الجزء الأول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقريظ العلامة الكبير فضيلة الشيخ عبد الوهاب الحافظ الملقب بدبس وزيت
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى سائر الانبياء والمرسلين، وآله السادة الأبرار، وصحبه القادة الأخيار، والعلماء العاملين، ومن سلك طريقهم الى يوم الدين.
وبعد فقد قامت نخبة من اهل العلم من طلاب مولانا العلامة النحرير والموبي الكبير الاستاذ الشيخ عبد الكريم الرفاعي باشارة منه بنشر كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلم، المشهور بين الأئمة الاعيان، والعلماء الاعلام، للفقيه المحقق القاضي الامام الحافظ ابي الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله تعالى بعد توضيحهم ما فيه من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وحذف اسانيدها مع بقاء الرواة وتفسير الالفاظ اللغوية وكشف معضلاتها والاماكن الجغرافية وغير ذلك من الامور الموضحة للكتاب الكاشفة عن وجوه مخدراتها اللثام، فقد جاء بحمد الله تعالى كتابا يتناول من فوائد فوائده الخاص والعام، ويشرب من صافي شرابه كل وارد وظمآن، وكيف لا وقد قام بنشره من تغذرا بلبان العلوم والمعارف،(1/5)
وحفتهم العنايات الربانية، والآداب النبوية وما ذلك الا بأفضال شيخهم ومرشدهم العالم الرباني من جمع في العلوم بين المنقول والمعقول والشريعة والحقيقة الاستاذ الجليل الشيخ عبد الكريم الرفاعي حفظه الله وادام نفعه للأمة واعظم له الأجر والمنة انه على ما يشاء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الوهاب الحافظ الملقب بدبس وزيت.(1/6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقريظ العلامة الكبير فضيلة الشيخ عبد الكريم الرفاعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه اجمعين وبعد:
فان من أهم ما تحتاج اليه أمة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم في عصرنا هذا هو أن تتحول أنماط حياتها عما هي عليه من مخالفات في عاداتها وتقاليدها الى الشكل الذي كان يربي عليه النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه حتى قوم نفوسهم وأقامها على ما يرضي الله سبحانه فجعل منهم خير أمة أخرجت للناس. زهدا في الدنيا. وتورعا عما لا يليق. وثقة بالله وتوكلا عليه فهانت عليه نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم في جنب ما أكرمهم به الله.
واستطابوا كل مر ومكروه في سبيل دعوتهم فسكن يقينها قرارة قلوبهم وهيمن على نفوسهم وعقولهم فصدرت عنهم عجائب ما شهدها التاريخ في سالف أيامه فلم تنقض ولن تنقضي آثارها حتى يرث الله الارض ومن عليها.. وما كان لهم ذلك الا حين استهانوا بزخارف الدنيا وحطامها وحنوا الى لقاء الله سبحانه وتاقوا الى جنات النعيم. فكان ذلك نسيانا لراحاتهم وهجرانا للذاتهم وبذلا لكل غال ونفيس في سبيل الغاية التي(1/7)
وضعوها نصب أعينهم وهي أن يكون الله راضيا عنهم. ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عينه قريرة بهم ... هذا وان كل ما نقرأ ونسمع عن صفات هذا الجيل الفريد من البشر. علما وعملا ودعوة. انما كان من تأثرهم بالنبي المصطفى صلّى الله عليه وسلم وتمثلهم لصفاته الشخصية وأخلاقه العملية مهتدين بهديه مقتفين لآثاره في كل حال وقول وعمل...... ذلك هو تأسيهم برسول الله عليه الصلاة والسلام واقتداؤهم به وذلك هو الذي يعوزنا وبنقصنا في عصرنا هذا حتى نتخلص مما تورطنا فيه من تقليد للأعاجم واتباع لهم على العمياء. وليس ثمة ما يوفر لنا ما نصبوا اليه من اتباع للسلف الصالح في السلوك والخلق الا أن يعكف أبناء هذه الأمة على دراسة تلك الصفات التي تحلى بها النبي صلّى الله عليه وسلم والشمائل التي أكرمه الله بها فشعت أنوارها على صحبه الكرام وشاعت أخبارها في كل زمان ومكان فكانوا بحق سادة الدنيا وأساتذة الخير في هذا الوجود......
لذلك كله لم نجد بدا من وضع كتاب بين أيدي المحبين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عامة وأبنائنا من طلاب جامع زيد بن ثابت الأنصاري خاصة. يدلهم على الطريق وينير لهم السبيل ليتبينوا ما يجب أن يحملوا أنفسهم عليه من أخلاق وأعمال تقربهم من النبي عليه الصلاة والسلام فتصبغهم بأوصافه وتقيمهم على ما يرضيه فلم نعثر على كتاب يؤدي المقصود ويفي بالغرض مثل كتاب الشفاء الذي تلقفته أيدي العلماء منذ تاليفه فنفذ الى قلوبهم ونال ثقتهم وحاز اعجابهم.. وزاد من ذلك كله أن المؤلف القاضي عياض رضي الله تعالى عنه كان في حياته وصفاته من أجدر من يمسك بالقلم ليخط مثل هذا الموضوع(1/8)
مستمدا من قلبه الكبير وخلقه القويم ونفسه المتواضعة بل وحياته كلها تلك التي كان يتأسى خلالها بالنبي صلّى الله عليه وسلم خير أسوة. ولما كانت الطبعات التي أخرجت متن هذا الكتاب الى أسواق الكتب طبعات فيها من التساهل في تحقيق الكتاب الشي الكثير. ومن الاخطاء المطبعية ما هو أكثر ... بل وأبلغ من هذا وذاك أن هذه الطبعات عزت وفقدت فلم يعد بامكان طالب العلم أن يحصل عليها الا ببذل جهد غير يسير ... لما كان هذا كله رغبت الى بعض أبنائي بالنظر في الكتاب نظر تحقيق دقيق يعتمد على أساس متين من العلم والتمحيص ليخرجوا به الى طلاب العلم كتابا شافيا وافيا ... فقاموا بذلك رضي الله عنهم على أحسن شكل مطلوب فكان ذلك تلبية منهم لحاجة ملحة لأبناء هذه الامة طالما تاقت اليها واشتاقت.. نرجو الله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب كل عامل به وقارىء له وناظر فيه.. والحمد لله رب العالمين.
عبد الكريم الرفاعي(1/9)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المحققين
لا يشك مسلم في أن مصدر التشريع الأول هو القرآن الكريم ويليه في الأهمية سنة الرسول صلّى الله عليه وسلم..
وكما اعتنى المسلمون بالقرآن حفظا ودراسة كذلك وجهوا جهودهم للسيرة النبوية باحثين ممحصين حتى أنتج اهتمامهم الكبير بهذا المصدر العظيم من مصادر التشريع تلك الدراسات الواسعة والقواعد التاريخية الدقيقة والمؤلفات الغزيرة..
فرحم الله ذلك الجيل الكريم الذي خدم كتاب الله أجل خدمة وحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم حفظ وأدقه.
ولقد كانت دراسة السيرة النبوية جزءا مهما من دراسة السنة المطهرة ...
ولذا اهتم العلماء بهذه السيرة لفائق أهميتها في فهم الشريعة وتوضيح نصوصها من عمل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتصرفاته كلها..
فسيرة الرسول بهذا تجسيد لمبادىء الإسلام في مثلها العليا وهي تفيد في معرفة جوانب من الحياة الإسلامية منها:
«1- فهم شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم (النبوية) من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها، للتأكد من أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه رسول أيده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه.(1/11)
2 ان يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه. ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة فإنه واجده كله في حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعظم ما يكون الوضوح والكمال، ولذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها، فقال: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) «1» .
3- ان يجد الإنسان في دراسة سيرته عليه الصلاة والسلام ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وتذوق روحه ومقاصده، إذ أن كثيرا من آيات القرآن إنما يفسرها ويجليها الأحداث التي مرت برسول الله صلّى الله عليه وسلم وموقفه منها.
4- ان تتجمع لدى المسلم من خلال دراسة سيرته صلّى الله عليه وسلم أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة، سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام والأخلاق، إذ لا ريب ان حياته صلّى الله عليه وسلم إنما هي صورة مجسدة لمجموع مبادىء الإسلام وأحكامه.
5- أن يكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حي عن طرائق التربية والتعليم، فلقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم معلما ناصحا، ومربيا فاضلا لم يأل جهدا في تلمس إحدى الطرق الصالحة إلى ذلك خلال مختلف مراحل دعوته.
وإن من أهم ما يجعل سيرته صلّى الله عليه وسلم وافية بتحقيق هذه الأهداف كلها أن سيرته عليه الصلاة والسلام شاملة لكل النواحي الإنسانية والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث إنه فرد مستقل بذاته أو من حيث إنه عضو فعال في المجتمع.
__________
(1) الأحزاب 21.(1/12)
فسيرته عليه الصلاة والسلام تقدم الينا نماذج سامية للشاب المستقيم في ذاته، الأمين مع قومه وأصحابه، وللإنسان الداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى طاقته في سبيل إبلاغ رسالته. ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج المثالي في حسن معاملته والأب في حنو عاطفته مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر والسياسي الصادق المحنك، وللمسلم الجامع بين واجب التعبد والتبتل لربه، والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه.
لا جرم إذا أن دراسة سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم إنما هي تفهم لهذه الجوانب الانسانية كلها مجسدة في أرفع نموذج وأتم صورة» «1» .
إن السيرة التي يحق لصاحبها أن تتخذ الناس من حياته اسوة حسنة ومثلا أعلى يجب أن تكون متصفة بالصفة التاريخية الصحيحة.
أما السيرة التي حاكتها الاساطير وتفشت منها الخرافات فانها لا تملك قدرة السيطرة على القلوب والنفوس ومن ثم لا يستطيع الناس أن يتأسوا ويتقيدوا بها ونحن معشر المسلمين نؤمن برسالات الأنبياء كلها ونؤمن بهم ونتعرف على جوانب حياتهم ودعوتهم من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة بعد أن عض الزمان والنسيان على سيرتهم التاريخية؟ وبعد أن تلاعبت الايدي بالمسخ والنسخ فيها.
ونؤمن بالأنبياء كلهم مع علمنا بأنهم مجاهدون رتبة ومكانة ونحن نرى من عرض سير الانبياء والرسل ان صحة الأسانيد وبقاءها محفوظة لم يتاحا لسيرة واحد منهم مثلما اتيح لسيرة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) نقلا عن كتاب فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ص 19.(1/13)
كما أن من الشروط المحتمة التي لابد منها لكل من يرجو أن تكون سيرته وهدايته اسوة للبشر، الكمال والتمام والجمع. والمراد بالكمال والتمام والجمع ان الطوائف الانسانية المتفرقة والطبقات البشرية المختلفة تحتاج الى أمثلة كثيرة ومتنوعة تتخذها منهاجا لحياتها الاجتماعية. وكذلك الأفراد في المجتمع الانساني يحتاجون إلى مثل عليا يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم. لذا يجب أن تكون حياة المتأسى به واضحة ناصعة عاليه..
وهذه النظرة الصحيحة لا نجدها تتمثل في حياة أحد مثلما تتمثل في حياة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم ذلك لانها استجمعت الصفات التي مر ذكر بعضها وهي.
1- ان تكون سيرة تلك الحياة (تاريخية) أي ان التاريخ الصحيح الممحص يصدقها ويشهد لها..
ولقد شهد التاريخ كله شرقيه وغربيه مسلمه وكافره، ان الدقة التي وصل إليها المسلمون في دراسة السيرة النبوية من الوجهة العلمية بلغت الاوج والمنتهى الذي تقف عنده أقلام النقد والتمحيص ... ولا يزال المنهج التاريخي العلمي الذي ابتدعه المسلمون أول ما ابتدعوه لغاية الحفاظ على سيرة هذا الرسول العظيم- لم يزل ذلك المنهج قدوة المؤرخين في سلوك طريق البحث والتنقيب حتى الآن.
2- أن تكون سيرة الحياة (جامعة) أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
في البيت وفي السوق، مع نفسه ومع ربه ومع الناس في الفرح وفي الترح في الغضب وفي الرضى في الحرب وفي السلم في الجد وفي المداعبة في الليل وفي النهار مع الاعداء ومع الاصدقاء ... في كل هذه الحالات(1/14)
يجب أن تجمع هذه الحالات مختلف هذه الجوانب بشكل واضح وصريح وبصورة تعطي للناس قدوة حسنة يمكن اتباعها والتأسي بها. وهذا كله أدته السنة المطهرة في كتب الحديث والسنن الواسعة الموثوقة.
3- أن تكون (كاملة) أي تكون متسلسلة لا تنقص شيئا من حلقات الحياة الواسعة التي تشمل مختلف العواطف البشرية والنزعات الانسانية.
ومن أعجب العجب أن أية نبضة من نبضات القلب البشري أو أية إشرافة من إشرافات الفكر الإنساني تجدها من خلال دراسة السنة المطهرة وقد ظهرت في أسمى نزعاتها وأرفع غاياتها وكأن السنة بهذا صورة واقعية ورسم واضح لما تمليه الإرادة الإلهية ولما تطلبه من نبي البشر.
4- أن تكون تلك السيرة (عملية) أي تكون الدعوة الى المبادىء والفضائل والواجبات بعمل الداعية وأخلاقه. وأن يكون ما دعا إليه بلسانه قد حققه في سيرته وعمل به في حياته الشخصية والبيتية والاجتماعية.
ونعتقد أن هذه الناحية العملية في سيرة النبي العظيم هي أعظم ما يجذب اليه القلوب ويؤلف حول دعوته الارواح.
وان هذه الناحية المهمة في سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم لأشهر وأبرز من أن يجهلها إنسان فهي واضحة في كل تصرفاته وحركاته وسكناته..
ولقد تعددت السير النبوية واختلفت في منهاج الدراسة التي سارت عليه متتبعة أحواله صلّى الله عليه وسلم في الفترة ما بين الميلاد أو ما قبله أيضا. الى وفاته صلى الله عليه وسلم.
وامتازت كل طريقة بميزات خاصة أبرزتها من ناحية وأفردتها من ناحية(1/15)
اخرى حتى أصبح الدارس المتعمق لا يستغني عن أكثر ما كتب في هذا المجال.
وكتاب الشفاء هذا يمتاز عن كل ما كتب في دراسة السيرة النبوية بميزات أفردته وحده في هذا الميدان وأبرزت عظيم قدره عند المحبين والعلماء والمحققين ...
ولعلنا ندرك هذه الميزات إدراكا واضحا عندما نقرأ الفقر التي كتبها المؤلف في مقدمته مبينا فيها الأسباب التي دعته لتأليف هذا الكتاب:
قال رحمه الله: في خطابه لصاحب الرسالة الذي طلب منه تأليف الكتاب فَإِنَّكَ كَرَّرْتَ عَلَيَّ السُّؤَالَ فِي مَجْمُوعٍ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِقَدْرِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَوْقِيرٍ وَإِكْرَامٍ، وَمَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّ مَنْصِبِهِ الْجَلِيلِ قُلَامَةَ ظفر، وأن أجمع لك ما لا سلافنا وَأَئِمَّتِنَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ، وَأُبَيِّنَهُ بِتَنْزِيلِ صور وأمثال.
فنجد أن السائل جزاه الله خيرا طلب من المؤلف رحمه الله أربعة أمور:
1- التعريف بقدر المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
2- ما يجب له صلّى الله عليه وسلم من توقير واحترام.
3- حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ القدر أو قصر في ذلك.
4- جمع أقوال السلف والائمة في هذه الامور.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله أن هذه الامور التي طالبه صاحب الرسالة بشرحها شديدة خطيرة لما تحتاجه من (تَقْرِيرَ أُصُولٍ، وَتَحْرِيرَ فُصُولٍ، وَالْكَشْفَ عَنْ غَوَامِضَ وَدَقَائِقَ مِنْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ مِمَّا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُضَافُ(1/16)
إِلَيْهِ أَوْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ وَالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخِلَّةِ، وَخَصَائِصِ هذه الدرجة العلية ... )
ومن هذه اللمحات الخاطفة التي ظهرت في سؤال السائل وفي بيان المؤلف نلمح الاتجاه العلمي الدقيق الذي يمت بصلة قوية الى علم الاصول ...
ومن خلال فصول الكتاب الجميلة عرضا وترتيبا وفكرة نشاهد بوضوح هذه اللمحات وقد أخذت اتجاها منطقيا في عرض الفكرة وما يتعلق بها من آراء وأقوال ثم في مناقشة هذه الاقوال والآراء مناقشة هادئة تظهر عليها روح القاضي الهادئة وأفكاره المنظمة وعندما نصل إلى نهاية الفصل نشعر بوضوح أظهر اننا في محكمة عادلة يهيمن عليها فكر واع حصيف وقلب مدرك حساس.
وان الانسان لا يملك نفسه أما روعة الاعجاب التي تتملك نفسه وهو يتابع تلك المناقشات الرائعة لاقوال السلف والأئمة التي يعرضها المؤلف ويتابعها باخلاص علمي شديد ... ثم بعد ذلك وهو يتناولها- في تواضع عجيب- بالنقد الشريف..
وفي هذا النقد يرى القارىء عقل المؤلف في صفائه وعمقه ودقته ... ولعل أسوا ما منى به هذا الكتاب العظيم- الذي ظل مهوى أفئدة العلماء والائمة في كل عصر- ما ناله من التشويه في الطباعة والعرض خضوعا للرغبة التجارية والمكسب المادي.
وعندما عرض هذا الكتاب على طلبة العلم في مساجد دمشق وجد المدرس والطالب مشقة أبعدته عن حب هذا الكتاب وبالتالي عن فهمه،(1/17)
وضاع الطالب بين سطوره المتتابعة التي حشيت فيها الاقوال حشوا ورصفت فيها الألفاظ رصفا لا يعتمد على نظام ولا يتفق على ترتيب هذا علاوة على ما فيه من أخطاء في الطباعة ونقص في تحقيق الأحاديث الواردة فيه- مع أن الشراح رحمهم الله خرجوا أحاديثه- فان شروح هذا الكتاب مطولة وتحتاج الى تنظيم ولا يمكن أن تقوم هذه الشروح بدل الكتاب نفسه في أيدي الطلاب.
كما أن كثيرا من كلمات الكتاب تحتاج الى شرح لغوي يبين معناها للطالب والدارس ليفهم النص دون الرجوع الى معاجم اللغة..
وعندما برزت كل هذه الصعاب للعيان عند تدريس هذا الكتاب طلب منا المربي الكبير فضيلة العلامة الشيخ عبد الكريم الرفاعي حفظه الله تعالى.
العمل على تنظيم وترتيب الكتاب لملء الفراغ المحسوس.
ولبينا الطلب مسترشدين بتعليمات فضيلة الشيخ في كيفية العمل وطريقته التي نلخصها فيما يلي:
1- عرض الكتاب عرضا واضحا.. وتحقق هذا بتوضيح الأقوال والافكار التي فيه بشكل واضح منظم من حيث تقسيم الفقرات والفصل بين الأقوال وإبراز اسم القائل لعين القارىء بحيث لا يحتاج الى البحث عنه خلال السطور بحثا دقيقا.
كما أن الآيات والأحاديث برزت عن سواها من الكلام بحروفها المتميزة.
2- رغبة في الاختصار حذفنا السند المطوّل للأحاديث الواردة في الكتاب وأثبتنا الصحابي أو التابعي الذي رواها عن الرسول صلّى الله عليه وسلم.(1/18)
3- ورد تخريج الاحاديث في شروح الشفاء فنقلنا جهد هؤلاء العلماء رحمهم الله الى هذا الكتاب مبينين درجة الحديث المروي.
4- تخريج الآيات الكريمة وبيان الأعلام وتفسير الكلمات اللغوية التي تحتاج الى ذلك.
5- ولقد وضعنا على الهامش الوحشي للكتاب عناوين صغيرة تدل على ما في الفقرة أو الصفحة من معنى حتى اذا احتاج قارىء الكتاب العودة الى بعض معانيه قادته تلك العناوين الصغيرة الى مطاوبه بسرعة.
6- ذكرنا بعض الكلمات التي وجدت في بعض النسخ بصورة مغايرة للنسخ الاخرى ونقلنا ذلك عن الشروح أيضا.
7- ورغبة منا في العمل على نشر هذا الكتاب وايصاله الى كل بيت ليكون في متناول كل يد سلكنا طريقة اصداره مجزءا الى اقسام صغيرة حيث يسهل على القارىء مراجعة مضمون هذا الجزء اذ لمسنا ذيوع هذه الطريقة وعموم فائدتها.
8- ولما كان الكتاب على جزأين حسب ترتيب المصنف رحمه الله سنعمد ان شاء الله الى وضع ذيل يتضمن فهارس عامة لمحتويات الكتاب من حيث المواضيع وأسماء الاعلام وأسماء الاماكن وسردا خاصا بالمراجع الهامة التي عدنا اليها في تحقيق هذا الكتاب.
وإننا إثر هذا وجدنا بعد عرض الكتاب في ثوبه الجديد على فضيلة أستاذنا عبد الكريم الرفاعي وعلى ثلة من علماء دمشق الافاضل ان الكتاب أصبح وافيا بالغرض المطلوب الذي بذل هذا الجهد بصدده ونعتقد ان هذا المجهود لا يتلاءم بحال مع قدر هذا الكتاب العظيم.(1/19)
ولكننا بذلنا ما في الوسع سائلين الله تعالى أن يقيض لهذا الكتاب العظيم من يرفعه الى مكانه الرفيع في دنيا العلم والعلماء وفي أيدي الأصوليين والفقهاء وعند دارسي سيرته صلّى الله عليه وسلم ومحبي طريقته ومتبعي شريعته ...
والله ولي التوفيق.
المحققون(1/20)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ترجمة المؤلف
في نهاية القرن الخامس الهجري وفي سنة ست وسبعين وأربعمئة على وجه التحديد ولد مؤلف الشفاء القاضي الكبير والمحدث الجليل والأديب الفقيه عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي الغرناطي المالكي ...
لقد كان هذا القرن عصر ازدهار العلوم والفنون في بلاد الاندلس التي بدأت تنافس المشرق بالفخر العلمي وبالمجهود الأدبي الذي كان بلاط الخلفاء يزدهر بغرسه ونتاجه..
أصله ...
لقد جاء أجداد عياض من الاندلس الى بلدة فاس في بلاد المغرب يحملون معهم صفات تلك البيئة العلمية في نفوسهم وأرواحهم ... وولد قاضينا الكبير في بلدة سبتة في شهر شعبان بعد أن انتقل اليها والده من مدينة فاس......
وسبتة بموقعها الجغرافي كانت همزة وصل بين الشمال الافريقي وبين الاندلس الزاهرة أو بالاحرى بين المشرق والمغرب على اعتبار أن كلمة المغرب كانت تطلق على البلاد الاندلسية.(1/21)
وفي هذه البلدة كان الوافدون على الاندلس والعائدون منها يلتقون ويتبادلون الآراء والافكار فتتلاقح بهذا التلاقي علوم المشرق بميزاتها الفلسفية والمنطقية وبما فيها من عمق فكري ودقة بحث مع علوم المغرب بما فيها من روح جمالية أدبية ونظرة جديدة في الوجود فرضها الواقع الجديد والبيئة الجديدة ...
ويرجع أصل المؤلف من ناحية أجداده إلى يحصب بن مالك أبو قبيلة باليمن ... فالمؤلف بهذا عربي أصيل.
فاجتمعت للمؤلف كل الصفات العلمية المؤهلة من ناحية الوراثة والبيئة ثم أضاف اليها تلك الدراسة العميقة التي أخذ بها نفسه منذ نعومة أظفاره..
ولقد كان له كثير من الشيوخ الذين أخذ عنهم الفقه والاصول والحديث والادب وظهرت جوانب من تلك العلوم في المصنفات العديدة التي ألّفها ويستطيع القارىء أن يلمح تلك الاسماء العديدة في سند أكثر الاحاديث النبوية الشريفة التي يرويها بطريقة عنهم ... وخاصة في كتاب الشفاء ...
علمه ...
واتجه القاضى منذ نعومة أظفاره إلى تعلم العلوم الشرعية فأتقنها إتقانا عجيبا وفي سن مبكرة كما ذكر صاحب كتاب أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض.... ولم تمنعه دراسته للعلوم الشرعية من الاخذ من علوم الادب واللغة وظهر ذلك جليا في كتاباته الجميلة الآسرة.
وأصبح المؤلف بعد فترة وجيزة قاضيا لسبتة في بلاد المغرب على المذهب المالكي الذي عم في افريقيا وانتشر فيها.(1/22)
وبدأ يتجه الى التأليف واخراج التصانيف المفيدة في التفسير والحديث والسيرة النبوية الشريفة.
وبدأ فشرح صحيح مسلم شرحا جيدا ساعده عليه علمه بالحديث وروايته له. وأخرج تفسيرا للقرآن.
ولم يطل المقام به في سبتة حتى نقل إلى غرناطة سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة. ولم يطل مقامه بها حتى نقل ثانية إلى سبتة ليتولى فيها القضاء..
وقد ذكر ابن فرحون من علماء المالكية في طبقاته عن القاضي عياض انه كان إماما في الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم خطيبا بليغا وذكر من تآليفه نحو ثلاثين تأليفا جليلا.
شعره ...
وذكر ابن فرحون بعض أشعار القاضي عياض التي تدل على أدبه وبلاغته ومنها:
الله يعلم إني منذر لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
وقال:
انظر إلى الزرع وخاماته ... يحكى وقد ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقايق النعمان فيها جراح
كتاب الشفاء:
وإن أعظم ما خطه يراع القاضي هو كتاب الشفاء الذي تداولته أيادي العلماء من كل أمة درسا وفهما فلم يخل منه بيت عالم فاضل أو زاهد كريم أو محب على محبته مقيم ...(1/23)
وقد ذكر ابن المقري اليمني الشافعي رحمه الله في ديوانه أن كتاب الشفاء مما شوهدت بركته وكان قد ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله منه وقال في ذلك:
ما بالكتاب هواي لكن الهوى ... أمس بما أمسى به مكتوبا
كالدر يهوى العاشقون بذكرها ... شغفا بها لشمولها المحبوبا
أرجو الشفاء تفاؤلا باسم الشفا ... فحوى الشفاء وأدرك المطلوبا
وبقدر حسن الظن ينتفع الفتى ... لا سيما ظن يصير مجيبا
هذا وفي الشفاء بعض الاحاديث الضعيفة وقليل مما قيل إنه موضوع تبع فيه ابن سبع في شفائه وقد نبه على ذلك كله الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا.
وقد اختتمت حياة المؤلف الحافلة يوم الجمعة بمراكش في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.. وما قيل من أنه قتل لا أصل له.
وقد مدحه الشاعر علي بن هارون بقوله:
ظلموا عياضا وهو يحلم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراي عينا في اسمه «1» ... كي يكتموه وشأنه معلوم
لو لاه ما فاحت أباطح سبتة «2» ... والروض حول فنائها معدوم
ولبعض الأدباء في مدح هذا الكتاب:
عوضت جنات عدن يا عياض ... عن الشفاء الذي الفته عوض
جمعت فيه أحاديثا مصححة ... فهو الشفاء لمن في قلبه مرض
__________
(1) - ويقصد بذلك أن أصل اسمه (رياض) فأبدلت الراء عينا.
(2) - البلد التي ولد فيها.(1/24)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله المتفرد «1» باسمه الأسمى «2» ، المختص بالعز «3» الْأَحْمَى «4» الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ «5» مُنْتَهًى وَلَا وَرَاءَهُ مرمى «6» ، الظاهر»
لا تخيلا «8» ولا وهما، الباطن «9» تقدسا لاعدما «10» ، وسع «11» كل شيء رحمة
__________
(1) - وفي نسخة- المتفرد المتوحد.
(2) - الاسمى- أفعل التفضيل من السمو وهو الارتفاع أي الممتاز عن المشاركة في اسمه الأعلى.
(3) - الأعز- من العزة والعزيز الذي لا يحوم حوله ذل ولا مغلوبية.
(4) - الأحمى- أفعل التفضيل من حميته حماية، والمحمي المصون.
(5) - دونه- لها معان منها عند، وأمام، ووراء وهي هنا بمعنى فوق وأمام.
(6) - مرمى- المرمى هو الغرض الذي يرمى اليه وينتهي اليه السهم. فليس للعقل وراء الايمان به ومعرفته متامس.
(7) - الظاهر- من أسمائه تعالى (وهو بمعنى الواضح الجلي، وهو هنا الظاهر للفطرة والبصيرة في أياته. وتدبير حكمته. ولا يذكر ألا مقرونا باسمه تعالى الباطن.
(8) - تخيلا- أي ظنا بالقوة الخيالية.
(9) - الباطن- باعتبار ذاته لا صفاته.
(10) - تقدسا- تفعلا من القدس وهو الطهارة والتنزه: (عدما) أي فقدا اذ لا يقتضي عدم ظهوره نفي وجوده ونوره.
(11) - وسع- أحاط.(1/25)
وَعِلْمًا، وَأَسْبَغَ «1» عَلَى أَوْلِيَائِهِ نِعَمًا عُمًّا «2» ، وَبَعَثَ فيهم رسولا من أنفسهم «3» أَنْفُسِهِمْ «4» عُرْبًا وَعُجْمًا، وَأَزْكَاهُمْ «5» مَحْتِدًا «6» وَمَنْمًى «7» ، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا وَحِلْمًا «8» ، وَأَوْفَرَهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا «9» وعزما، وأشدهم بهم رأفة ورحما، وزكاه رُوحًا وَجِسْمًا، وَحَاشَاهُ «10» عَيْبًا وَوَصْمًا «11» ، وَآتَاهُ حِكْمَةً «12» وَحُكْمًا «13» وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا «14» ، وَقُلُوبًا غُلْفًا «15» وَآذَانًا صُمًّا، فَآمَنَ بِهِ وَعَزَّرَهُ «16» وَنَصَرَهُ مَنْ جعل الله له في مغنم
__________
(1) - أسبغ- أتم وأكمل، وهو في الأصل صفة للدرع وللثوب الطويل.
(2) - عما- جمع عميمه وهي التامة الشاملة.
(3) - أنفسهم- مشتقة من النفس من العرب أو من البشر لا من الملائكة.
(4) - أنفسهم- أشرفهم وأعظمهم. من النفيس.
(5) - أزكاهم- أظهرهم وأنماهم حسا ومعنى.
(6) - محتدا- الأصل وللطبع بكسر التاء.
(7) - منمى- اسم زمان أو مكان مصدر ميمي من النمو.
(8) - حلما- بكسر الحاء هو ضبط النفس عن هيجان الغضب.
(9) - اليقين- هو العلم الذي زال منه الريب تحقيقا.
(10) - حاشاه- فعل ماض بمعنى نزهه الله ويرأه.
(11) - عيبا ووصما- العيب والوصم شيء واحد الا أن الوصم أخص من العيب.
(12) - الحكمة المنع والحكيم من منع نفسه من شهواتها.
(13) - حكما- القضاء في الأحكام.
(14) - عميا- حسا ومعنى.
(15) - غلفا- جمع أغلف وهو ما وضع في غلاف.
(16) - عزره- عظمه ووقره.(1/26)
السَّعَادَةِ قِسْمًا، وَكَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ «1» عَنْ آيَاتِهِ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاءَ حَتْمًا، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أعمى «2» صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَشْرَقَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلَبَكَ بِأَنْوَارِ الْيَقِينِ وَلَطَفَ لِي «3» وَلَكَ بِمَا لطف بأوليائه الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنُزُلِ «4» قُدْسِهِ، وَأَوْحَشَهُمْ مِنَ الْخَلِيقَةِ بِأُنْسِهِ، وَخَصَّهُمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمُشَاهَدَةِ عَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ «5» وَآثَارِ قُدْرَتِهِ بِمَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ حَبْرَةً «6» ، وَوَلَّهَ «7» عُقُولَهُمْ فِي عَظَمَتِهِ حَيْرَةً، فَجَعَلُوا هَمَّهُمْ بِهِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَرَوْا فِي الدَّارَيْنِ غيره مشاهدا.
__________
(1) - صدف: أعرض.
(2) - الاسراء آية 73.
(3) - لطف لي: المشهور تعدية لطف بالباء كقوله تعالى الله لطيف بعباده وجاء تعديه باللام في قوله (ان ربي لطيف لما يشاء.. وفي نسخة صحيحه (بما لطف لأوليائه) فما موصوله.. وفي نسخة (بعباده) .
(4) - نزل: ما يهيأ للضيف من مكان.
(5) - الملكوت: باطن الملك. أو العالم العلوي (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات..)
(6) - حبرة: من الحبور وهو السرور (فهم في روضة يحبرون) .
(7) - وله: الوله الحزن أو ذهاب العقل الناشيء منه من باب تعب والوله لغة نفس الحبرة.(1/27)
فَهُمْ بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَتَنَعَّمُونَ «1» .
وَبَيْنَ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَعَجَائِبِ عَظَمَتِهِ يَتَرَدَّدُونَ. وَبِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ يَتَعَزَّزُونَ لَهِجِينَ «2» بِصَادِقِ قَوْلِهِ «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ «3» فَإِنَّكَ كَرَّرْتَ عَلَيَّ السُّؤَالَ فِي مَجْمُوعٍ «4» . يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِقَدْرِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَوْقِيرٍ وَإِكْرَامٍ، وَمَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّ مَنْصِبِهِ الْجَلِيلِ قُلَامَةَ»
ظُفْرٍ، وَأَنْ أَجْمَعَ لَكَ مَا لِأَسْلَافِنَا وَأَئِمَّتِنَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ، وَأُبَيِّنَهُ بِتَنْزِيلِ، «6» صُوَرٍ وَأَمْثَالٍ.
فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّكَ حَمَّلْتَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا إِمْرًا «7» ، وَأَرْهَقْتَنِي «8» فِيمَا نَدَبْتَنِي «9» إِلَيْهِ عُسْرًا، وَأَرْقَيْتَنِي «10» بِمَا كَلَّفْتَنِي مُرْتَقًى صَعْبًا مَلَأَ قلبي رعبا.
__________
(1) - وفي أصل التلمساني (يتمتعون) .
(2) - لهجين: مواظبين ومداومين على ذكر الله.
(3) - الانعام 91.
(4) - مجموع: أي في مصنف مجموع.
(5) - قلامة: وهو ما يسقط من الظفر.
(6) - بتنزيل صور: أي بتصوير صور.
(7) - إمرا: شديدا وعظيما.
(8) - أرهقتني: الارهاق والرهق تكليف ما لا يطاق (ولا ترهقني من أمري عسرا)
(9) - ندبتني: طلبته مني.
(10) - أرقيتني: الجأتني الى صعوده.(1/28)
فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَقْرِيرَ أُصُولٍ، وَتَحْرِيرَ «1» فُصُولٍ، وَالْكَشْفَ عَنْ غَوَامِضَ وَدَقَائِقَ مِنْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ «2» مِمَّا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ وَالرِّسَالَةِ، وَالنُّبُوَّةِ والمحبة والخلة «3» ، وخصائص هذه الدرجة العلية.
وههنا مَهَامَهُ «4» فِيحٌ «5» تَحَارُ فِيهَا الْقَطَا «6» ، وَتَقْصُرُ بِهَا الخطا، وَمَجَاهِلُ تَضِلُّ فِيهَا الْأَحْلَامُ إِنْ لَمْ تَهْتَدِ بِعَلَمِ «7» عِلْمٍ وَنَظَرِ سَدِيدٍ وَمَدَاحِضُ «8» تَزِلُّ بِهَا الْأَقْدَامُ إِنْ لَمْ تَعْتَمِدْ عَلَى تَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ وَتَأْيِيدٍ، لَكِنِّي لِمَا رَجَوْتُهُ لِي وَلَكَ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مِنْ نَوَالٍ «9» وَثَوَابٍ بِتَعْرِيفِ قَدْرِهِ الْجَسِيمِ، وَخُلُقِهِ الْعَظِيمِ وَبَيَانِ خَصَائِصِهِ الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلُ فِي مَخْلُوقٍ، وَمَا يدان «10» الله تعالى به من
__________
(1) - تحرير: تهذيب.
(2) - الحقائق: هي الأمور الثابتة من الأدلة النقلية والعقلية.
(3) - الخلة: بالضم ضرب من المحبة.
(4) - مهامه: جمع مهمه كجعفر وهو القفر والمفازة البعيدة سميت بذلك لانها مخوفة يقول فيها الانسان لصاحبه مه مه أي اسكت.
(5) - فيح: الواسعة:
(6) - القطا: طائر يوصف بالسرعة في الطيران والاهتداء في الظلمات والتبكير.
(7) - علم علم: علامة يعلم بها.
(8) - مداحض: مزالق.
(9) - نوال: عطاء.
(10) - يدان: يطاع.(1/29)
حَقِّهِ الَّذِي هُوَ أَرْفَعُ الْحُقُوقِ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ اوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا ايمانا «1» .
وَلِمَا أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ وَلِمَا حَدَّثَنَا به ابو الوليد «2» هشام ابن أحمد الفقيه رحمه الله بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ «3» بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا ابو عمرو النمري «4» حدثنا أبو محمد «5» بن عبد المؤمن، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ «6» ، حَدَّثَنَا سليمان بن الاشعث «7» ، حدثنا موسى بن
__________
(1) - المدثر: 31.
(2) - أبو الوليد هشام ابن أحمد هو الامام القرطبي الزاهد المحدث المعروف بابن العواد أحد شيوخ المصنف مهر في النحو والعربيه. ووصفه تلميذه القاضي عياض بالدقة في الاتقان والضبط. وتوسع في المعارف ولد سنة 452 هـ وتوفي سنة 509 هـ.
(3) - الحسين بن محمد حافظ مشهور له كتب مفيدة توفي 498 هـ.
(4) - أبو عمر بن عبد البر النمري. حافظ المغرب وشيخ الاسلام صاحب الاستيعاب ولد سنة 368 هـ وتوفي في شاطبة سنة 463 هـ.
(5) - أبو محمد بن عبد المؤمن: هو من قدماء شيوخ ابن عبد البر. كان تاجرا صدوقا لقي كبار العلماء إلا أنه لم يكن جيد الضبط. كما ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال.
(6) - أبو بكر محمد بن بكر: المعروف بابن داسه من مشايخ الحديث المشهورين أحد رواه سنن أبي داود. وقد روى عنه بالاجازة أبو نعيم الأصبهاني.
(7) - سليمان بن الأشعث: هو الامام الحافظ أبو داوود السجستاني من مشايخه احمد بن حنبل وقد أراه كتابه فاستحسنه. ومناقبه معروفة وقيل عنه: الين الحديث لأبي داود كما ألين الحديد لداود عليه الصلاة والسلام ولد سنة 202 هـ وتوفي سنة 275 هـ بالبصرة.(1/30)
اسماعيل «1» حدثنا حماد «2» اخبرنا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ «3» عَنْ عَطَاءٍ «4» ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نار يوم القيامة «6» .
فبادرت الى نكت «7» سافرة «8» عن وجه الغرض، مؤديا من ذلك
__________
(1) - موسى بن اسماعيل: من المحدثين روى عنه البخاري وأبو داود وقال عباس الدوري: كتبنا عنه خمسة وثلاثين الف حديث، ثقة ثبت. أخرج له الجماعة اصحاب الكتب الستة وتوفي سنة 223 هـ.
(2) - حماد: روى عنه شعبة ومالك وغيرهما صدوق يغلط وليس هو في قوة مالك وأخرج له مسلم والأربعة توفي سنة 199.
(3) - علي بن الحكم: البناني البصري روى عن أنس وأبي عثمان الهندي وطائفة منهم نافع. أخرج له البخاري والأربعة توفي سنة 131 هـ.
(4) - عطاء بن أبي رباح: روى عن عائشة وأبي هريرة وجابر وابن عباس وزيد بن أرقم وروى عنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث وأمم. أخرج له الأئمة الستة. وهو من كبار التابعين المتفق على توثيقه وجلالته توفي وله ثمانون سنة 103 هـ.
(5) - أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر قيل أن النبي صلّى الله عليه وسلم كناه بها لما رآه يحمل هرة في كمه أسلم عام خيبر وشهدها ولازم مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم صابرا زاهدا ولذا عد من أحفظ الصحابة رضي الله عنهم وروى عنه ما لم يرو غيره وفي البخاري عنه أنه قال: لم يحفظ أحد أكثر مني ألا عبد الله بن عمرو بن العاص فانه كان يكتب وانا لا أكتب وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قد دعا له بالحفظ فلم ينس شيئا سمعه بعد. مات بالمدينة.
(6) - أسنده المصنف رحمه الله من طريق أبي داوود وأخرجه الترمذي وحسنه، وابن حبان والحاكم وابن ماجه بسند صحيح من طريق محمد بن سيرين.
(7) - نكت- نكت في الأرض طعنها وهي هنا ما خفي من الامر حتى يفتقر الى تفكر.
(8) - وفي نسخة (مسفرة) وفي نسخة (سافرة مسفرة) بالجمع بينهما، وهو الكشف مطلقا.(1/31)
الْحَقَّ الْمُفْتَرَضَ، اخْتَلَسْتُهَا «1» عَلَى اسْتِعْجَالٍ لِمَا الْمَرْءُ بصدده»
من شغل البدن والبال، بما قلده «3» مِنْ مَقَالِيدِ الْمِحْنَةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا فَكَادَتْ تَشْغَلُ عَنْ كُلِّ فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَتَرُدُّ بَعْدَ حُسْنِ التَّقْوِيمِ إِلَى أَسْفَلِ سُفْلٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِالْإِنْسَانِ خَيْرًا لَجَعَلَ شُغْلَهُ وَهَمَّهُ كُلَّهُ فيما يحمد غدا أو يُذَمُّ مَحَلُّهُ، فَلَيْسَ ثَمَّ سِوَى نَضْرَةِ «4» النَّعِيمِ. أَوْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَلَكَانَ عَلَيْهِ بِخُوَيْصَّتِهِ «5» وَاسْتِنْقَاذِ مُهْجَتِهِ «6» ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَسْتَزِيدُهُ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ يُفِيدُهُ أَوْ يَسْتَفِيدُهُ.
جَبَرَ «7» اللَّهُ تَعَالَى صَدْعَ «8» قُلُوبِنَا، وَغَفَرَ عَظِيمَ ذُنُوبِنَا، وَجَعَلَ جَمِيعَ اسْتِعْدَادِنَا لِمَعَادِنَا «9» ، وتوفر دواعينا) فيما ينجينا ويقربنا اليه
__________
(1) - وفي نسخة (اختلسها) بالمضارع المتكلم، وفي نسخة (اختلسوها) وهو خطأ ظاهر.
(2) - بصدده: بسبيله.
(3) - قلده: بالمجهول، وفي نسخة (طوقه) والمعنى واحد أي كلفه.
(4) - نضرة: الحسن، وفي نسخة (حضرة) اشارة الى حضوره.
(5) - خويصته: تصغير خاصته، وهو الأمر الذي يختص به.
(6) - مهجته: روحه.
(7) - جبر: أصلح.
(8) - صدع: كسر.
(9) - معادنا: مرجعنا.(1/32)
زلفى «1» وَيُحْظِينَا «2» بِمَنِّهِ «3» وَرَحْمَتِهِ.
وَلَمَّا نَوَيْتُ تَقْرِيبَهُ وَدَرَّجْتُ «4» تَبْوِيبَهُ، وَمَهَّدْتُ تَأْصِيلَهُ وَخَلَّصْتُ «5» تَفْصِيلَهُ وَانْتَحَيْتُ «6» حَصْرَهُ وتحصيله ترجمته «7» بالشفا «8» بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى. وَحَصَرْتُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ «9» .
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:) فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى لِقَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَتَوَجَّهَ «10» الكلام فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهِ عَظِيمَ قَدْرِهِ لَدَيْهِ وفيه عشرة فصول.
__________
(1) - زلفى: مصدر أو حال من تزلف تقرب (وأزلفت الجنة للمتقين) .
(2) - يحظينا: يرفع قدرنا ويخصنا بالمنزلة العلية.
(3) - بمنه: بسبب امتنانه.
(4) - درجت: رتبت ومنه الدرج أي درجة درجة.
(5) - خلصت: بينت وعينت.
(6) - انتحيت: قصدت وفي نسخة (انتخبت) من التصفية وهو لا لا معنى له هنا.
(7) - ترجمته: سميته. واصل معنى الترجمة التعبير من لغة لأخرى، أو تبليغ الكلام الخفي. (ان الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي الى ترجمان) .
(8) - الشفا: هي الشفاء فقد اجازوا للناثر لمراعاة فاصلة السجع ما يجوز للشاعر كقوله: «لا بد من صنعا وأن طال السفر» ،
(9) - وفي نسخة (في أقسام اربعة) .
(10) - توجه» انحصر.(1/33)
الْبَابُ الثَّانِي: فِي تَكْمِيلِهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَقِرَانِهِ «1» جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا «2» وَفِيهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَصْلًا «3» .
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَمَشْهُورِهَا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَفِيهِ اثْنَا عَشَرَ فَصْلًا «4» .
الْبَابُ الرَّابِعُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْكَرَامَاتِ وَفِيهِ ثَلَاثُونَ «5» فَصْلًا.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ «6» من حقوقه عليه الصلاة والسلام. ويترتب القول فيه في أربعة أبواب.
__________
(1) - قرانه: مقارنته وجمعه.
(2) - نسقا: متتابعا.
(3) - بل هي ستة وعشرون فصلا.
(4) - هكذا في كل النسخ والذي في هذا الباب خمسة عشر فصلا ولعله قصد بالاثنى عشر فصولا مهمة وبزيادة الثلاثة مكملة.
(5) - الذي فيه من الفصول تسعة وعشرون ولعله عد ما صدر من الباب الى الفصل فصلا.
(6) - الأنام: الخلق او الانس والجن، أو كل ما على وجه الارض والمناسب هنا الثاني.(1/34)
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَفِيهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ «1» .
الْبَابُ الثَّانِي: فِي لُزُومِ مَحَبَّتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَفِيهِ سِتَّةُ فصول «2»
الباب الثاني: فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَلُزُومِ تَوْقِيرِهِ وَبِرِّهِ وَفِيهِ سَبْعَةُ «3» فُصُولٍ.
الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ وَفَرْضِ ذَلِكَ وَفَضِيلَتِهِ وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ «4»
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) فِيمَا يَسْتَحِيلُ «5» فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ وَيَصِحُّ «6» مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يضاف اليه، وهذا القسم
__________
(1) - بل هي أربعة والعذر ما تقدم.
(2) - بل هي خمسة.
(3) - بل ستة.
(4) - بل تسعة.
(5) - عقلا ونقلا.
(6) - أي وما يصح.(1/35)
أَكْرَمَكَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ سِرُّ الْكِتَابِ وَلُبَابُ ثَمَرَةِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ «1» وَمَا قَبْلَهُ لَهُ كَالْقَوَاعِدِ وَالتَّمْهِيدَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى مَا نُورِدُهُ فِيهِ مِنَ النُّكَتِ الْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَالْمُنْجِزُ «2» مِنْ غَرَضِ هَذَا التَّأْلِيفِ وَعْدَهُ، وَعِنْدَ التقصي لموعدته»
والتفصي «4» عَنْ عُهْدَتِهِ «5» يَشْرَقُ «6» صَدْرُ الْعَدُوِّ اللَّعِينِ، وَيُشْرِقُ قلب المؤمن باليقين، وتملأ انواره جوانح «7» صَدْرِهِ وَيَقْدُرُ الْعَاقِلُ «8» النَّبِيَّ حَقَّ قَدْرِهِ، وَيَتَحَرَّرُ «9» الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يختص بالأمور الدينية ويتشبث «10» بِهِ الْقَوْلُ فِي الْعِصْمَةِ، وَفِيهِ سِتَّةَ عَشَرَ فصلا «11» .
__________
(1) - أي أبواب منا القسم أو أبواب الكتاب كله وهو الأولى.
(2) - المنجز: الموفي.
(3) - لموعدته: بمعنى الموعد.
(4) - التفصي: التخلص والتفلت.
(5) - عهدته: التزامه وتحمله.
(6) - يشرق: بفتح الياء والراء يضيق لوقوف الشراب ونحوه في الحلق والغصة مثله ألا أن استعمالها في غير المائعات اكثر.
(7) - جوانح: جمع جانحة وهي اضلاعه التي تحت الترائب مما يلي الصدر كالضلوع مما يلي الظهر.
(8) - (العاقل) وفي نسخة (الغافل) .
(9) - يتحرر: يتلخص.
(10) - يتشبث: يتعلق.
(11) - عدد الفصول هنا مضبوط.(1/36)
الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَحْوَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ «1» عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ «2» الْبَشَرِيَّةِ، وَفِيهِ تِسْعَةُ فُصُولٍ «3» .
(الْقِسْمُ الرَّابِعُ) فِي تَصَرُّفِ «4» وُجُوهِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَنْ تَنَقَّصَهُ «5» أَوْ سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ مَا هُوَ فِي حَقِّهِ سَبٌّ وَنَقْصٌ مِنْ تَعْرِيضٍ «6» أَوْ نَصٍّ «7» وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ «8» .
الْبَابُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ شانئه «9» ومؤذيه ومنتقصه «10» وعقوبته
__________
(1) - (طروه) وفي نسخة (طروؤه) أي وقوعه وحدوثه. وذكر صاحب القاموس مادة طرأ مهموزة ومعتلة وعلى تقدير الهمز يجوز الابدال.
(2) - الأعراض: ما يعرض للانسان من مرض أو نسيان أو نحوهما.
(3) - بل ثمانية.
(4) - تصرف: تنوع.
(5) - تنقصه: عد فيه عيبا.
(6) - التعريض: ذكر الشتم بطريق الكناية أو التلويح كأنه يؤخذ من عرضه أي جانبه.
(7) - نص: النص هنا التصريح، وله معان أخرى.
(8) - بل تسعة.
(9) - شانئه: مبغضه.
(10) - (منتقصه) وفي نسخة (متنقصه) بتقديم التاء على النون.(1/37)
وَذِكْرِ اسْتِتَابَتِهِ وَالصَّلَاةِ «1» عَلَيْهِ وَوِرَاثَتِهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ «2» وَخَتَمْنَاهُ بِبَابٍ ثَالِثٍ جَعَلْنَاهُ تَكْمِلَةً لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَوَصْلَةً لِلْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ وَآلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبَهُ، وَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ «3» ، وَبِتَمَامِهَا يَنْتَجِزُ الْكِتَابُ، وَتَتِمُّ الْأَقْسَامُ وَالْأَبْوَابُ، وَيَلُوحُ «4» فِي غُرَّةِ «5» الْإِيمَانِ لُمْعَةٌ «6» مُنِيرَةٌ، وَفِي تَاجِ التَّرَاجِمِ دُرَّةٌ خَطِيرَةٌ، تُزِيحُ كُلَّ لَبْسٍ «7» ، وَتُوَضِّحُ كُلَّ تَخْمِينٍ «8» وَحَدْسٍ «9» ، وَتَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَتَصْدَعُ «10» بِالْحَقِّ، وَتُعْرِضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى لَا إله سواه أستعين.
__________
(1) - للجنازة.
(2) - كذا في أكثر النسخ وهو خطأ من الناسخ وصوابه (خمسة) كما صححه الشمني في حواشيه.
(3) - والصواب في (عشرة كما في بعض النسخ وهو مطابق للواقع.
(4) - (يلوح) وفي نسخة (تلوح) فان كانت تلوح فتكون لمعة فاعلا وان كانت يلوح فلمعة تمييز أو حال.
(5) - غرة: بياض الجبهة.
(6) - لمعة: قطعة.
(7) - لبس: اشكال.
(8) - تخمين: قول من غير تحقيق.
(9) - حدس: ما صدر عن ظن ووهم. واللفظ ساقط من أصل المؤلف كما قال بعضهم ولكن لا بد من ذكره لتمام السجع.
(10) - تصدع: تجهر به وتظهره.(1/38)
أيها الاخوة الاحبه:
قصرنا هذا العدد على موضوعات التقديم وبيان أهمية هذا الكتاب لنبدأ- باذن الله تعالى- في العدد القادم مادة الكتاب مباشرة راجين من المولى تعالى تسديد الخطى ومن القراء الكرام النصح والارشاد.
والله تعالى هو الموفق للخير وهو يهدي السبيل.
«المحققون»(1/39)
(الجزء الأوّل)(1/41)
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى لِقَدْرِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وفعلا(1/43)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
مُقَدِّمَةُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أبو الفضل رحمه الله «1» :
لاخفاء عَلَى مَنْ مَارَسَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ خُصَّ بِأَدْنَى لَمْحَةٍ «2» مِنَ الْفَهْمِ «3» ، بِتَعْظِيمِ اللَّهِ قَدْرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُصُوصِهِ إباه بِفَضَائِلَ وَمَحَاسِنَ وَمَنَاقِبَ لَا تَنْضَبِطُ»
لِزِمَامٍ، وَتَنْوِيهِهِ «5» مِنْ عَظِيمِ «6» قَدْرِهِ بِمَا تَكِلُّ عَنْهُ الْأَلْسِنَةُ وَالْأَقْلَامُ؛
فَمِنْهَا مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي كتابه، ونبّه به على جليل نصابه «7» ،
__________
(1) - وفي نسخة (قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ الله تعالى وسدده) .
(2) - اللمحة: النظرة الخفية وفي نسخة (لحظة) والمقصود هنا أقل قدر من الفهم.
(3) - وفي نسخة: من فهم.
(4) - الزمام: هو ما يزم به والمقصود أنها لا تحصر في كتاب.
(5) - تنويهه: نوه به تنويها رفع ذكره وعظمه ومن كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا أول من نوه بالعرب: أي رفع ذكرهم بالديوان والإعطاء.
(6) - وفي نسخة «من عظم» وفي أخرى «بعظيم» .
(7) - نصابه: منصبه.(1/45)
وأثنى به عَلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَحَضَّ الْعِبَادَ عَلَى التزامه «1» وتقّلد إيجابه «2» . فَكَانَ جَلَّ جَلَالُهُ هُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ وَأَوْلَى، ثُمَّ مَدَحَ بِذَلِكَ وَأَثْنَى، ثُمَّ أَثَابَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَلَهُ الْفَضْلُ بَدْءًا وَعَوْدًا، وَالْحَمْدُ أُولَى وَأُخْرَى «3» ...
وَمِنْهَا مَا أَبْرَزَهُ لِلْعِيَانِ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَتَخْصِيصِهِ بالمحاسن الجميلة، والأخلاق الحميدة، والمذاهب الْكَرِيمَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْعَدِيدَةِ، وَتَأْيِيدِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا مَنْ عَاصَرَهُ «4» ، وَرَآهَا مَنْ أَدْرَكَهُ «5» ، وَعَلِمَهَا عِلْمَ يَقِينٍ «6» مَنْ جاء بعده حتى انتهى علم حقيقة ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَفَاضَتْ أَنْوَارُهُ «7» عَلَيْنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «8» .
__________
(1) ويعني المصنف بهاتين العبارتين أن ما أمرنا به على قسمين: مستحب وأشار اليه بقوله (حض العباد على التزامه) وواجب: وأشار اليه بقوله (وتقلد إيجابه) والتقلد: وضع القلادة في الجيد استعير للالتزام على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ويجوز جعله مجازا مرسلا بمعنى أن نقيد أنفسنا بالتزام ما أوجبه علينا كما تقيد القلادة العنق.
(2) ويعني المصنف بهاتين العبارتين أن ما أمرنا به على قسمين: مستحب وأشار اليه بقوله (حض العباد على التزامه) وواجب: وأشار اليه بقوله (وتقلد إيجابه) والتقلد: وضع القلادة في الجيد استعير للالتزام على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ويجوز جعله مجازا مرسلا بمعنى أن نقيد أنفسنا بالتزام ما أوجبه علينا كما تقيد القلادة العنق.
(3) وفي نسخة: والحمد لله أولى وأخرى.. وهذا أولى وأحسن.
(4) - أي عاصر النبي صلّى الله عليه وسلم وفي نسخة (عاصرها) فعود الضمير هنا على الكرامات.
(5) - وفي نسخة «من أدركها» .
(6) - وفي نسخة «اليقين» .
(7) - وفي نسخة «أنوارها» .
(8) - وفي نسخة (صلى الله عليه وسلم كثيرا) .(1/46)
عَنْ أَنَسٍ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ «2» لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا «3» مُسْرَجًا «4» فَاسْتَصْعَبَ «5» عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟!! فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ ... قَالَ: «6» فَارْفَضَّ «7» عرقا «8» .
__________
(1) هو أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي الصحابي رضي الله تعالى عنه، خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر أو ثمان ولازمه عشر سنين، وروى عنه ألفي حديث ومائتين وستة، ودعاله صلّى الله عليه وسلم بالبركة في ماله وولده وعمره والمغفرة، فكان رضي الله عنه من أكثر الناس مالا ودفن ولصلبه بضعة وعشرون ومائة من الأولاد، وكان له بستان يحمل في السنة مرتين، وعاش حتى سئم من الحياة، وتوفي سنة 93 هـ وله مائة سنة ودفن قرب البصره.
(2) البراق: سمي بذلك لسرعة سيره كالبرق وهو دابة دون البغل وفوق الحمار يضع حافره عند منتهى طرفه كما في الصحيح.
(3) ملجما: أي موضوعا في فمه اللجام.
(4) مسرجا: أي شد عليه السرج.
(5) أي أنه صلّى الله عليه وسلم لما أراد ركوبه لم يستقر حتى يركبه.
(6) قال: النبي صلّى الله عليه وسلم أو أنس الراوي أو من كلام الراوي عن أنس.
(7) أرفض: سال.
(8) هذا الحديث أسنده المصنف من طريق الترمذي.(1/47)
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهِ عَظِيمَ قَدْرِهِ لَدَيْهِ
اعْلَمْ أَنَّ فِي كتاب الله عزّ وجلّ آيات كثيرة مفعمة بجميل ذكر المصطفى وَعَدِّ مَحَاسِنِهِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَتَنْوِيهِ قَدْرِهِ اعْتَمَدْنَا مِنْهَا عَلَى مَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ وَبَانَ فَحْوَاهُ وَجَمَعْنَا ذَلِكَ فِي:
عَشَرَةِ فُصُولٍ(1/49)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَجِيءَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَتَعْدَادِ الْمَحَاسِنِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» » الْآيَةَ ... قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «2» : وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ «مِنْ أَنْفَسِكُمْ «3» » بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالضَّمِّ..
قَالَ الْقَاضِي أبو الفضل: «4» أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ، أَوْ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ الْمُوَاجَهِ بِهَذَا الْخِطَابِ، أَنَّهُ بَعَثَ فيهم رسولا من أنفسهم يعرفونه،
__________
(1) التوبة 128.
(2) أبو الليث السمرقندي نسبة الى سمرقند مدينة معروفة فيما وراء النهر، وهو الامام الجليل المعروف بامام الهدى. وهو مضربن محمد الفقيه الحنفي المشهور صاحب التصانيف الجليلة كالتفسير والنوازل وخزانة الفتاوي وتنبيه الغافلين والبستان توفي سنة 373 هـ.
(3) من أنفسكم: قراءة شاذة مروية عن فاطمة وعائشة رضي الله عنهما وقرأ به عكرمة وابن محيصن وفي المستدرك للحاكم عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم قرأها كذلك ... وقراءة الجمهور بالضم.
(4) وفي بعض النسخ: (قال الفقيه القاضي أبو الفضل وفقه الله تعالى) .(1/51)
وَيَتَحَقَّقُونَ مَكَانَهُ، وَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَلَا يَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَتَرْكِ النَّصِيحَةِ لَهُمْ لِكَوْنِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لم تكن قبيلة في العرب «1» إِلَّا وَلَهَا عَلَى «2» رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَادَةٌ «3» ، أَوْ قَرَابَةٌ «4» ..
وَهُوَ «5» عِنْدَ ابن عباس «6» وغيره: معنى قوله تعالى
__________
(1) وفي نسخة (وأنه لم تكن في العرب قبيلة) .
(2) (على) هنا للمصاحبه مثل قوله تعالى (وآتى المال على حبه) أي مع حبه.
(3) ولادة: أي قرابة قريبة.
(4) قرابة: أي قرابة بعيدة والمقصود منهما معا أن في كل قبيلة من العرب له صلّى الله عليه وسلم أب أو جد أو أم وقوله: لم تكن في العرب قبيلة ... أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» .
(5) كما رواه عنه البخاري والطبراني.
(6) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي أبو العباس ابن عم رسول صلّى الله عليه وسلم ولد وكان بنو هاشم بالشعب قبل الهجرة بثلاث، وكان يقال له حبر العرب غزا أفريقية مع عبد الله بن سعد سنة سبع وعشرين. كان أبيض طويلا مشربا صفرة جسيما وسيما صبيح الوجه له وفرة دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمسح رأسه وتفل في فيه وقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.. ويروى أن المهاجرين قالوا لسيدنا عمر بن الخطاب ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس فقال: ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول. وعن عطاء قال: ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقها وأعظم خشية، وإن أصحاب الفقه والقرآن والشعر عنده كل يأخذ نصيبه توفي سنة (68) هـ وعن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر أبيض لم ير على خلقته فدخل في نعشه ولم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي» .(1/52)
«إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» «1» وَكَوْنِهِ مَنْ أَشْرَفِهِمْ، وَأَرْفَعِهِمْ، وَأَفْضَلِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ الفتح ... وهذه نِهَايَةُ الْمَدْحِ.
ثُمَّ وَصَفَهُ بَعْدُ بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَحَامِدَ كَثِيرَةٍ، مِنْ حِرْصِهِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ. وَشِدَّةِ مَا يُعْنِتُهُمْ «2» وَيَضُرُّ بِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَعِزَّتِهِ»
عَلَيْهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِمُؤْمِنِهِمْ «4» .
قَالَ بَعْضُهُمْ «5» : أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أسمائه رؤوف رحيم. ومثله في الآية الأخرى «6» «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ «7» » الآية.
__________
(1) الشورى 23.
(2) يعنتهم: يشق عليهم.
(3) عزته: مشقته.
(4) وفي نسخة بمؤمنيهم.
(5) القائل: هو الحسين بن الفضل.
(6) وفي نسخة (ومثله في الآية الاخرى قوله تعالى)
(7) آل عمران 164.(1/53)
وقوله تعالى «1» : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «2» » الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ «3» » الآية..
وروي عَنْ عَلِيٍّ «4» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» في قوله تعالى من أنفسكم قَالَ: «نَسَبًا وَصِهْرًا وَحَسَبًا لَيْسَ فِي آبَائِي مِنْ لَدُنْ آدَمَ سِفَاحٌ، كُلُّهَا نِكَاحٌ «6» » .
قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ «7» : كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خمسمائة «8» أم فما وجدت
__________
(1) وفي نسخة (وفي الآية الاخرى) .
(2) الجمعة 2.
(3) البقرة 151.
(4) وفي نسخة (علي بن أبي طالب رضي الله عنه) . ترجمته: علي بن أبي طالب بن عبد الله بن هاشم القرشي الهاشمي أول الناس إسلاما، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح فربي في حجر النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يفارقه وشهد معه المشاهد كلها الا غزوة تبوك حيث أخره النبي صلّى الله عليه وسلم وقال له: الا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى. وزوجه النبي بنته فاطمة وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد ولما آخى النبي صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له: «أنت أخي» وكان أحد رجال الشورى الذين نص عليهم سيدنا عمر وقتل سنة 40 هـ.
(5) كما رواه ابن أبي عمر العدني في مسنده.
(6) وفي نسخة (كلنا) وكذا وقع في سنن الترمذي مرويا بالوجهين.
(7) هو محمد بن السائب الكلبي أبو نصر المفسر المحدث النسابة أخرج له الترمذي ونسبته إلى كلب وهي قبيلة معروفة توفي في السنة التي مات فيها الشافعي سنة 184 هـ.
(8) أراد التكثير وإلا فمحال أن يكون هناك خمسمئة أم إلى آدم.(1/54)
فيهن سفاحا ولا شيئا مما كانت عليه الجاهلية «1» .
عن ابن عباس «2» رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» «3» قَالَ: (من نبي إلى نبي حتى أخرجتك «4» نَبِيًّا) «5»
وَقَالَ جَعْفَرُ «6» بْنُ مُحَمَّدٍ: عَلِمَ اللَّهُ تعالى عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ طَاعَتِهِ فَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ الصَّفْوَ مِنْ خِدْمَتِهِ، فأقام بينه وبينهم «7» مَخْلُوقًا مِنْ جِنْسِهِمْ فِي الصُّورَةِ، أَلْبَسَهُ مِنْ نَعْتِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَأَخْرَجَهُ إِلَى الْخَلْقِ سَفِيرًا صَادِقًا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ طَاعَتَهُ، وَمُوَافَقَتَهُ مُوَافَقَتَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» «8» .
__________
(1) وفي نسخة (مما كان) وفي نسخة (أهل الجاهلية) .
(2) انظر ص (152 رقم (6) .
(3) الشعراء 119.
(4) وفي نسخة (حتى أخرجك) .
(5) كما رواه ابن سعد والبزار وأبو نعيم في دلائله بسند صحيح عنه.
(6) هو جعفر الصادق بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ علي بن أبي طالب ولد سنة 80 هـ وثقه في روايته الشافعي وابن معين وابو حاتم والذهبي وهو من فضلاء أهل البيت وعلمائهم توفي في سنة 184 هـ ودفن بالبقيع مع أبيه وجده وعمه في قبر واحد.
(7) وفي نسخة (فاقام بينهم وبينه) .
(8) النساء 80.(1/55)
وَقَالَ تَعَالَى «1» : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «2» .
قال أبو بكر محمد «3» بْنُ طَاهِرٍ «4» : زَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ، فَكَانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً، وَجَمِيعُ شَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ، فَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَحْمَتِهِ فَهُوَ النَّاجِي فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَالْوَاصِلُ فِيهِمَا إِلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» فَكَانَتْ حَيَاتُهُ رَحْمَةً وَمَمَاتُهُ رَحْمَةً.
كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «5» : «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ» .
وَكَمَا قَالَ «6» عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رحمة بأمة «7»
__________
(1) وفي نسخة (وقال الله تعالى) .
(2) الانبياء (107) .
(3) وفي نسخة (أبو بكر بن طاهر) .
(4) هو أبو بكر بن طاهر بن مفوّز المغافري الشاطبي عالم ورع مات قرب ستة 330 هـ.
(5) وفي نسخة صلّى الله عليه وسلم كما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبزار بإسناد صحيح.
(6) على ما رواه مسلم.
(7) قال الحافظ المروزي: المعروف رحمة أمة. وكذا رواه مسلم. كذا ذكره الحجازي.(1/56)
قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا «1» وَسَلَفًا» .
وَقَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «2» : «رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» يَعْنِي لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وقيل: لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. لِلْمُؤْمِنِ رَحْمَةً بِالْهِدَايَةِ وَرَحْمَةً لِلْمُنَافِقِ بِالْأَمَانِ مِنَ الْقَتْلِ وَرَحْمَةً لِلْكَافِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «4» : هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ إِذْ عُوفُوا مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ
وَحُكِيَ»
: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلْ أَصَابَكَ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ قَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْتُ لِثَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ بِقَوْلِهِ «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» «6» .
وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ «7» بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فِي قوله تعالى: «فَسَلامٌ
__________
(1) الفرط: هو الذي يتقدم الواردين ليهيء لهم ما يحتاجون اليه عند نزولهم في منازلهم.
(2) تقدمت ترجمته في ص (51) رقم (2)
(3) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6)
(4) فيما رواه جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، والطبراني، والبيهقي في دلائله.
(5) لم يوجد في شيء من كتب الحديث نقله كما في تخريج السيوطي وغيره.
(6) سورة التكوير «21» .
(7) تقدمت ترجمته في ص (55) رقم (6)(1/57)
لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» «1»
أَيْ بِكَ..... إِنَّمَا وَقَعَتْ سَلَامَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ» «2» الْآيَةَ.
قَالَ كَعْبُ «3» الْأَحْبَارِ وَابْنُ جُبَيْرٍ «4» : الْمُرَادُ بِالنُّورِ الثَّانِي هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وقوله تعالى «مَثَلُ نُورِهِ» أَيْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال «5» سهل بن «6» عبد الله: المعنى:
__________
(1) الواقعة (91) .
(2) النور 35.
(3) وهو كعب بن ماتع بن هينوع أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر، وصحب عمر، وأكثر الرواية عنه وعن غيره، وروى الصحابة عنه أيضا، وكان أدرك الجاهلية على اليهودية، وسكن في اليمن، ثم في حمص بعد إسلامه، وبها توفي في بخلافة عثمان سنة 32 هـ.
(4) هو سعيد بن جبير الوالهي أبو عبد الله التابعي العابد الزاهد الثقة أحد أعلام رواة الحديث روي عن ابن عباس وغيره وروى عنه أصحاب السنن ومن لا يحصر قتله الحجاج ظلما سنة 95 هـ ولم يسلط على أحد بعده بدعوته رضي الله عنه.
(5) وفي نسخة (وقاله) وهو غير صحيح.
(6) هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري الصالح المشهور الذي لم يسمع الدهر بمثله علما وورعا وله كرامات مشهورة صحب ذا النون المصري بمكة ولد سنة 200 هـ بتستر وتوفي في سنة 273 بالبصرة.(1/58)
اللَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ «1» .
ثُمَّ قَالَ «2» : مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ إِذْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا فِي الأصلاب «كمشكاة «3» » صفتها «4» كذا ...
وأراد ب «المصباح» قلبه، و «الزجاجة» صَدْرَهُ ... أَيْ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ «5» دُرِّيٌّ «6» لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ» أي من نور ابراهيم عليه السلام «7» .
وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ.
وَقَوْلُهُ: «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ» أَيْ تَكَادُ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِينُ لِلنَّاسِ قَبْلَ كَلَامِهِ كَهَذَا الزَّيْتِ.
وَقَدْ قِيلَ «8» فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا والله أعلم.
__________
(1) وهذا المعنى هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أي سهل.
(3) المشكاة: كوة غير نافذة وفيها أقوال أخر.
(4) وفي نسخة (وصفها) .
(5) كوكب: نجم.
(6) دري: مضيء.
(7) وفي نسخة (عليه الصلاة والسلام.)
(8) أي على ما ذكره المفسرون واللغويون(1/59)
وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نُورًا وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَقَالَ تَعَالَى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» «1»
وَقَالَ تَعَالَى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» «2» .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» «3» إلى آخر السورة «شَرَحَ» وَسَّعَ. وَالْمُرَادُ «بِالصَّدْرِ» هُنَا الْقَلْبُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «5» : شَرَحَهُ «بِنُورِ «6» الْإِسْلَامِ» .
وَقَالَ سَهْلٌ «7» : «بِنُورِ الرِّسَالَةِ» .
وَقَالَ الْحَسَنُ «8» : «ملأه حكما وعلّما» .
__________
(1) المائدة (15) .
(2) الاحزاب (46) .
(3) الانشراح (1) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(5) كما رواه ابن أبي حاتم عن عكرمة، وابن مردويه، وابن المنذر في تفسيريهما عنه.
(6) وفي نسخة (بالاسلام) وفي أخرى (بالايمان) .
(7) تقدمت ترجمته في ص (58) رقم (6) .
(8) هو يسار بن أبي الحسن البصري التابعي من أجل التابعين وهو في الزهد والعلم وإظهار الحق بمرتبه عالية غنية عن البيان مكث ثلاثين سنة لم يضحك ولم يخرج من محل الطاعة، لقي كثيرا من الصحابة، وتروى عنه احاديث كثيرة، وحيث اطلق المحدثون الحسن فهو المراد، وكانت أمه تخدم أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا بكى عندها في صغره وضعت ثديها في فمه فأصابته بركتها توفي بالبصرة سنة 116 هـ وهو ابن ثمان وثمانين سنة.(1/60)
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: «أَلَمْ يُطَهِّرْ قَلْبَكَ حَتَّى لَا يَقْبَلَ «1» الْوَسْوَاسَ» «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» «2» .
قِيلَ: «مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ- يَعْنِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ» -.
وَقِيلَ: «أَرَادَ ثِقَلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ» .
وَقِيلَ: «أَرَادَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ حَتَّى بَلَّغَهَا» .
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ «3» وَالسُّلَمِيُّ «4» .
وَقِيلَ: «عَصَمْنَاكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَثْقَلَتِ الذُّنُوبُ ظَهْرَكَ» .
حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ. «5» :
«وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «6» قال يحيى «7» بن آدم: «بالنبوة» .
__________
(1) وفي نسخة (حتى لا يؤذيك) .
(2) الانشراح (3) .
(3) هو علي بن حبيب القاضي أبو الحسن وهو صاحب التصانيف الجليلة في التفسير وفقه الشافعية والأصول والحديث كالحاوي والأحكام السلطانية توفي سنة 450 هـ وقد بلغ ستا وثمانين سنة.
(4) هو أبو عبد الرحمن السلمي بضم السين وفتح اللام منسوب لسليم بالتصغير، وهو صاحب الحقائق شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم ولد سنة 330 هـ وتوفي سنة 412 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص (51) رقم (2) .
(6) الانشراح (4) .
