله عنه تأول هذا الأمر وأخرجه عن ظاهره- وهو الوجوب- لحيائه الشديد من النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ كيف يصلي به إماما؟!
ج- علمه أن الالتفات، والتأخر في الصلاة للوراء، وتحوله من إمام إلى مأموم، كله لا يفسد الصلاة، وكان له الفضل أن تعلمت الأمة حكم تلك المسائل.
د- علمه أنّ حمد الله في الصلاة، على أمر خارج الصلاة، لا يفسدها، مع جواز رفع اليدين في الصلاة، شكرا لله.
3- تعظيمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتجلى ذلك فيما يلي:(2/297)
أ- عدم قدرته على إتمام الصلاة، إماما في الوقت الذي يكون فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مأموما، مع أن الصلاة قد بدأت والنبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أمره بمواصلة الصلاة على تلك الهيئة، وهذا منتهى الأدب، وغاية الإجلال للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان هذا هو دأب أبي بكر رضي الله عنه وحده ولكن كان دأب كل الصحابة رضي الله عنهم، فقد بلغ تعظيمهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم ظنوا أنه لا ينبغي لأحد أبدا أن يسمى ابنه باسم محمد، فعن جابر بن عبد الله قال: ولد لرجل منّا غلام فسمّاه محمّدا.
فقال له قومه: لا ندعك تسمّي باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانطلق بابنه حامله على ظهره، فأتى به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام فسمّيته محمّدا، فقال لي قومي: لا ندعك تسمّي باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم أقسم بينكم» «1» .
فالتعظيم قد انسحب إلى كل شيء، حتى شمل الاسم، وأعتقد أن الصحابة قد أنكروا على الرجل التسمية باسم (محمد) مخافة أن يوجه الرجل لابنه أي سب أو إهانة، فتقع الإهانة على اسم (محمد) وهو نفس اسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ب- استشعار أبي بكر أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإتمام الصلاة على تلك الهيئة لهي من النعم العظيمة عليه، توجب حمد الله على الفور لا التراخي، فاضطر على مرأى من أهل المسجد، أن يرفع يديه بالحمد ولا ينتظر الفراغ من الصلاة أو الركوع والسجود، ونلمس فيه كيف كانت تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه الأمة.
ج- تواضعه الجم، مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث ذكر نفسه باسمه، لا بكنيته مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ناداه بكنيته، لأن المقام، يقتضي التواضع، وبيان من الفاضل ومن المفضول، فقال: (ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . وتدبر أنه لم يقل: (بين يديك) وذلك رغبة منه في بيان التفاضل غاية البيان.
الفائدة الرابعة:
حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على تعليم الأمة، وبيان ما تحتاج إليه، حيث سأل أبا بكر رضي الله عنه عن سبب عدم امتثال الأمر، ليعلمه الصواب إذا استدعى الأمر، كما وجّه الصحابة لما وقعوا فيه من محظور يتمثل في كثرة التصفيق، وبين لهم الصواب في المسألة، فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء.
وأعتقد أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما التصفيق للنساء» ، ليس بحجة لمن يمنع الرجال من التصفيق
__________
(1) مسلم، كتاب: الآداب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم، برقم (2133) .(2/298)
خارج الصلاة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال هذه المقولة، مقابل ما فعله الصحابة من التصفيق في الصلاة، وكأن التصفيق وما يحدثه من إزعاج وشوشرة لا يناسب الصلاة، فنهى عنه الرجال، أما النساء فضرر التصفيق في الصلاة أقل من الضرر الذي قد يحدث من التفات المصلين لأصواتهن، خاصة إن كان فيه فتنة.
الحديث الثاني:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى على امرأة تبكي على صبيّ لها. فقال لها: «اتّقي الله واصبري» . فقالت: وما تبالي بمصيبتي. فلمّا ذهب. قيل لها: إنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذها مثل الموت. فأتت بابه فلم تجد على بابه بوّابين. فقالت: يا رسول الله لم أعرفك. فقال: «إنّما الصّبر عند أوّل صدمة، أو قال عند أوّل الصّدمة» «1» .
الشاهد في الحديث:
قول الراوي عن حال المرأة، لما علمت أن الذي خاطبها هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم (فأخذها مثل الموت) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1- مداومته وحرصه صلّى الله عليه وسلّم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على كل حال، لقوله للمرأة: «اتقي الله واصبري» ولم يقل صلّى الله عليه وسلّم: إن المرأة الآن مصدومة، ولا يصح توجيه الخطاب إليها، ولما جاءته لتعتذر إليه، نصحها مرة أخرى، فقال لها: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» .
2- حكمته ورفقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما حكمته، أنه أمر المرأة أولا، بتقوى الله، أي بالأمر العام، الذي هو سبب امتثال العبد لكل أمر وبعده عن كل نهي، لتشعر بخوف الله، - سبحانه وتعالى-، ووجوب طاعته والبعد عن معصيته، وليكون ذلك أدعى لامتثالها لما سيأتي من أمر، ليقع الأمر على قلب خاشع، ثم أمرها بالأمر الخاص، ألا وهو الصبر، الذي تحتاج إليه المرأة في مثل هذا الموضع، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقي الله واصبري» .
أما رفقه صلّى الله عليه وسلّم في الأمر فيتضح من:
أ- أنّ نصحه للمرأة ما زاد عن قوله: «اتقي الله واصبري» .
__________
(1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: زيارة القبور، برقم: (1283) ، مسلم، كتاب: الجنائز. باب: في الصبر على المصيبة، عند الصدمة الأولى، برقم (926) .(2/299)
ب- أنه ما نهر المرأة وما عاتبها أولا وآخرا، أولا: لما لم تعرفه وقالت له: (وما تبالي بمصيبتي) . وفي رواية عند البخاري: (فإنك خلو من مصيبتي) وآخرا: لما عرفته واعتذرت إليه، فقالت: (يا رسول الله لم أعرفك) ، والغريب أنه صلّى الله عليه وسلّم غير سياق الموضوع ولم يشعرها بحرج من عدم معرفته، وقال لها: «إنما الصبر عند أول صدمة» .
ويتفرع عليه، وجوب تحلي أهل الحسبة، بالصبر على أذى الناس، والاحتساب في ذلك، وألاينتقموا لأنفسهم، وأن تكون غايتهم التوجيه والنصح والإرشاد، قدر المستطاع، وأن يعذروا الناس خاصة عند وقوع المصائب، وألا يكلفوهم أكثر مما يطيقون؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ألحّ على المرأة في امتثال ما يأمرها به، وما وقف على رأسها حتى تتوقف عن المحظور الواقعة فيه، لأن المقام لا يحتمل ذلك، ولو فعل لاحتمل أن تتلفظ بكلام لا يليق، فتقع في محظور أكبر.
ج- تواضعه صلّى الله عليه وسلّم ويتضح ذلك من:
أن المرأة لم تعرفه عند ما قال لها: «اتق الله واصبري» . فلو أنه كان يمشي بحاشية وأتباع، يمشون خلفه أو كانت له مشية معينة أو أنه كان له زي خاص، أو يتبع أسلوبا معينا في الكلام يختلف عن الناس لعرفته المرأة، أو حتى ظنت أنه من أكابر القوم ومن خاصتهم، ولراعت ذلك في ردها.
أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل بوابين على أبواب بيته، أما ما ورد في الأحاديث الصحيحة أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له بوابون، يستأذنهم الداخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيحمل على أن هذا الأمر لم يكن على الدوام، ولم يكونوا منقطعين لهذا العمل، ووقوفهم عند البيت كان وقت المصلحة، ولكن الأصل عدم وجودهم، ذكره ابن حجر العسقلاني.
3- مهابته وإجلاله في نفوس أصحابه رضي الله عنهم ويتضح ذلك من شدة الكرب والفزع الذي انتاب المرأة، لما عرفت أن الذي حدثها هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وإذا أردت أخي القارئ أن تتصور الحالة التي انتابت المرأة، فعليك أن تحضر من تأتيه مصيبة الموت، فانظر كيف يكون حاله، خوف ورعشة وعرق وأكثر من ذلك بكثير، هذا كان حال المرأة لما عرفت من الذي حدّثها.
ويتفرع عليه، أن المهابة والإجلال الذي وقر في قلوب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن نابعا من طريقة حديثه معهم، ولا من كثرة الأتباع والحاشية، ولا من وجود البوابين، ولا من خوفهم أن يوبخهم أو يعاقبهم إن أساؤا وإنما كان هذا الإجلال والإكبار لشخصه(2/300)
صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما تعلموه من القرآن العظيم، من وجوب توقيره وإجلاله، ودليله أن المرأة قد رأته وسمعته ولم تخف، وما حدث لها ما حدث، إلا عندما أخبرت أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان معها في ذلك الوقت.
الفائدة الثانية:
تأدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن ذلك:
1- أن بعض الصحابة أنكروا على المرأة الطريقة التي ردت بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو أنهم اعتادوا الكلام معه بغير توقير وإجلال، ما أنكروا على المرأة، وقد أدبهم الله- سبحانه وتعالى- باداب الحديث معه تفصيلا لا إجمالا، كما ورد في باب (تأديب الأمة في معاملته صلّى الله عليه وسلّم) .
2- ذهاب المرأة إليه صلّى الله عليه وسلّم تعتذر إليه عما بدر منها، وتبين له سببه، فقالت: (يا رسول الله لم أعرفك) ، وتدبر أخي القارئ، أن كل ما قالته المرأة لتعتذر عما بدر منها، وهو عظيم جدّا، في حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: (لم أعرفك) وهي التي ذهبت بعد أن أخذها مثل الموت، ولو كانوا لا يعرفون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التسامح والعفو وعدم الغضب لنفسه، ما اقتصرت المرأة على تلك الكلمة البسيطة، ولو أن المرأة قد قصرت في الاعتذار، أو كان الأمر يحتاج لأكثر من ذلك لنصحها النبي صلّى الله عليه وسلّم بما هو أكمل، ولقال لها مثلا:
(استغفري ربك وتوبي إليه) . وهو مسلك ومنهج جدير بالتأمل والتدبر، فقد يحدث اليوم أن توجه كلمة غير لائقة، فيمن يعتقد في نفسه أنه كبير، فيحتاج الأمر إلى أيام وليال لإصلاح ما فسد، وقد لا تنفع مجالس الصلح، ويصل الأمر إلى المشاحنات، التي قد تجرّ إلى القتل.
الفائدة الثالثة:
أن الصبر درجات، وأعظم هذه الدرجات، هو الصبر عند الوهلة الأولى من نزول المصائب، وهذا هو الصبر الذي يكافئ الله- سبحانه وتعالى-، عليه بعظيم الأجر والثواب، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] ، وهو الصبر الجميل، الذي لا يكون فيه الجزع والهلع وشق الجيوب ولطم الخدود وقول ما لا يرضي المولى سبحانه وتعالى.
ويتفرع عليه: جميل منة الله على عباده، أن خفف على الإنسان عظيم وقع المصيبة عليه، بمرور الأوقات وملاقاة الأصحاب وتسلية الأحباب، فمن يظن بعد موت الأب أو الأم، أنه سيأتي عليه يوم يضحك فيه، أو حتى يأكل ويشرب، وعلى الإنسان أن يحمد الله كثيرا على هذه النعمة الجليلة.(2/301)
الحديث الثالث:
عن أبي أيّوب رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه، فنزل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في السّفل، وأبو أيّوب في العلو، قال: فانتبه أبو أيّوب ليلة. فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنحّوا فباتوا في جانب، ثمّ قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «السّفل أرفق» . فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها. فتحوّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العلوّ، وأبو أيّوب في السّفل، فكان يصنع للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طعاما، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبّع موضع أصابعه، فصنع له طعاما فيه ثوم، فلمّا ردّ إليه، سأل عن موضع أصابع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: لم يأكل؛ ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا، ولكنّي أكرهه» . قال: فإنّي أكره ما تكره، أو ما كرهت. قال: وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يؤتى) «1» .
الشاهد في الحديث:
أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه أبى أن يكون أعلى المنزل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم في أسفله.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
هي منقبة عظيمة لأبي أيوب الأنصاري، حيث نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم في داره.
الفائدة الثانية:
مظاهر تعظيم الصحابي، أبي أيوب، للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- استعظامه أن يسكن في منزل، يعلو فيه على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيكون هو في الدور العلوي، والنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدور السفلي، ومما يبين هذا الاستعظام:
أ- أنه انتبه ذات ليلة من يومه، فيقول: (نمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) ، فكأن هذا الأمر كان يشغله طول الوقت، حتى أنه استيقظ في ليلة فقال ذلك.
ب- أنه تنحى بعد استيقاظه من نومه، هو وأهل بيته، في جانب واحد من جوانب البيت وتركوا كل نواحي البيت، وهذا فيه مشقة ظاهرة على أهل البيت، ولكنها مشقة أهون بكثير من الحرج الذي شعروا به، وأسأل إذا مشى أبو أيوب بالدور العلوي، فهل هو فعلا يمشي على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلا والله.
ج- رغم أن الصحابة، رضي الله عنهم، هم أشد الناس حبّا للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأحرصهم على فعل ما يحبه، وأكثرهم امتثالا لأمره، والبعد عن ما يسبب أدنى أدنى حرج له، ورغم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي طلب السكن في السّفل، وأوضح لأبي أيوب، أنه أرفق له، لما يأتيه من أصحاب ووفود، أقول: مع كل ذلك ما استطاع أبو أيوب أن يلبي رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويحقق
__________
(1) مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إباحة أكل الثوم، برقم (2053) .(2/302)
له ما هو أيسر له، وهذا يدل على عظيم الحرج الذي كان يشعر به، وأجزم أنه لو كان في مقدوره ولو بمشقة أن ينزل على رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لفعل، ولكن كان هذا الأمر عنده مستحيل التحقيق، وهذا يدلّنا على ما كان مستقرّا في نفوس الصحابة من تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنهم لا يفعلون ما ينافي ولو في صورته فقط، عدم تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى ولو كان بأمره.
2- قيامه رضي الله عنه بصنع الطعام للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه:
أ- أنه كان يأكل فضلة النبي صلّى الله عليه وسلّم لقوله: (فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه) ، وما كان يكتفي أن يأكل من القصعة التي أكل فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي نجزم به ونعتقده أن البركة قد حلت بالقصعة كلها، ولكن ما كان يرضى إلا أن يأكل من المكان الذي لامس أصابع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا يدل على همته العالية، وطلبه الأعلى من الأمور، والأتم منها، وحرصه على ما ينفعه.
ب- الفزع الذي انتابه، عندما رد إليه الطعام ولم يأكل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم، والفزع هو أشد حالات الخوف التي يمكن أن تنتاب الإنسان، وماذا فعل أبو أيوب رضي الله عنه حتى ينتابه الفزع، أمات له قريب؟ أفقد ماله وولده؟ ارتكب كبيرة من الكبائر فخاف من سوء الخاتمة؟
لا، لم يفعل أيا من هذه الأمور، كل ما فعله أنه صنع طعاما رده النبي صلّى الله عليه وسلّم وخشي من نفسه أنه قدم طعاما للرسول صلّى الله عليه وسلّم حرام أكله، وهو لا يدري، مما اضطره للصعود إليه لاستقصاء الأمر، قال الراوي: (ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو) .
ج- لما علم الحكمة من عدم أكل النبي صلّى الله عليه وسلّم للطعام، وهي أنه يكره الثوم، وهو أمر خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه يأتيه الوحي في أي ساعة من الليل أو النهار، والملائكة تكره ذلك، ودليله قول الراوي: (وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤتى) وهو أمر لا يشترك فيه مع النبيّ أحد فماذا كان رده، قال: (فإني أكره ما تكره) ، وما كان هذا الكره للثوم موجودا قبل ذلك اليوم، بل كان محبوبا له، ودليله، أنه كان يضعه في الطعام الذي يقدم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن أبو أيوب من شدة تعظيمه وحبه للنبي صلّى الله عليه وسلّم كره هذا الطعام من وقته، وعلل سبب الكره بقوله: (فإني أكره ما تكره) ، فهو لا يتصور أن يحب شيئا يكره النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو كان من عادات الأمور، وقد يكون من أسباب كره للثوم، أنه كان سببا في رد الطعام.
ويتفرع على ذلك فائدة عظيمة، وهي أن نقول: إذا كان الصحابي قد كره الثوم، المباح أكله شرعا، لكره النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أنه لم يأمرهم بكره، ولم ينفرهم منه، فكيف كان كره الصحابة، رضي الله عنهم، للمعاصي التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أشد الناس كرها لها، وتنفيرا لأصحابه(2/303)
منها، وتعظيما لشأنها، وتخويفا من عاقبتها؟!، لا شك أنهم كانوا يكرهونها بقلوبهم وعقولهم.
الحديث الرابع:
عن ابن شماسة المهريّ قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا، أما بشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إنّ أفضل ما نعدّ: شهادة ألاإله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله، إنّي كنت على أطباق ثلاث:
لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّي، ولا أحبّ إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال، لكنت من أهل النّار، فلمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي. قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي.
قال: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟» وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأنّي لم أكن أملأ عينيّ منه، ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنّة، ثمّ ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليّ التّراب شنّا، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتّى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي) «1» .
الشاهد في الحديث:
قول الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلّم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في مناقب الصحابي الجليل، عمرو بن العاص رضي الله عنه.
1- شدة خوفه من الله تبارك وتعالى وعلمنا ذلك من بكائه الطويل، عندما حضرته الوفاة، قال الراوي: (فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار) . وما كان هذا لردّه ما بشّره به
__________
(1) مسلم، كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، برقم (121) .(2/304)
النبي صلّى الله عليه وسلّم من خير الآخرة، وإنما لتوليه بعضا من أمور المسلمين، يخشى أن يكون قد قصر في بعضها، وقد وضح ذلك في قوله: (ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها) ، فهو يبكي كل هذا البكاء، ليس لجزمه أنه وقع منه التقصير، بل لعدم يقينه أصاب فيها أو أخطأ، وهذا من ورعه وتقواه، أن اتهم نفسه.
وقد فرق رضي الله عنه بين عصر الوحي والتنزيل، والعصر الذي بعده، بأمر دقيق، في قوله: (ما أدري ما حالي فيها) ، حيث إنه كان يعرف حاله قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يبشرهم برضى الله، - سبحانه وتعالى-، والفوز بالجنة، أما بعد موته صلّى الله عليه وسلّم فهم يعملون ويحسنون، لكن من يبشرهم بقبول أعمالهم وأنها موافقة للصواب، لذلك بكى طويلا، لعدم وجود المصوّب لعمله والمبشّر له بالفوز والفلاح.
يتفرع على ذلك، ضرورة أن يبكي المسلم على نفسه طويلا، لأنه لم يشهد الصحبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبشره أحد بالجنة، وليس له من الأعمال الصالحة، مثل ما كان لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلام كل ذلك الاطمئنان الذي نشعر به؟!!، أعمال قليلة وذنوب كثيرة وغفلة عظيمة.
2- فقهه رضي الله عنه ويتضح من الأمور التالية:
أ- رؤيته أن الشهادتين، هي أفضل ما يدخره العبد للقاء الله، - سبحانه وتعالى-، وهذا هو الصواب، لما رواه أنس بن مالك: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاذ رديفه على الرّحل. قال:
«يا معاذ بن جبل» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال: «يا معاذ» . قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال: «ما من أحد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله صدقا من قلبه إلّا حرّمه الله على النّار» «1» .
ب- إقراره أن الله، - سبحانه وتعالى-، هو الهادي إلى سواء السبيل، وأن الهداية للإسلام هي محض فضل منه عزّ وجلّ لقوله رضي الله عنه: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي) ، وعلمه أن القلب هو محل الإيمان أو الكفر.
ج- أنه اشترط عند إسلامه، أن يغفر له كل ما أسلف من الذنوب، فلم يكن أمر الشهادتين عنده، كلمة يقولها، بل فكّر وتدبر في عواقب ما فعل قبلها، فعظم تلك الذنوب التي اقترفها، وكأنه شعر أنها ستكون عائقا له في طريقه إلى الله، - سبحانه وتعالى-، فاشترط أن تغفر تلك الذنوب أولا، قال: (أردت أن أشترط) قال: «تشترط
__________
(1) البخاري، كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم، برقم (128) .(2/305)
بماذا؟» قلت: (أن يغفر لي) ، كما أنه علم أن الاشتراط إنما يكون قبل البيعة، وأن الشرط بعد القبول والإيجاب لا يعتد به.
ويتفرع عليه: أن من علامات حكمة الرجل، ألايتعجل أمره في الأمور العظيمة، بل يجب أن يتروى ويتدبر عاقبة كل أمر من حيث محاسنه ومساوئه، وأن علامات سفه الرجل وهذا كثير في وقتنا الحاضر العجلة وعدم التروي، وأن يقبل ما لا يطيق القيام به.
د- اعتقاده أن من أتى بالشهادتين على الوجه الأكمل، مع اقترافه بعض الأعمال غير الصالحة، فإن عليه أن يخاف ما فعل، ويعتقد أنه قد يحاسب على تلك الأعمال يوم القيامة، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فليست الشهادتان تعفي من سؤال الله العبد عن ذنوبه، ولا الذنوب تلغي انتفاع العبد بالشهادتين، والدليل أن عمرو بن العاص رضي الله عنه يأمل في الشهادتين رغم حذره من الذنوب، يقول: (إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) .
هـ- علمه أن مبايعة النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجال تكون باليد لقوله: (ابسط يمينك فلأبايعك) .
وتكون باليمين من اليدين.
وعلمه بتحريم النياحة على الميت، واصطحاب النار في الجنازة، وأنه بالوصية بذلك فقد استبرأ لدينه، إن حدث في جنازته مخالفة شرعية، ودليله قوله رضي الله عنه: (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار) . فما كان قوله هذا لابنه الفقيه عبد الله بن عمرو، ليعلمه تحريم تلك الأمور؛ لأنه لا شك كان على علم بتحريمها، ولكن ذكرها للبراءة منها إن حدثت.
ز- علمه أن الميت، يسمع ما يكون حول قبره لقوله: (ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) . كما علم أن سؤال الملكين إنما يكون فور نزول الميت قبره؛ لأنه رضي الله عنه أمرهم أن يقيموا حول قبره قليلا، وعلل ذلك بقوله: (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) ، ودليل الأمرين، ما رواه البخاري من حديث أنس وفيه: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه» «1» .
3- بلاغته وحكمته، في التقسيم والاستقصاء، حيث إنه قد قسم حياته إلى ثلاثة أقسام، راعى فيها أساسا واحدا للتقسيم، وهو تأكده من رضى الله- سبحانه وتعالى- من
__________
(1) البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، برقم (1338) .(2/306)
عدمه، وهذا التقسيم يدلنا على أكبر همهم، والهدف الأسمى الذي كان يعيشون من أجله، والأقسام الثلاثة هي:
أ- قسم ما قبل الإسلام، وهذا لا خوف منه، حيث إن الإسلام يجبّ ما قبله، وكانوا يشترطون قبل البيعة على الإسلام أن يغفر لهم.
ب- قسم ما بعد الإسلام (طيلة حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم) ، ويرجو فيه الصحابي لنفسه الجنة، إن مات في هذه الحقبة، وذلك لتبشير النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بالجنة، وعظيم أعمالهم من نصرته وصحبته ومؤازرته، فضلا عن نزول الوحي بتأييد ما يفعلونه ومباركته، أو تصويبه وبيان الحق فيه، وكذا تربية النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم وإرشادهم وتوجيههم.
ج- قسم ما بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويخشى الصحابي فيه على نفسه، لا نفتاح الدنيا عليه وولايته المناصب، وكيف تستوي عندهم دنيا كانوا فيها يرون النبي صلّى الله عليه وسلّم صباحا ومساء، ودنيا حرموا فيها هذا الفضل العظيم. وهذه الأقسام الثلاثة يشترك فيها جل الصحابة، رضي الله عنهم.
كما تظهر حكمته أيضا في بيان أقسام حياته من قوله: (إني كنت على أطباق ثلاث) .
فأجمل أولا ثم فصّل ثانيا، ويظهر في ذلك تأثرهم الكبير بلغة القرآن، قال- تعالى-:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] . وأمثلة ذلك في القرآن والسنة كثيرة.
4- أدبه مع الله عزّ وجلّ ويتبين ذلك من:
أ- قوله رضي الله عنه: (لرجوت أن أكون من أهل الجنة) فأتى بلفظ «رجوت» لأنه لو جزم أنه من أهل الجنة، لكان من الآمنين لمكر الله- سبحانه وتعالى- قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) [الأعراف: 99] ، ولو نفى هذا الرجاء لكان كالمكذّب لما بشّره به النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان من أدبه أن توسط في القول.
ب- قوله رضي الله عنه: (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) ، فهو مع إعداده أفضل ما في هذا الدين الحنيف، وهي الشهادتان، لقوله: (إن أفضل ما نعد شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله) . ومع أن سؤال الملكين إنما يكون عن الشهادتين، إلا أنه يخاف أيضا من السؤال، ويحتاج إلى من يأنسه ويقيم حول قبره حتى يجيب الملكين.
كما أن من أدبه رضي الله عنه أنه أضاف الملكين إلى الرب تبارك وتعالى كما أضاف الرب إلى نفسه، ليشعر بتمام العبودية في هذا الوقت الذي سيقبل فيه على مولاه.(2/307)
5- استحقاره رضي الله عنه لأمور الدنيا، بما في ذلك الولاية، حيث قال: (ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها) ، فلم يسمّ الولاية، كما أنه أتى بها نكرة، لزيادة التحقير.
6- إجلاله رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو أعظم ما في الحديث وأظهره ولكني أحببت أن أختم بها تلك المناقب لجمالها وتكون الختام المسك، ويتبين لنا مظاهر هذا الإجلال من الأمور الآتية:
أ- تقسيمه الجزأين الأولين من حياته، على أساس محبته وعدواته للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقد رأى أن أعظم ما كان منه في الجاهلية بغضه للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي المقابل فإن أعظم ما عنده في الإسلام، حبّه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا يدل على شدة تعظيمهم لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ب- إقراره على نفسه أنه لو مات على بغض الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكان من أهل النار، ولو مات على مثل هذا الحب له، لكان من أهل الجنة.
ج- شدة محبته للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنه ما كان يحب أحدا أكثر منه، لقوله: (وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) .
د- إجلاله العظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلاماته: أنه ما كان يستطيع أن ينظر إليه طويلا أو يحدّق فيه النظر، لدرجة أنه لو طلب منه أن يصفه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وما منعه من ذلك الخوف منه، ولكن ما يشعر به في قلبه من مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعظيم شأنه عند الله.
وانظر إلى قوله رضي الله عنه: (وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه) . أي أنه لا يستطيعه ولو مع المشقة البالغة.
فأين نحن- معاشر المسلمين- من إجلال نبينا كإجلال صحبه الكرام له، هل نشعر بهذا الإجلال في نفوسنا، هل نشعر به عند الحديث عنه، وذكر اسمه، هل نشعر به عند سماع أمره ونهيه، فهلا راجعنا أنفسنا، ووقفنا معها وقفة محاسبة في كل ما يخص مسلكنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
فقه وأدب، الصحابي العابد، عبد الله بن عمرو بن العاص، أما فقهه، حيث إنه ذكّر أباه، رضي الله عنه، بما بشره به النبي صلّى الله عليه وسلّم ليجعله يغلب جانب الرجاء، ويحسن الظن بالله- سبحانه وتعالى- قال رضي الله عنه: (أما بشّرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا) وأعاد لفظ: (بشرك) مرتين، ليستقر ذلك في قلب أبيه.
وأما أدبه فيتمثل في ندائه لأبيه بقوله: (يا أبتاه:) فهي ألطف وأحب كلمة للأب، ولو(2/308)
أن كلمة أفضل من ذلك لاستخدمها عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، خاصة في آخر مجالسة له مع أبيه.
يتفرع على ذلك، سوء أدب من ينادي أباه، بالشيبة أو العجوز، أو الحاج، أو غير ذلك من الأسماء، وانظر كيف نادى إبراهيم أباه وكان مشركا، قال- تعالى-: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ [مريم: 43] . وتدبر كم مرة قال: (يا أبت) . لقد قالها أربع مرات، يعيدها مع كل أمر أو نصيحة، وما اكتفى إبراهيم- عليه السلام- أن يقولها مرة واحدة عند بداية الكلام.
الفائدة الثالثة:
ما كان عليه بعض المسلمين قبل الإسلام وغيرهم من الكفار، من بغض الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحرصهم البالغ على قتله، في مقابل، ما كان يجده صلّى الله عليه وسلّم في نفسه، ويعانيه في قلبه، من أسف وحزن يكاد يهلكه، من توليهم وإعراضهم، والعجيب أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم منهم ذلك، وكان الله يأمره أن يهون على نفسه، قال- تعالى-: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) [الكهف: 6] ، قال عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: (ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته) .
يتفرع عليه، وجوب أن نحمد الله حمدا كثيرا، ونشكره شكرا جزيلا، أن جعلنا مسلمين، إذ كيف نتصور حالنا، ونتوقع مالنا يوم القيامة- لو قدّر الله علينا- ألانكون مسلمين، ونأتي الله- سبحانه وتعالى- وفي قلوبنا هذا البغض العظيم لهذا الرسول الكريم، بل كيف نتصور أن نأتي يوم القيامة، وليس في صحائفنا الصلاة والسلام على المبعوث رحمة العالمين.
ويتفرع عليه أيضا، عصمة الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث عصمه من قتل الكفار له طول حياته، مع حرصهم الشديد على ذلك، قال- تعالى-: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
الفائدة الرابعة:
وهي متفرقات:
1- وجوب الوصية، خاصة في حال وجود ديون على المسلم، أو إن كان عنده مال كثير، يريد أن يوقف شيئا منه، أو يخاف أن تحدث عند موته أو في جنازته منكرات أو محرمات، فيجب عليه الوصية ليبرأ إلى الله مما قد يحدث، وهذا الأمر الأخير قد انتشر في هذه الأيام، كالإسراف في مظاهر الحزن، كلبس المرأة السواد، والنياحة، وقراءة القرآن في سرادقات كبيرة، بصوت أحد الشيوخ المعروفين، مما يهدر أموالا بلا طائل، ويعظم(2/309)
التحريم إذا كان للميت أولاد قصّر، أو عليه ديون، وكذا اتباع الجنائز بالموسيقى والورود وما عند الميت من نياشين وأوسمة، بالإضافة إلى الاجتماع على الولائم الكبيرة بمنزل الميت، والاجتماع فيه على العزاء عدة أيام، ونشر النعي في الجرائد بمساحات كبيرة، ويزداد الأمر سوآ، بالجزم بما أعده الله للميت من الثواب والعطاء، كل هذا بخلاف ما يحدث في القبر من التشييد ورفع القبر فوق الأرض بأكثر من شبرين، وكون البناء من الرخام، وأخص بالذكر منكرين، أولهما: أن يكون سرير الميت ثقيلا، بحيث يسبب لحامليه مشقة بالغة، وثانيهما: أن يلف النعش أو الميت بقماش كتب عليه الأسماء الحسنى وبعض سور القرآن العظيم، ولا أعلم كيف وصل الحال بالمسلمين، أن يزينوا أكفان الموتى بالقرآن الكريم، وكيف هان عليهم أن يحقروا شأن آيات الله إلى هذا الحد.
وهذه البدع التي ذكرتها، قد لا تجتمع في قطر إسلامي بعينه، ولكنها بالتأكيد موجودة بشكل متفرق في الأقطار الإسلامية.
2- إثبات سؤال القبر، وما يكون فيه من فتنة عظيمة على الميت، وكذا إثبات الملكين، وإثبات الحياة البرزخية للميت، التي يعقل فيها الميت ويسمع ويتكلم، لقول عمرو بن العاص، رضي الله عنهما: (وأنظر ماذا أراجع رسل ربي) .
وأهمس في أذن من يجادل الآن، في عذاب القبر وسؤال الملكين، وأقول لهم: إن الأمر قد ثبت في السنة الصحيحة بالأحاديث الصريحة، ونصيحتي إليكم: أن تتداركوا أمركم وتؤمنوا بهذا الغيب، قبل أن تفاجئوا بالملكين، يسألانكم، فكيف يثبتكم الله. جل في علاه. عند السؤال ويفتح عليكم بالإجابة، وأنتم بداية تنكرون السائل والسؤال، ويومئذ سيقع الندم حيث لا ينفع، وستقدمون العتبى إلى ربكم والاعتذار فيرد عليكم، بأفظع ما يمكن أن يصل إلى أسماعكم من توبيخ وتقريع.
وإذا كنتم تستعظمون على قدرة الله- سبحانه وتعالى- أن يسأل الميت، ويحاسبه فإما النعيم وإما العذاب، فماذا تقولون فيمن خلق من منيّ الرجل إنسانا، مر بالنطفة ثم العلقة ثم المضغة، ثم أصبح عظاما ثم كسا هذا العظم لحما، أين حدث كل هذا؟ في مصنع أو مختبر، لقد حدث في أمكن مكان للنطفة بل أغرب مكان، في رحم الأم، ولو أن أحدا أخبرنا أن هذا يمكن حدوثه قبل أن نراه، لحكمنا عليه بالجنون، فوالذي لا إله غيره، إن ما يحدث في رحم الأم، مما نعرفه ولا نعرفه، لهو أعظم من سؤال القبر، ولا ينكر ذلك من كان عنده مسحة عقل، فلله الحمد أن أثبت لنا قدرته فيما نرى لنستدل بها على ما لا نرى،(2/310)
فانقطعت بذلك كل حجة وردت كل شبهة.
الحديث الخامس:
عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس جاء يهوديّ. فقال: يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقال: «من؟» قال: رجل من الأنصار. قال: «ادعوه» . فقال: «أضربته؟» قال: سمعته بالسّوق يحلف والّذي اصطفى موسى على البشر. قلت: أي خبيث على محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخيّروا بين الأنبياء، فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة فأكون أوّل من تنشقّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى» «1» .
الشاهد في الحديث:
قول المسلم لليهودي: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1- ثبوت اصطفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على جميع البشر، الأولين والآخرين، ودليله من الحديث، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينكر على الأنصاري فهمه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو المصطفى على البشر جميعا، بما فيهم موسى وأن قول اليهودي: (والذي اصطفى موسى على البشر) في وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم خطأ، فلو كان هذا الفهم من الصحابي غير صحيح لبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحال، ولكن الذي أغضب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لطم وجه من له عهد وذمة، وحدوث التفاضل بما ينتقص من قدر الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام.
قال ابن حجر- رحمه الله- ما نصه: (قال العلماء في نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التفضيل بين الأنبياء: إنما نهي عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقص المفضول أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع التفاضل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلا إذا قلنا: إنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان وقيل: النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها كقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات
__________
(1) البخاري، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والخصومة، برقم (2412) .(2/311)
على بعض لقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، وقال الحليمي: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى ازدراء الآخر فيقضي إلى الكفر أما إذا كان التخيير مستندا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي) . انتهى كلامه رحمه الله «1» .
ومما يؤكد اصطفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على البشر ما رواه البخاري، من حديث أبي هريرة قوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيد القوم يوم القيامة» ، وكون موسى، عليه الصلاة والسلام، يفيق قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو لا يصعق أصلا، فليس هذا دليلا على أفضليته المطلقة، على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد يخصّ المفضول على الفاضل في خصلة من الخصال، والذي يحكمنا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع» «2» .
2- عدله صلّى الله عليه وسلّم بين الناس جميعا، المؤمن والكافر على سواء، وشيوع عدله صلّى الله عليه وسلّم بين الناس، ولولا علم الناس بعدله وعدم رضاه بالظلم، ما ذهب إليه اليهودي يشتكي إليه أحدا من أصحابه، وكان رجلا من الأنصار، ومع شديد حب النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصار، ومع أن الأنصاري إنما لطم وجه اليهودي، غضبا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومع أن اليهود هم أشد الناس عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لذلك حتى ظهرت علامات الغضب على وجهه، ففي إحدى روايات البخاري: (فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى رئي في وجهه) .
واليهودي لما ذهب يشتكي كان من فطنته أن أول ما ذكره للنبي صلّى الله عليه وسلّم في شكواه، كما ورد في إحدى روايات البخاري: (أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا) ، وقال ذلك لعلمه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يخفر ذمة ولا عهدا، ولذلك قال اليهودي بعد ذلك: (ضرب وجهي رجل من أصحابك) . قاله وهو مطمئن لعدله وأن كون الذي ضربه رجلا من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم لن يغير من الأمر شيئا.
ومن وجوه عدله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث، أن سمع من اليهودي كامل شكواه، وما حكم له بل وما غضب، حتى دعا الأنصاري، وسأله عن صحة شكوى اليهودي، كما سمع منه كامل دفاعه، ورد في الحديث: (قال: «ادعوه» . قال: «أضربته؟» قال: سمعته في السوق يحلف ... ) .
__________
(1) انظر فتح الباري (6/ 446) .
(2) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: تفضيل نبينا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق، برقم (2278) .(2/312)
ويتفرع على ذلك عدم جواز الحكم بين المتخاصمين إلا بعد سماع دعواهما كاملة.
وأودهنا أن أقول للقضاة، وغيرهم ممن يتصدى للحكم بين الناس، إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لليهودي، ووجّه عتابه لصاحبه الأنصاري، وشتان ما بين الرجلين في ميزان الإسلام، فإياكم أيها القضاة، أن تراعوا في أحكامكم نسبا أو صهرا أو مصالح مشتركة مع أحد المتنازعين، فتحكموا له دون الآخر.
قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) [النساء: 58] . ويزداد الأمر سوآ إذا باع القاضي دينه وأخذ رشوة من أحد المتخاصمين.
3- وفاؤه صلّى الله عليه وسلّم للأنبياء، وذكرهم بكل جميل وحسن، وإظهار فضلهم في كل مناسبة، ورد في رواية عند البخاري: «فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي» «1» . فلم يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم غضاضة أن يذكر لموسى فضلا يختص به عنه صلّى الله عليه وسلّم فلا شك أن الذي بعث أولا، أو لم يصعق أصلا، أفضل في هذه الجزئية، من الذي بعث بعده، وهذا من تمام تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وحبه لإخوانه من الأنبياء، وسلامة صدره وصفاء قلبه، وقد خصصت فصلا كاملا لهذا الموضوع.
4- جواز وقوع الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم فيما ليس فيه وحي من الله، تبارك وتعالى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي؟!» ووجه الاجتهاد هنا، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد وضع فرضين للمسألة، ولو كان عنده صلّى الله عليه وسلّم وحي في المسألة، ما كان هناك مجال للاحتمالات. ونقطع أن أحد الاحتمالين هو الحق، وأنه لا احتمال ثالث في المسألة، ولولا ذلك لصوب الله- سبحانه وتعالى- اجتهاده في الحال.
الفائدة الثانية:
فضيلة ظاهرة لموسى- عليه الصلاة والسلام- من كونه أول من يفيق من الصعقة الثانية، أو أنه لا يصعق أصلا، ومن كونه أيضا (يمسك بقائمة من قوائم عرش الرحمن) ، وهذا من أعظم مظاهر التشريف له يوم القيامة، ففي الحديث: «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» ، وهذا من دلائل قربه من الله- تبارك وتعالى- وعلو منزلته.
الفائدة الثالثة:
تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفوس أصحابه رضي الله عنهم جميعا، ويظهر هنا في إنكار الأنصاري قسم اليهودي في قوله: (والذي اصطفى موسى على البشر) ليلقنه أن ببعثة محمد
__________
(1) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، برقم (3415) ، من حديث أبي هريرة.(2/313)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينبغي أن يفضّل عليه أحد من الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- وفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا هو مراد الأنصاري لذلك قال في نهاية حكمه: «ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى» .
وأعود للأنصاري فأقول: إن إنكاره لمقولة اليهودي كانت بالقلب واللسان واليد، لأنها جاءت على النحو التالي:
1- غضب غضبا شديدا، حيث قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم «فأخذتني غضبة» . وهذا يشعر أن الغضب تملّكه جميعا، وهذا هو وجه إنكار القلب.
2- قوله لليهودي: (أي خبيث، على محمد؟!) ، وهو إنكار باللسان، وأرى أن الأنصاري قد اتهم اليهودي بهذا الوصف الشنيع، لاعتقاده أن كلام اليهودي نابع من حقد في قلبه وتكذيب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأن اليهودي استخدم قسما، ظاهره حق، ليغمط حق النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك وصفه بالخبث وليس بالكذب.
3- ضرب وجه اليهودي، وهو إنكار اليد، وأظن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لامه على ذلك، لكون الأنصاري قد تملكه غضب شديد كان هو الدافع للضرب وكان هذا واضحا في كلام الأنصاري حيث قدم الغضب على الضرب، قال: (فأخذتني غضبة ضربت وجهه) ، وكأنه يبرر ما وقع منه.
ومن كل ما ذكر، نعلم كيف كان الصحابة يعظمون النبي صلّى الله عليه وسلّم في قلوبهم أبلغ تعظيم ويغضبون كل ذلك الغضب، ليس لأن أحدا سب أو كذب أو ازدرى النبي صلّى الله عليه وسلّم حاشا لله، ولكن لأن واحدا فضّل الكليم، المصطفى بحق على البشر في عصره، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم قد بعث.
إلى هذا الحد بلغ الإجلال والإكبار والحب، أخي القارئ: هل نغضب نحن مثل هذا الغضب؟ لا أقول إذا تكلم يهودي يكفر أصلا بالله ورسوله، ولكن إذا تكلم مسلم مثلنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام غير لائق، أو تكلم عليه كما يتكلم الرجل على خصمه أو حتى على صاحبه، هل نغضب مثل هذا الغضب؟ إن لم نغضب فإن في إيماننا شيئا نسترجع الله فيه.
الحديث السادس:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة فأبى أهل مكّة أن يدعوه يدخل مكّة حتّى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيّام، فلمّا كتبوا الكتاب، كتبوا هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله، فقالوا: لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمّد بن عبد الله، قال: «أنا رسول الله، وأنا محمّد بن عبد(2/314)
الله» . ثمّ قال: لعليّ: «امح رسول الله» ، قال: لا والله لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله) «1» .
هذه الواقعة حدثت في صلح الحديبية، عام ستة من الهجرة، وفيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم ذهبوا إلى مكة معتمرين، فأبى أهل مكة، أن يدعوه يعتمر، وكانوا يريدون قتاله صلّى الله عليه وسلّم فعرض عليهم الهدنة، وبعد عدة مفاوضات اشتركت فيها طائفة من كفار مكة، أتى إليه سهيل بن عمرو، من عسكر المشركين ليعقد الصلح مع المسلمين، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يملي على كاتبه، وكان سهيل بن عمرو يعترض على كتابة ما لم يؤمن به في المعاهدة، فكان مما اعترض عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول المعاهدة، بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: (أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب) . ثم اعترض أيضا على كتابة: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) . وقال: (والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله) . واشترط الكفار في المعاهدة عدم دخول المسلمين البيت من عامهم هذا معتمرين، ولكن يحلون إحرامهم، ويقيمون بمكة ثلاثة أيام، ثم يأتون العام المقبل لأداء العمرة (عمرة القضاء) ، كما اشترط المشركون، ألا يأتي منهم رجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا ردّه إليهم ولو كان مسلما، قال سهيل: (وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) . وقد وافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على كل شروط المشركين في المعاهدة، وذلك لقوله، صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» «2» .
الشاهد في الحديث:
قول علي رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمره أن يمحو لفظ (رسول الله) بناء على طلب سهيل بن عمرو، قال علي: (لا والله لا أمحوك أبدا) . ووجه تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفوس الصحابة في هذه الواقعة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أمر عليّا أن يمحو لفظ (رسول الله) ، ومع ذلك ما استطاع عليّ أن يفعل ذلك، تعظيما للفظ، رسول الله، وهو لن يمحو اللفظ من قلبه، ولا من قلوب الناس، ولن يمحو واقعا، بل سيمحوه من السطور فقط، فهل المحو من السطور يقدّم أو يؤخر، مع أن الله. تبارك وتعالى. عذرهم فيما هو أعظم من ذلك بمراحل عظيمة، وهو النطق بكلمة الكفر مرغمين، طالما كان القلب مطمئنا بالإيمان، ومع ذلك ما استطاع،
__________
(1) البخاري، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، برقم (2700) .
(2) البخاري، كتاب: الشروط، باب: في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، برقم (2734)(2/315)
وأقول: لماذا لم يستطع؟ هل- كما ذكرت- تعظيما لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فحسب، أم خوفا على يديه أن تمحى منها البركة كما محت لفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم خاف أن يلوم نفسه يوما من الأيام على إقدامه على هذه الفعلة أو حتى يلومه غيره، أم أنه خاف من كل تلك العواقب، كما أقول: لماذا لم يعاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم على قسمه بالله ألا يفعل ما أمره به؟ هل لأن الأمر لم يكن للوجوب، وهذا أستبعده لعدم وجود دليل عليه، أم لعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تنفيذ مثل هذا الأمر كان فوق طاقة علي رضي الله عنه النفسية ومن القواعد المقررة في الشرع، أن الله. سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهل وازن علي رضي الله عنه، قبل أن يرد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين رد الأمر، والمحو، فوجد أن المحو أعظم من رد الأمر، كل ذلك علمه عند الله. سبحانه وتعالى. ولكن ما يهمنا في الأمر، هو استشعار تعظيم هؤلاء الأصحاب، للنبي صلّى الله عليه وسلّم. فوجه التعظيم الذي أردت أن أبينه في هذا الباب، لم أستدل عليه، من كونهم كانوا يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه صلّى الله عليه وسلّم وإنما استدللت عليه من كونهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا يكون ظاهره أو صورته فقط توهم بسوء الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أن صورة الأمر ستكون مخالفة لما يشعرون به في نفوسهم تجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا أبلغ في تقريب الصورة للقارئ.