(7) هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي أبو زكريا أحد الأعلام الذين أخرج لهم أصحاب الكتب الستة وقد وثقه ابن معين وغيره توفي سنة 203 هـ.(1/61)
وَقِيلَ: «إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي»
فِي قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» وقيل: في الأذان «2» .
قال القاضي الفقيه أَبُو الْفَضْلِ: هَذَا تَقْرِيرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ لَدَيْهِ، وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، بِأَنْ شَرَحَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، وَوَسَّعَهُ لِوَعْيِ الْعِلْمِ وَحَمْلِ الْحِكْمَةِ، وَرَفَعَ عَنْهُ ثِقَلَ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ، وَبَغَّضَهُ لِسِيَرِهَا وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِظُهُورِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَحَطَّ عَنْهُ عُهْدَةَ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ، وَتَنْوِيهِهِ بِعَظِيمِ مَكَانِهِ، وَجَلِيلِ رُتْبَتِهِ، وَرِفْعَةِ ذِكْرِهِ وَقِرَانِهِ مَعَ اسْمِهِ اسْمَهُ ...
قال قتادة «3» : «رفع الله تعالى ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله» .
__________
(1) وسيأتي أن هذا حديث مرفوع.
(2) وفي نسخة (في الأذان والاقامة) .
(3) أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي، وقتادة هو ابن دعامه أبو الخطاب السدوسي الأعمى الحافظ المفسر روى عن عبد الله بن سرجس وأنس وخلق كثير توفي سنة 117 هـ.(1/62)
وروى أبو سعيد «1» الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «2» : «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ:
تَدْرِي «3» كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ .. قُلْتُ «4» : اللَّهُ وَرَسُولُهُ «5» أَعْلَمُ. قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي..»
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «6» : جَعَلْتُ تَمَامَ الْإِيمَانِ بِذِكْرِكَ مَعِي. «7» » .
وَقَالَ «8» أَيْضًا: «جَعَلْتُكَ ذِكْرًا مِنْ ذِكْرِي، فَمَنْ ذَكَرَكَ ذَكَرَنِي» .
وَقَالَ جَعْفَرُ «9» بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: لَا يَذْكُرُكَ أحد بالرسالة إلا
__________
(1) هو سعيد بن مالك بن سنان منسوب الى خدره، صحابي رفيع القدر مشهور من فقهاء الصحابة ومن أصحاب الشجرة توفي بالمدينة ودفن بالبقيع سنة 64 هـ وروي عنه أحاديث كثيرة.
(2) كما في صحيح ابن حبان ومسند أبي يعلى.
(3) أي أتدري كما في نسخة صحيحة.
(4) وفي نسخة (فقلت) .
(5) الظاهر أن (ورسوله) سهو قلم، وإن وقع في نسخة زيادة (يعني جبريل) فإنه لا يلائم المقام.
(6) قال التلمساني هو أبو عبد الله محمد بن عطاء شيخ وقته توفي كما نقل القشيري سنة 399 هـ.
(7) وفي نسخة (بذكري معك) .
(8) أي عطاء.
(9) تقدمت ترجمته في ص (55) رقم (6) .(1/63)
ذَكَرَنِي بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ «1» فِي ذَلِكَ إِلَى مَقَامِ الشَّفَاعَةِ ...
وَمِنْ ذِكْرِهِ مَعَهُ تَعَالَى أَنْ قَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ وَاسْمَهُ بِاسْمِهِ.
فَقَالَ تَعَالَى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» «2» ... و «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» «3» ... فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُشْرِكَةِ..
وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ هَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ صَلَّى الله عليه وسلم..
عَنْ حُذَيْفَةَ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «5» : «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ، مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ..»
قَالَ الْخَطَّابِيُّ «6» : أَرْشَدَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَدَبِ فِي تَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مشيئة من سواه، واختارها ب «ثم» الَّتِي هِيَ لِلنَّسَقِ وَالتَّرَاخِي بِخِلَافِ «الْوَاوِ» الَّتِي هي للاشتراك..
__________
(1) كالماوردي.
(2) آل عمران (32) .
(3) النساء (136) .
(4) هو حذيفة بن اليمان العبسي ولد بالمدينة وأسلم وأبوه وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون وشهدا أحدا فاستشهد أبوه فيها وشهد حذيفة الخندق وما بعدها، استعمله عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات سنة ست وثلاثين.
(5) أسنده المصنف هنا من طريق أبي داوود، ورواه أيضا النسائي في اليوم والليلة وابن أبي شيبة في المصنف.
(6) هو أبو سليمان حمد بفتح الحاء المهملة وسكون الميم كان رأسا في سائر العلوم لا سيما الحديث والفقه والأدب، شافعي المذهب، صنف التصانيف الجليلة منها معالم السنن وغريب الحديث، وشرح أسماء الله الحسنى وغير ذلك، وله شعر حسن توفي ببست سنة 308 هـ.(1/64)
وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «أَنَّ خَطِيبًا «1» خَطَبَ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا «2» فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ. قُمْ «3» . أَوْ قَالَ: اذْهَبْ» قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ «4» : كَرِهَ مِنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ «5» لِمَا فِيهِ مِنَ التسوية..
وذهب غيره إلى أنه إنّما كَرِهَ لَهُ الْوُقُوفَ عَلَى «يَعْصِهِمَا» وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ أَصَحُّ.. لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ:
«وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى» وَلَمْ يَذْكُرِ الْوُقُوفَ عَلَى يَعْصِهِمَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَصْحَابُ الْمَعَانِي «6» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» «7» هَلْ «يُصَلُّونَ» رَاجِعَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ!! أم لا..
__________
(1) قيل (هو ثابت بن قيس بن شماس) .
(2) وفي نسخة صحيحة زيارة (فقد غوى) .
(3) الحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة، وأبو داوود في الأدب، ورواه مسلم أيضا.
(4) أي الخطابي.
(5) ويقصد بحرف الكناية هنا الضمير من (يعصهما) حيث كنى به عن الله ورسوله.
(6) أي علماء البلاغة.
(7) الأحزاب 56.(1/65)
فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ.
وَمَنَعَهُ آخَرُونَ لِعِلَّةِ التَّشْرِيكِ.. وَخَصُّوا الضَّمِيرَ بِالْمَلَائِكَةِ.
وَقَدَّرُوا الْآيَةَ «إِنَّ اللَّهَ» يُصَلِّي «وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ» .
رُوِيَ «1» عَنْ عُمَرَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ «3» ، فَقَالَ تَعَالَى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» .» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ «5» اللَّهُ» «6» .
وَرُوِيَ «7» أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا»
: «إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ حَنَانًا «9» كَمَا اتخذت النصارى عيسى» .. فأنزل
__________
(1) وفي نسخة (وقد روي) .
(2) قال الدلجي: ولم أدر من رواه.
(3) هذا الحديث قال المخرجون: إنهم لم يجدوه في شيء من كتب الحديث وإن ورد ما هو بمعناه في صحيح البخاري.
(4) النساء (80) .
(5) آل عمران (31) .
(6) وفي نسخة (الآيتين) .
(7) عن جماعة كابن المنذر عن مجاهد وقتادة، ورواه ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(8) أي الكفار أو المنافقون والقائل منهم عبد الله بن أبي بن سلول نزل منزلة الجمع لعظمته عندهم.
(9) حنانا: ربا ذا رحمة.. أو مكانا يتمسح به للبركة.(1/66)
الله تعالى «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «1» » .. فَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ رَغْمًا لَهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ:
«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «2» » فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ «3» وَالْحَسَنُ «4» الْبَصْرِيُّ: «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخِيَارُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ حَكَاهُ عَنْهُمَا «5» أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ «6» .
وَحَكَى مَكِّيٌّ «7» عَنْهُمَا نَحْوَهُ «8» ، وَقَالَ: «هو رسول
__________
(1) آل عمران 32.
(2) الفاتحة 6، 7.
(3) هو رفيع بن مهران التابعي أسلم في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وخرج له الشيخان وله تفسير توفي سنة 90 هـ.
(4) انظر ترجمة الحسن البصري ص «60» رقم «8» .
(5) ورواه في المستدرك عن أبي العالية وصححه.
(6) انظر ترجمته ص «61» رقم «3» .
(7) هو أبو محمد بن أبي طالب شيخ الصوفية وأهل السنة، وأصله من القيروان ولد بها ثم انتقل الى الأندلس وسكن قرطبة. كان بحرا في التفسير وغيره من العلوم وله تفسير كبير وكتابه «قوت القلوب» كتاب جليل، توفي في قرطبة. سنة 437 هـ. ودفن فيها.
(8) أي بالمعنى لا باللفظ، وأخرجه بلفظ مكي ابن جرير وابن أبي حاتم وأخرجه في المستدرك من رواية أبي العالية عن ابن عباس وصححه.(1/67)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» .
وَحَكَى أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ «1» مِثْلَهُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قوله تعالى: «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «2» » .
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ «3» فَقَالَ: «صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ» .
وحكى الماوردي «4» ذلك في تفسير «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «5» بْنِ زَيْدٍ.
وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ «6» السُّلَمِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى «7» » إِنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: «الاسلام»
وقيل: «شهادة التوحيد»
__________
(1) تقدمت ترجمته ص. «51» رقم «6» .
(2) سورة الفاتحة «7» .
(3) أي بلغه ذلك عن عاصم.
(4) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «6» .
(5) هو ابن أسلم المدني وهو يروي عن أبيه وابن المنكدر وروى عنه أصبع وقتيبة وهشام وضعفوه وله تفسير وترجمة في الميزان وأخرج له أصحاب السنن وتوفي سنة 182 هـ.
(6) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «4» .
(7) البقرة 256.(1/68)
وَقَالَ سَهْلٌ «1» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» «2» قَالَ: نِعْمَتُهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ تَعَالَى: «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» «3» الآيتين.
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ «الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ» هو محمد صلّى الله عليه وسلم.
قال بعضهم: وهو الذي «صدّق به» .
وقرىء: «صدق به» بِالتَّخْفِيفِ.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ «4» : الَّذِي «صَدَّقَ بِهِ» الْمُؤْمِنُونَ.
وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ «5» .
وَقِيلَ: عَلِيٌّ.
وَقِيلَ غَيْرُ هذا من الأقوال.
__________
(1) تقدمت ترجمته في «58» رقم «6» .
(2) سورة إبراهيم 34.
(3) الزمر 33.
(4) وفي نسخة «وغيره» والقائل قتادة ومقاتل.
(5) وجمع للتعظيم بقوله «أولئك» في الآية السابقة «أولئك هم المتقون» .(1/69)
وَعَنْ مُجَاهِدٍ «1» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» «2» قال: بمحمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه «3» .
__________
(1) هو أبو محمد بن جبر، من كبار التابعين، المقريء المفسر الزاهد العابد، روى عنه أصحاب السنن وغيرهم، ووثقه المحدثون كما ذكره الذهبي في ترجمته، ولد في خلافة عمر سنة 21 هـ وتوفي بمكة سنة 102 هـ وهو ساجد،.
(2) الرعد 28.
(3) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.(1/70)
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وَصْفِهِ تَعَالَى لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الثَّنَاءِ وَالْكَرَامَةِ
قَالَ الله تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «1» » .. الآية.
جمع الله تعالى له فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبًا مِنْ رُتَبِ الْأَثَرَةِ «2» ، وَجُمْلَةِ أَوْصَافٍ مِنَ الْمِدْحَةِ فَجَعَلَهُ «شَاهِدًا» عَلَى أُمَّتِهِ لِنَفْسِهِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ.. وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
«وَمُبَشِّرًا» لِأَهْلِ طَاعَتِهِ ...
«وَنَذِيرًا» لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ ...
«وَدَاعِيًا» إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ ...
«وسراجا منيرا» يهتدى به للحق ...
__________
(1) سورة الأحزاب «45» .
(2) الأثرة، بالضم الكرامة وبالكسر ما يستأثر به على غيره والأول هو المراد هنا.(1/71)
عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «1» قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بن عمرو «2» بن العاص «3» فقلت «4» : أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَجَلْ «5» ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَحِرْزًا»
لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ «7» وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ «8» فِي الأسواق، ولا يدافع بالسيئة «9»
__________
(1) عطاء بن يسار: بفتح الياأ أبو محمد المدني من كبار التابعين توفي سنة 94 أو 103 هـ.
(2) عبد الله بن عمرو بن العاص: هو أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن القرشي السهمي الزاهد العابد الصحابي، كان بينه وبين أبيه في السن اثنتا عشرة سنة، وأمه ريطة بنت منبة، وكان صلّى الله عليه وسلم يقول: نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله، أسلم قبل أبيه، وكان كثير العبادة، والروآية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، حتى قيل: إنه أكثر روآية من أبي هريرة، لأنه كان يكتب، وأبو هريرة لا يكتب، وإنما لم تشتهر روايته كأبي هريرة لأنه سكن مصر والواردون اليها قليل، وأبو هريرة سكن المدينة، والمسلمون يقصدونها من كل وجهة، توفي بفلسطين وعمره 73 سنة.
(3) العاص، قال النووي كتابته بالياء (العاصي) وهو الفصيح عند أهل العربية والجمهور على حذفها.
(4) أخرج البخاري هذا الحديث منفردا عن بقية أصحاب الكتاب الستة في موضعين: أحدهما في التفسير، والثاني في البيوع، وهو الذي ساقه أبو الفضل منه.
(5) أجل- نعم، وكأنه نزّل (أخبرني) منزلة أتخبرني؟ ..
(6) حززا- حفظا أو حافظا.
(7) الفظ: سيء الخلق قليل التؤدة.
(8) الصخاب: الذي يرفع الصوت.
(9) الصادرة منه.(1/72)
السيئة «1» ، ولكن يعفوا وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ. بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا ...
وَذَكَرَ مِثْلَهُ «2» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ «3» وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ «4» :
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ «5» عَنِ ابْنِ «6» إِسْحَاقَ «7» : وَلَا صَخِبٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا مُتَزَيِّنٍ «8» بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا «9» ، أُسَدِّدُهُ لكل جميل،
__________
(1) الصادرة من غيره.
(2) وروي مثله لابن عمر ولعطاء بن يسار كما في البخاري تعليقا وأسنده الدارمي.
(3) عبد الله بن سلام: بفتح السين، أسلم في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة، وكان حبرا، عالما بالتوراة والقرآن، وشهد له النبي صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وهو إسرائيلي من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان اسمه في الجاهلية حصينا، فسماه النبي عبد الله، ونزل في فضله قوله تعالى «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ» وقوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» . كان من كبار الصحابة وروى له أصحاب الكتب الستة وغيرهم. توفي سنة 43 هـ.
(4) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .
(5) أي طرق الحديث كما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسير سورة الفتح عن وهب بن منبه
(6) وفي بعض النسخ «أبي» وهو خطأ.
(7) ابن اسحق: هو محمد ابن اسحق ابن أبي بكر يقال له أبو عبد الله كان من بحور العلم، وله غرائب ربما تستنكر لسعة حفظه، وهو صاحب المغازي، اختلف في الطعن فيه والصحيح انه ثقة توفي سنة 151.
(8) وفي بعض النسخ «متدين» قاله الحجازي والتلمساني، ولعله تصحيف وإن تكلف بعضهم له تفسيرا.
(9) الخنا: القول القبيح.(1/73)
وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبِرَّ شِعَارَهُ «1» وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ «2» ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ «3» وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ.
أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُسَمِّي بِهِ بَعْدَ النُّكْرَةِ «4» وَأُكَثِّرُ بِهِ بَعْدَ القلة، وأغني به بعد العيلة وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ قلوب مختلفة، وأهواء متشتة، وَأُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَاجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «5» : أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَتِهِ فِي
__________
(1) شعاره: دأبه وعادته.
(2) ضميره: في صدره.
(3) إمامه: أي قدوته وفي نسخة معتمدة بالفتح أي قدامه.
(4) أي أجعل الناس المجهولين معروفين بسببه أو بما أوحيه اليه. أو أعرفهم ما جهلوه من التوحيد. أو إني أرسله في زمان جهالة وضلالة وفترة فيؤمن به أول مساكين الناس وضعفاؤهم على عادة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيصيرون به بعد خمولهم وكونهم مجهولين أعز الناس وأكرمهم فان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من كان بدويا وأعرابيا وبعد إشراق نور النبوة عليه صار صدرا تقبل الجبابرة يديه ورجليه.
(5) رواه الدارمي عن كعب موقوفا. والطبراني وأبو نعيم في دلائله عن ابن مسعود.(1/74)
التَّوْرَاةِ «عَبْدِي أَحْمَدُ الْمُخْتَارُ. مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِالْمَدِينَةِ- أَوْ قَالَ طَيْبَةُ- أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» .
وَقَالَ تَعَالَى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» «1» الآيتين.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ «2» » الْآيَةَ.
قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «3» : ذَكَّرَهُمُ «4» اللَّهُ تَعَالَى مِنَّتَهُ أنه «5» جعل رسوله صلّى الله عليه وسلم رحيما بالمؤمنين، رؤوفا لَيِّنَ الْجَانِبِ؛ وَلَوْ كَانَ فَظًّا خَشِنًا فِي الْقَوْلِ لَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِهِ. وَلَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَمْحًا سَهْلًا طَلْقًا بَرًّا لَطِيفًا.
هَكَذَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ «6» .
وَقَالَ تَعَالَى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ
__________
(1) الأعراف 157.
(2) آل عمران 159.
(3) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(4) وفي نسخة «ذكر» بتشديد الكاف.
(5) ويروى «أن» .
(6) هو ابن مزاحم العلالي الخراساني التابعي روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة ضعفه بعضهم، لكن أحمد وابن معين وثقاه، وروى عنه أصحاب السنن وغيرهم، وله ترجمة في الميزان توفي سنة 105 هـ.(1/75)
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «1» .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ «2» : أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلَ أُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: «وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» «3» .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «4» » الآية.
وقوله تعالى: «وسطا» أي عدولا «5» خِيَارًا وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: «6» وَكَمَا هَدَيْنَاكُمْ فَكَذَلِكَ خَصَصْنَاكُمْ وَفَضَّلْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً خِيَارًا عُدُولًا، لتشهدوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أممهم، ويشهد لكم الرسول بالصدق.
__________
(1) البقرة 143.
(2) أبو الحسن القابسي: هو أبو الحسن بن محمد بن خلف المغافري، ولد سنة 324 هـ، وكان ضريرا. وكتبه في نهاية الصحة، ضبطها له ثقات أصحابه، والقابسي نسبة لقابس، وهي بلدة بالمغرب بين سفاقس وطرابلس، ولم يكن منها ولكنه عرف بعمه، وكان عمه يشد عمامته شد أهل قابس، توفي في ربيع الآخر سنة 403 هـ بمدينة القيروان.
(3) الحج 78.
(4) النساء 41.
(5) وفي نسخة «عدلا» .
(6) وهي قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» .(1/76)
قيل: «1» إِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ إِذَا سَأَلَ الْأَنْبِيَاءَ هَلْ بَلَّغْتُمْ؟! فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَتَقُولُ أُمَمُهُمْ: «مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» «2» فَتَشْهَدُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُزَكِّيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ:
إِنَّكُمْ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَكُمْ والرسول صلّى الله عليه وسلم حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ..
حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ» .
وَقَالَ تَعَالَى: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» «4» .
قَالَ قَتَادَةُ «5» وَالْحَسَنُ «6» وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ «7» : «قَدَمَ صِدْقٍ» هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لهم «8» .
__________
(1) قد ثبت بطرق متكاثرة كادت أن تكون متواترة، فكان حقه أن يقول صح ونحوه ولا يعبر «بقيل» المشعر بضعفه، إذ رواه البخاري وغيره.
(2) المائدة 19.
(3) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(4) يونس 2.
(5) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(7) زيد بن أسلم: هو الفقيه، مولى عمر رضي الله تعالى عنه، وهو ثقة، وحديثه صحيح، توفي سنة 136 هـ، وله ترجمة في الكامل والميزان.
(8) أخرج ذلك ابن جرير عنهم.(1/77)
وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا «1» هِيَ مُصِيبَتُهُمْ بِنَبِيِّهِمْ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ «2» الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ شَفَاعَةُ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» . هُوَ شَفِيعُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «4» التُّسْتَرِيُّ: هِيَ سَابِقَةُ رَحْمَةٍ أودعها فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ «5» بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ وَالصِّدِّيقِينَ الشَّفِيعُ الْمُطَاعُ وَالسَّائِلُ الْمُجَابُ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم.. حكاه عنه السّلمي «6» .
__________
(1) أي في رواية أخرى، أخرجها ابن أبي الدنيا في كتاب العزة.
(2) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .
(3) أخرجه ابن مردويه في تفسيرة.
(4) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «6» .
(5) محمد بن علي الترمذي: هو أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر، الإمام الحافظ الزاهد المؤذن الحكيم، وليس هو صاحب السنن. وهذا يروي عن أبيه، وروى عنه خلق كثير لما قدم نيسابور سنة 285 هـ. وعاش نحوا من 80 سنة. وقد طعن الناس في اعتقاده لكلام صدر عنه في بعض تصانيفه والله أعلم بالسرائر.
(6) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «4» .(1/78)
الفصل الثالث في ما وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمَبَرَّةِ
فمن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» » .
قَالَ أَبُو «2» مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ «3» : قِيلَ: هَذَا افْتِتَاحُ كَلَامٍ بِمَنْزِلَةِ:
أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَأَعَزَّكَ اللَّهُ.
وَقَالَ عَوْنُ «4» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ.
حَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «5» عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: عَافَاكَ اللَّهُ يَا سَلِيمَ الْقَلْبِ، لم أذنت لهم.
__________
(1) التوبة 43.
(2) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(3) وفي نسخة «المكي» .
(4) عون بن عبد الله: هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، الزاهد الفقيه، وقيل روايته عن الصحابة مرسلة، وليس بتابعي، وهو ثقة، توفي حدود الستين بعد المائة.
(5) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .(1/79)
قَالَ «1» : وَلَوْ بَدَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقوله «لم أذنت لهم» لَخِيفَ عَلَيْهِ أَنَّ يَنْشَقَّ قَلْبُهُ مِنْ هَيْبَةِ هَذَا الْكَلَامِ. لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَخْبَرَهُ بالعفو حتى سكن «2» قلبه.
ثم قال: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» بِالتَّخَلُّفِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الْكَاذِبِ.
وَفِي هَذَا مِنْ عَظِيمِ مُنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ. وَمِنْ إِكْرَامِهِ إِيَّاهُ، وَبِرِّهِ بِهِ مَا يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ «3» الْقَلْبِ.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ «4» : ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتَبٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا، فَلَمَّا أَذِنَ «5» لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ «6» لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا لِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ.
__________
(1) أي السمرقندي أو بعضهم المنقول عنه ما تقدم.
(2) وفي بعض النسخ (سكن) بتشديد الكاف.
(3) عرق من الوتين يناط القلب به من جانب الصلب.
(4) نفطويه: هو لقب لأبي عبد الله ابراهيم بن محمد بن عرفه بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي النحوي الواسطي ولد سنة 244 هـ وتوفي في صفر سنة 323 هـ.
(5) وفي نسخة «فلما أن أذن» .
(6) وفي نسخة. «أن» .(1/80)
قال الفقيه القاضي «1» : يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ، الرَّائِضِ «2» بِزِمَامِ الشريعة خلقه، أن يتأدب بآداب الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَمُعَاطَاتِهِ وَمُحَاوَرَاتِهِ، فَهُوَ عُنْصُرُ «3» الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَرَوْضَةُ الْآدَابِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِيَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الجميع، ويستثير «4» مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ، وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتْبِ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ- إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ-
وَقَالَ تَعَالَى: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «5» » .
قال بعض المتكلمين «6» : عاتب الله الأنبياء صلوات الله عليهم بَعْدَ الزَّلَّاتِ وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً ومحافظة لشرائط «7» المحبة. وهذه غاية العناية.
__________
(1) وفي نسخة بزيارة «وفقه الله تعالى» .
(2) الرائض: المذلى.
(3) عنصر: أساس.
(4) يستثير: يظهر.
(5) الإسراء 74.
(6) أي من جملة المفسرين.
(7) شرائط: أمارات.(1/81)
ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ، وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ. فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ، وَفِي طَيِّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ «1» » الْآيَةَ
قَالَ عَلِيٌّ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ»
: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ... فَأَنْزَلَ «4» اللَّهُ تَعَالَى «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ» الْآيَةَ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَذَّبَهُ «5» قَوْمُهُ حَزِنَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟! قَالَ: كَذَّبَنِي قَوْمِي. فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ. فَأَنْزَلَ الله تعالى الآية» «6»
__________
(1) الأنعام 33 بالتشديد للجمهور. وبالتخفيف لنافع والكسائي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(3) كما رواه الترمذي وصححه الحاكم.
(4) وفي نسخة «فنزلت» .
(5) وفي نسخة «أكذبه» .
(6) قال الدلجيّ: وحديث جبريل هذا أورده بصيغة (روي) ولم أعرف من رواه.(1/82)
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ «1» لَطِيفُ الْمَأْخَذِ مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْطَافِهِ فِي الْقَوْلِ بِأَنْ قَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ، مُعْتَرِفُونَ بِصِدْقِهِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ «الْأَمِينَ» .
فَدَفَعَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ «2» ارْتِمَاضَ «3» نَفْسِهِ بِسِمَةِ الْكَذِبِ ثُمَّ جَعَلَ الذَّمَّ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ «جَاحِدِينَ» «ظَالِمِينَ» .
فَقَالَ تَعَالَى: «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» «4» وحاشاه «5» من الوصم. وطوقهم بِالْمُعَانَدَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ حَقِيقَةُ الظُّلْمِ.
إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» «6» ثُمَّ عَزَّاهُ وَآنَسَهُ بِمَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ قَبْلَهُ ووعده بالنصر.
__________
(1) من نزع إلى الشيء ذهب إليه.
(2) وفي نسخه «التقدير» .
(3) أرتماض: إقلاق.
(4) الأنعام 33.
(5) حاشاه: نزهه.
(6) النمل 14.(1/83)
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» «1» الْآيَةَ فَمَنْ قَرَأَ «2» «لَا يُكَذِّبُونَكَ» بِالتَّخْفِيفِ. فَمَعْنَاهُ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا..
وَقَالَ الْفَرَّاءُ «3» وَالْكِسَائِيُّ «4» : لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ.
وَقِيلَ: لَا يَحْتَجُّونَ عَلَى كَذِبِكَ وَلَا يُثْبِتُونَهُ.
وَمَنْ قَرَأَ «5» بِالتَّشْدِيدِ. فَمَعْنَاهُ لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ.
وَقِيلَ: لَا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَكَ.
وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَبِرِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ. أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ جَمِيعَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم.
__________
(1) الأنعام 34.
(2) وهو نافع والكسائي.
(3) الفراء: هو الامام أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الدؤلي الكوفي، النحوي اللغوي البارع كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بفنون الأدب، وتفسيره من أجل التفاسير، وعليه اعتماد الزمخشري توفي سنة 207 هـ بطريق مكة وعمره 63 سنة، لقب بالفراء لأنه كان فصيحا يقرر الكلام ويفصله.
(4) الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة الأسدي الكوفي، أحد القراء السبعة، إمام النحو واللغة والقراءات، عاش سبعين عاما، وقد لقبه بالكسائي شيخه حمزة لأنه كان يجيئه ملتفا بكساء، وقيل لأنه أحرم في كساء، توفي سنة 183 هـ بالري.
(5) وهم الباقون.(1/84)
فقال: يَا آدَمُ «1» - يَا نُوحُ «2» - يَا إِبْرَاهِيمُ «3» - يَا موسى «4» - يا داوود «5» - يَا عِيسَى «6» - يَا زَكَرِيَّا «7» - يَا يَحْيَى «8» .
وَلَمْ يُخَاطِبْ هُوَ إِلَّا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ «9» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ «10» يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «11» يَا أَيُّهَا المدثر «12» .
__________
(1) يا آدم أنبئهم باسمائهم. البقرة «23» .
(2) يا نوح اهبط بسلام منا. هود «48» .
(3) يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. الصافات «104- 105» .
(4) يا موسى إنني أنا الله. طه «14» .
(5) يا داوود إنا جعلناك خليفة. ص «26» .
(6) يا عيسى إني متوفيك. آل عمران «55» .
(7) يا زكريا إنا نبشرك. مريم «7» .
(8) يا يحيى خذ الكتاب بقوة. مريم «12» .
(9) المائدة آية «67» .
(10) الأحزاب «45» .
(11) المزمل «10» .
(12) المدثر «1» .(1/85)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ
قال تعالى: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» »
اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَصْلُهُ، ضَمُّ الْعَيْنِ مِنَ الْعُمْرِ وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَمَعْنَاهُ «2» : وَبَقَائِكَ يَا مُحَمَّدُ
وَقِيلَ «3» : وَعَيْشِكَ
وَقِيلَ: وَحَيَاتِكَ
وهذه نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف.
__________
(1) الحجر «72» . يعمهون: يتحيرون ويترددون.
(2) كما رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
(3) كما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس أيضا. وعزي إلى الأخفش.(1/86)
قال «1» ابن عباس «2» : مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا ذَرَأَ»
وَمَا بَرَأَ «4» نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ «5» : مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» «6» الآيات.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي مَعْنَى «يس» عَلَى أَقْوَالٍ.
فَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ «7» : أَنَّهُ رُوِيَ «8» عَنِ النبي صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) فيما رواه البيهقي في دلائله، وأبو نعيم وأبو يعلى.
(2) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(3) ذرأ: خلق وكأنه مختص بالذرية.
(4) برأ: خلق بمعنى صور.
(5) أبو الجوزاء: هو أوس بن عبد الله ابن الربعي البصري، راوي حديث الفتوحات، وهو يروي عن عائشة رضي الله عنها وصفوان بن عسال وغيرهما، وهو ثقة كما قاله الحاكم، وأخرج له الستة، وتوفي سنة 83 هـ مقتولا في الجماجم.
(6) يس، (1 و 2) .
(7) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(8) في دلائل أبي نعيم، وتفسير ابن أبي مردويه من طريق أبي يحيى التميمي، وهو وضاع، عن سيف بن وهب وهو ضعيف، عن أبي الطفيل.(1/87)
أَنَّهُ قَالَ: «لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةُ أَسْمَاءَ «1» » ذكر «2» منها أن «طه» وَ «يس» اسْمَانِ لَهُ «3» .
وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «4» عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ «5» : أَنَّهُ أَرَادَ يَا سَيِّدُ مُخَاطَبَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «6» : «يس» يَا إِنْسَانُ.. أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ «7» : هُوَ قَسَمٌ.. وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ «8» : قِيلَ: مَعْنَاهُ: يَا مُحَمَّدُ.
وقيل: يا رجل «9»
__________
(1) لا ينافي الكثرة والزيادة لأنها قاربت الخمسمائة.
(2) أي أبو محمد مكي..
(3) كون «طه، يسن» اسمين له صلّى الله عليه وسلم قول لسعيد بن جبير كما ذكر ذلك المنجاني.
(4) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(6) على ما رواه ابن أبي حاتم. وابن عباس تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(7) أي ابن عباس كما رواه ابن جرير.
(8) الزجاج: هو أبو اسحق ابراهيم بن محمد، شيخ العربية، الإمام في الأدب صاحب التصانيف الجليلة، وتفسيره مشهور وكان متينا في الدين توفي ببغداد سنة 306 هـ وقد بلغ الثمانين، وإليه ينسب الزجاجي صاحب الجمل.
(9) أي بالحبشية كما روي عن الحسن وسعيد بن جبير ومقاتل إنها لغة حبشية.(1/88)
وَقِيلَ: يَا إِنْسَانُ «1»
وَعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ «2» : «يس» يَا مُحَمَّدُ «3»
وَعَنْ كَعْبٍ «4» : «يس» قَسَمٌ أَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ «5» ... يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين
ثم قال تعالى: «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» «6»
- فَإِنْ قُدِّرَ «7» أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّ فِيهِ أَنَّهُ قَسَمٌ كَانَ فيه من
__________
(1) بلغة طي كما رواه الكشاف وعن ابن عباس أن أصله يا أنيسين بالتصغير فاقتصر على شطره لكثرة النداء به.
(2) ابن الحنفية: هو أبو عبد الله محمد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحنفية أمه، واشتهر بنسبته إليها تمييزا عن السبطين، رضي الله عنهما، وهو إمام عظيم، أخرج له الشيخان وغيرهما، وهو من كبار التابعين توفي بالمدينة سنة 80 هـ.
(3) كما رواه البيهقي في دلائله.
(4) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .
(5) قال المنجاني: هذا القول في غاية الإشكال لأن القرآن كلام الله القديم وهو صفة من صفاته القديمة فلا يصح أن يذكر في تقدمه عن خلق الأرض مقدار معين لأن خلقها محدث، فالأولى أن تضعف الروايات الواردة عن كعب بهذا ما أمكن وإن صح هذا عنه فليترك علمه لله لأن كعبا لا يقول ذلك إلا بتوقيف وليس ذلك مما يدرك بالاجتهاد ... وفيه: أن كعبا ممن ينقل عن الكتب السالفة والعلماء الغابرين فلا يقال في حقه إنه لا يقول إلا بتوقيف فإن هذا الحكم مختص بالأقوال الموقوفة المروية عن الصحابة رضي الله عنهم ممن ليس لهم رواية عن غيره صلّى الله عليه وسلم فموقوفهم حينئذ حكم مرفوعهم، كما هو مقرر في علم أصول الحديث.
(6) سورة يس، (2 و 3)
(7) وفي نسخة «قرر» .(1/89)
التَّعْظِيمِ مَا تَقَدَّمَ وَيُؤَكِّدُ فِيهِ الْقَسَمَ عَطْفُ الْقَسَمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ.
- وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ فَقَدْ جَاءَ قَسَمٌ آخَرُ بَعْدَهُ لِتَحْقِيقِ رِسَالَتِهِ وَالشَّهَادَةِ بِهِدَايَتِهِ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ وَكِتَابِهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ بِوَحْيِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَعَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ إِيمَانِهِ، أَيْ طَرِيقٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا عُدُولَ عَنِ الْحَقِّ.
قَالَ النَّقَّاشُ «1» : لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بِالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لَهُ.
وَفِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَمْجِيدِهِ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَا سَيِّدُ، مَا فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدم ولا فخر» «2» .
__________
(1) النقاش: أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الموصلي البغدادي المقرىء المفسر، روى عن أبي مسلم الكجى وطبقته، وقرأ بالروايات حتى صار شيخ المقرئين في عصره على ضعف فيه، قال أبو شامة في الشاطبية: إنه ضعيف عند أهل النقل. وقال الجعبري: المضعف له غالط
(2) قال المنجاني: وأكثر الروايات في هذا الحديث «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وهكذا رواه مسلم والترمذي ... وفي الجامع الصغير (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مشفع) رواه مسلم وأبو داوود عن أبي هريرة، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد ولفظه «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر» اه. ولا شك أن زيادة الثقة مقبولة.(1/90)
وقال تَعَالَى: «لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» . «1»
«لَا أُقْسِمُ» بِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْهُ. حَكَاهُ مَكِّيٌّ «2» .
وَقِيلَ: «لَا» زَائِدَةٌ. أَيْ أُقْسِمُ بِهِ وَأَنْتَ بِهِ يَا محمد «حلال» أَوْ «حِلٌّ» لَكَ مَا فَعَلْتَ فِيهِ. عَلَى التفسيرين.
والمراد ب «البلد» عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَكَّةَ «3» .
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ «4» : أَيْ نَحْلِفُ لَكَ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي شَرَّفْتَهُ بِمَكَانِكَ فِيهِ حَيًّا وَبِبَرَكَتِكَ مَيِّتًا، يَعْنِي الْمَدِينَةَ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَمَا بَعْدَهُ يُصَحِّحُهُ قَوْلُهُ تعالى «حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءٍ «5» فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: «وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» «6» .
__________
(1) سورة البلد «1 و 2» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(3) وهذا هو المشهور عند الجمهور.
(4) الواسطي: هو أبو بكر بن موسى الإمام العارف بالله تعالى، ممن صحب الجنيد وهو من أجل العلماء والصوفية، والواسطي نسبة لواسطة مدينة مشهورة، توفي سنة 32 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «6» .
(6) سورة التين «3»(1/91)
قَالَ: أَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَقَامِهِ فِيهَا وَكَوْنِهِ بِهَا. فَإِنَّ كَوْنَهُ أَمَانٌ حَيْثُ كَانَ.
ثُمَّ قال تعالى: «وَوالِدٍ وَما وَلَدَ» «1» .
من قَالَ «2» : أَرَادَ آدَمَ، فَهُوَ عَامٌّ.
وَمَنْ قَالَ: هو إبراهيم. «وَما وَلَدَ» فهي- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- إِشَارَةً إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَضَمَّنُ السُّورَةُ الْقَسَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعَيْنِ.
وَقَالَ تَعَالَى: «الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ» .»
قَالَ «4» ابْنُ عَبَّاسٍ «5» : هَذِهِ الْحُرُوفُ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا «6» وَعَنْهُ «7» وَعَنْ غَيْرِهِ: فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ سَهْلُ «8» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري: «الألف» هو الله تعالى «9»
__________
(1) سورة البلد «3» .
(2) أي كمجاهد.
(3) البقرة «5» .
(4) أي فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
(5) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(6) وفي نسخه «بهذا» .
(7) أي ابن عباس.
(8) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «6»
(9) وروي عن ابن عباس أيضا.(1/92)
«وَاللَّامُ» جِبْرِيلُ.
«وَالْمِيمُ» مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «1» : وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى سَهْلٍ، وَجَعَلَ «2» مَعْنَاهُ: اللَّهُ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَا رَيْبَ فِيهِ.
- وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ «3» يَحْتَمِلُ الْقَسَمُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ فِيهِ مِنْ فَضِيلَةِ قِرَانِ اسْمِهِ بِاسْمِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «4» : فِي قوله تعالى «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «5» » .
أَقْسَمَ بِقُوَّةِ قَلْبِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَمَلَ الْخِطَابَ وَالْمُشَاهَدَةَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لِعُلُوِّ حَالِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وقيل «6» : جبل محيط بالأرض.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(2) أي السمرقندي.
(3) أي من قول ابن عباس.
(4) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «6» .
(5) سورة «ق» 1 و 2»
(6) وهذا قول مجاهد وهو أن «ق» اسم جبل محيط بالدنيا وأنه من زمرة خضراء، منها خضرة السماء والبحر، ولكنه ضعيف جدا. «عن ملا علي القاري» .(1/93)
وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ «1» في تفسير «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» : إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال: «النَّجْمُ» قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«هَوَى» انْشَرَحَ مِنَ الْأَنْوَارِ.
وَقَالَ: انْقَطَعَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «2» فِي قَوْلِهِ تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ» : الْفَجْرُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ منه تفجّر الإيمان.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «6» .(1/94)
الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي قَسْمِهِ- تَعَالَى جَدَّهُ- لَهُ لتحقق مكانته عنده
قال تعالى: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» «1» - السُّورَةُ- اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَقِيلَ: كَانَ تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ نَزَلَ بِهِ، فَتَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ بِكَلَامٍ «2» .
وَقِيلَ «3» : بَلْ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عِنْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ. فَنَزَلَتِ السُّورَةُ «4» .
قال الفقيه القاضي «5» : تضمنت هذه السورة من كرامة الله
__________
(1) سورة الضحى «1 و 2» .
(2) أخرجه الشيخان عن جندب، وأخرج الحاكم من حديث أرقم أن المرأة المذكورة امرأة أبي لهب.
(3) وعليه جمهور المفسرين على ما قيل.
(4) ويدل عليه حديث مسلم والترمذي.
(5) ترجمته في أول الكتاب. وفي نسخة بزيادة «وفقه الله تعالى» .(1/95)
تَعَالَى لَهُ، وَتَنْوِيهِهِ «1» بِهِ، وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ سِتَّةَ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ لَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ حَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» أَيْ وَرَبِّ الضُّحَى. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْمَبَرَّةِ.
الثَّانِي: بَيَانُ مَكَانَتِهِ عِنْدَهُ وَحُظْوَتِهِ لَدَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» «2» أَيْ مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ.
وَقِيلَ: مَا أَهْمَلَكَ بَعْدَ أَنِ اصْطَفَاكَ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» «3»
قال ابن اسحق «4» : أَيْ مَآلُكَ «5» فِي مَرْجِعِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاكَ مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ سَهْلٌ «6» : أي ما ادَّخَرْتُ لَكَ مِنَ الشَّفَاعَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ خَيْرٌ لك مما أعطيتك في الدنيا.
__________
(1) تنويهه: رفعه، ونوهت باسمه أي رفعت ذكره.
(2) سورة الضحى «3»
(3) سورة الضحى «4» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(5) وفي بعض النسخ «مالك» على أن ما موصولية والعائد محذوف.
(6) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «6» .(1/96)
الرَّابِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» «1» وَهَذِهِ آيَةٌ جَامِعَةٌ لِوُجُوهِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْوَاعِ السَّعَادَةِ، وَشَتَاتِ الْإِنْعَامِ فِي الدَّارَيْنِ وَالزِّيَادَةِ.
قَالَ ابْنُ اسحق «2» : يُرْضِيهِ بِالْفَلَجِ «3» فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ «4» : يُعْطِيهِ الْحَوْضَ وَالشَّفَاعَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: ليس فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى مِنْهَا، وَلَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أحد من أمته النار «5» .
الخامس: ما عدّ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَقَرَّرَهُ مِنْ آلَائِهِ، «6» قَبْلَهُ فِي بَقِيَّةِ السُّورَةِ مِنْ هِدَايَتِهِ إِلَى مَا هَدَاهُ لَهُ، أَوْ هِدَايَةِ النَّاسِ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّفَاسِيرِ، وَلَا مَالَ لَهُ، فَأَغْنَاهُ بِمَا آتَاهُ، أَوْ بِمَا جَعَلَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْغِنَى، وَيَتِيمًا فَحَدَبَ»
عَلَيْهِ عَمُّهُ وآواه إليه.
__________
(1) سورة الضحى، «5» .
(2) تقدمت ترجمته في ص. «73» رقم «7» .
(3) الفلج: بفتح الفاء وتسكين اللام أي الظفر والفوز.
(4) وهو قول علي بن أبي طالب على ما ذكره الثعلبي في تفسيره.
(5) ورواه عنه أيضا أبو نعيم في الحلية موقوفا، والديلمي في مسند الفردوس مرفوعا.
(6) الآلاء: النعم مفردها «إلى» مقصور وتفتح الهمزة وتكسر.
(7) حدب: رق وعطف.(1/97)
وَقِيلَ: آوَاهُ إِلَى اللَّهِ «1» .
وَقِيلَ: «يَتِيمًا» لَا مِثَالَ لَكَ فَآوَاكَ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَلَمْ يَجِدْكَ فَهَدَى بِكَ ضَالًّا، وَأَغْنَى بِكَ عَائِلًا، وَآوَى بِكَ يَتِيمًا، ذَكَّرَهُ بِهَذِهِ الْمِنَنِ، وَأَنَّهُ على المعلوم من التفاسير لَمْ يُهْمِلْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَعَيْلَتِهِ، وَيُتْمِهِ، وَقَبْلَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَلَا وَدَّعَهُ وَلَا قَلَاهُ، فَكَيْفَ بَعْدَ اخْتِصَاصِهِ وَاصْطِفَائِهِ.
السَّادِسُ: أَمَرَهُ بِإِظْهَارِ نعمته عليه، وشكر ما شرفه به بِنَشْرِهِ، وَإِشَادَةِ ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» «2» ،
فَإِنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ التَّحَدُّثَ بِهَا «3» .
وَهَذَا خَاصٌّ لَهُ، عَامٌّ لِأُمَّتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» «4» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
«لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» «5» .
__________
(1) وفي نسخة آواه الله.
(2) سورة الضحى «11» .
(3) وفي نسخة «التحديث» وفي أخرى «الحديث» .
(4) سورة النجم «1» .
(5) سورة النجم «18» .(1/98)
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَالنَّجْمِ» بِأَقَاوِيلَ مَعْرُوفَةٍ.
مِنْهَا: النَّجْمُ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَمِنْهَا: الْقُرْآنُ.
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ «1» : أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: هُوَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ» «2» .
إِنَّ «النَّجْمَ» هُنَا أَيْضًا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ السُّلَمِيُّ «3» .
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ فَضْلِهِ، وَشَرَفِهِ، الْعِدِّ مَا يَقِفُ دُونَهُ الْعَدُّ «4» .
وَأَقْسَمَ جَلَّ اسْمُهُ عَلَى هِدَايَةِ الْمُصْطَفَى، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْهَوَى، وَصِدْقِهِ فِيمَا تَلَا، وَأَنَّهُ وحي يوحى، أو صله إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ جِبْرِيلُ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْقُوَى، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَضِيلَتِهِ بِقِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَانْتِهَائِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَتَصْدِيقِ بَصَرِهِ فِيمَا رَأَى، وَأَنَّهُ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(2) سورة الطارق «1 و 2 و 3» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «4» .
(4) كما نقله في تفسير الحقائق.(1/99)
وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ سورة الإسراء، ولما كان ما كاشفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَرُوتِ «1» ، وشاهد مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ «2» ، لَا تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَاتُ، وَلَا تَسْتَقِلُّ «3» بِحَمْلِ سَمَاعِ أَدْنَاهُ الْعُقُولُ، رَمَزَ عَنْهُ تَعَالَى بِالْإِيمَاءِ، وَالْكِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ.
فَقَالَ تَعَالَى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى»
«4» .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ يُسَمِّيهِ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْبَلَاغَةِ «بِالْوَحْيِ وَالْإِشَارَةِ» ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَبْلَغُ أَبْوَابِ الْإِيجَازِ.
وَقَالَ: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» «5» .
انحسرات الْأَفْهَامُ عَنْ تَفْصِيلِ مَا أَوْحَى، وَتَاهَتِ الْأَحْلَامُ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: «6» اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَزْكِيَةِ جُمْلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِصْمَتِهَا مِنَ الْآفَاتِ فِي هَذَا الْمَسْرَى.
__________
(1) جبروت: فعلوت من الجبر وهو القوة والعظمة.
(2) الملكوت: فعلوت من الملك، مبالغة، والملك ظاهر السلطنة، والملكوت باطنها.
(3) تستقل: تستبد.
(4) سورة النجم «10» .
(5) سورة النجم «18» .
(6) ترجمته في أول الكتاب.(1/100)
فَزَكَّى فُؤَادَهُ، وَلِسَانَهُ، وَجَوَارِحَهُ.
- فَقَلْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى» «1» .
- وَلِسَانَهُ بِقَوْلِهِ: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» «2» .
- وَبَصَرَهُ بِقَوْلِهِ: «مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» «3» .
وقال تعالى: فلا أقسم بالخنّس، الجوار الكنّس» «4» إِلَى قَوْلِهِ: «وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» «5» .
«لَا أُقْسِمُ» أَيْ أُقْسِمُ.
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» «6» أَيْ كِرِيمٍ عِنْدَ مُرْسِلِهِ.
«ذِي قُوَّةٍ» عَلَى تَبْلِيغِ مَا حَمَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ.
«مَكِينٍ» أي متمكن المنزلة عند ربه «7» ، رفيع المحل عنده.
__________
(1) سورة النجم «11» .
(2) سورة النجم «3» .
(3) سورة النجم «17» .
(4) سورة التكوير 15 و 16 والخنس- من خنس إذا تأخر والمراد الكواكب لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تخفى نهارا. الكنس: الداخلة كناسها وهو بيتها، وتكنس أي تستر.
(5) سورة التكوير، «25» .
(6) سورة التكوير، «19» .
(7) وفي نسخة «من ربه» .(1/101)
«مُطاعٍ ثَمَّ» «1» أَيْ فِي السَّمَاءِ.
«أَمِينٌ» عَلَى الْوَحْيِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُ «2» : الرَّسُولُ هنا محمد صلّى الله عليه وسلم فجمع الْأَوْصَافِ بَعْدُ- عَلَى هَذَا- لَهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ «3» : هُوَ جِبْرِيلُ، فَتَرْجِعُ الْأَوْصَافُ إِلَيْهِ.
«وَلَقَدْ رَآهُ» يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قِيلَ «4» : رَأَى رَبَّهُ.
وَقِيلَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ.
«وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» «5» أَيْ بِمُتَّهَمٍ.
وَمَنْ قَرَأَهَا «6» بِالضَّادِ فَمَعْنَاهُ: مَا هو ببخيل بالدعاء به والتذكير
__________
(1) سورة التكوير، 21 ثم: بمعنى هناك.
(2) علي بن عيسى: هو أبو الحسين، علي بن عيسى بن علي بن عبد الله الرماني، الإمام في النحو، واللغة، والتفسير، والكلام، له تفسير عظيم لم نقف عليه، وهو تلميذ ابن دريد، ويروي عن جماعة، والرماني نسبته إلى نبع الرمان، أو إلى قصر الرمان، وهو قصر معروف بواسط، ولد ببغداد سنة 296 هـ، وأصله من سرمرا، وتوفي سنة 384 هـ.
(3) وهم الأكثرون من العلماء.
(4) نقل عن ابن مسعود وغيره.
(5) سورة التكوير، «24» وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي.
(6) أي الآية وفي نسخة «قرأه» أي اللفظ.(1/102)
بِحُكْمِهِ وَبِعِلْمِهِ، وَهَذِهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم باتفاق.
وقال تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» «1» الْآيَاتِ
أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَقْسَمَ بِهِ من عظيم قسمه، من تَنْزِيهِ الْمُصْطَفَى مِمَّا غَمَصَتْهُ «2» الْكَفَرَةُ، بِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، وَأُنْسِهِ وَبَسْطِ أَمَلِهِ بِقَوْلِهِ مُحْسِنًا خِطَابَهُ: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» «3» .
وَهَذِهِ نِهَايَةُ الْمَبَرَّةِ فِي الْمُخَاطَبَةِ، وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الآداب في المحاورة.
ثم أعلمه بماله عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ، وَثَوَابٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ، لَا يَأْخُذُهُ عَدٌّ، وَلَا يَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِ.
فقال: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» » .
ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا مَنَحَهُ مِنْ هِبَاتِهِ، وَهَدَاهُ إِلَيْهِ وأكّد ذلك تتميما للتمجيد بحرفي التأكيد.
فقال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «5» .
__________
(1) سورة القلم «1» .
(2) غمصته: احتقرته وعاتبه.
(3) القلم «2» .
(4) القلم «3» .
(5) القلم «4» .(1/103)
قِيلَ: الْقُرْآنُ «1» .
وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ «2» .
وَقِيلَ: الطَّبْعُ الْكَرِيمُ «3» .
وَقِيلَ: لَيْسَ لَكَ هِمَّةٌ إِلَّا اللَّهُ «4» .
قَالَ الْوَاسِطِيُّ «5» : أَثْنَى عَلَيْهِ بِحُسْنِ قَبُولِهِ، لِمَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ وَفَضَّلَهُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ جَبَلَهُ عَلَى ذَلِكَ «6» الْخُلُقِ.
فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْمُحْسِنِ، الْجَوَادِ الْحَمِيدِ، الَّذِي يَسَّرَ لِلْخَيْرِ وَهَدَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى فَاعِلِهِ، وَجَازَاهُ عَلَيْهِ.
سُبْحَانَهُ مَا أَغْمَرَ «7» نَوَالَهُ، وَأَوْسَعَ إِفْضَالَهُ.
- ثُمَّ سَلَاهُ عَنْ قَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا بِمَا وَعَدَهُ به من عقابهم وتوعدهم.
__________
(1) وهو المروي عن عائشة أنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ، وَيَسْخَطُ بِسُخْطِهِ.
(2) وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) وهو المنقول عن الماوردي.
(4) وهذا منسوب إلى الجنيد.
(5) تقدمت ترجمته في ص «91» رقم «4» .
(6) وفي نسخة «تلك» الخلق أي تلك الصفات.
(7) ما أغمر: ما أعم.(1/104)
بقوله: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» «1» الآيات الثلاث.
- ثُمَّ عَطَفَ بَعْدَ مَدْحِهِ عَلَى ذَمِّ عَدُوِّهِ «2» ، وذكر سُوءَ خُلُقِهِ، وَعَدِّ مَعَايِبِهِ، مُتَوَلِّيًا ذَلِكَ بِفَضْلِهِ، ومنتصرا لنبيه صلّى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الذَّمِّ فيه.
بقوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» «3» إلى قوله: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» «4» ..
- ثم ختم ذلك بالوعيد الصادق بتمام شقائه، وخاتمة بواره «5» .
بقوله تعالى: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» «6» .
فَكَانَتْ نُصْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ أَتَمَّ مِنْ نُصْرَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَرَدُّهُ تَعَالَى عَلَى عَدُوِّهِ أَبْلَغُ من رده، وأثبت في ديوان مجده.
__________
(1) سورة القلم «5» .
(2) قيل هو الأخنس بن شريق، والأظهر أنه الوليد بن المغيرة، ونقل الثعلبي في في تفسيره أنه أبو جهل، ونسب هذا إلى ابن عباس رضي الله عنهما: وقيل هو عتبة ابن ربيعة.
(3) القلم «8» .
(4) القلم «15» .
(5) بواره: دماره.
(6) القلم «16» .(1/105)
الفصل السّادس في ما وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْرِدَ الشَّفَقَةِ وَالْإِكْرَامِ
قَالَ تَعَالَى: «طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» «1» .
قِيلَ: «طه» اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «2» .
وقيل: هو اسم لله «3» .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ «4» .
وَقِيلَ: يَا إِنْسَانُ.
وقيل: هى حروف مقطعة لمعان.
قال الواسطي «5» : أراد يا طاهر يا هادي.
__________
(1) «طه» 1 و 2.
(2) لحديث تقدم.
(3) قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في لغة عك.
(5) تقدمت ترجمته في ص «91» رقم «4» .(1/106)
وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ مِنَ الْوَطْءِ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرْضِ أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى الْأَرْضِ بِقَدَمَيْكَ، ولا تتعب نفسك بالاعتماد على قدم واحدة.
وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» «1»
نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفُهُ مِنَ السَّهَرِ وَالتَّعَبِ وَقِيَامِ الليل.
عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ «2» قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى طه، يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ: «مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» الآية «3» وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِكْرَامِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
- وَإِنْ جَعَلْنَا «طه» مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ أَوْ جُعِلَتْ قَسَمًا لِحَقِّ الْفَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ، ومثل هذا من نمط «4» الشفقة والمبرة.
__________
(1) الحديث مسند في الأصل، وحذف سنده اختصارا.
(2) الربيع بن أنس: هو أبو حاتم البكري، البصري، التابعي، صدوق لكن له أوهام كما قاله ابن حجر، توفي سنة 139 هـ.
(3) هذا الحديث أسنده المصنف هنا من تفسير عبد بن حميد عن الربيع بن أنس مرسلا، ورواه ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه موصولا بلفظ: لما نزل «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» ، فقامه كله حتى تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلا ويضع أخرى، فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: طأ الأرض بقدميك ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ...
(4) النمط: النوع وأصله الجماعة من الناس أمرهم واحد.(1/107)
قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» «1» .
أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِذَلِكَ غَضَبًا، أَوْ غَيْظًا، أو جزعا.
ومثله قوله تعالى: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» »
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» «3» .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «4» » إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ «5» » إلى آخر السورة.
وقوله: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ «6» » الآية.
قال مكي «7» : سلّاه تعالى بما ذكر، وهوّن عليه ما يلقاه «8»
__________
(1) الكهف «6» .
(2) الشعراء «3» .
(3) الشعراء «4» .
(4) الحجر «94» .
(5) الحجر «97» .
(6) الرعد «32» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(8) وفي نسخة «ما يلقى» .(1/108)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ»
مَنْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ التَّسْلِيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» «2» وَمِنْ هَذَا، قَوْلُهُ تَعَالَى:
«كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» «3» .
- عَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَمَقَالَتِهَا «4» لِأَنْبِيَائِهِمْ قَبْلَهُ، وَمِحْنَتِهِمْ بِهِمْ.
- وسلّاه بذلك عن مِحْنَتِهِ بِمِثْلِهِ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ ذَلِكَ.
- ثُمَّ طَيَّبَ نَفْسَهُ، وأبان عذره، بقوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» «5» أي أعرض عنهم «فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» «6» أي في أداء ما بلّغت،
__________
(1) وفي نسخة «أنه» .
(2) فاطر «4» .
(3) الذاريات «52» .
(4) وفي نسخة «ومقالها» .
(5) الذاريات «54» .
(6) الذاريات «54» .(1/109)
وَإِبْلَاغِ مَا حَمَلْتَ:
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» «1» أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَإِنَّكَ بِحَيْثُ نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ، سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي آيٍ كثيرة من هذا المعنى..
__________
(1) الطور، 48.(1/110)
الفصل السّابع في ما أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَحُظْوَةِ رُتْبَتِهِ عَلَيْهِمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «1» : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» إلى قوله «مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2» .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ «3» : اسْتَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلٍ لَمْ يُؤْتِهِ غَيْرَهُ، أَبَانَهُ «4» بِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ اللَّهُ الميثاق بالوحي، فلم يبعث، نبيا إلا
__________
(1) وفي بعض النسخ «قوله تعالى» .
(2) ... ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» من سورة آل عمران، رقم (18) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (76) رقم (2) .
(4) أي أظهر ذلك الفضل له أو فضله وميزه به عن غيره.(1/111)
ذَكَرَ لَهُ مُحَمَّدًا وَنَعَتَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ.
وَقِيلَ: أَنْ يُبَيِّنَهُ لِقَوْمِهِ، وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ جاءَكُمْ» ، الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ «1» عَلِيُّ بْنُ «2» أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَلِيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْخُذَ الْعَهْدَ بِذَلِكَ عَلَى قومه.
وعن السدّيّ «3» وقتادة «4» : نحوه فِي آيٍ تَضَمَّنَتْ فَضْلَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ واحد.
قال تَعَالَى: «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ» «5» الآية.
__________
(1) كما رواه ابن جرير وابن كثير بإسناد صحيح والبغوي بعبارات مختلفة محتملة للنقل بالمعنى أو تعدد القول المروي عن علي رضي الله تعالى عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص (54) رقم (4) .
(3) السدي: بضم السين وتشديد الدال، وهو اسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، المحدث المشهور واختلف فيه، فقيل: ثقة وقيل: كذاب لا يحتج به، وقال الشمني: إنه كوفي تابع مفسر صدوق إلا أنه متهم بالتشيع، وثقه ابن حبان، وضعفه أبو حاتم، مات سنة سبع وعشرين ومائة، ونسبته إلى السد موضع بالمدينة.
(4) تقدمت ترجمته في ص (62) رقم (3) .
(5) الأحزاب (7) .(1/112)
وَقَالَ تَعَالَى: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... » «1»
إلى قوله «شهيدا» «2» .
روي «3» عن عمر بن الخطاب «4» أَنَّهُ قَالَ فِي كَلَامٍ بَكَى «5» بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ. أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وذكرك في أو لهم، فَقَالَ:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ» «6» الآية.
__________
(1) النساء (162) .
(2) وفي نسخة (وكيلا) والأول هو الصحيح.
(3) وهو بعض خبر ذكره الرشاطي كله في اقتباس الأنوار.
(4) عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين، كناه المصطفى عليه الصلاة والسلام (بأبي حفص) ، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (بالفاروق) يوم أسلم في دار الأرقم، ولد رضي الله تعالى عنه في السنة الثالثة عشرة من ميلاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، وكان يرعى الغنم لأبيه، ولما كبر اشتغل بالتجارة، كان مسموع الكلمة في قومه، مشهورا بالشدة وعزة الجانب، وأسلم بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام في ذي الحجة لمضي ست سنين من البعثة، وكان له من العمر ست وعشرون سنة، فكان أشد الناس دفاعا عن الاسلام، بعد أن كان من أكبر المعارضين له، لما مات أبو بكر ولي الخلافة بعده بعهد منه، وكان ذلك سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فقام بأمورها ووطد دعائم الاسلام، توفي شهيدا بيد (أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبه) . أواخر ذي الحجة سنة 23 من الهجرة وعمره 63 سنة، ومدة خلافته 10 سنين وسته أشهر
(5) أي رثى.
(6) النساء (162)(1/113)
- بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ، أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ، وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يعذبون، يقولون: «يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» «1» .
قَالَ «2» قَتَادَةُ «3» : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ» ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْرُهُ مُقَدَّمًا هُنَا قَبْلَ نُوحٍ وَغَيْرِهِ.
قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «4» : فِي هَذَا تَفْضِيلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتخصيصه بالذكر قبلهم، وهو آخرهم بعثا «5» .
الْمَعْنَى: أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ «6» .
وَقَالَ تَعَالَى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» .. الآية.
__________
(1) الأحزاب (66) .
(2) كما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن لال في مكارم الاخلاق، وأبو نعيم في دلائله عنه مرسلا.
(3) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ص (51) رقم (2) .
(5) وفي نسخة بحذف كلمة (بعثا) .
(6) الذر- صغار النمل.(1/114)
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «1» »
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ «2» وَالْأَسْوَدِ «3» ، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْمُعْجِزَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ فَضِيلَةً، أَوْ كَرَامَةً إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ وَخَاطَبَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فِي كتابه، فقال: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» «4» و «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» » .
وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «6» عَنِ الْكَلْبِيِّ «7» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ» «8» ، إِنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... أَيْ:
إِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لإبراهيم، أي على دينه ومنهاجه.
__________
(1) البقرة (252) .
(2) الأحمر- العجم لغلبة البياض والحمرة عليهم.
(3) الأسود- لغلبة الأدمة والسمرة عليهم. وقيل: الأحمر والأسود الإنس والجن.
(4) التوبة «72» .
(5) المائدة «67» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «7» .
(8) الصافات (83) .(1/115)
وَأَجَازَهُ «1» الْفَرَّاءُ «2» ، وَحَكَاهُ عَنْهُ مَكِّيٌّ «3» .
وَقِيلَ «4» : الْمُرَادُ نوح عليه السلام.
__________
(1) ويروى (اختاره) .
(2) تقدمت ترجمته في ص «84» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(4) وهو قول أكثر المفسرين كما هو الظاهر المتبادر حيث تقدم مرجعه.(1/116)
الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ وَوِلَايَتِهِ لَهُ وَرَفْعِهِ الْعَذَابَ بِسَبَبِهِ
قال الله تَعَالَى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «1» :
أَيْ مَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَبَقِيَ فيها من بقي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَ:
«وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» «2» وهذا مثل قوله: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا» «3» الآية.
وقوله تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ» «4» الآية.
__________
(1) الأنفال (33) .
(2) الأنفال (33) .
(3) الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» من سورة الفتح (25) .
(4) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا» من سورة الفتح (25) .(1/117)
فَلَمَّا هَاجَرَ الْمُؤْمِنُونَ نَزَلَتْ: «وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ» «1» .
وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يُظْهِرُ مَكَانَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَرْأَتِهِ «2» الْعَذَابَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ ثُمَّ كَوْنِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَلَمَّا خَلَتْ مَكَّةُ مِنْهُمْ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ «3» بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَغَلَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَحَكَّمَ فيهم سيوفهم، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم. وفي الآية أيضا تأويل آخر:
عن أبي موسى «4» قَالَ «5» : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» .. فاذا مضيت تركت فيكم الاستغفار» .
__________
(1) وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . من سورة الانفال (34) .
(2) درأته- دفعه وفي نسخة (درأبه) وهو تصحيف.
(3) وفي نسخة لفظ الجلالة محذوف.
(4) أبو موسى الأشعري: الصحابي المشهور، واسمه عامر بن قيس، وقيل الحارث أحد الحكمين، توفي بمكة أو بالكوفة سنة أربع وأربعين، أو اثنين وخمسين ومائة، ونسبته إلى أشعر لقب لأبي القبيلة المعروفة باليمن، لقب به لأنه ولد وعليه شعر.
(5) انفرد الترمذي بإخراجه من بين الستة ذكره في التفسير، وقال غريب وإسماعيل بن ابراهيم يضعف في الحديث. اهـ. ويقويه أنه رواه ابن أبي حاتم. عن ابن عباس، رضي الله عنهما موقوفا، وأبو الشيخ نحوه عن أبي هريرة، رضي الله عنه موقوفا أيضا.(1/118)
وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «1» .
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي» «2» ..
قِيلَ: مِنَ الْبِدَعِ.
وَقِيلَ: مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَمَانُ الْأَعْظَمُ مَا عَاشَ. وَمَا دَامَتْ سُنَّتُهُ بَاقِيَةً فَهُوَ بَاقٍ، فَإِذَا أُمِيتَتْ سُنَّتُهُ فانتظروا الْبَلَاءَ وَالْفِتَنَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» «3» الْآيَةَ.
أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِصَلَاةِ ملائكته. وأمر عباده بالصلاة والتسليم عليه.
وحكى أَبُو بَكْرِ «4» بْنُ فُورَكٍ: أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ تأول قوله
__________
(1) من سورة الأنبياء رقم (106) .
(2) وفي لفظ، أنا أمنة لأصحابي، وهو حديث صحيح رواه مسلم عن سعيد بن بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه.
(3) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» الأحزاب «56» .
(4) هو محمد بن الحسن الأصبهاني. الإمام الجليل، والبحر الذي لا يجارى فقها، ونحوا، وأصولا، وكلاما، مع جلالة وورع زائد، وقد امتحن في الدين، وجرت له مناظرات أدت الى عزله، ومات مسموما، شهيدا في الطريق لما عاد من غزنة، سنة ست وأربعمائة، ونقل إلى نيسابور، ودفن فيها. وقبره يزار، ويستجاب عنده الدعاء وهو شافعي المذهب. قال التلمساني: انتهى إلى أن يكلمه الملك في اليقظة.(1/119)
قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» عَلَى هَذَا، أَيْ: فِي صَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَأَمْرِهِ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. «1» «وَالصَّلَاةُ» مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنَّا لَهُ دُعَاءٌ، وَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةٌ.
وَقِيلَ: «يُصَلُّونَ» يُبَارِكُونَ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلِمَ الصَّلَاةَ عليه بين لفظ «الصلاة» و «البركة» . وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَذِكْرَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ «2» في تفسير حروف «كهيعص» «3» أَنَّ «الْكَافَ» مِنْ كَافٍ، أَيْ كِفَايَةِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ قَالَ تَعَالَى:
«أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» «4» ..
«وَالْهَاءَ» هِدَايَتُهُ لَهُ، قَالَ: «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» «5» .
__________
(1) واعلم أن قوله: (وقد حكى) الى قوله (إلى يوم القيامة) لم يثبت في الأصل الذي هو بخط المؤلف وإنما ثبت في الأصل المروي عن أبي العباس الغرفي.
(2) أي من المفسرين.
(3) مريم رقم (1) .
(4) وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» من سورة الزمر رقم (36) .
(5) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح رقم (2) .(1/120)
«والياء» تأييده، قال: «أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ» «1» .
«وَالْعَيْنَ» عِصْمَتُهُ لَهُ، قَالَ: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «2» .
«وَالصَّادَ» صَلَاتُهُ عَلَيْهِ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» «3» .
وَقَالَ تَعَالَى: «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» «4» أَيْ وَلِيُّهُ.
«وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» .
قِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ.
وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ.
وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
وَقِيلَ: علي، رضي الله عنهم أجمعين.
وقيل: المؤمنون ... على ظاهره.
__________
(1) «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» الأنفال (26) .
(2) «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ... » من سورة المائدة (67)
(3) ... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» الاحزاب (56) .
(4) (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا ... ) التحريم رقم (4) .(1/121)
الفصل التاسع في ما تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» «1» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» «2» .
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ فَضْلِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنِعْمَتِهِ لَدَيْهِ، ما يقصد الْوَصْفُ عَنْ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ.
- فَابْتَدَأَ جَلَّ جَلَالُهُ بِإِعْلَامِهِ بِمَا قَضَاهُ لَهُ مِنَ الْقَضَاءِ الْبَيِّنِ، بِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا كَانَ، وَمَا يَكُونُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ، وَمَا لَمْ يَقَعْ.. أَيْ أَنَّكَ مَغْفُورٌ لك..
__________
(1) سورة الفتح رقم (1- 10) .
(2) سورة الفتح رقم (1- 10) .(1/122)
وَقَالَ مَكِّيٌّ»
: جَعَلَ اللَّهُ الْمِنَّةَ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ، وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مِنَّةً بَعْدَ مِنَّةٍ، وَفَضْلًا بَعْدَ فَضْلٍ..
ثُمَّ قَالَ تعالى: «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» «2» .
قِيلَ: بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ لك «3» .
وَقِيلَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
وَقِيلَ: يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْصُرُكَ، وَيَغْفِرُ لَكَ، فَأَعْلَمَهُ بِتَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، بِخُضُوعِ مُتَكَبِّرِي عَدُوِّهِ لَهُ، وَفَتْحِ أَهَمِّ «4» الْبِلَادِ عَلَيْهِ، وَأَحَبِّهَا لَهُ. وَرَفْعِ ذِكْرِهِ، وَهِدَايَتِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، الْمُبَلِّغَ الْجَنَّةَ وَالسَّعَادَةَ، وَنَصْرِهِ النَّصْرَ الْعَزِيزَ، وَمِنَّتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، الَّتِي جَعَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِشَارَتِهِمْ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «5» بَعْدُ، وَفَوْزِهِمُ الْعَظِيمِ، وَالْعَفْوِ عنهم، والستر
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (67) رقم (7) .
(2) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح (2) .
(3) وفي نسخة (عليك) .
(4) وفي نسخة (أسنى) البلاد.
(5) وفي نسخة بحذف كلمتي (عند ربهم) .(1/123)
لِذُنُوبِهِمْ، وَهَلَاكِ عَدُوِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَعْنِهِمْ وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَسُوءِ مُنْقَلَبِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» الآية. فعدّ محاسنه وخصائصه، من شهادته على أمته لنفسه بتبليغه الرسالة لهم.
وقيل: شَاهِدًا لَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ.
«وَمُبَشِّرًا» لِأُمَّتِهِ بِالثَّوَابِ.
وَقِيلَ: بالمغفرة.
«ونذيرا» منذرا عدوه بالعذاب.
وقيل: محذرا من الضلالات، ليؤمن بالله، ثم به، مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى.
«وَيُعَزِّرُوهُ» «1» أي يجلّونه.
وَقِيلَ: يَنْصُرُونَهُ.
وَقِيلَ: يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ.
«وَيُوَقِّرُوهُ» «2» أي يعظمونه.
__________
(1) من قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» الفتح رقم (9) .
(2) من قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» الفتح رقم (9) .(1/124)
وقرأه بعضهم «1» «ويعززوه» «2» بزائين مِنَ الْعِزِّ.
وَالْأَكْثَرُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قال «وتسبّحوه» فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «3» : جُمِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمٌ مُخْتَلِفَةٌ:
- مِنَ الْفَتْحِ الْمُبِينِ: وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ «4» الْإِجَابَةِ.
- وَالْمَغْفِرَةِ: وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْمَحَبَّةِ.
- وَتَمَامِ النِّعْمَةِ: وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الِاخْتِصَاصِ.
- وَالْهِدَايَةِ: وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْوِلَايَةِ.
فَالْمَغْفِرَةُ تَبْرِئَةٌ «5» مِنَ الْعُيُوبِ.
وَتَمَامُ النِّعْمَةِ إِبْلَاغُ الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ.
وَالْهِدَايَةُ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ «6» : مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عليه أن جعله حبيبه،
__________
(1) أي من قراء الشواذ. وقد نسب الى ابن عباس رضي الله عنهما ... وقراءة الجمهور (يعزروه) .
(2) الفتح (9) .
(3) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «6» .
(4) أعلام: علامات.
(5) وفي نسخة (تنزيه) .
(6) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .(1/125)
وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ، وَنَسَخَ بِهِ شَرَائِعَ غَيْرِهِ، وَعَرَّجَ بِهِ إِلَى الْمَحَلِّ الْأَعْلَى، وَحَفِظَهُ فِي الْمِعْرَاجِ حَتَّى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، وَبَعَثَهُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَأَحَلَّ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الْغَنَائِمَ، وَجَعَلَهُ شَفِيعًا مُشَفَّعًا وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَقَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِهِ وَرِضَاهُ بِرِضَاهُ، وَجَعَلَهُ أَحَدَ رُكْنَيِ التوحيد.
ثم قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» «1» يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ «2» .
أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ببيعتهم إياك.
«يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» يريد عند البيعة.
قيل: قوة الله.
__________
(1) « ... يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» الفتح رقم (10) .
(2) بيعة الرضوان كانت بالحديبية، وسميت بها لقوله تَعَالَى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» ، وهي شجرة سمرة وعضاه، وقعت تحتها البيعة وبقيت إلى زمن عمر رضي الله تعالى، وكانوا ألفا وأربعمائة أو خمسمائة، والمبايعة كانت على أن لا يفروا، أو على الموت، ولا مخالفة بينهما، ولم يتخلف منهم عن البيعة غير الجد بن قيس وعثمان رضي الله تعالى عنه لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان بعثه لقريش ليخبرهم أنهم لم يقدموا لحرب، وإنما جاؤوا زوارا للبيت، فبايع النبي صلّى الله عليه وسلم عنه وقال: «هذه يد عثمان» وكان وقع الإرجاف بقتله» .(1/126)
وَقِيلَ: ثَوَابُهُ.