فتدبر أخي القارئ، كيف أبى أبو بكر الصديق أن يصلي إماما للرسول صلّى الله عليه وسلّم رغم أنه هو الذي أمره، وكيف شق على أبي أيوب أن يسكن في العلو والنبي صلّى الله عليه وسلّم يسكن في السّفل، ويقول مستعظما الأمر: (أنمشي فوق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . بالإضافة إلى الأنصاري الذي غضب غضبا شديدا من اليهودي لما قال: (والله الذي اصطفى موسى على البشر) . أضف إلى ذلك ما مر من أمر الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه ما كان يستطيع أن يملأ عينه من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو سأل أن يصفه ما استطاع؛ إجلالا وإكبارا له صلّى الله عليه وسلّم.
ونأخذ أمثلة أخرى لهذا الإجلال والإكبار، وردت في قصة، صلح الحديبية، كما رواها البخاري:
1- لما قال عروة بن مسعود، وهو مفاوض آخر من عسكر كفار مكة، للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
(فإني والله لأرى وجوها أوشابا- أي أخلاطا- خليقا أن يفروا ويدعوك) ، غضب أبو بكر غضبا شديدا، ورد عليه قائلا: (امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه) ، والبظر قطعة بين جانبي فرج المرأة، وكان من عادة العرب أن يقولوا لمن يسبونه أو يشتمونه: امصص بظر أمه، فاستعار أبو بكر رضي الله عنه باللات لتعظيمهم إياها بقصد المبالغة في سبه.
2- كان عروة بن مسعود كلما كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بلحيته، فماذا فعل الصحابي(2/316)
المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه ورد في الحديث: (وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى بيده إلى لحية النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . فكذا كانت غيرتهم الشديدة على لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغضبهم ممن يمسها ولو بيده، وضرب رجل كعروة بن مسعود بنعل السيف، أي بمؤخرته، ليس بالأمر السهل، ولم يكن الضرب مرة، بل تكرر كلما أخذ عروة بلحية حبيبهم صلّى الله عليه وسلّم.
3- ومما ورد في حديث صلح الحديبية، يبين بجلاء كيف كان الصحابة رضي الله عنهم، يجلّون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إجلالا أعظم من إجلال أحدنا للملوك والقياصرة، إجلال في كل شيء، تمثل في التعامل مع آثاره وما خرج منه، ولو كانت نخامة، وفي النظر إليه مع جمال وجهه، وفي خفض الصوت في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، وأنقل لكم ما قاله عروة بن مسعود، دون أدنى تعليق بعده؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى تعليق، بقدر ما يحتاج من القارئ إلى تدبر وتأمل، قال عروة لما رجع إلى أصحابه من كفار مكة: (أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلّك به وجهه وكادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيما له) . انتهى.
14- تعظيم دعائه صلّى الله عليه وسلّم
عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه.
فقلت: يا رسول الله إنّي كنت أصلّي فقال: «ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ؟» ثمّ قال لي: «لأعلّمنّك سورة هي أعظم السّور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» ، ثمّ أخذ بيدي، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلّمنّك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟
قال: «الحمد لله ربّ العالمين هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته» «1» .
الشاهد في الحديث:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعا الصحابي أبا سعيد بن المعلى وهو يصلي فلم يجبه عاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم واستدل بقوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ.
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظم قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك من:
__________
(1) البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب، برقم (5006) .(2/317)
1- وجوب إجابة دعوته وندائه، حتى ولو كان المنادى في الصلاة، التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهو قول الشافعية، على اختلاف عندهم هل تبطل الصلاة بهذه الإجابة أم لا، ذكره الحافظ في الفتح «1» ، وموطن الخلاف: هل هذه الإجابة تخرج الصحابيّ من الصلاة لبطلانها بتكلمه، أم يجيب ويستمر في الصلاة وأعتقد أن الرأي الأخير هو قول الشافعي- رحمه الله- فقد نقل عنه الإمام القرطبي قوله في شرح الآية: (هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أوتي به في الصلاة لا تبطل؛ لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإجابة وإن كان في الصلاة) «2» .
وأقول: إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم واجبة سواء كان الصحابي في صلاة فريضة أم نافلة، والدليل على ذلك عدم سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابيّ عن نوع الصلاة التي كان يصليها، وإلا لأوضح النبي صلّى الله عليه وسلّم للصحابي وجوب استجابة دعائه في صلاة النافلة دون الفريضة لما استدل صلّى الله عليه وسلّم بالآية الكريمة.
2- إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم فرض على الفور وليس على التراخي، ولو كانت على التراخي ما عاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا سعيد رضي الله عنه لعدم إجابته وهو في الصلاة.
3- مما يعظم أمر وجوب استجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ولو كان المرء في صلاة. أن هذا الأمر قد ورد في القرآن الكريم، والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استدل بالآية وهو أعلم الخلق بمراد الله. سبحانه وتعالى. كما أن من أوجه تعظيم أمر إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم أن الله قد قرن بين وجوب طاعته. سبحانه وتعالى.
وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم في أمر واحد، فقال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ.
يتفرع على ما ذكر، وجوب تعظيم المسلم لنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم. نداؤه على سبيل الحقيقة وهو بين أصحابه صلّى الله عليه وسلّم، ونداؤه صلّى الله عليه وسلّم لأمته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويتمثل في اتباع سنته القولية والفعلية، يصدّق ذلك قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) [النور: 63] .
الفائدة الثانية:
امتثال سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما أمر به ونهى عنه، واجب على كل مسلم ومسلمة- وجوبا على الفور- والدليل على ذلك الآية الكريمة التي استدل بها النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاتبته الصحابي على عدم إجابة دعوته وهو في الصلاة.
الفائدة الثالثة:
تفاضل سور القرآن العظيم، والدليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لأعلمنك
__________
(1) انظر فتح الباري (8/ 158) .
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن (7/ 390) .(2/318)
سورة هي أعظم السور في القرآن» .
نقل الحافظ ابن حجر- رحمه الله- عن ابن التين قوله: (معناه أن ثوابها أعظم من غيرها) «1» .
الفائدة الرابعة:
سورة الفاتحة- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ-، هي أعظم سورة في كتاب الله العظيم، وهي المقصودة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي؛ لأن أولى من يفسر القرآن هو النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أسلفت، ونقل الحافظ ابن حجر- رحمه الله- عن بعض العلماء سبب تسمية الفاتحة بالسبع المثاني، فقال ما نصه: (واختلف في تسميتها مثاني فقيل لأنها تثنى كل ركعة أي تعاد، وقيل: لأنها يثنى بها على الله تعالى، وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها) .
الفائدة الخامسة:
على المفتي أن يذكر للمستفتي أو السامع دليل حكمه على المسألة، خاصة إذا وقع للمستفتي لبس أو إشكال، فهذا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم المشرع لهذه الأمة لما أحس أن الصحابي قد يستشكل عليه أمر قطع الصلاة ذكر له صلّى الله عليه وسلّم الدليل من كلام الله تبارك وتعالى، وفيه أيضا أنه يسنّ للمفتي أن يذكر أولا في حكم المسألة الدليل القرآني تبركا بكلامه تبارك وتعالى، ووجه ذلك أن كلامه صلّى الله عليه وسلّم هو تشريع للأمة، ولكن لما كان هناك دليل في المسألة من القرآن العظيم، قدّمه صلّى الله عليه وسلّم.
15- تبركهم به صلّى الله عليه وسلّم
أولا: تبركهم بفضل وضوئه صلّى الله عليه وسلّم:
عن أبي جحيفة قال: (خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهاجرة، فأتي بوضوء، فتوضّأ فجعل النّاس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسّحون به، فصلّى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الظّهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة. وقال أبو موسى: دعا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومجّ فيه، ثمّ قال لهما: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» ) «2» .
الشاهد في الحديث:
قوله: فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به.
__________
(1) انظر فتح الباري (8/ 158) .
(2) البخاري، كتاب: الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، برقم (188) .(2/319)
بعض الفوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
ثبوت بركة فضل وضوء النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الماء المتبقي في الإناء بعد وضوئه أو الماء الذي سال من أعضاء وضوئه، قال أبو جحيفة رضي الله عنه (فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) ، ومما يوضح ذلك ويبينه أكثر وأكثر ما رواه البخاري عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الرّبيع قال: (وهو الّذي مجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجهه وهو غلام من بئرهم وقال عروة عن المسور وغيره يصدّق كلّ واحد منهما صاحبه: وإذا توضّأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كادوا يقتتلون على وضوئه) «1» .
2- ثبوت بركة ريقه صلّى الله عليه وسلّم، لقول أبي موسى: (فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال:
«اشربا منه» ، ومعنى مج فيه: صب الماء الذي في فمه في الإناء، قال ابن حجر- رحمه الله: (والغرض بذلك إيجاد البركة بريقه المبارك) .
وانظر أخي القارئ أدب العلماء مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث وصف ابن حجر ريقه صلّى الله عليه وسلّم بالمبارك، والمبارك هو كل ما كثر خيره، ودليل بركته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه أن يشربوا منه، بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا حريصين كل الحرص على ألا يدخل فم المولود شيء قبل ريقه المبارك صلّى الله عليه وسلّم، فعن أنس رضي الله عنه قال: (لمّا ولدت أمّ سليم قالت لي يا أنس انظر هذا الغلام فلا يصيبنّ شيئا حتّى تغدو به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحنّكه فغدوت به فإذا هو في حائط وعليه خميصة حريثيّة وهو يسم الظّهر الّذي قدم عليه في الفتح) «2» .
3- عظيم بركة ريقه وفضلة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم، ووجه ذلك: أن هذه البركة تصيب من نالها بأي وجه من الوجوه، ومن تلك الوجوه:
أ- الشرب، لقوله صلى الله عليه وسلّم لأبي موسى: «اشربا منه» .
ب- الإفراغ، أي الصب، على الوجه والنحر، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأفرغا على وجوهكما ونحوركما» .
ج- التمسح به، لقول أبي جحيفة (فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) .
د- مجرد النضح، لما ورد عند البخاري من حديث أبي جحيفة: (فخرج بلال، فمن
__________
(1) البخاري، الكتاب والباب السابقين، برقم (189) .
(2) البخاري، كتاب: اللباس، باب: الخميصة السوداء، برقم: (5824) ، ومسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: جواز وسم الحيوان غير الآدمي، برقم (2119) .(2/320)
نائل وناضح) . قال ابن حجر- رحمه الله- (معناه: فمنهم من ينال منه شيئا، ومنهم من ينضح على غيره شيئا مما ناله ويرش عليه بللا مما حصل له) . انتهى.
وتدبر أخي القارئ، أن الصحابة رضي الله عنهم قد رجوا البركة من مجرد النضح، ليقينهم أنه لن تعدم البركة فيه، وكيف تعدمه وهذا الماء قد لامس جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية:
حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه رضي الله عنهم وحرصه على تعليمهم ما يجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الشر، بإذن الله تعالى، حيث كان صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بشرب فضلة وضوئه، بل ومجّته، قال أبو موسى: (ثم قال لهما: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما) .
الفائدة الثالثة:
تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم وما كان ذلك إلا ليقينهم التام، الذي لا يخالطه أدنى شك، بصدق نبوته، وحبّ الله- سبحانه وتعالى- له، مع تأييده بالمعجزات الباهرات، ومما يدل على ما ذكرت من حديث الباب:
1- تمسحهم رضي الله عنهم بفضل وضوئه صلّى الله عليه وسلّم فما كانوا يكتفون بالشرب بل كانوا يمسحون بهذا الماء جميع جسدهم طمعا لتعميم البركة، قال الراوي: (فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به) .
2- من لم يستطع منهم أن ينال من فضلة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم نضح من يد أخيه، كما بينت قريبا، وأعتقد أن من فعل ذلك خاف ألايدرك جزآ ولو يسيرا من الماء فاضطر للنضح، حتى لا يخرج صفر اليدين، فيشق عليه حرمانه، بينما نال الآخرون بغيتهم.
3- لم يقتصر الحرص على نيل بركة وضوئه صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه رضي الله عنهم بل تعدى إلى زوجاته، أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، وهذا عجيب جدّا جدّا لمن تدبره، فأزواجه اللائي ينلن من حبه والقرب منه وبركته، ما لا يمكن أن يناله غيرهن، لم يزهدن في فضلة وضوئه، ورد في إحدى روايات البخاري من قول أبي موسى: (فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة) .
ألم تكن أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها، في يوم نوبتها، تأكل وتشرب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أما كانت تنام على الفراش الذي ينام عليه، أما كانت تشرب من فضلة وضوئه كلما كان عندها، بل أما كانت تغتسل معه، وأكثر من ذلك بكثير، لماذا لم تكتف بكل ذلك، لماذا لم تؤثر الصحابة بهذه الفضلة، وهم الذين لم يشاركوها فيما ذكرت، هل لأن الزهد في الخير(2/321)
من سوء الأدب؟ هل لطمعها الشديد أن تنالها بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما سنحت لها الفرصة؟ هل كانت ستجد مشقة في نفسها أن يوزع هذا الخير ولا تنال هي منه، وانظر كيف رفعت صوتها رضي الله عنها من حجرتها حتى تسمع أبا موسى نداءها، وكيف استحثتهم على أن يخصوها بطائفة، فقالت لهما (أن أفضلا لأمكما) . ولم تقل: (لي) ؛ لتذكرهما بحقها العظيم عليهما من حيث كونها أمّا للمؤمنين.
ثانيا: تبركهم بفضلة الماء الذي شرب منه صلّى الله عليه وسلّم:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بشراب، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا. فتلّه في يده) «1» .
الشاهد في الحديث:
قول الغلام للنبي: (لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا) . الغلام كما ذكر في روايات في غير الصحيحين، هو: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ومع شدة تعظيم هذا الغلام الفقيه للنبي، واستئذان النبي منه، إلا أنه أبى أن يعطي فضلة النبي لأحد، فهو يعلم ما فيها من بركة، وهذا يدل على فطنته وحرصه على الخير، ومعرفته قدر الرسول وكل ذلك مع كونه غلاما.
وفي الحديث فوائد منها:
الفائدة الأولى:
أن الإيثار في الطاعات والخير، غير مطلوب شرعا، فعلى الإنسان أن يقدم نفسه في أمور الخير، وذلك في حالة كون العمل لا يقوم به إلا واحد، مثل وجود فرجة في الصف الأول، لا تكفي إلا واحد، فعلى المسلم أن يبادر إليها ولا يؤثر غيره بها، أما الإيثار المطلوب، فهو الذي يكون في أمور الدنيا مثل الطعام والشراب والملبس، فهذا إيثار محمود شرعا، يثاب المرء عليه.
أما إذا كان العمل يمكن أن يقوم به اثنان أو أكثر، فعلى المسلم أن يحرص على أن يشاركه غيره فيه، ليعم الخير والبركة، ويشرع له أن يختار المشارك له من أهل قرابته، لأنهم أولى بالمعروف، ألم تر كيف شفع موسى في أخيه حتى جعله نبيّا، قال- تعالى- على لسان موسى:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي [طه: 29، 30] .
__________
(1) البخاري، كتاب: المظالم والغصب، باب: إذا أذن له أو أحله ... ، برقم (2451) ، مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إدارة الماء واللبن عن يمين ... ، برقم (2030) .(2/322)
أما الدليل من السنة على اختيار أقرب الناس للمشاركة في الخير، فعن أم حبيبة أنها قالت: (قلت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: «وتحبّين؟» قلت: نعم.
لست لك بمخلية، وأحبّ من شاركني في خير أختي) «1» . ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل لأنها كانت بنت أخ من الرضاعة بالإضافة إلى تحريم الجمع بين الأختين وأنصح كل مسلم فأقول له: لا تبخل على أخيك المسلم بأي خير، واعلم أن خير الله الذي أراده لأخيك سيصل إليه لا محالة، فاحرص أن يكون هذا الخير على يديك، فيحبك الله عزّ وجلّ، ويحبك الناس، وتكون من أهل المعروف في الدنيا.
الفائدة الثانية:
إذا قال قائل: الغلام كان صغيرا فكيف نأخذ من فعله حكما؟
قلت: عدم تعقيب النبي صلّى الله عليه وسلّم على قول الغلام أو الإنكار عليه، دلنا أن فعل الغلام هو الصواب، إذ لا يجوز في حقه صلّى الله عليه وسلّم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الفائدة الثالثة:
الذي يجلس عن اليمين هو الأولى، ولا يعطي لغيره إلا بإذنه، وهو مخير بالإذن من عدمه.
الفائدة الرابعة:
تواضع النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الغلام، وحفظ حقه، ويظهر ذلك في الاستئذان، ولو علم الغلام أن هذا الاستئذان ليس على بابه، أي أنه بمثابة الأمر، لبادر إلى الطاعة والامتثال.
ثالثا: تبركهم بشعره صلّى الله عليه وسلّم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لمّا رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمرة، ونحر نسكه، وحلق ناول الحالق شقّه الأيمن، فحلقه، ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاريّ، فأعطاه إيّاه ثمّ ناوله الشّقّ الأيسر، فقال: احلق فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال: اقسمه بين النّاس) «2» .
الشاهد في الحديث:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقسمه بين الناس» .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
الشمائل النبوية:
1- بركة شعره صلّى الله عليه وسلّم، ودليله أنه أعطى شعر شقه الأيمن لأبي طلحة، زوج أم سليم
__________
(1) البخاري، كتاب: النكاح، باب: وأن تجمعوا بين الأختين ... ، برقم (5107) . مسلم، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، برقم (1449) .
(2) مسلم، كتاب: الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ... ، برقم (1305) .(2/323)
والدة أنس، رضي الله عنهم، وأمر صلّى الله عليه وسلّم أبا طلحة بتقسيم شعر شقه الأيسر على الناس، وعند مسلم: (فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين) ، ولفظ (اقسمه) يشعر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد من أبي طلحة رضي الله عنه العدل بين الناس في توزيع الشعر، ولولا علمه صلّى الله عليه وسلّم بعظيم بركة شعره، ما أمر بتقسيمه بين الناس. بل إنه أمر بمراعاة العدل في التقسيم.
يتفرع على ذلك إثبات بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما يخصه؛ إذ تم توزيع شعره بين الصحابة، رضي الله عنهم بالشعرة والشعرتين، ولولا حدوث البركة بالشعرة الواحدة، ما كان هناك حكمة من وراء توزيعها على الصحابة، ولك أخي القارئ أن تتصور الجهد الذي بذله أبو طلحة ليقسم شعر الشق الأيسر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بين الناس ومعلوم أن شعره صلّى الله عليه وسلّم كان كثيفا وطويلا.
2- عظيم اعتناء المولى- سبحانه وتعالى- بنبيه صلّى الله عليه وسلّم إذ جعل في كل شيء اتصل به عظيم البركة، من الشعر واللباس والأظافر والعرق ومكان الصلاة وفضلة الماء والوضوء، وبصاقه بل ونخامته التي كان الصحابة رضي الله عنهم يتبادرونها فيمسحون بها وجوههم، واقرأ أخي المسلم، ما ورد في البخاري في حديث صلح الحديبية الطويل، ما ذكره عروة بن مسعود لأصحابه من كفار قريش: (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده) .
ولا تتعجب أخي القارئ من سلوك الصحابة رضي الله عنه ولا تقول في نفسك: كيف يفعلون ذلك بالنخامة، وتظن أنك لو كنت مكانهم لاستقذرت ذلك؛ لأن الذي عاين وعايش أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس كالذي سمع، وإذا كان عرقه صلّى الله عليه وسلّم كان مثل حبات اللؤلؤ في جماله، وأطيب من المسك في ريحه، فلماذا نقيس نخامته صلّى الله عليه وسلّم بنخامة بقية الناس، حتى محجنه صلّى الله عليه وسلّم قد ثبتت له البركة لملامسة يد النبي صلّى الله عليه وسلّم فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزاة فأبطأ بي جملي، وأعيا فأتى عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «جابر؟» فقلت: نعم.
قال: «ما شأنك؟» قلت: أبطأ عليّ جملي، وأعيا فتخلّفت، فنزل يحجنه بمحجنه، ثمّ قال:
«اركب» . فركبت، فلقد رأيته أكفّه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) «1» .
__________
(1) البخاري، كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمر ... ، برقم: (2097) ، مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين، برقم (715) .(2/324)
الفائدة الثانية:
بالغ حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتبين ذلك من:
1- حرصهم على اقتناء شعر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث ورد عند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) . وما كان هذا إلا لتعظيمهم كل ما يتصل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا نقول الشعره، بل نقول الشعرة الواحدة منه، كانوا يرون أن من الخسارة أن تقع الشعرة على الأرض، ولا ينتفع أحد منها، وقد يكون ذلك أيضا، من باب إجلالهم للشعرة من أن تقع على الأرض التي يمشي الناس عليها بأقدامهم، وهذا ليس ببعيد ولا مستغرب.
2- رؤيتهم أن اقتناء شعرة واحدة من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إليهم من الدنيا وما فيها، لما رواه البخاري: (عن ابن سيرين قال: قلت لعبيدة: عندنا من شعر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها) . أي أن أحدهم لو خيّر بين الدنيا بما فيها من الأولاد والمال والحلائل من النساء، وبين شعرة واحدة، من شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم والله ما تردد ولاختار الشعرة، فهي أرجح عنده في الميزان من الدنيا وما فيها، فأي حب كان هذا الحب، وتنبه أخي القارئ، أن ابن سيرين لم يكن من الصحابة، ولكن كان من التابعين، أي أن الشعر كانوا يحتفظون به، مددا طويلة، وكانوا إما يتوارثونه أو يتهادونه فيما بينهم، لقول ابن سيرين عن شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم:
(أصبناه من قبل أنس) .
الفائدة الثالثة:
وهي منقبة عظيمة لأبي طلحة، حيث خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم وحده بشطر شعره الأيمن، وبقية الناس بالشطر الآخر.
رابعا: تبركهم بمكان صلاته صلّى الله عليه وسلّم:
عن محمود بن الرّبيع الأنصاريّ: (أنّ عتبان بن مالك؛ وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّن شهد بدرا من الأنصار، أنّه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري، وأنا أصليّ لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الّذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلّي بهم، ووددت يا رسول الله أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي فأتّخذه مصلّى.
قال: فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأفعل، إن شاء الله» . قال عتبان: فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر حين ارتفع النّهار فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذنت له فلم يجلس حتّى دخل البيت، ثمّ قال: أين تحبّ أن أصلّي من بيتك؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت) «1» .
__________
(1) البخاري، كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت، برقم (425) .(2/325)
الشاهد في الحديث:
قول عتبان بن مالك رضي الله عنه: (وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظيم بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم تقتصر هذه البركة على ما خرج منه فحسب، مثل: العرق، والتفل، والمجّة، والريق، والشّعر، والماء الذي خرج من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم بل تعدت تلك البركة إلى المكان الذي لامسه والتصق جسده به، والمكان الذي تعبد فيه لله- سبحانه وتعالى-، ولولا ثبوت هذه البركة ما لبى النبي صلّى الله عليه وسلّم طلب عتبان بن مالك رضي الله عنه بالحضور إلى بيته والصلاة فيه ليتخذه عتبان مصلى له، وترى كذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل البيت لم يصلّ في أي مكان، بل سأل عتبان رضي الله عنه أين تحب أن أصلي من بيتك؟
ليختار عتبان المكان المناسب الذي سيتمكن من التزامه في كل صلاة، ويتفرع على ما ذكره الفائدة التالية.
الفائدة الثانية:
المكان الذي تعبد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أحب إلى الله من المكان الذي لم يتعبد فيه صلّى الله عليه وسلّم وكذا التقرب إلى الله في مكان تقرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أرجى لقبول تلك العبادة عند الله، بل نجزم أن ثوابها أعظم، ودليله: أن عتبان بن مالك رضي الله عنه لما عجز عن أداء بعض الصلوات جماعة في المسجد لضعف بصره، ولشعوره أن أجر الجماعة في المسجد.
خاصة أنه كان إماما لقومه. قد يفوته لصلاته في بيته، طلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي له في بيته، فيتخذ ذلك المكان مصلى له، فيعظم أجره لصلاته في نفس المكان الذي تشرف بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه- فإن اعترض أحد وقال: ما وجه دلالة هذا الاستنباط؟ قلت له: إن عتبان رضي الله عنه لم يطلب هذا الطلب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل ضعف بصره، مع أنه كان من المؤكد يصلي في بيته ولو بعض النوافل، كما لم يطلب منه أن يأتي إلى مسجده فيصلي فيه مرة، حتى يتخذ تلك البقعة في المسجد مصلى له، وإنما طلب هذا الطلب لما اضطر إلى الصلاة في البيت بعض الفرائض التي يعجز أن يصليها في المسجد.
الفائدة الثالثة:
مشروعية أن يتحرى المسلم الأماكن التي ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعبد فيها ويقصد الصلاة فيها طمعا أن ينال بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم وينوي بذلك التقرب إلى الله عزّ وجلّ.
ومثاله الحجر الأسود الذي ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبّله، وكذا الأماكن التي ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى فيها بمسجده الشريف كمكان المنبر.(2/326)
تنبيه هام:
هل يجوز التبرك باثار أحد بخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ الجواب: نعم، قال الإمام النووي- رحمه الله- (في الحديث التبرك بالصالحين وآثارهم والصلاة في المواضع التي صلوا بها وطلب التبريك منهم) «1» . وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: (ويستفاد منه أن من دعي من الصالحين ليتبرك به أنه يجيب إذا أمن الفتنة) «2» .
وأضيف أنه يجب أن تتوفر شروط في الرجل الذي نلتمس منه البركة، وإليك أخي القارئ بعض تلك الشروط:
1- أن يكون متبعا للكتاب الكريم وسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهرا وباطنا، خاصة في باب العقائد والمحافظة على صلوات الجماعة والورع عن الحرام والقيام بالسنن والمندوبات.
2- ألا يحب أو يحرص على إظهار كراماته أمام الناس، وإذا حدثت هذه الكرامات دون قصد منه لا يفرح بها ولا ينبه الناس عليها، لأن من المفترض فيه أن يخشى الفتنة على نفسه، كما يخشى الرياء والسمعة.
3- ألا يبتغي بهذه الكرامات عرضا من أعراض الدنيا، كالأموال والمناصب والتقرب إلى الحاكم وغيرها.
والأولى عدم التوسع في التبرك باثار الصالحين مخافة وقوع العوام في الشرك خاصة في تلك الأزمنه المتأخرة.
الفائدة الرابعة:
وهي فوائد متفرقة ذكرها الحافظ ابن حجر والإمام النووي- رحمهما الله تعالى.
جواز إمامة الأعمى وجواز إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة ولا يكون من الشكوى.
جواز التخلف عن الجماعة في المطر والظلمة ونحو ذلك، واتخاذ موضع معين للصلاة في البيت، وإنما جاء في الحديث النهي عن إيطان موضع من المسجد للخوف من الرياء ونحوه.
إجابة الفاضل دعوة المفضول، والتبرك بالمشيئة والوفاء بالوعد، واستصحاب الزائر بعض أصحابه، إذا علم أن الداعي لا يكره ذلك.
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 161) .
(2) انظر فتح الباري (1/ 522) .(2/327)
تعليق: قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- في علة طلب عتبان بن مالك رضي الله عنه من النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة في بيته (ويحتمل إنما طلب بذلك الوقوف على جهة القبلة بالقطع) .
وأقول: إن هذا الاحتمال غير محتمل ألبتة، وذلك للأسباب التالية:
1- أن الوقوف على جهة القبلة بالقطع يقوم به النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فلا حاجة لسؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم الحضور للبيت للوقوف على جهة القبلة.
2- يستبعد أن صحابيّا مثل عتبان بن مالك رضي الله عنه لم يكن يصلي أيّا من النوافل في بيته، قبل أن ينكر بصره، أو أنه كان يصلي النوافل دون التأكد من جهة القبلة على سبيل القطع.
3- معرفة القبلة يكفي فيها تحديد اتجاهها، دون الحاجة إلى الصلاة، وإنما طلب عتبان بن مالك رضي الله عنه من النبي صلّى الله عليه وسلّم زيارته في بيته ليصلي فيه، فيتخذ رضي الله عنه هذا المكان مصلى.
4- ولو كانت الصلاة في بيت عتبان لمعرفة اتجاه القبلة، ما سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المكان الذي يحب أن يصلي فيه، ولصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في أي مكان من البيت، وعلم أهل البيت أين اتجاه القبلة.
خامسا: تبركهم بيديه صلّى الله عليه وسلّم:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات، فلمّا مرض مرضه الّذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنّها كانت أعظم بركة من يدي) «1» .
الشاهد في الحديث:
قول عائشة رضي الله عنها: (وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
عظيم بركة يد النبي صلّى الله عليه وسلّم لقول عائشة رضي الله عنها: (وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي) .
يتفرع على قول عائشة- رضي الله عنها-: (أعظم بركة) جواز استخدام هذا اللفظ (أعظم) بصيغة أفعل التفضيل من (عظيم) ، في جميع ما يخص النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا لا يتنافى مع التوحيد.
__________
(1) مسلم، كتاب: السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث: برقم (2192) .(2/328)
الفائدة الثانية:
حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفع أهله، لقول عائشة: (إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) . ويتفرع عليه مشروعية الرقية، وتكون بالقرآن، والأدعية المشروعة، الثابتة في السنة الصحيحة.
الفائدة الثالثة:
في مناقب عائشة رضي الله عنها:
1- حبها للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتمنيها شفاءه، ويدلنا على ذلك كثرة رقيتها له بالمعوذات لقولها:
(فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه) .
2- تعظيمها للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كانت تمسح جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده هو، مع أنها هي التي كانت تقرأ المعوذات، وما كانت تفعل ذلك إلا لاعتقادها أن يده صلّى الله عليه وسلّم أعظم بركة من يدها، وهي من؟، أم المؤمنين، وبنت أفضل الصحابة، الصديق رضي الله عنه وأحب الناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وانظر ماذا قالت لما قارنت بركة يدها مع بركة يد النبي صلّى الله عليه وسلّم هل قالت: أشد بركة أو أكثر بركة، لا، قالت: (أعظم بركة) . مع إيمانها رضي الله عنها أن ليدها بركة، حيث إن التفضيل لا يكون إلا بين اثنين قد اشتركا في أصل الشيء المفضل.
3- حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لها رضي الله عنها، حيث كان يمرّض صلّى الله عليه وسلّم في مرض موته في بيتها، وما كان ذلك إلا بأمره، فعن عائشة- رضي الله عنها-: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسأل في مرضه الّذي مات فيه يقول: «أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟» . يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتّى مات عندها. قالت عائشة: فمات في اليوم الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي فقبضه الله وإنّ رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثمّ قالت: دخل عبد الرّحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستنّ به فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: أعطني هذا السّواك يا عبد الرّحمن. فأعطانيه، فقضمته، ثمّ مضغته، فأعطيته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستنّ به وهو مستند إلى صدري) «1» .
وهذا يدل دلالة قاطعة على عظيم حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها، وكفاها شرفا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبض في بيتها، في يوم نوبتها، ورأسه الشريفة بين نحرها وسحرها. والسحر هو أسفل الصدر، بل أقول كفاها شرفا أنها آخر من لامس جسد النبي صلّى الله عليه وسلّم حيّا، وسيأتي ذلك تفصيلا في فصل «يوم الوفاة النبوية» .
الفائدة الرابعة:
قد تحدث الرقية، بشيء معظم، وهو القرآن الكريم، من قبل نفث
__________
(1) البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ... برقم: (4450) .(2/329)
زكي، وهو نفث عائشة رضي الله عنها وبيد عظيمة البركة، وهي يد النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع توفر كل تلك الأسباب المباركة، قد لا يحدث الشفاء لأن أجل الله، - سبحانه وتعالى-، قد سبق بالموت، أو قد يتأجل الشفاء لحكمة يعلمها الله- تبارك وتعالى-، وفي كل الأحوال، قد ثبت الأجر، إن شاء الله، للراقي والمرقي، إذا ما تمت الرقية، بما يشرع من الكتاب والسنة، وكانت من قلب توفر فيه حسن الإخلاص وتمام اليقين، أما إذا كانت الرقية بوسيلة غير شرعية، فقد ثبت الوزر، حتى وإن تم الشفاء، وقد يكون الشفاء تم استدراكا من الله للعبد الذي يأبى اتباع الكتاب والسنة، فلا نغتر.
الفائدة الخامسة:
لم تكن عائشة- رضي الله عنها- وحدها هي التي تتبرك بيديه الشريفتين، بل كان ذلك نهج الصحابة رضي الله عنهم فعن أبي جحيفة قال: (قام النّاس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم. قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثّلج، وأطيب رائحة من المسك) «1» .
سادسا- تبركهم بعرقه صلّى الله عليه وسلّم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدخل بيت أمّ سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت. فقيل لها: هذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نام في بيتك على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها «2» ، فجعلت تنشّف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما تصنعين يا أمّ سليم؟» فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا. قال:
«أصبت» ) «3» .
الشاهد في الحديث:
قول أم سليم: (يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا) .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
في الشمائل النبوية:
1- عظيم بركة عرقة وشعره صلّى الله عليه وسلّم حيث رد النبي صلّى الله عليه وسلّم على أم سليم رضي الله عنها لما قالت (يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا) . بقوله: «أصبت» . أي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أقر أم سليم، على
__________
(1) البخاري، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي ... برقم: (3553) .
(2) العتيدة: وعاء يوضع فيه ما يشرف ويعظم من المتاع.
(3) مسلم، كتاب: الفضائل، باب: طيب عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم ... ، برقم (2331)(2/330)
كل ما فعلت، من عصر العرق الذي تصبب منه على قطعة الأديم التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينام عليها، ووضع ذلك العرق في قوارير لحفظه، ومن ثم سقايته للصبيان للاستشفاء، وكان يمكن أن يسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمع من أم سليم، ويكون سكوته أيضا إقرارا منه صلّى الله عليه وسلّم على فعلها، ولكن رده بقوله صلّى الله عليه وسلّم (أصبت) أبلغ من سكوته، حيث دلّ هذا على رضاه التام بكل ما فعلت، وأن فعلها قد وافق الصواب، والصواب هو الحق، فكأنه قد زكى كل ما فعلت.
أما بركة شعره صلّى الله عليه وسلّم فيؤخذ مما ورد في رواية البخاري (فإذا نام النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة) .
2- طيب عرقه صلّى الله عليه وسلّم حيث كانت أم سليم رضي الله عنها تأخذ هذا العرق فتخلط به طيبها، ورد عند البخاري: (فإذا نام النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك) . والسك هو طيب مركب، وعنده أيضا قولها للنبي صلّى الله عليه وسلّم: (عرقك أذوف به طيبي) .
أي أخلط به طيبي، وعند مسلم: (هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب) ، أي أن عرقه صلّى الله عليه وسلّم كانوا يطيبون به الطيب، وبذلك يكون عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم وشعره للاستطباب والتطيب.
3- ثبوت علو منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومكانته الرفيعة عند ربه، حيث جعل الله- سبحانه وتعالى- شعره وعرقه يستخدمان للاستطباب والتطيب، واللذان هما في حق غيره من الناس من المستقذرات، تخيل أخي القارئ، أن ما يكون في حقنا مستقذرا، يكون في حقه صلّى الله عليه وسلّم كامل البركة والخير، بل يتوارثها الناس جيلا بعد جيل، وتأمل أخي القارئ قول أم سليم: (هو أطيب الطيب) . أي أنها ما رأت طيبا أجمل وأزكى رائحة، من عرقه على اختلاف أنواع الطيب وغلو ثمنه.
الفائدة الثانية:
في مناقب أم سليم وأنس بن مالك رضي الله عنهما:
1- تعظيم أم سليم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبين ذلك من:
أ- حرصها الدائم على الاحتفاظ بعرق النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما نام في بيتها، ورد في إحدى روايات البخاري: (أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلّى الله عليه وسلّم نطعا فيقيل عندها على ذلك النطع فإذا نام النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذت من عرقه وشعره) . فهذه الرواية تثبت أن الحادثة كانت تتكرر، وفي كل مرة تحرص أم سليم- رضي الله عنها- أن تأخذ عرقه صلّى الله عليه وسلّم فلا هي قالت مرة: (عندي ما يكفيني) ، ولا ملت من تكرار جمع الشعر والعرق، وهذا يدل أيضا على عظيم الحب.(2/331)
ب- حرصها رضي الله عنها على أخذ كل ما يخرج من النبي صلّى الله عليه وسلّم من عرق، وألا يفوتها شيء منه، رغم أن الأمر كان يتكرر في بيتها، ففي الحديث: (فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها) . ولفظ «تعصره» يوحي بحرصها على تجميع كل نقطة عرق.
ج- من أجلّ مظاهر تعظيمها رضي الله عنها لعرق النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها كانت تحفظ ذلك العرق في عتيدتها، وهو الصندوق المعد لحفظ المتاع النفيس، ومما يدل على أن هذا الصندوق كانت تحافظ عليه مغلقا حرصا على ما فيه قول الراوي: (ففتحت عتيدتها) . فالفارق بيننا وبينهم شاسع، كالفارق بين الثرى والثريا، خزائنهم يحفظون فيها آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم وخزائننا نحفظ فيها الورق والذهب.
2- نوم النبي صلّى الله عليه وسلّم على فراشها، الذي هو في بيتها، وأي منقبة يمكن أن يحوزها أي صحابي، أعظم من تلك المنقبة، ولا أدري كيف كان شعورها إذا أوت بالليل لتنام على فراش نام عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ولامس جسده ذلك الفراش.
3- ادخارها رضي الله عنها، عرق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لتداوي به أعز ما تملك وهم صبيانها، قالت:
(نرجو بركته لصبياننا) .
4- لم يكن هذا التعظيم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل أم سليم وحدها، بل كان من قبل أنس بن مالك، رضي الله عنه؛ إذا أوصى عند موته أن يجعل في حنوطه، وهو العطر الذي يطيب به الميت، من الطيب الذي كان يخلط به عرق رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فعند البخاري من حديث ثمامة: (فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه) ، ولولا أن الأمر كان يشغله ويهتم به في أوقات صحته، ما تذكره يوم وفاته رضي الله عنه. وتدبر أخي القارئ كم مكث هذا الطيب عقودا طويلة عند أنس رضي الله عنه حتى مات.
سابعا: التبرك بأثر قدحه الذي شرب فيه صلّى الله عليه وسلّم
عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أقبل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومئذ حتّى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثمّ قال: «اسقنا يا سهل» . فخرجت لهم بهذا القدح، فأسقيتهم فيه فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه. قال: ثمّ استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له) «1» .
__________
(1) البخاري، كتاب: الأشربة، باب: الشرب من قدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم: (5637) ، مسلم، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد ... ، برقم (2007) .(2/332)
في الحديث بيان ما كان عليه الصحابة والتابعون من تعظيم آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم والحرص على اقتنائها والتبرك بها، ويظهر ذلك من الأمور التالية:
1- احتفاظ سهل بن سعد رضي الله عنه بالقدح الذي شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم كل هذه المدة الطويلة، وما يتصور أن قدحا يبقى مثل تلك الفترة الزمنية الطويلة إلا إذا حافظ عليه صاحبه أشد المحافظة.
2- الظاهر من الحديث- والله أعلم- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشرب من هذا القدح إلا مرة واحدة، عند ما نزل سقيفة بني ساعدة، ورد في الحديث على لسان سهل بن سعد:
(فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه) ، ولو تكرر شرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه أكثر من مرة لحرص سهل أن يذكر ذلك، وهذا يدل على تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لآثار النبي صلّى الله عليه وسلّم والحرص على التبرك بها والمحافظة عليها بأقل مماسة أو ملامسة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا قدح لم يشرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا مرة واحدة ويكون كل ذلك الحرص عليه.
3- حرص الصحابة على إعلام التابعين باثار النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل وحرصهم أيضا على أن ينال التابعون شرف ملامسة تلك الآثار وبركتها، لأن أبا حازم راوي الحديث ما علم أن القدح الذي شرب فيه عند سهل بن سعد هو نفسه الذي شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بإخبار سهل له، بل يمكن أن يقال: إن سهلا رضي الله عنه كان من حفاوته بضيوفه وحرصه على حسن ضيافتهم أنه كان يسقيهم من هذا القدح المبارك.
4- حرص التابعين على اقتناء آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله- تعالى- يسأل سهلا أن يهب له القدح الذي شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما فعل ذلك إلا حرصا منه على أن ينال بركة ملامسة ما لامسه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده وفمه، وقد فعل ذلك الخليفة الصالح وهو الذي يعلم كراهة سؤال الغير، ولكن إذا كان الأمر يتعلق باثار النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا حرج عندهم، فكأن هذا الخليفة الراشد استطاع أن يزهد في الدنيا وزينتها، ولكن لم يستطع أن يزهد في قدح شرب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: (ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز فوهبه له) .
5- وإن تعجب أخي القارئ مما ذكر، فالعجب كل العجب هو اعتقاد الصحابة الجازم ومن تابعهم أن بركة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي حلت في القدح الذي شرب فيه مرة واحدة تبقى فيه فلا تذهب بكثرة الشاربين والملامسين لهذا القدح وبطول المدة التي تبقى فيها القدح.(2/333)
وانتقال القدح من الصحابة إلى التابعين هو من جنس ما ذكر في باب: (التبرك بشعره صلّى الله عليه وسلّم) ، فقد توارث الصحابة والتابعين شعرة واحدة من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأختم بما قاله الإمام النووي- رحمه الله- (في الحديث التبرك باثار النبي صلّى الله عليه وسلّم وما مسه أو لبسه أو كان منه فيه سبب، وهذا نحو ما أجمعوا عليه وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغير ذلك، ومن هذا إعطاؤه صلّى الله عليه وسلّم أبا طلحة شعره ليقسمه بين الناس، وإعطاؤه صلّى الله عليه وسلّم حقوه تكفن فيه بنته رضي الله عنها، وجعله الجريدتين على القبرين، وجمعت بنت ملحان عرقه صلّى الله عليه وسلّم وتمسحوا بوضوئه صلّى الله عليه وسلّم ودلكوا وجوههم بنخامته، وأشباه هذه كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل ذلك واضح لا شك فيه) «1» .
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، (13/ 179) .(2/334)
الباب السابع أيام من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم(2/335)
يوم الهجرة المباركة
عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: لم أعقل أبويّ قطّ إلّا وهما يدينان الدّين ولم يمرّ علينا يوم إلّا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النّهار بكرة وعشيّة فلمّا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتّى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدّغنة وهو سيّد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي، قال ابن الدّغنة: فإنّ مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنّك تكسب المعدوم وتصل الرّحم وتحمل الكلّ وتقري الضّيف وتعين على نوائب الحقّ فأنا لك جار ارجع واعبد ربّك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدّغنة فطاف ابن الدّغنة عشيّة في أشراف قريش فقال لهم: إنّ أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرّحم ويحمل الكلّ ويقري الضّيف ويعين على نوائب الحقّ فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدّغنة وقالوا لابن الدّغنة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره فليصلّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنّا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدّغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربّه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثمّ بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدّغنة فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنّا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربّه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصّلاة والقراءة فيه وإنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل وإن أبى إلّا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ إليك ذمّتك فإنّا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة: فأتى ابن الدّغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الّذي عاقدت لك عليه فإمّا أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إليّ ذمّتي فإنّي لا أحبّ أن تسمع العرب أنّي أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإنّي أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بمكّة فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين: «إنّي أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين» وهما الحرّتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهّز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «على رسلك فإنّي أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال: «نعم» فحبس أبو بكر(2/337)
نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر وهو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظّهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقنّعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمّي والله ما جاء به في هذه السّاعة إلّا أمر قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «أخرج من عندك» . فقال أبو بكر: إنّما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: فإنّي قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصّحابة بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» . قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بالثّمن» . قالت عائشة: فجهّزناهما أحثّ الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سمّيت ذات النّطاقين قالت: ثمّ لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شابّ ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكّة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلّا وعاه حتّى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظّلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتّى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كلّ ليلة من تلك اللّيالي الثّلاث واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر رجلا من بني الدّيل وهو من بني عبد بن عديّ هاديا خرّيتا والخرّيت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السّهميّ وهو على دين كفّار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدّليل فأخذ بهم طريق السّواحل قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرّحمن بن مالك المدلجيّ وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أنّ أباه أخبره أنّه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفّار قريش يجعلون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر دية كلّ واحد منهما من قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتّى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إنّي قد رأيت آنفا أسودة بالسّاحل أراها محمّدا وأصحابه قال سراقة: فعرفت أنّهم هم فقلت له إنّهم ليسوا بهم ولكنّك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثمّ لبثت في المجلس ساعة ثمّ قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجّه الأرض وخفضت عاليه حتّى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرّب بي حتّى دنوت منهم(2/338)
فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الّذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرّب بي حتّى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتّى بلغتا الرّكبتين فخررت عنها ثمّ زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلمّا استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السّماء مثل الدّخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الّذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتّى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: إنّ قومك قد جعلوا فيك الدّية وأخبرتهم أخبار ما يريد النّاس بهم وعرضت عليهم الزّاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلّا أن قال: أخف عنّا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثمّ مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزّبير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقي الزّبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشّأم فكسا الزّبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة فكانوا يغدون كلّ غداة إلى الحرّة فينتظرونه حتّى يردّهم حرّ الظّهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلمّا أوا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مبيّضين يزول بهم السّراب فلم يملك اليهوديّ أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدّكم الّذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السّلاح فتلقّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرّة فعدل بهم ذات اليمين حتّى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل فقام أبو بكر للنّاس وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممّن لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحيّي أبا بكر حتّى أصابت الشّمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أبو بكر حتّى ظلّل عليه بردائه فعرف النّاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك فلبث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسّس المسجد الّذي أسّس على التّقوى وصلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ ركب راحلته فسار يمشي معه النّاس حتّى بركت عند مسجد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو يصلّي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتّمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل» ثمّ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتّى ابتاعه منهما ثمّ بناه مسجدا وطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم اللّبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللّبن:(2/339)
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربّنا وأطهر
ويقول:
اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
فتمثّل بشعر رجل من المسلمين لم يسمّ لي قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تمثّل ببيت شعر تامّ غير هذا البيت «1» .