وَقِيلَ: مِنَّتُهُ.
وَقِيلَ: عَقْدُهُ «1» .
وَهَذِهِ استعارات وَتَجْنِيسٌ «2» فِي الْكَلَامِ. وَتَأْكِيدٌ لِعَقْدِ بَيْعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَعِظَمِ شَأْنِ الْمُبَايِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» «3» .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ «4» فِي بَابِ الْمَجَازِ، وَهَذَا «5» فِي بَابِ الْحَقِيقَةِ.
لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ خَالِقُ فِعْلِهِ، وَرَمْيِهِ، وَقُدْرَتِهِ عليه، ومشيئته «6» ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ حَيْثُ وَصَلَتْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ من لم تملأ عينه، وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة.
__________
(1) وفي نسخة (عفوه) وهو تصحيف.
(2) تجنيس: المقصود هنا: تفنن في الكلام ولم يرد به الجناس الصناعى وهو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى.
(3) « ... وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» الأنفال «17» .
(4) يعني «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ» .
(5) أي «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ»
(6) وفي نسخة «ومسببه» وهو الأحسن لأن الأولى ليس لها سبب ظاهر.(1/127)
وقد قيل في هذه الآية الْأُخْرَى «1» : إِنَّهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَرَبِيِّ «2» ، وَمُقَابَلَةِ اللَّفْظِ وَمُنَاسَبَتِهِ.
أَيْ مَا قَتَلْتُمُوهُمْ، وَمَا رَمَيْتَهُمْ أَنْتَ إِذْ رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَالتُّرَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ، أَيْ: أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّمْيِ كَانَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَهُوَ الْقَاتِلُ، وَالرَّامِي، بالمعنى، وأنت بالاسم.
__________
(1) أي الاخيرة. وهي قوله تعالى «فلم تقتلوهم» .
(2) أي اللغوي.(1/128)
الفصل العاشر في ما أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ كرامته عليه ومكانته عنده وما خصّه به من ذلك سوى ما تقدّم
- من ذلك ما قصه «1» تعالى، من قصة الإسراء، في سورة «سبحان» «2» و «النجم» «3» ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ، مِنْ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ، وقربه، ومشاهدته ما شاهد من العبائب..
- ومن ذلك، عصمته من الناس» .
«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «4» .
__________
(1) وفي نسخة «ما نصه» .
(2) «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» : الاسراء رقم «1» .
(3) والمراد هنا قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» سورة النجم «13- 18» .
(4) «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» المائدة رقم «67» .(1/129)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» «1» الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» «2» .
- وما دفع اللَّهُ بِهِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، مِنْ أَذَاهُمْ بَعْدَ تَحَرِّيِهِمْ «3» لَهُلْكِهِ، وَخُلُوصِهِمْ نَجِيًّا «4» فِي أَمْرِهِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِمْ، وذهو لهم عَنْ طَلَبِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا ظَهَرَ فِي ذلك من الآيات، وَنُزُولِ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ، وَقِصَّةِ «سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ» «5» ، حسبما ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ»
، فِي قِصَّةِ الْغَارِ، وحديث الهجرة «7» .
__________
(1) «لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» الأنفال رقم «30» .
(2) «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» التوبة «40»
(3) وفي نسخة «تحزبهم» .
(4) مصدر أو وصف أريد به معنى الجمع ومعناه: متناجين متشاورين.
(5) سراقة بن مالك هو: الصحابي الحجازي رضي الله تعالى عنه، كانت هذه القصة قيل إسلامه، وأسلم في غزوة الطائف، بعد فتح مكة، ومات في سنة أربع وعشرين هـ، وكان شاعرا.
(6) السير: جمع سيرة بمعنى الطريقة والخصلة، ثم خص بغزوات النبي صلّى الله عليه وسلم، وأسفاره المفردة بالتدوين.
(7) الهجرة: الانتقال من دار لأخرى، وهي هنا للعهد، أي هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.(1/130)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» «1» .
أعلمه الله تعالى بما أعطاه.
و «الكوثر» حَوْضُهُ
وَقِيلَ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ
وَقِيلَ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ «2»
وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ
وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ الْكَثِيرَةُ
وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ
وَقِيلَ: الْمَعْرِفَةُ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ عَدُوَّهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ.
فَقَالَ تَعَالَى: «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» «3» .
أي عدوّك، ومبغضك.
__________
(1) سورة الكوثر «1- 3» .
(2) وهو الأظهر لا أنه الحق.. وهو قول سعيد بن جبير.
(3) سورة الكوثر رقم «3» .(1/131)
و «الْأَبْتَرُ» : الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ، أَوِ الْمُفْرَدُ الْوَحِيدُ أَوِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» «1» .
قيل «2» : «السَّبْعُ الْمَثَانِي» السُّوَرُ الطِّوَالُ الْأُوَلُ.
«وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» أُمُّ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ «3» : «السَّبْعُ الْمَثَانِي» أُمُّ الْقُرْآنِ.
«وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» سَائِرُهُ.
وَقِيلَ: «السَّبْعُ الْمَثَانِي» مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَبُشْرَى وَإِنْذَارٍ، وضرب، وَإِعْدَادِ نِعَمٍ.
وَآتَيْنَاكَ نَبَأَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أُمُّ الْقُرْآنِ «مَثَانِيَ» لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ «4» .
وَقِيلَ: بَلِ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَاهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَخَرَهَا لَهُ، دون الأنبياء.
__________
(1) الحجر رقم «87» .
(2) وهو المحكي عن ابن عمر وابن مسعود والمنقول عن ابن عباس.
(3) وهو المحكي عن عمر وعلي والحسن البصري.
(4) ركعة: أي صلاة تسمية للشيء باسم جزئه.(1/132)
وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ «مَثَانِيَ» لِأَنَّ الْقَصَصَ تُثْنَى فِيهِ.
وَقِيلَ «1» : «السَّبْعُ الْمَثَانِي» أَكْرَمْنَاكَ بِسَبْعِ كَرَامَاتٍ، الْهَدْيُ، وَالنُّبُوَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالشَّفَاعَةُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالسَّكِينَةُ.
وَقَالَ تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ» «2» الآية.
وقال تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» «3» .
وقال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» «4» الآية.
قال القاضي «5» : فَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» «6» .
__________
(1) أي عن الإمام جعفر الصادق.
(2) «..... لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» النحل رقم «44» .
(3) «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» سبأ رقم «28» .
(4) «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» الأعراف رقم «158» .
(5) تقدمت ترجمته في أول الكتاب.
(6) «.... فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» إبراهيم رقم «4» .(1/133)
فَخَصَّهُمْ بِقَوْمِهِمْ، وَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى الخلق.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» «1» .
وَقَالَ تَعَالَى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» «2» .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: «أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أَيْ:
مَا أَنْفَذَهُ فِيهِمْ مِنْ أَمْرٍ، فَهُوَ مَاضٍ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَمْضِي حُكْمُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ.
وَقِيلَ: اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ رَأْيِ النَّفْسِ. «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» أَيْ: هُنَّ فِي الْحُرْمَةِ كَالْأُمَّهَاتِ، حُرِّمَ نِكَاحُهُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ تَكْرِمَةً له وخصوصية، ولأنهن له أزواج في الجنة «3» ...
وقد قرىء «4» : «وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» وَلَا يُقْرَأُ بِهِ الْآنَ «5» ،
__________
(1) كما تقدم.
(2) «..... وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» الأحزاب رقم «6» .
(3) وفي نسخة «في الآخرة» .
(4) أي في الشواذ، قيل: وهي قراءة مجاهد ونسبت أيضا إلى أبي بن كعب أيضا.
(5) إذ أركان القراءة هي المطابقة الرسمية، والموافقة للعربية، والنقل المتواتر الاجماعية، والأخيرة عمدة.(1/134)
لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ «1» ..
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ»
الآية «2» . «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
«3» .
قِيلَ: «فَضْلُهُ الْعَظِيمُ» بِالنُّبُوَّةِ.
وَقِيلَ: بِمَا سَبَقَ لَهُ فِي الْأَزَلِ.
وَأَشَارَ الْوَاسِطِيُّ «4» إِلَى أَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى احْتِمَالِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْهَا موسى عليه السلام.
__________
(1) المراد بالمصحف الإمام الذي نسخه عثمان رضي الله عنه وهو ما عليه بقية المصاحف إلى يوم الدين.
(2) «وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» النساء رقم «113» .
(3) النساء رقم «113» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «91» رقم «4» .(1/135)
الْبَابُ الثَّانِي فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَقِرَانِهِ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا
وَفِيهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَصْلًا
__________
1
(1) وقد ورد بيان العدد الصحيح لهذه الفصول في مقدمة المؤلف في العدد الأول.(1/137)
مُقَدِّمَةُ الْبَابِ الثَّانِي
اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُحِبُّ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الْبَاحِثُ عَنْ تَفَاصِيلِ جُمَلِ قَدْرِهِ العظيم، أنّ خصال الجمال «1» وَالْكَمَالِ فِي الْبَشَرِ نَوْعَانِ:
- ضَرُورِيٌّ دُنْيَوِيٌّ ... اقْتَضَتْهُ الجبلّة «2» وضرورة الحياة الدنيا- مكتسب دِينِيٌّ ... وَهُوَ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى الله زلفى «3»
ثم هي على فنين أيضا:
أ- منها ما يتخلص «4» لأحد الوصفين:
ب- وَمِنْهَا مَا يَتَمَازَجُ وَيَتَدَاخَلُ.
فَأَمَّا الضَّرُورِيُّ الْمَحْضُ: فَمَا لَيْسَ لِلْمَرْءِ فِيهِ اخْتِيَارٌ، وَلَا اكْتِسَابٌ، مِثْلُ مَا كَانَ فِي جِبِلَّتِهِ مِنْ كَمَالِ خلقته، وجمال صورته، وقوة عقله،
__________
(1) وفي نسخة «الجلال» .
(2) الجبلة: الخلقة التي خلق عليها.
(3) زلفى: قربة.
(4) يتخلص: يتمحض.(1/139)
وَصِحَّةِ فَهْمِهِ، وَفَصَاحَةِ لِسَانِهِ، وَقُوَّةِ حَوَاسِّهِ وَأَعْضَائِهِ، وَاعْتِدَالِ حَرَكَاتِهِ، وَشَرَفِ نَسَبِهِ، وَعِزَّةِ قَوْمِهِ، وَكَرَمِ أَرْضِهِ.
وَيَلْحَقُ بِهِ: مَا تَدْعُوهُ ضَرُورَةُ حَيَاتِهِ إِلَيْهِ مِنْ غِذَائِهِ، وَنَوْمِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَمَنْكَحِهِ، وَمَالِهِ وَجَاهِهِ.
وَقَدْ تَلْحَقُ هَذِهِ الْخِصَالُ الْآخِرَةُ «1» بِالْأُخْرَوِيَّةِ، إِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقْوَى، وَمَعُونَةِ الْبَدَنِ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِهَا، وَكَانَتْ عَلَى حُدُودِ الضَّرُورَةِ، وَقَوَاعِدِ «2» الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ: فَسَائِرُ الْأَخْلَاقِ الْعَلِيَّةِ، وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ: الدِّينِ- وَالْعِلْمِ- وَالْحِلْمِ- والصبر- والشكر- والعدل- وَالزُّهْدِ- وَالتَّوَاضُعِ- وَالْعَفْوِ- وَالْعِفَّةِ- وَالْجُودِ- وَالشَّجَاعَةِ- وَالْحَيَاءِ- وَالْمُرُوءَةِ- وَالصَّمْتِ- وَالتُّؤَدَةِ- وَالْوَقَارِ- وَالرَّحْمَةِ- وَحُسْنِ الْأَدَبِ وَالْمُعَاشَرَةِ ... وَأَخَوَاتِهَا «3» ، وَهِيَ الَّتِي جِمَاعُهَا (حُسْنُ الْخُلُقِ) .
__________
(1) أي الأخيرة المتعلقة بالأمور العادية الواقعة في الأحوال الدنيوية.
(2) وفي نسخة (وقوانين) .
(3) من الأخلاق المفصله في كتب الإحياء والعوارف والرسالة.(1/140)
- وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ، مَا هُوَ فِي الْغَرِيزَةِ «1» ، وَأَصْلِ الْجِبِلَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ؛ وَبَعْضُهُمْ لَا تَكُونُ فِيهِ فَيَكْتَسِبُهَا، وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ أُصُولِهَا فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ شُعْبَةٌ ... كَمَا سَنُبَيِّنُهُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى-
- وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ دُنْيَوِيَّةٌ، إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. وَلَكِنَّهَا كُلُّهَا مَحَاسِنُ، وَفَضَائِلُ، بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَإِنِ اختلفوا في موجب حسنها، وتفضيلها ...
__________
(1) السجية والطبع.(1/141)
الفصل الأوّل
قال القاضي»
: إذا كانت خصال الكمال، والجلال.
مَا ذَكَرْنَاهُ- وَرَأَيْنَا «2» الْوَاحِدَ مِنَّا يَتَشَرَّفُ «3» بِوَاحِدَةٍ منها، أو اثنتين- إِنِ اتَّفَقَتْ «4» لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ-، إِمَّا مِنْ نَسَبٍ، أَوْ جَمَالٍ، أَوْ قُوَّةٍ، أَوْ حِلْمٍ، أَوْ شَجَاعَةٍ، أَوْ سَمَاحَةٍ، حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُهُ، وَيُضْرَبَ بِاسْمِهِ الْأَمْثَالُ، وَيَتَقَرَّرَ لَهُ بِالْوَصْفِ بذلك في القلوب أثرة «5» عظيمة، وَهُوَ مُنْذُ عُصُورٍ خَوَالٍ «6» ، رِمَمٌ «7» بَوَالٍ «8» .
- فَمَا ظَنُّكَ بِعَظِيمِ قَدْرِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كُلُّ هذه الخصال، إلى مالا
__________
(1) تقدمت ترجمته في مقدمة التحقيق.
(2) وفي نسخة «ووجدنا» .
(3) وفي نسخة «يشرف» .
(4) وفي نسخة «اتفقتا» .
(5) أثرة: مكرمة.
(6) خوال «خال» وهو الخالي أي: السالف.
(7) رمم: بكسر الراء وقد يضم، ج رمة أو رميم وهي العظام وأجزاء البدن البالية.
(8) بوال: ج بالية، وبال، وهي تأكيد لكلمة رمم.(1/142)
يأخذه عدّ، وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ مَقَالٌ، وَلَا يُنَالُ بِكَسْبٍ، وَلَا حِيلَةٍ، إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، مِنْ فضيلة النبوة، والخلة، والمحبة، والاصطفاء، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْقُرْبِ، وَالدُّنُوِّ، وَالْوَحْيِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالْوَسِيلَةِ، وَالْفَضِيلَةِ، وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْبُرَاقِ، وَالْمِعْرَاجِ، وَالْبَعْثِ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَالصَّلَاةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأُمَمِ، وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ، وَلِوَاءِ الْحَمْدِ، وَالْبِشَارَةِ، وَالنِّذَارَةِ، وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ، وَالطَّاعَةِ ثمّ «1» ، والأمانة، والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضى وَالسُّؤْلِ، وَالْكَوْثَرِ، وَسَمَاعِ الْقَوْلِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ، وَالْعَفْوِ عما تقدم وتأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَعِزَّةِ النَّصْرِ، وَنُزُولِ السَّكِينَةِ، وَالتَّأْيِيدِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِيتَاءِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَزْكِيَةِ الْأُمَّةِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَصَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ عَنْهُمْ، وَالْقَسَمِ بِاسْمِهِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَتَكْلِيمِ الْجَمَادَاتِ وَالْعُجْمِ، وَإِحْيَاءِ
__________
(1) ثم: بمعنى هناك.(1/143)
الْمَوْتَى، وَإِسْمَاعِ الصُّمِّ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَرَدِّ الشَّمْسِ، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ، وَالنَّصْرِ بِالرُّعْبِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَظِلِّ الْغَمَامِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا، وَإِبْرَاءِ الْآلَامِ، وَالْعِصْمَةِ مِنَ النَّاسِ ...
- إِلَى مَا لَا يَحْوِيهِ مُحْتَفِلٌ «1» ، ولا يحيط بعلمه إلّا ما نحه ذَلِكَ، وَمُفَضِّلُهُ بِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
- إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، مِنْ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَدَرَجَاتِ الْقُدْسِ، وَمَرَاتِبِ السَّعَادَةِ، وَالْحُسْنَى، وَالزِّيَادَةِ الَّتِي تَقِفُ دُونَهَا الْعُقُولُ، وَيَحَارُ دُونَ إدراكها الوهم «2» ...
__________
(1) محتفل: أي مهتم، بمعنى أن من اهتم بجميع هذه الصفات وأمثالها لا يمكنه الإحاطة بها.
(2) الوهم: قوة يدرك بها الجزئيات المحققة وغيرها.(1/144)
الْفَصْلُ الثَّانِي صِفَاتُهُ الْخِلْقِيَّةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنْ قُلْتَ- أَكْرَمَكَ اللَّهُ-: لَا خَفَاءَ عَلَى الْقَطْعِ بِالْجُمْلَةِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى النَّاسِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُهُمْ مَحِلًّا، وَأَكْمَلُهُمْ محاسن وفضلا، وقد ذهبت فِي تَفَاصِيلِ خِصَالِ الْكَمَالِ مَذْهَبًا جَمِيلًا، شَوَّقَنِي إِلَى أَنْ أَقِفَ عَلَيْهَا مِنْ أَوْصَافِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْصِيلًا.
فَاعْلَمْ- نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلَبَكَ، وَضَاعَفَ فِي هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ حُبِّي وَحُبَّكَ-، أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى خِصَالِ الكمال، التي هي غير مكتسبة-، وفي جبلّة الخلقه، وجدته صلّى الله عليه وسلم حَائِزًا لِجَمِيعِهَا، مُحِيطًا بِشَتَاتِ مَحَاسِنِهَا، دُونَ خِلَافٍ بَيْنِ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ «1» لِذَلِكَ؛ بَلْ قَدْ بَلَغَ بعضها مبلغ القطع.
__________
(1) الأحاديث والآثار.(1/145)
أَمَّا الصُّورَةُ وَجَمَالُهَا، وَتَنَاسُبُ أَعْضَائِهِ فِي حُسْنِهَا، فَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمَشْهُورَةُ الْكَثِيرَةُ، بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «1» ، وَأَنَسِ «2» بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ «3» ، وَالْبَرَاءِ «4» بْنِ عَازِبٍ، وَعَائِشَةَ «5» أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَابْنِ أَبِي «6» هَالَةَ، وَأَبِي «7» جُحَيْفَةَ، وَجَابِرِ «8» بْنِ سَمُرَةَ، وَأُمِّ مَعْبَدٍ «9» ، وَابْنِ عَبَّاسٍ «10» ، وَمُعَرِّضِ بْنِ
__________
(1) علي بن أبي طالب: تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «1» .
(2) أنس بن مالك: تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) أبو هريرة: تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) البراء بن عازب. الأنصاري الأوسي، له ولأبيه صحبة، شهد أحدا، وغزا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس عشرة غزوة، وسافر معه ثمانية عشر سفرا، توفي في الكوفة سنة 72.
(5) عائشة أم المؤمنين: الصديقة بنت الصديق، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهي بنت تسع، ولم يتزوج بكرا غيرها، روت عن النبي صلّى الله عليه وسلم عشرة ومائتين وألفين من الأحاديث، توفيت في المدينة ودفنت بالبقيع سنة 58 هـ.
(6) ابن أبي هالة: هو هند بن أبي هالة. وهو ابن خديجة أم المؤمنين من زوجها الأول أبي هالة، وهو ربيب النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان لصغره يتشبع من النظر اليه، ولذا أكثر من وصفه، فاشتهر بهند الوصاف، وسبق بذلك كبار الصحابة، لأنهم كانوا يهابون إطالة النظر اليه صلّى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل مع علي رضي الله عنه.
(7) أبو جحيفة: مصغرا واسمه وهب بن عبد الله، توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو مراهق، روى له أحمد وغيره توفي سنة 72 هـ..
(8) جابر بن سمرة: بفتح السين وضم الميم، ابن جنادة بن جندب، أبو عبد الله، ابن اخت سعد بن أبي وقاص، توفي بالكوفة سنة 72 هـ.
(9) أم معبد: عاتكة بنت خالد بن منقذ، نزل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم في هجرته، وهي خزاعية كعبية صحابية ولم ينقل لها تاريخ.
(10) ابن عباس: تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .(1/146)
مُعَيْقِيبٍ «1» ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ «2» ، وَالْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ «3» ، وَخُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ «4» وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «5» ، وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ:
أَزْهَرَ «6» اللَّوْنِ، أَدْعَجَ «7» ، أَنْجَلَ «8» ، أَشْكَلَ «9» ، أهدب الأشفار «10» ، أبلج 1»
، أزجّ «12» ،
__________
(1) معوض بن معيقيب، بضم الميم وفتح العين وكسر الراء المشددة اليمامي، أي المنسوب إلى اليمامة، روي عنه حديث الطفل الذي نطق بتصديق النبي صلّى الله عليه وسلم معجزة له، توفي في زمن علي رضي الله عنه.
(2) أبو الطفيل: هو عامر بن وائلة الكناني، صحابي له رؤية ورواية، وكان شاعرا مغلقا، ولد في أوائل الهجرة ومات سنة 110 هو هو آخر من مات من الصحابة.
(3) العداء بن خالد: ابن هودة، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وكان حسن السبلة، أي اللحية. وهو الذي اشترى من النبي صلّى الله عليه وسلم غلاما أو أمة كما روى الترمذي وتأخر الى ما بعد المائة.
(4) خريم بن فاتك: وخريم بالتصغير، شهد بدرا. ومات بالرقة زمن معاوية وروى عنه ابن عساكر.
(5) حكيم بن حزام: ابن أخي خديجة أم المؤمنين، عاش مائة وعشرين سنة. نصفها في الاسلام، وهو الوحيد الذي ولد داخل الكعبة مات سنة 60 هـ بالمدينة.
(6) أزهر اللون- حسنه أو أبيض.
(7) أدعج- شديد سواد الحدقة.
(8) أنجل- واسع شق العين مع حسنها.
(9) أشكل- في بياض عينه قليل حمرة.
(10) أهدب الأشفار- كثير شعر حروف أجفان عينيه.
(11) أبلج- مشرق الوجه.
(12) أزج- دقيق شعر الحاجبين طويلهما إلى مؤخر العين مع تقوس.(1/147)
أَقْنَى «1» ، أَفْلَجَ «2» ، مُدَوَّرَ الْوَجْهِ «3» ، وَاسِعَ الْجَبِينِ «4» ، كَثَّ اللِّحْيَةِ تَمْلَأُ صَدْرَهُ، سَوَاءَ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، وَاسِعَ الصَّدْرِ «5» ، عَظِيمَ الْمَنْكِبَيْنِ «6» ، ضَخْمَ الْعِظَامِ، عَبْلَ «7» الْعَضُدَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْأَسَافِلِ، رَحْبَ «8» الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، سَائِلَ «9» الْأَطْرَافِ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدِ «10» ، دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ «11» ، رَبْعَةَ «12» الْقَدِّ، لَيْسَ بالطويل البائن «13» ، ولا القصير المتردد، ومع ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ، يُنْسَبُ إِلَى الطول إلّا طاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجْلَ «14» الشَّعْرِ، إِذَا افترّ
__________
(1) أقنى- مرتفع قصبة الأنف مع احديد اب يسير فيها، والمشهور أنه صلّى الله عليه وسلم كان أشم، والأشم ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاه وقد يجمع بينهما بأن ارتفاعها كان يسيرا جدا، من رآه متأملا عرفه أشم، ومن لم يتأمله ظنه أقنى.
(2) أفلج- متباعد ما بين الثنايا، وقلته محمودة.
(3) ولكن إلى الطول أقرب.
(4) الجبين- هو ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال.
(5) حسا ومعنى.
(6) المنكب- مجموع عظم العضد والكتف،
(7) العبل- الضخم.
(8) الرحب: الواسع، وهنا حسا ومعنى.
(9) سائل: تام.
(10) ما تجرد من بدنه أشرق من غيره.
(11) المسربة: خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة.
(12) الربعة: المربوع.
(13) البائن: المفرط.
(14) رجل: ما بين الجعودة والسبوطة.(1/148)
ضَاحِكًا افْتَرَّ «1» عَنْ مِثْلِ سَنَا الْبَرْقِ، وَعَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ، إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ ثَنَايَاهُ، أَحَسَنَ النَّاسِ عُنُقًا، لَيْسَ بِمُطَهَّمٍ «2» وَلَا مُكَلْثَمٍ «3» ، مُتَمَاسِكَ الْبَدَنِ «4» ، ضَرْبَ اللَّحْمِ «5» .
قَالَ الْبَرَاءُ «6» : مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ «7» ، في حلة حمراء، أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «8» .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «9» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجُدُرِ «10» ...
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ «11» : وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَانَ وَجْهُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ
__________
(1) : أبدى اسنانه.
(2) المطهم: المدور الوجه، وقيل: هو السمين الفاحش، وقيل المنتفخ الوجه، وقيل النحيف الجسم.
(3) المكلثم: المجتمع لحم وجهه.
(4) متماسك البدن: ليس برهل مسترخ لحمه.
(5) ضرب اللحم: خفيفة ولطيفة لا يابسة وكثيفة.
(6) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «4» .
(7) اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم وهي ما طال من شعر الرأس في أحد جانبيه وقيل: ما جاوز من شعره شحمة الاذن وسميت بها لا لمامها بالمتكبين.
(8) كما رواه الشيخان وغيرهما.
(9) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(10) رواه أحمد والترمذي وابن حبان. ومعنى يتلألأ في الجدر: أي أن نور وجهه الشريف يشرق إشراقا يصل الى الجدران المقابلة كما يكون ذلك من الشمس.
(11) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «8» .(1/149)
السَّيْفِ. فَقَالَ: لَا بَلْ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا «1» .
وَقَالَتْ «2» أُمُّ مَعْبَدٍ «3» فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ بِهِ:
أَجْمَلُ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ.
وَفِي حَدِيثِ «4» ابْنِ أَبِي هَالَةَ «5» :
يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ، ليلة البدر.
وقال»
علي «7» فِي آخِرِ وَصْفِهِ لَهُ:
مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً «8» هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ.
يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وَالْأَحَادِيثُ فِي بَسْطِ صِفَتِهِ مشهورة كثيرة فلا نطول بسردها.
__________
(1) كما رواه الشيخان وغيرهما.
(2) أي من رواية البيهقي في دلائله عن أخيها جيشن ابن خالد عنها.
(3) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «9» .
(4) سيأتي الحديث.
(5) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «6» .
(6) على ما في جامع الترمذي وشمائله.
(7) تقدمت ترجمته في ص «4» رقم «4» .
(8) بديهة: مفاجأة من غير روية أي أول وهلة.(1/150)
- وَقَدِ اخْتَصَرْنَا فِي وَصْفِهِ نُكَتَ «1» مَا جَاءَ فِيهَا، وَجُمْلَةً مِمَّا فِيهِ، كِفَايَةٌ فِي الْقَصْدِ إِلَى الْمَطْلُوبِ.
- وَخَتَمْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ بِحَدِيثٍ جَامِعٍ لذلك تقف عليه هناك- إن شاء الله تعالى-.
***
__________
(1) النكت. اللطائف والدقائق.(1/151)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ نَظَافَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أما نَظَافَةُ جِسْمِهِ، وَطِيبُ رِيحِهِ وَعَرَقِهِ، وَنَزَاهَتُهُ عَنِ الْأَقْذَارِ، وَعَوْرَاتِ الْجَسَدِ «1» ؛ فَكَانَ قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِخَصَائِصَ لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ تَمَّمَهَا بِنَظَافَةِ الشَّرْعِ، وَخِصَالِ الْفِطْرَةِ العشر «2» .
وقال: «بني الدّين على النظافة» «3» .
__________
(1) عورات: عيوب.
(2) لحديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: عشر من الفطرة.. قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الابط، وخلق العانة، وانتقاص الماء ... قال مصعب ابن شيبة راويه: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ... ) وانتقاص الماء يعني الاستنجاء. وقال المؤلف في شرح مسلم: ولعل العاشرة الختان لأنه مذكور في قوله عليه الصلاة والسلام: «الفطرة خمس ... » .
(3) هنا الحديث وان قال العراقي في تخريج أحاديث الاحياء لم أجده هكذا بل في الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها (تنظفوا فإن الاسلام نظيف) . وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (النظافة تدعو الى الاسلام) هـ فقد روى الرافعي في تاريخه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه بعض حديث مرفوعا (تنظفوا بكل ما استطعتم فإن الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنة الا كل نظيف) وينصره حديث الترمذي (إن الله نظيف يحب النظافة فنظفوا أفنيتكم) .(1/152)
عَنْ أَنَسٍ «1» قَالَ: «مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ، وَلَا مِسْكًا، وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم» «2» .
وعن جَابِرِ «3» بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ خَدَّهُ، قَالَ: فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا وريحا، كأنما أخرجها من جونة عَطَّارٍ» «4» .
قَالَ غَيْرُهُ: مَسَّهَا بِطِيبٍ أَوْ لَمْ يَمَسَّهَا، يُصَافِحُ الْمُصَافِحَ فَيَظَلُّ يَوْمَهُ يَجِدُ رِيحَهَا. وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ فَيُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ الصِّبْيَانِ بِرِيحِهَا
- «وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم في دار أنس «5» على نطع «6» . فَعَرِقَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ بِقَارُورَةٍ تَجْمَعُ فِيهَا عَرَقَهُ، فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ من أطيب الطيب.» «7» .
__________
(1) أنس بن مالك تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(2) الحديث في مسلم وفي الشمائل.
(3) جابر بن سمرة تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «8» .
(4) روى الحديث مسلم وهذا جزء من الحديث.
(5) أنس بن مالك تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) النطع: البساط.
(7) أخرج الحديث مسلم. وزاد البخاري عليه (نرجو بركته لصبياننا) .(1/153)
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ عَنْ جَابِرٍ «1» :
«لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أنّه سلكه، من طيبه» .
وذكر إسحق «2» بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ رَائِحَتُهُ بِلَا طيب صلّى الله عليه وسلم.
روى المزني «3» ، والحربي «4» .
عن جابر «5» رضي الله عنه قال: «أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ، فَالْتَقَمْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بِفَمِي، فَكَانَ يَنِمُّ «6» عَلَيَّ مِسْكًا» .
وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُعْتَنِينَ بِأَخْبَارِهِ وَشَمَائِلِهِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَغَوَّطَ، انْشَقَّتِ الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت
__________
(1) جابر: هو جابر بن عبد الله الصحابي رضي الله تعالى عنهما، شهد المشاهد كلها إلا بدرا، واستغفر له النبي صلّى الله عليه وسلم خمسا وعشرين مرة لما قضى دين أبيه، روى ألفا وخمسمائة حديث، وهو آخر صحابي مات بالمدينة سنة سبعين وشيء.
(2) وهو إسحق بن إبراهيم بن مخلد التميمي، ويكنى بأبي يعقوب المروزي، الإمام الزاهد الثقة المجتهد، أمير المؤمنين في الحديث، وهو الذي أحيا السنة بالمشرق ما سمع شيئا إلا حفظه، وما حفظ شيئا فنسيه.
(3) المزني: بضم ففتح: أبو إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني الزاهد، كان مجاب الدعوة، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه: لو ناظر الشيطان لغلبه توفي سنة 264 هـ.
(4) الحربي: هو إبراهيم بن إسحق الحربي الحنبلي نسبة إلى الحربية محلة من بغداد توفي سنة 107 هـ.
(5) جابر بن عبد الله: مرت ترجمته آنفا وهذا الحديث رواه ابن عساكر في تاريخه.
(6) ينم: يفوح.(1/154)
لِذَلِكَ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» . وَأَسْنَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ «2» ، كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ «3» فِي هَذَا «4» خَبَرًا، عَنْ عَائِشَةَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
«أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ تَأْتِي الْخَلَاءَ فَلَا نَرَى مِنْكَ شَيْئًا من الأذى، فقال: يا عائشة، أو ما عَلِمْتِ أَنَّ الْأَرْضَ تَبْتَلِعُ «6»
مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ «7» ؟!» .
وَهَذَا الْخَبَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ من أهل العلم بطهارة هذين الْحَدَثَيْنِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهُوَ قول بعض أصحاب الشافعي «8» .
__________
(1) ذكره البيهقي عن عائشة رضي الله عنها وقال: إنه موضوع كما سيأتي.
(2) محمد بن سعد: الإمام الكبير الحافظ الثقة، وهو أبو عبد الله، محمد مولى بني هاشم، صاحب الطبقات توفي سنة 204 هـ.
(3) الواقدي: ولي القضاء ببغداد للمأمون، وروى عن مالك أحاديث كثيرة، وروى عنه الشافعي وغيره، واستقر الإجماع على ضعفه كما في الميزان توفي سنة 211 هـ.
(4) أي في أن الأرض تبتلع ما يخرج منه وتفوح له رائحة طيبة.
(5) السيدة عائشة: تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(6) وفي نسخة (تبلع) .
(7) وهذا الحديث وإن لم يكن مشهورا فقد قال ابن دحية بعد أن أورده: هذا سند ثابت. قيل: وهذا أقوى ما في الباب، وقد أخرجه الدارقطني في الافراد بسند ثابت.
(8) وعليه كثير من الخراسانيين، لكن المعتمد في المذهب خلافه كما ذكره الدلجي. الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس القرشي، عالم مكة، يصدق بحقه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: عالم مكة يملأ طباق الأرض علما. ولد في غزه سنة 150 هـ ونشأ وترعرع في مكة، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأولع بالعربية من النحو والشعر واللغة، وحفظ موطا مالك بليلة، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، رحل إلى اليمن ثم بغداد ثم أقام في مصر وبها توفي سنة 204 هـ.(1/155)
حكاه الإمام أبو نصر بن الصَّبَّاغِ «1» فِي شَامِلِهِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَابِقٍ الْمَالِكِيُّ «2» فِي كِتَابِهِ «الْبَدِيعُ» فِي فُرُوعِ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَخْرِيجُ مَا لَمْ يَقَعْ لَهُمْ مِنْهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ تَفَارِيعِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَشَاهِدُ هَذَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ يُكْرَهُ وَلَا غَيْرُ طَيِّبٍ ...
وَمِنْهُ حَدِيثُ «3» عَلِيٍّ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «غَسَّلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا فَقُلْتُ: طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا. قَالَ: وَسَطَعَتْ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، لَمْ نَجِدْ مِثْلَهَا قَطُّ» .
وَمِثْلُهُ قَالَ»
أَبُو بَكْرٍ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم، بعد موته.
__________
(1) أبو نصر بن الصباغ: الإمام البحر عبد السيد بن محمد، انتهت إليه رئاسة الشافعية في عصره، وكان ورعا نقيا زاهدا، توفي سنة 477 هـ مكفوف البصر.
(2) أبو بكر بن سابق: العالم الفاضل المقلد لمذهب الإمام مالك.
(3) رواه ابن ماجه وأبو داود في مراسيله والحكيم والبيهقي.
(4) علي بن أبي طالب تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(5) رواه البزار عن عمر بسند صحيح، وهو بعض خبر في البخاري.
(6) أبو بكر الصديق: هو عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي، خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وهو أفضل الصحابة على الاطلاق، حارب المرتدين حروبا لا هوادة فيها، وانتصر عليهم، وثبت دعائم الاسلام بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، توفي سنة 13 هـ وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودفن بجانب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(1/156)
- وَمِنْهُ شُرْبُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ «1» دَمَهُ، يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَصُّهُ إِيَّاهُ، وَتَسْوِيغُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ وَقَوْلُهُ لَهُ: «لَنْ تُصِيبَهُ النَّارُ» «2» ،
- وَمِثْلُهُ «3» شُرْبُ عَبْدِ اللَّهِ «4» بْنِ الزُّبَيْرِ دم حجامته، فقال له عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكَ» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوٌ مَنْ هَذَا عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ شَرِبَتْ بَوْلَهُ، فَقَالَ لَهَا: «لَنْ تَشْتَكِي وَجَعَ بَطْنِكِ أَبَدًا.» «5»
- وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ فَمٍ، ولا نهاه عن عود.
وَحَدِيثُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، الَّتِي شَرِبَتْ بَوْلَهُ صَحِيحٌ، ألزم
__________
(1) مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر، وهو أبو سعيد الخدري، وهو من كبار الصحابة، شرب دم النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من مس دمه دمي لم يخالطه ذنب، وقتل رضي الله عنه شهيدا في هذه الغزوة.
(2) رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي سعيد الخدري، ورواه البيهقي عن عمر بن السائب.
(3) كما رواه الحاكم والبزار، والدارقطني والبيهقي والبغوي، والطبراني وسنده جيد، والعجب من ابن الصلاح أنه قال: هذا حديث لم أجد له أصلا بالكلية وهو في هذه الأصول.
(4) عبد الله بن الزبير: هو عبد الله بن الزبير بن العوام، بضم الزاي والتصغير، وكان أول مولود للمسلمين بعد الهجرة، وكانت ولادته هزيمة لليهود حين أعلنوا أنهم سحروا المسلمين فلن يولد لهم مولود. استخلف بعد وفاة سيدنا معاوية سنة 64 هـ، وحاصره الحجاج عند الكعبة حتى قتل شهيدا سنة 73.
(5) والحديث رواه الحاكم وأقره الذهبي والدارقطني.(1/157)
الدَّارَقُطْنِيُّ «1» مُسْلِمًا «2» ، وَالْبُخَارِيَّ «3» ، إِخْرَاجَهُ فِي الصَّحِيحِ.
وَاسْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ «بَرَكَةُ» «4» ، وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهَا، وَقِيلَ:
هِيَ أُمُّ أَيْمَنَ «5» ، وَكَانَتْ تَخْدِمُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم.
قالت: وكان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ «6» ، يُوضَعُ تَحْتَ سَرِيرِهِ، يَبُولُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَبَالَ فِيهِ لَيْلَةً، ثُمَّ افْتَقَدَهُ، فَلَمْ يَجِدْ
__________
(1) الدارقطني: هو علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، منسوب إلى دار القطن محلة ببغداد، وهو الإمام الحافظ الذي لم ير مثله في عصره، انتهى إليه علم الأثر ومعرفة العلل وأسماء الرجال وأحوالهم مع الصدق والعدالة والمعرفة بمذاهب الفقهاء، فلذا قيل إنه أمير المؤمنين في الحديث ولد سنة 306 هـ وتوفي سنة 385 هـ.
(2) مسلم: هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأئمة الحفاظ، قدم بغداد غير مرة وحدث بها، صنف صحيحه من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، وقال أبو علي النيسابوري ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث. ولد سنة 206 هـ وتوفي سنة 261 هـ.
(3) البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، رحل في طلب العلم إلى جميع محدثي الأمصار، رد على المشايخ وله إحدى عشرة سنة وطلب العلم وله عشر سنين. قال: خرجت كتاب الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث وما وضعت فيه حديثا إلا صليت ركعتين ولد سنة 194 هـ وتوفي سنة 256 هـ.
(4) بركة بنت يسار: مولاة أبي سفيان بن حرب المهاجرة السابقة، قدمت مع أم حبيبة من الحبشة، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم، وكانت بركة تخدمها، وهي القائلة: إنه كان له صلّى الله عليه وسلم قدح تحت سريره يبول فيه فشربته ليلا.
(5) بركة: هي أم أيمن بركة بنت محصن بن ثعلبة، مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحاضنته الحبشية معتقة أبيه، أسلمت هي وابنها أيمن بن عبيد الحبشي، ثم تزوجها زيد بن حارثة توفيت بعد النبي صلّى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.
(6) عيدان: جمع عيدانة وهي النخلة الطويلة.(1/158)
فِيهِ شَيْئًا. فَسَأَلَ بَرَكَةَ عَنْهُ، فَقَالَتْ: قُمْتُ، وَأَنَا عَطْشَانَةٌ، فَشَرِبْتُهُ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ» رَوَى حديثها ابن جريج «1» وغيره «2» .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وُلِدَ مَخْتُونًا، مَقْطُوعَ السُّرَّةِ «3» ؛
وَرُوِيَ عَنْ أُمِّهِ آمنة «4» أنها قالت: وَلَدْتُهُ نَظِيفًا، مَا بِهِ قَذَرٌ «5» .
وَعَنْ «6» عَائِشَةَ «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ، وَعَنْ عَلِيٍّ «8» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُغَسِّلُهُ غَيْرِي «فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ» «9» وفي حديث
__________
(1) ابن جريج بالجيمين مصغرا، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ويكنى بأبي الوليد، وهو إمام مجمع على ثقته، وهو أول من صنف في الاسلام توفي سنة 150 هـ.
(2) مثل أبي داود وابن حبان، والحاكم عن أميمة عن أمها، وروى الحاكم، والدارقطني مثله عن أم أيمن.
(3) رواه أبو نعيم والطبراني في الأوسط، وأخرج ابن سعد والبيهقي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبيه أنه ولد معذورا مسرورا أي: مقطوع السرة مختونا، وأخرجه الخطيب من طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعا «من كرامتي على ربي أن ولدت مختونا ... » وأخرجه ابن جميع في معجمه بسند واه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) آمنة بنت وهب بن عبد مناف، ولم تلد غيره صلّى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها عبد الله على الأصح، ذكر السهيلي أن الله عز وجل أحيى للنبي صلّى الله عليه وسلم أبويه فآمنا به ثم ماتا، توفيت وعمره ست سنين.
(5) كذا رواه ابن سعد في طبقاته.
(6) الحديث رواه البزار والبيهقي.
(7) عائشة: تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(8) علي تقدمت ترجمته في صفحة «54» رقم «4» .
(9) هذا الحديث رواه البزار والبيهقي.(1/159)
عِكْرِمَةَ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أنه صلّى الله عليه وسلم، نَامَ حَتَّى سُمِعَ لَهُ غَطِيطٌ «3» ، فَقَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» «4» .
قَالَ عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان محفوظا.
__________
(1) هو عكرمة بن عبد الله البربري، مولى ابن عباس، أحد فقهاء المدينة وتابعيها ومن الأئمة المقتدى بهم في التفسير والحديث توفي سنة 107 هـ.
(2) ابن عباس: تقدمت ترجمته في صفحة «52» رقم «6» .
(3) الغطيط: هو صوت يخرج من الأنف مخنوقا.
(4) كما رواه الشيخان عنه.(1/160)
الفصل الرابع وفور عقله وفصاحة لسانه وقوة حواسه صلّى الله عليه وسلّم
أما وُفُورُ عَقْلِهِ، وَذَكَاءُ لُبِّهِ، وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ، وَفَصَاحَةُ لِسَانِهِ، وَاعْتِدَالُ حَرَكَاتِهِ، وَحُسْنُ شَمَائِلِهِ، فَلَا مِرْيَةَ «1» أَنَّهُ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ وَأَذْكَاهُمْ.
- وَمَنْ تَأَمَّلَ تَدْبِيرَهُ أَمْرَ بَوَاطِنِ الْخَلْقِ، وَظَوَاهِرِهِمْ، وَسِيَاسَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، مَعَ عَجِيبِ شَمَائِلِهِ وَبَدِيعِ سِيَرِهِ، فَضْلًا عَمَّا أَفَاضَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَرَّرَهُ مِنَ الشَّرْعِ، دُونَ تَعَلُّمٍ سَبَقَ، وَلَا مُمَارَسَةٍ تَقَدَّمَتْ، وَلَا مُطَالَعَةٍ لِلْكُتُبِ مِنْهُ، لَمْ يَمْتَرِ فِي رُجْحَانِ عقله، وثقوب «2» فهمه، لأول بديهة.
__________
(1) مرية: شك.
(2) ثقوب الفهم: يقال رجل ثاقب الرأي: أي نافذ الرأي ينظر فيه بدقة.(1/161)
- وهذا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ لِتَحَقُّقِهِ.
وَقَدْ قَالَ وَهْبُ «1» بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي أَحَدٍ وَسَبْعِينَ كِتَابًا، فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَفْضَلُهُمْ رَأْيًا.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ بَدْءِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا، مِنَ الْعَقْلِ فِي جَنْبِ عَقْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا كَحَبَّةِ رَمْلٍ مِنْ بَيْنِ رِمَالِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ «2» مُجَاهِدٌ «3» : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا قَامَ فِي «4» الصَّلَاةِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» » .
وفي الموطّأ «6» عنه عليه الصلاة والسلام: «إنّي لأراكم من وراء ظهري» «7» .
__________
(1) وهب بن منبة، سيج، بفتح السين وسكون الياء، الأنباري اليماني وهو أبو عبد الله، تابعي مشهور بالمعرفة بالكتب القديمة. سمع عن بعض الصحابة، وروى عنهم واتفق على توثيقه وعبادته أخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة 114 هـ.
(2) أي كما رواه عنه ابن المنذر والبيهقي مرسلا.
(3) مجاهد: تقدمت ترجمته في ص «70» رقم «1» .
(4) وفي نسخة (إلى) .
(5) الشعراء (219) .
(6) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) وصدر الحديث (أترون قبلتكم هذه فو الله لا يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم)(1/162)
وَنَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ «1» فِي الصَّحِيحَيْنِ «2» .
وَعَنْ عَائِشَةَ «3» مِثْلُهُ «4» قَالَتْ: «زِيَادَةٌ زَادَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي حَجَّتِهِ»
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «5» : «إِنِّي لَأَنْظُرُ مِنْ «6» وَرَائِي كَمَا أَنْظُرُ مِنْ «7» بَيْنِ يَدَيَّ» .
وَفِي أُخْرَى «8» : «إِنِّي لَأُبْصِرُ مِنْ قَفَايَ كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» .
وَحَكَى بَقِيُّ «9» بْنُ مَخْلَدٍ عن عائشة «10» : «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ» «11» .
- وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الملائكة «12»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(2) وهو ما روياه عن أنس مرفوعا (أقيموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من بعدي- وربما قال (من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم) .
(3) مرت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(4) مثله لفظا ومعنى.
(5) لعبد الرزاق والحاكم.
(6) وفي نسخة (ما) والاحتمالان في (من) جائزان.
(7) وفي نسخة (ما) والاحتمالان في (من) جائزان.
(8) في رواية أخرى لمسلم.
(9) بقي بن مخلد: هو الإمام أبو عبد الرّحمن القرطبي الجياني، الحافظ الزاهد العابد الثقة، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا وكان مجاب الدعوة، يقال إنه كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة، حضر سبعين غزاة ولد سنة 201 هـ وتوفي سنة 276 هـ.
(10) رواه ابن عدي والبيهقي وقال: إسناده ضعيف.
(11) لعبد الرزاق والحاكم.
(12) كما في رواية البخاري وغيره «أنه رأى جبريل في صورته له ستمئة جناح على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق..» وقد رأى كثيرا منهم ليلة الاسراء.(1/163)
والشياطين «1» .
- ورفع له النجاشي «2» حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ «3» .
- وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ «4» حِينَ وَصَفَهُ لِقُرَيْشٍ.
- وَالْكَعْبَةِ حِينَ «5» بَنَى مَسْجِدَهُ «6» ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ «7» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: «كَانَ يَرَى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نَجْمًا.»
- وَهَذِهِ كلها محمولة على رؤية العين.
__________
(1) حديث البخاري: «إن عفريتا تفلت علي البارحة في صلاة المغرب وبيده شعلة من نار ليحرق بها وجهي، فأمكنني الله منه فدفعته، ثم أردت أن أربطة بسارية من سواري المسجد، فذكرت دعوة أخي سليمان- وفي رواية- لولا دعوة أخي سليمان لأصبح يلعب به ولدان المدينة» .
(2) النجاشي: واسمه أصحمة كتب الى الرسول صلّى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا قد بايعتك وأسلمت لله رب العالمين توفي سنة 9 هـ.
(3) رواه الشيخان وغيرهما، وبه استدل الشافعي على جواز الصلاة على الغائب. وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عمران بن حصين: «أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا وصلوا عليه، فقام عليه الصلاة والسلام وصفوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون أن جنازته بين يديه» .
(4) كما في الصحيحين.
(5) وفي نسخة (حتى) .
(6) على ما رواه الزبير بن بكار في تاريخ المدينة، عن ابن شهاب ونافع بن جبير بن مطعم مرسلا، قال الدلجي: وهو غريب، والمعروف أن جبريل هو الذي أعلمه بها وأراه سمتها، لا أنها رفعت له حتى رآها، بشهادة ما في جامع العتيبة من سماع مالك قال: سمعت أن جبريل هو الذي أقام له قبلة مسجده. اه ولا يخفى أنه يمكن الجمع بينهما.
(7) جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس عمه عليه الصلاة والسلام ذكره ابن خيثمة.(1/164)
وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ «1» حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ «2» إِلَى رَدِّهَا إِلَى الْعِلْمِ.
- وَالظَّوَاهِرُ تُخَالِفُهُ، وَلَا إِحَالَةَ «3» فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مِنْ خَوَاصِّ الأنبياء وخصالهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «4» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «لما تجلّى الله عز وجل لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يُبْصِرُ النَّمْلَةَ عَلَى الصَّفَا، فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، مَسِيرَةَ عَشَرَةِ فَرَاسِخَ» «5» .
وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا، أَنْ يَخْتَصَّ نَبِيُّنَا صلّى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَعْدَ الْإِسْرَاءِ وَالْحُظْوَةِ، بِمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.
وَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ «6» بِأَنَّهُ صَرَعَ رُكَانَةَ «7» ، أَشَدَّ أهل وقته
__________
(1) أحمد بن حنبل: أبو عبد الله بن هلال بن أسعد الذهلي الشيباني، ولد في بغداد سنة 164 هـ ونشأفيها، وشغف بالسنة حتى صار إمامها في عصره، وتفقه بالشافعي وتوفي 241 هـ
(2) كالنووي في شرح مسلم.
(3) إحالته: استحالته.
(4) مرت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) رواه الطبراني في الصغير بنحو هذا الاسناد وقال: لم يروه عن قتادة إلا الحسن. تفرد به هانىء.
(6) كخبر أبي داود والترمذي.
(7) «هو ركانة بن عبد يزيد بن هاشم القرشي، أسلم يوم الفتح، توفي بالمدينة سنة 42 هـ.» .(1/165)
وَكَانَ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ «1» .
وَصَارَعَ أَبَا رُكَانَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ «2» ، وَكَانَ شَدِيدًا، وَعَاوَدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَصْرَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وقال «3» أبو هريره»
: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْيِهِ، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ؛ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَهُوَ غير مكترث؛ وفي صفته عليه الصلاة والسلام أَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ تَبَسُّمًا، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا، وَإِذَا مَشَى مَشَى تَقَلُّعًا، «5» كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ من صبب «6» .
__________
(1) قال الترمذي: إسناده ليس بالقائم، وقال البيهقي مرسل جيد. وروي باسناد موصولا، إلا أنه ضعيف.
(2) قال الدلجي: هذا الخبر وخبر أنه صارع أبا جهل وصرعه لم يصحا بل لا أصل لهما. وفيه أنه في مراسيل أبي داود ويزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد على الشك. لكن الظاهر أن الصحيح ركانة كما قاله الحلبي وغيره لا كما قاله النووي إنه الصواب والله أعلم، نعم مصارعة أبي جهل لا تصح اتفاقا.
(3) كما رواه الترمذي في شمائله والبيهقي في دلائله.
(4) مرت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) رواه الترمذي في الشمائل، والتقلع: رفع الرجلين رفعا بائنا بدون اختيال.
(6) الصبب: بتشديد الصاد وفتح الباء: ما انحدر من الارض.(1/166)
الفصل الخامس فصاحة لسانه وبلاغته صلّى الله عليه وسلّم
وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ، وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لَفْظٍ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ، وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ.
- أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعِلْمِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، فكان يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شرح كلامه، وتفسير قوله.
- من تَأَمَّلَ حَدِيثَهُ، وَسِيَرَهُ، عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ.
- وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَنَجْدٍ،(1/167)
كَكَلَامِهِ مَعَ «ذِي الْمِشْعَارِ «1» الْهَمَدَانِيِّ» «وَطِهْفَةَ «2» النَّهْدِيِّ» و «قطن بن «3» حارثة العليمي» و «الأشعث «4» بن قيس» و «وائل بْنِ حُجْرٍ «5» الْكِنْدِيِّ» وَغَيْرِهِمْ، مِنْ أَقْيَالِ «6» حَضْرَمَوْتَ، وَمُلُوكِ الْيَمَنِ.
- وَانْظُرْ كِتَابَهُ إِلَى هَمَدَانَ: (إِنَّ لكم فراعها «7» ، ووهاطها «8»
__________
(1) هو أبو ثور مالك بن نمط الهمداني، نسبة إلى همدان قبيلة من اليمن، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، مع كثير من قومه مسلمين فقال: هذا وفد همدان ما أسرعها الى النصر وأصبرها على الجهد.. هاجر ذو المشعار في زمن عمر رضي الله عنه إلى الشام ومعه أربعة آلاف عبد فأعتقهم كلهم وانتسبوا إلى همدان.
(2) طهفة النهدي نسبة إلى نهد قبيلة باليمن، وهو خطيبها ووافدها للنبي صلّى الله عليه وسلم سنة تسع..
(3) العليمي بالتصغير: صحابي قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم فسأله الدعاء له ولقومه في غيث السماء في حديث فصيح كثير الغريب.
(4) الأشعث بن قيس: قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم مع قومه وارتد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فجيء به الى أبي بكر فقال: استبقني لحربك وزوجني أختك ففعل. ورجع إلى إلاسلام، ثم خرج مع سعد إلى العراق، وشهدمعه مشاهد كثيرة، وسكن الكوفة الى أن توفي بها سنة 40 هـ.
(5) وائل بن حجر الكندي: بشر النبي صلّى الله عليه وسلم به قبل قدومه عليه ثم قدم فأسلم فرحب به، وأدناه من نفسه، وبسط له رداءه وأجلسه عليه، ودعاله بالبركة، وولاه على أقيال حضرموت، وكان من ملوك حمير، توفي سنة 49 هـ.
(6) الأقيال: الأمراء..
(7) فراعها: ما ارتفع من الأرض.
(8) وهاطها: الارض المطمئنة.(1/168)
وَعَزَازَهَا «1» تَأْكُلُونَ عِلَافَهَا «2» ، وَتَرْعَوْنَ عَفَاءَهَا «3» ، لَنَا مِنْ دِفْئِهِمْ «4» ، وَصِرَامِهِمْ «5» مَا سَلَّمُوا «6» بِالْمِيثَاقِ «7» وَالْأَمَانَةِ، وَلَهُمْ من الصدقة الثلب «8» والناب «9» ، والفصيل «10» ، والفارض «11» الداجن «12» ، وَالْكَبْشُ الْحَوَارِيُّ «13» ، وَعَلَيْهِمْ فِيهَا الصَّالِغُ «14» وَالْقَارِحُ «15» ...
وَقَوْلُهُ لنهد «16» : «اللهم بارك لهم في محضها» «17» ،
__________
(1) غزازها: ما خشن وصلب منها.
(2) علافها: ما تأكله الماشية.
(3) عفاءها: ما ليس لأحد فيه ملك.
(4) الدفء: نتاج الإبل وألبانها. والأظهر أنه كناية عن الأنعام
(5) صرامهم: تخيلهم أو ثمرهم.
(6) سلموا: استسلموا.
(7) الميثاق: الإسلام، أو العهد.
(8) الثلب: بكسر المثلثة: الهرم من الإبل الذي سقطت أسنانه وتناثر هلب ذنبه.
(9) الناب: أنثى الإبل التي طال نابها.
(10) الفصيل: ولد الإبل الذي فصل عن امه وفطم.
(11) الفارض: المسن من الابل أو البقر.
(12) الداجن: ما يألف البيوت ولا يذهب إلى المرعى.
(13) الكبش الحواري: الذي يتخذ من جلده نطع، وروي الذي جلده أحمر وقيل: أبيض.
(14) الصالغ: ما دخل في السنة السادسة من البقر والغنم.
(15) القارح: ما دخل من الخيل في السنة الخامسة.
(16) نهد: قبيلة باليمن أرسلت وفدها الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم برئاسة طهفة النهدي الذي سبق ذكره.
(17) محضها: لبنها الذي لم يخالطه ماء.(1/169)
وَمَخْضِهَا «1» ، وَمَذْقِهَا «2» ، وَابْعَثْ رَاعِيَهَا فِي الدَّثْرِ «3» ، وَافْجُرْ لَهُ الثَّمَدَ «4» وَبَارِكْ لَهُمْ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ.
مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ آتَى الزَّكَاةَ كَانَ مُحْسِنًا، وَمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ مُخْلِصًا،
لَكُمْ يَا بني نهد ودائع»
الشريك، وَوَضَائِعُ «6» الْمُلْكِ، لَا تُلْطِطْ «7» فِي الزَّكَاةِ، وَلَا تُلْحِدْ «8» فِي الْحَيَاةِ، وَلَا تَتَثَاقَلْ عَنِ الصَّلَاةِ.
وَكَتَبَ لَهُمْ: فِي الْوَظِيفَةِ الْفَرِيضَةِ «9» ، وَلَكُمُ الْفَارِضُ وَالْفَرِيشُ «10» ، وَذُو الْعِنَانِ «11» الرَّكُوبُ، وَالْفَلُوُّ «12» الضَّبِيسُ «13» ، لَا يمنع
__________
(1) مخضها: ما مخض من لبنها وأخذ زبده.
(2) مذقها: ما خلط من لبنها بالماء.
(3) الدثر: المال الكثير.
(4) الثمد: الماء القليل.
(5) ودائع: جمع وديع أي العهد والميثاق.
(6) وضائع: الوظائف.
(7) تلطط: تمنع.
(8) تلحد: تميل.
(9) الفريضة: هي الفارض المسنة. أي عليكم في الوظيفة- وهي كل نصاب-
(10) الفريش: الحديثة العهد بالنتاج..
(11) ذو العنان: أي الفرس.
(12) الفلو: ولد الفرس.
(13) الضبيس: الصعب والعسر الأخلاق.(1/170)
سَرْحُكُمْ «1» ، وَلَا يُعْضَدُ «2» طَلْحُكُمْ «3» ، وَلَا يُحْبَسُ دَرُّكُمْ «4» ، مَا لَمْ تُضْمِرُوا الرِّمَاقَ «5» ، وَتَأْكُلُوا الرِّبَاقَ «6» .
مَنْ أَقَرَّ فَلَهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالذِّمَّةِ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الرَّبْوَةُ «7» .
وَمِنْ كِتَابِهِ لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «8» : «إلى الأقيال العباهلة «9» ، والأرواع «10» الْمَشَابِيبِ «11» .
وَفِيهِ: فِي التِّيعَةِ «12» شَاةٌ، لَا مُقَوَّرَةُ «13» الألياط «14» ،
__________
(1) سرحكم: ماشيتكم التي تسرح..
(2) نعضد: يقطع.
(3) الطلح: شجر كبير من أشجار الشوك حسن اللون والريح..
(4) دركم: الماشية التي تذهب للرعي وتدر لبنا أي لا تمنع من الرعي.
(5) الرماق: النفاق.
(6) الرباق: في الأصل عروة الحبل، يربط بها ما خيف ضياعه، وهنا استعارها لنقض العهد.
(7) الربوة: الزياده في الفريضة عقوبة له. وهذا الحديث رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة، والديلمي في مسند الفردوس.
(8) مرت ترجمته في ص «168» رقم «5» .
(9) العباهلة: ملوك اليمن الذين أقروا على ملكهم فلم يزالوا عنه.
(10) الأرواع: حسان الوجوه.
(11) المشابيب: جمع مشبوب أي الرؤوس السادة.
(12) انتيعة: الأربعين من الغنم.
(13) مقورة: الإقوار الاسترخاء في الجلد.
(14) الألياط: الجلود من لاط أي لضق والأصل هو قشر الشجرة.(1/171)
ولا ضناك «1» ، وأنطوا «2» الثبجة «3» .
وَفِي السُّيُوبُ «4» الْخُمُسُ. وَمَنْ زَنَى مِمْ «5» بِكْرٍ فَاصْقَعُوهُ «6» مِائَةً، وَاسْتَوْفِضُوهُ «7» عَامًا، وَمَنْ زَنَى مِمْ ثيب فضرّجوه «8» بِالْأَضَامِيمِ «9» وَلَا تَوْصِيمَ 1»
فِي الدِّينِ، وَلَا عَمَةَ «11» فِي فَرَائِضِ اللَّهِ. وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَوَائِلُ بْنُ «12» حُجْرٍ يَتَرَفَّلُ «13» عَلَى الْأَقْيَالِ ...
أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ لِأَنَسٍ «14» فِي الصَّدَقَةِ الْمَشْهُورِ، لَمَّا كَانَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَبَلَاغَتُهُمْ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِمْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ، استعملها معهم، ليبين للناس ما نزّل
__________
(1) ضناك: ممتلئة اللحم مكثرة الشحم.
(2) أنطوا: لغة يمانية وهي: أعطوا.
(3) الثبجة: الشاة الوسطى.
(4) السيوب: جمع سيب وهو الركاز.
(5) مم: من بإبدال النون ميما.
(6) اصقعوه: اضربوه.
(7) استوفضوه: انفوه.
(8) ضرجوه: لطخوه بدمائه أي بواسطة الرجم.
(9) الأضاميم: جمع إضمامة أي الحجارة.
(10) توصيم: محاباة.
(11) عمه: لا تردد ولا حيرة. وفي رواية (غمة) أي ستر وغطاء
(12) تقدمت ترجمته في ص «168» رقم «5» .
(13) يترفل: يترأس. وكتابه هذا أخرجه الطبراني في الصغير والخطابي في الغريب.
(14) مرت ترجمته في ص «47» رقم «1» .(1/172)
إليهم، وليحدث الناس بما يعلمون ...
وَكَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ «1» عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ «2» : «فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْطِيَةُ، وَالْيَدَ السُّفْلَى هِيَ الْمُنْطَاةُ» .
قَالَ: فَكَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَتِنَا.
وَقَوْلُهُ «3» فِي حَدِيثِ الْعَامِرِيِّ «4» : حِينَ سَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
«سل عَنْكَ» أَيْ سَلْ عَمَّا شِئْتَ. وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ ...
- وَأَمَّا كَلَامُهُ الْمُعْتَادُ، وَفَصَاحَتُهُ الْمَعْلُومَةُ، وَجَوَامِعُ كَلِمِهِ، وَحِكَمُهُ الْمَأْثُورَةُ، فَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهَا الدَّوَاوِينَ، وَجُمِعَتْ فِي أَلْفَاظِهَا، وَمَعَانِيهَا الْكُتُبُ.
وَمِنْهَا مَا لَا يُوَازَى فَصَاحَةً، وَلَا يُبَارَى بلاغة.
كقوله «5» : «المسلمون تتكافؤ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى من سواهم» .
__________
(1) رواه الحاكم وصححه البيهقي.
(2) عطية السعدي، منسوب إلى قبيلة بني سعد، وهو الذي قال: قدمنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئا فإن اليد المعطية. الخ..
(3) على ما ذكره أبو نعيم في دلائله.
(4) نسبة لقبيلة بني عامر، وفدوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعامري ههنا اسمه عطية، وقيل لقيط بن عامر بن المنتفق، توفي في حدود الثمانين.
(5) على ما رواه أبو داوود والنسائي.(1/173)
وقوله «1» : «الناس كأسنان المشط» ،
- «المرء مع من أحبّ» «2» ،
- «لا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ ما ترى له» «3» ،
- «والناس معادن» «4» ،
- «ما هلك امرؤ عرف قدره» «5» ،
- «المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم» «6» ،
- «رحم اللَّهُ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فسلم» «7» ،
وقوله: «أسلم تسلم.. أسلم يؤتك الله أجرك مرتين..» «8»
__________
(1) فيما رواه ابن لال في مكارم الأخلاق.
(2) رواه الشيخان.
(3) فيما رواه ابن عدي في كامله بسند ضعيف.. وأوله: «المرء على دين خليله ولا خير ... » .
(4) فيما رواه الشيخان وبقيته «.. كمعادن الذهب والفضه، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا..» .
(5) رواه السمعاني في تاريخه بسند فيه مجهول.
(6) الحديث رواه الأربعة والحاكم والترمذي أيضا في الشمائل في قضية أبي الهيثم، وفي بعض الروايات زيد فيه «وهو بالخيار إن شاء تكلم وإن شاء سكت، فإن تكلم فليجتهد رأيه» وأخرج الزياده أحمد.
(7) رواه أبو الشيخ في الثواب.. والديلمي.
(8) قوله: «أسلم تسلم» متفق عليه بين الشيخين، وبقية الحديث عند مسلم. وللبخاري في الجهاد.. «.. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» .(1/174)
- «إنّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجَالِسَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ.» «1»
وَقَوْلُهُ: «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَيَبْخَلُ بِمَا لَا يُغْنِيهِ» «2»
وَقَوْلُهُ: «ذُو الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «3»
وَنَهْيُهُ «4» عَنْ «قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتٍ، وَعُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ووأد البنات.»
وقوله: «إتق الله حيث كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بخلق حسن.» «5»
- «خير الأمور أوساطها.» «6»
وَقَوْلُهُ «7» : «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يكون بغيضك يوما ما» .
__________
(1) رواه الترمذي
(2) رواه البيهقي في شعبه، وأخرج نحوا من هذا الترمذي.
(3) رواه الشيخان، وأخرج أبو داوود: «ذو الوجهين في الدنيا ذو لسانين في النار» .
(4) فيما رواه الشيخان.
(5) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه.
(6) رواه ابن السمعاني في تاريخه.
(7) فيما رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والبخاري في الأدب المفرد.(1/175)
وَقَوْلِهِ «1» : «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَقَوْلُهُ «2» فِي بَعْضِ دُعَائِهِ «3» : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عندك، تهدي بها قلبي، تجمع بِهَا أَمْرِي، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي «4» ، وَتُصْلِحُ بِهَا غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ؛
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ عِنْدَ الْقَضَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ ... »
إِلَى مَا رَوَتْهُ الْكَافَّةُ «5» عَنِ الْكَافَّةِ، مِنْ مَقَامَاتِهِ، وَمُحَاضَرَاتِهِ، وَخُطَبِهِ، وَأَدْعِيَتِهِ، وَمُخَاطَبَاتِهِ وَعُهُودِهِ، مِمَّا لَا خِلَافَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ ذَلِكَ مَرْتَبَةً «6» لَا يُقَاسُ بِهَا غَيْرُهُ، وحاز فيها سبقا لا يقدر قدره؛
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) فيما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) لما فرغ من صلاة الجمعة.
(4) أي تلم برحمتك وتجمع ما تشعث وتفرق من أمري. قال الجوهري: الشعث: انتشار الأمر يقال: لم الله شعثك أي جمع أمرك.
(5) أي فيما رواه كثير من الناس لا يحصون، فكافة بمعنى جميعا، وأريد بهما الكثره إذ لم يروه جميع الناس، ولا جميع المحدثين، لكنه لما شاع وذاع، فكأنه كذلك.
(6) وفي نسخة (مرقبة) وهي بمعنى واحد.(1/176)
- وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْ كَلِمَاتِهِ، الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَلَا قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يُفْرِغَ فِي قالبه عليها.
كقوله «1» : «حمي الوطيس» ،
«مات حتف أنفه» »
،
«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» «3» ،
«السعيد من وعظ بغيره» «4» ،
وفي أخواتها ما يُدْرِكُ النَّاظِرُ الْعَجَبَ فِي مُضَمَّنِهَا، وَيَذْهَبُ بِهِ الفكر في أواني حِكَمِهَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ «5» : مَا رَأَيْنَا الذي هو أفصح منك..
__________
(1) أي: يوم حنين على ما رواه مسلم والبيهقي: وقد فسر الوطيس بضراب الحرب، وأراد المعنى المجازي.
(2) رواه البيهقي في شعب الايمان. ولفظه: «من مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله» ، والمعنى أن من مات من غير ضرب ولا قتل ولا حرق ولا غرق، والحتف هو الهلاك، وقيل كانت العرب تتوهم أن روح المريض تخرج من أنفه، وروح المجروح من جراحته، فكلمهم النبي صلّى الله عليه وسلم على قدر عقولهم، وقال عبد الله بن عتيك فو الله ما سمعت قوله: «حتف أنفه» من أحد من العرب قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى هذا عدها المصنف- رحمه الله- من كلامه الذي ابتدعه، وهو المشهور.
(3) كما رواه البخاري وغيره.
(4) رواه الديلمي.
(5) كما رواه البيهقي في شعب الايمان.(1/177)
فَقَالَ: «وَمَا يَمْنَعُنِي؟!! وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِي، لسان عربي مبين» .
وقال مرة أخرى «1» : «أنا أفصح العرب، بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ» .
فَجُمِعَ لَهُ بِذَلِكَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُوَّةُ عَارِضَةِ «2» الْبَادِيَةِ وَجَزَالَتُهَا «3» ، وَنَصَاعَةُ «4» أَلْفَاظِ الْحَاضِرَةِ وَرَوْنَقُ «5» كَلَامِهَا، إِلَى التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي مَدَدُهُ الْوَحْيُ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهِ بَشَرِيٌّ «6» .
وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ «7» فِي وَصْفِهَا لَهُ:
«حُلْوُ المنطق، فصل «8» ، لا نزر «9» ، ولا هذر «10»
__________
(1) كما رواه أصحاب الغرائب ولا يعرف له سند، وروى الطبراني «أنا أعرب العرب، ولدت في قريش، ونشأت في بني سعد، فأنى يأتيني اللحن؟!» .
(2) عارضة: حلاوة.
(3) الجزالة: ضد الركاكة.
(4) نصاعة: خلوص ألفاظها من الخلط.
(5) الرونق: الحسن ...
(6) بشري: أي منسوب للبشر.
(7) سبقت ترجمتها في ص «146» رقم «9» .
(8) فصل: مفصول مبين.
(9) نزر: يسير.
(10) هذر: كثير.(1/178)
كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتٌ «1» نُظِمْنَ. وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ «2» ، حسن النغمة.
صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الخرز: ما ينظم من الجواهر، وليس كما تفهمه العامة من تخصيصه بنوع من الخرز وهو المثقب.
(2) وكانت العرب تمتدح بعلو الصوت وتذم بضده، ولذا تمدحوا بسعة الفم وذموا بصغره والجهير: العالي الصوت فليس فيه خفاء ولا يكسر ككلام النساء.(1/179)
الْفَصْلُ السَّادِسُ شَرَفُ نَسَبِهِ وَكَرَمُ بَلَدِهِ وَمَنْشَئِهِ صلّى الله عليه وسلّم
وأما شرف نسبه، وكرم بلده، ومنشئه فمها لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَلَا بَيَانِ مُشْكِلٍ، وَلَا خَفِيٍّ مِنْهُ.
فَإِنَّهُ نُخْبَةُ بَنِي هَاشِمٍ، وَسُلَالَةُ قُرَيْشٍ وَصَمِيمُهَا، وَأَشْرَفُ الْعَرَبِ وَأَعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، مِنْ أَكْرَمِ بِلَادِ اللَّهِ عَلَى الله، وعلى عباده.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فقرنا، حتى كنت في القرن الذي كنت منه» «2» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(2) حديث صحيح انفرد البخاري بإخراجه.(1/180)
وَعَنِ الْعَبَّاسِ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «2»
«إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم ومن خَيْرِ قَرْنِهِمْ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْقَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ قَبِيلَةٍ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْبُيُوتَ، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ. فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا، وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا» .
وعن وائلة «3» بن الأصقع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ «4» : وَهَذَا حَدِيثٌ صحيح «5» .
__________
(1) العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي صلّى الله عليه وسلم، وولد قبله بسنتين وكان اليه في الجاهلية السقاية والعمارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها فافتدى نفسه وعاد الى مكة، هاجر قبل الفتح وشهده، وثبت في حنين توفي في المدينة سنة 32 هـ.
(2) كما رواه البيهقي في دلائل النبوة، والترمذي وحسنه.
(3) وهو أبو الأصقع الليثي، أسلم قبل تبوك وشهدها، وكان من أهل الصفة، خدم النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاث سنين، ومات سنة 83 هـ وعمره مائة وخمس سنين.
(4) هو أبو عيسى بن محمد بن عيسى الترمذي، ولد سنة 209 هـ، وهو أحد العلماء الحفاظ الأعلام، وله في الفقه يد صالحة. له تصانيف كثيرة في علم الحديث، وكتابه الصحيح من أحسن الكتب وأكثرها فائدة، عرضه على علماء الأقطار فرضوا به.. قال: ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم توفي ب «ترمذ» سنة 279 هـ..
(5) وقد أخرجه مسلم في صحيحه.(1/181)
وَفِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ «1» عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: رواه الطبراني «2» أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «3» : «إِنَّ الله عز وجل اخْتَارَ خَلْقَهُ، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي آدَمَ، فَاخْتَارَ مِنْهُمُ الْعَرَبَ، ثُمَّ اختار العرب، فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ فَاخْتَارَنِي مِنْهُمْ.
فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا مِنْ خِيَارٍ.
أَلَا مَنْ أَحَبَّ الْعَرَبِ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ.»
وَعَنِ ابْنِ «4» عَبَّاسٍ «5» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَتْ رُوحُهُ نُورًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِهِ، فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ.
__________
(1) عبد الله بن عمر بن الخطاب، بن نفيل القرشي العدوي، ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي، وهاجر وهو ابن عشر سنين، رده النبي صلّى الله عليه وسلم في بدر وأحد ثم أجازه بالخندق.. وعن السدي قال رأيت نفرا من الصحابة كانوا يرون أنه ليس أحد فيهم على الحالة التي فارق عليها النبي صلّى الله عليه وسلم ألا ابن عمر، ومات وهو مثل أبيه في الفضل. توفي سنة 73 هـ..
(2) هو محمد بن جرير أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف المشهورة، من أهل طبرستان كان كثير الطواف والعبادة، ولد سنة 224 هـ وتوفي سنة 310 هـ..
(3) في معجميه الكبير والأوسط.
(4) أعلام تقدمت ترجمتة في ص «52» رقم «6» .
(5) على ما رواه ابن أبي عمر والعدني في مسنده.(1/182)
فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَهْبَطَنِي اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ، وَقَذَفَ بِي فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُنِي مِنَ الْأَصْلَابِ الكريمة، والأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من أَبَوَيَّ ... لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ» .
وَيَشْهَدُ بصحة هَذَا الْخَبَرِ شِعْرُ الْعَبَّاسِ «1» ، الْمَشْهُورُ فِي مَدْحِ النبي صلّى الله عليه وسلم ...
***
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «1» .(1/183)
الفصل السّابع حالته صلّى الله عليه وسلّم في الضروريات
وَأَمَّا مَا تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ، مِمَّا فصلناه فعلى ثلاثة أضرب:
- ضَرْبُ الْفَضْلِ فِي قِلَّتِهِ.
- وَضَرْبُ الْفَضْلِ فِي كثرته.
- وضرب تختلف الأحوال فيه ...
أ- فَأَمَّا مَا التَّمَدُّحُ وَالْكَمَالُ بِقِلَّتِهِ، اتِّفَاقًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، عَادَةً وَشَرِيعَةً، كَالْغِذَاءِ، وَالنَّوْمِ ...
وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ وَالْحُكَمَاءُ تَتَمَادَحُ بِقِلَّتِهِمَا، وَتَذُمُّ بِكَثْرَتِهِمَا لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهَمِ وَالْحِرْصِ. وَالشَّرَهِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ مُسَبِّبٌ لِمَضَارِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، جَالِبٌ لِأَدْوَاءِ الْجَسَدِ،(1/184)
وَخَثَارَةِ «1» النَّفْسِ، وَامْتِلَاءِ الدِّمَاغِ. وَقِلَّتُهُ، دَلِيلٌ عَلَى الْقَنَاعَةِ وَمِلْكُ النَّفْسِ.
وَقَمْعُ الشَّهْوَةِ مُسَبِّبٌ لِلصِّحَّةِ، وَصَفَاءِ الْخَاطِرِ، وَحِدَّةِ الذِّهْنِ.
كَمَا أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ «2» وَالضَّعْفِ، وَعَدَمِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ مُسَبِّبٌ لِلْكَسَلِ، وَعَادَةِ الْعَجْزِ، وَتَضْيِيعِ الْعُمْرِ فِي غَيْرِ نَفْعٍ، وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ، وَغَفْلَتِهِ وَمَوْتِهِ.
وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا: مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَيُوجَدُ مُشَاهَدَةً، وَيُنْقَلُ مُتَوَاتِرًا، مِنْ كَلَامِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، والحكماء السالفين، وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَخْبَارِهَا وَصَحِيحِ الْحَدِيثِ، وَآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَخَلَفَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِشْهَادِ عليه، وإنما تركنا ذكره هنا. اخْتِصَارًا، وَاقْتِصَارًا عَلَى اشْتِهَارِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ مِنْ هَذَيْنِ الْفَنَّيْنِ بِالْأَقَلِّ ... هَذَا مَا لَا يُدْفَعُ مِنْ سِيرَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا بِارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.
__________
(1) خثارة النفس: ثقلها وعدم نشاطها.
(2) الفسولة: كل مسترذل رديء وكسل النفس.(1/185)
عن المقدام بن «1» معدي كرب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ»
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ. حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» .
وَلِأَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ «3» : بِقِلَّةِ الطَّعَامِ يُمْلَكُ سَهَرُ اللَّيْلِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا.
وَقَدْ رُوِيَ «4» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: «كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى ضفف» أي كثرة الأيدي.
__________
(1) المقدام بن معدي كرب الكندي، صحابي، نزل حمص، وأخرج له أصحاب السنن، وأحمد توفي سنة 87 هـ.
(2) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان، وأخرجه المصنف- رحمه الله تعالى- عن الطبراني، ولم يروه عن الترمذي لأن سنده لمعجم الطبراني أعلى من غيره. والحديث صحيح.
(3) سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله. الكوفي عالم عصره الزاهد المحدث أخرج له الأئمة الستة توفي سنة 161 هـ.
(4) ورواه جمع كأبي يعلى وغيره عن أنس وجابر رضي الله عنهما بسند جيد.(1/186)
وعن عائشة «1» رضي الله عنها: لم «2» يمتليء جَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِبَعًا قَطُّ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا وَلَا يَتَشَهَّاهُ، إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ، وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ، وَمَا سَقَوْهُ شَرِبَ ...
- وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ «3» وَقَوْلِهِ «4» :
«أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ «5» فِيهَا لَحْمٌ» .
- إِذْ لَعَلَّ سَبَبَ سُؤَالِهِ ظَنُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ، فَأَرَادَ بَيَانَ سُنَّتِهِ، إِذْ رَآهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوهُ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْهِ بِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّهُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ:
«هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» .
وَفِي حِكْمَةِ لقمان «6» عليه السلام: يا بني إذا امتلأت المعدة
__________
(1) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(2) قال الدلجي: لم أعرف من رواه. ويوجد شبهه في الجملة في حديث مسلم.
(3) بريرة بنت صفوان، مولاة عائشة واختلف في أنها قبطية أو حبشية، وهي التي كان يجلس إليها عبد الملك بن مروان فتقول: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر فإن وليته فاحذر الدماء ... الخ ...
(4) فيما رواه الشيخان.
(5) البرمة: القدر.
(6) لقمان بن عنقاء، قيل: إنه ابن أخت داود وعنه أخذ الحكمة، اختلف في أنه نبي أو ولي. والأكثرون على أنه ولي لحديث روي عن ابن عمر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لم يكن لقمان نبيا، ولكن كان عبدا كثير التفكير، حسن اليقين أحب الله تعالى فأحبه، فمن عليه بالحكمة.. الحديث.. قيل: إنه عاش ألف سنة..(1/187)
نَامَتِ الْفِكْرَةُ، وَخَرِسَتِ الْحِكْمَةُ، وَقَعَدَتِ الْأَعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ سَحْنُونُ «1» : لَا يَصْلُحُ الْعِلْمُ لِمَنْ يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ.
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ «2» قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا»
«وَالِاتِّكَاءُ» : هُوَ التَّمَكُّنُ لِلْأَكْلِ، وَالتَّقَعْدُدُ «3» فِي الْجُلُوسِ لَهُ كَالْمُتَرَبِّعِ، وَشِبْهِهِ مِنْ تَمَكُّنِ الْجَلْسَاتِ، الَّتِي يَعْتَمِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مَا تَحْتَهُ ... وَالْجَالِسُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَسْتَدْعِي الْأَكْلَ وَيَسْتَكْثِرُ مِنْهُ.
- وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ جُلُوسُهُ لِلْأَكْلِ جُلُوسَ الْمُسْتَوْفِزِ مُقْعِيًا «4» وَيَقُولُ «5» : «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» .
وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي الِاتِّكَاءِ الْمَيْلُ عَلَى شِقٍّ عِنْدَ المحققين.
__________
(1) هو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي، الفقيه المالكي، قاضي إفريقية، أدرك مالكا ولم يأخذ عنه، وألف المدونة في فقه مالك، وحصل له ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك توفي سنة 240.
(2) كما رواه البخاري.
(3) والتقعدد تفعلل من القعود ومعناه التثبت والتمكن من القعود.
(4) حديث «إنه كان يأكل مقعيا» أخرجه مسلم.
(5) كما رواه البزار عن ابن عمر بسند ضعيف. وأبو بكر الشافعي في فوائده من حديث البزار إلى قوله كما يأكل العبد. وبقية الحديث من رواية ابن سعد وأبو يعلى بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا. وزاد الديلمي وابن أبي شيبة وابن عدي، «وأشرب كما يشرب العبد» .(1/188)
- وَكَذَلِكَ نَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَلِيلًا. شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ.
وَمَعَ ذَلِكَ فقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» «1» .
- وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ اسْتِظْهَارًا عَلَى قِلَّةِ النَّوْمِ، لِأَنَّهُ على الجانب الأيسر أهنأ لهدوء القلب، وما يتعلق به من الأعضاء الباطنة حِينَئِذٍ لِمَيْلِهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، فَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ الِاسْتِثْقَالَ فِيهِ وَالطُّولَ. وَإِذَا نَامَ النَّائِمُ عَلَى الْأَيْمَنِ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ وَقَلِقَ، فَأَسْرَعَ الْإِفَاقَةَ، وَلَمْ يغمره الاستغراق.
__________
(1) كما رواه الشيخان.(1/189)
الفصل الثامن زواجه صلّى الله عليه وسلّم وما يتعلّق به
أَمَّا النِّكَاحُ. فَمُتَّفَقٌ فِيهِ شَرْعًا وَعَادَةً. فَإِنَّهُ دَلِيلُ الْكَمَالِ وَصِحَّةِ الذُّكُورِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلِ التَّفَاخُرُ بِكَثْرَتِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالتَّمَادُحُ بِهِ سِيرَةٌ مَاضِيَةٌ.
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَسُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ.
وَقَدْ قَالَ ابن «1» عباس «2» رضي الله عنهما: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء ...
مشيرا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا، فَإِنِّي مباه بكم
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(2) كما رواه البخاري.
(3) كما ذكر ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر مرفوعا بسند ضعيف وذكر مثله الطبراني في الأوسط.(1/190)
الأمم «1» ، وَنَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ «2» . مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَمْعِ الشَّهْوَةِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ، اللَّذَيْنِ نَبَّهَ عَلَيْهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بِقَوْلِهِ «3» : «مَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» .
- حَتَّى لَمْ يَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي الزُّهْدِ.
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «4» : قَدْ حُبِّبْنَ إِلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَكَيْفَ يُزْهَدُ فيهن؟!!
ولابن عيينه «5» نحوه ...
وَقَدْ كَانَ زُهَّادُ الصَّحَابَةِ «6» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كثيري الزوجات والسراري، كثيري النكاح.
__________
(1) وفي نسخة زيادة (يوم القيامة) .
(2) كما رواه الشيخان.
(3) كما رواه الطبراني، وأخرجه الشيخان بلفظ: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... » .
(4) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «6» .
(5) هو سفيان بن عينية بن عمران الكوفي، أحد الأئمة الأعلام الامام الحافظ الذي أخرج أصحاب الكتب الستة، وهو من تابعي التابعين، أدرك منهم ستة وثمانين وكان يسكن مكة.. ولد سنة 107 وتوفي سنة 198 هـ.
(6) كعلي وابنه الحسن وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.(1/191)
وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ «1» ، وَالْحَسَنِ «2» ، وَابْنِ عُمَرَ «3» ، وَغَيْرِهِمْ غَيْرُ شَيْءٍ ...
وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَزَبًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ النِّكَاحُ، وَكَثْرَتُهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَهَذَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا «4» - عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ أَثْنَى الله تعالى عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ عَمَّا تَعُدُّهُ فَضِيلَةً!!!.
- وَهَذَا عِيسَى «5» بن مَرْيَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَبَتَّلَ مِنَ النِّسَاءِ ... وَلَوْ كان كما قررته لنكح ...
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(2) هو أبو محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب، سط رسول الله صلّى الله عليه وسلم وريحانته، أمير المؤمنين ولد سنة 3 من الهجرة.. وفي الحديث: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» وفي الحديث أيضا: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» توفي في المدينة سنة 50 هـ ودفن بالبقيع.
(3) ابن عمر: تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(4) يحيى بن زكريا: نبي الله عليه الصلاة والسلام، وهو ابن خالة عيسى وأكبر منه وكان عمره مائة وعشرون سنة. أما سيدنا زكريا عليه الصلاة والسلام فنبي أيضا وهو من ذرية سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام، وكان آخر من بعث من بني إسرائيل قبل عيسى عليه الصلاة والسلام وقد قتله بنو إسرائيل كما قتلوا ولده سيدنا يحيى عليهما أفضل الصلاة والسلام.
(5) عيسى بن مريم: آخر الأنبياء قبل سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، أرسل إلى بني إسرائيل. فجحدوا ومكروا، وكان من معجزاته إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.. ولما أراد بنو إسرائيل قتله رفعه الله تبارك وتعالى إليه «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» .(1/192)
فَاعْلَمْ: أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى، بِأَنَّهُ حَصُورٌ، لَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ هَيُوبًا «1» ، أَوْ لَا ذَكَرَ لَهُ ... بَلْ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا حُذَّاقُ «2» الْمُفَسِّرِينَ وَنُقَّادُ الْعُلَمَاءِ، وقالوا:
هذه نقيصة وعيب، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام.
- وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ، أَيْ لَا يَأْتِيهَا. كَأَنَّهُ حُصِرَ عَنْهَا.
وَقِيلَ: مَانِعًا نفسه من الشهوات.
وقيل: ليست له شهوة في النساء.
- فقد بان لك مِنْ هَذَا، أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ نَقْصُ.
- وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةٌ ثُمَّ قَمْعُهَا، إِمَّا بِمُجَاهَدَةٍ كَعِيسَى «3»
عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ بِكِفَايَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَيَحْيَى»
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فضيلة زائدة لكونها مشغلة فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، حَاطَّةٌ إِلَى الدُّنْيَا.
__________
(1) هيوبا: المراد هنا جبانا عن النكاح.
(2) حذاق: ج حاذق وهو الماهر.
(3) تقدمت ترجمته قبل قليل.
(4) تقدمت ترجمته أيضا قبل قليل.(1/193)
- ثُمَّ هِيَ فِي حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْهَا وَمَلَكَهَا، وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِيهَا وَلَمْ تَشْغَلْهُ عَنْ رَبِّهِ دَرَجَةً عَلْيَاءَ، وَهِيَ دَرَجَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عِبَادَةً لِتَحْصِينِهِنَّ، وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِنَّ، وَاكْتِسَابِهِ لَهُنَّ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُنَّ.
- بَلْ صَرَّحَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَاهُ هُوَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَا غَيْرِهِ.
فقال عليه الصلاة والسلام: «حبّب إليّ من دنياكم «1» » .
فدلّ أَنَّ حُبَّهُ لِمَا ذَكَرَ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ، اللذين هما من أمر دُنْيَا غَيْرِهِ، وَاسْتِعْمَالِهِ لِذَلِكَ لَيْسَ لِدُنْيَاهُ، بَلْ لِآخِرَتِهِ، لِلْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي التَّزْوِيجِ، وَلِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي الطِّيبِ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِمَّا يَحُضُّ عَلَى الْجِمَاعِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ، وَيُحَرِّكُ أَسْبَابَهُ.
- وَكَانَ حُبُّهُ لِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَقِمْعِ شَهْوَتِهِ. وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدة جَبَرُوتَ مَوْلَاهُ، وَمُنَاجَاتِهِ.
وَلِذَلِكَ مَيَّزَ بَيْنَ الْحُبَّيْنِ، وفصل بين الحالين.
__________
(1) كما رواه الحاكم والنسائي وبقيته: «النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة» . وليس زيادة «ثلاث» في صحيح الروايات.(1/194)
فَقَالَ: وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» .
- فَقَدْ سَاوَى يَحْيَى «1» وَعِيسَى «2» فِي كِفَايَةِ فِتْنَتِهِنَّ، وَزَادَ فَضِيلَةً بِالْقِيَامِ بِهِنَّ.
- وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُقْدِرَ عَلَى الْقُوَّةِ فِي هَذَا، وَأُعْطِيَ الْكَثِيرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا أُبِيحُ لَهُ مِنْ عَدَدِ الْحَرَائِرِ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ روينا «3» عن أنس «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ «5» .
قَالَ أَنَسٌ «6» : وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ رجلا.
أخرجه النسائي «7»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(3) كما في البخاري والنسائي.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) وهن إحدى عشرة.. كذا في البخاري من حديث أنس رضي الله عنه. وقال ابن خزيمة: لم يقل أحد من أصحاب قتادة بأنهن إحدى عشرة إلا معاذ بن هشام عن أبيه. وعن أنس رواية أخرى في البخاري أنهن تسع ويجمع بينهما..
(6) أخرجه النسائي، وهو هكذا في صحيح البخاري.
(7) هو أبو عبد الرّحمن أحمد بن شعيب النسائي، ولد سنة 225. أخذ من الأئمة الحفاظ العلماء، مقدما على كل من يذكر بهذا العلم في زمانة وكان شافعي المذهب، له مناسك ألفها على مذهب الشافعي وكان ورعا متحريا توفي في مكة سنة 303 ودفن بها.(1/195)
وروي «1» نحوه، عن أبي رافع «2» .
وعن طاووس «3» : «أعطي عليه الصلاة والسلام قوة أربعين رجلا في الجماع» «4» .
وعن صفوان «5» بن سليم مثله.
وَقَالَتْ سَلْمَى «6» مَوْلَاتُهُ: طَافَ «7» النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً عَلَى نِسَائِهِ التِّسْعِ، وَتَطَهَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْأُخْرَى وَقَالَ:
«هَذَا أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ» .
وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ «8» عليه السلام: «لأطوفن «9» الليلة على مئة إمرأة،
__________
(1) في سنن أبي داوود والبيهقي والنسائي ولفظه: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه في يوم أو ليلة واحدة وكان يغتسل عند هذه وهذه..»
(2) أبو رافع مولى النبي صلّى الله عليه وسلم، واسمه ابراهيم وقيل أسلم وقيل ثابت.
(3) هو الإمام عبد الرّحمن بن كيسان اليماني لقب بطاووس لأنه كان طاووس القراء، وهو من أبناء الفرس، أخرج له أصحاب السنن وغيرهم توفي بمكة 106 هـ.
(4) تقدم من رواه ...
(5) صفوان بن سليم: بالتصغير: إمام عابد تابعي، روى عنه أصحاب السنن توفي 132 هـ.
(6) سلمى: بفتح السين. خادمة النبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل مولاة صفية عمته صلى الله عليه وسلم، وهي زوج أبي رافع مولدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها.. وهي التي أخبرت سيدنا حمزة بأن أبا جهل سب النبي صلّى الله عليه وسلم، فغضب وذهب اليه فشجه وكان ذلك سبب إسلامه.
(7) هذا حديث صحيح رواه أبو داوود كما قاله السيوطي....
(8) هو سليمان بن داوود، نبي من أنبياء الله تعالى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن معجزاته بساط الريح وتسخير الجن وكثير من الخلق له، عليه الصلاة والسلام.
(9) على ما رواه الشيخان.(1/196)
أو تسع وتسعين «1» » وإنه فعل ذلك.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ «2» : كَانَ «3» فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مئة رجل، وكان له ثلثمائة امرأة، وثلثمائة سرية.
وحكى النقاش «4» وغيره: سبع «5» مئة إمرأة، وثلاث مئة سرية.
- وقد كان لداوود «6» عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى زُهْدِهِ وَأَكْلِهِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَتَمَّتْ بِزَوْجِ أُورِيَّاءَ مئة «7» .
- وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
«إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتسعون نعجة» «8» .
__________
(1) على الشك من الراوي. وفي رواية على ستين وفي أخرى على تسعين ولمسلم على سبعين امرأة ...
(2) مرت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(3) كما رواه ابن جرير في تفسيره عنه موقوفا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «90» رقم «1» .
(5) كذا رواه الحاكم عن محمد بن كعب.
(6) داوود عليه الصلاة والسلام نبي من الأنبياء، وهو قاتل جالوت كما ورد في سورة البقرة «وقتل داوود جالوت» ومن معجزاته أن ألان الله له الحديد.
(7) في المستدرك للحاكم في ترجمة عيسى ابن مريم.
(8) سورة ص رقم «23» .(1/197)
وفي حديث أنس «1» : عنه عليه الصلاة والسلام «2» : «فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ: بِالسَّخَاءِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَقُوَّةِ الْبَطْشِ» .
- وَأَمَّا الْجَاهُ فَمَحْمُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ عَادَةً، وَبِقَدْرِ جَاهِهِ عِظَمُهُ فِي الْقُلُوبِ.
وقد قال تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى «3» عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ «4» » .
لَكِنَّ آفَاتِهِ كَثِيرَةٌ، فَهُوَ مُضِرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ لِعُقْبَى الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ ذَمَّهُ مَنْ ذَمَّهُ، وَمَدَحَ ضِدَّهُ.
- وَوَرَدَ فِي الشَّرْعِ «5» مَدْحُ الْخُمُولِ «6» ، وَذَمُّ العلو»
في الأرض.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(2) بسند جيد للطبراني في الأوسط.
(3) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(4) سورة آل عمران رقم «45» .
(5) كحديث: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» . وحديث: «إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا» .
(6) المقصود بالخمول كراهية الظهور.
(7) كما ورد في الحديث: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حب المال والجاه لدين المؤمن» . وفي رواية: «من حب الشرف والمال» .(1/198)
- وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رُزِقَ مِنَ الْحِشْمَةِ، وَالْمَكَانَةِ فِي الْقُلُوبِ، وَالْعَظْمَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْدَهَا، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ، وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَهُ، وَيَقْصِدُونَ أَذَاهُ فِي نَفْسِهِ خِفْيَةً، حَتَّى إِذَا وَاجَهَهُمْ أَعَظَمُوا أَمْرَهُ، وَقَضَوْا حَاجَتَهُ. وَأَخْبَارُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ سَيَأْتِي بَعْضُهَا. وَقَدْ كَانَ يَبْهَتُ وَيَفْرَقُ لِرُؤْيَتِهِ مَنْ لَمْ يَرَهُ.
كَمَا روي عن قبيلة «1» : أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ أَرْعَدَتْ مِنَ الْفَرَقِ «2» ، فَقَالَ: «يَا مِسْكِينَةُ عَلَيْكِ السَّكِينَةُ» «3» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مسعود «4» رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرْعَدَ. فَقَالَ له: هوّن عليك فإنّي لست بملك ... » «5»
الحديث «6» .
__________
(1) وهي فيلة بنت محزمة العنبرية.
(2) وحديثها مذكور في شمائل الترمذي وفي سنن أبي داوود، وأخرجه ابن سعد بتمامه كما قاله السيوطي.
(3) وهذه زيادة ابن سعد.
(4) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي الصحابي البدري كما في البخاري، خلافا لابنه عبد البر وغيره إذ قالوا إنه ليس ببدري، وإنما شهد العقبة الثانية، وسكن بدرا مات سنة 40 هـ.
(5) كما رواه البيهقي عن قيس مرسلا، وقال: هو المحفوظ. ورواه الحاكم وصححه.
(6) ولم يذكره كله لطوله.(1/199)
- فأما عظيم قَدْرِهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَشَرِيفُ مَنْزِلَتِهِ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنَافَةُ «1» رُتْبَتِهِ بِالِاصْطِفَاءِ وَالْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا، فَأَمْرٌ هُوَ مَبْلَغُ النِّهَايَةِ. ثُمَّ هُوَ فِي الْآخِرَةِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ «2» . وَعَلَى مَعْنَى هَذَا الْفَصْلِ نَظَمْنَا هَذَا القسم بأسره.
__________
(1) أي رفعة رتبته وزبادتها أو ظهورها.
(2) كما في حديث البخاري.(1/200)
الْفَصْلُ التَّاسِعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَالْمَتَاعِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ، فَهُوَ مَا تَخْتَلِفُ الْحَالَاتُ فِي التَّمَدُّحِ بِهِ، وَالتَّفَاخُرِ بِسَبَبِهِ، وَالتَّفْضِيلِ لِأَجْلِهِ، كَكَثْرَةِ الْمَالِ.
- فَصَاحِبُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ مُعَظَّمٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ لِاعْتِقَادِهَا تَوَصُّلَهُ بِهِ إِلَى حَاجَاتِهِ، وَتَمَكُّنِ أَغْرَاضِهِ بِسَبَبِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهِ.
- فَمَتَى كَانَ الْمَالُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَصَاحِبُهُ مُنْفِقًا لَهُ في مهماته، ومهمات مَنِ اعْتَرَاهُ وَأَمَّلَهُ، وَتَصْرِيفِهِ فِي مَوَاضِعِهِ، مُشْتَرِيًا به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة من الْقُلُوبِ، كَانَ فَضِيلَةً فِي صَاحِبِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا.
- وَإِذَا صَرَفَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَأَنْفَقَهُ في سبل الْخَيْرِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ فَضِيلَةً عِنْدَ الْكُلِّ بِكُلِّ حَالٍ.(1/201)
- وَمَتَى كَانَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ، غَيْرَ مُوَجِّهِهِ وجوهه، حريصا على جمعه، عادت كثرته كَالْعَدَمِ وَكَانَ مَنْقَصَةً فِي صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَقِفْ بِهِ عَلَى جُدَدِ «1» السَّلَامَةِ، بَلْ أَوْقَعَهُ فِي هُوَّةِ «2» رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَمَذَمَّةِ النَّذَالَةِ.
- فَإِذَا التَّمَدُّحُ بِالْمَالِ وَفَضِيلَتُهُ عِنْدَ مُفَضِّلِهِ لَيْسَتْ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هو للتوصل به إلى غيره، وتعريفه فِي مُتَصَرَّفَاتِهِ ...
- فَجَامِعُهُ إِذَا لَمْ يَضَعْهُ مَوَاضِعَهُ، وَلَا وَجَّهَهُ وُجُوهَهُ غَيْرَ مَلِيءٍ «3» بِالْحَقِيقَةِ، وَلَا غَنِيٍّ بِالْمَعْنَى وَلَا مُمْتَدَحٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ العقلاء، بل هو فقير أبدا، وغير وَاصِلٍ إِلَى غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ، إِذْ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ الْمُوصِلِ لَهَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ خَازِنَ مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا مَالَ له، فكأنه لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
- وَالْمُنْفِقُ مَلِيءٌ غَنِيٌّ بِتَحْصِيلِهِ فَوَائِدَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ.
- فَانْظُرْ سِيرَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلُقَهُ فِي المال، تجده قد أوتي خزائن
__________
(1) جدد السلامة: طرائق السلامة.
(2) هوة: أي هاوية وهي ما بين الجبلين.
(3) مليء: ثقة مضطلع.(1/202)
الْأَرْضِ، وَمَفَاتِيحَ الْبِلَادِ، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَادُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَجَمِيعُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا دَانَى ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَجُلِبَتْ إِلَيْهِ مِنْ أَخْمَاسِهَا، وَجِزْيَتِهَا، وَصَدَقَاتِهَا مَا لَا يُجْبَى لِلْمُلُوكِ إِلَّا بَعْضُهُ، وَهَادَتْهُ «1» جَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الْأَقَالِيمِ، فَمَا اسْتَأْثَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا أَمْسَكَ مِنْهُ دِرْهَمًا، بَلْ صَرَفَهُ مَصَارِفَهُ وَأَغْنَى بِهِ غَيْرَهُ، وَقَوَّى بِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ «2» : «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلا دينار أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ «3» » وَأَتَتْهُ دَنَانِيرُ مَرَّةً فَقَسَّمَهَا، وَبَقِيَتْ منها سِتَّةٌ، فَدَفَعَهَا لِبَعْضِ نِسَائِهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ نَوْمٌ حَتَّى قَامَ وَقَسَّمَهَا، وَقَالَ: «الْآنَ اسْتَرَحْتُ «4» » وَمَاتَ، ودرعه مرهونة في نفقة عياله «5» .
__________
(1) هادته: أرسلت له الهدايا.
(2) كما رواه الشيخان عنه.
(3) وفي نسخة (لديني) .
(4) رواه ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها.
(5) أي عند يهودي هو أبو الشحم في نفقة عياله، أي إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير على ما في البخاري والترمذي والنسائي.. وفي البزار أربعين. وفي مصنف عبد الرزاق وسق شعير وهو ستون صاعا ...(1/203)
واقتصر من ملبسه ومسكنه، على ما تدعوه ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سِوَاهُ، فَكَانَ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ. فَيَلْبَسُ فِي الْغَالِبِ الشَّمْلَةَ «1» وَالْكِسَاءَ الْخَشِنَ، وَالْبُرْدَ الْغَلِيظَ، وَيَقْسِمُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَقْبِيَةَ الدِّيبَاجِ «2» الْمُخَوَّصَةِ «3» بِالذَّهَبِ، وَيَرْفَعُ لِمَنْ لَمْ يحضر.
- إِذِ الْمُبَاهَاةُ فِي الْمَلَابِسِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا، لَيْسَتْ مِنْ خِصَالِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ النِّسَاءِ.
- وَالْمَحْمُودُ مِنْهَا نَقَاوَةُ الثَّوْبِ، وَالتَّوَسُّطُ فِي جِنْسِهِ، وَكَوْنُهُ لُبْسَ مِثْلِهِ، غَيْرَ مُسْقِطٍ لِمُرُوءَةِ جِنْسِهِ، مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ.
- وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَغَايَةُ الْفَخْرِ فِيهِ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى الْفَخْرِ بِكَثْرَةِ الْمَوْجُودِ، وَوُفُورِ الْحَالِ.
- وَكَذَلِكَ التَّبَاهِي بِجَوْدَةِ الْمَسْكَنِ، وَسِعَةِ الْمَنْزِلِ، وَتَكْثِيرِ آلَاتِهِ، وخدمه، ومركوباته، ومن ملك الأرض، وجي إليه ما فيها، وترك ذلك زهدا وتنزها، فهو حائز لفضيلة المالية،
__________
(1) الشملة: كساء يشتمل به بأن يديره على جسده كله لا يخرج منه يده.
(2) بكسر الدال فارسي معرب جمعه ديابيج وهو الثوب المزين.
(3) المخوصة: المنسوجة.(1/204)
وَمَالِكٌ لِلْفَخْرِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ- إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةً- زائد عليها في الفخر ومعرق فِي الْمَدْحِ بِإِضْرَابِهِ عَنْهَا، وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا وَبَذْلِهَا فِي مَظَانِّهَا ...(1/205)
الْفَصْلُ الْعَاشِرُ الْأَخْلَاقُ الْحَمِيدَةُ
وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْآدَابِ الشَّرِيفَةِ، الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا، وَتَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِ بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ، وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَمَرَ بِهَا، وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلِّقِ بِهَا، وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ. وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ.
- وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ، وَأَوْصَافِهَا وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا، دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا.
- فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا، وَالِاعْتِدَالِ إِلَى غَايَتِهَا، حتى أثنى الله عليه بذلك.(1/206)
فقال تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1» .
قالت عائشة «2» رضي الله عنها: «كان «3» خلقه الْقُرْآنَ، يَرْضَى بِرِضَاهُ، وَيَسْخَطُ بِسُخْطِهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» : «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» .
قَالَ «5» أَنَسٌ «6» : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا» .
وَعَنْ عَلِيِّ «7» بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ «8» .
وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مَجْبُولًا عَلَيْهَا فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، لَمْ تَحْصُلْ لَهُ بِاكْتِسَابٍ وَلَا رِيَاضَةٍ، إِلَّا بِجُودٍ إِلَهِيٍّ، وَخُصُوصِيَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ، وَهَكَذَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ حَقَّقَ ذَلِكَ كَمَا عرف من
__________
(1) سورة القلم رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(3) وقد سألها سعيد بن هشام. وهذا الحديث رواه بتمامه البيهقي في دلائل النبوة.
(4) على ما رواه أحمد والبزار. ورواه مالك في الموطأ بلفظ يختلف قليلا وكذلك البغوي في شرح السنة.
(5) على ما رواه الشيخان.
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(8) كما رواه أبو عبيد في الغر؟؟؟.(1/207)
حَالِ عِيسَى «1» ، وَمُوسَى «2» ، وَيَحْيَى «3» ، وَسُلَيْمَانَ «4» ، وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بَلْ غُرِزَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَأُودِعُوا الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ فِي الْفِطْرَةِ.
قَالَ الله تعالى: «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» » .
قال المفسرون: أعطى الله يحيى «6» عليه السلام الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ صِبَاهُ.
وقال معمر «7» : كان ابْنَ سَنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ «8» ، فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ لم لا تلعب؟! فقال: أللعب خلقت؟!
وقيل في قوله تعالى: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «9» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(2) رسول الله إلى بني اسرائيل ذكر في كتاب الله تعالى في مواضع عديدة وخاصة ما جرى له مع فرعون.
(3) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «4» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «196» رقم «8» .
(5) سورة مريم رقم «12» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «4» .
(7) معمر بن راشد أبو عروة لأزوي المهلبي مولاهم، عالم اليمن، روى عن الزهري وغيره عنه وروى عنه كثير وأخرج له الأئمة الستة، له ترجمة في الميزان وتوفي سنة 153 هـ باليمن.
(8) على ما رواه عنه أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم في تفسيره، والديلمي عن معاذ ولم يسنده، والحاكم في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بسندواه.
(9) سورة آل عمران «3» .(1/208)
صدّق يحيى «1» بعيسى «2» ، ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَرُوحُهُ.
وَقِيلَ «3» : صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى «4» تَقُولُ لِمَرْيَمَ «5» : إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ تَحِيَّةً لَهُ.
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى «6» لِأُمِّهِ، عِنْدَ وِلَادَتِهَا.
إِيَّاهُ، بقوله لها: «لا تحزني» «7» عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «8» «مِنْ تَحْتِهَا» «9» ، وَعَلَى قول من قال «10» : إنّ المنادي عيسى «11» عليه السلام.
وَنَصَّ عَلَى كَلَامِهِ فِي مَهْدِهِ، فَقَالَ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» «12» .
وقال تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً «13» » .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(3) كما في تفسير محمد بن جرير الطبري.
(4) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «4» .
(5) مريم: امرأة صالحة من بني اسرائيل، أم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام عبدها النصارى وولدها من دون الله لغرابة ولادته من دون أب، وما دروا أن آدم عليه السلام أشد غرابة في ذلك ولفتا للنظر ومع ذلك فإنه لم يعبد من دون الله.
(6) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(7) سورة مريم «24» .
(8) كما قرأ به ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر.
(9) سورة مريم «24» .
(10) كأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد.
(11) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(12) سورة مريم «30» .
(13) سورة الأنبياء «79» .(1/209)
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ فِي قَضِيَّةِ الْمَرْجُومَةِ «1» ، وَفِي قِصَّةِ الصَّبِيِّ «2» ما اقتدى به داوود «3» أبوه.
وقال الطبري «4» : إن عمره حين أوتي الملك إثني عشر عاما.
__________
(1) التي كان يراد رجمها. وهي ما رواه ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما. والقصة كما حكاها التلمساني هي أن امرأة كانت بارعة الجمال وهي من أهل الدين رفعت قضية إلى أحد قضاة بني اسرائيل، فلما رآها افتتن بها. وراودها عن نفسها، فامتنعت ثم ذهبت لثان وثالث ورابع فكل راودها عن نفسها، فأتت لنبي الله داوود عليه الصلاة والسلام فحجبت عنه فأجمع الأربعة أن يقولوا لداوود: إن لها كلبا تمكنه من نفسها، ويزني بها، ففعلوا فأمر برجمها فرجمت فبينما داوود عليه الصلاة والسلام يوما في علية له مشرفا على صبيان يلعبون مع سليمان وفيهم صبي جميل فجعلوا سليمان قاضيا والصبي كامرأة زانية وأربعة منهم قضاة وفعلوا مثل تلك القصة بعينها، المراودة والتهمة كما في قصة المرجومة فعرفهم سليمان وقال لأحدهم ما لونه، فذكر لونا ودعا كلا بانفراده فذكر كل لونا مخالفا للآخر، فأمر الصبيان فضربوهم، فقال داوود لعل القضية هكذا فبعث للقضاة وسألهم عن لون الكلب على انفراد فأمر بهم فقتلوا» . والمراد بالمرجومة التي أريد رجمها لأن داوود هم برجمها ثم درأ عنها الحد وقال التيجاني: الله أعلم بصحته وقد ورد في الاسرائيليات على غير رواية ابن عساكر.
(2) وهذه القضية رواها الشيخان عن أبي هريرة والقصة هي أنه «بينما امرأتان معهما ابنان لهما وأخذ ذئب أحدهما فتحا كما إلى داوود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى فدعاهما سليمان عليه الصلاة والسلام فقال: هاتوا سكينا أشقه بينهما فقالت الصغرى: رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به لها لشفقتها عليه وأرضى الأخرى ليتشار كافي المصيبة» وقال التيجاني: وهذا مما لا شبهة في صحته.
(3) مرت ترجمته في ص «197» رقم «6» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «2» .(1/210)
- وَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُوسَى «1» مَعَ فِرْعَوْنَ «2» ، وَأَخْذِهِ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ طِفْلٌ.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ» «3» : أي هديناه صغيرا.
قال مُجَاهِدٌ «4» ، وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «5» : اصْطَفَاهُ قَبْلَ خَلْقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ «6» : لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ «7» عَلَيْهِ الصلاة والسلام بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا، يَأْمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ. فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَفْعَلُ، فَذَلِكَ رُشْدُهُ.
__________
(1) موسى: نبي من أنبياء الله تعالى من بني اسرائيل أرسله الى فرعون وقومه بآيات بينات ومعجزات ذكرها القرآن الكريم مفصلة في مواطن عديدة.
(2) فرعون: لقب لكل ملك من ملوك القبط فإن أطلق فهو فرعون موسى لشهرته ولكثرة وروده في القرآن الكريم بهذا الاسم. واسمه كما يذكر المؤرخون وصعب بن الوليد بن ريان وكان من القبط العمالقة عمر أكثر من أربعمائة سنة والله تعالى أعلم.
(3) سورة الأنبياء (51) .
(4) تقدمت ترجمته في ص «70» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «6» .
(6) كالكواشي وغيره.
(7) هو أبو الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وذلك لكثرة الأنبياء من نسله ومنهم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم وذلك من قوله «أنا دعوة أبي إبراهيم» .(1/211)
- وَقِيلَ: إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ «1» عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي النَّارِ وَمِحْنَتَهُ كَانَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سنة.
- وإن ابتلاء إسحق «2» بِالذَّبْحِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ «3» .
- وَإِنَّ استدلال إبراهيم»
، بالكواكب وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، كَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشَرَ شهرا.
وقيل: أوحى الله تعالى إِلَى يُوسُفَ «5» ، وَهُوَ صَبِيٌّ، عِنْدَمَا هَمَّ إِخْوَتُهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ.
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ» «6» .
إلى غير ذلك مما ذكر مِنْ أَخْبَارِهِمْ.
وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ: أَنَّ آمنة بنت وهب، أخبرت أن
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «211» رقم «7» .
(2) وهو ابن سيدنا ابراهيم عليهما الصلاة والسلام من زوجته السيدة سارة أما سيدنا اسماعيل فمن السيدة هاجر.
(3) على خلاف في الذبيح وتوقف فيه الشيخ السيوطي في رسالة مستقلة بعد ذكره من الطرفين بعض الأدلة. لكن المشهور بل الصحيح أنه اسماعيل.
(4) تقدمت ترجمته في ص «211» رقم «7» .
(5) ابن سيدنا يعقوب عليهما الصلاة والسلام صبر على السجن ثلاث عشرة سنة وصبر قبلها على كيد إخونة ثم أكرمه الله تعالى بالحكم والملك، توفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
(6) سورة يوسف (15) .(1/212)
نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ حِينَ وُلِدَ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ «1» .
وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «لَمَّا نَشَأْتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ، وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ، وَلَمْ أَهُمَّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ لَمْ أَعُدْ» .
- ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الأمر لهم، وتترادف نفحات الله تعالى عَلَيْهِمْ، وَتُشْرِقُ أَنْوَارُ الْمَعَارِفِ فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يصلوا إلى الْغَايَةَ، وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْخِصَالِ الشَّرِيفَةِ النِّهَايَةَ، دُونَ مُمَارَسَةٍ، وَلَا رِيَاضَةٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» «3» .
- وَقَدْ نَجِدُ غَيْرَهُمْ يُطْبَعُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ دُونَ جَمِيعِهَا، وَيُولَدُ عَلَيْهَا، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ تَمَامِهَا، عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
- كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَ الصِّبْيَانِ عَلَى حُسْنِ السمت،
__________
(1) رواه ابن الجوزي في الوفاء عن أبي الحسين بن أسيد مرسلا.
(2) رواه أبو نعيم في الدلائل عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
(3) القصص «14» .(1/213)
أَوِ الشَّهَامَةِ، أَوْ صِدْقِ اللِّسَانِ أَوِ السَّمَاحَةِ، وَكَمَا نَجِدُ بَعْضَهُمْ عَلَى ضِدِّهَا.
فَبِالِاكْتِسَابِ يَكْمُلُ نَاقِصُهَا، وَبِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ يُسْتَجْلَبُ مَعْدُومُهَا، وَيَعْتَدِلُ مُنْحَرِفُهَا، وباختلاف هذين الحالين يتفادى النَّاسُ فِيهَا، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
- ولهذا قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا، هَلْ هَذَا الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ أَوْ مُكْتَسَبَةٌ؟
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ «1» عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ جِبِلَّةٌ وَغَرِيزَةٌ فِي الْعَبْدِ.
وَحَكَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ «2» بْنِ مَسْعُودٍ والحسن «3» ، وبه قال هو.
- والصحيح ما أصّلناه.
__________
(1) ابن جرير تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «2» .
(2) عبد الله بن مسعود بن غافل أسلم قديما وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه وهو من الصحابة العبادلة. وهو أول من جهر بالقرآن بمكة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيه: من سره أن يقرأ القرآن غضا كما نزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» . توفي سنة 32 هـ.
(3) الحسن البصري تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .(1/214)
وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ «1» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «2» : «كُلُّ الْخِلَالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي حَدِيثِهِ «4» : وَالْجُرْأَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ يَضَعُهُمَا اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ.
- وَهَذِهِ الأخلاق المحموده والخصال الجميلة الشريفة كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّنَا نَذْكُرُ أُصُولَهَا، وَنُشِيرُ إِلَى جَمِيعِهَا، وَنُحَقِّقُ وَصْفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا- إن شاء الله-.
__________
(1) سعد بن أبي وقاص: وهو سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف، أحد العشرة وآخرهم موتا، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد الستة أهل الشورى مات بالعقيق وحمل إلى المدينة وصلي عليه في المسجد وذلك سنة 55 هـ.
(2) كما في مقدمة كامل بن عدي، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي امامة. وهو حديث صحيح رواه أحمد في مسنده، والبيهقي في شعب الايمان، ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت عن سعد مرفوعا وموقوفا. وقال الدارقطني: في العلل الموقوف أشبه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(4) الذي رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وسعيد بن منصور عنه موقوفا.(1/215)
الفصل الحادي عشر العقل
أَمَّا أَصْلُ فُرُوعِهَا، وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا، وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ الَّذِي مِنْهُ يَنْبَعِثُ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ.
وَيَتَفَرَّعُ من هَذَا ثُقُوبُ الرَّأْيِ، وَجَوْدَةُ الْفِطْنَةِ، وَالْإِصَابَةُ، وَصِدْقُ الظَّنِّ، وَالنَّظَرُ لِلْعَوَاقِبِ، وَمَصَالِحُ النَّفْسِ، وَمُجَاهَدَةُ الشَّهْوَةِ، وَحُسْنُ السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَاقْتِنَاءُ الْفَضَائِلِ، وَتَجَنُّبُ الرَّذَائِلِ.
- وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَكَانِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبُلُوغِهِ مِنْهُ، وَمِنَ الْعِلْمِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ.
- وَإِذْ جَلَالَةُ مَحَلِّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِمَّا تَفَرَّعَ مِنْهُ مُتَحَقِّقَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَ مَجَارِيَ أَحْوَالِهِ، وَاطِّرَادَ سِيَرِهِ، وَحُكْمَ حَدِيثِهِ، وَعِلْمِهِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَحِكَمِ الْحُكَمَاءِ وَسِيَرِ الْأُمَمِ(1/216)
الْخَالِيَةِ وَأَيَّامِهَا، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَسِيَاسَاتِ الْأَنَامِ، وَتَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ، وَتَأْصِيلِ الْآدَابِ النَّفْسِيَّةِ «1» ، وَالشِّيَمِ الْحَمِيدَةِ، إِلَى فُنُونِ الْعُلُومِ الَّتِي اتَّخَذَ أَهْلُهَا كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا قَدْوَةً، وَإِشَارَاتِهِ حُجَّةً.
كَالْعِبَارَةِ «2» - وَالطِّبِّ- وَالْحِسَابِ- وَالْفَرَائِضِ- وَالنَّسَبِ- وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ فِي مُعْجِزَاتِهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-، دُونَ تَعْلِيمٍ وَلَا مُدَارَسَةٍ، وَلَا مُطَالَعَةِ كُتُبِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَلَا الْجُلُوسِ إِلَى عُلَمَائِهِمْ، بل بني أُمِّيٌّ لَمْ يُعْرَفْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَأَبَانَ أَمْرَهُ، وَعَلَّمَهُ، وَأَقْرَأَهُ.
- يَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْمُطَالَعَةِ، وَالْبَحْثِ عَنْ حَالِهِ، ضَرُورَةً، بالبرهان الْقَاطِعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ نَظَرًا ... فَلَا نَطُولُ بِسَرْدِ الْأَقَاصِيصِ وَآحَادِ الْقَضَايَا، إِذْ مَجْمُوعُهَا مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ حِفْظٌ جَامِعٌ.
- وَبِحَسَبِ عَقْلِهِ كَانَتْ مَعَارِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَائِرِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ، مِنْ عِلْمِ مَا يَكُونُ، وَمَا كان، وعجائب قدرته وعظيم ملكوته.
__________
(1) وفي نسخة «النفيسة» وربما كانت الأولى تصحيفا.
(2) العبارة: تعبير الرؤيا.(1/217)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
«1» .
حارت العقول في تقدير فضله، وَخَرِسَتِ الْأَلْسُنُ دُونَ وَصْفٍ يُحِيطُ بِذَلِكَ، أَوْ ينتهي إليه.
__________
(1) سورة النساء «13» .(1/218)
الفصل الثاني عشر الحلم والاحتمال وَالْعَفْوُ
وَأَمَّا الْحِلْمُ وَالِاحْتِمَالُ وَالْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكْرَهُ.
- وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَلْقَابِ فَرْقٌ.
- فَإِنَّ الْحِلْمَ: حَالَةُ تَوَقُّرٍ وَثَبَاتٍ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَاتِ.
- وَالِاحْتِمَالَ: حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْآلَامِ والمؤذيات.
- والصبر: مثلها.
وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.
- وَأَمَّا الْعَفْوُ: فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ ...
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نبيه صلّى الله عليه وسلم:
فقال تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» «1» الآية.
__________
(1) «.... وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» سورة الأعراف «199» .(1/219)
رُوِيَ «1» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَأْوِيلِهَا. فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ...
وقال له: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» الآية. «2»
وقال تعالى: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» «3» .
وقال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» «4» الآية.
وقال تعالى: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» «5» .
وَلَا خَفَاءَ بِمَا يُؤْثَرُ مِنْ حِلْمِهِ وَاحْتِمَالِهِ، وَأَنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ، وَهُوَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إِلَّا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما.
__________
(1) كما في تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، في مكارم الاخلاق وابن أبي الدنيا مرسلا ووصله ابن مردويه.
(2) « ... إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» سورة لقمان «17» .
(3) سورة الأحقاف «35» .
(4) « ... أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة النور «22» .
(5) سورة الشورى «43» .(1/220)
عَنْ عَائِشَةَ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «2» مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ؛ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا.
وَرُوِيَ «3» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَقًّا شَدِيدًا، وَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ:
فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون» .
وري «4» عَنْ عُمَرَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ:
«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فقال:
__________
(1) مرت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(2) كما رواه الشيخان وأبو داوود أيضا عنها ... كما أسنده المصنف من طريق مالك في الموطا.
(3) الحديث رواه البيهقي في شعب الايمان مرسلا، وروى آخره موصولا وهو قوله «اللهم اهد قومي..» في الصحيح حكاية عن نبي ضربه قومه.
(4) قال الدلجي: لم يعرف. وكذلك قال السيوطي: إن هذا لا يعرف عن عمر في شيء من كتب الحديث.
(5) تقدمت ترجمته في ص «13» رقم «4» .(1/221)
«رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «1» وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا مِثْلَهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخرنا، فلقد وطيء ظَهْرُكَ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إِلَّا خَيْرًا، فَقُلْتَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: انْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَغَايَةِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ.
- إِذْ لَمْ يَقْتَصِرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ، حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ، ثُمَّ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ، وَدَعَا، وسفع لَهُمْ، فَقَالَ: «اغْفِرْ» أَوِ «اهْدِ» . ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ «لِقَوْمِي» ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ «فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .
وَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ «2» : «اعْدِلْ فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ» لَمْ يَزِدْهُ في جوابه أن بين لَهُ مَا جَهِلَهُ، وَوَعَظَ نَفْسَهُ، وَذَكَّرَهَا بِمَا قال له.
__________
(1) سورة نوح «26» .
(2) المنافق وهو ذو الحويصرة حرقوص بن زهير التميمي قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي كرم الله وجهه.(1/222)
فَقَالَ «1» : «وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ «2» . خِبْتُ «3» وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» .
وَنَهَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَتْلَهُ» .
- وَلَمَّا تَصَدَّى لَهُ غورث «5» بن الحارث ليفتك «6» به صلّى الله عليه وسلم، وهو مُنْتَبِذٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَحْدَهُ قَائِلًا «7» ، وَالنَّاسُ قَائِلُونَ في غزاة «8» فلم ينته رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وَهُوَ قَائِمٌ، وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ.
فَقَالَ: من يمنعك مني.
فقال: «الله»
__________
(1) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنهما. ونحوه في صحيح البخاري. وأخرجه البيهقي وهو حديث صحيح. وفي ألفاظه اختلاف، والمآل واحد.
(2) وفي مسلم: أو لست أحق أهل الأرض أن أطيع الله عز وجل؟! وغضب صلّى الله عليه وسلم حتى أحمرت وجنتاء..
(3) خبت.. نقلها النووي في شرح مسلم على وجهي الضم والفتح.
(4) وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري. أو خالد بن الوليد. أو كلاهما كما في مسلم.
(5) وردت القصة في سيرة ابن هشام برواية تختلف عن المذكورة هنا بعض الشيء انظر السيرة ج 3 س 216 تحقيق السقا ورفاقه ووردت في بعض السير بشكل قريب من الوارد هنا ولكن باسم دعثور بدلا من غورث.
(6) على ما رواه البيهقي.
(7) وهي ذات الرقاع رابع سنة للهجرة.
(8) وقائلون: من القيلولة أي نائمون في النهار.(1/223)
فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي» .
قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ.
فَتَرَكَهُ وَعَفَا عَنْهُ،
فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ «1» .
- وَمِنْ عَظِيمِ خَبَرِهِ فِي الْعَفْوِ عَفْوُهُ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ «2» الَّتِي سَمَّتْهُ فِي الشَّاةِ بَعْدَ اعْتِرَافِهَا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ «3» .
- وَأَنَّهُ لم يؤاخذ لبيد «4» بن الأعظم إِذْ سَحَرَهُ وَقَدْ أُعْلِمَ بِهِ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْحِ أَمْرِهِ «5» ، وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ مُعَاقَبَتِهِ.
- وَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَاخِذْ «6» عَبْدَ اللَّهِ «7» بْنَ أبي وأشباهه من
__________
(1) ورواه الشيخان بدون سقوط السيف، وقوله صلّى الله عليه وسلم، من يمنعك مني، وجواب غورث.
(2) هي زينب بنت الحارث بن سلام.
(3) على ما رواه الشيخان ... وكان يجب أن تقدم جملة (على الصحيح من الرواية) بعد كلمة عفوه لأن صحة الرواية لعفوه، لا لاعترافها.
(4) هو رجل من بني زريق وهم بطن من الانصار.. وفي الصحيحين أن لبيدا يهودي وقيل إنه منافق وسيأتي عن المصنف أنه حكم بإسلامه
(5) رواه أحمد والنسائي والبيهقي في دلائله.
(6) على ما رواه الشيخان.
(7) عبد الله بن أبي خزرجي كان يرتجي أن يكون حاكم الأنصار قبل هجرة النبي-(1/224)
الْمُنَافِقِينَ «1» ، بِعَظِيمِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي جِهَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، بَلْ قَالَ «2» لِمَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ بعضهم: «لا. لِئَلَّا يُتَحَدَّثُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» «3»
وَعَنْ أنس «4» رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَجَبَذَهُ أَعْرَابِيٌّ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ «5» . فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مالك ولا من مال أَبِيكَ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «الْمَالُ مَالُ اللَّهِ. وَأَنَا عَبْدُهُ» ثُمَّ قَالَ: «وَيُقَادُ مِنْكَ يَا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْتَ بِي» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «لِمَ» قَالَ: لأنك لا تكافىء بالسيئة السيئة.
__________
- صلّى الله عليه وسلم ولكن إسلام الأنصار فوت عليه مغانم كثيرة فأسلم ظاهرا وفيه عنجهية الجاهلية وحب الرياسة فكان رأس المنافقين وله في نفاقه حوادث منشورة في صفحات السيرة مات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم.
(1) قال ابن عباس: كان المنافقون من الرجال ثلثمائة، ومن النساء مئة وسبعين.
(2) على المريسيع ماء لبني المصطلق.
(3) وهذا الحديث رواه الشيخان. وروى الطبراني: عرض ولد عبد الله على الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل أبيه، ومنعه الرسول صلّى الله عليه وسلم عن ذلك.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) الى هنا رواه الشيخان. واخرجه بلفظ المصنف البيهقي في الأدب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/225)
فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أمر أن يحمل له على بعير شَعِيرٌ، وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرٌ.
قَالَتْ عَائِشَةُ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ، مَا لَمْ تَكُنْ حُرْمَةً مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَمَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا ضَرَبَ خادما وَلَا امْرَأَةً «2» ...
- وَجِيءَ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ «3» ، فَقِيلَ: هَذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تُرَاعَ، لَنْ تُرَاعَ وَلَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمْ تُسَلَّطْ عَلَيَّ» .
- وَجَاءَهُ «4» زَيْدُ «5» بْنُ سَعْنَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَجَبَذَ ثَوْبَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثيابه، وأغلظ له، ثم قال:
__________
(1) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(2) رواه الشيخان.
(3) هذا الحديث أخرجه أحمد والطبراني بسند صحيح، ولم يسميا الرجل.
(4) وهو حديث طويل رواه البيهقي مفصلا عن ابن سلام، ووصله ابن حبان، والطبراني، وأبو نعيم عن عبد الله بن سلام أيضا، وسنده صحيح كما قاله السيوطي.
(5) وهو حبر من أحبار اليهود وفي التهذيب: هو صحابي من أحبار اليهود الذين أسلموا وهو من أكثرهم مالا وعلما، حسن إسلامه وشهد المشاهد وتوفي مرجعه صلّى الله عليه وسلم من تبوك.(1/226)
إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمَطْلَبِ مُطْلٌ، فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ «1» ، وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم يتبسم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا، وهو، كنا إلى غير هذا منك أحوج يَا عُمَرُ. تَأْمُرُنِي بِحُسْنِ الْقَضَاءِ. وَتَأْمُرُهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي» .
ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثٌ» .
وَأَمَرَ عُمَرَ «2» يَقْضِيهِ مَالَهُ، وَيَزِيدَهُ عِشْرِينَ صاعا لما روّعه.
- فكان سبب إسلامه وذلك أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النبوة شيء إلا وقد عرفتهما في وجه مُحَمَّدٍ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا:
- يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلُهُ،
- وَلَا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلَّا حِلْمًا فَاخْتَبَرْتُهُ بِهَذَا فَوَجَدْتُهُ كَمَا وُصِفَ ... وَالْحَدِيثُ عَنْ حِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبْرِهِ، وَعَفْوِهِ عند المقدرة أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِمَّا فِي الصَّحِيحِ وَالْمُصَنَّفَاتِ الثَّابِتَةِ، إِلَى مَا بَلَغَ مُتَوَاتِرًا مَبْلَغَ الْيَقِينِ، مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ قُرَيْشٍ، وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ الصَّعْبَةِ مَعَهُمْ، إِلَى أَنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ وَهُمْ لَا يشكّون في استئصال
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «6» .(1/227)
شَأْفَتِهِمْ، وَإِبَادَةِ خَضْرَائِهِمْ «1» ، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ عَفَا وَصَفَحَ:
وَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ إِنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ» ؟
قَالُوا: خَيْرًا.. أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.
فَقَالَ: «2» [أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ» ] «3» الآية «إذهبوا فأنتم الطلقاء» .
وقال «4» أنس «5» رضي الله عنه: هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ التَّنْعِيمِ «6» صَلَاةَ الصُّبْحِ لِيَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخِذُوا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» «7» الآية.
__________
(1) خضرائهم: جمعهم وسوادهم.
(2) قال ذلك يوم فتح مكة آخذا بعضادتي باب الكعبة على ما رواه ابن سعد والنسائي وابن زنجويه.
(3) « ... الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» سورة يوسف «92» .
(4) كما رواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) أقرب أطراف مكة إليها، على بعد ثلاثة أو أربعة أميال منها على طريق المدينة والشام، سميت بذلك لأنه بقربها جبل يسمى «نعيم» على يمينها وعلى شمالها آخر يسمى «ناعم» والوادي «نعمان» .
(7) « ... وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» سورة الفتح «24»(1/228)
وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ «1» وَقَدْ سِيقَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ جَلَبَ إِلَيْهِ الْأَحْزَابَ وَقَتَلَ عَمَّهُ، وَأَصْحَابَهُ، ومثل بهم فعفا عنه ولا طفه فِي الْقَوْلِ:
«وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ!! أَلَمْ يئن لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؟! فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحْلَمَكَ وَأَوْصَلَكَ وَأَكْرَمَكَ. «2»
- وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضى، صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، اسلم يوم فتح مكة وشهد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية وزنها له بلال، كان شيخ مكة ورئيسها ورئيس قريش بعد أبي جهل، عاش رضي الله عنه إلى سنة 31 هـ حيث مات ودفن بالبقيع.
(2) والحديث بكامله مذكور في السير، وقد اخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عباس بسند صحيح.(1/229)
الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
وَأَمَّا الْجُودُ والكرم والسخاء والسماحة، ومعانيها مُتَقَارِبَةٌ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهَا بِفُرُوقٍ، فَجَعَلُوا الكرم: الإنفاق بطيب نفس فِيمَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ وَنَفْعُهُ، وَسَمَّوْهُ أَيْضًا جُرْأَةً، وَهُوَ ضِدُّ النَّذَالَةِ.
- وَالسَّمَاحَةُ: التَّجَافِي عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِطِيبِ نَفْسٍ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّكَاسَةِ «1» .
- وَالسَّخَاءُ: سُهُولَةُ الْإِنْفَاقِ، وَتَجَنُّبُ اكْتِسَابِ مَا لا يحمد، وهو ضد التقتير.
فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَازَى فِي هذه الأخلاق الكريمة. ولا يبارى «2» .
__________
(1) الشكاسه: سوء الخلق.
(2) فاق النبيين في خلق وفي خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم.(1/230)
بهذا وصفه كل من عرفه.
عن ابن المنكدر «1» قال: سَمِعْتُ جَابِرَ «2» بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ «3» :
«مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لَا» .
وَعَنْ أَنَسٍ «4» وَسَهْلِ «5» بن سعد رضي الله عنهما مثله.
وقال «6» ابن عباس «7» رضي الله عنهما: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ مَا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الريح المرسلة.
__________
(1) انفرد بابن المنكدر مسلم، ورواه البخاري عن جابر وابي المنكدر: محمد بن المنكدر بن عبد الله التيمي الحافظ عن أبيه وعن عائشة وابي هريرة رضي الله تعالى عنهما وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
(2) مرت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(3) رواه البخاري في الأدب ومسلم في فضائله صلّى الله عليه وسلم. والترمذي في شمائله.
(4) مرت ترجمته في ص «47» رقم «1» وأخرج حديث أنس مسلم.
(5) هو سهيل بن سعد الساعدي من مشاهير الصحابة يقال: كان اسمه «حزنا» فغيره النبي صلّى الله عليه وسلم. قال الزهري: مات النبي صلّى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة وذلك سنة 91 هـ.. وأخرج حديث سهل الدارمي والطيالسي.
(6) كما روى عنه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .(1/231)
وعن «1» أنس «2» رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا «3» سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فرجع إلى قومه، وَقَالَ: أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لا يخشى فاقة.
- وأعطى غير واحد «4» مئة من الإبل.
- وأعطى «5» صفوان مئة ثم مئة.
وَهَذِهِ كَانَتْ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ «6» بْنُ نَوْفَلٍ: إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ «7» ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ.
__________
(1) كما رواه مسلم.
(2) تقدمت ترجمته ص «47» رقم «1» .
(3) هو صفوان بن أمية الجمحي القرشي.
(4) كأبي سفيان، وابنه معاوية، ويزيد، ومع مئة كل واحد أوقية.. وكحكيم بن حزام، والحارث بن هشام.
(5) كما رواه مسلم. وصفوان بن أمية الجمحي القرشي، كنيته أبو وهب اسلم يوم الفتح شهد حنينا والطائف وهو مشرك فلما أعطاه النبي صلّى الله عليه وسلم ما أعطاه قال: أشهد بالله ما طابت بهذا إلا نفس نبي فأسلم، روى له أصحاب الكتب الستة توفي في خلافة سيدنا معاوية بمكة سنة 42 هـ.
(6) هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى من أعقل أهل زمانه وأعلمهم، شاعر بليغ، تهود ثم تنصر وكان مترهبا، وآمن بنبوته صلّى الله عليه وسلم ولكنه لم يدرك زمن الرسالة ولذا فإن الاكثر على أنه صحابي. رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في منامه في الجنة.
(7) هذا بعض حديث صحيح رواه الشيخان. لكن قال السيوطي رحمه الله في تخريجه: القائل له صلّى الله عليه وسلم هذا، إنما هو خديجة رضي الله عنها، والذي في صحيح البخاري وغيره أنه من قول خديجة.(1/232)
- ورد على هوازن «1» سباياها، وكانت سِتَّةَ آلَافٍ.
- وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ «2» مِنَ الذَّهَبِ مَا لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ «3» .
- وَحُمِلَ «4» إِلَيْهِ تِسْعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فقسمها، فَمَا رَدَّ سَائِلًا حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا.
- وَجَاءَهُ «5» رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ قَضَيْنَاهُ» .
فَقَالَ له عمر «6» رضي الله عنه: مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ «7» مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا،
فتبسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وجهه «8» ، وقال: «بهذا أمرت»
__________
(1) قبيلة تسكن منطقة حنين ...
(2) مرت ترجمته في ص «181» رقم «1» .
(3) كما رواه البخاري عن أنس تعليقا.
(4) على ما رواه أبو الحسن ابن الضحاك في شمائله عن الحسن مرسلا.
(5) كما رواه الترمذي في شمائله، وقال الحلبي: هذا الرجل لا أعرفه.
(6) مرت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(7) هو بلال، ولكنه من المهاجرين، وقد يجمع بأنهما قالا له ...
(8)
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله(1/233)
ذَكَرَهُ «1» التِّرْمِذِيُّ «2» وَذُكِرَ «3» عَنْ مُعَوِّذِ «4» بْنِ عَفْرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ- يُرِيدُ طَبَقًا-، وَأُجْرِ زُغْبٍ «5» - يُرِيدُ قِثَّاءً- فَأَعْطَانِي مِلْءَ كَفِّهِ حُلِيًّا وَذَهَبًا.
قال «6» أنس «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
- والخبر بجوده صلّى الله عليه وسلم وكرمه كثير.
وعن «8» أبي هريرة رضي الله عنه: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَاسْتَلَفَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نصف وسق، فجاء يَتَقَاضَاهُ فَأَعْطَاهُ وَسْقًا، وَقَالَ: «نِصْفُهُ قَضَاءٌ وَنِصْفُهُ نائل» .
__________
(1) في كتاب الشمائل.
(2) مرت ترجمته في ص «181» رقم «4» .
(3) ذكره الترمذي في شمائله أيضا، وأخرجه الطبراني وأحمد عن الربيع بنت معوذ، وسنده حسن.
(4) هو معوذ بن الحرث الأنصاري، تعاون مع أخيه في قتل عدو الله أبي جهل واستشهد في غزوة بدر نفسها.
(5) زغب: صغار الريش.
(6) فيما رواه الترمذي.
(7) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(8) هذا الحديث لا يعرف من رواه. وأبو هريرة تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .(1/234)
الْفَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ الشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ
وَأَمَّا الشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ.
- فَالشَّجَاعَةُ: فَضِيلَةُ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَانْقِيَادِهَا لِلْعَقْلِ.
- وَالنَّجْدَةُ: ثِقَةُ النَّفْسِ عِنْدَ اسْتِرْسَالِهَا إِلَى الْمَوْتِ، حَيْثُ يُحْمَدُ فِعْلُهَا دُونَ خَوْفٍ.
وَكَانَ صَلَّى الله عليه وسلم بالمكان الذي لا يجهل، وقد حَضَرَ الْمَوَاقِفَ الصَّعْبَةَ، وَفَرَّ الْكُمَاةُ «1» وَالْأَبْطَالُ عَنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَبْرَحُ، وَمُقْبِلٌ لَا يُدْبِرُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ، وَمَا شُجَاعٌ إِلَّا وَقَدْ أُحْصِيَتْ لَهُ فَرَّةٌ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ جَوْلَةُ، سواه.
__________
(1) الكماة: جمع كمي، وهو الشجاع المكمى في سلاحه والساتر لنفسه بدرعه.(1/235)
عن أبي إسحق «1» : سَمِعَ الْبَرَاءَ «2» وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ «3» .
ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو «4» سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنَا النبي لا كذب» .
وزاد غَيْرُهُ «5» «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمَطْلَبِ» .
قِيلَ: فَمَا رؤي يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بغلته.
وذكر مسلم «6» عن العباس «7» رضي الله عنهما قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
__________
(1) أبو اسحق عمرو بن عبد الله السبعي الهمداني الكوفي تابعي جليل أحد أعلام الحديث أخذه عن عدة من الصحابة والتابعين، كان صواما قواما غازيا. أخرج له أصحاب الكتب الستة وله ترجمة في الميزان توفي سنة 127 هـ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «4» .
(3) هذا الحديث أخرجه البخاري في الجهاد ومسلم في المغازي والنسائي في السير.
(4) تقدمت ترجمته في ص «229» رقم «1» .
(5) غير البراء.
(6) تقدمت ترجمته في ص «158» رقم «2» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «1» .(1/236)
يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِهَا، أكفها إرادة أن لا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ، ثُمَّ نَادَى «يا للمسلمين» الحديث.
وَقِيلَ «1» : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَضِبَ- وَلَا يَغْضَبُ إِلَّا لِلَّهِ- لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ «2» ابْنُ عُمَرَ «3» رضي الله عنهما: مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ وَلَا أَنْجَدَ وَلَا أَجْوَدَ ولا أرضى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ «4» عَلِيٌّ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ- وَيُرْوَى اشْتَدَّ الْبَأْسُ- وَاحْمَرَّتِ الحدق، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلم فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ. وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا.
وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَنَا العدو لقربه منه.
__________
(1) كما في حديث ابن ابي هالة.
(2) كما رواه الدارمي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(4) كما رواه أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي، وأخرج مسلم بعضه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .(1/237)
وعن «1» أنس «2» رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ.
لَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعا، قد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الْخَبَرَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي «3» طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَالسَّيْفُ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
«لَنْ تُرَاعُوا» .
وَقَالَ «4» عِمْرَانُ «5» بْنُ حُصَيْنٍ: مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً إِلَّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَضْرِبُ.
- وَلَمَّا رَآهُ «6» أُبَيُّ بْنُ «7» خلف يوم أحد، وهو يقول: أين
__________
(1) كما في حديث الشيخين.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري الخزرجي، كان من فضلاء الصحابة وهو زوج أم سليم، وكان يرمي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحد توفي سنة 50 هـ.
(4) كما رواه أبو الشيخ في الأخلاق.
(5) عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي ويكنى أبا عبيد وكان اسلامه عام خيبر وغزا عدة غزوات وكان صاحب راية خزاعة. وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم توفي سنة 52 هـ..
(6) على ما رواه ابن سعد والبيهقي وعبد الرزاق مرسلا، والواقدي موصولا.
(7) أبي بن خلف: من المؤذين للنبي صلّى الله عليه وسلم في مكة وهو الذي استثار عقبة بن أبي معيط حتى تفل في وجه النبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت: «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى -(1/238)
مُحَمَّدٌ؟ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا وَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَدَى يَوْمَ بَدْرٍ: عِنْدِي فَرَسٌ أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا «1» مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عَلَيْهَا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، فَلَمَّا رَآهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَدَّ أُبَيٌّ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْتَرَضَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا» أَيْ خَلُّوا طَرِيقَهُ، وَتَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ «2» بْنِ الصِّمَّةِ، فَانْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً تَطَايَرُوا عَنْهُ تَطَايُرَ الشُّعَرَاءِ «3» عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَفَضَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ «4» مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا وَقِيلَ: بَلْ كَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ.
فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ يَقُولُ: قتلني محمد.
__________
- يديه» الآية كما نزل فيه قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ» الآية.. وهو الذي قتله النبي صلّى الله عليه وسلم كما ورد هنا فصدق فيه: «أشقى الناس من قتل نبيا أو قتله نبي» .
(1) مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلا.
(2) الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك، يذكره ابن اسحاق في البدريين من بني عامر بن مالك بن النجار. وقد قتل رضي الله عنه شهيدا مع من بعثهم الرسول صلّى الله عليه وسلم مع عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة يوم بئر معونة وغدر بهم عامر على رأس أربعة من أحد.
(3) الشعراء: ذباب أحمر او أزرق يقع على الحيوان فيؤذيه.
(4) تدأدأ: تدحرج.(1/239)
وهم يقولون: لا بأس عليك.
فقال: لو كان مابي بِجَمِيعِ النَّاسِ لَقَتَلَهُمْ. أَلَيْسَ قَدْ قَالَ «أَنَا أَقْتُلُكَ» !! وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي.
فَمَاتَ بسرف «1» ، في قفولهم إلى مكة.
__________
(1) سرف: مكان على بعد ستة أميال من مكة كان فيه زواج ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء.(1/240)
الْفَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ الْحَيَاءُ وَالْإِغْضَاءُ
وَأَمَّا الْحَيَاءُ وَالْإِغْضَاءُ
- فَالْحَيَاءُ: رِقَّةٌ تَعْتَرِي وَجْهَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ فِعْلِ مَا يَتَوَقَّعُ كَرَاهِيَتَهُ، أَوْ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ.
- وَالْإِغْضَاءُ: التَّغَافُلُ عَمَّا يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ بِطَبِيعَتِهِ.
- وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَأَكْثَرَهُمْ عَنِ العورات إغضاء.
قال الله تعالى: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» «1» الآية..
عَنْ «2» أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) «وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» الأحزاب «53» .
(2) كما رواه أبو داوود ...
(3) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .(1/241)
أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَطِيفَ الْبَشَرَةِ، رَقِيقَ الظَّاهِرِ، لَا يُشَافِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُهُ، حَيَاءً، وَكَرَمَ نَفْسٍ.
وَعَنْ «1» عَائِشَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ مَا يَكْرَهُهُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ كَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ:
«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَصْنَعُونَ أَوْ يَقُولُونَ كَذَا» يَنْهَى عَنْهُ، وَلَا يُسَمِّي فَاعِلَهُ.
وَرَوَى «3» أَنَسٌ «4» رضي الله عنه: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا- وَكَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ- فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَ: «لَوْ قُلْتُمْ لَهُ يَغْسِلُ هَذَا» وَيُرْوَى يَنْزِعُهَا.
قَالَتْ «5» عائشة رضي الله عنها فِي الصَّحِيحِ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
__________
(1) كما في الصحيحين وأخرجه الترمذي في الشمائل وابن ماجه في الزهد.
(2) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(3) كما رواه ابو داوود.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) كما رواه الترمذي.(1/242)
فحّاشا، ولا متفحشا، ولا صخابا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ.