بعض فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: أدبه الجم صلّى الله عليه وسلّم
مع الخالق- تبارك وتعالى- ومع المخلوقين:
1- أدبه صلّى الله عليه وسلّم مع الخالق:
فمع كل ما كان يلاقيه صلّى الله عليه وسلّم من أذى الكفار، البدني والنفسي، والتضييق عليه في الدعوة والتعبد، إلا أنه لم يخرج حتى أذن الله له في الخروج من مكة مهاجرا، وهذا تكليف شرعي لجميع الأنبياء ألا يخرجوا حتى يؤذن لهم، وما خرج منهم أحد- فيما نعلم- بدون إذن إلا يونس عليه السلام، قال صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» وقال صلّى الله عليه وسلّم في الثانية: «فإني قد أذن لي في الخروج» .
ويتفرع عليه: أن الخروج للهجرة يختلف فيه الأنبياء عن الناس اختلافا بينا، حيث إن عامة الناس، بما فيهم خير الأمة الصديق رضي الله عنه، يخرجون وقتما شاؤا، أما الأنبياء فلا.
2- أدبه صلّى الله عليه وسلّم مع المخلوقين:
فكان صلّى الله عليه وسلّم يستأذن قبل دخول البيوت، ولو كان صاحب البيت أقرب الناس إليه، ورد في الحديث: «فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن فأذن له» .
الفائدة الثانية: حكمته صلّى الله عليه وسلّم:
وهي ظاهرة جدّا في حادثة الهجرة، وتتمثل في:
1- أخذه صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الحيطة والحذر في الإعلان عن موعد الهجرة، وفي تحركاته صلّى الله عليه وسلّم أثناء الهجرة:
فأما الأولى: ففي الحديث: «فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: أخرج من عندك» حتى لا يسمع
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، برقم (3906) .(2/340)
أحد بخروجه صلّى الله عليه وسلّم.
أما الثانية: فقد مكث في جبل ثور ثلاث ليال على سبيل الاستخفاء لعلمه صلّى الله عليه وسلّم أن المشركين سيرسلون في أثره من يأتي بخبره، ورد بالحديث: «ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال» .
2- إرساله صلّى الله عليه وسلّم العيون واختيار أحسنها وإخفاء أمره على العدو، فقد اختار صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبي بكر لهذه المهمة، حيث توفرت فيه الصفات المطلوبة، فهو شاب حديث السن يتحمل الأعباء الجسدية، وهو حاذق سريع الفهم يتحمل الأعباء الفكرية، ورد في الحديث: «وهو غلام شاب ثقف لقن» ، أما التعمية على العدو فكان عبد الله يرجع إلى مكة آخر الليل حتى يظن أهلها أنه بات معهم «فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك» .
3- استخدام الدليل لمعرفة الطريق واختيار أحسنه وأعلمه ولو كان كافرا، فقد استأجر صلّى الله عليه وسلّم رجلا ماهرا بالطريق، بينه وبين مشركي مكة عهد وأمان، ورد في الحديث: «قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش» ومن كان على دينهم لن يكون موضع شكهم.
4- تضليل العدو، فقد طلب صلّى الله عليه وسلّم من سراقة رضي الله عنه أن يخفي أمره عن كفار مكة وما طلب منه غير ذلك، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: «قد كفيتكم ما هاهنا فلا يلقى أحدا إلى رده» وورد أيضا «ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا» .
5- تأمين الطعام والشراب للسفر الطويل، فقد كلف صلّى الله عليه وسلّم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يرعى عليهما، وورد في الحديث أيضا: «قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهم سفرة في جراب» والسفرة هي الزاد الذي يصنع للمسافر.
الفائدة الثالثة: حبه صلّى الله عليه وسلّم للإنفاق في سبيل الله:
ومظاهر ذلك:
1. اشتراطه صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع لأبي بكر رضي الله عنه ثمن الراحلة التي سيهاجر بها إلى المدينة، ورد بالحديث: «قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بالثمن» «1» .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، برقم (2138) من حديث عائشة رضي الله عنها.(2/341)
قال الإمام ابن حجر- رحمه الله- نقلا عن بعض شيوخ المغرب قولهم: «أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه» «1» .
2- لم يأخذ صلّى الله عليه وسلّم شيئا من مال سراقة رضي الله عنه، مع أنه هو الذي عرض عليه ذلك، قال سراقة رضي الله عنه: «وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني» كناية عن أنهما لم يأخذا منه شيئا. وروى مسلم في صحيحه قول سراقة: «فإن غنمك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك قال: لا حاجة لي في إبلك» «2» .
3- رفضه صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ أرض الغلامين لبناء المسجد إلا بثمنه، ورد في الحديث: «ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا» .
الفائدة الرابعة: شجاعته صلّى الله عليه وسلّم:
لقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يلتفت في قراءته وهو يعلم أن أهل مكة يطلبونه ليوقعوا به، قال سراقة رضي الله عنه في الحديث: «سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات» وأعتقد أن كثرة التفات أبي بكر رضي الله عنه كانت خوفا على حياة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الخامسة: حسن تعبده صلّى الله عليه وسلّم لربه:
حيث كان يصلي لربه- تبارك وتعالى- وهو مطلوب من أعدائه، والصلاة في هذا الموقف لهي أدل دليل على افتقار العبد لله، وحسن تضرعه إليه، وطلبه العون والمدد منه سبحانه وتعالى.
الفائدة السادسة: تواضعه صلّى الله عليه وسلّم:
يظهر ذلك في موضعين من الحديث:
الأول: لم يعرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل المدينة من لم يره من قبل، فظن الناس أن أبا بكر هو النبي، ولو كان صلّى الله عليه وسلّم قد ميز نفسه بشيء في اللباس أو المشية أو الدابة لعرفه الناس، ففي الحديث: «جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحسبه أبا بكر» .
الثاني: نقله صلّى الله عليه وسلّم اللبن مع أصحابه لبناء المسجد، ويؤخذ منه أيضا، حبه صلّى الله عليه وسلّم الاستزادة
__________
(1) انظر فتح الباري (7/ 235) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة، ويقال له حديث الرحل، برقم (2009) .(2/342)
من أعمال الخير، وعدم الزهد فيها، والحرص على استرضاء الرب- تبارك وتعالى-، وحكمته صلّى الله عليه وسلّم في سياسة الناس حيث يشاركهم العمل ليكون أهون عليهم وأطيب على نفوسهم، ففي الحديث: «وطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
» .
الفائدة السابعة: عناية الله- سبحانه وتعالى- بمسجد نبيه صلّى الله عليه وسلّم:
لقد اعتنى الله- سبحانه- بمسجد نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وليس ذلك من جهة مضاعفة أجر الصلاة فيه، أو احتوائه على روضة من رياض الجنة، أو الترغيب في شد الرحال إليه، ولكن بلغت العناية الربانية به من حيث المكان الذي بني عليه المسجد فهو مكان اختاره الله- سبحانه وتعالى-، حيث أمر الناقة أن تبرك فيه، «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله- المنزل» .
الفائدة الثامنة: حسن ثقته صلّى الله عليه وسلّم بربه- سبحانه وتعالى- وأنه ناصره ومؤيده:
ورد في الحديث: «فقلت- أي أبو بكر-: يا رسول الله: أوتينا- أي أدركنا سراقة-؛ فقال: لا تحزن إن الله معنا» .
الفائدة التاسعة: سرعة استجابة الله- تبارك وتعالى- لدعائه صلّى الله عليه وسلّم:
حيث دعا على سراقة في الأولى فقال: «اللهم اصرعه» - أي سراقة- فصرعه الفرس، ثم دعا لسراقة في الثانية فنجاه الله في الحال ورد في الحديث: «قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا» .
ويؤخذ منه أيضا الإيجاز في الدعاء، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم مع الخطر الذي أحدق به وأوشك أن يقع به، ما زاد في دعائه عن قوله: «اللهم اصرعه» ، وأعتقد أن هذا الإيجاز يدل على حسن الثقة بالله، وأنه- سبحانه وتعالى- يسمع ويرى، ولو كان الإسهاب والإطناب والتطويل في الدعاء أكثر عبودية لله وأرجى للإجابة لكان أولى الناس به هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ألم تر كيف دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم على مضر لما آذوه وعادوه؟ فقال في كلمات مختصرات: «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسنين يوسف» .(2/343)
الفائدة العاشرة: قدرة الله- تبارك وتعالى- العجيبة:
حيث ساخت يدا فرس سراقة جدّا- أي غاصت في الأرض- حتى بلغتا الركبتين، وهذا من دلائل قدرة الله- تبارك وتعالى-، ومن دلائل صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم، والدليل على ذلك أن سراقة أسلم في الحال وعلم أنها آية قال في الحديث: «ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها» ، ولم تكن هذه هي الآية الوحيدة التي حمى الله- تبارك وتعالى- بها نبيه صلّى الله عليه وسلّم وشرح بها قلب سراقة للإيمان، بل هناك آية أخرى؛ وهي: أن الأزلام- وهي أقداح كانوا يقترعون بها في الجاهلية لإنفاذ أمر ما- كالقرعة الآن- كانت تخرج كل مرة بعدم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع تكرار سراقة للاستقسام، قال سراقة: «فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره» .
الفائدة الحادية عشرة: إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن يؤنس ويطمئن قلب نبيه صلّى الله عليه وسلّم:
فأراه دار هجرته، وهو في مكة لم ينتقل منها بعد، ورد في الحديث: «قد رأيت دار هجرتكم رأيت سبخة- وهي الأرض المالحة التي لا تكاد تنبت- ذات نخل بين لابتين» ولا مانع شرعا ولا عقلا أن تكون رؤية بالعين. وهذا الذي نعتقده.
الفائدة الثانية عشرة: بره صلّى الله عليه وسلّم برحمه:
حيث اختار صلّى الله عليه وسلّم أقرب أهل المدينة منه رحما فنزل عندهم، ورد عند مسلم: «فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم» .
قال الإمام النووي- رحمه الله-: «وفيه فضيلة صلة الرحم سواء قربت القرابة والرحم أم بعدت، وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيها أقارب ينزل عندهم يكرمهم بذلك» «1» .
الفائدة الثالثة عشرة: حب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإجلاله وتوقيره النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيثاره له على نفسه في كل شيء:
وأعتقد أنه رضي الله عنه قد بلغ المنتهى في كل ما ذكر، وسأذكر شواهد ذلك من حديث الهجرة بشيء من التفصيل. ثم أعقبه بحب الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن هذا الحب
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 151) .(2/344)
والإجلال من أعظم دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم.
1- افتداؤه رضي الله عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحب ما عنده؛ بأبيه وأمه:
ورد في الحديث: «فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» ؛ أي: أفديه بأبي وأمي. وهذا يدل على أن حب النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مقدما عنده على حب والديه، فود لو ضحى بهما في سبيل إرضائه وسلامته صلّى الله عليه وسلّم ولا غرابة في ذلك فإن فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم على عموم الأمة أعظم وأظهر من فضل الوالدين.
2- حبس نفسه رضي الله عنه في مكة، رغم عدم قدرته على الاستعلان بدينه، وتحزب أهل مكة عليه:
حتى إنهم أجبروا سيد القارة أن يرد عليه ذمته، فعل ذلك طمعا في صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى دار الهجرة، وطاعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أمره له بعدم الخروج، ففي الحديث: «فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه» .
3- خوفه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أ. خوفه على النبي صلّى الله عليه وسلّم من العدو، ورد بالحديث على لسان سراقة: «حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات» .
ب. خوفه عليه صلّى الله عليه وسلّم من أشعة الشمس وحرها، وهو أدنى ما يمكن أن يصيب الرجل في السفر الطويل، ولكن هذا أيضا يأباه أبو بكر رضي الله عنه على الحبيب صلّى الله عليه وسلّم ففي الحديث:
«حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه» .
ج. خوفه رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم من هوام الأرض، وحرصه على حمايته منها، ولو أدى ذلك إلى عدم نومه، ففي الحديث على لسانه رضي الله عنه: «ثم قلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام وخرجت أنفض ما حوله» ، ولو أنه رضي الله عنه نام بعد أن اطمأن على نوم النبي صلّى الله عليه وسلّم لكانت فضيلة ظاهرة له، ولكنه لم ينم وآثر السهر، في سفر طويل ينتظره، مخافة أن يصيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدنى أذى وهو نائم، وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه قد أبى أن ينام أثناء نومة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان وظف نفسه لخدمة الحبيب وهو يقظان، ولا أظن أبدا أن الصديق ينام والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقظان، فمتى كان ينام رضي الله عنه.
4- عنايته رضي الله عنه بكل ما يخص النبي صلّى الله عليه وسلّم:
أ- عنايته بفراشه صلّى الله عليه وسلّم، من حيث التسوية والظل والراحة أثناء النوم، قال رضي الله(2/345)
عنه: «فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم في ظلها ثم بسطت عليه فروة» .
ب. عنايته رضي الله عنه بوضوء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشرابه قال رضي الله عنه: «ومعي أداة أرتوي فيها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليشرب منها ويتوضأ» .
ج. عنايته رضي الله عنه بغذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، من حيث نظافته ومناسبته للشرب، أما نظافته: فقد قال رضي الله عنه للراعي في إحدى روايات البخاري: «ثم أمرته أن ينفض ضرعه من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه» «1» ، وأما مناسبته للشراب: فقد حرص رضي الله عنه أن يكون طعامه سائغا لذيذا، وليس مجرد طعام يتغذى به، لذلك عمل على تبريده قبل تقديمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا غاية الاجتهاد منه رضي الله عنه في إرضاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ورد في رواية للبخاري: «وقد جعلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله» .
5- فرحه ورضاه، بل وسعادته القلبية، بما يسعد النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ورد عند البخاري: «فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت» كيف كان هذا الحب، لا يشعر أبو بكر رضي الله عنه بالرضا. وهو شعور قلبي لا يشعر به الإنسان إلا إذا حدث ما يفرحه ويسعده ويذهب عنه ما يسوؤه ويحزنه. إلا إذا تيقن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد شرب حتى ارتوى. وذهب عنه ما يسوؤه من ظمأ وعطش.
6- شفقته رضي الله عنه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم:
ومن مظاهر ذلك في الحديث كراهيته أن يوقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، فلا حرج بالنسبة إليه بعد أن أعد الغذاء أن يقف به، ينتظر أن يستيقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم من نفسه، وهذا أهون عليه أن يقطع على النبي صلّى الله عليه وسلّم نومته، وهو في حاجة إليها، أو أنه لم يأخذ كفايته منها. ففي رواية مسلم: «وكرهت أن أوقظه من نومه فوافقته استيقظ» .
هذا طرف من حب وإجلال وتوقير النبي صلّى الله عليه وسلّم في قلب وعقل صديق هذه الأمة، وتدبر أخي القارئ أن هذا السلوك القويم، والنهج الجميل، لم يحدث من رجل من عموم المسلمين المغمورين، بل كان هذا السلوك من رجل حسيب نسيب شريف، غني في قومه، صاحب
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: اللقطة، باب: من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان، برقم (2439) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.(2/346)
أموال وتجارة، وصاحب عقل وحكمة، يشهد له بذلك القريب والبعيد، بل شهد له عدوه من غير جلدته، وهو سيد القارة، فهل بعد هذا الحب من حب، وأقول: أين نحن من حب وتوقير وإجلال الصحب الكرام للنبي صلّى الله عليه وسلّم، صحيح أننا لن نصل إلى معشار ما وصلوا إليه، لكن علينا أن نجتهد ونعمل ونسدد ونقارب، فالله برحمته ومنته يقبل القليل ويباركه، ويعفو عن الكثير من التقصير، وأسأل أخي المسلم: لماذا فعل الصديق مع نبي الأمة كل هذا؟ والإجابة معروفة، لقد رأى من النبي صلّى الله عليه وسلّم كل خير، وعدم معه كل شر، مع قوة يقين الصديق رضي الله عنه وطمعه في رضى ربه.
الفائدة الرابعة عشرة: حب الصحابة- رضي الله عنهم- للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
ويتبين لنا في المواقف التالية:
1- خروجهم كل يوم إلى الحرة لاستقبال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يردهم إلى بيوتهم إلا حر الظهيرة، وهذا يدل على شوقهم الشديد لرؤيته صلّى الله عليه وسلّم، فما استطاعوا أن يصبروا في بيوتهم حتى يأتيهم خبر مقدمه الميمون صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: «وسمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة» «1» حدث هذا منهم رضي الله عنهم وهم لم يروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فكيف كان حالهم بعد أن رأوه.
2- فرحهم جدّا بمقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن فرحتهم صعدوا أسطح البيوت ومشوا في الطرقات يتغنون باسمه صلّى الله عليه وسلّم ابتهاجا وسرورا، فعند مسلم: «فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله» ، وفي إحدى روايات البخاري: «فقيل في المدينة: جاء نبي الله فأشرفوا ينتظرون ويقولون: جاء نبي الله جاء نبي الله» «2» .
3- احتفاؤهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وملازمتهم له، ورد في الحديث: «ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة» وفي رواية أخرى عند البخاري: «فركب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح» .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، برقم (3906) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، برقم (3911) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(2/347)
4- إعلان الأنصار. رضي الله عنهم. من بداية مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم سيطيعونه ويحمونه، ليس هو فحسب، بل هو وصاحبه الصديق رضي الله عنه، ورد في إحدى روايات البخاري: «ثم بعث إلى الأنصار فجاؤا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين» .
5- حب كل منهم أن يتشرف بنزول النبي صلّى الله عليه وسلّم عنده، ورد عند مسلم على لسان الصديق رضي الله عنه: «فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
الفائدة الخامسة عشرة: بعض مناقب الصديق رضي الله عنه:
1- حكمته رضي الله عنه، وتظهر جلية في مداراته وتعمية أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم على المشركين، ورد في لفظ البخاري: «أقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة. أي في طريقه إلى المدينة.
وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ونبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديناي السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير» .
ويظهر من قول أبي بكر رضي الله عنه تجنبه الكذب، واستخدامه المعاريض، وحبّه الثناء على النبي صلّى الله عليه وسلّم والاعتراف بفضله وجميله.
2- صلته الوثيقة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتشرّفه بحضور النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته كل يوم، ورد بالحديث على لسان عائشة- رضي الله عنها-: «ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية» .
3- حسن عبادته لربه- تبارك وتعالى- ويتضح ذلك من:
أ. بناؤه مسجدا بفناء داره، يصلي فيه ويقرأ القرآن ويسمع قراءته المشركين.
ب. بكاؤه رضي الله عنه عند قراءة القرآن، ورد في الحديث: «وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن» ؛ أي: أن البكاء كان يغلبه.
قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه» «1» ، وإعلانه رضي الله عنه بالقرآن يدل على شجاعته وبذل نفسه في سبيل الله- تبارك وتعالى-.
__________
(1) انظر فتح البارى (7/ 234) .(2/348)
4- بذل نفسه وماله في سبيل الله عز وجل، حيث أراد الخروج إلى الحبشة وما رده إلا سيد القارة، وبين رضي الله عنه أنه ما أراد الخروج إلا لعبادة ربه عز وجل، كما استأذن رضي الله عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم للخروج مرة أخرى ومنعه النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بذل المال تجهيزه رضي الله عنه راحلتين، والعناية بهما أربعة أشهر استعدادا للهجرة.
5- حسن توكله على الله عز وجل وثقته به، حيث قال لما رد جوار سيد القارة: «فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل» .
6- أخلاقه الحميدة رضي الله عنه، والتي شهد بها المشركون، حيث قال له سيد القارة: «فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» ، وهي نفس الأخلاق التي أثنت بها خديجة- رضي الله عنها- على النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث بدء الوحي.
هذا هو صديق الأمة أبو بكر رضي الله عنه وما ذكر في حقه قليل من كثير، وإن كانت أعظم مناقبه وأعلاها رتبة وأشرفها درجة وأرفعها مكانة، هي حب النبي صلّى الله عليه وسلّم له ويظهر ذلك جليّا في اختياره رضي الله عنه ليكون الصاحب والرفيق للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الهجرة المباركة.
وقد ذكرت مناقبه رضي الله عنه بشيء من التفصيل لترى الأمة كيف ربّى النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فمناقب الصديق شمائل للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة السادسة عشرة: مناقب بعض الصحابة- رضي الله عنهم- جميعا:
1- فضل أم المؤمنين عائشة وأسماء- رضي الله عنهما- منذ نعومة أظفارهما: حيث قامت عائشة- رضي الله عنها- بتجهيز متاع السفر وصناعة الطعام ووضعه في الجراب، وقامت أسماء. رضي الله عنها. بربط فم الجراب بعد شق نطاقها قطعتين، ويكفيهما شرفا وفخرا أن زاد ومتاع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رحلته إلى الله. سبحانه وتعالى. قد خرج من تحت أيديهما ومن بيتهما.
2- حب الصحابة. رضي الله عنهم. لفعل الخير والإنفاق في سبيل الله، ليس من الرجال والنساء، بل من الغلمان والأيتام الذين هم في أشد الحاجة إلى المال، ورد في الحديث: «ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا» .(2/349)
الفائدة السابعة عشرة: دروس وعبر مستفادة من الهجرة المباركة:
وقد ذكرت تلك الفوائد على حسب ورودها بالحديث ليسهل الرجوع إليها:
1- يجب أن يكون أمر الدين عند المسلم أعظم من سلامة بدنه وماله، وأهم من ملازمة الأهل والأحباب والأرض التي ولد فيها، فإذا خاف المسلم على دينه وعجز أن يقيم شعائره، أو خاف على نفسه الفتنة، فعليه أن يرحل ويبحث عن أرض أخرى، يأمن فيها على نفسه ودينه، ورد في الحديث: «فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة» «1» ، ولما سئل عن سبب هجرته قال: «أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي» .
2- يجب أن يحرص الناس على وجود أهل الخير والعلم والفضل بين أظهرهم، ويعلموا أن وجودهم بينهم فيه أسباب الخير والبركة، بل والنجاة من الفتن، فهذا سيد القارة، وهو على غير ملة الإسلام، يرفض خروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه من مكة، لا لشيء إلا لأنه من أهل الصلاح والتقوى، قال سيد القارة في الحديث: «فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» .
ويتفرع عليه: أن يفرح أهل البلدة برحيل أهل الفسق والفجور من بين أظهرهم.
3- ما كان عليه بعض كفار العرب من الإنصاف وشهادة الحق وعدم الخيانة، فهذا سيد القارة قد أثنى على أبي بكر رضي الله عنه أحسن الثناء وأجمله، وهؤلاء أهل مكة أبوا أن ينقضوا العهد مع سيد القارة بأمان أبي بكر ورد في الحديث قولهم لسيد القارة: «فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك» ؛ أي: نغدر بك.
ويتفرع عليه: أن المسلمين أولى بالوفاء والالتزام بالعهود من غيرهم، قال. تعالى.:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) [النحل: 91] .
4. علم الكفار بما للقرآن من أثر عجيب على قلوب وعقول سامعيه، مما جعلهم يخافون على أهليهم وذويهم من سماع القرآن، ومن سمع منهم بقلب وعقل مقبل أعجب به غاية
__________
(1) سبق تخريجه.(2/350)
الإعجاب، ورد في الحديث «1» : «مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليقرأ ما شاء ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا» أما حال من سمع القرآن من أهل مكة فقد ورد في الحديث: «ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه» ، ومعنى «ينقذف» وما ورد في بعض الروايات «فيتقصف» فمعناه: يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر؛ كما ذكر الحافظ. رحمه الله «2» .
5. من شيم الرجل المؤمن الصالح أن يكون رقيق القلب، ومن علامة رقة القلب، البكاء من سماع القرآن أو تلاوته. ولا يتسنى للعبد ذلك إلا بجمع التدبر والخشوع والإخلاص.
6- وجوب الأخذ بالأسباب الموصلة شرعا أو قدرا إلى مراد الإنسان، وأن هذا لا يقدح في التوكل على الله، بل هو من علامات التوكل الصحيح، ومن لم يأخذ بالأسباب مدعيا التوكل على الله. تبارك وتعالى. فقد قدح في نبي هذه الأمة وصاحبه الصديق، ألم تر كيف أعد أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين والزاد والطعام والشراب للهجرة المباركة، ألم تر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف أخذ بكل أسباب السلامة في الهجرة، فاستأجر الدليل وأمن العيون وعمّى على المشركين، ولما عجز أن يرد من يطلبه دعا ربه أن يصرعه. وكان الله. تبارك وتعالى.
قادرا على أن يكفيه مثل هذا العناء في الهجرة، فيرسل له الروح القدس بالبراق، ولكن أراد الله. سبحانه وتعالى. أن يعلم الأمة دروسا وعبرا.
7. من السنة أن ينفق الإنسان من ماله الخاص، خاصة في العبادات التي فيها إنفاق مال، كالحج والعمرة والجهاد والهجرة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وألا يكون عالة على غيره، علمناه من إصرار النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع لأبي بكر رضي الله عنه ثمن الراحلة.
8. ومن السنة أيضا وجوب إكرام أهل العلم والفضل وإيثارهم على النفس، وأن هذا شائع بين الناس؛ لأن الأنصار. رضي الله عنهم. ما عرفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظلل عليه أبو بكر بردائه يحميه من أشعة الشمس.
9. عظيم أمر المسجد في الإسلام، حيث كان أول عمل قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة.
10. مشروعية الإنشاد أثناء العمل، وفائدته أنه يقوي الهمم ويشحذ العزائم، ويسن
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر فتح البارى (7/ 234) .(2/351)
أن يكون فيه ذكر الله. تعالى. والترغيب في ثواب الآخرة، ويحرم فيه الفحش من القول وما ينافي خوارم المروءة.
11. اهتمام الشرع الحنيف بالنظافة، سواء النظافة الشخصية أو نظافة المهمات والمعدات، وأن هذا الخلق من الإسلام، وقد مر بنا كيف اهتم أبو بكر رضي الله عنه بنظافة الراعي الشخصية ونظافة ضرع الحلوب.(2/352)
يوم الفتح العظيم
هو يوم مشهود من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ نصره الله فيه نصرا مؤزرا عزيزا، كانت بدايته صلح الحديبية، والذي سماه الله فتحا مبينا، كان يوما مشهودا في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ رجع إلى مكة التي خرج منها قبل ثمان سنوات، متخفيا غير مستعلن، واليوم يدخلها مستعلنا مستعليا بفضل الله وقوته، ومعه عشرة آلاف مقاتل، يوم مشهود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث دخل البيت الحرام يكسر فيه الأصنام، ويعلن فيه علوّ الحق وأهله، واضمحلال الشرك وحزبه، هو يوم مشهود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ رأى ثمرة جهاده وكفاحه. في سبيل الله. أكثر من عشرين عاما، رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا وفرادى. فأقر الله له عينه وأتم عليه نعمته صلّى الله عليه وسلّم.
مجمل الأحداث في هذا الفتح المبارك:
خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، في عشرة آلاف مقاتل، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من العام الثامن للهجرة الميمونة، وكان صلّى الله عليه وسلّم صائما عدة أيام، حتى إذ بلغ مكانا يسمى الكديد، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، بلغه أن أصحابه قد أعياهم الصيام، فأفطر صلّى الله عليه وسلّم وذم من لم يقبل الرخصة واستمر صائما، ولما بلغ قريشا خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم قاصدا مكة، خرج له أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر، فلما اقتربوا من جيش المسلمين رأوا نارا عظيمة، أشبه ما تكون بالنيران التي يوقدها الحجاج يوم عرفة، ورآهم حرس النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتوا بهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم أبو سفيان، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بحبسه حتى يرى جحافل الجيش فيثبت إيمانه، فمر الجيش من أمامه كتيبة كتيبة، فإذا سعد بن عبادة يمر من أمامه ومعه الراية على رأس كتيبة عظيمة، فقال لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة تستحل فيه الكعبة، فاشتكى أبو سفيان هذه المقولة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فرد عليه بمقولته الخالدة: كذب سعد ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة، وقد قسم النبي صلّى الله عليه وسلّم الجيش أقساما، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي، واستدعى صلّى الله عليه وسلّم الأنصار فأمرهم أن يقتلوا أوباش مكة، الذين يحملون عليه السلاح، ودخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة من أعلاها لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأمر بعدة أوامر، منها إهدار دماء بعض مشركي مكة ممن أمعنوا في إيذائه صلّى الله عليه وسلّم،(2/353)
ومنهم ابن خطل وكان وقتها متعلقا بأستار الكعبة، كما أمر صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن طلحة رضي الله عنه أن يأتي بمفتاح الكعبة، فدخلها وصلّى فيها، ومكث فيها نهارا طويلا، كما نادى صلّى الله عليه وسلّم في الناس بمقولته المشهورة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن» ، وما إن سمعت الأنصار هذه المقولة حتى خافت أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم حنّ لعشيرته وأنه قد يتركهم يعودون إلى المدينة وحدهم، فطمنهم بل وبشرهم بما أسعدهم، كما أجار صلّى الله عليه وسلّم من أجارت أم هانئ، وحطم صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم ثلاثمائة وستين صنما كانت حول الكعبة تعبد من دون الله عز وجل، وهو يردد قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، ثم خطب في اليوم الثاني من الفتح خطبة أعلم فيها الناس أن مكة قد عادت حراما، وأن الله.
سبحانه وتعالى. لم يحلّها لأحد من قبله ولا من بعده.
عن أبي هريرة قال: وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان فكان يصنع بعضنا لبعض الطّعام، فكان أبو هريرة ممّا يكثر أن يدعونا إلى رحله فقلت: ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي؟ فأمرت بطعام يصنع، ثمّ لقيت أبا هريرة من العشيّ، فقلت: الدّعوة عندي اللّيلة، فقال: سبقتني؟ قلت: نعم، فدعوتهم، فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار، ثمّ ذكر فتح مكّة فقال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى قدم مكّة فبعث الزّبير على إحدى المجنّبتين، وبعث خالدا على المجنّبة الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسّر، فأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتيبة، قال: فنظر فرآني فقال: «أبو هريرة؟» . قلت: لبّيك يا رسول الله، فقال: لا يأتيني إلّا أنصاريّ- زاد غير شيبان- فقال: اهتف لي بالأنصار، قال: فأطافوا به ووبّشت قريش أوباشا لها وأتباعا، فقالوا: نقدّم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنّا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الّذي سئلنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم» ثمّ قال بيديه، إحداهما على الآخرى، ثمّ قال: «حتّى توافوني بالصّفا» ، قال: فانطلقنا فما شاء أحد منّا أن يقتل أحدا إلّا قلته وما أحد منهم يوجّه إلينا شيئا، قال: فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثمّ قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أمّا الرّجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى ينقضي الوحي، فلمّا انقضى الوحي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الأنصار» قالوا: لبّيك يا رسول الله، قال: «قلتم: أمّا الرّجل فأدركته رغبة في قريته؟» قالوا: قد كان ذاك، قال:(2/354)
«كلّا، إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم» .
فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الّذي قلنا إلّا الضّنّ بالله وبرسوله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم» . قال: فأقبل النّاس إلى دار أبي سفيان وأغلق النّاس أبوابهم. قال: وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أقبل إلى الحجر فاستلمه ثمّ طاف بالبيت، قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوس- وهو آخذ بسية القوس- فلمّا أتى على الصّنم جعل يطعنه في عينه ويقول: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ» ، فلمّا فرغ من طوافه أتى الصّفا فعلا عليه حتّى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو «1» .
بعض فوائد الفتح المبارك:
الفائدة الأولى: في النبي صلّى الله عليه وسلّم:
1- بيان واحدة منّ أعظم ما من الله به على نبيه صلّى الله عليه وسلّم من فضائل، وهي أنه. تبارك وتعالى. أحل له مكة ساعة من النهار، ورد عند الشيخين: عن أبي هريرة يقول: إنّ خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكّة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب راحلته فخطب فقال: «إنّ الله عز وجل حبس عن مكّة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنّها لم تحلّ لأحد قبلي ولن تحلّ لأحد بعدي ألا وإنّها أحلّت لي ساعة من النّهار ألا وإنّها ساعتي هذه» «2» . وقد مر شرح الحديث مبسوطا في فصل: «أحلت له مكة» .
2- حسن تنظيمه صلّى الله عليه وسلّم للعسكر وإدارته للمعركة، إذ كان من عادته صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم الجيش إلى أقسام، ورد في الحديث: «فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي» قيل: البياذقة هم الرّجّالة وسموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم. ومن حسن تنظيمه صلّى الله عليه وسلّم للمعركة تحديد المسئوليات، إذ وكل مهمة قتل أوباش قريش إلى الأنصار، ورد في الحديث: فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» ، فدعوتهم فجاؤا يهرولون فقال: «يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش» ؟
قالوا: نعم، قال: «انظروا، إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا» «3» .
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: الجهاد، باب: فتح مكه، برقم (1780) .
(2) رواه البخاري، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، برقم (6880) .
(3) رواه مسلم، كتاب: الجهاد، باب: فتح مكه، برقم (1780) .(2/355)
3. وفاؤه صلّى الله عليه وسلّم للأنصار الذين بايعوه على نصرته والدفاع عنه، فقد ظنوا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حنّ لأهله وعشيرته، وقد يفضل المكث في مكة على الرجوع معهم إلى المدينة فأعلمه الوحي بذلك فأخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بما دار بينهم ولم يحضره، وبيّن لهم أنه بمقتضى اسمه، محمد، وبمقتضى صفته وهو عبد الله ورسوله، لا يمكن أن يتخلى عنهم بعد أن قدموا له معروفا جميلا وأسدوا إليه صنيعا عظيما، وأبلغهم أنهم أولى الناس به في حياته ومماته، ورد في الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: قال: «قلتم: أمّا الرّجل فأدركته رغبة في قريته» ؟ قالوا: قد كان ذاك، قال: «كلّا، إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم، والممات مماتكم» . فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الّذي قلنا إلّا الضّنّ بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ورسوله يصدّقانكم ويعذرانكم» «1» .
وفي هذه الواقعة بعض اللّفتات الجميلة؛ وهي:
أ- الاشتياق إلى الأهل وإلى العشيرة التي نشأ الإنسان فيها ليس فيه محظور شرعي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أنكر على الأنصار مقولتهم إلا من حيث إنه لا ينبغي في حقه صلّى الله عليه وسلّم أن يتخلى عنهم بعد أن نصروه وآووه.
ب- تأييد الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بالوحي في كل أموره، فهذا جبريل نزل بالوحي يعلمه بمقولة الأنصار، ولنا أن نتخيل ما كان عليه الصحابة من مطلق الإيمان بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ يخبرهم في الحال بما قالوه سرّا ولم يطلع هو عليه. لا شك أنه إيمان لا يساوره أدنى شك.
ج- كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم الحظ الأوفر من اسمه إذ سماه الله محمدا، ويؤخذ من الحديث أنه ما ينبغي له صلّى الله عليه وسلّم أن يقول أي مقولة أو يفعل أي فعلة تناقض اسمه، وعلى كل مسلم الآن أن يراعي اسمه وما تضمنه من صفات ومحامد يجب أن يحرص عليها، ويكون من عدم المروءة أن يأتي بنقيضها.
قال الإمام النووى- رحمه الله- شرحا لمقولة النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو فعلت هذا الذي خفتم منه وفارقتكم ورجعت إلى استيطان مكة لكنت ناقضا لعهدكم في ملازمتكم، ولكان هذا غير مطابق لما اشتقّ منه اسمي وهو الحمد، فإني كنت أوصف حينئذ بغير الحمد» «2» .
__________
(1) انظر الحديث السابق.
(2) شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 131) .(2/356)
وانظر أخي القارئ كيف حمل صلّى الله عليه وسلّم الجميل للأنصار وأقرّ به في يوم عظيم، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«هاجرت إلى الله وإليكم» .
د- إعلامه صلّى الله عليه وسلّم الأنصار بشيء من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولا يقدر على الوفاء بها إلا هو جل في علاه، ألا وهي أنه صلّى الله عليه وسلّم سيموت في المدينة ويدفن فيها، وقد يكون هذا مما أوحاه الله له في هذه الواقعة، وقد تكون أيضا مكافأة منه عز وجل للأنصار على ما قدموه لدين الله حتى تم الفتح والنصر، ورد في الحديث: «فالمحيا محياكم والممات مماتكم» . كما أن فيه أمر غيبي آخر، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم سيبقى في المدينة بقية حياته المباركة، ولن يكون له مقام آخر في أي بلد من البلدان.
قال الإمام النووي- رحمه الله- في شرح كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله. تعالى.، بل أنا ملازم لكم، فلا أحيا إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم، وهذا أيضا من المعجزات» «1» .
هـ- تأدب الأنصار. رضي الله عنهم. في حديثهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ قدموا له العذر على مقولتهم، حيث قالوا: «والله ما قلنا إلا ضنّا بالله ورسوله» والضن هو البخل بالشيء والحرص عليه، ولا يخفى ما في هذه المقولة من شدة حبهم لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الإمام النووي. رحمه الله. شرحا لمقولة الأنصار: «والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصا عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك ونتبرك بك وتهدينا الصراط المستقيم» «2» .
و. جميل خلقه صلّى الله عليه وسلّم، ومنه قبوله للعذر، إذ رضي من الأنصار عذرهم وأحسن الظن بهم فصدقهم، وكأنه صلّى الله عليه وسلّم قد شعر بالمصيبة التي ظنوا أنها واقعة بهم إذ لم يرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم إلى المدينة، ورد بالحديث على لسانه صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم» .
4. رحمته صلّى الله عليه وسلّم العامة بالناس، وحرصه على هدايتهم يتبين ذلك من:
. تكذيبه لمقولة سعد بن عبادة عندما قال: «يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة» ؛ أي:
المقتلة العظيمة، وردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة» ، وهذا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن متعطشا للدماء، بل كان
__________
(1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 129) .
(2) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (3/ 178) .(2/357)
حريصا على حقنها ما أمكنه.
. تأمينه صلّى الله عليه وسلّم لطوائف كثيرة من الناس، حيث قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» ، وهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان ينتقم لنفسه، أو يحمل الضغينة والحقد لأحد، وإلا لأثخن في قريش القتل جزاء على ما فعلوه به وبمن آمن به قبل الهجرة وشروطهم المجحفة في صلح الحديبية.
5. شفقته صلّى الله عليه وسلّم بأمته، وإرادته التوسعة عليها والتخفيف عنها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويظهر ذلك جليّا في:
أ. إفطاره صلّى الله عليه وسلّم بعد أن بلغ الكديد بالرغم من اقتراب وقت المغرب، لعلمه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وأنهم ما كانوا ليفطروا حتى ينظروا ماذا يفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورد عند مسلم: «فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر» كما تدل الواقعة على حسن تصرفه صلّى الله عليه وسلّم إذ بدأ بنفسه فأفطر.
ب. صلاته صلّى الله عليه وسلّم كل الصلوات المفروضة يوم الفتح بوضوء واحد، على غير عادته صلّى الله عليه وسلّم، روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى الصّلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيّه فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه قال: «عمدا صنعته يا عمر» .
قال الإمام النووي- رحمه الله-: فيه تصريح بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يواظب على الوضوء لكل صلاة عملا بالأفضل، وصلى الصلوات في هذا اليوم بوضوء واحد بيانا للجواز كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «عمدا صنعته يا عمر» ، وهذا من كمال شفقته بالأمة صلّى الله عليه وسلّم.
تنبيه:
الحديث لا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوضأ لكل صلاة، ولكن يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم ما كان يصلي الفروض كلها في يوم واحد بوضوء واحد، فمفهوم الحديث لا يمنع أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي أكثر من صلاة بوضوء واحد، وهذا تعقيب على ما ذكره واستنبطه الإمام النووي.
رحمه الله.
6. حسن تعبده صلّى الله عليه وسلّم لله عز وجل، وتواضعه لله. سبحانه وتعالى.، حيث باشر بنفسه ما كان يمكن أن يأمر غيره بمعالجته وفعله، ابتغاء مرضات الله وطلبا لثوابه واجتهادا في مرضاته، فهو الذي قام بتكسير ما حول البيت من أصنام كانت تعبد من دون الله في أطهر(2/358)
أماكن الأرض وأقدسها، روى الشيخان في صحيحهما: عن عبد الله رضي الله عنه قال:
دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكّة يوم الفتح وحول البيت ستّون وثلاث مائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: «جاء الحقّ وزهق الباطل جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد» .
قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: وفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئا «1» .
7. حسن إكرامه صلّى الله عليه وسلّم لأهل الفضل والخير لا فرق عنده في ذلك بين الرجال والنساء؛ روى الشيخان: عن أمّ هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره فسلّمت عليه، فقال: «من هذه» فقلت: أنا أمّ هانئ بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأمّ هانئ» فلمّا فرغ من غسله قام فصلّى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمّي عليّ أنّه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئ» ، قالت أمّ هانئ: وذلك ضحى.
الفائدة الثانية: في مناقب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
1. شدة حب الأنصار. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن علامات ذلك الحب، غير ما ذكرته آنفا، أنهم بكوا لما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المحيا محياكم والممات مماتكم» .
قال الإمام النووي. رحمه الله.: «وكان بكاؤهم فرحا بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يستحي منه» .
2. جميل استجابة الأنصار. رضي الله عنهم. لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر أبا هريرة أن يدعو الأنصار ليعهد إليهم بقتل أوباش قريش، جاؤا إليه يهرولون، ورد في الحديث من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعوتهم فجاؤا يهرولون. كما أنهم من تمام طاعتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم ما رأوا أحدا من أوباش مكة إلا أناموه.
قال الإمام النووي: (ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه فوقع على الأرض أو يكون بمعنى أسكتوه بالقتل كالنائم) «2» .
3. حرص الصحابة. رضي الله عنهم. على تتبع أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعجيب أن يكون
__________
(1) انظر فتح البارى (8/ 17) .
(2) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 132) .(2/359)
مثل هذا الحرص على التتبع في يوم عظيم كيوم الفتح، قد ينشغل فيه الناس بأمور كثيرة غيرها، ولكن الصحابة. رضي الله عنهم. ما كان عندهم أمر أعظم من تتبع السنة، ومن مظاهر ذلك:
أ. سؤال عبد الله بن عمر رضي الله عنه بلالا هل صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم داخل الكعبة وأين صلى؟ وكان يحتاج إلى أن يعرف كم صلى، ولكن نسي أن يسأل، روى الشيخان في صحيحهما: «عن ابن عمر. رضي الله عنهما. قال: أقبل النّبيّ الصلاة عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتّى أناخ عند البيت ثمّ قال لعثمان: «ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح» ففتح له الباب، فدخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأسامة وبلال وعثمان، ثمّ أغلقوا عليهم الباب فمكث نهارا طويلا ثمّ خرج وابتدر النّاس الدّخول فسبقتهم فوجدت بلالا قائما من وراء الباب، فقلت له: أين صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
صلّى بين ذينك العمودين المقدّمين، وكان البيت على ستّة أعمدة سطرين، صلّى بين العمودين من السّطر المقدّم، وجعل باب البيت خلف ظهره واستقبل بوجه الّذي يستقبلك حين تلج البيت بينه وبين الجدار قال: ونسيت أن أسأله كم صلّى؟ وعند المكان الّذي صلّى فيه مرمرة حمراء» «1» .
ب. معرفة عبد الله بن عمر. رضي الله عنهما. أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى كل الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، يلزم من ذلك أنه رضي الله عنه قد علم أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم كل الأيام السالفة وحاله ذلك اليوم، وهذا يحتاج إلى مراقبة النبي صلّى الله عليه وسلّم طوال يوم الفتح ليعلم هل توضأ أم لا.
ولا شك أن هذا التتبع والحرص على العلم واقتفاء أثر النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى في مكان صلاته لهي منقبة عظيمة لعبد الله بن عمر. رضي الله عنهما..
4. فضل الصحابة الذين حضروا الفتح، حيث إن الله. تبارك وتعالى. ميزهم عمن سواهم، قال. تعالى.: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) [الحديد: 10] .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: حجة الوداع، برقم (4400) ، ومسلم، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للخاج وغيره (1329) .(2/360)
ودليله أيضا ما رواه الشيخان عن ابن عبّاس. رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا» «1» .
قال الإمام النووي. رحمه الله.: «وفي تأويل هذا الحديث قولان:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب، وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنها تبقى دار الإسلام لا يتصور منها الهجرة.
والثاني: معناه: لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح» «2» .