وَقَدْ حُكِيَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عن التوراة، من رِوَايَةِ ابْنِ سَلَامٍ «1» وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ «2» عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ «3» : أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَيَائِهِ لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ وَأَنَّهُ كَانَ يُكَنِّي عَمَّا اضْطَرَّهُ الْكَلَامُ إِلَيْهِ مما يكره «4» .
وَعَنْ «5» عَائِشَةَ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط ...
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «3» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «72» رقم «3» .
(3) أي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في الاحياء وقال العراقي لم أعرف وروده في الأنباء.
(4) قال السيوطي: حديث أنه كان يكني عما اضطره الكلام إليه معلوم من أحواله وأقواله في الأحاديث المشهورة.
(5) رواه الترمذي في الشمائل.
(6) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .(1/243)
الفصل السّادس عشر حسن العشرة والأدب وبسط الخلق
وَأَمَّا حُسْنُ عِشْرَتِهِ. وَأَدَبُهُ، وَبَسْطُ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ فَبِحَيْثُ انْتَشَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ.
قَالَ «1» عَلِيٌّ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصْفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«كَانَ أَوْسَعَ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً، وألينهم عريكة «3» ، وأكرمهم عشرة.
عن قيس «4» بن سعد رضي الله عنه قال: «زارنا رسول الله
__________
(1) في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي في شمائله.
(2) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(3) عريكة: طبيعة.
(4) قيس بن سعد بن عبادة أبو عبد الله الخزرجي، كان صاحب الشرطة للنبي صلى الله عليه وسلم، كان ضخما مفرط الطول نبيلا جميلا جوادا سيدا من ذوي الرأي والدهاء توفي في المدينة آخر خلافة معاوية.(1/244)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ قِصَّةً فِي آخِرِهَا- فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا، وَطِأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ:
يَا قَيْسُ، اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
قال قيس: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْكَبْ» فَأَبَيْتُ.
فَقَالَ: «إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ» فَانْصَرَفْتُ «1» .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «ارْكَبْ أَمَامِي فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ أَوْلَى بِمُقَدِّمِهَا» .
- وَكَانَ «2» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَلِّفُهُمْ، وَلَا يُنَفِّرُهُمْ، وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِّيهِ عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِشْرَهُ، وَلَا خُلُقَهُ. يَتَعَهَّدُ أَصْحَابَهُ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ، ولا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
- مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَارَبَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يكون هو المنصرف عنه.
__________
(1) الحديث رواه أبو داوود في الادب والنسائي في اليوم والليلة.
(2) كما في شمائل الترمذي من حديث هند بن أبي هالة.(1/245)
- وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أو بميسور من القول. وقد وَسِعَ النَّاسَ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا، وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، بِهَذَا وَصَفَهُ ابْنُ أَبِي «1» هَالَةَ قَالَ: وَكَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ، ولا صخّاب وَلَا فَحَّاشٍ، وَلَا عَيَّابٍ، وَلَا مَدَّاحٍ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي، وَلَا يُؤَيِّسُ مِنْهُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» «2» وقال تعالى:
«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «3» الْآيَةَ.
- وَكَانَ «4» يُجِيبُ مَنْ دَعَاهُ، وَيَقْبَلُ «5» الْهَدِيَّةَ، ولو كانت كراعا «6» ، ويكافيء عليها.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «4» .
(2) سورة آل عمران «159» .
(3) «.... فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» سورة فصلت «34» .
(4) على ما رواه ابن سعد مرسلا.
(5) على ما رواه البخاري.
(6) الكراع: بالضم في البقر والغنم وهو مستدق الساق.(1/246)
قال «1» أنس «2» رضي الله عنه: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ «3» فَمَا قَالَ لِي: «أُفٍّ» قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ:؟!، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟!.
وَعَنْ «4» عَائِشَةَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنُ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ: «لَبَّيْكَ» .
وَقَالَ «6» جَرِيرُ «7» بن عبد الله رضي الله عنه: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ.
- وَكَانَ يُمَازِحُ «8» أَصْحَابَهُ، وَيُخَالِطُهُمْ، وَيُحَادِثُهُمْ، وَيُدَاعِبُ
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) وفي رواية لمسلم تسع سنين.
(4) كما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة بسند واه.
(5) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(6) رواه الشيخان.
(7) جرير بن عبد الله البجلي سيد قومه قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم سنة 10 من الهجرة فقال عنه: يطلع عليكم خير ذي يمن، كان جميلا حتى قال عنه سيدنا عمر إنه يوسف هذه الأمة كان له اثر عظيم في فتح القادسية ثم سكن جزيرة الكوفة مات سنة 51 هـ.
(8) كما رواه الترمذي في باب مزاحه صلّى الله عليه وسلم.(1/247)
صِبْيَانَهُمْ، وَيُجْلِسُهُمْ فِي حِجْرِهِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ «1» وَالْأَمَةِ وَالْمِسْكِينِ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى فِي أَقْصَى المدينة، ويقبل عذر المعتذر «2» .
قال «3» أنس «4» رضي الله عنه: مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرجل هو الذي يحني رَأْسَهُ، وَمَا أَخَذَ أَحَدٌ بِيَدِهِ، فَيُرْسِلُ يَدَهُ حتى يرسلها الآخذ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ.
وَكَانَ «5» يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيَبْدَأُ أصحابه بالمصافحة، لم يُرَ «6» قَطُّ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى يُضَيِّقَ بِهِمَا عَلَى أَحَدٍ، يُكْرِمُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا بَسَطَ لَهُ ثَوْبَهُ، وَيُؤْثِرُهُ بِالْوِسَادَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا إن أبى، ويكني أصحابه، ويدعوهم
__________
(1) كان يجيب دعوة العبد. أخرجه البزار عن جابر والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنهما.
(2) هذا من المعلوم والصحيح في قصة المتخلفين عن غزوة تبوك.
(3) رواه أبو داوود والترمذي والبيهقي عنه. والبزار عنه أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما.
(4) تقدمت ترجمتة في ص «47» رقم «1» .
(5) على ما في حديث ابن أبي هالة، وأخرج أبو داوود عن أبي ذر مثله.
(6) كما رواه الدارقطني في غريب مالك وضعفه.(1/248)
بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِمْ، تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ، حَتَّى يَتَجَوَّزَ فَيَقْطَعُهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ- وَيُرْوَى بِانْتِهَاءٍ أَوْ قِيَامٍ- وَرُوِيَ «1» :
أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ يُصَلِّي، إِلَّا خَفَّفَ صَلَاتَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ عَادَ إِلَى صَلَاتِهِ.
- وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا، وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا، مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، أَوْ يَعِظْ، أَوْ يَخْطُبْ.
وَقَالَ «2» عَبْدُ اللَّهِ «3» بْنُ الْحَارِثِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وعن «4» أنس «5» رضي الله عنه: كان خدم المدينة يأتون رسول
__________
(1) لم يجد له العراقي أصلا ... وفي الصحيح: إني لأقوم إلى الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق عليه.... فلو أورده المصنف لكان أظهر.
(2) على ما رواه أحمد والترمذي بسند حسن في المناقب من الجامع، وهو في الشمائل أيضا.
(3) عبد الله بن الحارث الزبيري سكن مصر وكان آخر من مات من الصحابة فيها في بلدة تسمى سفط وذلك سنة 85 هـ.
(4) رواه مسلم.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «6» .(1/249)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ، بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ، فَمَا يُؤْتَى بِآنِيَةٍ أَلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ في الغداة الباردة، يريدون «1» به التبرك.
__________
(1) لعل زيادة «يريدون به التبرك» من زيادة المصنف فإن البغوي رحمه الله تعالى رواه في مصابيحه بدون هذه الزيادة.(1/250)
الفصل السّابع عشر الشفقة والرّحمة
وَأَمَّا الشَّفَقَةُ وَالرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:
«عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «1» .
وَقَالَ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «2» .
قَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ فَضْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أسمائه، فقال: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .
وحكى الإمام «3» أبو بكر بن فورك نحوه.
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ «4» قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم غزوة، وذكر
__________
(1) سورة يونس «128» .
(2) سورة الانبياء «157» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «119» رقم «4» .
(4) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري فقيه محدث من الاعلام التابعين رأى عشرة من الصحابة، كتب عمر بن عبد العزيز الى الآفاق عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه توفي سنة 124 هـ.(1/251)
حُنَيْنًا، قَالَ: فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صفوان «1» بن أمية مئة من النعم، ثم مئة، ثم مئه،
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ «2» : حَدَّثَنَا سَعِيدُ «3» بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ صَفْوَانَ «4» قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ.
وَرَوِيَ «5» : أَنَّ أَعْرَابِيًا جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ:
«أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ» ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا، وَلَا أَجْمَلْتَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فأرسل إليه صلّى الله عليه وسلم وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ «أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ» قَالَ: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنك قلت ما قلت، وفي نفس أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى يذهب
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «232» رقم «5» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4» .
(3) سعيد بن المسيب بكسر الياء المشددة امام التابعين وسيدهم جمع بين الفقه والحديث والعبادة والورع. روي عنه أنه صلّى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة، وقال ما فاتتني التكبيرة الاولى وما نظرت إلى قفاء رجل في الصلاة منذ خمسين سنة، ولد لسنتين مضتامن خلافة عمر وتوفي بالمدينة سنة 91 هـ.
(4) تقدمت ترجمته في ص «232» رقم «5» .
(5) رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بسند ضعيف. وكذا ابن حيان وغيره.(1/252)
مَا فِي صُدُورِهِمْ عَلَيْكَ» قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، أَوِ الْعَشِيُّ، جَاءَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ فَزِدْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ. أَكَذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خيرا.
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَأَتْبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا، فَأَخَذَ لَهَا مَنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا، حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا.
وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ فَقَتَلْتُمُوهُ دخل النار» .
وروي «1» عنه صلّى الله عليه وسلم: «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» .
- وَمِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ صلّى الله عليه وسلم تخفيفه وتسهله عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَتُهُ أَشْيَاءَ مَخَافَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) هو مروي من طريق أبي داوود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه.(1/253)
كَقَوْلِهِ «1» عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» «2» .
- وَخَبَرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ «3» ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْوِصَالِ «4» ، وَكَرَاهَتُهُ دُخُولَ الْكَعْبَةِ «5» لِئَلَّا تَتَعَنَّتَ أُمَّتُهُ، وَرَغْبَتُهُ لِرَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ سَبَّهُ وَلَعْنَهُ لَهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ، وَأَنَّهُ «6» كَانَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِهِ.
- وَمِنْ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ دَعَا رَبَّهُ وَعَاهَدَهُ.
فَقَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً ورحمة، وصلاة وطهورا، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» «7»
__________
(1) كما رواه الشيخان.
(2) وفي مسلم عند كل صلاة وهذا الحديث رواه أصحاب الكتب الستة.
(3) لعله أراد خبر الشيخين في قيام الليل: خذوا من العمل ما تطيقون. اذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فان احدكم اذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعله يريد يستغفر الله فيسب نفسه ... أو ما روياه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حيث قال: وأما انا فارقد وأقوم واصلي ... ومنعه من قيام الليل.
(4) كما رواه الشيخان.
(5) رواه أبو داوود والترمذي، وصححه.
(6) رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه.
(7) رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وروي هذا الحديث من طرق أخرى.(1/254)
- وَلَمَّا كَذَّبَهُ «1» قَوْمُهُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ أَمَرَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ:
مُرْنِي بما شئت، إن شئت أن أطلق عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» .
وَرَوَى «2» ابْنُ الْمُنْكَدِرِ «3» : أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَنْ تُطِيعَكَ فَقَالَ: «أُؤَخِّرُ عَنْ أُمَّتِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» .
قَالَتْ «4» عَائِشَةُ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اختار أيسرهما.
__________
(1) رواه الشيخان وأصحاب الكتب الستة.
(2) الحديث مرسل، إلا انه مما لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الموصول، ولا سيما يعضده الحديث السابق في الصحيحين.
(3) تقدمت ترجمته في ص «231» رقم «1» .
(4) الحديث مر الكلام عليه.
(5) تقدمت ترجمتها في ص (146) رقم (5) .(1/255)
قال «1» ابْنُ مَسْعُودٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
وَعَنْ «3» عَائِشَةَ «4» : أَنَّهَا رَكِبَتْ بَعِيرًا وَفِيهِ صُعُوبَةٌ فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ» .
__________
(1) فيما رواه الشيخان.
(2) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب حليف بني زهرة، اسلم قديما، وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه قال بحقه النبي صلّى الله عليه وسلم «تمسكو بعهد ابن ام عبد» توفي سنة 32 هـ بالمدينة المنورة.
(3) هذا الحديث أخرجه البيهقي في سننه عن المقدام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وبعضه في مسلم.
(4) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .(1/256)
الفصل الثامن عشر الوفاء وحسن العهد وصلة الرّحم
وَأَمَّا خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الوفاء وحسن العهد وصلة الرحم:
فعن «1» عبد الله بن الْحَمْسَاءِ قَالَ «2» : بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعٍ، قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ فَنَسِيتُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْتُ، فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: «يَا فَتَى لَقَدْ شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك» .
وعن «3» أنس «4» رضي الله عنه «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أتي بهدية،
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو داوود وهو من افراده، وأخرجه أيضا ابن منده في المعرفة، والخرائطي في مكارم الاخلاق.
(2) العامري الصحابي وقد قيل إنه عبد الله بن أبي الجدعاء التميمي ويقال الكناني الذي ذكره البخاري في الصحابة.
(3) كما رواه البخاري في الادب المفرد.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .(1/257)
قَالَ: اذْهَبُوا بِهَا إِلَى بَيْتِ فُلَانَةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ، إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ.
وعن «1» عائشة «2» رضي الله عنها: قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَإِنْ كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها.
- وَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا «3» ، فَارْتَاحَ إِلَيْهَا «4» .
- وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَهَشَّ لَهَا، وَأَحْسَنَ السُّؤَالَ عَنْهَا فَلَمَّا خَرَجَتْ، قَالَ: «إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ «5» » .
وَوَصَفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: كَانَ يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْثِرَهُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ آلَ بني فلان ليسوا لي
__________
(1) كما في الصحيحين.
(2) تقدمت ترجمتها في ص (146) رقم (5) .
(3) وهي هالة بنت خويلد بن اسد ام ابي العاص بن الربيع، زوج زينب بنته صلّى الله عليه وسلم.
(4) وهذا الحديث في البخاري.
(5) رواه الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا.(1/258)
بِأَوْلِيَاءَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» «1» .
- وقد «2» صلى عليه الصلاة والسلام بأمامة «3» ابنة ابنته زينب «4» يَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قام حملها.
وعن «5» أبي قتادة «6» : جاء وَفْدٌ لِلنَّجَاشِيِّ «7» فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْدِمُهُمْ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: نَكْفِيكَ.
فَقَالَ: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أُكَافِئَهُمْ» .
- وَلَمَّا جِيءَ بِأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ الشَّيْمَاءِ «8» فِي سَبَايَا هَوَازِنَ، وَتَعَرَّفَتْ لَهُ، بَسَطَ لَهَا رداءه، وقال لها: «إن احببت أقمت
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) رواه الشيخان.
(3) وهي بنت أبي العاص بن الربيع وكان صلّى الله عليه وسلم يحبها وتزوجها علي كرم الله وجهه بعد فاطمة رضي الله عنها ثم تزوجها بعده المغيرة بن نوفل فماتت عنده.
(4) هي أكبر بناته صلّى الله عليه وسلم تزوجها أبو العاص بن الربيع ابن خالتها أسر في بدر مع من أسر من المشركين وأطلقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسلم سنة سبع من الهجرة فرد النبي صلّى الله عليه وسلم عليه زينب بالنكاح الأول توفيت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم سنة 8 هـ.
(5) كما رواه البيهقي.
(6) الحارث بن ربعي الصحابي الأنصاري فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلم روى له أحمد وأصحاب السنن توفي سنة 54 هـ.
(7) تقدمت ترجمته في ص «164» رقم «2» .
(8) واسمها جدامة وهي بنت حليمة السعدية وقيل أختها، أسلمت وأسلم أبوها الحارث حين قدم الى مكة المكرمة.(1/259)
عندي مكرمة محبة، أَوْ مَتَّعْتُكِ وَرَجَعْتِ إِلَى قَوْمِكِ» . فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا فَمَتَّعَهَا «1» .
وَقَالَ «2» أَبُو الطُّفَيْلِ «3» : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» ، وَأَنَا غُلَامٌ، إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ مِنْهُ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ التي أرضعته.
وعن «5» عمرو بْنِ السَّائِبِ «6» : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا، فَأَقْبَلَ أَبُوهُ «7» مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ أقبل أخوه «8» من الرضاعة، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
__________
(1) الحديث رواه ابن اسحق والبيهقي.
(2) رواه ابو داوود بسند حسن.
(3) هو عامر بن واثلة وقد تقدمت ترجمته في ص «147» رقم «2» .
(4) وكان بالجعرانة يقسم لحما.
(5) رواه أبو داوود مرسلا عنه.
(6) من أجلة التابعين والثقات روى عن أسامة بن زيد وروى عنه جماعة وأخرج له أبو داوود.
(7) هو الحارث بن عبد العزى، واختلف في اسلامه.
(8) هو عبد الله بن الحارث.(1/260)
- وَكَانَ يَبْعَثُ إِلَى ثُوَيْبَةَ «1» ، مَوْلَاةِ أَبِي لَهَبٍ «2» مُرْضِعَتِهِ بِصِلَةٍ وَكِسْوَةٍ، فَلَمَّا مَاتَتْ سَأَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهَا، فَقِيلَ: لَا أَحَدَ «3»
وَفِي حَدِيثِ «4» خَدِيجَةَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ له صلى الله عليه وسلم: أبشر، فو الله لا يخزيك اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ «6» ، وتكسب المعدوم وتقري الضعيف، وتعين على نوائب الحق.
__________
(1) وهي جارية معتقة لأبي لهب أسلمت، وماتت بمكة بعد هجرته عليه الصلاة والسلام
(2) ابو لهب عم النبي صلّى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى وكنى بذلك لتوقد لونه وذكر القرآن بهذه الكنية للاشارة إلى انه جهنمي. مات بعد غزوة بدر.
(3) الحديث رواه ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم.
(4) كما رواه الشيخان.
(5) الزوجة الاولى للنبي صلّى الله عليه وسلم وهي التي حملت معه الكثير من اعباء الدعوة الى الله تعالى في اول رسالته افضل نسائه عليه الصلاة والسلام لما قاسته من الآلام وكابدته من العناء حتى ماتت رضي الله عنها بعد حصار المسلمين في شعب بني هاشم وقبل الهجرة الى المدينة.
(6) الكل: ثقيل الحمل، العاجز عن تحمله.(1/261)
الفصل التّاسع عشر التواضع
وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِ وَرِفْعَةِ رُتْبَتِهِ، فَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعًا وَأَعْدَمَهُمْ كِبْرًا.
- وَحَسْبُكَ أَنَّهُ «1» خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا، أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، فَقَالَ لَهُ إِسْرَافِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ:
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ أَنَّكَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «2» ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ، وأول شافع.
وعن «3» أبي أمامة «4» قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(3) هذا الحديث رواه أبو داوود وابن ماجه مسندا.
(4) الباهلي والسهمي وهو صدي بن عجلان بن وهب أخرج له الستة وهو من بقايا الصحابة بحمص توفي سنة 81 هـ.(1/262)
مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَالَ: «لَا تقوموا كما يقوم الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» .
وَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» .
- وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَعُودُ الْمَسَاكِينَ، وَيُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مُخْتَلِطًا بِهِمْ، حَيْثُمَا انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ «1» جَلَسَ.
وفي «2» حديث عمر «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ. إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا:
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» .
وَعَنْ «4» أَنَسٍ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَّةً، قَالَ اجْلِسِي يا أم فلان، في
__________
(1) كما في حديث هند بن أبي هالة.
(2) على ما روى البخاري.
(3) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(4) رواه مسلم.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .(1/263)
أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسُ إِلَيْكِ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ» قَالَ:
فَجَلَسَتْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حاجتها.
قال «1» أنس «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ.
- وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مخطوم «3» بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ «4» ، قَالَ: وَكَانَ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْإِهَالَةِ «5» السَّنِخَةِ فَيُجِيبُ.
قَالَ «6» : وَحَجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ مَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دراهم، فقال: «اللهم اجعله حجا مبرورا، لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةً»
- هَذَا، وَقَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ، وَأَهْدَى «7» فِي حَجِّهِ ذَلِكَ مئة بدنة
__________
(1) رواه أبو داوود والبيهقي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) محظوم: أي في رأسه خطام وهو الزمام.
(4) اكاف: بردعة.
(5) الاهالة: كل ما يؤتدم به من إدام. وقيل الشحم والالية المذابه.
(6) اي أنس.
(7) كما روى مسلم عنه.(1/264)
- وَلَمَّا «1» فُتِحَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ، وَدَخَلَهَا بِجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ طأطأ على رحله رأسه حتى كاديمس قَادِمَتَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى.
- وَمِنْ تَوَاضُعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ «2» : «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يونس «3» بن مَتَّى، وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تُخَيِّرُونِي «4» عَلَى مُوسَى «5» وَنَحْنُ «6» أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ «7» » .
وَقَالَ «8» : لِلَّذِي قَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَعْدَ هَذَا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى-.
__________
(1) رواه ابن اسحق والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها. والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه.
(2) قال الشيخ الجليل جلال الدين السيوطي رحمه الله: لم أقف عليه بهذا اللفظ، والذي في البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متى. وفي سنن أبي داوود: ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى. وفي الصحيحين (لعبد) بدل (لنبي) .
(3) وهو نبي من أنبياء الله ورسله وهو صاحب الحوت الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في مواطن عدة.
(4) رواه الشيخان مع سببه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «208» رقم «2» .
(6) رواه الشيخان.
(7) الداعي: هو رسول الملك.
(8) رواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي.(1/265)
وعن «1» عائشة «2» والحسن «3» وأبي سعيد «4» وغيرهم رضي الله عنهم: في صفته.. وبعضهم يزيد على بعض: كان في بيته في مهنة أهله، يغلي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ، وَيَقُمُّ الْبَيْتَ، وَيَعْقِلُ الْبَعِيرَ وَيَعْلِفُ نَاضِحَهُ، وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ، وَيَعْجِنُ مَعَهَا وَيَحْمِلُ بِضَاعَتَهُ مِنَ السُّوقِ.
وَعَنْ «5» أَنَسٍ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا.
- وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَأَصَابَتْهُ مِنْ هَيْبَتِهِ رِعْدَةٌ.
فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قريش تأكل القديد» «7» .
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(3) اي البصري تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» وكان حقه أن يقدم أبا سعيد على الحسن البصري الا أن يكون الحسن بن علي. ولكن قاعدة المحدثين اذا أطلق الحسن اريد به البصري.
(5) رواه البخاري في الأدب تعليقا ووصله ابن ماجه.
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(7) الحديث تقدم.(1/266)
وَعَنْ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ السُّوقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ «3» ، وَقَالَ لِلْوَزَّانِ: زِنْ وَأَرْجِحْ ...
وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. قَالَ «4» : فَوَثَبَ إِلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُهَا، فَجَذَبَ يَدَهُ، وَقَالَ: «هَذَا تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ بِمُلُوكِهَا، وَلَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ،» .
ثُمَّ أَخَذَ السَّرَاوِيلَ ... فَذَهَبْتُ لِأَحْمِلَهُ فَقَالَ: «صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يحمله» .
__________
(1) رواه الطبراني في الاوسط بسند ضعيف.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) فارسي معرب.
(4) أبو هريرة.(1/267)
الفصل العشرون العدل والأمانة والعفّة وصدق اللهجة
وَأَمَّا عَدْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَانَتُهُ، وَعِفَّتُهُ وَصِدْقُ لَهْجَتِهِ، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ النَّاسِ، وَأَعْدَلَ النَّاسِ، وَأَعَفَّ النَّاسِ، وَأَصْدَقَهُمْ لَهْجَةً مُنْذُ كَانَ، اعْتَرَفْ لَهُ بِذَلِكَ مُحَادُّوهُ «1» وَعِدَاهُ.
- وَكَانَ يُسَمَّى قَبْلَ نَبُّوتِهِ «الْأَمِينَ» .
قال «2» ابن اسحق «3» : كَانَ يُسَمَّى الْأَمِينَ، بِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الصَّالِحَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» «4» .
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وَلَمَّا «5» اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ وَتَحَازَبَتْ عِنْدَ بناء الكعبة فيمن
__________
(1) محادوه: مخالفوه.
(2) رواه أحمد في مسنده والحاكم والطبراني عن علي كرم الله وجهه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «72» رقم «7» .
(4) سورة التكوير (21) .
(5) رواه أحمد والحاكم وصححه الطبراني وابن ماجة وابن راهويه وابن أبي أمامة(1/268)
يَضَعُ الْحَجْرَ، حَكَّمُوا أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ وَذَلِكَ قَبْلَ نبوته، فقالوا: هذا محمد. هذا الأمين، قد رضيناه بِهِ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ «1» بْنِ خُثَيْمٍ: كَانَ يَتَحَاكَمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ «2» .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ، أمين في الأرض» .
وعن «4» عَلِيٍّ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فأنزل الله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «6» » الْآيَةَ.
وَرَوَى غَيْرُهُ «7» : لَا نُكَذِّبُكَ، وَمَا أَنْتَ فينا بمكذب.
__________
(1) الربيع بن خثيم بن عابد روى عن ابن مسعود وأبي أيوب وروى عنه خلق كثير، كان ثقة عابدا، قال له ابن مسعود: لو رآك النبي صلّى الله عليه وسلم لأحبك، أخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة 67 هـ.
(2) رواه ابن ابي شيبة في مسنده عن أبي رافع.
(3) رواه الترمذي.
(4) أي غير الترمذي زيادة عليه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(6) « ... وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» الأنعام (33) .
(7) رواه ابن سعد.(1/269)
وَقِيلَ «1» : إِنَّ الْأَخْنَسَ «2» بْنَ شُرَيْقٍ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ «3» يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الحكم: ليس هناك غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا، تُخْبِرُنِي عَنْ مُحَمَّدٍ، صادق هو أم كَاذِبٌ؟
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ. وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ.
وَسَأَلَ هِرَقْلُ «4» عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ «5» ، فَقَالَ «6» : هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟. قَالَ لَا ...
وَقَالَ «7» النَّضْرُ بْنُ «8» الْحَارِثِ لِقُرَيْشٍ: قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى
__________
(1) أخرجه ابن اسحاق والبيهقي عن الزهري، وكذا ابن جرير عن السدي، والطبراني في الأوسط.
(2) الأخنس بن شريق: هو أبي بن شريق بن عمرو الثقفي، سمي بالأخنس لأنه رجع ببني زهرة يوم بدر ثم أسلم، فكان من المؤلفة وشهد حنينا ومات في أول خلافة عمر.
(3) عدو الله من أكبر المؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. قتل يوم بدر، على يد معوذ ومعاذ ابني عفراء الأنصاريين.
(4) ملك الروم آنئذ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «229» رقم «1» .
(6) رواه الشيخان، والقصة مفصلة في أول البخاري.
(7) رواه ابن اسحاق والبيهقي عن ابن عباس.
(8) كان شديد العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلم، أخذ أسيرا ببدر فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم عليا فقتله بالصفراء بعد الواقعة.(1/270)
إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ، وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ: سَاحِرٌ!! لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ..
وَفِي الْحَدِيثِ «1» عَنْهُ: مَا لَمَسَتْ يده يد امْرَأَةً قَطُّ لَا يَمْلِكُ رِقَّهَا وَفِي حَدِيثِ «2» علي رضي الله عنه فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً..
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ «3» : «وَيْحَكَ «4» فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ.
خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» .
قَالَتْ «5» عَائِشَةُ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أبعد الناس منه.
وقال أبو العباس «7» المبرد:
__________
(1) رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.
(2) رواه الترمذي في شمائله.
(3) في الحديث الصحيح وقد تقدم.
(4) والذي في البخاري في باب الادب (ويلك) بدل (ويحك) . و (ويل) كلمة زجر وتوبيخ، و (ويح) كلمة ترحم، و (ويس) كلمة ترحم دونها وهو معنى قول الاحمصي أنها تصغيرهما.
(5) على ما سبق من رواية الترمذي وغيره عنها.
(6) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(7) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي شيخ أهل النحو والعربية في البصرة أخذ عن أبي عمرو الجرمي وأبي عثمان المازني صنف كتبا كثيرة أشهرها الكامل ومن أكبرها المقتضب ولد سنة 210 هـ وتوفي سنة 285 هـ.(1/271)
قَسَّمَ كِسْرَى «1» أَيَّامَهُ. فَقَالَ: يَصْلُحُ يَوْمُ الرِّيحِ لِلنَّوْمِ، وَيَوْمُ الْغَيْمِ لِلصَّيْدِ، وَيَوْمُ الْمَطَرِ لِلشُّرْبِ وَاللَّهْوِ، وَيَوْمُ الشَّمْسِ لِلْحَوَائِجِ.
قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ «2» : مَا كَانَ أَعْرَفَهُمْ بِسِيَاسَةِ دُنْيَاهُمْ، «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «3» » .
- وَلَكِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَّأَ «4» نهاره ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يَسْتَعِينُ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ وَيَقُولُ «5» : «أَبْلِغُوا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا أَمَّنَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ»
وَعَنِ «6» الْحَسَنِ «7» : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يأخذ أحدا
__________
(1) ملك الفرس و «كسرى» لقب لكل من ملكهم.
(2) محمد بن خالويه النحوي اللغوي الأديب الهمداني دخل بغداد ثم انتقل الى الشام أخذ عن ابن الأنباري والسيرافي وتصدر للافادة وله تآليف جليلة وشعر حسن مات بحلب سنة 370 هـ.
(3) سورة الروم «7» .
(4) حديث أنه جزأ نهاره هو بعض حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه.
(5) رواه الطبراني في الكبير بسند حسن عن أبي الدرداء، ولفظه: ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة.. وكذا لفظ الترمذي في الشمائل برواية الحسن عن أخيه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم.
(6) رواه أبو داوود في مراسيله.
(7) أي البصري تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .(1/272)
بِقَرْفِ «1» أَحَدٍ، وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ.
وذكر «2» أبو جعفر «3» الطبري: عن علي «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» : «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ.
قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلَامٍ كَانَ يَرْعَى مَعِي: لَوْ أَبْصَرْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ «6» بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشَّبَابُ، فخرجت لذلك حَتَّى جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالْمَزَامِيرِ لِعُرْسِ بَعْضِهِمْ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ فَضُرِبَ عَلَى أُذُنَيَّ فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. ثُمَّ عَرَانِي مَرَّةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ أهمّ بعد ذلك بسوء» .
__________
(1) بقرف: بذنب.
(2) رواه ابن راهويه في مسنده، والبيهقي في دلائله عن علي كرم الله وجهه.
(3) وهو محمد بن جرير تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «2» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(5) اعاد المؤلف ذكر هذا الحديث هنا مع تقدمه لافادة زيادة قوله.
(6) السمر: أصله ضوء القمر ثم أطلق على الحديث فيه.(1/273)
الفصل الحادي والعشرون الوقار والصّمت والتؤدة والمروءة وحسن الهدي
وَأَمَّا وَقَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَمْتُهُ وتؤدته ومروءته وحسن هديه.
فعن «1» عُمَرَ «2» بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ وُهَيْبٍ: سَمِعْتُ خَارِجَةَ «3» بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم أو قر النَّاسِ فِي مَجْلِسِهِ، لَا يَكَادُ يُخْرِجُ شَيْئًا من أطرافه.
وروى «4» أبو سَعِيدٍ «5» الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه أبو داوود مرسلا.
(2) عمر بن عبد العزيز بن وهيب وهو أنصاري مولى لزيد بن ثابت أخرج له أبو داوود في المراسيل قال الذهبي في الميزان: لا يعرف..
(3) خارجة بن زيد بن ثابت الانصاري المدني التابعي أحد فقهاء المدينة السبعة توفي سنة 99 هـ.
(4) رواه أبو داوود والترمذي في شمائله.
(5) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .(1/274)
إذا جلس في المجلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه صلى الله عليه وسلم محتبيا.
وعن «1» جابر «2» بن سمره وهو «3» في حديث قيلة «4» : أنه تربع، وربما جلس القرفصاء، وَكَانَ كَثِيرَ السُّكُوتِ، لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَّةٍ. يُعْرِضُ عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ جَمِيلٍ.
وَكَانَ «5» ضحكه تبسما، وكلامه فصلا، لَا فُضُولَ وَلَا تَقْصِيرَ.
وَكَانَ ضَحِكُ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ التَّبَسُّمُ تَوْقِيرًا لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ.
مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَخَيْرٍ وَأَمَانَةٍ، لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ وَلَا تُؤْبَنُ «6» فِيهِ الْحُرَمُ إِذَا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطَّيْرُ.
وَفِي صِفَتِهِ «7» : يَخْطُو تَكَفُّؤًا «8» ، وَيَمْشِي هَوْنًا، كأنما ينحط من صبب «9» .
__________
(1) رواه مسلم وأبو داوود.
(2) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «8» .
(3) رواه الترمذي.
(4) قيلة بنت مخرمة العنبرية وقيل الغنوية، روت عنها حنفية ودحيبية ابنتا عليبة.
(5) شمائل الترمذي.
(6) تؤبن: لا ترمى بصريح ولا تذكر بقبيح.
(7) كما في الشمائل.
(8) تكفؤا: أي مائلا للامام.
(9) صبب: منحدر.(1/275)
وفي الحديث الآخر: إذا مَشَى مُجْتَمِعًا، يُعْرَفُ فِي مِشْيَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ غَرَضٍ «1» وَلَا وَكِلٍ «2» . أَيْ غَيْرِ ضَجِرٍ وَلَا كَسْلَانَ.
وَقَالَ «3» عَبْدُ اللَّهِ «4» بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وعن «5» جابر «6» بن عبد الله: كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ترتيل وترسيل «7» .
قَالَ ابْنُ أَبِي هَالَةَ «8» : كَانَ سُكُوتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ.
عَلَى الْحِلْمِ، وَالْحَذَرِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّفَكُّرِ.
قَالَتْ «9» عائشة «10» رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدّث حديثا لو عدّه العادّ أحصاه.
__________
(1) الغرض: الضجر والملال.
(2) وكل: عاجز.
(3) رواه البخاري موقوفا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(5) رواه أبو داوود، والامام أحمد في الزهد.
(6) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(7) ترسيل؛ عطف تفسير لترتيل. وفي نسخة صحيحة ب (أو) على شك من الراوي.
(8) هو هند بن ابي هالة تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «6» .
(9) رواه الشيخان.
(10) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .(1/276)
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الطِّيبَ والرائحة الحسنة، ويستعملها كَثِيرًا وَيَحُضُّ عَلَيْهِمَا وَيَقُولُ «1» : «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» .
- وَمِنْ مُرُوءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيُهُ «2» عَنِ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْأَمْرِ «3» بِالْأَكْلِ مِمَّا يَلِي، وَالْأَمْرِ بِالسِّوَاكِ، وَإِنْقَاءِ الْبَرَاجِمِ «4» والرواجب «5» ، واستعمال خصال الفطرة «6» ..
***
__________
(1) كما رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث أنس باسناد جيد. وضعفه العقيلي وليس فيه لفظ (ثلاث) وهي خطأ فاحش يبطله سياق الحديث «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ايماء انها ليست من الدنيا.
(2) رواه احمد ... ولأبي داوود وابن ماجه والترمذي وصححه؛ نهيه عن النفخ في الإناء وللترمذي في الشراب.
(3) لحديث الشيخين: قل باسم الله، وكل بيمينك مما يليك.
(4) البراجم: جمع برجمة، مفصل الأصابع من ظاهر الكف.
(5) رواجب: جمع راجبة مفصل الأصابع من باطن الكف.
(6) وهي فيما رواه الشيخان خمس: الختان- والاستحداد- وقص الشارب- وتقليم الأظافر- ونتف الأبط- (زاد مسلم) .. المضمصه- وإعفاء اللحية- والاستنجاء. (وابو داوود) من حديث عمار، الانتضاح. ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرق الرأس. - هذا والاستنشاق في معنى المضمضة.(1/277)
الْفَصْلُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا
وَأَمَّا زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ أَثْنَاءَ هَذِهِ السِّيرَةِ مَا يَكْفِي.
وَحَسْبُكَ مِنْ تَقَلُّلِهِ مِنْهَا، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ زَهْرَتِهَا، وَقَدْ سِيقَتْ إِلَيْهِ بِحَذَافِيرِهَا، وَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِ فُتُوحُهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ «1» مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ «2» : «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» .
عَنْ «3» عَائِشَةَ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزٍ حَتَّى مَضَى لسبيله.
__________
(1) سبق تفصيله. وهو حديث صحيح رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.
(2) كما رواه الشيخان. وفي رواية مسلم والترمذي وابن ماجة: اللهم اجعل رزق آل محمد في الدنيا قوتا.
(3) اخرجه البخاري، وهو في أواخر مسلم، ورواه غيرهما أيضا.
(4) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .(1/278)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ متواليين، ولو شاء لأعطاه الله مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «1» : مَا شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَتْ «2» عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا. وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا.
وَفِي حَدِيثِ «3» عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ «4» : مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلا سلاحه وبغلته «5» ، وأرضا جعلها صدقة.
وقالت «6» عَائِشَةُ «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ مَاتَ وَمَا فِي بَيْتِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شطر شعير في رف لِي.
وَقَالَ لِي «8» : «إِنِّي عُرِضَ عَلَيَّ أَنْ يجعل لي بطحاء مكة ذهبا
__________
(1) للشيخين.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري عنه.
(4) ابن أبي ضرار بن عائذ المصطلقي أخو جويرية زوج النبي صلّى الله عليه وسلم ولأبيه صحبه كما روى البخاري.
(5) وهذا مما علقه الحلبي على البخاري.
(6) رواه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(8) حديث «عرض علي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا..» أخرجه الترمذي عن أبي أمامة بلفظ: فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك.(1/279)
فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، أَجُوعُ يَوْمًا، وَأَشْبَعُ يَوْمًا. فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ، فَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ وَأَدْعُوكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَشْبَعَ فِيهِ فَأَحْمَدُكَ وَأُثْنِي عَلَيْكَ» .
وَفِي حَدِيثٍ «1» آخَرَ: أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ هَذِهِ الْجِبَالَ ذَهَبًا، وَتَكُونَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
«يَا جِبْرِيلُ. إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ. وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، قَدْ يَجْمَعُهَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» .
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ.
وَعَنْ «2» عائشة «3» رضي الله عنها قالت: إن كنا آل محمد لنمكث
__________
(1) قال الدلجي: لا أدري من رواه بهذا اللفظ. وقال السيوطي رحمه الله لم أجده هكذا، ولكن البيهقي رحمه الله تعالى أخرجه في الزهد من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوما: ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق، فأتاه إسرافيل عليه الصلاة والسلام فقال؛ ان الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح الارض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فعلت» ونحوه أخرجه ابن سعد وابن عساكر في تاريخه والطبراني وأخرج أحمد حديث: الدنيا دار من لا دار له.
(2) رواه الشيخان.
(3) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .(1/280)
شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ نَارًا إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ «1» .
وَعَنْ «2» عَبْدِ الرَّحْمَنِ «3» بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه: هَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ «4» وَابْنِ عَبَّاسٍ «5» رضي الله عنهم: نحوه.
قال «6» ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ هُوَ وَأَهْلُهُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، لَا يَجِدُونَ عَشَاءً.
وَعَنْ «7» أَنَسٍ «8» رضي الله عنه قال: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ «9» ، وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ «10» ، وَلَا خبز له مرقق ولا رأى
__________
(1) وفي رواية الاسودان.
(2) رواه الترمذي والبزار بسند حسن.
(3) عبد الرّحمن بن عوف بن عبد عوف القرشي الزهري أبو محمد أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى أسلم قديما قبل دخول دار الأرقم وهاجر الهجرتين وشهد بدرا وسائر المشاهد كان طويلا أبيض مشربا بالحمرة حسن الوجه توفي سنة 31 هـ ودفن بالبقيع.
(4) أبو أمامة بن ثعلبة الانصاري روى أحاديث منها عند مسلم وأصحاب السنن.
(5) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(6) رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه.
(7) رواه البخاري.
(8) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(9) المائدة المرتفعة.
(10) سكرجة: فارسية.. الاناء الصغير يؤكل فيه الأدم. وأكثر ما يوضع فيه المخللات والمرغبات.(1/281)
شَاةً سَمِيطًا «1» قَطُّ.
وَعَنْ «2» عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا، حَشْوُهُ لِيفٌ.
وَعَنْ «3» حَفْصَةَ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ مِسْحًا «5» نَثْنِيهِ ثَنْيَتَيْنِ، فَيَنَامُ عَلَيْهِ فَثَنَيْنَاهُ لَهُ لَيْلَةً بِأَرْبَعٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ «مَا فَرَشْتُمُوا لِيَ اللَّيْلَةَ» ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «رُدُّوهُ بِحَالِهِ. فَإِنَّ وَطْأَتَهُ مَنَعَتْنِي اللَّيْلَةَ صلاتي» .
- وكان «6» ينام أحيانا على سرير مرمول «7» بِشَرِيطٍ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِي جَنْبِهِ.
وَعَنْ «8» عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لم يمتليء جوف النبي
__________
(1) السميط: المشوي بجلده.
(2) برواية الصحيحين.
(3) رواه الترمذي في الشمائل.
(4) حفصة بنت عمر أم المؤمنين كانت قبل ان يتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم عند حصن بن حذافة وكان ممن شهد بدرا ثم مات بالمدينة وتوفيت هي بالمدينة سنة 41 هـ.
(5) مسحا: بلاسا من شعر أبيض، وقيل أسود.
(6) رواه الشيخان، والترمذي وابن ماجه.
(7) مرمول: منسوج بحبل مفتول بسعف.
(8) قال الدلجي: لم ادر من روى هذا الحديث ... لكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره عنها قريبا من هذا المعنى.(1/282)
صلى الله عليه وسلم سبعا قَطُّ. وَلَمْ يَبُثَّ شَكْوَى إِلَى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْغِنَى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعًا يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ فَلَا يَمْنَعُهُ صِيَامُ يَوْمِهِ. وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الْأَرْضِ وَثِمَارِهَا، وَرَغَدَ عَيْشِهَا ولقد أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أَرَى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي عَلَى بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَقُولُ: نَفْسِي لَكَ الْفِدَاءُ، لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدنيا بما يقوتك.
فيقول: «يا عائشة. مالي وَلِلدُّنْيَا، إِخْوَانِي مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، فَمَضَوْا عَلَى حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحْيِي إِنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي أَنْ يُقَصِّرَ بِي غَدًا دُونَهُمْ. وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بِإِخْوَانِي وَأَخِلَّائِي»
قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إِلَّا شَهْرًا حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.(1/283)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الخوف من الله والطّاعة له وشدّة العبادة
وَأَمَّا خَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَطَاعَتُهُ لَهُ، وَشِدَّةُ عبادته، فعلى قدر علمه بربه.
عن «1» أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» .
زَادَ «2» فِي رِوَايَتِنَا عَنْ أَبِي عِيسَى «3» التِّرْمِذِيِّ. رفعه إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في الدقائق. وروى احمد والبخاري ايضا ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس، وزاد الحاكم عن أبي ذر (ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب) . ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء بزيادة «ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون الى الله تعالى.. لا تدرون تنجون أو لا تنجون» وأبو هريرة تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(2) زاد شيخنا أو بعض مشايخنا.
(3) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «4» .(1/284)
أَبِي «1» ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «2» .
«إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أطّت «3» السماوات، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ. مَا فِيهَا مَوْضِعُ أربع أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ. وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعْدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ. لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعَضَدُ» .
رُوِيَ هَذَا الْكَلَامُ «وَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ» مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ نَفْسِهِ «4» ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَفِي حَدِيثِ «5» الْمُغِيرَةِ «6» : صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه.
__________
(1) هو جندب بن جنادة ابن سكن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبتدئه اذا حضر ويفتقده اذا غاب. وكان يقول في حقه «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر» وقال أيضا في حقه رضي الله عنه «يرحم الله ابا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر وحده، توفي بالربدة سنة 31 هـ.
(2) مرفوعا كما صرح به الترمذي في الزهد وقال: حسن غريب. ويروى عن أبي ذر موقوفا. واخرج ابن ماجه فيه نحوه، ورواه محمد بن حميد الرازي ورفعه أيضا.
(3) اطت: أحدثت صوتا لقوة ما فوقها من ثقل.
(4) فهو كلام مدرج.
(5) رواه الشيخان وغيرهما.
(6) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي اسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان وهو من دهاة العرب ويقال له مغيرة الرأي توفي سنة 5 هـ.
.(1/285)
وَفِي رِوَايَةٍ «1» : كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!
قَالَ: «أفلا أكون عبدا شكورا» !!
وعن «2» أبي سلمة «3» وأبي هريرة «4» رضي الله عنهما نحوه.
وَقَالَتْ «5» عَائِشَةُ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيمَةً. وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُ؟
وَقَالَتْ «7» : كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نقول: لا يصوم.
وعن «8» ابن عباس «9» وأم سلمة «10» وأنس «11» رضي الله عنهم نحوه.
__________
(1) أي لهما عنه.
(2) الذي في الشمائل للترمذي: عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
(3) أبو سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف الزهري التابعي أحد الفقهاء السبعة في المدينة.
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) رواه الشيخان.
(6) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(7) فيما روياه عنها أيضا.
(8) حديث ابن عباس أخرجه الشيخان، وحديث أم سلمة أخرجه الترمذي والنسائي، وحديث أنس أخرجه البخاري والترمذي.
(9) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(10) أعقل نساء النبي صلّى الله عليه وسلم كانت تحت أبي سلمة بن عبد الاسد المخزومي وتزوجها بعده الرسول صلّى الله عليه وسلم وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة وذلك في إمارة يزيد..
(11) تقدمت ترجمته ص «47» رقم «1» .(1/286)
وقال: كنت لا تشاء أن تراه في اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا.
وَقَالَ «1» عَوْفُ بْنُ «2» مَالِكٍ رضي الله عنه: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَاسْتَاكَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ مَعَهُ.
فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ، فَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ:
«سُبْحَانَ ذِي الجبروت والملكوت والكبرباء والعظمة» ، ثم سجد، وقال قبل ذَلِكَ. ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ سُورَةً سورة يفعل مثل ذلك.
وعن حذيفة «3» رضي الله عنه: مِثْلُهُ «4» وَقَالَ: سَجَدَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَجَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْهُ، وَقَالَ: حَتَّى قَرَأَ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة.
__________
(1) رواه أبو داوود والنسائي.
(2) هو عبد الرّحمن الاشجعي الصحابي الجليل القدر رضي الله عنه سكن الشام وتوفي أيام عبد الملك سنة 73 هـ..
(3) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4» .
(4) مثل حديث عوف كما في مسلم.(1/287)
وعن «1» عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً.
وَعَنْ «2» عَبْدِ الله بن «3» الشّخير رضي الله عنه: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ.
قَالَ «4» ابن أبي هالة «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «6» «إني لأستغفر الله في اليوم مئة مَرَّةٍ» وَرُوِيَ «7» «سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَعَنْ «8» عَلِيٍّ «9» رَضِيَ الله عنه قال: سألت
__________
(1) برواية الترمذي عن عائشة وأخرجه أحمد والنسائي بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه وفسر الآية: إن تعذبهم فإنهم عبادك.
(2) رواه أبو داوود والترمذي والنسائي.
(3) ابن عوف بن كعب العامري الصحابي البصري المخضرم الذي أدرك الجاهلية والاسلام روى له أصحاب الكتب الستة.
(4) رواه الطبراني والقضاعي. وقال ابن القيم كما سيأتي إنه لم يثبت. وفي سنده من لا يعرف، ولا أعلم صحته
(5) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «6» .
(6) رواه مسلم وغيره.
(7) كما في البخاري والترمذي.
(8) هذا الحديث ذكره في الإحياء، وقال العراقي، إنه لا أصل له، وقال السيوطي رحمه الله تعالى إنه موضوع، واثار الوضع لائحة عليه وهو يشبه كلام الصوفية. والمؤلف ثقة حجة فحسن الظن به انه ما رواها الا عن بينة وان لم تكن عندنا بينة.
(9) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .(1/288)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنّته.
فقال: «المعرفة رأس مالي، وَالْعَقْلُ أَصْلُ دِينِي، وَالْحُبُّ أَسَاسِي، وَالشَّوْقُ مَرْكَبِي، وَذِكْرُ اللَّهِ أَنِيسِي، وَالثِّقَةُ كَنْزِي، وَالْحُزْنُ رَفِيقِي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضاء غَنِيمَتِي، وَالْعَجْزُ فَخْرِي، وَالزُّهْدُ حِرْفَتِي، وَالْيَقِينُ قُوَّتِي، وَالصِّدْقُ شَفِيعِي، وَالطَّاعَةُ حَسْبِي، وَالْجِهَادُ خُلُقِي، وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «وَثَمَرَةُ فُؤَادِي فِي ذِكْرِهِ، وَغَمِّي لِأَجْلِ أُمَّتِي وَشَوْقِي إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.(1/289)
الفصل الرابع والعشرون صفات الأنبياء
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ صِفَاتَ جَمِيعِ الأنبياء والرسل، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ كَمَالِ الْخَلْقِ، وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَشَرَفِ النَّسَبِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَجَمِيعِ الْمَحَاسِنِ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ، لِأَنَّهَا صِفَاتُ الْكَمَالِ.
وَالْكَمَالُ وَالتَّمَامُ الْبَشَرِيُّ، وَالْفَضْلُ، الْجَمِيعُ لَهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِذْ رُتْبَتُهُمْ أَشْرَفُ الرُّتَبِ وَدَرَجَاتُهُمْ أَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ.
- وَلَكِنْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» «1»
وَقَالَ «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «2»
__________
(1) البقرة «252» .
(2) الدخان «32» .(1/290)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» .
ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْحَدِيثِ «2» «عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» .
وَفِي حَدِيثِ «3» أبي هريرة «4» رضى الله عنه: رَأَيْتُ مُوسَى، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ «5» ، رَجُلٌ «6» ، أَقْنَى «7» ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ «8» .
وَرَأَيْتُ عِيسَى، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ «9» ، كَثِيرُ خِيلَانِ «10» الْوَجْهِ، أحمر كأنما خرج من ديماس «11» .
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) واختصره المصنف لطوله.
(3) رواه الشيخان.
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) ضرب: خفيف اللحم.
(6) رجل: شعره بين الجعودة والسبوطة.
(7) أقنى: طويل الانف مع ارتفاع وسطه ودقة ارنبته.
(8) شنوءة: قبيلة من اليمن ...
(9) ربعة: بين الطول والقصر.
(10) خيلان: جمع خال، وهي نقطة سوداء تسمى شامة.
(11) ديماس: الستر الذي لا يرى الشمس. أو الحمام.(1/291)
وَفِي حَدِيثٍ «1» آخَرَ: مُبَطَّنٌ مِثْلَ السَّيْفِ.
قَالَ: «وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ» .
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ «2» آخَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى: «كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ» .
وَفِي حَدِيثِ «3» أَبِي هُرَيْرَةَ «4» : عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ لُوطٍ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ» وَيُرْوَى «فِي ثَرْوَةِ» أَيْ كَثْرَةٍ وَمَنَعَةٍ.
وَحَكَى «5» التِّرْمِذِيُّ «6» عَنْ «7» قَتَادَةَ «8» ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «9» مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ «10» عن «11» أنس «12» : ما بعث الله نبيا إلا
__________
(1) قال الدلجي: لا أعرف من رواه.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه ابو يعلى وابن جرير وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) بل روى في الشمائل.
(6) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «4» .
(7) أي مرسلا.
(8) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «158» رقم «1» .
(10) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(11) أي موقوفا.
(12) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .(1/292)
حَسَنَ الْوَجْهِ، حَسَنَ الصَّوْتِ، وَكَانَ نَبِيُّكُمْ أَحْسَنُهُمْ صَوْتًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ «1» هِرَقْلَ «2» : وَسَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَنْسَابِ قَوْمِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى فِي أَيُّوبَ «3» : «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً. نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «4» .
وقال تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ» إلى قوله: «وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا»
«5» .
وقال: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» إلى «الصَّالِحِينَ» «6» .
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «7» » الآيتين.
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) ملك الروم انئذ.
(3) نبي من أنبياء الله تعالى ورسله ورد ذكره في القرآن الكريم واشتهر بجلده وصبره على البلاء.
(4) سورة ص «54» .
(5) «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا، وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا» . سورة مريم من (12 إلى 15) .
(6) «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» آل عمران (39)
(7) «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» سورة آل عمران من (33 إلى 34) .(1/293)
وَقَالَ فِي نُوحٍ: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً «1» » .
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ» إلى «الصَّالِحِينَ «2» » .
وقال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ» إلى «ما دُمْتُ حَيًّا «3» »
وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى «4» » الْآيَةَ..
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» : «كَانَ مُوسَى رَجُلًا حَيِيًّا سَتِيرًا مَا يُرَى مِنْ جَسَدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً» الْحَدِيثُ.
وَقَالَ تَعَالَى عنه: «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً «6» » الْآيَةَ.
وَقَالَ فِي وَصْفِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ «7» » .
__________
(1) الاسراء رقم (3) « ... ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً»
(2) «عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» آل عمران (45)
(3) «وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» سورة مريم من 30 إلى 31.
(4) «فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» سورة الأحزاب «69» .
(5) رواه الشيخان.
(6) «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» ، سورة الشعراء «21» .
(7) سورة الشعراء «107» .(1/294)
وَقَالَ: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ «1» » .
وقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2» » .
وَقَالَ: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، كُلًّا هَدَيْنا» إلى قوله: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «3» » .
- فَوَصَفَهُمْ بِأَوْصَافٍ جَمَّةٍ مِنَ الصَّلَاحِ، وَالْهُدَى، وَالِاجْتِبَاءِ، والحكم، والنبوة.
وقال: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ عَلِيمٌ «4» » و «حَلِيمٌ «5» » .
وَقَالَ: «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» إلى «أَمِينٌ «6» » .
__________
(1) سورة القصص «26» .
(2) سورة الأحقاف «35» .
(3) سورة الانعام 84- 90 «وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» .
(4) ليس في القرآن الكريم «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» بل الذي فيه «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» الذاريات «28» .
(5) الصافات «101» .
(6) «أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» الدخان 17- 18.(1/295)
وَقَالَ: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» » .
وَقَالَ فِي إِسْمَاعِيلَ «2» : «إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «3» » الآيتين.
وفي موسى «4» «إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً «5» » .
وفي سليمان «6» : «نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ «7» » .
وقال تعالى: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» الى «الْأَخْيارِ «8» » .
وفي داوود «9» : «إِنَّهُ أَوَّابٌ «10» » .
ثُمَّ قَالَ: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ «11» »
__________
(1) الصافات 102.
(2) ابن ابراهيم رسولان من رسل الله عليهم الصلاة والسلام وهو أبو العرب لأنه تزوج من قبيلة جرهم.
(3) «وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» سورة مريم 54.
(4) تقدمت ترجمته في ص «208» رقم «2» .
(5) سورة مريم 51.
(6) تقدمت ترجمته في ص «169» رقم «8» .
(7) سورة ص 30.
(8) «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» سورة ص 45- 47.
(9) تقدمت ترجمته في ص «197» رقم «6» .
(10) سورة ص 17.
(11) سورة ص 20.(1/296)
وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ «1» : «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «2» » .
وَفِي مُوسَى «3» : «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً «4» » .
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ شُعَيْبٍ «5» : «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ «6» »
وقال «ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ «7» » .
وقال: «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً «8» » .
وقال: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ «9» » الآية.
قَالَ سُفْيَانُ «10» : هُوَ الْحُزْنُ الدَّائِمُ فِي آيٍ كثيرة ذكر فيها من
__________
(1) بن يعقوب من رسل الله عليهم الصلاة والسلام ورد ذكره وقصته في سورة سميت باسمه في القرآن الكريم.
(2) سورة يوسف 55.
(3) تقدمت ترجمته في ص «208» رقم «2» .
(4) سورة الكهف 69.
(5) رسول من رسل الله تعالى بعثه الله الى أهل مدين وأصحاب الأيكة وورد ذكره في القرآن الكريم وكان كثير الصلاة.. أهلك الله قومه بالزلزلة.
(6) سورة القصص 27.
(7) سورة هود 88.
(8) سورة الأنبياء 74.
(9) «وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» سورة الانبياء. 9.
(10) تقدمت ترجمته في ص «186» رقم «3» .(1/297)
خِصَالِهِمْ وَمَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِمْ. وَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ.
كَقَوْلِهِ «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بن اسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنُ نَبِيٍّ» .
وَفِي حَدِيثِ «2» أَنَسٍ «3» : «وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ» .
وَرُوِيَ «4» : أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ مَعَ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْمُلْكِ لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ تَخَشُّعًا وَتَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ «5» يُطْعِمُ النَّاسَ لَذَائِذَ الْأَطْعِمَةِ، ويأكل خبز الشعير.
وأوحي إِلَيْهِ: يَا رَأْسَ الْعَابِدِينَ، وَابْنَ مَحَجَّةِ الزَّاهِدِينَ.
- وَكَانَتِ الْعَجُوزُ تَعْتَرِضُهُ، وَهُوَ عَلَى الرِّيحِ فِي جنوده،
__________
(1) رواه البخاري وابن حبان والحاكم ثم الظاهر ان قوله نبي ابن نبي الخ مدرج في كلام الراوي، أو تفسير للقاضي ... والحديث في البخاري بدون هذه الزيادة وبدون كلمة «أنما» ..
(2) رواه البخاري، وأوله: تنام عيني ولا ينام قلبي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(4) رواه الطبراني عن أبي هريرة مرفوعا ...
(5) رواه احمد في الزهد عن فرقد السنجي ...(1/298)
فَيَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَقِفُ فَيَنْظُرُ فِي حَاجَتِهَا وَيَمْضِي.
وقيل ليوسف: مالك تَجُوعُ وَأَنْتَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ؟!.
قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ، فَأَنْسَى الْجَائِعَ.
وَرَوَى «1» أَبُو هُرَيْرَةَ «2» ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُفِّفَ عَلَى داوود الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ «3» » .
- وَكَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يُغْنِيهِ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «4» «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ داوود. وأحبّ الصيام إلى الله صيام داوود. وكان يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ
__________
(1) رواه البخاري عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) سورة سبأ 11.
(4) رواه الشيخان وأحمد وأبو داوود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما.(1/299)
وَيَفْتَرِشُ الشَّعَرَ، وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالْمِلْحِ وَالرَّمَادِ «1» ، ويمزج شرابه بالدموع، ولم يرضاحكا بَعْدَ الْخَطِيئَةِ، وَلَا شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ حياء من ربه عز وجل، وَلَمْ يَزَلْ بَاكِيًا حَيَاتَهُ كُلَّهَا» .
وَقِيلَ «2» : بَكَى حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَحَتَّى اتَّخَذَتِ الدُّمُوعُ فِي خَدِهِ أُخْدُودًا.
وَقِيلَ «3» : كَانَ يَخْرُجُ متنكرا يتعرف سيرته، فيسمع الثَّنَاءَ عَلَيْهِ فَيَزْدَادُ تَوَاضُعًا.
وَقِيلَ «4» لِعِيسَى «5» عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوِ اتَّخَذْتَ حِمَارًا؟
قَالَ: أَنَا أَكْرَمُ على الله تعالى مِنْ أَنْ يَشْغَلَنِي بِحِمَارٍ.
- وَكَانَ «6» يَلْبَسُ الشَّعَرَ، وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ أَيْنَمَا أَدْرَكَهُ النَّوْمُ نَامَ. وَكَانَ أَحَبُّ الْأَسَامِي إِلَيْهِ، أن يقال له:
يا «مسكين» .
__________
(1) كما رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه ومجاهد موقوفا: وقوله: ولا شاخصا ببصره الى السماء، رواه أحمد في الزهد.
(2) بل روى ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه مرفوعا وعن مجاهد وغيره مرفوعا.
(3) كما في الكشاف وغيره.
(4) كما رواه احمد في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «5» .
(6) رواه احمد في الزهد عن عبيد بن عمير ومجاهد والشعبي وابن عساكر في تاريخه.(1/300)
وَقِيلَ «1» : إِنَّ مُوسَى «2» عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ كَانَتْ تُرَى خُضْرَةُ الْبَقْلِ فِي بطنه، من الهزال
وقال صلّى الله عليه وسلم «3» : «لَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يُبْتَلَى أَحَدُهُمْ بِالْفَقْرِ وَالْقَمْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَطَاءِ إِلَيْكُمْ» «4» .
وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخِنْزِيرٍ لَقِيَهُ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ.
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانَيِ الْمَنْطِقَ بِسُوءٍ.
وَقَالَ «5» مُجَاهِدٌ «6» : كَانَ طَعَامُ يَحْيَى «7» الْعُشْبُ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى اتَّخَذَ الدَّمْعُ مَجْرًى فِي خَدِّهِ.
وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ لِئَلَّا يخالط الناس.
__________
(1) كما رواه أحمد أيضا في الزهد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه موقوفا.
(2) تقدمت ترجمته في ص «208» رقم «2» .
(3) رواه الحاكم وصححه عن أبي سعيد مرفوعا.
(4) ولفظ الحديث ليس كما رواه المؤلف رحمه الله. وهو ما قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قلت: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال الانبياء. قلت: ثم من؟ قال العلماء. قلت ثم من؟ قال: الصالحون ... كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله ويبتلى بالفقر حتى لا يجد الا العباء يلبسها ولأحدهم اشد فرحا بالبلاء من أحدنا بالعطاء ... وهو صحيح على شرط مسلم.
(5) رواه ابن أبي حاتم وأحمد في الزهد.
(6) تقدمت ترجمته في ص «70» رقم «1» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «208» رقم «3» .(1/301)
وحكى الطبري «1» عن وهب «2» : أن موسى عليه السلام كان يستظل «3» بعريش، وكان يأكل فِي نُقْرَةٍ «4» مِنْ حَجَرٍ، وَيَكْرَعُ «5» فِيهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ، كَمَا تَكْرَعُ الدَّابَّةُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ بِمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ.
- وَأَخْبَارُهُمْ فِي هَذَا كُلِّهِ مَسْطُورَةٌ، وَصِفَاتُهُمْ فِي الْكَمَالِ وَجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الصُّوَرِ وَالشَّمَائِلِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، فَلَا نُطَوِّلُ بِهَا وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُؤَرِّخِينَ والمفسرين مما يخالف هذا..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «162» رقم «1» .
(3) هو بسقوط «لا» في أصل القاضي وثبوته في أصل العراقي.
(4) النقرة: الحفرة.
(5) يكرع: يأخذ الماء بقيه من غير كف ولا أناء فيشربه.(1/302)
الفصل الخامس والعشرون حديث الحسن عن ابن أبي هالة في جمع (الشمائل)
قَدْ أَتَيْنَاكَ- أَكْرَمَكَ اللَّهُ- مِنْ ذِكْرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمَجِيدَةِ، وَخِصَالِ الْكَمَالِ الْعَدِيدَةِ، وَأَرَيْنَاكَ صِحَّتَهَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَبْنَا مِنَ الْآثَارِ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ.
- فَمَجَالُ هَذَا الْبَابِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ممتد، ينقطع دون نفاده الأدلاء، وبحر علم خصائصه زاخرة لا تكدره الدلاء، ولكنا أتينا فيه بالمعروف مما أكثره فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَشْهُورِ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَاقْتَصَرْنَا فِي ذَلِكَ بِقِلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَغَيْضٍ «1» مِنْ فَيْضٍ «2» . ورأينا أن نختم
__________
(1) غيض: قليل.
(2) فيض: الكثير.(1/303)
هذه الفصول بذكر حديث الحسن «1» عن ابن أَبِي «2» هَالَةَ «3» ، لِجَمْعِهِ مِنْ شَمَائِلِهِ وَأَوْصَافِهِ كَثِيرًا، وَإِدْمَاجِهِ جُمْلَةً كَافِيَةً مِنْ سِيَرِهِ وَفَضَائِلِهِ. وَنَصِلُهُ بتنبيه لطيف على غريبه «4» ومشكله «5» .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: - وَاللَّفْظُ لِهَذَا السَّنَدِ «6» - سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ «7» بْنَ أَبِي هَالَةَ عَنْ حِلْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ وَصَّافًا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخْمًا «8» ، مُفَخَّمًا «9» ، يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ، وَأَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ «10» ، عَظِيمَ الْهَامَةِ.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ص 146 رقم.
(3) رواه الترمذي في شمائله واخرجه ابن سعيد. والبيهقي، والطبراني. ورواه المصنف رحمه الله تعالى عن شيخه ابن شاذان.
(4) غريبه: من جهة المبنى.
(5) مشكله: من جهة المعنى.
(6) لأن للحديث أسنادين وهذا الاسناد الأخير قال عنه التلمساني: هذا اسناد شريف لأنه مروي عن أهل البيت ومثله أسناد المروي في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال فيه الأئمة: إسناد لو ذكر على ذي علة أو حمى لبرىء، أو على مصاب لأفاق، ولو رقي به ملسوع لبرىء.
(7) رواه الترمذي في شمائله واخرجه ابن سعيد. والبيهقي، والطبراني. ورواه المصنف رحمه الله تعالى عن شيخه ابن شاذان.
(8) فخما: مهيبا.
(9) مفخما: معظما.
(10) المشذب: الطويل البائن.(1/304)
رَجِلَ الشَّعْرِ، إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ «1» فَرَقَ، وَإِلَّا فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِذَا هُوَ وَفَّرَهُ.
أَزْهَرَ اللَّوْنِ «2» .
وَاسِعَ الْجَبِينِ.
أَزَجَّ «3» الْحَوَاجِبِ، سَوَابِغَ مِنْ غَيْرِ قَرْنٍ، بَيْنَهُمَا عِرْقٌ يُدِرُّهُ «4» الْغَضَبُ.
أَقْنَى «5» الْعِرْنِينِ «6» ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ. وَيَحْسِبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ «7» كَثَّ اللِّحْيَةِ.
أَدْعَجَ «8» .
سهل الخدين.
__________
(1) عقيقته: شعر رأسه.
(2) ازهر اللون: أبيض نيرا.
(3) ازج: دقيقها مع غزارة.
(4) يدره: يحركه.
(5) اقنى: طويل الانف مع دقة نهايته، وارتفاع وسطه.
(6) العرنين: تحت مجتمع الحواجب. وهو أوله.
(7) الأشم: هو مرتفع قصبة الأنف مع ارتفاع الارنبة قليلا واستواء الاعلى.
(8) أدعج: شديد سواد الحدقة، من شدة بياض ما حولها.(1/305)
ضَلِيعَ «1» الْفَمِ، أَشْنَبَ «2» ، مُفَلَّجَ «3» الْأَسْنَانِ.
دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ. «4»
كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدُ دُمْيَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ.
مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ.
بَادِنًا، مُتَمَاسِكًا.
سَوَاءُ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، مُشِيحُ «5» الصَّدْرِ.
بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ.
ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ «6» .
أَنْوَرَ الْمُتَجَرِّدِ «7» .
مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ عَارِيَ الثَّدْيَيْنِ مَا سِوَى ذَلِكَ.
أَشَعَرَ الذِّرَاعَيْنِ، وَالْمَنْكِبَيْنِ، وَأَعَالِيَ الصَّدْرِ طَوِيلَ الزَّنْدَيْنِ.
رَحْبَ الرَّاحَةِ، شَثْنَ «8» الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ.
__________
(1) ضليع: واسع.
(2) شديد بياض الاسنان والشنب بهاؤها.
(3) مفلج: تباعد قليل في الثنايا فقط.
(4) الْمَسْرُبَةِ: خَيْطُ الشَّعْرِ الَّذِي بَيْنَ الصَّدْرِ وَالسُّرَّةِ.
(5) مشيح: باديه وظاهره.
(6) الكراديس: رؤوس العظام.
(7) المتجرد: ما تجرد من بدنه أشرق من غيره.
(8) شثن: الذي يميل إلى شيء من الغلظة لأنه أقوى.(1/306)
سَائِلَ الْأَطْرَافِ- أَوْ قَالَ سَائِنَ الْأَطْرَافِ وَسَائِرَ الْأَطْرَافِ.
سَبْطَ «1» الْعَصَبِ.
خَمْصَانَ «2» الْأَخْمَصَيْنِ.
مَسِيحَ «3» الْقَدَمَيْنِ يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ.
إِذَا زَالَ زَالَ تَقَلُّعًا، وَيَخْطُو تَكَفُّؤًا، وَيَمْشِي هَوْنًا، ذَرِيعَ «4» الْمِشْيَةَ، إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ.
وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا.
خَافِضَ الطَّرْفِ. نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ.
يَسُوقُ أَصْحَابَهُ. وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ.
قُلْتُ: صِفْ لِي مَنْطِقَهُ..
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ في غير حاجة، طويل السكوت،
__________
(1) سبط العصب: أي ان اطراف مفاصله ممتلئة من غير نتوء.
(2) خمصان الاخمصين: شديد تجافي اخمص القدمين عن الارض، وهو الموضع الذي لا يطأ الارض من القدمين..
(3) المسيح: الاملس الذي لا نتوء فيه.
(4) ذريع: سريع.(1/307)
يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ، وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فصلا «1» ، لَا فُضُولَ فِيهِ، وَلَا تَقْصِيرَ.
دَمِثًا «2» ، لَيْسَ بِالْجَافِي، وَلَا الْمَهِينِ يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ.
لَا يَذُمُّ شَيْئًا.
لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا «3» وَلَا يَمْدَحُهُ.
وَلَا يُقَامُ لِغَضَبِهِ إِذَا تَعَرَّضَ لِلْحَقِّ بِشَيْءٍ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا.
إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا.
وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا.
وَإِذَا تَحَدَّثَ اتصل بها، فضرب بابهامه اليمنى راحه الْيُسْرَى.
وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ وَإِذَا فَرِحَ غَضَّ طَرْفَهُ.
جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، وَيَفْتَرُّ عَنْ مثل حب الغمام.
__________
(1) فصلا: قاطعا جامعا مانعا.
(2) دمثا: لين الخلق سهله.
(3) ذواقا: طعاما أو شرابا.(1/308)
قال الحسن «1» : فَكَتَمْتُهَا عَنِ الْحُسَيْنِ «2» بْنِ عَلِيٍّ زَمَانًا، ثُمَّ حدثته فوجدته سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَسَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَخْرَجِهِ، وَمَجْلِسِهِ وَشَكْلِهِ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا.
قَالَ الْحُسَيْنُ «3» : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ، مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ- جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ، وَقِسْمَتُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ. مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذو الحوائج. فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلهم وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ.
وَيَقُولُ «4» «لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، وَأَبْلِغُونِي حاجة من
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «2» .
(2) الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي أبو عبد الله سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم وريحانته ولد في شعبان سنة 4 هـ وكان هو وأخوه الحسن أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وسلم (وافاه خصومه بكربلاء وقتل فيها يوم عاشوراء سنة 61 هـ.
(3) رواه الاصبهاني وفي بعض الفاظه اختلاف.
(4) رواه الاصبهاني وفي بعض الفاظه اختلاف.(1/309)
لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ.
قال «1» فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ «2» بْنِ وَكِيعٍ: يَدْخُلُونَ رُوَادًا ولا يتفرقون إلا عن ذواق، وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً- يَعْنِي فُقَهَاءَ.
قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ؟ ..
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْزُنُ لِسَانَهُ إِلَّا مِمَّا يَعْنِيهِمْ. وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُفَرِّقُهُمْ.
يُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ، وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ.
وَيَحْذَرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ بِشْرَهُ وَخُلُقَهُ.
وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ.
وَيَسْأَلُ الناس عما في الناس.
ويحسّن الحسن ويصوّ به.
__________
(1) قال أي علي بن أبي طالب.
(2) سفيان بن وكيع بن الجراح أبو محمد الكوفي وهو إمام حافظ روى عنه الترمذي والدارقطني وغيرهما وفي سنة 247 هـ.(1/310)
وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوهِنُهُ.
مُعْتَدِلَ الْأَمْرِ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ.
لَا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَمَلُّوا.
لكل حال عنده عتاد «1» .
لا يقصر عَنِ الْحَقِّ وَلَا يُجَاوِزُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ.
وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً.
وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وَمُوَازَرَةً.
فسألته عن مجلسه، عما يَصْنَعُ فِيهِ؟!
فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْلِسُ وَلَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ.
وَلَا يُوَطِّنُ «2» الْأَمَاكِنَ، وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ، حَتَّى لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ عَنْهُ.
مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، قَدْ وسع
__________
(1) عتاد: عدة ...
(2) لا يوطن: ي لا يجعل لنفسه موطنا ومكانا معينا في المجالس.(1/311)
النَّاسَ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا، وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً.
مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ، وَحَيَاءٍ، وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ، لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، وَلَا تُؤْبَنُ «1» فِيهِ الْحُرَمُ، وَلَا تُثْنَى «2» فَلَتَاتُهُ- وهذه الكلمة من غير الروايتين-
يتعاطفون بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ، يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيَرْفِدُونَ «3» ذَا الْحَاجَةِ، وَيَرْحَمُونَ الْغَرِيبَ.
فَسَأَلْتُهُ: عَنْ سِيرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُلَسَائِهِ.
فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ «4» ، وَلَا فَحَّاشٍ، وَلَا عَيَّابٍ، وَلَا مَدَّاحٍ.
يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يشتهي.
ولا يؤيس مِنْهُ.
قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، الرِّيَاءِ، وَالْإِكْثَارِ وَمَا لَا يَعْنِيهِ.
وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثلاث:
__________
(1) لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تذكر بسوء.
(2) لا تثنى: لا تذكر ولا تشاع.
(3) يرفدون: يعينون ويغيثون.
(4) وهي بمعنى صخاب.(1/312)
كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا- وَلَا يُعَيِّرُهُ- وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثوابه.
إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير.
وإذا سَكَتَ تَكَلَّمُوا.
لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ.
مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرَغَ.
حَدِيثُهُمْ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ.
يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ.
وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي الْمَنْطِقِ.
وَيَقُولُ « «إِذَا رَأَيْتُمْ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ «1» » .
وَلَا يَطْلُبُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مكافيء.
وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَتَجَوَّزَهُ فيقطعه بانتهاء أوقيام.
هنا انتهى سفيان «2» بن وكيع.
وزاد الآخر «3» :
__________
(1) فأرفدوه: أي أعطوه بعض كفايته أو أعينوه.
(2) تقدمت ترجمته أنفا.
(3) لسند المصنف من طريق ابي علي الحافظ ابن سكرة منتهيا إلى الحسن بن علي راويا عن أخيه الحسين رضي الله عنهما.(1/313)
قلت: كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
قال: كَانَ سُكُوتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ:
عَلَى الْحِلْمِ- وَالْحَذَرِ- والتقدير- والتفكير
- فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تَسْوِيَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ.
- وَأَمَّا تَفَكُّرُهُ فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى.
وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّبْرِ فَكَّانِ لَا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ يَسْتَفِزُّهُ وَجُمِعَ لَهُ فِي الْحَذَرِ أَرْبَعٌ:
- أَخْذُهُ بِالْحَسَنِ لِيُقْتَدَى بِهِ.
- وَتَرْكُهُ الْقَبِيحَ لِيُنْتَهَى عَنْهُ.
- وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ بِمَا أَصْلَحَ أُمَّتَهُ.
- وَالْقِيَامُ لَهُمْ بِمَا جَمَعَ لهم من أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
انْتَهَى الْوَصْفُ بِحَمْدِ اللَّهِ وعونه.(1/314)
الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي تَفْسِيرِ غَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمُشْكِلِهِ «1»
قَوْلُهُ: الْمُشَذَّبُ أَيِ الْبَائِنُ الطُّولِ فِي نَحَافَةٍ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ.
وَالشَّعَرُ الرَّجِلُ: الَّذِي كأنه مشط فتكسّر قليلا ليس بسبط وَلَا جَعْدٍ.
وَالْعَقِيقَةُ: شَعْرُ الرَّأْسِ أَرَادَ إِنِ انْفَرَقَتْ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهَا فَرَقَهَا وَإِلَّا تَرَكَهَا مَعْقُوصَةً وَيُرْوَى عَقِيصَتُهُ.
وَأَزْهَرُ اللَّوْنِ: نَيِّرُهُ وَقِيلَ أَزْهَرٌ حَسَنٌ وَمِنْهُ زَهْرَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْ زِينَتُهَا وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ليس بالأبيض الأمهق
__________
(1) هذا الفصل قد وضعه المؤلف- رحمه الله تعالى- شارحا فيه كلمات الحديث السابق المروي عن ابن أبي هالة وعلى أن كافة كلمات الحديث قد شرحت في مواطنها الا أننا أحببنا أن نبقي هذا الفصل زيادة في العلم وحرصا على الامانة وطمعا في بركة واخلاص المؤلف رحمه الله تعالى.(1/315)
وَلَا بِالْآدَمِ، وَالْأَمْهَقِ: هُوَ النَّاصِعُ الْبَيَاضِ، وَالْآدَمُ: الْأَسْمَرُ اللَّوْنِ، وَمِثْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَبْيَضُ مُشْرَبٌ أَيْ فِيهِ حُمْرَةٌ.
وَالْحَاجِبُ الْأَزَجُّ: الْمُقَوَّسُ الطَّوِيلُ الْوَافِرُ الشَّعْرِ.
وَالْأَقْنَى: السَّائِلُ الْأَنْفِ الْمُرْتَفِعُ وَسَطُهُ.
وَالْأَشَمُّ: الطَّوِيلُ قَصَبَةِ الْأَنْفِ.
وَالْقَرْنُ: اتِّصَالُ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ، وَضِدُّهُ الْبَلْجُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ وَصْفُهُ بِالْقَرْنِ.
وَالْأَدْعَجُ: الشَّدِيدُ سَوَادِ الحدقة، وفي الحديث الآخر: أشكل العين، وأسحر الْعَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي فِي بَيَاضِهَا حُمْرَةٌ.
وَالضَّلِيعُ: الْوَاسِعُ.
وَالشَّنَبُ: رَوْنَقُ الْأَسْنَانِ وَمَاؤُهَا، وَقِيلَ رِقَّتُهَا، وتحزيز فِيهَا كَمَا يُوجَدُ فِي أَسْنَانِ الشَّبَابِ.
وَالْفَلَجُ: فرق الثَّنَايَا.
وَدَقِيقُ الْمَسْرُبَةِ: خَيْطُ الشَّعْرِ الَّذِي بَيْنَ الصدر والسرة.
بادن: ذو لحم.
ومتماسك: مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ، يُمْسِكُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مِثْلَ قَوْلِهِ في الحديث(1/316)
الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلَا بِالْمُكَلْثَمِ، أَيْ لَيْسَ بِمُسْتَرْخِي اللَّحْمِ، وَالْمُكَلْثَمُ الْقَصِيرُ الذَّقَنِ.
وَسَوَاءُ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ: أَيْ مُسْتَوِيهِمَا.
مُشِيحُ الصَّدْرِ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَتَكُونُ مِنَ الْإِقْبَالِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي أَشَاحَ، أَيْ أَنَّهُ كَانَ بَادِيَ الصَّدْرِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِهِ قَعَسٌ وَهُوَ تَطَامُنٌ فِيهِ وَبِهِ يَتَّضِحُ قَوْلُهُ قَبْلُ سَوَاءُ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، أَيْ لَيْسَ بِمُتَقَاعِسِ الصَّدْرِ وَلَا مُفَاضِ الْبَطْنِ، وَلَعَلَّ اللَّفْظَ مَسِيحٌ بِالسِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى عَرِيضٍ كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الأخرى وحكاه ابن دريد.
الكراديس: رؤوس الْعِظَامِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ جليل المشاش، والكتد والمشاش: رؤوس الْمَنَاكِبِ وَالْكَتَدُ:
مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ.
وَشَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ: لَحِيمُهُمَا وَالزَّنْدَانِ عَظْمَا الذِّرَاعَيْنِ.
وَسَائِلُ الْأَطْرَافِ: أَيْ طَوِيلُ الْأَصَابِعِ وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ سائل الأطراف، أو قال سَائِنٌ بِالنُّونِ قَالَ: وَهُمَا بِمَعْنًى تُبْدَلُ اللَّامُ مِنَ النُّونِ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَسَائِرُ الْأَطْرَافِ فَإِشَارَةٌ إِلَى فَخَامَةِ جَوَارِحِهِ كَمَا وَقَعَتْ مُفَصَّلَةً فِي الْحَدِيثِ.(1/317)
وَرَحْبُ الرَّاحَةِ: أَيْ وَاسِعُهَا وَقِيلَ كَنَّى بِهِ عَنْ سِعَةِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ.
وَخَمْصَانُ الْأَخْمَصَيْنِ: أَيْ مُتَجَافِي أَخْمَصَ الْقَدَمِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تناله الأرض من وسط القدم.
ومسيح الْقَدَمَيْنِ: أَيْ أَمْلَسُهُمَا وَلِهَذَا قَالَ يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خِلَافُ هَذَا قال فيه: إذا وطىء بقدمه وطىء بِكُلِّهَا لَيْسَ لَهُ أَخْمَصٌ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَعْنَى قَوْلِهِ مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ، وَبِهِ قَالُوا سُمِّيَ الْمَسِيحُ بن مَرْيَمَ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْمَصٌ وَقِيلَ: مَسِيحٌ لَا لَحْمَ عَلَيْهِمَا وَهَذَا أَيْضًا يُخَالِفُ قوله شثن القدمين.
والتقلع: رَفْعُ الرِّجْلِ بِقُوَّةٍ.
وَالتَّكَفُّؤُ: الْمَيْلُ إِلَى سَنَنِ الْمَمْشَى وَقَصْدِهِ.
وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ وَالْوَقَارُ.
وَالذَّرِيعُ: الْوَاسِعُ الْخَطْوِ أَيْ: إِنَّ مَشْيَهُ كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ رِجْلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَيَمُدُّ خَطْوَهُ خِلَافَ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ وَيَقْصِدُ سِمَتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتَثَبُّتٍ دُونَ عَجَلَةٍ كَمَا قَالَ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ.(1/318)
وَقَوْلُهُ يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ: أَيْ لِسَعَةِ فَمِهِ، وَالْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِهَذَا وَتَذُمُّ بِصِغَرِ الْفَمِ.
وَأَشَاحَ: مَالَ وَانْقَبَضَ.
وَحَبُّ الْغَمَامِ: الْبَرَدُ.
وَقَوْلُهُ فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ: أَيْ جَعَلَ مِنْ جُزْءِ نَفْسِهِ مَا يُوصِلُ الْخَاصَّةَ إِلَيْهِ فَتُوصِلُ عَنْهُ لِلْعَامَّةِ، وَقِيلَ يُجْعَلُ مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا فِي جُزْءٍ آخَرَ بِالْعَامَّةِ.
وَيَدْخُلُونَ رُوَادًا: أَيْ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ وَطَالِبِينَ لِمَا عِنْدَهُ.
ولا ينصرفون إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ: قِيلَ عَنْ عِلْمٍ يَتَعَلَّمُونَهُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ فِي الْغَالِبِ وَالْأَكْثَرِ.
وَالْعَتَادُ: الْعِدَّةُ وَالشَّيْءُ الْحَاضِرُ الْمُعَدُّ.
وَالْمُوَازَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ وَقَوْلُهُ.
لَا يُوَطِّنُ الْأَمَاكِنَ: أَيْ لَا يَتَّخِذُ لِمُصَلَّاهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُهُ عَنْ هَذَا مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَصَابَرَهُ: أَيْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ صَاحِبُهُ.
وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ: أَيْ لَا يُذْكَرْنَ فِيهِ بِسُوءٍ.(1/319)
وَلَا تُثْنَى فَلَتَاتُهُ: أَيْ لَا يُتَحَدَّثُ بِهَا أَيْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلْتَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَحَدٍ سُتِرَتْ، وَيَرْفِدُونَ: يُعِينُونَ.
وَالسَّخَّابُ: الْكَثِيرُ الصِّيَاحِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مكافيء: قِيلَ مُقْتَصِدٍ فِي ثَنَائِهِ وَمَدْحِهِ وَقِيلَ إِلَّا من مسلم وقيل إلا من مكافىء عَلَى يَدٍ سَبَقَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم له.
ويستفزه: يستخفه وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَنْهُوسُ الْعَقِبِ: أَيْ قَلِيلُ لَحْمِهَا.
وأهداب الْأَشْفَارِ: أَيْ طَوِيلُ شَعْرِهَا.(1/320)
الباب الثالث فيما ورد منه صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَمَشْهُورِهَا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ ومنزلته وما خصّه به في الدّارين منه كرامته صلّى الله عليه وسلّم
وفيه اثنا عشر فصلا(1/321)
لَا خِلَافَ أَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَشَرِ «1» ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ «2» ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبُهُمْ زُلْفَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدِ اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى صَحِيحِهَا، وَمُنْتَشِرِهَا، وَحَصَرْنَا مَعَانِيَ مَا وَرَدَ منها في هذه الفصول.
__________
(1) لما في الترمذي والدارمي.
(2) لحديث الترمذي.(1/323)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مَكَانَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل، وَالِاصْطِفَاءِ وَرِفْعَةِ الذِّكْرِ، وَالتَّفْضِيلِ، وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَزَايَا الرتب، وبركة اسمه الطيب.
عن «1» ابن عباس «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«أن الله تعالى قَسَّمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ قِسْمًا، فذلك قوله تعالى: أصحاب اليمين، وأصحاب الشِّمَالِ، فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا ثُلُثًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْحَابُ الميمنة وأصحاب المشأمة، والسابقون السابقون،
__________
(1) رواه الطبراني والبيهقي في الدلائل.
(2) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .(1/325)
فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ، وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ، ثُمَّ جَعَلَ الْأَثْلَاثَ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهَا قَبِيلَةً، وذلك قوله تعالى: «وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ «1» » الْآيَةَ.. فَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ.. ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهَا بَيْتًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ «2» » الْآيَةَ..
وَعَنْ «3» أَبِي سَلَمَةَ «4» : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «5» قَالَ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ ...
قَالَ: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» .
وَعَنْ «6» وَاثِلَةَ «7» بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، واصطفاني من بني هاشم.»
__________
(1) «لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» سورة الحجرات (13)
(2) «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» سورة الأحزاب (33) .
(3) رواه الترمذي وصححه.
(4) تقدمت ترجمته في ص «286» رقم «3» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(6) رواه مسلم وقد تقدم.
(7) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «3» .(1/326)
وَمِنْ حَدِيثِ «1» أَنَسٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ» .
وَفِي حَدِيثِ «3» ابْنِ عَبَّاسٍ «4» : أَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ والآخرين ولا فخر» .
وعن «5» عائشة «6» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ:
قَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَرَ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَرَ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» .
وَعَنْ «7» أَنَسٍ «8» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: بِمُحَمَّدٍ «9» تَفْعَلُ هَذَا!! فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ منه ... فارفضّ عرقا» .
__________
(1) الذي رواه الترمذي وأوله: أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا. وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا. وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسوا.. الكرامة والمفاتيح بيدي. ولواء الحمد يومئذ بيدي. وأنا أكرم ... الخ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) رواه الترمذي والدارمي.. وله أول.
(4) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(5) رواه البيهقي وأبو نعيم والطبراني.
(6) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .
(7) رواه الشيخان.
(8) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(9) وفي نسخة: أبمحمد.(1/327)
وعن «1» ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَهْبَطَنِي فِي صُلْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَقَذَفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِي فِي الْأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى أَخْرَجَنِي بين أبوي.. لم يلتقيا على سفاح قط» .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْعَبَّاسُ «2» بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْرًا «3» وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالِمٌ بَدَا طَبَقُ «4»
ثُمَّ احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمَنُ مِنْ ... خِنْدَفٍ «5» علياء تحتها النّطق «6»
__________
(1) رواه ابن أبي عمر العدني في مسنده.
(2) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «1» ، وهذه الأبيات أخرجها أبو بكر الشافعي في القيلانيات والطبراني عن خريمه بن أوس بن حارثة.
(3) نسرا: اسم للصنم التي اتخذه قوم نوح آلهة من دون الله.
(4) طبق: قرن من الزمان.
(5) خندف: اصلها مشية كالهرولة. والمراد به امرأة الياس بن مضر أم عرب الحجاز.
(6) النطق: جمع نطاق وهو الحزام وهي هنا الجبال.(1/328)
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ... ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النو ... ر وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
يَا بَرْدَ نَارِ الْخَلِيلِ يَا سَبَبًا ... لِعِصْمَةِ النَّارِ وَهْيَ تَحْتَرِقُ
وَرَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو ذَرٍّ «1» . وَابْنُ عُمَرَ «2» . وَابْنُ عَبَّاسٍ «3» .
وَأَبُو هُرَيْرَةَ «4» . وَجَابِرُ «5» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا- وَفِي بَعْضِهَا سِتًّا «6» - لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي «7» .
- نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ.
- وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ.
- وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي.
- وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً.
- وَأُعْطِيتُ الشفاعة.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «7» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(6) رواه مسلم عن ابي هريرة.
(7) وفي رواية جابر: لم يعطهن احد من الانبياء قبلي.(1/329)
وَفِي رِوَايَةٍ «1» : بَدَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ «وَقِيلَ لِي سَلْ تُعْطَهُ»
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «2» «وَعُرِضَ عَلَيَّ أُمَّتِي. فَلَمْ يَخْفَ عَلَيَّ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ «3» «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» .
قِيلَ: «السُّودُ» الْعَرَبُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَلْوَانِهِمُ الْأُدْمَةُ فَهُمْ مِنَ السُّودِ.
«وَالْحُمْرُ» الْعَجَمُ.
وَقِيلَ: الْبِيضُ وَالسُّودُ مِنَ الْأُمَمِ.
وَقِيلَ: «الْحُمْرُ» الْإِنْسُ.
«وَالسُّودُ» الْجِنُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «4» : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «5» رضي الله عنه «نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ جِيءَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فوضعت في يدي» .
__________
(1) عن ابي ذر.
(2) للبزار والبيهقي رحمهما الله تعالى.
(3) عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه.
(4) رواه الشيخان.
(5) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .(1/330)
وَفِي رِوَايَةٍ «1» عَنْهُ «2» «وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ» .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ «3» عَامِرٍ: أَنَّهُ قَالَ:
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» «إِنِّي فَرَطٌ «5» لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بعدي، ولكني أخاف أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ «6» بْنِ عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «7» «أَنَا مُحَمَّدٌ، النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ؛ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؛ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَعُلِّمْتُ خَزَنَةَ النَّارِ، وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ» .
وَعَنِ «8» ابن عمر «9» رضي الله عنه «بعثت بين يدي الساعة»
__________
(1) رواها مسلم.
(2) عنه: أي عن أبي هريرة:
(3) عقبة بن عامر بن عيسى الجهني الصحابي المشهور، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرا، كان قارئا عالما بالفرائض والفقه فصيح اللسان شاعرا كاتبا، وهو أحد من جمع القرآن سنة 58 هـ.
(4) رواه الشيخان.
(5) الفرط: الذي يتقدم القوم للماء.
(6) تقدمت ترجمته في ص «72» رقم «2» .
(7) رواه أحمد بسند حسن.
(8) رواه أحمد بسند حسن. وللشيخين والترمذي عن أنس: بعثت أنا والساعة كهاتين.
(9) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .(1/331)
وفي رِوَايَةِ ابْنِ «1» وَهْبٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «2» : «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
سَلْ يَا مُحَمَّدُ.. فَقُلْتُ: مَا أَسْأَلُ يَا رَبِّ. اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَيْتَ نُوحًا، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا أَعْطَيْتُكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ.
- أَعْطَيْتُكَ الْكَوْثَرَ، وَجَعَلْتُ اسْمَكَ مَعَ اسْمِي يُنَادَى بِهِ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ، وَجَعَلْتُ الْأَرْضَ طَهُورًا لَكَ وَلِأُمَّتِكَ، وَغَفَرْتُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَأَنْتَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَغْفُورًا لَكَ، وَلَمْ أَصْنَعْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَجَعَلْتُ قُلُوبَ أُمَّتِكَ مَصَاحِفَهَا.
وَخَبَّأْتُ لك شفاعتك ولم أخبأها لِنَبِيٍّ غَيْرِكَ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «3» رَوَاهُ حُذَيْفَةُ «4»
«بَشَّرَنِي- يَعْنِي «5» رَبَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ، أَوَّلُ مَنْ يدخل الجنة
__________
(1) هو أبو عبد الله أبو محمد بن وهب بن مسلم الفهري المصري أحد الاعلام في الحديث طلب للقضاء فجنب نفسه وانقطع الى ان مات سنة 197 هـ.
(2) رواه البيهقي من حديث اسماء في الاسراء حيث أتى سدرة المنتهى.
(3) كما في تاريخ ابن عساكر مرفوعا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4» .
(5) كلام المصنف او من قبله.(1/332)
مَعِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ وَأَعْطَانِي، أَلَّا تَجُوعَ أُمَّتِي، وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطَانِي، النَّصْرَ وَالْعِزَّةَ، وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا.
- وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتِي الْمَغَانِمَ «1» .
- وَأَحَلَّ لَنَا كَثِيرًا مِمَّا شَدَّدَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «2» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
مَعْنَى هَذَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ: بَقَاءُ مُعْجِزَتِهِ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ذَهَبَتْ لِلْحِينِ، وَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا الْحَاضِرُ لَهَا.
وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ يَقِفُ عَلَيْهَا قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ عَيَانًا لا خبرا الى يوم القيامة.
__________
(1) وفي نسخة «الغنائم» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) رواه الشيخان.(1/333)
وَفِيهِ كَلَامٌ يَطُولُ، هَذَا نُخْبَتُهُ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ. وَفِيمَا ذُكِرَ فِيهِ سِوَى هَذَا آخِرَ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ.
وَعَنْ «1» عَلِيٍّ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ سَبْعَةَ نُجَبَاءَ، وُزَرَاءَ، رُفَقَاءَ، مِنْ أُمَتِّهِ، وَأُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَجِيبًا، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٌ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» .
وَعَنِ «4» الْعِرْبَاضِ «5» بْنِ سارية رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَعِدَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وبشارة عيسى بن مريم» .
__________
(1) رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(3) كما في الصحيحين.
(4) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وقال انه صحيح الاسناد.
(5) عرباض بن سارية السلمي: أبو نجيح صحابي مشهور من أهل الصفة وهو ممن نزل فيه قوله تعالى: «ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت: لا اجد ما أحملكم عليه تولوا واعينهم تفيض من الدمع. كان قديم الاسلام ومات سنة 75.(1/334)
وَعَنِ «1» ابْنِ عَبَّاسٍ «2» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السماء وعلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عَلَيْهِمْ.
قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ ..
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ» «3» الْآيَةَ.
وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «4» » الآية.
قالوا: وما فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ ..
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «5» » الْآيَةَ.
وَقَالَ: لِمُحَمَّدٍ «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «6» » .
__________
(1) رواه البيهقي، والدارمي وابن أبي حاتم.
(2) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(3) «فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» سورة الأنبياء 29.
(4) «.... لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» سورة الفتح 2. ومن هذا الخطاب يتبين مغفرة الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم سابقا ولا حقا بينما وجه انذاره لملائكة السماء في الاية المتقدمة.
(5) «.... لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» سورة ابراهيم رقم «4» .
(6) سورة سبأ «28» .(1/335)
وَعَنْ «1» خَالِدِ «2» بْنِ مَعْدَانَ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ- وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ «3» ، وَشَدَّادِ «4» بْنِ أَوْسٍ، وَأَنَسِ «5» بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَقَالَ: «نَعَمْ ... أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ- يَعْنِي قَوْلَهُ: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «6» » .
وَبَشَّرَ بِي عِيسَى. وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بُهْمًا لَنَا، إِذْ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ- وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ- بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مملوّة ثلجا، فأخذاني فشقا بطني- قال في غير هذا
__________
(1) هذا الحديث روي من طرق. ورواه ابن اسحق مرسلا، والدارمي واحمد موصولا عن خالد عن عبد الرّحمن السلمي عن عتبة بن عبد السلمي.
(2) تابعي شامي روى عن ابن عمر وثوبان ومعاوية، من كبار التابعين وزهادهم ادرك سبعين من الصحابة أخرج له الأئمة الستة، كان يسبح في اليوم والليلة أربعين الف تسبيحة مات سنة 104 هـ.
(3) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(4) شداد بن أوس بن ثابت بن منذر ابن أخي حسان بن ثابت صحابي نزل بيت المقدس وتوفي بالشام سنة 58 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) سورة البقرة «129» .(1/336)
الحديث، من نحري إلى مراقّ بَطْنِي- ثُمَّ اسْتَخْرَجَا مِنْهُ قَلْبِي، فَشَقَّاهُ، فَاسْتَخْرَجَا منه علقة سوداء فطر حاها، ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أَنْقَيَاهُ- قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ- ثُمَّ تَنَاوَلْ أَحَدُهُمَا شَيْئًا، فَإِذَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ، يَحَارُ النَّاظِرُ دُونَهُ، فَخَتَمَ بِهِ قَلْبِي فَامْتَلَأَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ، وَأَمَرَّ الْآخَرُ يَدَهُ عَلَى مَفْرَقِ صَدْرِي فَالْتَأَمَ.»
وَفِي رِوَايَةٍ «1» : إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: «قَلْبٌ وَكِيعٌ- أَيْ شديد- فِيهِ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذُنَانِ سَمِيعَتَانَ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ،
زِنْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بمئة مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ ثُمَّ قَالَ: دَعْهُ عَنْكَ، فَلَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهَا» .
قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:
«ثُمَّ ضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ، وَقَبَّلُوا رَأْسِي، وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ ثم قالوا: يا حبيب الله لم تُرَعْ، إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ من الخير لقرّت عيناك.
__________
(1) للدارمي وابو نعيم في الدلائل.(1/337)
وَفِي بَقِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ:
«مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ» .
قَالَ «1» فِي حَدِيثِ «2» أَبِي ذَرٍّ «3» .
«فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَّ وَلَّيَا عَنِّي، فَكَأَنَّمَا أَرَى الْأَمْرَ معاينة» .
وحكى أبو محمد «4» المكّي، وأبو اللَّيْثِ «5» السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ قَالَ «6» «اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي- ويروى- وتقبل تَوْبَتِي» .
فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ محمدا؟ ..
قال: رَأَيْتُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. - وَيُرْوَى: مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي- فَعَلِمْتُ أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِكَ عَلَيْكَ» .
فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ.
__________
(1) النبي صلّى الله عليه وسلم.
(2) رواه الدارمي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(6) كما رواه البيهقي والطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف.(1/338)
وَهَذَا عِنْدَ قَائِلِهِ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «1» » .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَ آدَمُ: لَمَّا خَلَقْتَنِي رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى عَرْشِكَ فَإِذَا فِيهِ مَكْتُوبٌ.. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَكَ مِمَّنْ جَعَلْتَ اسْمَهُ مَعَ اسْمِكَ» .
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنَّهُ لَآخِرُ النَّبِيِّينَ مِنْ ذريتك، ولو لاه مَا خَلَقْتُكَ.
قَالَ: وَكَانَ آدَمُ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ «2» .
وَقِيلَ: بِأَبِي الْبَشَرِ «3» .
وَرُوِيَ عَنْ سُرَيْجِ «4» بْنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سيّاحين، عبادتها على كُلُّ دَارٍ فِيهَا أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ، إِكْرَامًا منهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة البقرة «27» .
(2) كما رواه البيهقي عن علي مرفوعا ووجه تخصيصه لأنه أشرف أولاده، أو للتشرف بإسناده.
(3) رواه ابن قانع في معجم الصحابة له ورواه الطبراني.
(4) سريج بن يونس بن ابراهيم الحارث البغدادي العابد القدوة أحد أئمة الحديث روى عنه مسلم والبغوي وأبو حاتم توفي سنة 235 هـ.(1/339)
وَرَوَى ابْنُ قَانِعٍ الْقَاضِي «1» عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ «2» قَالَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ إِذَا عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ.. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. أَيَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ..»
وَفِي التَّفْسِيرِ عَنِ «3» ابْنِ عَبَّاسٍ «4» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما «5» » .
قال «6» : لوح من ذهب مَكْتُوبٌ: عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ. عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ، عَجَبًا لمن رأى الدنيا وتقلّبها بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا.. مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي.»
وَعَنِ «7» ابْنِ عَبَّاسٍ «8» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ:
إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَا أُعَذِّبُ من قالها» .
__________
(1) هو عبد اليافي بن فانع بن مرزوق الأموي البغدادي صاحب معجم الصحابة توفي سنة 351 هـ. وروى الحديث ابن قانع في معجم الصحابة له ورواه الطبراني.
(2) ويعرف باسم أبي الحمراء وهما صحابيان أحدهما مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسمه هلال بن الحارث أو ابن ظفر وكان بحمص، ومن الصحابة أبو الحمراء مولى آل عفراء البدري ولا يعرف له رواية.
(3) كما رواه الخطيب فيما رواه مالك عنه.
(4) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(5) سورة الكهف 82.
(6) رواه البزار مرفوعا من حديث أبي ذر وموقوفا على عمر وعلي.
(7) قال الدلجي: لا أعلم من رواه عنه.
(8) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .(1/340)
وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ عَلَى الْحِجَارَةِ الْقَدِيمَةِ مَكْتُوبٌ «مُحَمَّدٌ تَقِيٌّ مُصْلِحٌ، وَسَيِّدٌ أَمِينٌ» .
وَذَكَرَ السِّمِنْطَارِيُّ «1» : أَنَّهُ شَاهَدَ فِي بَعْضِ بِلَادِ خُرَاسَانَ مَوْلُودًا وُلِدَ، عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ مَكْتُوبٌ.. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ..
وَعَلَى الْآخَرِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.»
وَذَكَرَ الْأَخْبَارِيُّونَ: أَنَّ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَرْدًا أَحْمَرَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِالْأَبْيَضِ.. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ «2» بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَلَا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ لِكَرَامَةِ اسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ «3» فِي «سَمَاعِهِ «4» » وَابْنُ وهب «5» في «جامعه «6» » عن مالك «7» :
__________
(1) نسبة لسمنطار قرية من جزائر الغرب وهو أبكر بن عتيق بن علي أحد عباد الجزيرة وزهادها وهو من الأجلة وله تأليف في فنون وعلوم
(2) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(3) أبي العتيقي عبد الرّحمن جمع بين الزهد والعلم صحب مالكا عشرين سنة أخرج له البخاري وأبو داوود والنسائي وهو من الثقات مات بمصر سنة 191 هـ.
(4) في سماعه عن شيوخه.
(5) عبد الله بن وهب أبو محمد تفقه بمالك وروى عنه وعن غيره وصنف الموطا الكبير والصغير توفي سنة 196 هـ.
(6) جامعه: في كتاب له ألفه.
(7) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ولد سنة 95 هـ الإمام المشهور في الفقه والحديث وكفاه فخرا أن الشافعي من أصحابه وكان مبالغا في تعظيم العلم والدين توفي سنة 179.(1/341)
سَمِعْتُ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ: «مَا مِنْ بَيْتٍ فيه اسم محمد إلا نمى، وَرُزِقُوا، وَرُزِقَ جِيرَانُهُمْ.»
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» «مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدَانِ وَثَلَاثَةٌ» .
وَعَنْ «2» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ «3» مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ تعالى نظر إلى قلوب العباد فاختار مِنْهَا قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ.
وَحَكَى النَّقَّاشُ «4» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ «وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «5» » الآية. قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا «مَعْشَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ.. إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنِي عَلَيْكُمْ تَفْضِيلًا، وَفَضَّلَ نسائي على نسائكم تفضيلا.»
الحديث..
__________
(1) رواه ابن سعد من حديث عثمان العمري مرفوعا.
(2) رواه احمد والبزار والطبراني.
(3) تقدمت ترجمته في ص «256» رقم «22» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «90» رقم «1» .
(5) «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» سورة الاحزاب 53.(1/342)
الْفَصْلُ الثَّانِي كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ
فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْمُنَاجَاةِ وَالرُّؤْيَةِ، وَإِمَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعُرُوجِ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.
وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ دَرَجَاتِ الرِّفْعَةِ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَشَرَحَتْهُ صِحَاحُ الْأَخْبَارِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» » الآية.
وقال تعالى «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «2» » إلى قوله «لَقَدْ رَأى
__________
(1) «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» سورة الاسراء 1.
(2) سورة النجم 1.(1/343)
مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» » .
فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْرَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ، وَجَاءَتْ بِتَفْصِيلِهِ وَشَرْحِ عَجَائِبِهِ وَخَوَاصِّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ ... رَأَيْنَا أَنْ نُقَدِّمَ أَكْمَلَهَا ونشير زيادة من غيره يجب ذكرها.
عَنْ أَنَسِ «2» بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ «3» «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ، قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ.» .
فَقَالَ جِبْرِيلُ: «اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه..
__________
(1) سورة النجم 17.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) رواه مسلم.(1/344)
فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إليه: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بابني الخالة عيسى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا. فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. - وَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
قال الله تعالى «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «1» » ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ «2» ، وَإِذَا ثمرها كالقلال «3» ..
__________
(1) سورة مريم 56.
(2) الفيلة: بكسر الفاء وفتح المثناة التحتية جمع فيل.
(3) القلال: جمع قيلة وهي الجرة وشبهها بها لمد ظلها ولطف ورقها وطيب ثمرها.(1/345)
قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ:
مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خمسين صلاة قال: إرجع إلى ربك فاسأل التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ.. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إنّهن خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عشرة، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى ربي حتى استحيت منه.(1/346)
قال القاضي: جَوَّدَ ثَابِتٌ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ «2» مَا شَاءَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ عَنْهُ بِأَصْوَبَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ خَلَطَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ تَخْلِيطًا كَثِيرًا لَا سِيَّمَا مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ «3» بْنِ أَبِي نَمِرٍ.
فَقَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ مَجِيءَ الْمَلَكِ لَهُ، وَشَقَّ بَطْنِهِ وَغَسْلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ وَقَبْلَ الْوَحْيِ، وَقَدْ قَالَ شَرِيكٌ فِي حَدِيثِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَذِكْرُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْوَحْيِ.
وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
وَقِيلَ: قَبْلَ هَذَا.
وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ «4» عَنْ أَنَسٍ «5» مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ «6» بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا «7» مَجِيءَ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الغلمان عند ظئره «8»
__________
(1) وهو أحد رجال سند هذا الحديث وهو ثابت البناني نسبة لحي من العرب يقال لهم بنانة وهو ثقة ثابت كاسمه أخرج له أصحاب الكتب الستة، رأس العلماء العابدين في عصره توفي سنة 127 هـ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) تابعي صدوق ثقة وهو القاضي المدني توفي سنة 140 هـ.
(4) وهو أحد رجال سند هذا الحديث وهو ثابت البناني نسبة لحي من العرب يقال لهم بنانة وهو ثقة ثابت كاسمه أخرج له أصحاب الكتب الستة، رأس العلماء العابدين في عصره توفي سنة 127 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «2» .
(7) رواه البخاري.
(8) ظئرة: مرضعته حليمة.(1/347)
وَشَقَّهُ قَلْبَهُ تِلْكَ الْقِصَّةَ مُفْرَدَةً مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ، فَجَوَّدَ فِي الْقِصَّتَيْنِ، وَفِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ وَصَلَ إلى بيت المقدس، ثم عرج من هناك فأزاح كل إشكال أو همه غَيْرُهُ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ «1» عَنِ ابْنِ شِهَابٍ «2» عن أنس قال: كان أبوذر «3» يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال «4» «فرج سقف بيتي فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتليء حكمة وإيمانا فأفرغها في صَدْرِي ثُمَّ أُطَبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ» فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَرَوَى قَتَادَةُ «5» الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ عَنْ أَنَسٍ «6» عَنْ مَالِكِ «7» بْنِ صعصعة
__________
(1) وهو يونس بن يزيد الأيلي القرشي يروي عن الزهري ونافع قال ابن معين صدوق وقال أبو داوود ليس بحجة توفي سنة 159 هـ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(4) رواه الشيخان.
(5) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» !
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(7) مالك بن صعصعة الخزرجي المازني أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد في مسنده وليس له في الكتب غير حديث الإسراء. قال النووي روى له عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة أحاديث اتفق البخاري ومسلم على أحدها وهو حديث الإسراء وهو أحسن احاديث الإسراء.(1/348)
وفيها تقديم وتأخير، وزيادة وَنَقْصٌ، وَخِلَافٌ فِي تَرْتِيبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ «1» .
وَحَدِيثُ ثَابِتٍ «2» عَنْ أَنَسٍ «3» أَتْقَنُ وَأَجْوَدُ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ زِيَادَاتٌ نَذْكُرُ مِنْهَا نكتا «4» مفيدة في غرضنا.
مِنْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ «5» وَفِيهِ «قَوْلُ كُلِّ نَبِيٍّ لَهُ «مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ» إِلَّا آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ فَقَالَا لَهُ «وَالِابْنِ الصَّالِحِ» .
وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ «6» «ثُمَّ عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صَرِيفَ «7» الْأَقْلَامِ «8» .
وَعَنْ أَنَسٍ «9» «ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حتى أتيت سدرة المنتهى
__________
(1) رواه الشيخان
(2) تقدمت ترجمته آنفا.
(3) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(4) النكت: المعاني اللطيفة.
(5) ابن شهاب الزهري تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(7) صريف: بصاد وراء مهملتين وفاء كالصرير وهو صوت حركة الأجرام والمراد صوت القلم على الورق.
(8) كما رواه البخاري وأحمد وغيرهما.
(9) مرفوعا.(1/349)
فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ. قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ.»
وَفِي حَدِيثِ «1» مَالِكِ «2» بْنِ صَعْصَعَةَ «فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ- يَعْنِي مُوسَى- بَكَى فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ هَذَا غُلَامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي» .
وَفِي حَدِيثِ «3» أَبِي هُرَيْرَةَ «4» «وَقَدْ رَأَيْتُنِي «5» فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ.»
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَ فَرَبَطَ فَرَسَهُ إِلَى صَخْرَةٍ فَصَلَّى مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالُوا:
يَا جِبْرِيلُ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، قَالُوا: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَخَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ.
ثُمَّ لَقُوا أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا على ربهم- وذكر كلام كل واحد
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص «348» رقم «7» .
(3) رواه البيهقي وغيره.
(4) تقدمت ترجمته في «31» رقم «5» .
(5) رأيتني: بضم التاء ضمير المتكلم والرؤية هنا بصرية لأن الإسراء كان في اليقظة(1/350)
منهم وهم ابراهيم- وموسى- وعيسى- وداوود- وَسُلَيْمَانُ- ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ «كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ وَأَنَا أَثْنَى عَلَيَّ رَبِّي:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.
وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ.
وَجَعَلَ أُمَّتِي أُمَّةً وَسَطًا.
وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْآخِرُونَ.
وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي وِزْرِي، وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا وَخَاتَمًا.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَمِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ «1» ابْنِ مَسْعُودٍ «وَانْتَهَى بي إلى سدرة المنتهى،
__________
(1) رواه أبو نعيم في دلائله وابن عرفة في جزئه.(1/351)
وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا.
قال تعالى: «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى «1» » .
قال «2» فراش من ذهب.
ومن رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «3» مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ «4» بْنِ أنس:
«فقيل لي: هذه سدرة الْمُنْتَهَى، يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِكَ خَلَا «5» عَلَى سَبِيلِكِ، وَهِيَ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا، وَأَنَّ وَرَقَةً مِنْهَا مِظَلَّةُ الْخَلْقِ فَغَشِيَهَا نُورٌ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى»
فقال تبارك وتعالى له: «سل»
__________
(1) سورة النجم 15.
(2) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) البكري البصري التابعي نزيل خراسان ثقة يروي عن أنس توفي سنة 139 هـ.
(5) خلا: مضى.(1/352)
فَقَالَ إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا عظيما.
وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داوود مُلْكًا عَظِيمًا، وَأَلَنْتَ لَهُ الْحَدِيدَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَّمْتَ عِيسَى التَّوْرَاةَ والإنجيل، وجعلته يبرىء الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَأَعَذْتَهُ وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمَا سَبِيلٌ.
فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا وَحَبِيبًا، فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ: وَأَرْسَلْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي، وَجَعَلْتُكَ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ خَلْقًا، وَآخِرَهُمْ بَعْثًا وَأَعْطَيْتُكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي، وَلِمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ، وَأَعْطَيْتُكَ خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرش، ولم أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ، وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا وَخَاتَمًا.
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «1» قَالَ «فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ثلاثا:
__________
(1) التي رواها مسلم.(1/353)
- أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.
- وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
- وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ الْمُقْحِمَاتُ «1» .
وَقَالَ «2» «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى «3» » الآيتين.
رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
وَفِي حَدِيثِ شَرِيكٍ «4» «أَنَّهُ رَأَى مُوسَى فِي السَّابِعَةِ- قَالَ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ- قَالَ: ثُمَّ علي بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
فَقَالَ مُوسَى: لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عليّ أحد.
وقد «5» روي عَنْ أَنَسٍ «6» أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ» .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم:
«بينا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فوكز بين
__________
(1) المقحمات السيئات المهلكات.
(2) ابن مسعود.
(3) سورة النجم 10.
(4) شريك بن أبي نمر، التابعي الصدوق الثقة القاضي المدني توفي سنة 140 هـ
(5) رواه البزار والبيهقي عنه.
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .(1/354)
كَتِفَيَّ فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ، فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ وَقَعَدْتُ فِي الْأُخْرَى، فنمت حتى سدّت الخافقين، ولو شئت لمسست السَّمَاءَ وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي، وَنَظَرْتُ جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ حلس «1» لاطىء «2» فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ عَلَيَّ وَفَتَحَ لِي بَابَ السَّمَاءِ، وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ وَلَطَّ «3» دُونِي الْحِجَابُ وَفَرَجَهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ.
وَذَكَرَ الْبَزَّارُ «4» عَنْ عَلِيِّ بْنِ «5» أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رسوله صلّى الله عليه وسلم الْأَذَانَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ فَذَهَبَ يَرْكَبُهَا فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: اسكني، فو الله مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَكِبَهَا حَتَّى أتى بها إلى الحجاب الذي يلي الرّحمن تعالى، فبينا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ.
__________
(1) حلس: كساء رقيق يلي ظهر البعير.
(2) لاطىء: لاصق.
(3) لط: أرخى.
(4) هو احمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل ثقة حافظ توفي سنة 292 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .(1/355)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا جِبْرِيلُ ... مَنْ هَذَا!!»
قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ.
فَقَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ
فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ
صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ
ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ:
صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا..
وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ. إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يذكر جوابا على قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
وقال: ثم أخذ الملك بيد محمد صلّى الله عليه وسلم فَقَدَّمَهُ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ.
فِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ «1» مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحسين راويه «2» :
__________
(1) هو محمد بن علي زين العابدين بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أبو جعفر الباقر كان ناسكا عابدا ولد بالمدينة وتوفي بالحميمة ودفن بالمدينة سنة 114 هـ.
(2) أي راوي هذا الحديث الذي ذكره البزار في مسنده.(1/356)
أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ: مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ لَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ، فَهُمُ الْمَحْجُوبُونَ، وَالْبَارِي جَلَّ اسْمُهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَحْجُبُهُ. إِذِ الْحُجُبُ إِنَّمَا تُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ. وَلَكِنْ حُجُبُهُ عَلَى أَبْصَارِ خَلْقِهِ وَبَصَائِرِهِمْ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ بِمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «1» » .
فقوله في هذا الحديث «الحجاب» «وإذا خرج ملك من مِنَ الْحِجَابِ» يَجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حِجَابٌ حَجَبَ بِهِ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ سُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ وَجَبَرُوتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُ جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ» فَدَلَّ: عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِجَابَ لَمْ يَخْتَصَّ بِالذَّاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ كَعْبٍ «2» فِي تَفْسِيرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَالَ: إِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ، وَعِنْدَهَا يَجِدُونَ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُجَاوِزُهَا عِلْمُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ «الَّذِي يلي الرّحمن» فيحمل على حذف مضاف أي:
__________
(1) سورة المطففين 14.
(2) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .(1/357)
يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ: أَوْ أَمْرًا مَا مِنْ عظيم آياته، أو مبادي حَقَائِقِ مَعَارِفِهِ مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ.
كَمَا قال تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» » أَيْ «أَهْلَهَا» .
وَقَوْلُهُ: فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ
فَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ سَمِعَ في هذا الموطن كلام الله تعالى ولكن من وراء حجاب.
كما قال تَعَالَى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» » أَيْ وَهُوَ لَا يَرَاهُ، حَجَبَ بَصَرَهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ.
فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ: بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ. بَعْدَ هَذَا. أَوْ قَبْلَهُ رَفَعَ الْحِجَابَ عَنْ بَصَرِهِ حتى رآه.
والله أعلم.
__________
(1) سورة يوسف 82 «الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .
(2) سورة الشورى 51 «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.(1/358)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ حَقِيقَةُ الْإِسْرَاءِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ
هَلْ كَانَ إِسْرَاؤُهُ بِرُوحِهِ أَوْ جَسَدِهِ!؟ ..
على ثلاث مقالات:
فذهب طَائِفَةٌ: إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالرُّوحِ، وَأَنَّهُ رُؤْيَا مَنَامٍ.
مَعَ اتِّفَاقِهِمْ: أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَوَحْيٌ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ «1» مُعَاوِيَةُ «2» وَحُكِيَ «3» عَنِ الْحَسَنِ «4» ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدُ بن اسحق «5» .
__________
(1) كما رواه ابن اسحق وابن جرير عنه.
(2) معاوية بن أبي سفيان صحابي ابن صحابي وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه توفي بالشام سنة 60 هـ وكان عنده إزار رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورداءه وشيء من شعره وظفره فكفن برداءه وإزاره وحشي شعره وظفره بفيه ومنخره بوصية منه رضي الله تعالى عنه.
(3) والمشهور عند خلافه أي يقظة.
(4) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .(1/359)
وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «1» » .
وَمَا «2» حَكَوْا عَنْ عَائِشَةَ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
مَا فَقَدْتُ «4» جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَقَوْلُهُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ» .
وَقَوْلُ أَنَسٍ «5» : وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..
وَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْمُسْلِمِينَ: إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَفِي الْيَقَظَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ «6» - وَجَابِرٍ «7» - وَأَنَسٍ «8» - وَحُذَيْفَةَ «9» - وَعُمَرَ «10» - وَأَبِي هريرة «11» - ومالك
__________
(1) سورة الاسراء 60 «والشجرة الملعونة في القران ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا» .
(2) من رواية ابن اسحق وابن جرير.
(3) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .
(4) ويبطله أنه ما بنى إلا بعد الهجرة.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «1» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «6» .
(8) ويبطله أنه ما بنى إلا بعد الهجرة.
(9) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «6» .
(10) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(11) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .(1/360)
بْنِ صَعْصَعَةَ «1» - وَأَبِي حَبَّةَ «2» الْبَدْرِيِّ- وَابْنِ مَسْعُودٍ «3» - وَالضَّحَّاكِ «4» - وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «5» - وَقَتَادَةَ «6» - وَابْنِ الْمُسَيَّبِ «7» - وَابْنِ شِهَابٍ «8» - وَابْنِ زَيْدٍ «9» - وَالْحَسَنِ «10» - وَإِبْرَاهِيمَ «11» - وَمَسْرُوقٍ «12» ومجاهد «13» - وعكرمة «14» - وبن جُرَيْجٍ «15» .
وَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِ عَائِشَةَ «16» . وَهُوَ قَوْلُ الطبرى «17» - وابن
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «348» رقم «7» .
(2) هو عامر بن عبد عمرو بن عمير بن ثابت وذكر الوافدي أنه شهد صفين مع علي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «75» رقم «6» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «4» .
(6) قتادة بن دعامة تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» .
(7) تقدمت ترجمته في ص (252) رقم (3) .
(8) تقدمت ترجمته في ص (251) رقم (4) .
(9) تقدمت ترجمته في ص (68) رقم (5) .
(10) تقدمت ترجمته في ص (60) رقم (8) .
(11) ابراهيم بن يزيد بن قيس النخعي المكنى بأبي عمران من أكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث، فقيه العراق، كان إماما مجتهدا له مذهب توفي سنة 96 هـ.
(12) مسروق بن أجدع الهمداني أحد الأعلام، كان أعلم بالفتيا من شريح أخرج له أصحاب الكتب الستة سمي مسروق لأنه سرق وهو صغير ثم وجد توفي سنة 63 هـ.
(13) تقدمت ترجمته في ص (70) رقم (1) .
(14) تقدمت ترجمته في ص (16) رقم (1) .
(15) تقدمت ترجمته في ص (159) رقم (1) .
(16) تقدمت ترجمته في ص (146) رقم (5) .
(17) تقدمت ترجمته في ص (182) رقم (2) .(1/361)
حنبل «1» - وجماعة عظيمة من المسلمين.
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالْجَسَدِ يَقَظَةً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «2» » .
فَجَعَلَ «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» غَايَةَ الْإِسْرَاءِ الَّذِي وَقَعَ التَّعَجُّبُ فِيهِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَدُّحِ بِتَشْرِيفِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَإِظْهَارِ الْكَرَامَةِ لَهُ بِالْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: ولو كان الإسراء بجسده الى زائد الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَذَكَرَهُ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الْمَدْحِ.
ثم اختلفت هذه الفرقة: هَلْ صَلَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؟! أَمْ لَا فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «3» وَغَيْرِهِ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ فيه.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (165) رقم (1) .
(2) سورة الاسراء 1 «الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .
(3) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .(1/362)
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ «1» حُذَيْفَةُ «2» بْنُ الْيَمَانِ وَقَالَ:
«وَاللَّهِ مَا زَالَا عَنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَجَعَا»
قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ وَصَحِيحُ الْأَخْبَارِ وَالِاعْتِبَارُ.
- وَلَا يَعْدِلُ عَنِ الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِحَالَةِ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِهِ وَحَالِ يَقَظَتِهِ اسْتِحَالَةٌ.
- إِذْ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ: بِرُوحِ عَبْدِهِ. وَلَمْ يَقُلْ بِعَبْدِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى «مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «3» » وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ آيَةٌ ولا معجزة ولما استبعده الكفار ولا كذّبوا فِيهِ وَلَا ارْتَدَّ بِهِ ضُعَفَاءُ مَنْ أَسْلَمَ وَافْتُتِنُوا بِهِ إِذْ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْمَنَامَاتِ لا ينكر.
بل لم يكن ذلك منهم إِلَّا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ خَبَرَهُ إِنَّمَا كَانَ عَنْ جِسْمِهِ وَحَالِ يَقَظَتِهِ.
إِلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ صَلَاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ المقدس
__________
(1) رواه أحمد عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص (64) رقم (4) .
(3) سورة النجم 16.(1/363)
فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ، أَوْ فِي السَّمَاءِ عَلَى مَا رَوَى غَيْرُهُ، وَذِكْرِ مَجِيءِ جِبْرِيلَ لَهُ بِالْبُرَاقِ وَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ، وَاسْتِفْتَاحِ السَّمَاءِ، فَيُقَالُ: مَنْ مَعَكَ؟ ..
فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ ... وَلِقَائِهِ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا، وَخَبَرِهِمْ مَعَهُ، وَتَرْحِيبِهِمْ بِهِ، وَشَأْنِهِ فِي فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَمُرَاجَعَتِهِ مَعَ مُوسَى فِي ذَلِكَ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ «فَأَخَذَ- يَعْنِي جِبْرِيلُ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ» إِلَى قَوْلِهِ «ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ» وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَأَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَرَأَى فِيهَا مَا ذَكَرَهُ.
قَالَ «1» ابن عباس «2» : «هي رؤيا عين رآها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رُؤْيَا مَنَامٍ» .
وَعَنِ «3» الْحَسَنِ «4» فِيهِ «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الحجر جاءني جبريل فهمزني «5» بعقبه فقمث فَجَلَسَتْ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي- ذَكَرَ ذلك ثلاثا-
__________
(1) رواه البخاري.
(2) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6)
(3) رواه ابن اسحاق وابن جرير عنه مرسلا.
(4) تقدمت ترجمته في ص (60) رقم (8) .
(5) همزني: همزه كضربه وما وقع في بعض النسخ نهرني من تحريف النساخ أي مسني بشدة لينبهني.(1/364)
فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ فَجَرَّنِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا بِدَابَّةٍ.. وَذَكَرَ خَبَرَ الْبُرَاقِ..
وعن «1» أمّ هانيء «2» : مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ. صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَنَامَ بَيْنَنَا، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبْنَا «3» رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا.
قَالَ «يا أمّ هانيء.. لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ بِهَذَا الْوَادِي. ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ. ثُمَّ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا ترون..»
وهذا بيّن في أنّه بجسده..
وَعَنْ «4» أَبِي بَكْرٍ «5» مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ «6» بْنِ أوس عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ:
«طَلَبْتُكَ يَا رَسُولَ الله البارحة في مكانك فلم أجدك» ..
__________
(1) روى ذلك عنها ابن اسحق والطبراني وابن جرير.
(2) بنت أبي طالب أخت علي صحابية عظيمة المقدار أسلمت يوم الفتح وخطبها النبي ص فاعتذرت بانها امرأة ذات أولاد فعذرها النبي عليه الصلاة والسلام روى عنها أصحاب الكتب الستة وقد عاشت بعد علي بن أبي طالب.
(3) أهبنا: بالهمزة في اوله وتشديد الموحدة أي أيقظنا.
(4) رواه البيهقي وابن مردويه.
(5) تقدمت ترجمته في ص (156) رقم (6) .
(6) تقدمت ترجمته في ص (336) رقم (4) .(1/365)
فَأَجَابَهُ «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
وَعَنْ «1» عُمَرَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلْتُ الصَّخْرَةَ فَإِذَا بِمَلَكٍ قَائِمٍ مَعَهُ آنِيَةٌ ثَلَاثٌ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَهَذِهِ التَّصْرِيحَاتُ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا.
وَعَنْ «3» أَبِي ذَرٍّ «4» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُرِجَ «5» سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَشَرَحَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ.. إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي..
وعن أنس «6» «أتيت فانطلقوا بِي إِلَى زَمْزَمَ، فَشَرَحَ عَنْ صَدْرِي» .
وَعَنْ «7» أبي هريرة «8» عَنْهُ «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي
__________
(1) رواه ابن مردويه عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص (113) رقم (4) .
(3) في الصحيحين مرفوعا.
(4) تقدمت ترجمته في ص (285) رقم (1) .
(5) فرج: مبني المجهول مخفف الراء.
(6) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(7) رواه مسلم.
(8) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5) .(1/366)
عَنْ مَسْرَايَ.. فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ.. فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ» .
وَنَحْوُهُ «1» عَنْ جَابِرٍ «2» ..
وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ «3» الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى خديجة وما تحوّلت عن جانبها» .
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص (154) رقم (1) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (113) رقم (4) .(1/367)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ إِبْطَالُ الْحُجَجِ فِي إِبْطَالِ حُجَجِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَوْمٌ
احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ «1» » فسمّاها رؤيا..
قلنا: قوله: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «2» » يَرُدُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي النَّوْمِ «أَسْرَى» .
وَقَوْلُهُ: فِتْنَةً لِلنَّاسِ» يُؤَيِّدُ أَنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ وَإِسْرَاءٌ بِشَخْصٍ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُلْمِ «3» فِتْنَةٌ، وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْكَوْنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ.
عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ «إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ ذلك.
__________
(1) «إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ سورة الاسراء 59.
(2) سورة الاسراء 1
(3) الحلمّ: بضمتين أو ضم فسكون وهو ما يراه النائم.(1/368)
وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ سَمَّاهَا فِي الْحَدِيثِ مَنَامًا
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ» وَقَوْلُهُ أَيْضًا: «وَهُوَ نَائِمٌ»
وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ» ... فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ... إِذْ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ وُصُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ كَانَ وَهُوَ نَائِمٌ. أَوْ: أَوَّلَ حَمْلِهِ وَالْإِسْرَاءِ بِهِ وَهُوَ نَائِمٌ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا إِلَّا ما يدلّ عليه قوله: «ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» .
فَلَعَلَّ قَوْلَهُ: «اسْتَيْقَظْتُ» بِمَعْنَى أَصْبَحْتُ، أَوِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمٍ آخَرَ بَعْدَ وُصُولِهِ بَيْتَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَسْرَاهُ لَمْ يَكُنْ طُولَ لَيْلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: «اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» لِمَا كَانَ غَمَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ مَا طَالَعَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَخَامَرَ بَاطِنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَلَمْ يَسْتَفِقْ، وَيَرْجِعْ إِلَى حَالِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ بالمسجد الحرام.(1/369)
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ وَاسْتِيقَاظُهُ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ، وَلَكِنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ.
وَقَدْ مَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا قَالَ: تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ... وَلَا يَصِحُّ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَلَعَلَّهُ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الْإِسْرَاءِ حَالَاتٌ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يعبّر بالنوم ههنا عَنْ هَيْئَةِ النَّائِمِ مِنَ الِاضْطِجَاعِ ... وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ «1» بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ هَمَّامٍ «2» :
«بينا أنا نائم» - وربما قال- مُضْطَجِعٌ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ» فَيَكُونُ سَمَّى هَيْئَتَهُ بِالنَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ هَيْئَةُ النَّائِمِ غَالِبًا.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّ هذه الزيادات من النوم، وذكر شق
__________
(1) عبد الله بن حميد بن نصر بن الكشي وهو الامام الحافظ توفى سنة 249 هـ
(2) همام بن يحيى العوذي نسبة للعوذ بطن من الازد، امام ثقة أخرج له الستة توفي سنة 163.(1/370)
الْبَطْنِ وَدُنُوِّ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ الْوَاقِعَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ «1» عَنْ أَنَسٍ «2» فَهِيَ مُنْكَرَةٌ «3» مِنْ رِوَايَتِهِ.
إِذْ شَقُّ الْبَطْنِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا كَانَ في صغره صلّى الله عليه وسلم.
وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ» والإسراء بالإجماع كَانَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ. فَهَذَا كُلُّهُ يُوَهِّنُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ «4» مَعَ أَنَّ أَنَسًا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ مَرَّةً: «عَنْ مَالِكِ «5» بْنِ صَعْصَعَةَ»
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ: «لَعَلَّهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ» عَلَى الشَّكِّ
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (354) رقم (4) .
(2) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(3) منكرة: أي شاذة مخالفة لروايات سائر الثقات لان شريك طعن فيه ابن حبان وغيره وقالوا ليس بثبت.
(4) قال العسقلاني في باب المعراج في كتاب المبعث: استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الاسراء وقال: انما وقع وهو صغير في بني سعد. ولا انكار في ذلك فقد تواردت الاخبار وثبت شق الصدر عند البعثة أيضا كما اخرجه أبو نعيم في الدلائل ولكل منها حكمة: وقد ثبت أيضا من غير رواية شريك في الصحيحين من حديث أبي ذر. وان شق الصدر وقع ايضا عند البعثة كما أخرجه أبو داوود والطيالسي في مسنده. وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة ... وكذلك قال العراقي والقرطبي.
(5) تقدمت ترجمته في ص (348) رقم (7) .(1/371)
وَقَالَ مَرَّةً: «كَانَ أَبُو ذَرٍّ «1» يُحَدِّثُ» «2»
وَأَمَّا قَوْلُ «3» عَائِشَةَ «4» : «مَا فَقَدْتُ جَسَدَهُ» فَعَائِشَةُ لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ زَوْجَهُ، وَلَا فِي سِنِّ مَنْ يَضْبُطُ وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ وُلِدَتْ بَعْدُ. عَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِسْرَاءِ مَتَى كَانَ.
- فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ «5» وَمَنْ وَافَقَهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِعَامٍ وَنِصْفٍ وَكَانَتْ عَائِشَةُ «6» فِي الْهِجْرَةِ بِنْتُ نَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ.
وَقَدْ قِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ لِخَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَقِيلَ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ.
وَالْأَشْبَهُ: أَنَّهُ لِخَمْسٍ.
وَالْحُجَّةُ لذلك: تطول.. ليست مِنْ غَرَضِنَا فَإِذَا لَمْ تُشَاهِدْ ذَلِكَ عَائِشَةُ دلّ على أَنَّهَا حَدَّثَتْ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا، فَلَمْ يَرْجَحْ خبرها على خبر غيرها.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (285) رقم (1) .
(2) وهذا لا يضر لان مراسيل الصحابة كلها مقبولة بالاتفاق.. أو أن يكون سمع من هنا وههنا.
(3) كما رواه ابن اسحق وابن جرير.
(4) تقدمت ترجمتها في ص (146) رقم (5)
(5) تقدمت ترجمته في ص (251) رقم (4) .
(6) تقدمت ترجمتها في ص (146) رقم (5) .(1/372)
وَغَيْرُهَا يَقُولُ خِلَافَهُ مِمَّا وَقَعَ نَصًّا فِي حديث أمّ هانيء «1» وَغَيْرِهِ وَأَيْضًا فَلَيْسَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها بالثابت والأحاديث الأخر أثبت، لسنا نعني حديث أمّ هانيء، وَمَا ذُكِرَتْ فِيهِ خَدِيجَةُ «2» وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «مَا فَقَدْتُ» وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكُلُّ هَذَا يُوَهِّنُهُ.
بَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ قَوْلِهَا إِنَّهُ بِجَسَدِهِ لِإِنْكَارِهَا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ لِرَبِّهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهَا مَنَامًا لَمْ تُنْكِرْهُ..
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى «3» » فقد جعل «ما رآه» للقلب، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُؤْيَا نَوْمٍ وَوَحْيٌ، لَا مُشَاهَدَةُ عَيْنٍ وَحِسٌّ.
قُلْنَا: يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «4» » فقد أضاف الأمر للبصر.
__________
(1) تقدمت ترجمتها في ص (365) رقم (2) .
(2) تقدمت ترجمتها في ص (261) رقم (5) .
(3) سورة النجم 10.
(4) سورة النجم 16.(1/373)
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى» أَيْ لَمْ يُوهِمِ الْقَلْبُ الْعَيْنَ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ، بَلْ صَدَّقَ رُؤْيَتَهَا.
وَقِيلَ: مَا أَنْكَرَ قَلْبُهُ ما رأته عيناه..(1/374)
الفصل الخامس رؤيته لربّه
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ «1» فِيهَا، فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ «2» رضي الله عنها..
عَنْ مَسْرُوقٍ «3» أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ..
هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ ..
فَقَالَتْ «4» : «لَقَدْ قَفَّ «5» شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ.. ثَلَاثٌ مِنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ.
مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثم قرأت: «لا تُدْرِكُهُ
__________
(1) وفي نسخة الناس.
(2) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «361» رقم «12» .
(4) الحديث في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وهو في البخاري عن يحيى عن وكيع بسند المصنف.
(5) قف شعري: القفيف في الشعر معناه نيامه وانتصابه وإنما يكون هذا غالبا عند الفزع والخوف القوي.(1/375)
الْأَبْصارِ «1» ..» الآية وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ «2» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «3» وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي «4» هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ.»
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ «5» وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ «7» » .
وَرَوَى عَطَاءٌ «8» عَنْهُ: «أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ» .
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ «9» عَنْهُ: رآه بفؤاده مرتين «10» » .
وذكر «11» ابن إسحق «12» : أن ابن «13» عمر أرسل إلى ابن
__________
(1) «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» سورة الانعام 103.
(2) كما رواه البخاري.
(3) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) أي عن ابي هريرة. فقد روي عنه انه قال رآه بعينه. كابن مسعود وأبي ذر والحسن وابن حنبلي.
(6) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6»
(7) وبه قال أنس وعكرمة والربيع.
(8) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «4» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «3»
(10) أخرجها مسلم في الايمان.
(11) في المغازي عن عبد الله بن ابي سلمة.
(12) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(13) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .(1/376)
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ.
فَقَالَ: نَعَمْ..
وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْ طُرُقٍ.
وَقَالَ «1» : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَصَّ مُوسَى بِالْكَلَامِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ «2» ، وَمُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ.
وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «3» » .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ «4» : قِيلَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ وَكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ «5» » .
وَحَكَى أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ «6» ، وَأَبُو اللَّيْثِ «7» السمرقندي
__________
(1) أي في بعض طرقه وهو ما رواه الحاكم والنسائي والطبراني.
(2) الخلة: بضم الخاء المعجمة لقوله تعالى: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» .
(3) سورة النجم 13.
(4) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «3» .
(5) نقله عنه ابن سيد الناس في سيرته.
(6) ليس هو الفخر الرازي كما توهم بعضهم بل هو سليمان بن ايوب مات غريقا سنة 447 هـ.
(7) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .(1/377)
الْحِكَايَةَ عَنْ كَعْبٍ «1» وَرَوَى «2» عَبْدُ اللَّهِ «3» بْنُ الْحَارِثِ قَالَ:
«اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ» ..
فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى فَكَلَّمَهُ مُوسَى وَرَآهُ مُحَمَّدٌ بِقَلْبِهِ» .
وَرَوَى شَرِيكٌ «4» عَنْ أَبِي ذَرٍّ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ:
«رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ» .
وَحَكَى «6» السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ «7» بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَرَبِيعِ «8» بْنِ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ.. هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي وَلَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .
(2) ذكره الترمذي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «249» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «354» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(6) كرواية ابن ابي حاتم وأخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال قلنا يا رسول الله فذكره موصولا
(7) هو محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي ابو حمزة من حلفاء الاوس سكن الكوفة ثم المدينة تابعي روى عن كثير من الصحابة؛ من أفاضل أهل المدينة علما وفقها توفي سنة 108 هـ.
(8) تقدمت ترجمته في ص «107» رقم «2» .(1/378)
وَرَوَى «1» مَالِكُ «2» بْنُ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ «3» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«رَأَيْتُ رَبِّي. وَذَكَرَ كَلِمَةً.. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ .. الْحَدِيثَ «4» .
وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ «5» : أَنَّ الْحَسَنَ «6» كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ، لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ «7» عَنْ عِكْرِمَةَ «8» .
وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ ابن مسعود «9» .
__________
(1) رواه احمد والترمذي وصححه.
(2) مالك بن يخامر سكسكي حمصي يقال ان له صحبة والاصح انه تابعي روى عن معاذ بن جبل وعن عبد الرّحمن بن عوف وغيرهما ومات سنة 70 هـ.
(3) معاذ بن جبل الخزرجي الانصاري المقدم في علم الحلال والحرام كان ابيض وضيء الوجه براق الثنايا اكحل العينين شهد بدرا وهو ابن احدى وعشرين سنة وأمره النبي صلّى الله عليه وسلم على اليمن وكان من افضل شباب الانصار حلما وحياء وسخاء وكان جميلا وسيما. توفي بالطاعون في سنة 17 هـ.
(4) الحديث: بالنصب بتقدير اقرأ او اذكر.
(5) عبد الرزاق بن همام بن رافع الحافظ الكبير الصنعائي احد الاعلاء صاحب التصانيف وقد وثقه غير واحد وأخرج له الائمة الستة توفي سنة 211 هـ.
(6) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(7) هو الامام الحافظ المقرىء احمد بن عبد الله المغافري عالم قرطبة ولد سنة 340 هـ روى عنه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما من الاعلام وكان رأسا في علم القراءات ذا عناية تامة بالحديث اماما في السنة توفي سنة 429 هـ.
(8) تقدمت ترجمته في ص «160» رقم «1» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .(1/379)
وحكى ابن إسحق «1» : أَنَّ مَرْوَانَ «2» سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ «3» .
«هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ» ؟ فَقَالَ: نَعَمْ..
وَحَكَى النَّقَّاشُ «4» عَنْ أَحْمَدَ بْنِ «5» حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا أَقُولُ بحديث ابن عباس بعينيه رَآهُ رَآهُ..» حَتَّى انْقَطَعَ نَفَسُهُ- يَعْنِي نَفَسُ أحمد..
وقال أبو عمرو «6» : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «رَآهُ بِقَلْبِهِ» وَجَبُنَ عَنِ الْقَوْلِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ.
وَقَالَ سَعِيدُ «7» بْنُ جُبَيْرٍ: «لَا أَقُولُ رَآهُ وَلَا لَمْ يَرَهُ» .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «8» وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ «9» وَابْنِ مَسْعُودٍ.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(2) مروان بن الحكم بن ابي العاص بن أمية القرشي الاموي ولد سنة 2 هـ ولم يصح له سماع ولا رواية وكانت دولته تسعة اشهر وأياما توفي سنة 65 هـ في رمضان.
(3) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «90» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «165» رقم «1» .
(6) الطلمنكي المتقدم ذكره آنفا.
(7) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «4» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .(1/380)
فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: «رَآهُ بِقَلْبِهِ» .
وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ: «رَأَى جِبْرِيلَ» .
وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ: رَآهُ وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» » قَالَ: «شَرَحَ صَدْرَهُ لِلرُّؤْيَةِ، وَشَرَحَ صَدْرَ مُوسَى لِلْكَلَامِ» .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ «2» عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:
أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَقَالَ: كُلُّ آيَةٍ أُوتِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِتَفْضِيلِ الرُّؤْيَةِ.
وَوَقَفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: «والحق الذي لا امتراء
__________
(1) سورة الانشراح 1.
(2) علي بن اسماعيل بن أبي بشير ينتسب الى أبي موسى الاشعري الصحابي رضي الله عنه كان معتزليا ثم ترك وكان حبرا عظيما لا يبارى. قال القاضي الباقلاني: أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن، وهو امام اهل السنة وصاحب التصانيف المشهورة توفي سنة 324 هـ.(1/381)
فِيهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عَقْلًا. وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهَا» .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا فِي الدُّنْيَا سُؤَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا.
وَمُحَالٌ أَنْ يَجْهَلَ نَبِيٌّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ.. بَلْ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا جَائِزًا غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ.
وَلَكِنَّ وُقُوعَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ.
فَقَالَ لَهُ تعالى: «لن تراني «1» » أَيْ لَنْ تُطِيقَ وَلَا تَحْتَمِلَ رُؤْيَتِي، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ مَثَلًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ نبيه مُوسَى، وَأَثْبَتُ وَهُوَ الْجَبَلُ.. وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُ رُؤْيَتَهُ فِي الدُّنْيَا بَلْ فيه جوازها على الجملة.
وليس في الشرع دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى اسْتِحَالَتِهَا وَلَا امْتِنَاعِهَا..
إِذْ كَلُّ مَوْجُودٍ فَرُؤْيَتُهُ جَائِزَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ..
وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» » لِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ.. وَإِذْ لَيْسَ يَقْتَضِي
__________
(1) «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ... » سورة الاعراف 143.
(2) «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» سورة الانعام 103.(1/382)
قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا الِاسْتِحَالَةَ..
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَفْسِهَا عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمِ اسْتِحَالَتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ.
وَقِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ الأبصار. لَا تُحِيطُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ قِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَإِنَّمَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ.
وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الرُّؤْيَةِ وَلَا اسْتِحَالَتَهَا.
وَكَذَلِكَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ بقوله تعالى: «لن تراني «1» » .
وقوله: «تبت إليك «2» » لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهَا لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا، إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصُّ الِامْتِنَاعِ.
وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَقِّ مُوسَى.
وَحَيْثُ تتطرق التأويلات، وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع
__________
(1) «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» سورة الاعراف 143.
(2) «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» سورة الاعراف 143.(1/383)
إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَقَوْلُهُ «تُبْتُ إِلَيْكَ» أَيْ مِنْ سُؤَالِي مَا لَمْ تُقَدِّرْهُ لِي..
وَقَدْ قَالَ أَبُو «1» بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ: «لَنْ تَرَانِي» أَيْ لَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ مَاتَ
وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مُمْتَنِعَةٌ، لِضَعْفِ تَرْكِيبِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَقُوَاهُمْ، وَكَوْنِهَا مُتَغَيِّرَةً عرضا لِلْآفَاتِ وَالْفَنَاءِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ.
فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ، وَرُكِّبُوا تَرْكِيبًا آخَرَ وَرُزِقُوا قُوًى ثَابِتَةً بَاقِيَةً، وَأَتَمَّ أَنْوَارَ أَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ قَوُوا بِهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ..
وَقَدْ رَأَيْتُ نَحْوَ هَذَا لِمَالِكِ «2» بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ الله قال: لم يرفي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ، وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رؤي الْبَاقِي بِالْبَاقِي.
وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مَلِيحٌ.. وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ ضَعْفُ الْقُدْرَةِ.
فَإِذَا قَوَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ
__________
(1) كان من الادباء الظرفاء وله شعر بديع حسن تتلمذ على محمد بن عمر المعروف بابن القوطية صاحب كتاب الافعال الثلاثية والرباعية.
(2) مالك بن أنس بن مالك الاصبحي الحميري امام دار الهجرة وأحد الائمة الاربعة واليه تنسب المالكية، كان صلبا في دينه بعيدا عن الامراء والحكام ولد بالمدينة وتوفي فيها سنة 179 هـ.(1/384)
الرُّؤْيَةِ لَمْ تَمْتَنِعْ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ فِي قُوَّةِ بَصَرِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم. ونفوذ إدراكهما بقوة إلهية منحاها لِإِدْرَاكِ مَا أَدْرَكَاهُ وَرُؤْيَةِ مَا رَأَيَاهُ.. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي «1» أَبُو بَكْرٍ فِي أَثْنَاءِ أَجْوِبَتِهِ عَنِ الْآيَتَيْنِ «2» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا.
وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكِ خَلْقِهِ اللَّهَ لَهُ.