وقال- رحمه الله- في موضع آخر: «الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة لأن الإسلام قوي وعزّ بعد فتح مكة عزا ظاهرا بخلاف ما قبله» «3» .
الفائدة الثالثة: وهي فوائد متفرقة:
1. جواز أن يفطر الصائم أثناء سفره بعد أن قضى جزآ من نهاره صائما، شريطة أن يكون قد دخل في الصيام وهو مسافر، ولكن هل له أن ينوي الصيام وهو مقيم فإذا سافر من نهاره أفطر؟ قال صاحب الفتح: «أما لو نوى الصيام من الليل وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بالجواز» «4» .
2. هل يجوز دخول مكة بغير إحرام استنادا لما رواه البخاري عن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «دخل مكّة عام الفتح وعلى رأسه مغفر فلمّا نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلّق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه» «5» .
قال الإمام النووي- رحمه الله-: «مذهب الشافعي وأصحابه وآخرين أنه يجوز دخولها حلالا للمحارب بلا خلاف، وكذا لمن يخاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره، وأما من لا
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد، برقم (2783) ، ومسلم، كتاب: الإمارة، باب: تحريم مكة وصيدها ... ، برقم (1353) .
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 123) .
(3) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 8) .
(4) انظر فتح البارى (4/ 181) .
(5) رواه البخاري، كتاب: الجهاد، باب: قتل الأسير وقتل الصبر، برقم (3044) .(2/361)
عذر له أصلا فللشافعي. رحمه الله. فيه قولان مشهوران: أصحهما: أنه يجوز له دخولها بغير إحرام ولكن يستحب له الإحرام، والثاني: لا يجوز» «1» .
3. مشروعية المسح على الخف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعله في عام الفتح، وهو متأخر عن نزول آيات الوضوء في سورة المائدة، فعلمنا أن المسح كان آخر أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا عبرة بالمخالف.
4. تحريم زواج المتعة، لما رواه مسلم «2» : عن الرّبيع بن سبرة عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم الفتح عن متعة النّساء.
5. ليس مدار الأمر على كثرة العبادة والتعمق فيها، ولكن مدار الأمر على اتباع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد علّمنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الأخذ بالرخصة في وقتها هو السنة، والأخذ بالعزيمة وقت الحاجة إلى الرخصة ليس من الدين في شيء، ودليله ما رواه مسلم: عن جابر بن عبد الله. رضي الله عنهما. أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان فصام حتّى بلغ كراع الغميم، فصام النّاس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر النّاس إليه، ثمّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إنّ بعض النّاس قد صام فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» .
__________
(1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (12/ 129) .
(2) رواه مسلم، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة، برقم (1406) .(2/362)
يوم الوفاة النبوية
هو يوم مشهود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل في حياة البشرية، تباينت فيه الأتراح والأفراح تباينا عظيما، لم يعرف لها مثيل من قبل، حزن فيه أهل الأرض- من المسلمين- حزنا شديدا كاد يذهب عقولهم ويقطع نياط قلوبهم، وفرح فيه أهل السماء فرحا شديدا، حزن فيه أهل الأرض لحرمانهم من رؤية وجه أحب وأعز الخلق إليهم، الذي طالما افتدوه بالمال والأهل والنفس، وآثروه على كل غال ونفيس، فهاهم قد حرموا الذي علمهم وهداهم ونصحهم ودلهم على كل خير ونهاهم عن كل شر، حزن أهل الأرض لانقطاع الأمن والأمان الذي كانوا يشعرون به والحبيب صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، إذا قالوا خطأ صوّبهم، وإذا رأى منهم اعوجاجا قوّمهم، وإذا وقعوا في المخالفات ذهبوا إليه فاستغفروا الله واستغفر لهم صلّى الله عليه وسلّم، فغفر الله لهم وتاب عليهم، حزن أهل الأرض لأن بموته صلّى الله عليه وسلّم انقطع وحي السماء، فلا وحي بعده أبدا، ولن ينزل جبريل بالكتاب والحكمة، فأي مصيبة أعظم من ذلك.
وعلى النقيض، فرح أهل السماء فرحا شديدا؛ لأن الروح الزكية العطرة الكريمة صعدت في ذلك اليوم إلى بارئها وخالقها، روح الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، اليوم سيشم أهل السماء رائحة النفس المباركة، التي ما عصت الله مرة واحدة، وما غفلت عن ذكره طرفة عين ولا أقل من ذلك، نفس بذلت كامل وسعها لله جل في علاه، فإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد بن معاذ استبشارا وسرورا بقدوم روحه، فكيف سيكون الحال بقدوم روح من علّم سعدا ورباه، هو يوم عظيم ليس في حياة أهل الأرض والسماء فحسب، بل في حياة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، يوم عظيم له لأن الخليل سيلقى فيه خليله، فيسعد برؤياه ويأنس بلقياه ويفرح بعطاياه، يوم مشهود في حياته صلّى الله عليه وسلّم حيث تتوالى عليه المنح بغير محن. فإذا كانت المنح في الدنيا قد أهديت إليه ببعض الألم والحزن وشدة المرض، فاليوم ستكون العطايا خالصة صافية لا يشوبها شائبة، يوم مشهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لا كرب عليه بعده أبدا جزاء على جميل صنيعه وعظيم معروفه المبذول لوجه ربه الكريم الحنان المنان، قال تعالى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) [الضحى: 4] .
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين عن الوفاة النبوية، سأقتصر هنا على ذكر حديث واحد، وأورد ما استطعت من ألفاظ الروايات الآخرى في سياق ذكر الفوائد.(2/363)
عن أنس بن مالك أنّ أبا بكر كان يصلّي لهم في وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي توفّي فيه، حتّى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأنّ وجهه ورقة مصحف، ثمّ تبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا قال: فبهتانا ونحن في الصّلاة من فرح بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصّفّ، وظنّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خارج للصّلاة فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده: أن أتمّوا صلاتكم، قال: ثمّ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرخى السّتر قال: فتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه «1» .
بعض فوائد الوفاة النبوية
أولا: في الشمائل النبوية:
الفائدة الأولى:
إرادة الله عز وجل الخير بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث ضاعف عليه شدة الألم، سواء في المرض أو في سكرات الموت، ليضاعف له الأجر يوم القيامة، ورد في الحديث الذي رواه ابن عباس.
رضي الله عنهما.: «لما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه» «2» ، وعن عائشة. رضي الله عنهما.: «ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «3» .
أما الدليل على أن ذلك الوجع ما كان إلا لتثقيل الموازين ورفع الدرجات، فقد روى الشيخان «4» عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنّك لتوعك وعكا شديدا!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل إنّي أوعك كما يوعك رجلان منكم» . قال: فقلت ذلك أنّ لك أجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أجل.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم (419) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة، برقم (436) ، ومسلم، كتاب: المساجد، باب: النهى عن بناء المساجد على القبور، برقم (531) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب: المرضى، باب: شدة المرض، برقم (5646) ، ومسلم، كتاب: البر، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، برقم (2570) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب: المرضى، باب: وضع اليد على المريض، برقم (5660) ، ومسلم، كتاب: البر، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه برقم (2571) .(2/364)
ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشّجرة ورقها» .
ومن أوجه إرادة الله عز وجل الخير لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن أعطاه منزلة الشهداء، وهي منزلة وإن كانت عظيمة إلا أنها. قطعا. أقل من منزلة الأنبياء، لكن الله عز وجل أراد أن يجمع له كل المنازل والدرجات، روى البخاري: «قالت عائشة. رضي الله عنها.: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الّذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطّعام الّذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السّمّ» «1» .
وفي ذلك إشارة إلى خبر اليهودية التي وضعت السم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد ذكرها في الحديث الذي أخرجه البخاري: عن أنس أنّ امرأة يهوديّة أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلّطك على ذاك. قال: أو قال: عليّ. قال قالوا: ألا نقتلها؟
قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» .
الفائدة الثانية:
حفظ الله عز وجل لنبيه وجهه الجميل حتى آخر يوم في حياته، رغم شدة المرض الذي ألمّ به صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: «فكشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف» .
قال الإمام النووي. رحمه الله.: «عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته» «3» .
وأقول: إن عدم تغير وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل موته، هو أيضا من أفضاله. تبارك وتعالى. على الصحابة. رضي الله عنهم.؛ لأنه من المؤكد أنه كان سيحزنهم ويسوءهم أن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم الجميل قد تغير، كما أراد الله عز وجل أن يكون آخر عهد الصحابة بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم هذا الوجه الجميل لتبقى هذه الصورة محفوظة في أذهانهم ماثلة أمام أعينهم، ولم تزل هذه الصورة
__________
(1) رواه البخاري معلقا، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته برقم (4165) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب: الهبة، باب: قبوله الهدية من المشركين، برقم (2617) ، ومسلم واللفظ له، كتاب: السلام، باب: السم برقم (2190) .
(3) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (4/ 142) .(2/365)
الجميلة لوجهه صلّى الله عليه وسلّم حتى بعد وفاته، ورد عند البخاري من حديث عائشة. رضي الله عنها.:
«فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبّله قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيّا وميتا» «1» .
الفائدة الثالثة:
تواصل حبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه مع شدة مرضه صلّى الله عليه وسلّم، حيث تبسم ضاحكا لما رآهم مجتمعين على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ورد في الحديث: «كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك» «2» .
قال الإمام النووي: - رحمه الله-: «سبب تبسمه صلّى الله عليه وسلّم فرحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة واتباعهم لإمامهم وإقامتهم شريعتهم واتفاق كلمتهم واجتماع قلوبهم، ولهذا استنار وجهه صلّى الله عليه وسلّم على عادته إذا رأى أو سمع ما يسرّه» «3» .
ومن دلائل حبه صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، حرصه على الخروج إليهم للصلاة بهم، وكثرة نصحهم ووعظهم حتى آخر يوم في حياته صلّى الله عليه وسلّم، كما سيأتي مفصلا.
الفائدة الرابعة:
اجتهاده صلّى الله عليه وسلّم في ضمان هداية الأمة، حتى بعد موته، حيث طلب صلّى الله عليه وسلّم كتابا ليكتب لهم ما إن تمسكوا به فلن يضلوا بعده، ورد في الحديث: «لما اشتد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده «4» .
الفائدة الخامسة:
كمال الأدب الذي ينبغي التحلي به في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال لهم لما اختلفوا في إحضار الكتاب: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» .
الفائدة السادسة:
عظيم صبره صلّى الله عليه وسلّم على شدة الألم الذي لاقاه عند الموت، فما زاد صلّى الله عليه وسلّم عن قوله: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» وهذا من باب الصبر على أقدار الله المؤلمة، ليجمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كنت متخذا خليلا، برقم (3670) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4448) .
(3) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (4/ 142) .
(4) أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: كتاب العلم، برقم (114) .(2/366)
جميع أنواع الصبر، فلا يحرم من قوله- تعالى-: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] .
الفائدة السابعة:
حبه صلّى الله عليه وسلّم للقاء ربه وحسن ظنه به عز وجل، ورد في حديث عائشة. رضي الله عنها.:
«وجعل يقول: في الرفيق الأعلى» أما حسن ظنه بربه عز وجل، فقد ورد في الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة. رضي الله عنها.: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» «1» . وروى الشيخان عن عائشة قالت: كنت أسمع أنّه لا يموت نبيّ حتّى يخيّر بين الدّنيا والآخرة، فسمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الّذي مات فيه وأخذته بحّة يقول: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...
الآية؛ فظننت أنّه خيّر» «2» .
ويتفرع عليه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لن يصيبه أدنى فزع أو مكروه، بعد وفاته، سواء في قبره صلّى الله عليه وسلّم أو عند النفخ في الصور، أو عند الحساب وتطاير الصحف. لقوله: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم»
الفائدة الثامنة:
تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في نفوس أهل بيته. رضي الله عنهم. حيث قالت فاطمة.
رضي الله عنها.: «يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب» «3» .
فكأنها. رضي الله عنها. تريد أن تقول له: كيف استطعتم أن تعاملوا النبي صلّى الله عليه وسلّم كما تعاملون غيره من البشر بإهالة التراب عليه؟! أو: كيف طاوعتكم أنفسكم أن تسلكوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلكا يخالف ظاهره الأدب؟!
وقد تكون استعظمت قيام الصحابة بإحثاء التراب؛ لأنه كالإعلان منهم أن هذا هو آخر العهد. في الدنيا. بالحبيب والخليل صلّى الله عليه وسلّم.
قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «أشارت. عليها السّلام. بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته عنهم من رقة قلوبهم عليه لشدة محبتهم، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا أنا قهرناها على فعله امتثالا لأمره» «4» .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (4462) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4435) .
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر فتح الباري (8/ 149) .(2/367)
الفائدة التاسعة:
عظيم حب النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة. رضي الله عنها.، حيث استأذن نساءه أن يمرّض في بيتها.
ورد في الحديث: لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي» «1» بل وصل حبه صلّى الله عليه وسلّم لعائشة. رضي الله عنها. أنه كان يريد أن تجري الأيام سريعة ليأتي يوم عائشة، ويشغله السؤال عن يومها في شدة مرضه، ورد في الحديث عن عائشة:
(إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتعذر في مرضه «أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟» استبطاء ليوم عائشة) «2» ، وفي رواية أخرى: «أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة» «3» .
أقول: إذا كان هذا هو آخر عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بأهل بيته ونسائه، فإننا نقطع أنه صلّى الله عليه وسلّم قد مات وهو يحب أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها. أكثر مما سواها من النساء، كما نقطع أنه صلّى الله عليه وسلّم قد مات وهو في أشد الرضى عنها، فنحن نحب عائشة. رضي الله عنها. ونفضلها على سائر أمهات المؤمنين تأسيا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة العاشرة:
حسن معاشرته صلّى الله عليه وسلّم لأمهات المؤمنين. رضي الله عنهن جميعا. فقد حرص صلّى الله عليه وسلّم على تطييب خاطرهن ليس في أيام الانبساط والصحة، بل أيضا في أيام الشدة والمرض، فلم يغافل صلّى الله عليه وسلّم مع شدة مرضه. أن يستأذنهن في أن يمرّض عند عائشة. رضي الله عنها.، ولم يقل إن الله عز وجل قد رفع عني القسمة بين النساء.
ورد في الصحيحين: عن عائشة. رضي الله عنها. زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتدّ وجعه استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي فأذنّ له فخرج بين رجلين تخطّ رجلاه في الأرض بين عبّاس وآخر، فأخبرت ابن عبّاس قال: هل تدري من الرّجل الآخر الّذي لم تسمّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو عليّ» «4» .
الفائدة الحادية عشرة:
همته العالية صلّى الله عليه وسلّم في العبادة، والتي منها حرصه على صلاة الجماعة، مع شدة ألمه
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء، برقم (198) .
(2) رواه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم برقم (1389) .
(3) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته برقم (4450) .
(4) رواه البخاري، كتاب: الطب، باب: اللدود برقم (5714) .(2/368)
وتوجعه صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث عند البخاري قول عائشة. رضي الله عنها.: (ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال: «أصلّى الناس؟» قلت: لا، هم ينتظرونك. قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» .
قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء. أي ينهض بتكلف. فأغمي عليه، ثم أفاق فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«أصلّى الناس؟» وتكرر ذلك ثلاث مرات، وذلك من شدة حرصه صلّى الله عليه وسلّم على صلاة الجماعة.
بل إنه صلّى الله عليه وسلّم في أول مرض الموت خرج إلى الصلاة يترنح من شدة وجعه بين رجلين حتى أجلس إلى جوار أبي بكر وهو يصلي بالناس. ورد في البخاري: «ثمّ إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خفّة فخرج بين رجلين، أحدهما العبّاس لصلاة الظّهر، وأبو بكر يصلّي بالنّاس، فلمّا رآه أبو بكر ذهب ليتأخّر فأومأ إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يتأخّر قال: أجلساني إلى جنبه. فأجلساه إلى جنب أبي بكر» «1» .
ويؤخذ من الحديث أيضا حب الصحابة. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحرصهم البالغ على رؤيته والصلاة خلفه؛ لأن ظاهر الحديث يدل على أنهم انتظروه طويلا صلّى الله عليه وسلّم.
الفائدة الثانية عشرة:
حب الصحابة. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبكاؤهم على فراقه وتجدد حزنهم على تذكّر أيامه، روى البخاري في صحيحه: «عن سعيد بن جبير سمع ابن عبّاس. رضي الله عنهما.
يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثمّ بكى حتّى بلّ دمعه الحصى قلت: يا ابن عبّاس ما يوم الخميس؟ قال: اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» «2» .
قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «وبكاء ابن عباس يحتمل لكونه تذكر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتجدد له الحزن عليه، ويحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كتب ذلك الكتاب» «3» .
وانظر إلى قول عائشة. رضي الله عنها.: «فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلّم» «4» .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، برقم (687) .
(2) رواه البخاري، كتاب: الجزية، باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، برقم (3168) ، ومسلم، كتاب: الوصية، باب: الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه، برقم (1637) .
(3) انظر فتح البارى (8/ 132) .
(4) رواه البخاري، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4446) .(2/369)
ومما يدل على حبهم الشديد. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم عدم تصديق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخبر الوفاة، وهو القوي الشديد، فقد ورد في حديث أخرجه البخاري عن عائشة. رضي الله عنها.: «فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك وليبعثنه الله» فلم يصدق رضي الله عنه أنه لن يرى الحبيب بعد اليوم فصبر نفسه بأمل ولو ضعيف، وهو أن الله عز وجل قد رفعه كما رفع عيسى، وسيبعث مرة أخرى» .
الفائدة الثالثة عشرة:
إذا كان المسلمون قد حزنوا حزنا شديدا على وفاة معلمهم الخير صلّى الله عليه وسلّم فإن واحدة فقط قد انقلب حزنها فرحا وسرورا، ليس لوفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل لأن انقطاعها عنه لن يدوم طويلا، وبقاءها في الدنيا بدون رؤيته صلّى الله عليه وسلّم سيكون قليلا، بل قد ضمنت أعظم من ذلك وأجمل، ضمنت مرافقته في الفردوس الأعلى، وهي فاطمة. رضي الله عنها.، روى الشيخان عن عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا فاطمة ابنته فسارّها فبكت ثمّ سارّها فضحكت فقالت عائشة:
فقلت لفاطمة: ما هذا الّذي سارّك به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبكيت ثمّ سارّك فضحكت قالت:
سارّني فأخبرني بموته فبكيت ثمّ سارّني فأخبرني أنّي أوّل من يتبعه من أهله فضحكت» «1» .
وهذا من عجائب حبهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يفرح العبد ويضحك لما يعلم قرب أجله وفراقه للدنيا، وماذا في الدنيا يحرص عليه المسلم بعد فراق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وما أعذب الموت وأجمله إن كان بعده لقاء الحبيب صلّى الله عليه وسلّم.
قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «هذه معجزة ظاهرة له صلّى الله عليه وسلّم، بل معجزتان، فأخبر ببقائها بعده، وبأنها أول أهله لحوقا به، ووقع كذلك، وضحكت سرورا بسرعة لحاقها، وفيه إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا» «2» .
الفائدة الرابعة عشرة:
وهي متفرقات مهمة تحيط بوفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وآخر كلامه ووصاياه:
1- في أي الأيام مات الحبيب صلّى الله عليه وسلّم؟:
مات النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم اثنين؛ لما رواه البخاري عن الزّهريّ قال: أخبرني أنس بن مالك
__________
(1) رواه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم، برقم (2450) .
(2) انظر فتح الباري (8/ 135) .(2/370)
الأنصاريّ وكان تبع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخدمه وصحبه أنّ أبا بكر كان يصلّي لهم في وجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي توفّي فيه حتّى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصّلاة فكشف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا» «1» ..... وتوفى رسول الله من يومه» .
2- آخر ما قاله اللسان الطيب الطاهر في هذه الحياة الدنيا:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم الرفيق الأعلى» ؛ لما رواه البخاري عن عائشة. رضي الله عنها.:
«فكانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى» «2» .
3- آخر من تعطر فمه بمخالطة ريق النبي صلّى الله عليه وسلّم:
هي عائشة. رضي الله عنها.؛ روى البخاري في صحيحه عن عائشة. رضي الله عنها.
قالت: توفّي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وكانت إحدانا تعوّذه بدعاء إذا مرض فذهبت أعوّذه فرفع رأسه إلى السّماء وقال: «في الرّفيق الأعلى، في الرّفيق الأعلى» . ومرّ عبد الرّحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة فنظر إليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فظننت أنّ له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه فاستنّ بها كأحسن ما كان مستنّا، ثمّ ناولنيها فسقطت يده- أو سقطت من يده- فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدّنيا وأوّل يوم من الآخرة» «3» .
ولو لم يكن لها- رضي الله عنها- إلا هذه المنقبة لكفتها، كيف وقد اجتمع لها الأمور التالية.
4- أين كان الجسد الشريف عندما فاضت روحه المباركة
صلّى الله عليه وسلّم إلى خالقها عز وجل؟:
كان الجسد الشريف ملامسا لجسد عائشة. رضي الله عنها.، بل كان في صورة تدل على شدة الحب والحنان، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم على صدرها، روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة- رضي الله عنها-: فمات في اليوم الّذي كان يدور عليّ فيه في بيتي فقبضه الله وإنّ رأسه لبين نحري وسحري وخالط ريقه ريقي» «4» والسحر: هي الرئة.
5- في نوبة من من النساء انتقل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى؟:
في نوبة عائشة. رضي الله عنها.، ومع أنه كان يقيم عندها كل الأيام في مرضه الذي توفي فيه صلّى الله عليه وسلّم، إلا أنه باحتساب نوبات الزوجات، لو أنه صلّى الله عليه وسلّم استمر في القسمة بينهن، فقد
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، برقم (680) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللهم الرفيق الأعلى، برقم (6348) .
(3) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4451) .
(4) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4450) .(2/371)
كانت الوفاة يوم نوبتها، روى البخاري في صحيحه عن عائشة. رضي الله عنها.: «فلما كان يومي قبضه الله» .
قال الإمام النووى- رحمه الله-: «أي يومها الأصيل بحساب الدور والقسم وإلا فقد صار جميع الأيام في بيتها» «1» .
6- في أي البيوت توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفن؟:
في بيت أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها.، ورد عن البخاري من حديثها: «فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري ودفن في بيتي» «2» .
ويتفرع عليه: أن مكان بيت عائشة. رضي الله عنها. محفوظ إلى يوم القيامة، ولا يختلف عليه، بحفظ الله عز وجل جسد نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من مناقبها العظمى. رضي الله عنها..
7- آخر ما تمتع به النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمور الدنيا:
هو السواك، ورد في صحيح البخاري من حديث عائشة. رضي الله عنها.: «دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستن به وهو مستند إلى صدري» «3» .
8- ما هي آخر صلاة جماعة في المسجد صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبأي السور قرأ؟:
هي صلاة المغرب وقرأ فيها صلّى الله عليه وسلّم بالمرسلات عرفا، لما ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا ثم ما صلى صلّى الله عليه وسلّم لنا بعدها حتى قبضه الله» «4» .
9- آخر ما وصى به أو حذر منه صلّى الله عليه وسلّم:
أ. وصيته صلّى الله عليه وسلّم بالأنصار خيرا، ورد في البخاري عن أنس بن مالك يقول: مرّ أبو بكر والعبّاس. رضي الله عنهما. بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟!
__________
(1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 208) .
(2) رواه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، برقم (1389) ، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة رضي الله تعالى عنها برقم (2443) .
(3) رواه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره، برقم (890) .
(4) رواه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4429) ، ومسلم، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، برقم (462) .(2/372)
قالوا: ذكرنا مجلس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منّا، فدخل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك قال: فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أوصيكم بالأنصار؛ فإنّهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الّذي عليهم وبقي الّذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» .
ويؤخذ منه أن هذه آخر مرة يصعد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، أما حزن الأنصار على فراق النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو واضح في الحديث.
قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «ذكروا مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يجلسونه معه، وكان ذلك في مرضه صلّى الله عليه وسلّم فخشوا أن يموت من مرضه فيفقدوا مجلسه فبكوا حزنا على فوات ذلك» «2» .
ب. تحذيره صلّى الله عليه وسلّم أمته من اتخاذ قبره مسجدا، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- عن عائشة وعبد الله بن عبّاس قالا: لمّا نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما صنعوا «3» .
وهذا التحذير في ذلك الوقت يدل على شدة نصح النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته وخوفه عليهم أن يفتنوا به كما فتنت اليهود والنصارى بأنبيائهم.
قال الإمام ابن حجر- رحمه الله-: «أو أنه صلّى الله عليه وسلّم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظّم قبره كما فعل من مضى؛ فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم» «4» .
ج. ثناؤه البالغ على أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متّخذا خليلا من أمّتي لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقينّ في المسجد باب إلّا سدّ إلّا باب أبي بكر» «5» .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم اقبلوا من محسنهم ... ، برقم (3799) .
(2) انظر فتح البارى (7/ 121) .
(3) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة، برقم (436) .
(4) انظر فتح البارى (1/ 532) .
(5) رواه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، برقم (466) .(2/373)
قال الإمام النووي- رحمه الله-: «معناه: أكثرهم جودا لنا بنفسه وماله، وليس هو من المن الذي هو الاعتداء بالصنيعة؛ لأنه أذى مبطل للثواب؛ ولأن المنة لله وللرسول في قبول ذلك» «1» .
وقال القرطبي: «هو من الامتنان والمراد أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره نظيرها لمنّ بها» .
وقال ابن حجر رحمه الله-: «وفي وقوله: ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، منقبة عظيمة لأبي بكر لم يشاركه فيها أحد» «2» .
ثانيا: في فضائل ومناقب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
الفائدة الخامسة عشرة:
حبهم الشديد. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك فرحتهم العارمة التي كادت تلهيهم عن الصلاة، عندما كشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر حجرته وجعل ينظر إليهم، وذلك يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم.
ورد عند البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «فكشف النبي صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم» «3» ، وعند مسلم: «فبهتانا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «4» .
والظاهر من الحديث أن هذا الفرح الذي بلغ الغاية والمنتهى كان بسبب ظن الصحابة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تماثل للشفاء وأنه خارج يصلي بهم.
الفائدة السادسة عشرة:
إجلالهم. رضي الله عنهم. للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجمال وجهه في أعينهم، حتى إنهم ما كانوا يرون شيئا أجمل منه صلّى الله عليه وسلّم، حتى مع شدة مرضه، ورد في الحديث: «كأن وجهه ورقة مصحف» .
__________
(1) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (15/ 150) .
(2) انظر فتح البارى (8/ 142) .
(3) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، برقم (680) .
(4) رواه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض، برقم (419) .(2/374)
وأقول: لو كانوا يعلمون شيئا أجمل وأبهى عندهم من ورقة المصحف لشبهوا به وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل الأعجب من ذلك ما ورد في الصحيحين من رواية أنس بن مالك- رضي الله عنه-: «فلما وضح وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث وضح لنا» .
الفائدة السابعة عشرة:
مكانة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعند الصحابة- رضي الله عنهم-:
1- رضا النبي صلّى الله عليه وسلّم بإمامته رضي الله عنه المسلمين، بل هو الذي أمر أن يصلي بهم أبو بكر رضي الله عنه، رغم مراجعة عائشة. رضي الله عنها. النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وترشيحها الفاروق رضي الله عنه- للصلاة بالناس، ورد في الصحيحين من حديث عائشة- رضي الله عنها-: «لما مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس فأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة» .
كما ارتضاه النبي صلّى الله عليه وسلّم خليفة له بعد موته صلّى الله عليه وسلّم، ورد عند مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك حتّى أكتب كتابا، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر» «1» .
قال الإمام البيهقي- رحمه الله-: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر- رضي الله عنه- ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله. تعالى. ذلك، كما همّ بالكتاب في أول مرضه حين قال: «وا رأساه» ثم ترك الكتاب وقال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» ، ثم نبّه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة «2» .
2. شجاعته ورباطة جأشه رضي الله عنه، في موقف كان هو أولى الناس فيه بذهاب العقل وذهول القلب، ولكن من منة الله على هذه الأمة أن ثبت الصديق وقواه، وهو موقفه عند وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذ قام في الناس، يهدئهم ويذكرهم بكلام الله عز وجل، بعد أن
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2387) .
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 90) .(2/375)
أقسم عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مات.
ورد عند البخاري من حديث عائشة. رضي الله عنها.: «ثم خرج. أي أبو بكر. فقال:
أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، وحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: من كان يعبد محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [آل عمران: 144] ، وقالت عائشة. رضي الله عنها. في آخر الحديث: «لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «1» .
3. تواضعه رضي الله عنه وزهده في الإمارة، واعتراف الصحابة بفضله، ورد في حديث عائشة الذي أوردته في الفقرة السابقة قوله- رضي الله عنه-: «بايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل بايعناك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس» .
الفائدة الثامنة عشر:
فضل عائشة. رضي الله عنها.، وقد مر فضلها في مواضع كثيرة، ولكني أضيف هنا فضلا عظيما لها، وهو أنها كانت. رضي الله عنها. تشعر أن وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيتها وفي يومها وعلى صدرها لهو من نعم الله عليها، وما يكون ذلك إلا لتعظيمها وتوقيرها وحبها للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ورد في الحديث الذي رواه البخاري قولها. رضي الله عنها.: «إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته» «2» .
ويستفاد من ذلك أن الله عز وجل قد اختص أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها. بنعم عظيمة لم يشاركها فيها أحد من رجال هذه الأمة أو نسائها.
الفائدة التاسعة عشرة:
في فضل فاطمة- رضي الله عنها-: «روى الشيخان» عن عائشة. رضي الله عنها.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كنت متخذا خليلا، برقم (3670) .
(2) سبق تخريجه.(2/376)
قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مرحبا بابنتي ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثمّ أسرّ إليها حديثا فبكت فقلت لها: لم تبكين؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عمّا قال: فقالت:
ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى قبض النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألتها فقالت: أسرّ إليّ إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة وإنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه إلّا حضر أجلي وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقا بي فبكيت فقال: أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة أو نساء المؤمنين؟ فضحكت لذلك» «1» .
ففيه من الفضائل لفاطمة- رضي الله عنها-:
1- مشابهة هيئتها. رضي الله عنها. لهيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورد في الحديث: «كأن مشيتها مشي النبي صلّى الله عليه وسلّم» .
2. تحية النبي صلّى الله عليه وسلّم لها وهو يدل على فرحه بقدومها عليه ومناداته صلّى الله عليه وسلّم لها بصفتها لا باسمها وتقريبها منه صلّى الله عليه وسلّم، كل ذلك يدل على شديد حبه لها- رضي الله عنها-، ورد في الحديث: «مرحبا بابنتي ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله» .
3. إسرار النبي صلّى الله عليه وسلّم لها بقرب أجله واختصاصها بذلك السر دون سائر الصحابة.
4. كونها. رضي الله عنها. أول أهل البيت لحوقا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، بالإضافة إلى كونها سيدة نساء أهل الجنة.
5. أمانتها في كتمان سر النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قبض.
الفائدة العشرون:
فضل الأنصار. رضي الله عنهم. ووصية النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم خيرا وامتنانه صلّى الله عليه وسلّم لهم أنهم وقفوا معه وقاموا بما عليهم، ورد في آخر خطبة له صلّى الله عليه وسلّم على المنبر قوله: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «2» .
قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «يشير إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3624) ، ومسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم برقم (2450) ..
(2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم اقبلوا من محسنهم ... برقم (3799) .(2/377)
بايعوا على أن يؤووا النبي صلّى الله عليه وسلّم وينصروه على أن لهم الجنة، فوفّوا بذلك» «1» .
ويتفرع عليه:
وجوب حب الأنصار وبغض من يبغضهم؛ روى الشيخان في صحيحهما عن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن، ولا يبغضهم إلّا منافق؛ فمن أحبّهم أحبّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» «2» .
الفائدة الواحدة والعشرون:
فضل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وفقهه- وشفقته بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، يظهر ذلك من معارضته إحضار كتاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليكتب للأمة أمورا إن تمسكوا بها لا يضلوا بعدها أبدا، ورد في الحديث: «لما اشتد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا» .
قال الإمام النووي. رحمه الله.: «اتفق العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة؛ لكونها منصوصة، وأراد ألاينسد باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه صلّى الله عليه وسلّم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويب رأيه، ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما يتركه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأجل اختلافهم» «3» .
الفائدة الثانية والعشرون:
ما كان عليه أمهات المؤمنين من الأدب الجم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، والحرص على مرضاته، ودليله أنهن أذنّ لهن في أن يمرّض في بيت عائشة. رضي الله عنها.، مع كونهن أحرص الناس على ملازمته صلّى الله عليه وسلّم خاصة في أيامه الأخيرة، ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة. رضي الله عنها.: «لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذنّ له» «4» .
__________
(1) انظر فتح البارى (7/ 122) .
(2) رواه البخاري، كتاب: المناقب، باب: حب الأنصار، برقم (3783) ، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار ... برقم (75) .
(3) انظر شرح النووى على صحيح مسلم (11/ 90) .
(4) رواه البخاري، كتاب: الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (665) ، ومسلم، كتاب:(2/378)
ثالثا: فوائد عامة من الوفاة النبوية:
الفائدة الثالثة والعشرون:
من مقتضيات حكمة الله عز وجل ربط الأسباب بالمسببات، فربط. تبارك وتعالى.
الأجر بالبلاء، حتى مع الأنبياء أحب الخلق إليه، وكان من الممكن أن يجازي الله. تبارك وتعالى. الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام بالأجر العظيم دون أن يضاعف عليهم شدة المرض وشدة سكرات الموت، فعلى المسلم أن يصبر ويسترجع في كل ما يلاقيه في دنياه من مصائب وكرب وفتن وأمراض، فلعل الله عز وجل يريد أن يرفع درجته في الآخرة.
الفائدة الرابعة والعشرون:
ما يجب أن يكون عليه المسلم من حسن ظن بالله. خاصة عند سكرات الموت. وأن يغلب جانب الرجاء على الخوف لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «1» ، وعلى المسلم أن يتذكر في ذلك الوقت، ما ورد في البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: أنا عند حسن ظن عبدي بي» «2» .
الفائدة الخامسة والعشرون:
ليس من النياحة قول المسلم: «واكرب فلان» ؛ لعدم نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة. رضي الله عنها. عن هذا القول.
تنبيه:
قال الإمام ابن حجر. رحمه الله.: «وأما قولها. أي فاطمة. رضي الله عنها.: «وا أبتاه وقولها: يا من جنة الفردوس مأواه ... إلخ» ، فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفا بها لا يمنع ذكره لها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا وهو في الباطن بخلافه أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل في المنع» «3» .
أقول: ما ذهب إليه الحافظ. رحمه الله. خلافا للصواب؛ لما رواه البخاري: «عن أمّ
__________
الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض، برقم (418) .
(1) أخرجه البخاري، كتاب: المغازى، باب: مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته، برقم (4462) .
(2) رواه البخاري، كتاب: التوحيد، بابم قول الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ... برقم (7405) .
(3) انظر فتح البارى (8/ 149) .(2/379)
العلاء وهي امرأة من نسائهم بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السّكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين فاشتكى فمرّضناه حتّى توفّي ثمّ جعلناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: رحمة الله عليك أبا السّائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله قال: وما يدريك؟ قلت: لا أدري والله. قال: أمّا هو فقد جاءه اليقين إنّي لأرجو له الخير من الله والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت أمّ العلاء: فو الله لا أزكّي أحدا بعده» «1» .
ثم إن قوله- رحمه الله-: «بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا وهو في الباطن بخلافه» ليس بصواب أيضا، لأن الباطن لا يعلمه قطعا إلا عالم السر والعلن، وأما قول فاطمة.
رضي الله عنها. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو صحيح وصواب؛ لأنها زكت النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أول من يستفتح أبواب الجنة فتفتح له.
الفائدة السادسة والعشرون:
اختلاف المسلمين باجتهاد وتدبر وحسن نظر أمر وارد، ولا يقدح في طائفة منهم، فهاهم أكابر الصحابة رضي الله عنهم، قد اختلفوا على أمر من أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي حضرته، ولم ينكر عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اختلافهم، وإنما أنكر أن يكون هذا التنازع في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، كما أن هذا الخلاف لم يوقع بينهم العداوة أو البغضاء، بل استمر التبجيل والتوقير بين المختلفين حتى بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودليله ما رواه البخاري: «عن ابن عبّاس. رضي الله عنهما. قال: لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجعلت أهابه فنزل يوما منزلا فدخل الأراك فلمّا خرج سألته فقال: عائشة وحفصة» «2» .
الفائدة السابعة والعشرون:
عظيم أمر صلاة الجماعة في الإسلام، فقد مر كيف كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حريصا عليها في مرض الوفاة، ورد عند مسلم: «وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه ذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن مكانك» «3» .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب: التعبير، باب: العين الجارية في المنام، برقم (7018) .
(2) رواه البخاري، كتاب: اللباس، باب: ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتجوز من اللباس، برقم (5843) .
(3) سبق تخريجه.(2/380)
الفهرس
الباب الخامس مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند خالقه سبحانه وتعالى 3
أولا: تعظيم أمر سنته صلّى الله عليه وسلّم 5
1- السنة والقرآن بمنزلة واحدة 5
2- السنة محفوظة إلى يوم القيامة 5
3- السنة تبيان للقرآن 6
4- نفي الهوى عن كل ما جاء بالسنة 9
5- تسمية السنة حكمة 11
6- السنة شرط في قبول العمل 14
7- الوعيد الشديد لمن كذب على صاحبها صلّى الله عليه وسلّم 19
8- شاهد على سوء عاقبة من كذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم 27
ثانيا: وجوب تعظيمه وتحريم إيذائه صلّى الله عليه وسلّم 29
ثالثا: تأديب الأمة في التعامل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم 37
رابعا: ألطف الخطاب في القرآن حتى عند معاتبته صلّى الله عليه وسلّم 53
خامسا: مظاهر حب الله- عز وجل وعنايته به صلّى الله عليه وسلّم 64
1- عموم اعتناء الله- عز وجل- به صلّى الله عليه وسلّم 64
2- حفظه صلّى الله عليه وسلّم في الصغر 64
3- حفظ عرضه صلّى الله عليه وسلّم من السب واللعن 66
4- رفع ذكره صلّى الله عليه وسلّم 66
بعض الفوائد المستفادة من قول الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ 67
5- القسم بحياته صلّى الله عليه وسلّم 72
6- تعظيم المكان بإقامته صلّى الله عليه وسلّم فيه 74
7- الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم 75
8- جعل صلاته واستغفاره صلّى الله عليه وسلّم رحمة للمؤمنين 82
9- سماع الله لتلاوته صلّى الله عليه وسلّم 85
10- تثقيل موازينه صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة 86
11- الأمر بالصدقة بين يدي نجواه صلّى الله عليه وسلّم 87
12- رؤية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم 88
13- ولاية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم 89
14- معية الله- عز وجل- له صلّى الله عليه وسلّم 92
15- الوعد بنصره صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة 95
16- جعله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين 96
17- النبي صلّى الله عليه وسلّم خليل الله 98(2/381)
18- النبي صلّى الله عليه وسلّم كليم الله 100
19- تطهير قلبه صلّى الله عليه وسلّم من حظ الشيطان 100
20- ملء القلب إيمانا وحكمة 103
21- إسلام قرينه صلّى الله عليه وسلّم 105
22- إرضاؤه صلّى الله عليه وسلّم 109
23- كماله وعصمته صلّى الله عليه وسلّم 118
24- يبيت صلّى الله عليه وسلّم يطعمه ربّه ويسقيه 120
25- زوّجه ربّه من فوق سبع سماوات 121
26- أثنى عليه ربه باسمين من أسمائه 127
27- من استهزأ به صلّى الله عليه وسلّم كفر 129
28- أمر المؤمنين بتقديمه صلّى الله عليه وسلّم على أنفسهم 130
29- تتابع الوحي عليه قبل موته صلّى الله عليه وسلّم 132
30- نعيه وتوديعه صلّى الله عليه وسلّم في القرآن 133
31- تزكيته صلّى الله عليه وسلّم 136
32- تسلية الله- عز وجل- لرسوله صلّى الله عليه وسلّم 191
33- كفاية الله له صلّى الله عليه وسلّم 197
سادسا: مظاهر العناية الإلهية بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين 203
أ- تربيتهن على أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق وعدم تسويتهن ببقية نساء الأمة 203
1- وجوب الزهد في الدنيا 203
2- حثهن على اختيار الله ورسوله والدار الآخرة 203
3- تضعيف العذاب لمن ارتكبت شيئا (حاشا لله) 204
4- مضاعفة الأجر للقانتات منهن (وهن جميعا كذلك) 205
5- عدم تسويتهن ببقية النساء 205
6- أمرهن بأحسن الأفعال والأقوال والأخلاق 205
7- إرادة الله كمال طهرهن وعفتهن 205
8- تذكيرهن بشرف بيوتهن 205
9- إعلامهن بلطف الله بهن 206
ب- جعلهن قدوة لغيرهن 214
ج- إلزام الأمة توقيرهن 215
د- تحريم النظر إليهن بالكلية 216
هـ- تحريم الزواج منهن 219
وتبرئة أعراضهن 223
سابعا: ثناء الله وثناء رسوله صلّى الله عليه وسلّم على زوجاته وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم جميعا وكل ثناء(2/382)
عليهم فهو ثناء عليه من باب أولى 230
1- الثناء على زوجاته صلّى الله عليه وسلّم 230
2- سلام الله عز وجل والروح الأمين على خديجة بنت خويلد 230
3- سلام الروح الأمين على عائشة رضي الله عنها 230
4- فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة 230
5- الثناء على أصحابه 231
ثامنا: دفع شبهات وأكاذيب الكفار حوله صلّى الله عليه وسلّم 239
1- تكذيب ادعائهم إضلاله صلّى الله عليه وسلّم لهم 239
2- شبهة الأكل والمشي في الأسواق 240
3- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلمه بشر 241
4- كذب الادعاء بأن الله قد قلاه صلّى الله عليه وسلّم 243
5- كذب ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم ساحر 245
6- شبهة أن يكون صلّى الله عليه وسلّم غنيّا لا يحتاج إلى التكسب 251
7- دفع ادعائهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب القرآن 252
الباب السادس مظاهر حب وإجلال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم 255
1- التصديق المطلق 257
2- طاعتهم المطلقة له صلّى الله عليه وسلّم 264
3- كمال المتابعة 273
4- كراهة مخالفته صلّى الله عليه وسلّم ولو في الهيئة 278
5- غضبهم الشديد رضي الله عنهم من معارضة سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم 279
6- حب الصحابة له صلّى الله عليه وسلّم أكثر من حبهم لأنفسهم 281
7- إيثارهم له صلّى الله عليه وسلّم 283
8- تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم 283
9- حبهم رضي الله عنهم لما يحبه صلّى الله عليه وسلّم من أمور الدنيا 284
10- حب مرافقته والقرب منه صلّى الله عليه وسلّم 286
11- كراهيتهم ترك شيء فارقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه 290
12- عظيم أدبهم معه صلّى الله عليه وسلّم 292
13- تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم في نفوسهم 295
14- تعظيم دعائه صلّى الله عليه وسلّم 317
15- تبركهم به صلّى الله عليه وسلّم 319
الباب السابع أيام من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الهجرة المباركة 337 الفائدة الأولى: أدبه الجم صلّى الله عليه وسلّم مع الخالق- تبارك وتعالى- ومع(2/383)
المخلوقين 340
الفائدة الثانية: حكمته صلّى الله عليه وسلّم 340
الفائدة الثالثة: حبه صلّى الله عليه وسلّم للإنفاق في سبيل الله 341
الفائدة الرابعة: شجاعته صلّى الله عليه وسلّم 342
الفائدة الخامسة: حسن تعبده صلّى الله عليه وسلّم لربه 342
الفائدة السادسة: تواضعه صلّى الله عليه وسلّم 342
الفائدة السابعة: عناية الله- سبحانه وتعالى- بمسجد نبيه صلّى الله عليه وسلّم 343
الفائدة الثامنة: حسن ثقته صلّى الله عليه وسلّم بربه- سبحانه وتعالى- وأنه ناصره ومؤيده 343
الفائدة التاسعة: سرعة استجابة الله تبارك وتعالى- لدعائه صلّى الله عليه وسلّم 343
الفائدة العاشرة: قدرة الله- تبارك وتعالى- العجيبة 344
الفائدة الحادية عشرة: إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن يؤنس ويطمئن قلب نبيه صلّى الله عليه وسلّم 344
الفائدة الثانية عشرة: بره صلّى الله عليه وسلّم برحمه 344
الفائدة الثالثة عشرة: حب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإجلاله وتوقيره النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيثاره له على نفسه في كل شيء 344
الفائدة الرابعة عشرة: حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم 347
الفائدة الخامسة عشرة: بعض مناقب الصديق رضي الله عنه 348
الفائدة السادسة عشرة: مناقب بعض الصحابة- رضي الله عنهم- جميعا 349
الفائدة السابعة عشرة: دروس وعبر مستفادة من الهجرة المباركة يوم الفتح العظيم 353
الفائدة الأولى: في النبي صلّى الله عليه وسلّم 355
الفائدة الثانية: في مناقب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم 359
الفائدة الثالثة: وهي فوائد متفرقة 361
يوم الوفاة النبوية 363
بعض فوائد الوفاة النبوية 364
الفهرس 381(2/384)