وَاسْتَنْبَطَ ذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ قَوْلِهِ «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي «3» » ثُمَّ قَالَ «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «4» » «5» وَتَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ هُوَ ظُهُورُهُ لَهُ حَتَّى رَآهُ- عَلَى هَذَا الْقَوْلِ..
وَقَالَ جَعْفَرُ «6» بْنُ مُحَمَّدٍ: شَغَلَهُ بِالْجَبَلِ حَتَّى تَجَلَّى- وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَاتَ صعقا بلا إفاقة.
__________
(1) محمد بن الطيب الباقلاني امام اهل السنة توفي سنة 403 هـ وهو غير ابي بكر ابن العربي شيخ المصنف رحمهم الله تعالى.
(2) الايتان هما (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) و «لن تراني» .
(3) سورة الاعراف 143.
(4) صعقا: اي سقط صائحا مغشيا عليه من هول ما رآه من هذا الجبل.
(5) سورة الاعراف 143.
(6) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6»(1/385)
وَقَوْلُهُ هَذَا: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى رَآهُ.
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي «الْجَبَلِ» أَنَّهُ رَآهُ
وَبِرُؤْيَةِ الْجَبَلِ لَهُ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا لَهُ إِذْ جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ.
- وَلَا مِرْيَةَ فِي الْجَوَازِ.. إِذْ ليس في الآيات نص في المنع.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ.. فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ أَيْضًا وَلَا نَصٌّ..
- إِذِ الْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَتَيِ النَّجْمِ. وَالتَّنَازُعُ فِيهِمَا مَأْثُورٌ.
وَالِاحْتِمَالُ لَهُمَا مُمْكِنٌ وَلَا أَثَرَ قَاطِعٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «1» : خَبَرٌ عَنِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِاعْتِقَادِ مُضَمَّنِهِ «2» .
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ «3» مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ «4» . وَهُوَ مضطرب الإسناد
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6»
(2) مضمنه: بضم الميم الاولى وفتح الضاد المعجمة والميم المفتوحة المشددة أي ما تضمنه ودل عليه لفظه من رؤيته صلّى الله تعالى عليه لربه بعينه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «379» رقم «3» .
(4) أي رأيت ربي في أحسن صورة.(1/386)
والمتن وحديث أبي ذر «1» الآخر مُخْتَلِفٌ، مُحْتَمَلٌ، مُشْكِلٌ، فَرُوِيَ «2» «نُورٌ أَنَّى «3» أَرَاهُ»
وَحَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رُوِيَ «نُورَانِيٌّ أَرَاهُ» .
وَفِي حَدِيثِهِ «4» الْآخَرِ.. سَأَلْتُهُ فَقَالَ: رَأَيْتُ نُورًا.
وَلَيْسَ يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ..
فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحَ «رَأَيْتُ نُورًا» فَهُوَ قد أخبر أنّه لم ير الله تعالى.. وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا مَنَعَهُ وَحَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الله تعالى.
وإلى هذا يرجع قوله: «نور أنّى أَرَاهُ» أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ مَعَ حِجَابِ النُّورِ المغشّي للبصر..
وهذا مثل ما في الْحَدِيثِ «5» الْآخَرِ «حِجَابُهُ النُّورُ» .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «6» : «لم أره بعيني.. ولكن رأيته
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(2) رواه مسلم.
(3) أني: بفتح الهمزة وتشديد النون وألف بعدها مقصورة بمعنى كيف.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه الطيالسي عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه في حديث أصله في مسلم أوله: «ان الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» .
(6) رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم.(1/387)
بقلبي مرتين» وتلا: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى «1» » ..
والله تعالى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي الْبَصَرِ فِي الْقَلْبِ..
أَوْ كَيْفَ شَاءَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ..
فَإِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ نَصٌّ بَيِّنٌ فِي الْبَابِ اعْتُقِدَ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ قَطْعِيٌّ يَرُدُّهُ وَاللَّهُ الموفق للصواب.
__________
(1) سورة النجم 8.(1/388)
الفصل السّادس مناجاته لله تعالى
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مُنَاجَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ مَعَهُ بِقَوْلِهِ «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
«1» إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ.
فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُوحِيَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. إِلَّا شُذُوذًا «2» مِنْهُمْ..
فَذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ «3» بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ قَالَ: «أَوْحَى إِلَيْهِ بِلَا واسطة» .
ونحوه عن الواسطي «4» ..
__________
(1) سورة النجم 10.
(2) شذوذا: أي الجماعة من المفسرين قليلة شاذة خالفوهم فيه فشذوذا إما جمع شاذ كقعود جمع قاعد أو مصدر أطلق على الفاعل مبالغته في اتصافهم به حتى كأنهم عينه.
(3) تقدمت ترجمته في ص (55) رقم (6) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (91) رقم (4) .(1/389)
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: «أَنَّ مُحَمَّدًا كَلَّمَ رَبَّهُ فِي الْإِسْرَاءِ» .
وَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ «1» وَحَكَوْهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «2» وَابْنِ عَبَّاسٍ «3» وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ.
وَذَكَرَ النَّقَّاشُ «4» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «5» فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «دَنا فَتَدَلَّى «6» » .
قَالَ «فَارَقَنِي جِبْرِيلُ.. فانقطعت الْأَصْوَاتُ عَنِّي فَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبِّي وَهُوَ يَقُولُ: لِيَهْدَأْ رَوْعُكَ يَا مُحَمَّدُ. ادْنُ ادْنُ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «7» فِي الْإِسْرَاءِ «8» .. نَحْوٌ مِنْهُ..
وَقَدِ احْتَجُّوا فِي هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (381) رقم (2) .
(2) تقدمت ترجمته في ص (256) رقم (2) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (90) رقم (1) .
(5) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(6) سورة النجم 8.
(7) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(8) موقوفا عليه أو مرفوعا عنه. فان صح رفعه وكذا وقفه فلا كلام فيه لأنه يعطى حكمه.(1/390)
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ «1» » !
فَقَالُوا: هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
- مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَتَكْلِيمِ مُوسَى.
- وَبِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، كَحَالِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَكْثَرُ أَحْوَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- الثالث قوله «إِلَّا وَحْياً» ولم يبق من تقسيم صور الْكَلَامِ إِلَّا الْمُشَافَهَةُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: «الْوَحْيُ» هُنَا هُوَ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ دُونَ وَاسِطَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ «2» الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ «3» فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مَا هُوَ أَوْضَحُ فِي سَمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَلَامِ اللَّهِ مِنَ الْآيَةِ فَذَكَرَ فِيهِ:
فَقَالَ الْمَلَكُ «4» .. اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.. فَقِيلَ لِي مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ.. وَقَالَ فِي سَائِرِ كلمات الأذان مثل ذلك.
__________
(1) «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» سورة الشورى 51.
(2) احمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار حافظ من العلماء بالحديث، من أهل البصرة، له مسندان أحدهما كبير سماه البحر الزاخر والآخر صغير، توفي بالرملة سنة 292.
(3) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(4) فيه دلالة على أن الحديث مرفوع.(1/391)
وَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِي مُشْكِلِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْفَصْلِ بَعْدَ هَذَا مَعَ مَا يُشْبِهُهُ، وَفِي أَوَّلِ فَصْلٍ مِنَ الْبَابِ مِنْهُ
- وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنِ اخْتَصَّهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وَلَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ قَاطِعٌ يَمْنَعُهُ.
فَإِنْ صَحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ.
وَكَلَامُهُ تَعَالَى لِمُوسَى كَائِنٌ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ، نَصَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَرَفْعِ مَكَانِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ «1» بِسَبَبِ كَلَامِهِ.. وَرَفَعَ مُحَمَّدًا فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ، حَتَّى بَلَغَ مُسْتَوًى وَسَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ..
فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّ هَذَا، أَوْ يَبْعُدُ سَمَاعُ الْكَلَامِ فَسُبْحَانَ مَنْ خَصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ فوق بعض درجات..
__________
(1) على ما رواه البخاري أن موسى في السماء السابعة.(1/392)
الْفَصْلُ السَّابِعُ الدُّنُوُّ وَالْقُرْبُ
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنْ قَوْلِهِ: «دَنا فَتَدَلَّى «1» فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» »
فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الدُّنُوَّ وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ..
أَوْ مُخْتَصٌّ بأحدهما من الآخر..
أو من سدرة الْمُنْتَهَى.
قَالَ «3» الرَّازِيُّ «4» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «5» هُوَ محمد دنا فتدلى من ربه
__________
(1) أي حيث الضمائر تعود إليه صلّى الله عليه وسلم لا إلى جبريل كما قيل.
(2) سورة النجم (9) .
(3) كما رواه ابن أبي حاتم.
(4) محمد بن عمر بن الحسن التميمي البكري ابو عبد الله فخر الدين الرازي، الامام المفسر أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الاوائل، قرشي النسب أصله من طبرستان، مولده في الري واليها نسبته توفي سنة 606 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .(1/393)
وقيل: معنى «دنا» قرب و «تدلّى» زَادَ فِي الْقُرْبِ.
وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ قَرُبَ.
وَحَكَى مَكِّيٌّ «1» وَالْمَاوَرْدِيُّ «2» عَنِ «3» ابْنِ عَبَّاسٍ «4» هُوَ الرَّبُّ دَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَتَدَلَّى إِلَيْهِ.. أَيْ أَمَرَهُ وَحَكَمَهُ..
وَحَكَى النَّقَّاشُ «5» عَنِ الْحَسَنِ «6» قَالَ: «دَنَا» مِنْ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَتَدَلَّى» فَقَرُبَ مِنْهُ، فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ..
قَالَ «7» .. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «8» : هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ.. تَدَلَّى الرَّفْرَفُ «9» لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ فَدَنَا مِنْ رَبِّهِ..
قَالَ: «فَارَقَنِي جِبْرِيلُ، وَانْقَطَعَتْ عَنِّي الأصوات وسمعت كلام ربي عز وجل» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «3» .
(3) كما رواه ابن جرير.
(4) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(5) تقدمت ترجمته في ص «90» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(7) الحسن او النقاش وهو الأقرب والأنسب.
(8) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(9) الرفوف: وهو الباط مطلقا أو البساط الأخضر وقيل ما كان من الديباج.(1/394)
وَعَنْ «1» أَنَسٍ «2» فِي الصَّحِيح: «عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَيْهِ بِمَا شَاءَ.. وَأَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً «3» ..
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ..
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ «4» : هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا مِنْ رَبِّهِ فكان قاب قَوْسَيْنِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ «5» بْنُ مُحَمَّدٍ: أَدْنَاهُ رَبُّهُ مِنْهُ حَتَّى كَانَ مِنْهُ كَقَابَ قَوْسَيْنِ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَالدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْحُدُودِ..
وَقَالَ أَيْضًا: انْقَطَعَتِ الْكَيْفِيَّةُ عَنِ الدُّنُوِّ.. أَلَا تَرَى كَيْفَ حَجَبَ جِبْرِيلُ عَنْ دُنُوِّهِ، وَدَنَا مُحَمَّدٌ إِلَى مَا أَوْدَعَ قَلْبَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، فَتَدَلَّى بِسُكُونِ قَلْبِهِ إِلَى مَا أَدْنَاهُ، وَزَالَ عَنْ قلبه الشكّ والارتياب.
__________
(1) أي مروي في صحيح البخاري على ما رواه شريك بن أبي غير.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) وهذا الحديث الصحيح من رواية شريك عن أنس. وقد استغرب الذهبي في الميزان هذا اللفظ. فقال بعد أن ذكر حديث الاسراء.. الى أن قال: ثم علا به فوق ذلك مما لا يعلمه الا الله. حتى جاء سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. وهذا من غرائب الصحيح.. كذا ذكره الحلبي.
(4) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .(1/395)
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ إِضَافَةِ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ هُنَا مِنَ اللَّهِ، أَوْ إِلَى اللَّهِ، فَلَيْسَ بِدُنُوِّ مَكَانٍ، وَلَا قُرْبِ مَدًى.. بَلْ كَمَا ذكرنا عن جعفر بن محمد الصَّادِقِ لَيْسَ بِدُنُوِّ حَدٍّ.. وَإِنَّمَا دُنُوُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ، وَقُرْبُهُ منه، إبانة «1» عظيم منزلته، وشريف رُتْبَتِهِ، وَإِشْرَاقُ أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَمُشَاهَدَةُ أَسْرَارِ غَيْبِهِ وَقُدْرَتِهِ.. وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مَبَرَّةٌ وَتَأْنِيسٌ وبسط وإكرام.
«يتأول فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ «2» . «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلى سماء الدُّنْيَا» عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ نُزُولَ إِفْضَالٍ «3» وَإِجْمَالٍ «4» ، وَقَبُولٍ وَإِحْسَانٍ.
قَالَ الْوَاسِطِيُّ «5» : مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ بنفسه دنا، جعل ثمّ مسافة بل كل ما دنا بنفسه من الحق تدلى بعدا، يعني عَنْ دَرْكِ حَقِيقَتِهِ.
إِذْ لَا دُنُوَّ لِلْحَقِّ وَلَا بُعْدَ.
وَقَوْلُهُ «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «6» » .
__________
(1) الإبانة: بكسر الهمزة بمعنى الإظهار.
(2) ما ورد في الكتب الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
(3) إفضال: أي بتفضيله وإنعامه.
(4) إجمال أي فعل جميل بهم على عادته.
(5) تقدمت ترجمته في ص «91» رقم «4» .
(6) سورة النجم 9.(1/396)
فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لَا إِلَى جِبْرِيلَ عَلَى هَذَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَلُطْفِ الْمَحَلِّ، وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعِبَارَةً عَنْ إِجَابَةِ الرَّغْبَةِ، وَقَضَاءِ المطالب وإظهار التحفّي..
وإنافة «1» المنزلة والرتبة مِنَ اللَّهِ لَهُ.
وَيُتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ «2» «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» ..
قُرْبٌ بِالْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ..
وَإِتْيَانٌ بِالْإِحْسَانِ وَتَعْجِيلِ الْمَأْمُولِ.
__________
(1) إنافة: بمعنى اعلاء ورفع.
(2) المروي في صحيح البخاري.(1/397)
الفصل الثامن تفضيله يوم القيامة في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة
عن «1» أنس «2» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدَوْا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا.. لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي.. وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ.
وَفِي رِوَايَةِ ابن زحر «3» عَنِ الرَّبِيعِ «4» بْنِ أَنَسٍ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ «5» : أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا.. وأنا قائدهم
__________
(1) انفرد به الترمذي وقال: انه حسن غريب.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) عبد الله بن زحر الافريقي العابد روى عنه أصحاب السنن، أخرج له البخاري في الادب المفرد وله ترجمة في الميزان.
(4) تقدمت ترجمته في ص «107» رقم «2» .
(5) لعله من طريق اخرى للمصنف غير طريق الترمذي فاندفع به قول الحلبي: هذه الرواية ليست في الكتب الستة فضلا عن قول الترمذي. وتوجه قول الدلجي أن هذه رواية أبي نعيم في الدلائل عن ابن زحر. ثم رأيت التلمساني ذكر أن ثبت بخط القاضي وفي رواية ابن زحر والربيع بن أنس. يعني بالعطف. وعند العرفي عن الربيع عن انس يعني كما في الاصل. وعلى كلا الوجهين المروي عنه هو أنس بن مالك.(1/398)
إِذَا وَفَدُوا.. وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا.. وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا.. وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أُبْلِسُوا.. لِوَاءُ الْكَرَمِ بِيَدِي..
وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ.. وَيَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ.
وَعَنْ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأُكْسَى حُلَّةً مَنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ.. ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ.. لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمُقَامَ غَيْرِي.
وعن أبي «3» سعيد «4» الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ..
وَمَا نَبِيٌّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي.. وأول مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ..
وَعَنْ «5» أَبِي هُرَيْرَةَ «6» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مشفّع.
__________
(1) كما روى الترمذي وصححه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) رواه احمد والترمذي وحسنه. وابن ماجه عنه مرفوعا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم (1) .
(5) رواه مسلم وأبو داوود.
(6) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .(1/399)
وَعَنِ «1» ابْنِ عَبَّاسٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ.. وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح لي فأدخلها فيدخل معي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ. وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَلَا فَخْرَ» .
وَعَنْ أَنَسٍ «3» «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يُشَفَّعُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَا أَكْثَرُ النَّاسِ تَبَعًا» ..
وَعَنْ «4» أَنَسٍ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ الناس يوم القيامة.. وتدرون لم ذَلِكَ؟ .. يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» .. وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ..
وَعَنْ «6» أَبِي هُرَيْرَةَ «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَطْمَعُ أَنْ أَكُونَ أَعْظَمَ الْأَنْبِيَاءِ أَجْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
__________
(1) رواه الترمذي والدارمي.
(2) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(3) رواه مسلم.
(4) كما في الصحيحين.
(5) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(6) رواه مسلم.
(7) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5) .(1/400)
وَفِي حَدِيثٍ «1» آخَرَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ وَعِيسَى فِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمَا فِي أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَيَقُولُ: أَنْتَ دَعْوَتِي وَذُرِّيَّتِي فَاجْعَلْنِي مِنْ أُمَّتِكَ.. وَأَمَّا عِيسَى فَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ بَنُو عِلَّاتٍ «2» أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى.. وَإِنَّ عِيسَى أَخِي لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ» .
قَوْلُهُ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» هُوَ سَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْفِرَادِهِ فِيهِ بِالسُّؤْدُدِ وَالشَّفَاعَةِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَجَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا سِوَاهُ، «وَالسَّيِّدُ» هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ.. فَكَانَ حِينَئِذٍ سَيِّدًا مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، لَمْ يُزَاحِمْهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ وَلَا ادَّعَاهُ..
كَمَا قَالَ تَعَالَى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟. لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «3» » وَالْمُلْكُ لَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.. لَكِنْ فِي الْآخِرَةِ، انْقَطَعَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ لَجَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم جميع
__________
(1) رواه مسلم.
(2) العلات: المراد بالعلات الزوجات الضرائر، وهم من العلل، وهو الشرب مرة بعد مرة، والشرب الاول يسمى نهلا، فكان الزوجات موارد للزوج، او كان أولاد مشاربهم مختلفة في الرضاع، وهذا أقرب.
(3) (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك..) سورة المؤمن 16(1/401)
النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ فَكَانَ سَيِّدَهُمْ فِي الْأُخْرَى دُونَ دَعْوَى.
وَعَنْ «1» أَنَسٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم، «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ:
مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: بِكَ أمرت أن لا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ.
وَعَنْ «3» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ «4» عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ «5» سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ «6» مِنَ الْوَرِقِ «7» ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، كِيزَانُهُ «8» ، كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لم يظمأ أبدا» ..
__________
(1) كما في مسلم.
(2) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1)
(3) في الصحيحين.
(4) تقدمت ترجمته في ص (72) رقم (2)
(5) يدل على انه مربع.
(6) أبيض: أفعل تفضيل من البياض ضد السواد وقد سمع من العرب وورد في الحديث، إلا ان صاحب القاموس، قال: انه شاذ وهذا القول لا معول عليه، لصحة ورود ذلك في الحديث. والحديث من اول ما يحتج به بعد القرآن الكريم، لذلك فلا وجه لا طلاق بعض النحاة أنه لا يبني أفعل من الالوان، ومن العيوب، وإنما يقال أشد بياضا وأبلغ ونحوه..
(7) الورق: بفتح الواو وفتح الراء المهملة وكسرها وسكونها الفضة مطلقا أو ما ضرب منها وفي نسخة (من اللبن) .
(8) كيزانه: جمع كوز: وهو إناء صغير نتناول به الماء للشرب، والاصل أنه إناء ضيق الفم له عروة، فان لم يكن له عروة فهو كوب وجمعه أكواب، فان كان فيه شراب فهو كأس.(1/402)
وَعَنْ «1» أَبِي ذَرٍّ «2» نَحْوَهُ وَقَالَ: «طُولُهُ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ «3» يَشْخَبُ «4» فِيهِ مِيزَابَانِ «5» مِنَ الْجَنَّةِ.
وَعَنْ «6» ثَوْبَانَ «7» مِثْلُهُ، وَقَالَ: «أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» .
وَفِي رِوَايَةِ «8» حَارِثَةَ «9» بْنِ وَهْبٍ: «كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ» .
وقال أنس «10» «أيلة وصنعاء» .
__________
(1) رواه مسلم
(2) تقدمت ترجمته في ص (285) رقم (1) .
(3) قرية في آخر طرف الشام الى البحر متوسطة بين المدينة ودمشق وثمان مراحل بينها وبين مصر وقيل: هي القرية التي قال تعالى عنها: (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) .
(4) يشخب: بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الشين وضم الخاء المعجتين وفتحها. واصل الشخب: ما يخرج من الصدع عند الحلب، والمقصود هنا أنه ينقب مع الصوت.
(5) ميزابان: الميزاب: بكسر الميم وهمزة ساكنة وتبدل ياء سيل الماء.
(6) رواه مسلم.
(7) ثوبان: مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صحابي مشهور. اشتراه ثم أعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخدمه الى ان مات ثم تحول الى الرملة ثم حمص ومات بها سنة 54 هـ.
(8) رواه الشيخان.
(9) حارثة بن وهب الخزاعي وهو أخو عبيد الله بن عمر لأمه وله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن حفصة بنت عمر وغيرها وله في الصحيحين أربعة أحاديث.
(10) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .(1/403)
وَقَالَ «1» ابْنُ عُمَرَ «2» «كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ»
وَرَوَى حَدِيثَ الْحَوْضِ أَيْضًا أَنَسٌ «3» ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ «4» ، وَابْنُ عُمَرَ «5» ، وَعُقْبَةُ «6» بْنُ عَامِرٍ، وحارثة «7» بن وهب الخزاعي، والمستورد «8» ، وأبو بزرة «9» الْأَسْلَمِيُّ، وَحُذَيْفَةُ «10» بْنُ الْيَمَانِ، وَأَبُو أُمَامَةَ «11» ، وَزَيْدُ «12» بن أرقم، وابن مسعود «13» ، وعبد الله «14»
__________
(1) رواه الشيخان عنه.
(2) تقدمت ترجته في ص (182) رقم (1) .
(3) في الصحيحين.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه الشيخان وأبو داوود.
(6) رواه مسلم وغيره والراوي هو عقبة بن عامر بن عبس الجهني الصحابي المشهور وكان قارئا عالما بالفرائض والفقه فصيح اللسان شاعرا كاتبا وهو أحد من جمع القرآن مات سنة 58 هـ.
(7) رواه البخاري والترمذي والراوي تقدمت ترجمته في ص (64) رقم (6)
(8) رواه الشيخان والراوي هو استورد بن شداد بن عمرو بن فهر القرشي نزيل الكوفة وله ولأبيه صحبة شهد فتح مصر وتوفي بالاسكندرية سنة 45 هـ.
(9) رواه أبو داوود وابن حبان والبيهقي والراوي هو ابو برزة نضله ابن عبيد الله الاسلمي الصحابي الامام الجليل توفي سنة 60.
(10) رواه مسلم وغيره والراوي تقدمت ترجمته في ص (64) رقم (4) .
(11) رواه ابن حبان والبيهقي والراوي تقدمت ترجمته في ص (262) رقم (4)
(12) رواه أحمد بن حنبل والبيهقي والراوي هو زيد بن أرقم بن قيس الخزرجي استصغر يوم أحد وأول مشاهده الخندق، غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة توفي بالكوفة سنة 66 هـ.
(13) رواه الشيخان وابن مسعود تقدمت ترجمته في ص (214) رقم (2) .
(14) رواه الشيخان والراوي هو عبد الله بن زيد بن ثعلبة الخزرجي الانصاري رائي الاذان مات سنة 32 هـ. وهو عن اربع وستين وصلّى عليه سيدنا عثمان.(1/404)
بْنُ زَيْدٍ، وَسَهْلُ «1» بْنُ سَعْدٍ، وَسُوَيْدُ «2» بْنُ جَبَلَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ «3» ، وَعُمَرُ «4» بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ بُرَيْدَةَ «5» ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «6» ، وَعَبْدُ اللَّهِ «7» الصُّنَابِحِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ «8» ، وَالْبَرَاءُ «9» ، وَجُنْدُبُ «10» وَعَائِشَةُ «11» وَأَسْمَاءُ «12» بِنْتَا أبي بكر، وأبو بكره «13» ،
__________
(1) رواه الشيخان والراوي تقدمت ترجمته في ص «231» رقم «5» .
(2) رواه البيهقي وأبو زرعة الدمشقي في مسند أهل الشام وراوي الحديث سويد بن جبلة الفزاري قيل لم تصح صحبته فحديثه مرسل وقيل إنه صحابي لم يرو عنه إلا حديث واحد.
(3) رواه في صحيح أبي عوانه والبيهقي وأبو بكر تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6»
(4) رواه البيهقي في البعث وعمر تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4»
(5) وقع هذا الاسم زيادة على ما في النسخ المصححة والراوي عبد الله بن بريدة قاضي مرو وعالمها وهو وأخوه سليمان تابعان فلا ينبغي ذكرهما مع الصحابة.
(6) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .
(7) رواه أحمد وابن ماجه عنه والراوي هو عبد الله الصنابحي نسبة الى جده صنابح وقيل اسم بطن من العرب صحابي اسمه عبد الله وقيل أبو عبد الله وقيل ابو عمرو ...
(8) رواه الشيخان والراوي تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(9) رواه أحمد والطبراني والراوي تقدمت ترجمته في ص «46» رقم «4» .
(10) رواه الشيخان والراوي تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(11) رواه مسلم والراوي تقدمت ترجمته في ص «56» رقم «5» .
(12) رواه الشيخان والراوية أسماء بنت أبي بكر الصديق صحابية من الفضليات اخت عائشة لابيها وأم عبد الله بن الزبير وكانت فصيحة حاضرة القلب واللب وخبرها مع الحجاج بعد مقتل ابنها عبد الله خبر مشهور عاشت مائة سنة وتوفيت سنة 73 هـ.
(13) رواه الطبراني والراوي هو منيع بن الحارث الثقفي اعتزل يوم الجمل وكان يقول أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمي أبا بكرة لأنه تدلى من سور الطائف على بكره لما منع الخروج.(1/405)
وَخَوْلَةُ «1» بِنْتُ قَيْسٍ ... وَغَيْرُهُمْ [2] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين.
__________
[2] وهم كثير حتى زعم المصنف تواتر حديث الحوض والظاهر أن تواتره معنوي لا لفظي لقول ابن الصلاح وغيره: لا يكاد يوجد شرط هذا، وروى حديث الحوض خمسة وخمسون صحابيا خرجت أحاديثهم في الاحاديث المتواترة أما الباقون فهم: أبو بكر الصديق في صحيح ابن حبان وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وحذيفة بن أسيد وزيد بن ثابت وحمزة بن عبد المطلب والحسن بن علي وسليمان وسمرة وأبو الدرداء وابن مسعود وأحاديثهم في الطبراني وأسيد بن حضير في الصحيحين وابن عباس في البخاري وأم سلمة في مسلم وجابر بن عبد الله وعائذ بن عمرو وثابت بن أرقم وخولة بنت حكيم في المسند ولقيط بن عامر في زيادات المسند وخباب بن الارت في المستدرك وكعب بن عجرة في الترمذي والنسائي وبريدة في مسند البزار وعتبة بن عبد والعرباض ابن سارية في صحيح ابن حبان وعمر بن الخطاب في البعث للبيهقي والنواس بن سمعان في «3» لابن أبي الدنيا وعثمان بن مظعون ذكره ابن كثير في تاريخه وعبد الرّحمن بن عوف ذكره ابن منده في مستخرجه ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم ذكره ابن القيم في لحاوي.
__________
(1) رواه أحمد وغيره عنها. وخولة بنت قيس بن فهد الانصارية النجارية الصحابية زوج سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلّى الله عليه وسلم.
(3) هكذا ورد في الأصل.(1/406)
الفصل التاسع فِي تَفْضِيلِهِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْخِلَّةِ
جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ.. وَاخْتُصَّ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَبِيبِ اللَّهِ..
عَنْ «1» أَبِي سَعِيدٍ «2» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا «3» لا تخذت أَبَا بَكْرٍ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ «4» » .
وَمِنْ «5» طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ «6» بْنِ مسعود: «وقد اتّخذ الله صاحبكم خليلا» .
__________
(1) حديث صحيح رواه البخاري وغيره من طرق متعددة.
(2) تقدمت ترجمته في ص (63) رقم (1) .
(3) الأحاديث تفيد أن المخاللة من الجانبين إذا كانت بمعنى المحبة لا من الخلة بمعنى، الحاجة فان الله غني عن العالمين.
(4) كما سيأتي مصرحا من حديث ابن مسعود.
(5) رواه مسلم والترمذي والنسائي.
(6) تقدمت ترجمته في ص (214) رقم (2) .(1/407)
وَعَنِ «1» ابْنِ عَبَّاسٍ «2» قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ.. قَالَ:
فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ..
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَجَبًا.. إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا..
وَقَالَ آخَرُ: «مَاذَا «3» بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى.. كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا» .
وَقَالَ آخَرُ: «فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وروحه» .
وقال آخر: «آدم اصْطَفَاهُ اللَّهُ» .
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ، وهو كذلك، وعيسى روح الله، وهو كذلك، وآدم اصطفاه اللَّهِ.. وَهُوَ كَذَلِكَ.. أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ.. وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ.. وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حلق الجنة فيفتح الله
__________
(1) رواه الدارمي والترمذي عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(3) ماذا: يعني: ليس اتخاذ الله ابراهيم خليلا بأعجب من كلام موسى.(1/408)
لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ» ..
وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مِنْ «3» قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا.. فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التوراة.
أسب «4» حَبِيبُ الرَّحْمَنِ» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ «الْخِلَّةِ» وَأَصْلِ اشْتِقَاقِهَا.
فَقِيلَ: «الْخَلِيلُ» الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ اخْتِلَالٌ.
وَقِيلَ: «الْخَلِيلُ» الْمُخْتَصُّ «5» .. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ وَاحِدٍ
وقال بعضهم: أصل «الخلّة «6» » الاستصفاء «7» .. وسمي
__________
(1) من احاديث الاسراء وهو الذي رواه البيهقي وصححه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) وفي نسخة في قول الله والاصح روايته بلفظ من.
(4) قال الشيخين: «أنه وقع هكذا في النسخ المعتمدة من الشفاء بهمزة مفتوحه وسين مهملة ساكنه وباء موحدة، وهي هكذا وفي نسخة المصنف المبيضة المروية عنه وصحفها بعضهم فكتب انت وهي لفظة عبرانية بمعنى أنت وقال الدلجي إن بعد السين تاء مثناة فوقية وفسره بأنت» .
(5) المختص: هو الذي اختص بخدمة الله واختيار ما كلفه من فعل وترك.
(6) الخلة: بضم الخاء.
(7) الاستصفاء: أي كون محبته ومودته صافية أي خالصة من الكدورات.(1/409)
إِبْرَاهِيمُ «خَلِيلَ اللَّهِ» لِأَنَّهُ يُوَالِي فِيهِ وَيُعَادِي فِيهِ.. وَخَلَّةُ اللَّهِ لَهُ.
نَصْرُهُ وَجَعْلُهُ إِمَامًا لِمَنْ بَعْدَهُ.
وَقِيلَ: «الْخَلِيلُ» أَصْلُهُ الْفَقِيرُ، الْمُحْتَاجُ، الْمُنْقَطِعُ..
مَأْخُوذٌ مِنَ «الْخُلَّةِ «1» » وَهِيَ الْحَاجَةُ.. فَسُمِّيَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّهُ قَصَرَ حَاجَتَهُ عَلَى رَبِّهِ، وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ بِهَمِّهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَبْلَ غَيْرِهِ، إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ فِي الْمَنْجَنِيقِ، لِيُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟.
قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا..
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ «2» بْنُ فُورَكٍ «الْخِلَّةُ» صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِتَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ..
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ «الْخِلَّةِ» الْمَحَبَّةُ.. وَمَعْنَاهَا الْإِسْعَافُ وَالْإِلْطَافُ، وَالتَّرْفِيعُ، وَالتَّشْفِيعُ..
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: «وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.. قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟!. «3» »
فأوجب للمحبوب.. أن لا يؤاخذ بذنوبه..
__________
(1) الخلة: بفتح الخاء.
(2) تقدمت ترجمته في ص «119» رقم «4»
(3) سورة المائدة 18(1/410)
قال: هذا والخلّة أقوى من البنوّة.. لأن البنوّة قد تكون فيها العداوة.
كا قَالَ تَعَالَى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ «1» » الْآيَةَ..
وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَدَاوَةٌ مَعَ خِلَّةٍ.. فَإِذَا.. تَسْمِيَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- «بِالْخِلَّةِ» إِمَّا بِانْقِطَاعِهِمَا إِلَى اللَّهِ، وَوَقْفِ حَوَائِجِهِمَا عَلَيْهِ، وَالِانْقِطَاعِ عَمَّنْ دُونَهُ، وَالْإِضْرَابِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ.
- أَوْ لِزِيَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمَا وَخُفْيِ أَلْطَافِهِ عِنْدَهُمَا، وَمَا خَالَلَ بَوَاطِنَهُمَا مِنْ أَسْرَارٍ إِلَهِيَّتِهِ، وَمَكْنُونِ غُيُوبِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.
- أَوْ لِاسْتِصْفَائِهِ لَهُمَا، وَاسْتِصْفَاءِ قُلُوبِهِمَا عَمَّنْ سِوَاهُ، حَتَّى لَمْ يُخَالِلْهُمَا حُبٌّ لِغَيْرِهِ..
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: «الْخَلِيلُ» مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِسِوَاهُ..
وَهُوَ عِنْدَهُمْ معنى قوله صلى الله عليه وسلم «2» : «لو كنت متخذا خليلا
__________
(1) «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة التغابن (14)
(2) كما رواه البخاري: أن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر و ...(1/411)
لا تخذت أَبَا بَكْرٍ «1» خَلِيلًا لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ» .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ «أَيُّهُمَا أَرْفَعُ دَرَجَةً.. الْخِلَّةُ أو درجة المحبه» ..
فجعلها بَعْضُهُمْ: «سَوَاءً فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا وَلَا الْخَلِيلُ إِلَّا حَبِيبًا.. لَكِنَّهُ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ وَمُحَمَّدًا بِالْمَحَبَّةِ» .
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: «دَرَجَةُ الْخِلَّةِ أَرْفَعُ.. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» فَلَمْ يَتَّخِذْهُ.. وَقَدْ أَطْلَقَ الْمَحَبَّةَ لِفَاطِمَةَ «2» وَابْنَيْهَا وَأُسَامَةَ «3» وَغَيْرِهِمْ..
وَأَكْثَرُهُمْ: جَعَلَ الْمَحَبَّةَ أَرْفَعَ مِنَ الْخِلَّةِ لِأَنَّ دَرَجَةَ الْحَبِيبِ نَبِيِّنَا أَرْفَعُ مِنْ دَرَجَةِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ.
وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَيْلُ إلى ما يوافق المحبّ «4» .. ولكن هذا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» .
(2) فاطمة بنت سيد الخلق محمد صلّى الله عليه وسلم وهي ومريم بنت عمران أفضل نساء العالمين زوجها النبي صلّى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب وهي الوحيدة التي عاشت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام من أبنائه توفيت سنة 11 هـ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بستة أشهر وقيل أقل من ذلك وكان عمرها ثلاثين سنة أو ما دون.
(3) أسامة بن زيد بن حارثة الحب ابن الحب يكنى أبا محمد وأمه أم أيمن حاضنة النبي صلّى الله عليه وسلم ولد في الاسلام ومات النبي صلّى الله عليه وسلم وله عشرون سنة وكان قد أمره على جيش عظيم فمات قبل ان يتوجه فأنفذه أبو بكر وكان عمر يجله ويكرمه اعتزل الفتن بعد مقتل سيدنا عثمان الى ان مات في أواخر خلافة معاوية حيث نزل الى المدينة وبها توفي سنة 54 هـ.
(4) المحب: بضم الميم وفتح الحاء بمعنى المحبوب.(1/412)
فِي حَقِّ مَنْ يَصِحُّ الْمَيْلُ مِنْهُ، وَالِانْتِفَاعُ بالوفق «1» وهي درجة المخلوق.. فأمّا الخالق فَمُنَزَّهٌ عَنِ الْأَغْرَاضِ.
- فَمَحَبَّتُهُ لِعَبْدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ سَعَادَتِهِ، وَعِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقُهُ، وَتَهْيِئَةُ أَسْبَابِ الْقُرْبِ، وَإِفَاضَةُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِ.. وَقُصْوَاهَا كَشْفُ الْحُجُبِ عَنْ قَلْبِهِ، حَتَّى يَرَاهُ بِقَلْبِهِ، وَيَنْظُرَ إِلَيْهِ بِبَصِيرَتِهِ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ «2» .
«فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ» وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا سِوَى التَّجَرُّدِ لِلَّهِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ. وَصَفَاءِ الْقَلْبِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْحَرَكَاتِ لِلَّهِ.
كَمَا قالت عائشة «3» رضي الله عنها: «كان خلقه الْقُرْآنُ..
بِرِضَاهُ يَرْضَى. وَبِسُخْطِهِ يَسْخَطُ» .
وَمِنْ هَذَا عبّر بعضهم عن الخلة بقوله:
__________
(1) الوفق: بفتح الواو وسكون الفاء قبل القاف أي الموافق فسمي الفاعل بالمصدر او هو على أصله بمعنى الموافقة بين الشيئين وهذا الاخير خير
(2) الحديث القدسي رواه البخاري.
(3) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .(1/413)
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا
فَإِذَا مَا نَطَقْتُ كُنْتَ حَدِيثِي ... وَإِذَا مَا سَكَتُّ كُنْتَ الْغَلِيلَا «1»
فَإِذَا مَزِيَّةُ الخلّة وخصوصية المحبة حاصلة لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُنْتَشِرَةُ، الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَكَفَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ... «2» » الْآيَةَ
حَكَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْكُفَّارُ:
إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَتَّخِذَهُ حَنَانًا «3» كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى بن مَرْيَمَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْظًا لَهُمْ، وَرَغْمًا عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ:
«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «4» » .
فَزَادَهُ شَرَفًا بِأَمْرِهِمْ بِطَاعَتِهِ، وَقَرْنِهَا بِطَاعَتِهِ ثُمَّ توعّدهم على التولّي عنه.
__________
(1) وفي رواية الدخيلا والمراد بالغليل: بالغين المعجمة ما كان داخل القلب من قولهم تغلغل الماء وتغلل النبات إذا جرى تحته مستترا وكذا المراد بالدخيل ما هو داخل القلب والبدن لا الأجنبي.
(2) «فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة آل عمران 30.
(3) حنانا: بفتحتين مخفف النون معناه الرحمة والاشفاق مأخوذ من الحنين وهو يكون مع صوت والمراد أن نعطف عليه ونجعله موضع الحنان والرحمة أي نتبرك ونتضرع به.
(4) «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» سورة آل عمران 32.(1/414)
بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «1» » .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ «2» بْنُ فُورَكٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ المحبة والخلّة.. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَهْدِي إِلَى مَا بَعْدَهُ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: «الْخَلِيلُ» يَصِلُ بِالْوَاسِطَةِ.. من قوله:
«وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» » :
«وَالْحَبِيبُ» يَصِلُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «4» » .
وَقِيلَ: «الْخَلِيلُ» الَّذِي تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الطَّمَعِ مِنْ قَوْلِهِ:
«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي «5» » .
«وَالْحَبِيبُ» الَّذِي مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الْيَقِينِ مِنْ قَوْلِهِ:
«لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «6» » الآية
__________
(1) سورة آل عمران 32.
(2) تقدمت ترجمته في ص «119» رقم «4» .
(3) سورة الانعام 75 «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»
(4) سورة النجم 9
(5) سورة الشعراء 82 «يَوْمِ الدِّينِ»
(6) سورة الفتح 2 «وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً»(1/415)
«الخليل» قال: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ «1» »
«وَالْحَبِيبُ» قِيلَ لَهُ: «يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ «2» »
فابتديء بالبشارة قبل السؤال.
«والخليل» قال يوم المحنة حسبي الله.
«والحبيب» قيل له «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ «3» » .
«وَالْخَلِيلُ» قَالَ: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «4» »
«والحبيب» قيل له «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «5» »
أُعْطِي بِلَا سُؤَالٍ
«وَالْخَلِيلُ» قَالَ «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «6» »
«وَالْحَبِيبُ» قِيلَ لَهُ «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ «7» » .
__________
(1) سورة الشعراء 87
(2) «وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» التحريم (8) .
(3) سورة الانفال 64 «وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... »
(4) سورة الشعراء 84
(5) سورة الانشراح 4
(6) سورة ابراهيم 35 «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ»
(7) سورة الاحزاب 33 «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1/416)
وفيما ذكرناه تنبيه على مقصد أصحاب المقال من تفضيل المقامات والأحوال، و «كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا «1» » .
__________
(1) سورة الإسراء 84 «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ.....(1/417)
الفصل العاشر في تفضيله بالشّفاعة والمقام المحمود
قال تَعَالَى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» » .
عَنْ آدَمَ «2» بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ «3» يَقُولُ «4» : «إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جثى «5» . كل أمّة تتبع نبيّها يقولون:
__________
(1) سورة الاسراء 79.
(2) آدم بن علي العجلي روى عن سيدنا عبد الله بن عمر وهو ثقة ليس به بأس توفي في ولاية هشام بن عبد الملك.
(3) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1»
(4) رواه البخاري موقوفا على ابن عمر ومثله لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع واحتمال أنه سمعه من أهل الكتاب بعيد لا يعول عليه وكونه سمعه من صحابي آخر لا يضر لأن مرسل الصحابى مقبول وهذا مما قاله أهل الاصول وقبله الأئمة في مصطلح الحديث وفيه بحث، لانه يجوز أن يكون الصحابي ممن قرأ الكتب القديمة او يكون استنبطه من كتاب او سنة فينبغي تقييده بما ذكر وأخرجه النسائي أيضا.
(5) جثى: بضم الجيم مقصور منون وجوز كسر جيم أيضا، ج جثوة: مثلث الاول وأصله الكوم المجتمع من تراب ونحوه فاستعير لمعنى الجماعة أن يجتمعون جماعات كل أمة جماعة تابعة لبنيها.(1/418)
يَا فُلَانُ اشْفَعْ لَنَا.. يَا فُلَانُ اشْفَعْ لَنَا.. حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.»
وَعَنْ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» : سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي قَوْلَهُ «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» .
فقال «هي الشَّفَاعَةُ» .
وَرَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ «3» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ.. فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ» .
وعن ابن عمر «5» رضي الله عنهما- وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ- قَالَ: «فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدَهُ» .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «6» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «7» «أَنَّهُ قِيَامُهُ عَنْ يَمِينِ العرش
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5»
(3) كعب بن مالك بن القين وهو شاعر مشهور شهد العقبة وبايع بها وتخلف بدر وشهد أحدا وما بعدها وتخلف في تبوك وهو احد الثلاثة الذين تيب عليهم مات بالشام في خلافة معاوية.
(4) رواه أحمد بن حنبل مسندا.
(5) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «256» رقم «2» .
(7) رواه أحمد وغيره.(1/419)
مَقَامًا لَا يَقُومُهُ غَيْرُهُ يَغْبِطُهُ «1» فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ»
وَنَحْوُهُ عَنْ كَعْبٍ «2» وَالْحَسَنِ «3» .
وَفِي رِوَايَةٍ «هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ» .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «4» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» : «إِنِّي لَقَائِمٌ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ.. قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى «6» كُرْسِيِّهِ.. الْحَدِيثَ» .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «8» «خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ؟ وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ.
__________
(1) يغبطه: من الغبطة بالغين المعجمة والموحدة والطاء المهملة: هي تمنى المرء أن ينال مثل ما رآه عند غيره من النعم، وكل أمر محمود من غير أن يحب زوالها، فإن أحب زوالها فهو الحسد المذموم ويغبط بزنة يضرب.
(2) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3»
(3) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8»
(4) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2»
(5) رواه أحمد في مسنده.
(6) وفي نسخة عن كرسيه.
(7) تقدمت ترجمته في ص «118» رقم «4»
(8) رواه ابن ماجة في الشعب(1/420)
وَعَنْ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ..
مَاذَا وَرَدَ عَلَيْكَ فِي الشَّفَاعَةِ فَقَالَ: شَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ لِسَانُهُ قَلْبَهُ» .
وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ «3» قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» : «أُرِيتُ مَا تَلْقَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي.. وَسَفْكَ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ.. وَسَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا سَبَقَ للأمم قَبْلَهُمْ.. فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِمْ.. فَفَعَلَ» .
وَقَالَ «5» حُذَيْفَةُ «6» : يَجْمَعُ اللَّهُ الناس في صعيد «7» واحد حيث
__________
(1) رواه البيهقي عنه. وكذا في نسخة أبي عبد الله الحاكم وصححه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) وهي ام المؤمنين بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنهم واسمها رملة على الصحيح وقيل هند وهي من السابقات الى الاسلام توفيت سنة 44 هـ.
(4) رواه الحاكم والبيهقي في الشعب.
(5) كما رواه البيهقي والنسائي. وهو وان كان موقوفا فهو مرفوع حكما، والموقوف ما وقف لفظه على الصحب فان أسند متنه النبي فهو المرفوع وان أسند للتابعي فهو المقطوع فان سقط من سنده راو فهو المنقطع ما لم يكن الصحابي وإلا فهو مرسل ولذا قال الامام البيقوني «ومرسل منه الصحابي سقط» ولما كان معنى الحديث وارد عن النبي حكم عليه بالرفع.
(6) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4» .
(7) صعيد: الاصل في الصعيد التراب فأريد به هنا أرض المحشر وقيل هو تربة ليس فيها رمل ولا شجر يوم تبدل الارض غير الارض.(1/421)
يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ «1» الْبَصَرُ.. حُفَاةً «2» عُرَاةً «3» كَمَا خُلِقُوا، سُكُوتًا لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَيُنَادَى مُحَمَّدٌ.. فَيَقُولُ:
لَبَّيْكَ «4» وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالْمُهْتَدِي مَنْ هَدَيْتَ، وعبدك بين يديك ولك وإليك، ولا ملجأ ولا منجا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ.. تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ.. سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ» .
قَالَ: فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي ذَكَرَ الله.
وقال ابن عباس «5» رضي الله عنهما «6» .
إِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الجنة فيبقى آخِرُ زُمْرَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَآخِرُ زُمْرَةٍ مِنَ النار.. فتقول زمرة النار لزمرة الجنة:
__________
(1) ينفذهم البصر: بفتح الياء المثناة التحتية وضم الفاء وروي بضم الياء المثناة التحتية وكسر الفاء والمراد بصر الرائي أي يراهم دفعة واحده وليس المراد بصر الله.
(2) حفاة: منصوبة على الحالية وهي جمع حافي وهو الذي لا نعل له وقيل جمع حفي وهو الذي رق جلد قدميه.
(3) عراة منصوبة على الحالية وهي جمع عاري وقيل جمع عريان وهو قليل في الاستعمال وهو الذي لا ثوب له ولا لباس يستره.
(4) لبيك وسعديك: منصوبان على المصدرية بفعل لا يظهر في الاستعمال من التلبية وهي اجابة المنادي من ألب بالمكان أي أقام ولا يستعملان إلا بصيغة التثنية والمراد بها مجرد التكرير ولو مرارا عديدة أي أجبتك إجابة بعد إجابة.
(5) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(6) لفظه موقوف وحكمه مرفوع.(1/422)
مَا نَفَعَكُمْ إِيمَانُكُمْ!! فَيَدْعُونَ رَبَّهُمْ وَيَضِجُّونَ فَيَسْمَعُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ.
فَيَسْأَلُونَ آدَمَ، وَغَيْرَهُ بَعْدَهُ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ.. فَكُلٌّ يَعْتَذِرُ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْفَعُ لَهُمْ. فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ..
وَنَحْوُهُ «1» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «2» أَيْضًا، وَمُجَاهِدٍ «3» ، وَذَكَرَهُ عَلِيُّ «4» بْنُ الْحُسَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» ..
وَقَالَ «6» جَابِرُ «7» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ «8» الْفَقِيرِ: «سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ؟ - يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ-
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.. قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ- يَعْنِي مِنَ النَّارِ- وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ فِي إِخْرَاجِ الْجَهَنَّمِيِّينَ-
__________
(1) رواه أحمد والطبالسي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «114» رقم «2»
(3) تقدمت ترجمته في ص «70» رقم «1»
(4) عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب «زين العابدين» واحد ممن كان يضرب بهم المثل في الحلم والورع كان ينفق على مائة بيت من بيوت المدينة سرا توفي سنة 94 هـ
(5) أي مرسلا. ورواه الحاكم عن أهل العلم عنه موصولا.
(6) رواه مسلم.
(7) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(8) امام ثقة وهو يزيد بن صهيب لقب بالفقير لانه أصيب في فقار ظهره فكان يشكوها روى عنه ابو حنيفة ومسعر وأصحاب الكتب الستة وجماعة ثقة.(1/423)
وَعَنْ أَنَسٍ «1» نَحْوُهُ «2» وَقَالَ: فَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ «3» وَأَبِي هُرَيْرَةَ «4» وَغَيْرِهِمَا- دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ «5» - قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» : «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ- أَوْ قَالَ فَيُلْهَمُونَ- فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا» .
وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ: «مَاجَ «7» النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ» .
وَعَنْ «8» أَبِي هُرَيْرَةَ «9» : «وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُونَ: أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ!! .. فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ- زَادَ بَعْضُهُمْ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ- اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا.. أَلَا تَرَى ما نحن فيه!!! ..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «42» رقم «1»
(2) رواه الشيخان وفي حديث رواه أحمد في مسنده.
(3) تقدمت ترجمته في ص «42» رقم «1»
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5»
(5) أي اتفق الحديثان لفظا ومعنى
(6) رواه الشيخان.
(7) ماج: أي دخل بعضهم في بعض واختلطوا لاضطرابهم.
(8) رواه الشيخان.
(9) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5»(1/424)
فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ.. نَفْسِي..
نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي.. اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ.. فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ!!! أَلَا تَرَى مَا بَلَغَنَا أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟! فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ.. نَفْسِي.. نَفْسِي..
قَالَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ «1» : وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي.. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي.. اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ.
فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ.
فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ.. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ.. أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟!.
فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي قد غضب اليوم غضبا ... فذكر مثله..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .(1/425)
وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ «1» - نَفْسِي.. نَفْسِي.. لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّهُ عَبْدٌ آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وكلّمه، وقرّبه نجيّا.
فَيَأْتُونَ مُوسَى. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا- وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ «2» الَّتِي أَصَابَ، وَقَتْلَهُ «3» النَّفْسَ.. نَفْسِي نَفْسِي. وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ.. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ. عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
فَأُوتَى فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا.. فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي..
فَإِذَا رأيته وقعت ساجدا.
__________
(1) هذه الكلمات هي: 1- قوله إني سقيم لما دعي الى الاصنام. 2- قوله لزوجته لما طلبها الملك منه انها أختي. 3- قوله في حق الاصنام «فعله كبيرهم هذا» . وهذا كله مخالف للواقع ولاعتقاده إلا ان ابراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لم يقصد به حقيقته، وإنما قاله لضرب من التأويل فصده فليس يكذب، وإنما سماه كذبا نظرا لما يظهر منه للمخاطب، وخاف أن يؤاخذ به لعلو مرتبته وعظمة الربوبية عنده، وأن مقامه يقتضي أن لا يداري مخلوقا أو يخافه، وإلا فهو صلّى الله عليه وسلم كسائر الانبياء معصوم من الكذب وغيره.
(2) الخطيئة التي وقعت منه وعاتبه الله عليها بقوله «ما أعجلك عن قومك يا موسى» كما هو مبين في التفسير.
(3) وهو القبطي الذي استغاثه الاسرائيلي عليه فوكزه موسى فمات ولم يكن عامدا لقتله وإنما هو لدفع الصائل ومثله جائز لكنه عليه الصلاة والسلام خشي المؤاخذة به ولذا استغفر منه وعده من فعل الشيطان فلا ينافي هذا عصمته عليه الصلاة والسلام.(1/426)
وَفِي رِوَايَةٍ: فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا.
وفي رواية: فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الّا أنّه يُلْهِمَنِيهَا اللَّهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي.
قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ. ارْفَعْ رَأْسَكَ.
سَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ.. فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ.. أُمَّتِي..
يَا رَبِّ.. أُمَّتِي.. فَيَقُولُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ.. وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ» .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ هَذَا الْفَصْلَ وَقَالَ مَكَانَهُ:
ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا.. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ.. ارْفَعْ رَأْسَكَ.. وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ «1» .. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي.. أُمَّتِي.. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ إلى
__________
(1) تعطه: الضمير لما سأل أو هو هاء سكت للوقف.(1/427)
رَبِّي، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ- وَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ وَقَالَ فِيهِ «1» - مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ «2» - قَالَ:
فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَرْجِعُ- وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ فِيهِ- مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ- فَأَفْعَلُ وَذَكَرَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ «3» - فَيُقَالُ لِي: ارفع رأسك، وقل يسمع وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهُ.. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي «4» لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَمِنْ رِوَايَةِ قتادة «5» عنه «6» قال: فلا أدري في الثالثة أو الرابعة، فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ الّا من حبسه القرآن «7»
__________
(1) في الحديث من رواية مسلم كما ذكرها النووي.
(2) الخردل: وهو حب معروف في غاية الصغر.
(3) من رواية البخاري.
(4) جبريائي: بالمد مضاف لياء المتكلم وجيمه مكسورة وجوز فتحها وياؤه ساكنة وقيل إنه مقصور ومد لمشاكله الكبرياء ورد بانه سمع كذلك من غير ازدواج وهو والجبروت بفتح الباء وسكونها بمعنى وتاؤه للمبالغة كالملكوت.
(5) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3»
(6) عنه أي عن أنس.
(7) أي لم يبق بعد هؤلاء الخارجين إلا من حكم الله في القرآن بخلوده في العذاب ولم يؤذن في الشفاعة لهم وهم المنافقون والكفار لقوله تعالى في سورة النساء 146 «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» أي شفيعا وقوله في سورة النساء 116 «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»(1/428)
- أي من وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ- وَعَنْ «1» أَبِي بَكْرٍ، وَعُقْبَةَ «2» بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ «3» ، وَحُذَيْفَةَ «4» مِثْلُهُ قَالَ: «فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتَأْتِي الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ» .
وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ «5» أَبِي مَالِكٍ عَنْ حُذَيْفَةَ «6» : فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَشْفَعُ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ فَيَمُرُّونَ ... أَوَّلُهُمْ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ وَالطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ «7» ، وَنَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ.. يَقُولُ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى يَجْتَازَ النَّاسُ- وَذَكَرَ آخِرَهُمْ جَوَازًا.. الْحَدِيثَ
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «8» : فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ «9» .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «10» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «11» : يُوضَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ مَنَابِرُ يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، وَيَبْقَى مِنْبَرِي لَا أَجْلِسُ عَلَيْهِ.. قَائِمًا بَيْنَ يَدَيْ ربي منتصبا.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» والحديث رواه أحمد وابن حبان.
(2) تقدمت ترجمته في ص «331» رقم «3» والحديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» والحديث رواه الترمذي.
(4) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4» والحديث رواه ابن أبي داود في البعث.
(5) كما أخرجه ابن أبي داود في البعث.
(6) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4» والحديث رواه ابن أبي داود في البعث.
(7) شد الرجال: الشد: سرعة الجري والرجال جمع رجل بالجيم ضد المرأة.
(8) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5»
(9) هذا مما رواه الشيخان.
(10) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6»
(11) كما رواه الحاكم والبيهقي في البعث.(1/429)
فيقول الله تبارك وتعالى.. ما تريد أن أصنع بِأُمَّتِكَ؟. فَأَقُولُ:
يَا رَبِّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ.. فَيُدْعَى بهم فيحاسبون.. فمنهم من يدخل الجنة بِرَحْمَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِي، وَلَا أَزَالُ أَشْفَعُ حَتَّى أُعْطَى صِكَاكًا «1» بِرِجَالٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ.. حَتَّى إِنَّ خَازِنَ النَّارِ لَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ.. مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ فِي أُمَّتِكَ مِنْ نِقْمَةٍ..
وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ «2» النُّمَيْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ «3» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» قَالَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْفَلِقُ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِهِ «5» وَلَا فَخْرَ وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ وَلَا فَخْرَ، فَآتِي فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ:
مَنْ هَذَا؟. فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ.. فَيُفْتَحُ لِي.. فَيَسْتَقْبِلُنِي الْجَبَّارُ تَعَالَى فَأَخِرُّ له ساجدا» - وذكر نحو ما تقدم-
__________
(1) صكاكا: بالصاد المهملة وكاف جمع صك كصكوك، وهو الورقة التي تكتب للمصالح وهو معرب صك بالجيم المعجمة.
(2) زياد بن عبد الله البصري النميري نسبة الى نمير قبيلة سميت باسم أبيها وقد اختلف فيه فقيل انه ثقة وقيل انه ضعيف لا يحتج به.
(3) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(4) رواه البيهقي وأبو نعيم في الدلائل.
(5) جمجمته: بضم الجيم الاولى والثانية وهي الرأس أو قحف الرأس وعظمه الذي فيه الدماغ وخصها لانها أول ما يظهر منه.(1/430)
وَمِنْ رِوَايَةِ أُنَيْسٍ «1» .. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «2» :
لَأَشْفَعَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكْثَرَ مِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ حَجَرٍ وَشَجَرٍ..
فَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَامَهُ الْمَحْمُودَ مِنْ أَوَّلِ الشَّفَاعَاتِ إِلَى آخِرِهَا، مِنْ حِينِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ لِلْحَشْرِ، وَتَضِيقُ بِهِمُ الْحَنَاجِرُ، وَيَبْلُغُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ وَالشَّمْسُ وَالْوُقُوفُ مَبْلَغَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْحِسَابِ، فَيَشْفَعُ حِينَئِذٍ لِإِرَاحَةِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُوضَعُ الصِّرَاطُ وَيُحَاسَبُ النَّاسُ- كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «3» وَحُذَيْفَةَ «4» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَتْقَنُ «5» - فَيُشَفَّعُ فِي تَعْجِيلِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَى الْجَنَّةِ- تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ-
ثُمَّ يَشْفَعُ فِيمَنْ وَجَبَ عليه العذاب ودخل النار منهم- حسبما تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ- ثُمَّ فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- وَلَيْسَ هَذَا لِسِوَاهُ صَلَّى الله عليه وسلم.
__________
(1) الاشهلي رجل من الأنصار، صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عنه شهر بن حوشب. ذكره ابن عبد البرقي الاستيعاب.
(2) روى حديثه الطبراني في الاوسط وقال: اسناده ليس بالقوي وقد أخرجه أحمد عن بريدة بلفظ أني لأشفع.
(3) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4»
(5) أي أكثر إتقانا من غيره.(1/431)
وَفِي الْحَدِيثِ الْمُنْتَشِرِ الصَّحِيحِ «1» : «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ دَعْوَةٌ أَعْلَمُ «2» أَنَّهَا تُسْتَجَابُ لَهُمْ وَيَبْلُغُ فِيهَا مَرْغُوبُهُمْ، وَإِلَّا فَكَمْ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ، وَلِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا لَا يُعَدُّ، لَكِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ بِهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. وَضُمِنَتْ لَهُمْ إِجَابَةُ دَعْوَةٍ فيما شاؤوه يَدْعُونَ بِهَا عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْإِجَابَةِ..
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ «3» وَأَبُو صَالِحٍ «4» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «5» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ، وأنا أريد أن أؤخر دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَفِي رِوَايَةِ «6» أبي صالح: عن أبي هريرة، «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دعوته» .
__________
(1) الوارد في الصحيحين.
(2) أعلم: بضم الهمزة وكسر اللام مبني للمجهول أي أعلمه الله.
(3) محمد بن زياد والحجمي البصري أبو الحارث المدني تابعي أخرج له أصحاب الكتب الستة وثقة أحمد وابن معين والترمذي والنسائي وابن الجنيد وابن حبان.
(4) ذكوان السمان الزيات المدني مولى جويرية بنت الاحمس الغطفاني من أجل الناس وأوثقهم كثير الحديث وهو الثبت في أبي هريرة توفي سنة 101 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5)
(6) كما في الصحيحين.(1/432)
وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ «1» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَعَنْ أَنَسٍ «2» مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ «3» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَتَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمَذْكُورَةُ مخصوصة بالأمة، مصمونة الْإِجَابَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ لِأُمَّتِهِ أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدين والدنيا، أعطي بَعْضَهَا وَمُنِعَ بَعْضَهَا، وَادَّخَرَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لِيَوْمِ الْفَاقَةِ «4» ، وَخَاتِمَةِ الْمِحَنِ «5» وَعَظِيمِ السُّؤَالِ وَالرَّغْبَةِ. جَزَاهُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أمته، صلى الله عليه وسلم كثيرا.
__________
(1) هو هارم وقيل عمرو وجرير وقيل غير ذلك بن عمرو بن جرير بن عبد الله اليجلي الامام الثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) تقدمت ترجمته في ص (431) رقم (3) .
(4) الفاقة: الفقر وشدة الحاجة والمراد يوم القيامة لاحتياج الناس فيه الى رحمة الله تعالى وشفاعة نبيه صلّى الله عليه وسلم حيث لا ينفع غيره.
(5) المحن: جمع محنة بكسر الميم وهي البلية المحيرة يعني هول الموقف إذ لا بلية بعده إلا النار.(1/433)
الفصل الحادي عشر الوسيلة والدّرجة الرفيعة والكوثر والفضيلة فِي تَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ «1» بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «2» :
«إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا.. ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله.. وأرجو أن أكون أنا هو
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «72» رقم «2» .
(2) قال الحلبي: هذا الحديث أخرجه القاضي من سنن أبي داود. وقد أخرجه أبو داود في الصلاة. وأخرجه مسلم أيضا فيها بالسند الذي أخرجه أبو داود سواء إلا أنه قال عن ابن وهب عن حيوة بن شريح وسعيد بن أيوب وغيرهم كلهم عن كعب بن علقمة به. وأخرجه الترمذي في المناقب وقال صحيح. والنسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة. وإنما أخرجه المصنف من عند أبي داود ولم يخرجه من عند مسلم للتنوع في الروايات ولان بينه وبين أبي داود في هذا الحديث خمسة اشخاص بالسماع. وليس كذلك مسلم.(1/434)
فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ.
وَفِي حَدِيثٍ «1» آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «2» : «الْوَسِيلَةُ «3» » أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ.
وَعَنْ أَنَسٍ «4» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» : «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ عَرَضَ لِي نَهْرٌ حَافَّتَاهُ «6» قِبَابُ «7» اللُّؤْلُؤِ.. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ:
مَا هَذَا؟؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ.. قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ «8» بِيَدِهِ إِلَى طينته فاستخرج مسكا» .
وَعَنْ عَائِشَةَ «9» وَعَبْدِ اللَّهِ «10» بْنِ عَمْرٍو مِثْلُهُ قَالَ: «وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَمَاؤُهُ أَحْلَى من العسل، وأبيض من الثلج» .
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5»
(3) الوسيلة: أصل الوسيلة أمر يكون موصولا لأمر تبتغيه كالهدية والتودد ونحوه يقول تعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» سورة (المائدة آية (25) وحقيقة الوسيلة الى الله تعالى مراعاة سبيلها بالعلم والعباد وتحري مكارم الشريعة وهي كالقربة. والمراد بها منزلة عالية في الجنة فهو مجاز من باب اطلاق السبب على المسبب، وقال ابن كثير: «الوسيلة أقرب منازل الجنة الى العرش وأعلاها وأشرفها» .
(4) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1)
(5) رواه الشيخان.
(6) حافتاه: بتخفيف الفاء المفتوحة أي جانباه وشطاه.
(7) القباب: جمع قبة وهي القبة المعروفة او هي بيت صغير تبنيه العرب لتنزل فيه.
(8) ضرب يده: مجاز عن إدخالها فيه
(9) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5»
(10) تقدمت ترجمته آنفا.(1/435)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «فَإِذَا هُوَ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ «1» شَقًّا، عَلَيْهِ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي» - وَذِكْرُ حَدِيثِ الْحَوْضِ-
وَنَحْوِهِ «2» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «3» ..
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «4» أَيْضًا قَالَ «5» : الْكَوْثَرُ «6» » الْخَيْرُ الكثير الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ «7» بْنُ جُبَيْرٍ: «وَالنَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الذي أعطاه الله» .
__________
(1) أي لا يشق الارض بشدة جريه وكذا سائر أنهار الجنة تجري من غير أن تتخذ أخدودا، ويشق مبنيا للفاعل لما ورد في الحديث أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تظنوا أن أنهار الجنة أخدودا لا والله إنها سابحة على وجه الارض» .
(2) رواه البخاري.
(3) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6)
(4) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6)
(5) كما في البخاري.
(6) وهذا بناء على أنه فوعل من الكثرة مطلقا ثم خص الكثير من الخير وبالنهر الذي في الجنة فان أراد ابن عباس بهذا بيان ما وضع له لغة أو بيان معنى عام خاص في الحديث والآية فلا كلام فيه وإن أراد تفسير ما في الآية الواردة في سورة الكوثر هو (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) . فالاحاديث الصحيحة وردت بخلافه أو في الآية ستة عشر قولا منها، فقيل إنه النهر السابق ذكره، وقيل النبوة وقيل القرآن وقيل الاسلام وقيل تحقيقات الشريعة وقيل كثرة الامة وقيل رفعة الذكر وقيل نور النبوة المحمدية وقيل كثرة المعجزات وقيل الدعوات المجابة له صلّى الله عليه وسلم، وقيل كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقيل الفقه في الدين، وقيل الخمس صلوات التي خصت بها أمته صلّى الله عليه وسلم وقيل الحوض والاصح انه نهر في الجنة مخصوص.
(7) تقدمت ترجمته في ص (58) رقم (4) .(1/436)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ «1» فِيمَا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن ربّه: فأعطاني الكوثر نهرا من الْجَنَّةِ يَسِيلُ فِي حَوْضِي» .
وَعَنِ «2» ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «3» » قَالَ: «أَلْفُ قَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ، تُرَابُهُنَّ الْمِسْكُ، وَفِيهِ مَا يُصْلِحُهُنَّ» .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَفِيهِ ما ينبغي له من الأزواج والخدم» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (64) رقم (4) .
(2) كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح.
(3) سورة الضحى 5.(1/437)
الفصل الثاني عشر الأحاديث الواردة في النهي عهد تَفْضِيلِهِ
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ، وَصَحِيحِ الْأَثَرِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْبَشَرِ وَأَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بنهيه عن التفضيل، كقوله:
عن ابن عباس «1» عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ «2» : «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ «3» بْنِ مَتَّى» ..
وَفِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «4» قَالَ- يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «ما ينبغي لعبد» - الحديث.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(3) تقدمت ترجمته في ص (265) رقم (3) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5) .(1/438)
وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2» فِي الْيَهُودِيِّ «3» الَّذِي قَالَ: «وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ» - فَلَطَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَقَالَ:
«تَقُولُ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا» ؟!!.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ «4» «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
وَعَنْ «5» أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «6» : لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
وَفِي حديثه الآخر «7» : فجاءه رجل فقال: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ..
فَقَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَأْوِيلَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ.. فَنَهَى عَنِ التفضيل
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5)
(3) اسم اليهودي (فنحاص) على ما رواه ابن اسحاق في سيرته بينما لم يذكر اليلقون اسمه.
(4) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي.
(5) رواه البخاري.
(6) تقدمت ترجمته في ص «314» رقم «2» .
(7) الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي.(1/439)
إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ «1» .. وَأَنَّ مَنْ فَضَّلَ بِلَا عِلْمٍ فَقَدْ كَذَبَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ» ، لَا يَقْتَضِي تَفْضِيلُهُ هُوَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَفٌّ عَنِ التَّفْضِيلِ
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَالَهُ صَلَّى الله عليه وسلم عن طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَنَفْيِ التَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ، وَهَذَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ «2» .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَلَّا يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إِلَى تَنَقُّصِ بَعْضِهِمْ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا فِي جِهَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَخْبَرَ، لِئَلَّا يَقَعُ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ بِذَلِكَ غَضَاضَةً وَانْحِطَاطٌ مِنْ رُتْبَتِهِ الرَّفِيعَةِ.
إِذْ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: «إِذْ أَبَقَ «3» إلى الفلك المشحون «4» » «إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه «5» » .
فَرُبَّمَا يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ حَطِيطَتُهُ «6» بذلك.
__________
(1) أي إعلام به وإذن فيه.
(2) ان الاعتراض إنما يرد لو ثبت نفيه تواضعا بعد علمه بكونه أفضل الانبياء وأما قبل العلم فلا يخفى أنه اعتراض ساقط.
(3) أبق: أي خرج الى سفينة مملوءة بما فيها من الناس والمناع. والاباق أصلا، هروب العبد من سيده: حسن اطلاقه عليه اذ خرج بغير اذن ربه.
(4) الصافات 140
(5) الأنبياء 87 «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» .
(6) أي نقصه.(1/440)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَنْعُ التَّفْضِيلِ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، إِذْ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ، وَالرُّتَبِ، وَالْأَلْطَافِ «1» وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِأُمُورٍ أُخَرَ زَائِدَةً عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ «2» وَمِنْهُمْ أُولُو عَزْمٍ «3» مِنَ الرُّسُلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رُفِعَ مَكَانًا عَلِيًّا «4» ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا «5» وَأُوتِيَ بَعْضُهُمُ الزَّبُورَ «6» ، وَبَعْضُهُمُ البينات «7» ، ومنهم من كلم الله «8»
__________
(1) الألطاف: أي العطايا التي اعطاها الله بعضهم جمع لطف بفتحتين وهو الهدية وهذا من باب الاستعارة.
(2) رسل: جمع رسول: وهو صاحب الرسالة من الله المأمور بتبليغ الشريعة فهو أخص من النبي على المشهود.
(3) العزم: القوة والشدة والتصميم على تنفيذ ما يراه أولى به وبغيره وأولو العزم من الرسل خمسة هم: «نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد» وقيل في عددهم غير ذلك
(4) وهو إدريس سبط شيث وجد نوح واسمه قديما أخنوخ رفع الى السماء او إلى الجنة كما قاله المفسرون.
(5) وهو يحيى إذ أحكم الله عقله وتنباه وآتاه الحكمة وفهم التوراة وأكثر الانبياء نبيء بعد الاربعين وقد ذكر مثل هذا في عيسى أيضا.
(6) وهو داود عليه السلام.
(7) أي المعجزات الظاهرة الباهرة التي لم يؤتها أحد قبله من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ونحوه مما فضله الله تعالى به وهو عيسى عليه الصلاة والسلام.
(8) وهو موسى إذ كلمه بالطور لما رأى نارا.(1/441)
ورفع بعضهم دَرَجَاتٍ «1» ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ «2» » الْآيَةَ.
وَقَالَ «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «3» الآية.
وقال: بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَالتَّفْضِيلُ الْمُرَادُ لَهُمْ هُنَا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
- أَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْهَرُ وَأَشْهَرُ.
- أَوْ تَكُونُ أُمَّتُهُ أزكى وأكبر.
- أو يكون في ذاته أفضل وأظهر.
وَفَضْلُهُ فِي ذَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ خِلَّةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَلْطَافِهِ، وَتُحَفِ وِلَايَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «4» : إن للنبوة أثقالا «5» ، وإنّ
__________
(1) وهو محمد صلّى الله عليه وسلم إذ فضله على من سواه بوجوه متعددة ومراتب متباعدة كدعوته العامة للعرب والعجم والجن والانس والملائكة ومعجزاته الباقية الى يوم القيامة ومن أجلها القرآن وغيره مما يفوت الحصر عن عده.
(2) الاسراء 55 «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» .
(3) البقرة 253 «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ... »
(4) كما في تفسير ابن أبي حاتم ومستدرك الحاكم عن وهب بن منبه.
(5) أثقالا: أي أحمالا ثقيلة والمراد هنا المشاق وهذا على سبيل الاستعارة التصريحية(1/442)
يُونُسَ تَفَسَّخَ «1» مِنْهَا تَفَسُّخَ الرُّبَعِ «2» ..
فَحَفِظَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ الْفِتْنَةِ مِنْ أَوْهَامِ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا جَرْحٌ فِي نَبُوَّتِهِ، أو قدح في اصطفائه، وحط من رُتْبَتِهِ، وَوَهْنٌ فِي عِصْمَتِهِ، شَفَقَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ.
وَقَدْ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ:
«أَنَا» رَاجِعًا إِلَى الْقَائِلِ نَفْسِهِ، أَيْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِصْمَةِ وَالطَّهَارَةِ مَا بَلَغَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يونس لأجل ما حكي عَنْهُ، فَإِنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ أَفْضَلُ، وَأَعْلَى وَإِنَّ تِلْكَ الْأَقْدَارَ لَمْ تَحُطَّهُ عَنْهَا حَبَّةَ خَرْدَلٍ وَلَا أَدْنَى.
وَسَنَزِيدُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي هَذَا بَيَانًا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
فَقَدْ بَانَ لَكَ الْغَرَضُ، وَسَقَطَ بِمَا حَرَّرْنَاهُ شُبْهَةُ الْمُعْتَرِضِ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ لَا إِلَهَ إلّا هو..
__________
(1) تفسخ: بالفاء والسين المهملة المشددة والخاء المعجمة أي تقطعت أعضاؤه وتفككت لعدم طلقته عليه الصلاة والسلام بحملها يقال تفسخ البعير تحت الحملى الثقيل وفسخ ثيابه اذا أزالها ومنه فسخ العقود عند الفقهاء.
(2) الربيع: بضم الراء النملة وفتح الباء الموحدة وللعين المهملة وهو التفصيل أي ولد الناقة الصغير الذي يولد في الربيع والمقصود هنا أي تفسخ كنفسيخة الربع أي لم يطق مشاق للرسالة ولم يصبر عليها وفي تشبهه بالربع اشارة الى أنه كان في مبدأ أمره. وفي تفسخ استعارة تصريحية ويجوز أن تكون استطرة تمثيلية وهو أحسن.(1/443)
الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وما تضمنته من فضيلته صلّى الله عليه وسلم
عن جُبَيْرِ «1» بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءَ، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ «3» .
وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ.
فَمِنْ خَصَائِصِهِ تَعَالَى لَهُ: أَنْ ضَمَّنَ أَسْمَاءَهُ ثناءه فطوى أَثْنَاءَ ذِكْرِهِ عَظِيمَ شُكْرِهِ..
فَأَمَّا اسْمُهُ «أَحْمَدُ» فأفعل ... مبالغة من صفة الحمد
و «محمد» مفعّل» ... مبالغة من كثرة الحمد
__________
(1) جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل صحابي أسلم بعد الحديبية، روى عنه ابناه محمد ورافع وروى عنه ابن المسيب، وكان سيدا وقورا، أخرج له الأئمة الستة وأحمد في مسنده توفي سنة 59.
(2) أخرجه القاضي من الموطأ.. وهو في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي ولم يخرجه من عند البخاري طلبا لعلو الاسناد.
(3) العاقب: أي الآتي عقب الانبياء عليهم الصلاة والسلام فلا نبي بعده وعيسى عليه الصلاة والسلام تقدم انه يأتي على شريعته.(1/444)
فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ مَنْ حَمِدَ وَأَفْضَلُ مَنْ حَمِدَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَمْدًا فَهُوَ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ وَأَحْمَدُ الْحَامِدِينَ، وَمَعَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِيَتِمَّ لَهُ كَمَالُ الْحَمْدِ، ويشتهر فِي تِلْكَ الْعَرَصَاتِ «1» بِصِفَةِ الْحَمْدِ، وَيَبْعَثَهُ رَبُّهُ هُنَاكَ مَقَامًا مَحْمُودًا كَمَا وَعَدَهُ.
يَحْمَدُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِشَفَاعَتِهِ لَهُمْ، وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْمَحَامِدِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما لم يعط غيره» ، وسمّى الله أُمَّتَهُ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ بِالْحَمَّادِينَ، فَحَقِيقٌ أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ.
ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ عَجَائِبِ خَصَائِصِهِ، وَبَدَائِعِ آيَاتِهِ فَنٌّ آخَرُ، هو أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ حَمَى «2» أَنْ يُسَمَّى بِهِمَا أَحَدٌ قَبْلَ زَمَانِهِ..
أَمَّا «أَحْمَدُ» الَّذِي أَتَى فِي الْكُتُبِ وَبَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَلَا يُدْعَى بِهِ مَدْعُوٌّ قَبْلَهُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ لَبْسٌ عَلَى ضَعِيفِ الْقَلْبِ، أَوْ شَكٌّ.
وَكَذَلِكَ: «مُحَمَّدٌ» أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرُهُمْ، إِلَى أَنْ شَاعَ قُبَيْلَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِيلَادُهُ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ.. فَسَمَّى قوم
__________
(1) العرصات: بسكون الراء ويجوز فتحها جمع عرصة بسكون الراء وهي كل موضع واسع وعرصة الدار ساحتها وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها نبات وتجمع على عراص والمراد هنا أرض الموقف والمحشر.
(2) حمى: أي منع وصان.(1/445)
قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يكون أحدهم هو و «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «1» » ..
وَهُمْ: مُحَمَّدُ «2» بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ، وَمُحَمَّدُ «3» بْنُ مَسْلَمَةَ الأنصارى، ومحمد «4» بَرَاءٍ الْبَكْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ «5» بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، وَمُحَمَّدُ «6» بْنُ حُمْرَانَ الْجُعْفِيُّ، وَمُحَمَّدُ «7» بْنُ خُزَاعِيٍّ السُّلَمِيُّ لَا سَابِعَ لَهُمْ.
وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ «8» .
وَالْيَمَنُ تَقُولُ: بَلْ مُحَمَّدُ بْنُ الْيَحْمَدِ «9» مِنَ الْأَزْدِ ثُمَّ حمى الله
__________
(1) «وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» سورة الانعام 124.
(2) محمد بن احيحة بن الجلاح الاوسي، عده ابن عبد البر من الصحابة وتردد فيه ابن حجر في الاصابة والاوسي نسبة الى الاوس قبيلة من الانصار.
(3) أبو عبد الرّحمن المدني حليف بني عبد الاشهل ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة، وهو صحابي شهد بدرا، وكان سيدنا عمر يعده لكشف المعضلات في خلافته، توفي بالمدينة سنة 43.
(4) نسبة لبكر قبيلة مشهورة، وقد خطأ البرهان الحلي من زعم أن هذا منى الصحابة. اذ قال: انه ممن هلك في الجاهلية.
(5) محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي لم يدرك الاسلام وقد خطىء (بالبتاء للمجهول) ابو نعيم في عده من الصحابة.
(6) محمد بن حمران الجعفي نسبة للجعفة قرية معروفة وهذا لم يدرك الاسلام كما قاله البرهان الحلبي.
(7) محمد بن خزاعي السلمي نسبة لخزاعة وهو من بني ذكوان واسم أبيه علقمة وقال البرهان انه لم يدرك الاسلام.
(8) محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي لم يدرك الاسلام وقد خطىء (بالبتاء للمجهول) ابو نعيم في عده من الصحابة.
(9) محمد بن اليحمد الازدي نسبة للازد قبيلة من اليمن أبوهم أزدي الغوث ويقال أسد. وهو ليس من الستة فيكون سابعا.(1/446)
كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا أَحَدٌ لَهُ، أَوْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ سَبَبٌ يُشَكِّكُ أَحَدًا فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَحَقَّقَتِ السِّمَتَانِ «1» لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنَازَعْ فِيهِمَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ» فَفُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ..
وَيَكُونُ مَحْوُ الْكُفْرِ إِمَّا مِنْ مَكَّةَ وَبِلَادِ الْعَرَبِ وَمَا زُوِيَ «2» لَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَوُعِدَ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ مُلْكُ أُمَّتِهِ، أَوْ يَكُونُ الْمَحْوُ عَامًّا بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «3» » .
وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ «4» : أَنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَاتُ مَنِ اتَّبَعَهُ» وَقَوْلُهُ: «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» أَيْ عَلَى زَمَانِي وَعَهْدِي.. أَيْ لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ كما قال: «وخاتم النبيين «5» » وَسُمِّيَ: «عَاقِبًا» لِأَنَّهُ عَقَبَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وفي
__________
(1) السمتان: الصفتان وفي بعض النسخ السيمتان بياء بعد السين وهو خطأ وطغيان من القلم. هاتان الصفتان اللتان هما المحمدية والاحمدية علتان لموافقة اسمه على مسماه
(2) زوي: بضم الزين المعجمة وكسر الواو من الزوي الجمع.
(3) التوبة: 33 «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .
(4) على ما رواه البيهقي وأبو نعيم في الدلائل عن ابن حيدر.
(5) الاحزاب 40 «مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» الآية.(1/447)
الصَّحِيحِ «أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ» وَقِيلَ: مَعْنَى «عَلَى قَدَمِي» أَيْ يُحْشَرُ النَّاسُ بِمُشَاهَدَتِي..
كَمَا قَالَ تَعَالَى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1» » .
وَقِيلَ: «عَلَى قَدَمِي» عَلَى سَابِقَتِي.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ «2» » .
وَقِيلَ: «عَلَى قَدَمِي» أَيْ قُدَّامِي وَحَوْلِي.. أَيْ يجتمعون إليّ يوم القيامة وقيل «قَدَمِي» عَلَى سُنَّتِي.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءَ» قِيلَ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وعند أولى العلم من الأمم السالفة.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : لِي عَشْرَةُ أَسْمَاءَ.. وَذَكَرَ مِنْهَا «طه» وَ «يسن» حكاه مكي «4» .
وقد قيل في بعض تفاسير «طه» : أنه يا طاهر يا هادي.
__________
(1) البقرة 143 «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الآية
(2) يونس 2 «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... الآية.
(3) على ما رواه البيهقي وأبو نعيم في الدلائل عن ابن جبير.
(4) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .(1/448)
وفي «يسن» يَا سَيِّدُ. حَكَاهُ السُّلَمِيُّ «1» عَنِ الْوَاسِطِيُّ «2» ، وَجَعْفَرُ «3» بْنُ مُحَمَّدٍ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ: لِي عِشْرَةُ أَسْمَاءٍ، فذكر الخمسة التي في الحديث.
قَالَ: وَأَنَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ «4» ، وَرَسُولُ الرَّاحَةِ «5» وَرَسُولُ الملاحم «6» ، وأنا المقفّي «7» قفّيت النبين، وأنا قيّم «8» و «القيّم» الْجَامِعُ الْكَامِلُ- كَذَا وَجَدْتُهُ- وَلَمْ أَرْوِهِ «9» وَأَرَى أنّ صوابه
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «91» رقم «4» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(4) وتسميته صلّى الله عليه وسلم بنبي الرحمة رواه ابن ماجه والحاكم مسندا عن أبي هريرة وصححوه وورد في بعض طرقه نبي الراحة.
(5) لأنه صلّى الله عليه وسلم راحة للمؤمنين في الدنيا لما رفع عنهم مما كان في الامم السالفة من الاصر والمشاق بما في شريعته من الرخص والتخفيفات وفي الآخرة بشفاعته لهم
(6) الملاحم: جمع ملحمة وهي الحرب والقتال سميت بذلك لالتحام الابطال فيها أي ازدحامهم فيها لانه صلّى الله عليه وسلم أرسل بالسيف وأمر بالجهاد ولم يقع لنبي ولا أمته من الجهاد والقتال ما وقع له صلّى الله تعالى عليه وسلم ولأمته ولا يزالون كذلك حتى يقاتلوا الدجال وينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وهذا لا ينافي كونه صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه رحمة حقيقة إذ في قتاله غنيمة للمسلمين وهداية بعض الكافرين الى الاسلام وأمن دار الاسلام والنتيجة أنه صلّى الله عليه وسلم رحمة لأولياء الله حرب لأعداء الله.
(7) المقفى: إما بمعنى التابع الذي جاء على أثر الأنبياء لأن معنى قفى تبع أو المراد أنه خاتمهم وآخرهم.
(8) قيم: بالقاف ومثناة تحتية بزنة سيد.
(9) أي ولم أروه بطريق من طرق المحدثين المعتبرة عند المحدثين، إلا اني وجدته فيما رواه غيره وهذا عند المحدثين يسمى الوجادة وهي اخذ العلم من صحيفة من غير سماع-(1/449)
«قَثْمٌ» «1» بِالثَّاءِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدُ عَنِ الْحَرْبِيِّ «2» وَهُوَ أَشْبَهُ بِالتَّفْسِيرِ «3» .
وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي كتب الأنبياء، قال داوود عَلَيْهِ السَّلَامُ:
اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا مُحَمَّدًا مُقِيمَ السُّنَّةِ بَعْدَ الْفَتْرَةِ.. فَقَدْ يَكُونُ «الْقَيِّمُ» «4» بِمَعْنَاهُ.
وَرَوَى النَّقَّاشُ «5» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» : «لِي فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ مُحَمَّدٌ- وَأَحْمَدُ- ويس- وطه- والمدثر- والمزمل- وعبد الله-» .
وفي حديث آخر عَنْ جُبَيْرِ «7» بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ سِتٌّ، مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَخَاتَمٌ، وَعَاقِبٌ، وَحَاشِرٌ، وماح.
__________
- ولا اجازة ولا مناولة. وله شروط عندهم وهو مما يستأنس به وهذا رواه الديلمي في سند الفردوس وفي النهاية الاثيرية.
(1) قثم: بالثاء المثلثة المفتوحة المخففة وضم القاف. قال ابن دحية في اشتقاقه معنيان أحدهما من القثم وهو الاعطاء يقال قثم له من العطاء اذا اعطاه فسمي صلّى الله عليه وسلم بذلك لجوده وعطائه والثاني من القثم وهو الجمع يقال للرجل الجامع للخير قثوم وقثم وقد كان صلّى الله عليه وسلم جامعا للفضائل وجميع الخير والمناقب.
(2) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «4» .
(3) يعني أنه أقرب شبها بتفسيره المأثور بالجامع وفيه نظر لان قثم بالمثلثة بمعنى مجمع أيضا.
(4) أي بمعنى المقيم للسنة المأخوذ مما ذكر لدلالته بمادته عليه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «90» رقم «1» .
(6) يقول السيوطي: «لي في القرآن سبعة لم أجده ولكن قال الذهبي عن بعضهم قال: لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في القرآن خمسة أسماء محمد وأحمد وعبد الله ويسين وطه»
(7) تقدمت ترجمته في ص «440» رقم «1» .(1/450)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «1» الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءَ فَيَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، ونبي التوبة «3» ، ونبي الملحمة، ونبي الرحمة، وَيُرْوَى: الْمَرْحَمَةِ وَالرَّاحَةِ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ- إِنْ شَاءَ- اللَّهُ وَمَعْنَى «الْمُقَفِّي» مَعْنَى «الْعَاقِبِ» .
وَأَمَّا نَبِيُّ «الرحمة» «والتوبة» «والمرحمة» «والراحة» .
فقد قال تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» » .
وَكَمَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ «يُزَكِّيهِمْ. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «5» » «وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «6» » و «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «7» » .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «118» رقم «4» .
(2) كما رواه مسلم.
(3) أي ان توبة أمته مقبولة من غير حرج عليهم حتى تطلع الشمس من مغربها أو يغرغر العبد وكانت الامم السالفة منهم من لا تقبل توبة أصلا ومنهم من تقبل توبته بشرط أمور شاقة كما لم تقبل توبة بني اسرائيل من عبادة العجل الا بقتل أنفسهم أما هذه الأمة فتقبل منهم مطلقا وان تكررت مع تكرر الذنوب بشرط الندم والعزم على عدم العود ورد حقوق العباد واستحلالهم.
(4) الأنبياء 107.
(5) الجمعة 2 «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
(6) المائدة 16 «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
(7) التوبة 128 «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(1/451)
وقد قال فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ إِنَّهَا «1» : «أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ» .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ «2» أَيْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
فَبَعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «3» ربّه تعالى رحمة لِلْعَالَمِينَ، وَرَحِيمًا بِهِمْ، وَمُتَرَحِّمًا، وَمُسْتَغْفِرًا لَهُمْ، وَجَعَلَ أمته أمة مَرْحُومَةً، وَوَصَفَهَا بِالرَّحْمَةِ وَأَمَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالتراحم وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ «4» . «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وَقَالَ «5» : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» .
وَأَمَّا رِوَايَةُ «نَبِيِّ الْمَلْحَمَةِ «6» » فَإِشَارَةٌ إِلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْقِتَالِ وَالسَّيْفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وَهِيَ صَحِيحَةٌ..
وَرَوَى حُذَيْفَةُ «7» مِثْلَ حديث أبي موسى «8» وفيه «9» :
__________
(1) كما رواه الحاكم في الكنى عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند ضعيف. ورواه أبو داوود والطبراني والحاكم في المستدرك. والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح.
(2) البلد 17
(3) وفي نسخة فبعثه الله رحمة لأمته.
(4) رواه الشيخان عن أسامة بن زيد الا أنه بلفظ (يرحم) بدل يحب.
(5) في حديث آخر رواه أبو داوود والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
(6) على ما أخرجه ابن سعد عن مجاهد.
(7) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «4» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «118» رقم «4» .
(9) رواه احمد، والترمذي في الشمائل.(1/452)
ونبي الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ، وَرَوَى الْحَرْبِيُّ «1» فِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ لِي أَنْتَ قُثَمُ أي مجتمع قال و «القثوم» الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ وَهَذَا اسْمٌ هُوَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ.
وَقَدْ جَاءَتْ مِنْ أَلْقَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِمَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ كَالنُّورِ «3» ، وَالسِّرَاجِ «4» الْمُنِيرِ، وَالْمُنْذِرِ «5» ، وَالنَّذِيرِ «6» ، وَالْمُبَشِّرِ «7» ، وَالْبَشِيرِ «8» ، وَالشَّاهِدِ «9» ، وَالشَّهِيدِ «10» وَالْحَقِّ الْمُبِينِ «11» ، وَخَاتَمِ «12» النَّبِيِّينَ، والرؤوف الرّحيم «13» ،
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «4» .
(2) رواه ابو نعيم في الدلائل عن يونس بن ميسرة بن حابس.
(3) قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ....
(4) قوله تَعَالَى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
(5) قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ... » .
(6) قوله تَعَالَى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
(7) قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
(8) قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
(9) قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
(10) قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
(11) قوله تعالى: «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ... » وقوله: «قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» .
(12) خاتم: بكسر التاء اسم فاعل وبفتحها اسم آلة كطابع كأنه ختمهم بنفسه فهو استعارة في الاصل شاع وصار حقيقة قال الله تعالى: «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ»
(13) قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(1/453)
وَالْأَمِينِ «1» ، وَقَدَمِ الصِّدْقِ «2» وَرَحْمَةٍ لِلْعَالِمِينَ «3» ، وَنِعْمَةِ اللَّهِ «4» ، وَالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى «5» ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ «6» ، وَالنَّجْمِ الثَّاقِبِ «7» ، وَالْكَرِيمِ «8» وَالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ «9» ، وَدَاعِي اللَّهِ «10» ...
- فِي أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ، وَسِمَاتٍ جَلِيلَةٍ، وَجَرَى مِنْهَا فِي كُتُبِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكُتُبِ أَنْبِيَائِهِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ وَإِطْلَاقِ الْأُمَّةِ جُمْلَةً شَافِيَةً كَتَسْمِيَتِهِ: بِالْمُصْطَفَى، وَالْمُجْتَبَى «11» ، وَأَبِي الْقَاسِمِ، والحبيب
__________
(1) قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» .
(2) قوله تَعَالَى: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ورد في البخاري عن زيد بن أسلم في الآية السابقة قال هو محمد صلّى الله عليه وسلم.
(3) قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ»
(4) عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: «بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» قال هم كفار قريش ونعمة الله محمد صلّى الله عليه وسلم.
(5) قوله تعالى، «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» قال ابن دحية وأبو عبد الرّحمن السلمي في الآية السابقة هو محمد صلّى الله عليه وسلم. والعروة ما يتمسك به من الحبل والوثقى الوثيقة المتينة فيه استعارة تمثيلية تصريحية لان من اتبعه لا يقع في هوة الضلال كما ان من امسك حبلا متينا صعد من حضيض المهالك.
(6) قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .
(7) قوله تعالى «النَّجْمُ الثَّاقِبُ» الثاقب: المضيء المتوهج.
(8) قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ»
(9) قوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ»
(10) قوله تعالى: «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ» .
(11) المجتبى: في الصحاح اجتباه بمعنى اصطفاه واختاره، وأصله كما قاله الراغب من جبيت الماء في الحوض اذا جمعته لجمعه صلّى الله عليه وسلم المكارم والصفات الحميدة بفيض إلهي من غير سعي كما قال تعالى: «يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ»(1/454)
وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالشَّفِيعِ الْمُشَفَّعِ، وَالْمُتَّقِي، وَالْمُصْلِحِ، والظاهر، وَالْمُهَيْمِنِ، وَالصَّادِقِ، وَالْمَصْدُوقِ، وَالْهَادِي، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ «1» الْمُحَجَّلِينَ «2» ، وَحَبِيبِ اللَّهِ، وَخَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَصَاحِبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَالشَّفَاعَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَصَاحِبِ الْوَسِيلَةِ، وَالْفَضِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَصَاحِبِ التَّاجِ، وَالْمِعْرَاجِ وَاللِّوَاءِ، وَالْقَضِيبِ، وَرَاكِبِ الْبُرَاقِ، وَالنَّاقَةِ وَالنَّجِيبِ «3» ، وَصَاحِبِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْخَاتَمِ «4» وَالْعَلَامَةِ، وَالْبُرْهَانِ، وَصَاحِبِ الْهِرَاوَةِ وَالنَّعْلَيْنِ «5» ..
وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْكُتُبِ: الْمُتَوَكِّلُ، وَالْمُخْتَارُ، وَمُقِيمُ السُّنَّةِ،
وَالْمُقَدَّسُ «6» وروح القدس «7» ، وروح الحق، وهو معنى «البار قليط «8» » في الإنجيل.
__________
(1) الغر: جمع أغر وأصل الغرة بياض في جبهة الفرس فالمراد به مطلق بياض الوجه هنا
(2) المحجلين: من التحجيل وهو بياض في القوائم، وفي الصحيحين: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من اثار الوضوء» .
(3) النجيب: الجمل.
(4) الخاتم: أي خاتم النبوة بين كتفيه.
(5) النعلين: أي صاحب النعلين وسبب تسميته لما فيه من مخالفة لأهل الجاهلية من تنعلهم في رجل واحدة.
(6) المقدس: بالتشديد اسم مفعول أي المفضل على غيره.
(7) روح القدس: بضمتين أو ضم وسكون أي الروح المقدسة من النقائص.
(8) البار قليط: بموحدة في اوله وألف وراء مكسورة وقاف ساكنة ثم لام تليها ياء مثناة تحتيه ساكنة، وطاء مهملة.(1/455)
وقال ثعلب «1» : «البار قليط» الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ: مَاذٌ مَاذٌ «2» وَمَعْنَاهُ طَيِّبٌ طيب «وحمطايا «3» » والخاتم والحاتم حكاه كعب الأحبار.
وقال ثعلب: «فالخاتم» الذي ختم الأنبياء و «الحاتم» أحسن الأنبياء خلقا وخلقا ويسمى بالسّريانية «مشفّح «4» » و «المنحمنّا «5» » واسمه أيضا فِي التَّوْرَاةِ: «أُحَيْدٌ «6» » رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ «7» وَمَعْنَى «صَاحِبِ الْقَضِيبِ» أَيِ السَّيْفِ وَقَعَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْإِنْجِيلِ قَالَ: «مَعَهُ قَضِيبٌ من حديد يقاتل به،
__________
(1) احمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني بالولاء، أبو العباس، إمام الكوفيين في في النحو واللغة كان راوية للشعر محدثا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، ثقة، حجة ولد في بغداد ومات فيها سنة 291 هـ.
(2) هذا وما بعده رواه أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس.
(3) حمطايا: وفي بعض الكتب حمياطا ومعناه يمنع من الحرام ويحمي الحرم.
(4) مشفح: بضم الميم وفتح الشين ففاء مفتوحة أو مكسورة مشددة فيهما وروي بالقاف وحاؤه مهملة.
(5) المنحمنا: بضم الميم فنون ساكنة فمهملة مفتوحة فميم مكسورة فنون مشدده مفتوحة وألف مقصورة. ومعناه روح القدس.
(6) أحيد: بفتح همزة وسكون مهملة وفتح تحتية وكسرها وسمي بذلك لأنه يحيد أمته من نار جهنم يوم القيامة.
(7) محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، إمام وقته في علوم الدين بالبصرة تابعي ثقة تفقه وروى الحديث وروى له الأئمة الستة واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا توفي سنة 110 هـ.(1/456)
وَأُمَّتُهُ كَذَلِكَ» وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ الْقَضِيبُ الْمَمْشُوقُ «1» الَّذِي كَانَ يُمْسِكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْآنَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
وَأَمَّا: «الْهِرَاوَةُ» الَّتِي وُصِفَ بِهَا فَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْعَصَا.
وَأَرَاهَا «2» - وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الْعَصَا الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ «أَذُودُ «3» النَّاسَ عَنْهُ بِعَصَايَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ «4» » .
وَأَمَّا: «التَّاجُ» فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِمَامَةُ، وَلَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ إِلَّا لِلْعَرَبِ، وَالْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ.
وَأَوْصَافُهُ وَأَلْقَابُهُ وَسِمَاتُهُ فِي الْكُتُبِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا مَقْنَعٌ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- وَكَانَتْ كُنْيَتُهُ الْمَشْهُورَةُ أَبَا الْقَاسِمِ وَرُوِيَ «5» عَنْ أَنَسٍ «6» أَنَّهُ لما ولد له إِبْرَاهِيمُ «7» جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ:
«السَّلَامُ عَلَيْكَ يا أبا إبراهيم»
__________
(1) القضيب الممشوق: الطويل الدقيق من المشق وهذا الجذب للشيء ليطول وكان له صلّى الله عليه وسلم قضيب يسمى الممشوق ومحجن يستلم به الركن.
(2) بفتح الهمزة أو ضمها بمعنى أظنها.
(3) أذود: بذال معجمة في أوله ومهملة في اخره بمعنى أطرد وأمنع أي يوردهم الحوض قبل غيرهم ليريحهم كما أراحوه باستجابتهم للاسلام.
(4) رواه مسلم في المناقب.
(5) كما في مسند أحمد والبيهقي.
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(7) ابن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم من مارية القبطية رضي الله عنها توفي وهو طفل صغير وذلك في حياته صلّى الله عليه وسلم.(1/457)
الفصل الرابع عشر في تشريف الله له بأسماء خاصّة به تعالى تشريف الله تعالى له صلّى الله عليه وسلم بِمَا سَمَّاهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَوَصَفَهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا أَحْرَى هَذَا الْفَصْلَ بِفُصُولِ الْبَابِ الْأَوَّلِ لِانْخِرَاطِهِ «1» فِي سِلْكِ «2» مَضْمُونِهَا، وَامْتِزَاجِهِ بِعَذْبِ مَعِينِهَا «3» ، لَكِنْ لَمْ يَشْرَحِ اللَّهُ الصَّدْرَ لِلْهِدَايَةِ إِلَى اسْتِنْبَاطِهِ، وَلَا أَنَارَ الْفِكْرَ لِاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرِهِ وَالْتِقَاطِهِ إِلَّا عِنْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَرَأَيْنَا أَنْ نُضِيفَهُ إِلَيْهِ، وَنَجْمَعَ بِهِ شَمْلَهُ.
فَاعْلَمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَرَامَةٍ خَلَعَهَا «4» عَلَيْهِمْ من أسمائه.
__________
(1) فال ابن عباد في جامع اللغة: خرطت الجواهر جمعتها في الخريطة وهي الكيس والانخراط هنا بمعنى الانتظام..
(2) في السلك استعارة تخييلية ومكنية.
(3) معينها: بفتح الميم وكسر العين المهملة بمعنى الجاري مطلقا أو على وجه الأرض.
(4) خلعها: أي أعطاها لهم وألبسها إياهم والأصل في الخلعة أنها ثوب يلقيه الملك على من يكرمه أو يوليه ولايه.(1/458)
كتسمية: إسحق واسماعيل «بعليم «1» » «وحليم «2» » وإبراهيم ب «حليم «3» » ونوح ب «شكور «4» » وعيسى ويحيى ب «برّ «5» » وموسى ب «كريم «6» » و «قوي» ويوسف ب «حفيظ» «عليم «7» » وايوب ب «صابر «8» » واسماعيل ب «صادق الْوَعْدِ «9» » كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ مِنْ مواضع ذكرهم. وفضّل نبينا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ حَلَّاهُ «10» مِنْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ بِعِدَّةٍ «11» كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا جُمْلَةٌ بَعْدَ إِعْمَالِ الْفِكْرِ وَإِحْضَارِ الذِّكْرِ، إِذْ لَمْ نَجِدُ مَنْ جَمَعَ مِنْهَا فَوْقَ اسْمَيْنِ، وَلَا مَنْ تَفَرَّغَ فِيهَا لِتَأْلِيفِ فَصْلَيْنِ، وَحَرَّرْنَا مِنْهَا فِي هذا الفصل نحو
__________
(1) في قوله تعالى: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» يعني اسحق.
(2) في قوله تعالى: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» يعني اسماعيل.
(3) في قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» .
(4) في قوله تعالى: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً»
(5) في قوله تعالى: «وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ.
(6) في قوله تعالى: «وَبَرًّا بِوالِدَتِي
(7) في قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ كريم» . في قوله تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .
(8) في قوله تعالى: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» .
(9) في قوله تعالى: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ ... »
(10) في قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ... »
(11) حلاه: بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام من الحلية وهي الصفة الظاهرة أو التي التي يتزين بها أي بأن وصفه أو زينه وكرمه بما وصفه وسماه في القرآن.(1/459)
ثَلَاثِينَ اسْمًا، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَلْهَمَ إِلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا وَحَقَّقَهُ يُتِمُّ النِّعْمَةَ بِإِبَانَةِ مَا لَمْ يُظْهِرْهُ لَنَا الْآنَ وَيَفْتَحُ غَلْقَهُ «1» .
فَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْحَمِيدُ» وَمَعْنَاهُ الْمَحْمُودُ، لِأَنَّهُ حَمِدَ نَفْسَهُ وَحَمَدَهُ عِبَادُهُ. وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْحَامِدِ لِنَفْسِهِ وَلِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَسَمَّى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم «محمدا» و «أحمد» «فَمُحَمَّدٌ» بِمَعْنَى مَحْمُودٍ، وَكَذَا وَقَعَ اسْمُهُ فِي زبر داوود.. «وَأَحْمَدُ» بِمَعْنَى أَكْبَرُ مَنْ حَمِدَ، وَأَجَلُّ مَنْ حمد..
وقد أشار إِلَى نَحْوِ هَذَا حَسَّانٌ «2» بِقَوْلِهِ:
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا محمّد
ومن أسمائه تعالى: «الرؤف الرّحيم» وهما بمعنى متقارب، وسماه في كتابه بذلك فقال: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» »
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْحَقُّ الْمُبِينُ» وَمَعْنَى «الْحَقِّ» الْمَوْجُودُ وَالْمُتَحَقِّقُ أَمْرُهُ، وَكَذَلِكَ «الْمُبِينُ» أَيِ البيّن أمره وإلهيته «بان»
__________
(1) غلقه: بفتح الغين المعجمة وفتح اللام والقاف وهو ما يغلق الى يقفل به.
(2) حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد، الصمادي، شاعر النبي صلّى الله عليه وسلم مخضرم عاش ستين سنه في الجاهلية وستين في الاسلام يندب فيها عن حمى النبوة ويدافع عن بيضة الاسلام باللسان والبيان توفي في المدينة سنة 54 هـ
(3) «.. لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» سورة التوبة 128.(1/460)
«وَأَبَانَ» بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُبَيِّنِ لِعِبَادِهِ أَمْرَ دِينِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَسَمَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ «1» » وقال: «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
«2» » وقال: «قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ «3» » وقال: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ «4» .
قِيلَ: مُحَمَّدٌ وَقِيلَ: الْقُرْآنُ.. وَمَعْنَاهُ هُنَا ضِدَّ الْبَاطِلِ، وَالْمُتَحَقِّقُ صِدْقُهُ وَأَمْرُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. «وَالْمُبِينُ» الْبَيِّنُ أَمْرُهُ وَرِسَالَتُهُ أَوِ الْمُبِينُ عَنِ الله تعالى مَا بَعَثَهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «5» ..»
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى «النُّورُ» وَمَعْنَاهُ ذُو النُّورِ أَيْ خَالِقُهُ أَوْ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْأَنْوَارِ، وَمُنَوِّرُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِدَايَةِ وَسَمَّاهُ: «نُورًا» فَقَالَ: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ «6» » . قيل: محمد وقيل: القرآن وقال فيه:
__________
(1) «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ» الزخرف 29.
(2) الحجر 89.
(3) «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ» النساء 170
(4) «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» الأنعام 5
(5) «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» النحل 44
(6) «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ.....» المائدة 15.(1/461)
«وَسِراجاً مُنِيراً «1» » سمّي بذلك لوضوح أمره وبيان نبوّته، تنوير قلوب المؤمنين والعارفين بِمَا جَاءَ بِهِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الشَّهِيدُ» وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ وَقِيلَ: الشَّاهِدُ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ القيامة وسماه: «شهيدا» و «شاهدا»
فقال: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً «2» » وقال: «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «3» » وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْكَرِيمُ» وَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ، وَقِيلَ الْمُفَضَّلُ وَقِيلَ: الْعَفُوُّ. وَقِيلَ: الْعَلِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ «4» الْمَرْوِيِّ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى «الْأَكْرَمُ» وَسَمَّاهُ تَعَالَى «كَرِيمًا» بِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «5» » قِيلَ: مُحَمَّدٌ وَقِيلَ: جِبْرِيلُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» : «أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ» وَمَعَانِي الِاسْمِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْعَظِيمُ» .. وَمَعْنَاهُ الْجَلِيلُ الشَّأْنِ، الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ.. وَقَالَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ
__________
(1) «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» الْأَحْزَابِ 46.
(2) «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» الأحزاب 46.
(3) «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» البقرة 143.
(4) رواه ابن ماجة في سننه.
(5) التكوير 19.
(6) تقدم سنده.(1/462)
عَظِيمٌ «1» » وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ سِفْرٍ «2» مِنَ التَّوْرَاةِ عَنْ اسماعيل «وسيلد عَظِيمًا لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَهُوَ عَظِيمٌ وَعَلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ» .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْجَبَّارُ» وَمَعْنَاهُ الْمُصْلِحُ، وَقِيلَ الْقَاهِرُ، وَقِيلَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ، وَقِيلَ الْمُتَكَبِّرُ، وَسُمِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتاب داوود. «بِجَبَّارٍ» فَقَالَ: تَقَلَّدْ أَيُّهَا الْجَبَّارُ سَيْفَكَ فَإِنَّ نَامُوسَكَ «3» وَشَرَائِعَكَ مَقْرُونَةٌ بِهَيْبَةِ يَمِينِكَ.
وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا لِإِصْلَاحِهِ الْأُمَّةَ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ أَوْ لِقَهْرِهِ أَعْدَاءَهُ، أَوْ لِعُلُوِّ مُنْزِلَتِهِ عَلَى الْبَشَرِ، وَعَظِيمِ خَطَرِهِ..
وَنَفَى عَنْهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ جَبْرِيَّةَ التَّكَبُّرِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ فَقَالَ:
«وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ «4» » .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْخَبِيرُ» وَمَعْنَاهُ الْمُطَّلِعُ بِكُنْهِ «5» الشَّيْءِ، الْعَالِمُ بِحَقِيقَتِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُخْبِرُ وَقَالَ الله تعالى: «الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «6» » .
__________
(1) القلم 4.
(2) سفر: بكسر السين وسكون الفاء وراء مهملة وهو الكتاب.
(3) ناموسك: الناموس أي الوحي النازل عليك أو عظمتك في قلوب الناس وأصل معناه في القاموس أن صاحب سر الخير ناموس وصاحب سر الشر جاسوس.
(4) «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» ق 45
(5) كنه: بضم فسكون الحقيقة.
(6) «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» الفرقان، (59)(1/463)
قال الْقَاضِي بَكْرُ «1» بْنُ الْعَلَاءِ الْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ غَيْرُ النبي صلّى الله عليه وسلم والمسؤول الْخَبِيرُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ السَّائِلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
والمسؤول هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. فَالنَّبِيُّ «خَبِيرٌ» بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
قِيلَ: لِأَنَّهُ عَالِمٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ، وَعَظِيمِ مَعْرِفَتِهِ، مُخْبِرٌ لِأُمَّتِهِ بِمَا أَذِنَ لَهُ فِي إِعْلَامِهِمْ بِهِ..
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْفَتَّاحُ» وَمَعْنَاهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ عِبَادِهِ، أَوْ فَاتِحُ أَبْوَابِ الرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُنْغَلِقِ مِنْ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَفْتَحُ قلوبهم وبصائرهم بمعرفة الْحَقِّ.. وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى النَّاصِرِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «2» » أَيْ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ. وَقِيلَ: معناه مبتدىء الفتح والنصر
وسمى الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم ب «الفاتح» فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ «3» بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ «4» وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ مِنْ قول الله تعالى: «وجعلتك
__________
(1) بكر بن محمد بن العلاء القشيدي من أولاد عمران بن الحصين رضي الله عنه توفي سنة 334.
(2) «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ» الأنفال 19.
(3) تقدمت ترجمته في ص (107) رقم (2) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (67) رقم (3) .
(5) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5) .(1/464)
فَاتِحًا وَخَاتَمًا» . وَفِيهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ وَتَعْدِيدِ مَرَاتِبِهِ: وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا وَخَاتَمًا.
فَيَكُونُ الْفَاتِحُ هُنَا: بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، أَوِ الفاتح لأبواب الرحمة على أمته، والفاتح لبصائرهم بمعرفة الحق، الإيمان بالله، أو الناصر للحق، أو المبتدىء بهداية الأمة، أو المبدّأ «1» الْمُقَدَّمُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْخَاتِمُ لَهُمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ: «الشَّكُورُ» وَمَعْنَاهُ الْمُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَقِيلَ: الْمُثْنِي عَلَى الْمُطِيعِينَ..
وَوَصَفَ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً «3» » وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ «4» :
«أَفَلَا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً» أي معترفا بنعم رَبِّي، عَارِفًا بِقَدْرِ ذَلِكَ، مُثْنِيًا عَلَيْهِ، مُجْهِدًا نفسي في الزيادة من ذلك.
لقوله «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «5» » .
__________
(1) بضم الميم وتشديد الدال المهملة.
(2) رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة مرفوعا
(3) «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» الاسراء 3.
(4) رواه الترمذي وغيره.
(5) «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» إبراهيم 7(1/465)
ومن أسمائه تعالى: «العليم» و «العلّام» و «عالم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» ، وَوَصَفَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالعلم، وخصه بمزية منه فقال:
«وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
«1»
وقال «وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ «2» » .
ومن أسمائه: «الأوّل» و «الآخر» وَمَعْنَاهُمَا السَّابِقُ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا وَالْبَاقِي بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ وَلَا آخِرٌ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : «كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ» وَفُسِّرَ بِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «4» » فَقَدَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْهُ عُمَرُ «5» بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه «6»
__________
(1) «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ... » النساء 113.
(2) «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» البقرة 151
(3) تقدم بيانه.
(4) «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» الاحزاب 7.
(5) تقدمت ترجمته في ص (113) رقم (4) .
(6) في قوله الذي تقدم ويكى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(1/466)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ «1» : «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» .
وَقَوْلُهُ «2» : «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَآخِرُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم» .
ومن أسمائه تعالى: «القويّ» و «ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» وَمَعْنَاهُ الْقَادِرُ وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ:
«ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «3» قِيلَ: مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الصَّادِقُ» فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ «4» ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «5» أَيْضًا اسْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بِالصَّادِقِ المصدوق» .
ومن أسمائه تعالى: «الولي» و «المولى» ومعناهما الناصر.
وقد قال تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ «6» » .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «7» : «أَنَا وَلِيُّ كلّ مؤمن» .
__________
(1) كما صرح به حديث مسلم.
(2) تقدم بيانه.
(3) التكوير 2.
(4) المروي عن ابي هريرة مرفوعا. وقد يؤخذ من قوله تعالى «ومن أصدق من الله قيلا» .
(5) الصحيح عن ابن مسعود.
(6) «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» المائدة 55.
(7) رواه البخاري عن أبي هريرة، ورواه احمد وابو داوود عن جابر بلفظ «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» .(1/467)
وقال الله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ «1» » .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْعَفُوُّ» وَمَعْنَاهُ الصَّفُوحُ..
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا نَبِيَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ فَقَالَ: «خُذِ الْعَفْوَ» «3» وقال: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ «4» » .
وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ: «خُذِ الْعَفْوَ» قَالَ: «أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» وَقَالَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي صِفَتِهِ «5» : «لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْهَادِي» وَهُوَ بِمَعْنَى تَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ والدعاء.
قال الله تعالى: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «6» » .
__________
(1) «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» الأحزاب (6) .
(2) رواه الترمذي وحسنه.
(3) «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» الاعراف 199.
(4) «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» المائدة (13) .
(5) هذا الحديث ذكره البخاري في صحيحه من رواية عبد الله بن عمر، وليس فيه ذكر الانجيل.
(6) يونس 25.(1/468)
وأصل الجميع من الميل، وقيل من التقديم، وقيل في تَفْسِيرِ طه:
إِنَّهُ يَا طَاهِرُ، يَا هَادِي يعني النبي صلّى الله عليه وسلم..
وقال تعالى له: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» » وقال فيه: «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ «2» » فالله تعالى مختص بالمعنى الأول، قال الله تَعَالَى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «3» » وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى..
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْمُؤْمِنُ» «الْمُهَيْمِنُ» قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَمَعْنَى «الْمُؤْمِنِ» فِي حَقِّهِ تَعَالَى الْمُصَدِّقُ وَعْدَهُ عِبَادَهُ، وَالْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ الْحَقَّ، وَالْمُصَدِّقُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُسُلِهِ. وَقِيلَ: الْمُوَحِّدُ نَفْسَهُ وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ظُلْمِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَقِيلَ: «الْمُهَيْمِنُ» بِمَعْنَى الْأَمِينِ مُصَغَّرٌ مِنْهُ «4» فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً.. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدُّعَاءِ «آمِينَ» إِنَّهُ اسْمٌ
__________
(1) «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» الشورى 52
(2) «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» الْأَحْزَابِ 46.
(3) «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» القصص 56
(4) عود الضمير على المؤمن وقلبت الهمزة هاء في المهيمن المصغر لأنها أخف، وأما أسماؤه تعالى وأسماء أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فالصحيح أنها لا تصغر ومهيمن هنا إنما هو اسم فاعل من هيمن فهو مهيمن والياء فيه كياء ضيغم وحيدر وليست للتصغير وقد جاء في كلامهم ألفاظ على وزنه كمسيطر.(1/469)
مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى «1» ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَقِيلَ: «الْمُهَيْمِنُ» بِمَعْنَى الشَّاهِدِ وَالْحَافِظِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِينٌ وَمُهَيْمِنٌ وَمُؤْمِنٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمِينًا فَقَالَ: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «2» »
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ «بِالْأَمِينِ» ، وَشُهِرَ بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا.
وَسَمَّاهُ الْعَبَّاسُ «3» فى شعره مهيمنا في قوله:
ثم اغتدى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
قِيلَ الْمُرَادُ: يَا أَيُّهَا الْمُهَيْمِنُ.. قَالَهُ الْقُتَيْبِيُّ «4» ، وَالْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ «5» الْقُشَيْرِيُّ..
وَقَالَ تَعَالَى: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «6» » أي
__________
(1) القول بأن آمين اسم من أسماء الله تعالى قاله مجاهد وهذا القول يرده النووي في التهذيب بقوله: (إنه مبني وليس اسم في اسماء الله تعالى مبني، وأيضا أسماء الله تعالى لا تثبت إلا بالقرآن والسنة المتواترة وقد عدم الطريقان) أما آمين بالمد وقد يقصر؟؟؟ فعل أمر معناه احج.
(2) التكوير 21.
(3) العباس: تقدمت ترجمته في ص (181) رقم (1) .
(4) القتيبي عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري البغدادي، الامام المشهور نسبة لقتيبة جده توفي سنة 276 وتآليفه كثيرة.
(5) أبو قاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك، شيخ خراسان في عصره زهدا وعلما في الدين، وأقام بنيسابور وبها توفي سنة 465 هـ وله مصنفات أشهرها الرسالة القشيرية في علم التصوف وتراجم رجاله، ولطائف الاشارات في التفسير.
(6) «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» التوبة 61.(1/470)
يُصَدِّقُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» «أَنَا آمِنَةٌ «2» لِأَصْحَابِي» فَهَذَا بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: «الْقُدُّوسُ» وَمَعْنَاهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ الْمُطَهَّرُ عن سِمَاتِ الْحَدَثِ، وَسُمِّيَ «بَيْتُ الْمَقْدِسِ» لِأَنَّهُ يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب، ومنه «الوادي المقدس» و «روح القدس»
وقع فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُقَدَّسُ» أَيِ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3» » أَوِ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيُتَنَزَّهُ باتباعه عنها.. كما قال تعالى: «وَيُزَكِّيهِمْ «4» .. وقال «وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «5» » أَوْ يَكُونُ مُقَدَّسًا بِمَعْنَى مُطَهَّرًا مِنَ الْأَخْلَاقِ الذميمة والأوصاف الدنيّة..
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى «الْعَزِيزُ» وَمَعْنَاهُ الْمُمْتَنِعُ الْغَالِبُ.. أو الذي
__________
(1) حديث مسلم على ما مر،
(2) أمنة: بفتح الهمزة وضمها مصدر بمعنى الأمان أو بزنة المبالغة كرجل عدل فيقع على الواحد وغيره.
(3) «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح 2.
(4) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» الجمعة 2.
(5) «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» المائدة 16.(1/471)
لَا نَظِيرَ لَهُ، أَوِ الْمُعِزُّ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ «1» »
أَيْ الِامْتِنَاعُ وَجَلَالَةُ الْقَدْرِ.
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ فَقَالَ:
«يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ «2» » وقال: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى «3» » و «بِكَلِمَةٍ مِنْهُ «4» » وسماه الله تعالى مبشرا ونذيرا وبشيرا..- أَيْ مُبَشِّرًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ «وَنَذِيرًا» لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: «طه» «ويسن»
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمَا مِنْ أَسْمَاءِ محمد صلّى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم.
__________
(1) «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» المنافقون 8.
(2) «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» التوبة 21.
(3) «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ال عمران 39.
(4) «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ال عمران 45،(1/472)
الْفَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ اسْتِدْرَاكٌ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَهَا أَنَا أَذْكُرُ نُكْتَةً «1» أُذَيِّلُ بِهَا هَذَا الْفَصْلَ، وَأَخْتِمُ بِهَا هَذَا الْقِسْمَ، وَأُزِيحُ الْإِشْكَالَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ كُلِّ ضَعِيفِ الوهم، سقيم الفهم، يخلّصه مِنْ مَهَاوِي «2» التَّشْبِيهِ، وَتُزَحْزِحُهُ عَنْ شُبَهِ التَّمْوِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ اسْمُهُ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَحُسْنَى أَسْمَائِهِ، وَعُلِيِّ صِفَاتِهِ، لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا يُشَبَّهُ بِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ مِمَّا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ عَلَى الْخَالِقِ وَعَلَى الْمَخْلُوقِ فَلَا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي
__________
(1) نكتة: بضم أولها وفتح المثناة الفوقية هي الفكر الدقيق المحتاج إلى تأمل وفكر. سميت بها لأن صاحبها كثيرا ما يبحث في الأرض بقضيب ونحوه.
(2) مهاوي: بكسر الواو وجمع مهواة وهي كالهاوية الحفرة العميقة التي من يقع الصعب طلوعه.(1/473)
إِذْ صِفَاتُ الْقَدِيمِ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ..
فَكَمَا أنّ ذاته تعالى لا تشبه الدّوات، كَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتَ الْمَخْلُوقِينَ، إِذْ صِفَاتُهُمْ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْأَعْرَاضِ «1» وَالْأَغْرَاضِ «2» وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ.
وَكَفَى فِي هَذَا قَوْلُهُ: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» ..
وَلِلَّهِ دَرُّ «4» مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ الْمُحَقِّقِينَ: «التَّوْحِيدُ إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشْبِهَةٍ لِلذَّوَاتِ وَلَا مُعَطَّلَةٍ عَنِ الصِّفَاتِ» .
وَزَادَ هَذِهِ النُّكْتَةَ الْوَاسِطِيُّ «5» رَحِمَهُ اللَّهُ بَيَانًا وَهِيَ مَقْصُودُنَا فَقَالَ: لَيْسَ كَذَاتِهِ ذَاتٌ، وَلَا كَاسْمِهِ اسْمٌ وَلَا كَفِعْلِهِ فِعْلٌ، وَلَا كَصِفَتِهِ صِفَةٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ اللَّفْظَ.
وَجَلَّتِ الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ أَنْ تَكُونَ لَهَا صِفَةٌ حَدِيثَةٌ، كَمَا اسْتَحَالَ
__________
(1) الأعراض: جمع عرض بمهملتين مفتوحتين وهو كل ما لا يقوم بذاته بل يقوم بغيره كاللون والحركة.
(2) الأغراض: جمع غرض بمعجمة مفتوحة وراء مهملة مفتوحة وهو الأمر الباعث على وجود الشيء وإيجاده.
(3) «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» الشورى 11.
(4) در: بفتح الدال وتشديد الراء المهملتين أصل معناه اللبن ويتجوز به عن الخير والعمل الصالح واللام في لله للتعجب وكذا يستعمل فيقال لله دره للثناء عليه والتعجب من محاسنه.
(5) تقدمت ترجمته في ص (91) رقم (4) .(1/474)
أَنْ تَكُونَ لِلذَّاتِ الْمُحْدَثَةِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ..
وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ «1» الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ هَذَا لِيَزِيدَهُ بَيَانًا فَقَالَ: هَذِهِ الْحِكَايَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَوَامِعِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَكَيْفَ تُشْبِهُ ذَاتُهُ ذَاتَ الْمُحْدَثَاتِ وَهِيَ بِوُجُودِهَا مُسْتَغْنِيَةٌ!! ..
وَكَيْفَ يُشْبِهُ فِعْلُهُ فِعْلَ الْخَلْقِ، وَهُوَ لِغَيْرِ جَلْبِ أُنْسٍ أَوْ دَفْعِ نَقْصٍ حصل، ولا يخواطر وَأَغْرَاضٍ وُجِدَ وَلَا بِمُبَاشَرَةٍ وَمُعَالَجَةٍ ظَهَرَ، وَفِعْلُ الْخَلْقِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَالَ آخَرُ «2» مِنْ مَشَايِخِنَا: مَا تَوَهَّمْتُمُوهُ بِأَوْهَامِكُمْ، أَوْ أَدْرَكْتُمُوهُ بِعُقُولِكُمْ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُكُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي «3» الْجُوَيْنِيُّ: مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ انْتَهَى إِلَيْهِ فِكْرُهُ فَهُوَ مُشَبِّهٌ «4» وَمَنِ اطْمَأَنَّ إلى النفي المحض فهو
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (470) رقم (5) .
(2) غير معروف.. كما ذكره الحلبي
(3) إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني النيسابوري إمام الأئمة عربا وعجما فريد دهره صاحب الفضائل والتآليف الجليلة وهو شيخ الغزالي توفي سنة 478 هـ
(4) أي تيقن أمرا موجودا على وجه معين ارتسم في ذهنه أنه الله فهو معتقد لتشبيه الله تعالى بغيره وهذا خطأ فاحش لأنه ليس كمثله شيء.(1/475)
مُعَطِّلٌ «1» وَإِنْ قَطَعَ بِمَوْجُودٍ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ مُوَحِّدٌ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ذِي «2» النُّونِ الْمِصْرِيِّ «حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَشْيَاءِ بِلَا عِلَاجٍ «3» ، وَصُنْعَهُ لَهَا بِلَا مِزَاجٍ «4» وَعِلَّةُ كُلِّ شَيْءٍ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ «5» . وَمَا تُصُوِّرَ فِي وَهْمِكَ فَاللَّهُ بِخِلَافِهِ»
وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ نَفِيسٌ مُحَقَّقٌ وَالْفَصْلُ الْآخَرُ «6» تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ:
«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «7» .
والثاني «8» تفسير لقوله: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «9» »
وَالثَّالِثُ «10» تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ
__________
(1) أي نفي ذات الباري حقيقة أو حكما كالفلاسفة القائلين لا يصدر عن الواحد بالذات إلا واحد فهو معطل ناف للصانع.
(2) الزاهد العارف بالله تعالى أبو الفيض ثوبان بن ابراهيم الاخميمي كان عالما فاضلا توفي سنة 245 هـ.
(3) أي بلا معالجة ومكابدة واستعمال آلة.
(4) أي ان إيجاده لها لا يحتاج إلى مادة ومعاونة تركبه منها بل قدرته تعالى العلية أوجدته ابتداء من العدم بعد أن لم تكن بمجرد قوله كن فيكون.
(5) أي لا علة لمصنعه تعينه في إيجاده إذ أفعاله تعالى لا تعلل بالاغراض.
(6) أي قوله: «ما تصور في وهمك فالله بخلافه» .
(7) «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» الشوري 11.
(8) أي قوله: «وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه» .
(9) الأنبياء 23.
(10) أي قوله: «حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا علاج» .(1/476)
نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» » .
ثبّتنا الله وإياك من التَّوْحِيدِ وَالْإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهِ وَجَنَّبَنَا طَرَفَيِ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ من التعطيل والتشبيه بمنّه ورحمته.
__________
(1) النمل 40.(1/477)
الباب الرابع فيما أظهره الله على يديه منه الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْكَرَامَاتِ وَفِيهِ ثلاثون فصلا(1/479)
الفصل الأوّل مقدّمة
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: حَسْبُ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ يُحَقِّقَ أَنَّ كِتَابَنَا هَذَا لَمْ نَجْمَعْهُ لِمُنْكِرِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا لِطَاعِنٍ فِي مُعْجِزَاتِهِ، فَنَحْتَاجُ إِلَى نَصْبِ الْبَرَاهِينِ عَلَيْهَا، وَتَحْصِينِ حَوْزَتِهَا «1» حَتَّى لَا يَتَوَصَّلَ الْمُطَاعِنُ إِلَيْهَا، وَنَذْكُرُ شُرُوطَ الْمُعْجِزِ، وَالتَّحَدِّي وَحْدَهُ، وَفَسَادُ قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ نَسْخَ الشَّرَائِعِ وَرَدُّهُ.
بَلْ أَلَّفْنَاهُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ الْمُلَبِّينَ لِدَعْوَتِهِ، الْمُصَدِّقِينَ لِنُبُوَّتِهِ لِيَكُونَ تَأْكِيدًا فِي مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَمَنْمَاةً لِأَعْمَالِهِمْ، و «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ «2» » .
__________
(1) حوزتها: بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح الزاي المعجمة وهي الناحية والجانب، وتحصينها جعلها حصينه محفوظة كأن عليها حصنا يحميها، وفيه استعارة تمثيلية تخييلية بجعل المنكر كالعدو القاصد لخراب المملكة.
(2) سورة الفتح رقم 5.(1/481)
وَنِيَّتُنَا أَنْ نُثْبِتَ فِي هَذَا الْبَابِ أُمَّهَاتِ مُعْجِزَاتِهِ، وَمَشَاهِيرَ آيَاتِهِ، لِتَدُلَّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ. وَأَتَيْنَا مِنْهَا بِالْمُحَقَّقِ وَالصَّحِيحِ الْإِسْنَادِ، وَأَكْثَرُهُ مِمَّا بَلَغَ الْقَطْعَ أَوْ كَادَ، وَأَضَفْنَا إِلَيْهَا بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْمُنْصِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَمِيلِ أَثَرِهِ، وَحَمِيدِ سِيَرِهِ، وَبَرَاعَةِ عِلْمِهِ، وَرَجَاحَةِ عَقْلِهِ وَحِلْمِهِ، وَجُمْلَةِ كَمَالِهِ، وَجَمِيعِ خِصَالِهِ، وَشَاهِدِ حَالِهِ، وَصَوَابِ مَقَالِهِ، لَمْ يَمْتَرِ «1» فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِ دَعْوَتِهِ.
وَقَدْ كَفَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي إِسْلَامِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، فَرَوَيْنَا عَنِ التِّرْمِذِيِّ «2» وَابْنِ قَانِعٍ «3» وَغَيْرِهِمَا بِأَسَانِيدِهِمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ «4» قَالَ «5» : «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب» .
__________
(1) أي لم يشك
(2) تقدمت ترجمته في ص (181) رقم (4) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (340) رقم (1) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (73) رقم (3) .
(5) رواه عن الترمذي في جامعه في باب الزهد وقال صحيح. وهو في سنن ابن ماجه أيضا في الصلاة عن محمد بن بشار بسنده وفي مسند أحمد ومستدرك الحاكم.(1/482)
وَعَنْ «1» أَبِي رِمْثَةَ «2» التَّيْمِيِّ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي ابْنٌ لِي فَأُرِيتُهُ «3» فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قُلْتُ: هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ.. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ:
أَنَّ ضِمَادًا «4» لَمَّا وَفَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» . قَالَ لَهُ: «أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هؤلاء فلقد بلغن قَامُوسَ «5» الْبَحْرِ.. هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ» .
وَقَالَ «6» جَامِعُ «7» بْنُ شَدَّادٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ: طارق «8»
__________
(1) رواه ابن سعد.
(2) أبو رمثة التيمي اسمه رفاعة بن يثري رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه إياد بن لقيط وثابت بن منقذ وروى له أصحاب السنن الثلاثة وصحح حديثه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(3) أريته: بالبناء للمجهول أي أراني إياه وعرفني به غيره.
(4) ضماد بن ثعلبة الأزدي نسبة لأزد شنوءة قبيلة مشهورة وكان صديقا للنبي صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة- قدم مكة وأسلم في أول الاسلام. وكان عاقلا يتطبب ويرقى.
(5) أي اشتهرت مقالتك هذه في جميع أقطار الأرض شرقا وغربا وقاموس البحر وسطه أو لجته أو قعره كما في كتب اللغة من قمسه إذا غمسه ووزنه فاعول وهذه أشهر الروايات وأصحها وفيه روايات أخرى فروي تاعوس بمثناة فوقية وعين وسين مهملتين بينهما واو ساكنة وروي فاعوس بفاء بدل القاف.
(6) رواه البيهقي عنه.
(7) وهو ابو ضمرة الأسدي المحاربي الكوفي أخرج له أبو داوود والنسائي ثقة توفي سنة 118.
(8) طارق بن عبد الله المحاربي من محارب خصفة نزل الكوفة، روى له النسائي: «قدمت على النبي صلّى الله عليه وسلم واذا هو قائم على المنبر يخطب ويقول: يد المعطي العليا» .(1/483)
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ «1» : هَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ تَبِيعُونَهُ؟
قُلْنَا: هَذَا الْبَعِيرُ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا «2» مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ «3» وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ.. فَقُلْنَا: بِعْنَا مِنْ رَجُلٍ لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ «4» فَقَالَتْ: أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ الْبَعِيرِ..
رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مِثْلَ القمر ليلة البدر.. لا يخيس «5» بكم.
فَأَصْبَحْنَا فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا التَّمْرِ وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا فَفَعَلْنَا.
وَفِي خَبَرِ الْجُلَنْدِيِّ «6» مَلِكِ عَمَّانَ لَمَّا بَلَغَهُ «7» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ الْجُلَنْدِيُّ: «وَاللَّهِ لَقَدْ دَلَّنِي عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ آخِذٍ بِهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ تَارِكٍ لَهُ.. وَأَنَّهُ يَغْلِبُ فلا يبطر، ويغلب فلا
__________
(1) أي النبي صلّى الله عليه وسلم.
(2) وسقا: بكسر الواو وفتحها وهو ستون صاعا.
(3) بخطامه: بخاء معجمه وطاء مهملة وميم وهو كالزمام وزنا ومعنى، أي رسنه الذي يقاد به.
(4) ظعينة: بظاء معجمة وعين مهملة وهي المرأة التي تظعن مع زوجها أي ترتحل.
(5) لا يخيس: أي لا يغدر ولا يكذب وهو بخاء معجمة وسين مهملة.
(6) الجلندي بضم أوله وثانيه مع القصر اختلف في اسلامه وجزم به النويري وكتب النبي صلّى الله عليه وسلم اليه والى اخيه لولايتهما على عمان فأجابا.
(7) تقدمت ترجمته في ص «80» رقم «4» .(1/484)
يَضْجَرُ، وَيَفِي بِالْعَهْدِ وَيُنْجِزُ الْمَوْعُودَ.. وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ» .
وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ «1» » هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَكَادُ مَنْظَرُهُ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْلُ قُرْآنًا كَمَا قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ «2» :
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ «3» بِالْخَبَرِ
وَقَدْ آنَ أَنْ نَأْخُذَ فِي ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَبَعْدَهُ فِي مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ من برهان ودلالة.
__________
(1) سورة النور رقم (35)
(2) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري شاعر النبي صلّى الله عليه وسلم وقائده الثالث بعد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في سرية مؤته وبها قتل بعد صاحبيه في حياته صلّى الله عليه وسلم شهد المشاهد كلها الا الفتح لموته قبلها سنة 8 هـ.
(3) ينبيك: أصلها ينبؤك بالهمزة فأبدلت ياء وسكنت-(1/485)
الْفَصْلُ الثَّانِي بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَالْعِلْمِ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَجَمِيعِ تَكْلِيفَاتِهِ ابْتِدَاءً دُونَ وَاسِطَةٍ لَوْ شَاءَ كَمَا حُكِيَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ. وذكره بعض أهل التفسير في قوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً «1» » .
وَجَائِزٌ أَنْ يُوصِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ تُبَلِّغُهُمْ كَلَامَهُ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ إِمَّا مِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ. كَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ جِنْسِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأُمَمِ. وَلَا مَانِعَ لِهَذَا مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ.
- وَإِذَا جَازَ هَذَا وَلَمْ يَسْتَحِلْ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ من معجزاتهم وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا أَتَوْا بِهِ.
- لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ مَعَ التَّحَدِّي مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ:
__________
(1) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رسولا فيوحي باذنه ما يشاء إنه علي حكيم: الشورى «517» .(1/486)
«صَدَقَ عَبْدِي فَأَطِيعُوهُ وَاتَّبِعُوهُ» وَشَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَقُولُهُ، وَهَذَا كَافٍ.. وَالتَّطْوِيلُ فِيهِ خَارِجٌ عَنِ الْغَرَضِ. فَمَنْ أَرَادَ تَتَبُّعَهُ وَجَدَهُ مُسْتَوْفًى فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
فَالنُّبُوَّةُ: فِي لُغَةِ مَنْ هَمَزَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّبَأِ، وَهُوَ الخبر وقد لا يهمز عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَسْهِيلًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى غَيْبِهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ نَبِيُّهُ فَيَكُونُ نَبِيٌّ (مُنَبَّأً) فَعِيلٌ بِمَعْنَى (مَفْعُولٍ) أَوْ يَكُونُ مُخْبِرًا عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَمُنَبِّئًا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَيَكُونُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَهْمِزْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ. وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ رُتْبَةً شَرِيفَةً وَمَكَانَةً نَبِيهَةً عِنْدَ مَوْلَاهُ مَنِيفَةً «2» .. فَالْوَصْفَانِ فِي حَقِّهِ مُؤْتَلِفَانِ.
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَهُوَ الْمُرْسَلُ، وَلَمْ يَأْتِ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ فِي اللُّغَةِ إِلَّا نَادِرًا.. وَإِرْسَالُهُ أَمْرُ اللَّهِ لَهُ بِالْإِبْلَاغِ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ التَّتَابُعِ.. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَاءَ النَّاسُ أرسالا.. إذا تبع بَعْضُهُمْ بَعْضًا.. فَكَأَنَّهُ أُلْزِمَ تَكْرِيرَ التَّبْلِيغِ.. أَوْ ألزمت
__________
(2) منيفة: من أناف أي عالية مشرفة.(1/487)
الْأُمَّةُ اتِّبَاعَهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ النَّبِيُّ وَالرَّسُولُ بِمَعْنًى أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ فَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْإِنْبَاءِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «1» » فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمَا مَعًا الْإِرْسَالَ قَالَ: وَلَا يَكُونُ النَّبِيُّ إِلَّا رَسُولًا وَلَا الرَّسُولُ إِلَّا نَبِيًّا. وَقِيلَ: هُمَا مُفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ.. إِذْ قَدِ اجْتَمَعَا فِي النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَالْإِعْلَامُ بِخَوَاصِّ النُّبُوَّةِ أَوِ الرِّفْعَةِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَحَوْزِ دَرَجَتِهَا..
- وَافْتَرَقَا فِي زِيَادَةِ الرسالة للرسول.. وهو الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِعْلَامِ كَمَا قُلْنَا، وَحُجَّتُهُمْ مِنَ الْآيَةِ نَفْسِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَلَوْ كَانَا شيئا واحدا لما حسن تكرار هما فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
قَالُوا وَالْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَى أُمَّةٍ، أَوْ نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ إِلَى أَحَدٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أنّ الرسول قد جَاءَ بِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ. وَإِنْ أُمِرَ بِالْإِبْلَاغِ وَالْإِنْذَارِ.
وَالصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ «2» : أَنَّ كُلَّ رسول نبيّ
__________
(1) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الْحَجِّ. (52)
(2) الجماء الغفير: جماعة الناس يقال جاؤوا جماء غفيرا والجماء بالمد وبالقصر والغفير صفة لازمة للجماء لا يفرد بدونها من الغفر وهو الستر كأنهم لكثرتهم ستروا وجه الأرض(1/488)
وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا وَأَوَّلُ الرُّسُلِ: آدَمُ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي ذَرٍّ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ الأنبياء مئة أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ» وَذَكَرَ أَنَّ الرسل منهم ثلاث مئة وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ بَانَ لَكَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَلَيْسَتَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ذَاتًا لِلنَّبِيِّ «3» .. وَلَا وَصْفَ ذَاتٍ «4» .. خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّةِ «5» ، فِي تَطْوِيلٍ لَهُمْ وَتَهْوِيلٍ، لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْوِيلٌ..
وَأَمَّا الْوَحْيُ: فَأَصْلُهُ الْإِسْرَاعُ.. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ يَتَلَقَّى مَا يَأْتِيهِ مِنْ رَبِّهِ بِعَجَلٍ سُمِّيَ وَحْيًا.. وَسُمِّيَتْ أَنْوَاعُ الْإِلْهَامَاتِ وَحْيًا تَشْبِيهًا بِالْوَحْيِ إِلَى النَّبِيِّ وَسُمِّيَ الْخَطُّ «وَحْيًا» لِسُرْعَةِ حركة يد
__________
(1) رواه أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في مستدركه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1»
(3) أي ليستا أمرا ذاتيا في الرسول ولا جبلة طبعه الله عليها كالعقل وغيره من الغرائز، وليست النبوة مكتسبة برياضة وتصفية باطن كما ذهب اليه الحكماء وإنما هي أمر طارىء عليه بارادة الله تعالى وفضله والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته.
(4) اي ليست صفة قائمة بذاته موجودة فيه قبل الوحي اليه.
(5) الكرامية: بتشديد الراء وتخفيفها على القولين وفتح الكاف وكسرها على التخفيف وهي طائفة تنسب الى محمد بن كرام وكان صاحب مذهب في العقائد وغيرها وله رواية في الحديث وكان يجوز الكذب على النبي صلّى الله عليه وسلم في الترغيب والترهيب لانه له لا عليه ومات في القدس في صفر سنة خمس وخمسين ومائتين.(1/489)
كَاتِبِهِ «وَوَحْيُ الْحَاجِبِ وَاللَّحْظِ «1» » سُرْعَةُ إِشَارَتِهِمَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا «2» » أَيْ أَوْمَأَ وَرَمَزَ وَقِيلَ كَتَبَ.. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ الْوَحَا..
الْوَحَا «3» .. أَيِ السُّرْعَةَ.. السُّرْعَةَ وَقِيلَ: أَصْلُ الْوَحْيِ السِّرُّ وَالْإِخْفَاءُ.. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِلْهَامُ وَحْيًا..
ومنه قوله تعالى: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ «4» » أَيْ يُوَسْوِسُونَ فِي صُدُورِهِمْ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى «5» » أَيْ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهَا وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
«وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً «6» » أَيْ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ.
__________
(1) اللحظ: مؤخر العين، ثم أطلق على النظر فيقال لحظه بعينه وهو هنا مستعار
(2) سورة مريم آية (11) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ
(3) الوحا: بفتح الواو والمد والقصر ويقال الوحاك بكاف الخطاب أيضا كما في الأساس وهو منصوب بفعل مقدر للاعراب.
(4) سورة الأنعام آية (2) (لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)
(5) سورة القصص آية «7» (أَنْ أَرْضِعِيهِ)
(6) سورة الشورى آية «52» (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) .(1/490)
الفصل الثالث معنى المعجزات
إعلم أنّ معنى تَسْمِيَتَنَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ «مُعْجِزَةً»
- هُوَ أنّ الخلق عجزوا عن الإثبات بِمِثْلِهَا وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
- ضَرْبٌ هُوَ مِنْ نَوْعِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ فَعَجَزُوا عَنْهُ فَتَعْجِيزُهُمْ عَنْهُ فِعْلٌ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ كَصَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ «1» وَتَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ القرآن على رأي بعضهم «2» ونحوه.
__________
(1) أي منع الله اليهود عن تمني الموت لما قالوا «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» المائدة (18) «وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» البقرة (1) فكذبهم الله تعالى وألزمهم بقوله: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» البقرة (94) أي قل لهم يا محمد: إن كنتم أحباب الله تعالى والجنة مختصة بكم فاطلبوا الموت فإن من أحب الله أحب الله لقاءة ومن كانت داره الجنة يبادر لدخولها فلم يتمنه أحد منهم ولو بلسانه لصرف الله لهم عن ذلك ولذا ورد ولو تمنوه لم يبق على وجه الأرض يهودي.
(2) أي الذين يقولون ب «الصرفة» أي بصرف العرب الفصحاء عن معارضته مع تحديه لهم وتقريعهم بذلك على رؤوس الأشهاد حتى عدلوا عن مجادلة الحروف إلى مجادلة السيوف كما هو المشهور وهذا هو مذهب النظام وبعض المعتزلة والشيعة فقيل صرفهم يأت لم يكن دواع وبواعث لذلك وقيل سلبهم المعارف المركوزة في طبائعهم، من معرفة فنون-(1/491)
- وضرب هو خارج عن قدرتهم، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى «1» ، وَقَلْبِ الْعَصَا «2» حَيَّةً، وَإِخْرَاجِ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ «3» وَكَلَامِ شَجَرَةٍ «4» وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَصَابِعِ «5» ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ «6» ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَحَدٌ إلّا الله فيكون ذَلِكَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحَدِّيهِ مَنْ يُكَذِّبُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ تَعْجِيزٌ لَهُ وَاعْلَمْ
__________
- البلاغة وأساليبها على القولين المشهورين في «الصرفة» والذي عليه الجمهور المحققون أن إعجازه إنما هو بما تضمنه من الفصاحة والبلاغة وغرابة الأساليب وبلاغة التراكيب وجزالتها وأنواع البديع ومطابقة المقامات وبديع الفواتح والمقاطع وروائع الاستعارات إلى غير ذلك، مما خرج عن طوق البشر وبلغ ذروة لا تصل إليها خطى الأفكار مع حلاوة وطلاوة تعين السامع. وإن أيسر رد على القول بالصرفة هي الحقيقة التي تمحق هذا القول وتطيح به ذلك أن بعضا ممن أصابهم الغرور وانتابهم السفه والطيش لجؤوا إلى محاكاة القرآن والإتيان بمثله فصدر عنهم كلام نزق مفكك، يدعو إلى الغثاثة والغثيان.. فهذا الأمر يدل دلالة واضحة على عدم صرفهم من الأصل بل إنهم لم يستطيعوا ولن يستطيع غيرهم محاكاة القرآن ولا تقليده وأنى لهم ذلك والقرآن كلام الله عز وجل.
(1) الذي وقع لإبراهيم وعيسى عليهما السلام.
(2) معجزة لموسى عليه السلام.
(3) بلا واسطة وأسباب معتادة معجزة لصالح عليه السلام لما اقترح عليه «جندع بن عمرو» سيد قومه أن يخرج لهم من صخرة أسمها «كاتبه» ناقة عشراء فصلى ودعا ربه فتمخضت تمخض الشرج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء وهم ينظرون ثم نتجت مثلها في العظم فآمن جندع في جمع من قومه وتمادى غيرهم في الكفر حتى عقروا الناقة فأخذتهم الرجفة.
(4) حنين الجذع للنبي صلّى الله عليه وسلم.
(5) وهذا جرى الرسول صلّى الله عليه وسلم.
(6) معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلم بأن القمر انفلق فلقتين تشاهده وقد ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وروي من طرق متعددة خرجها السيوطي وبه فسر قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» سورة القمر (1) .(1/492)
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَائِلَ نَبُّوَّتِهِ وَبَرَاهِينَ صِدْقِهِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مَعًا.
- وَهُوَ أَكْثَرُ الرُّسُلِ مُعْجِزَةً وَأَبْهَرُهُمْ آيَةً وَأَظْهَرُهُمْ بُرْهَانًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَهِيَ فِي كَثْرَتِهَا لَا يُحِيطُ بِهَا ضَبْطٌ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهَا وَهُوَ «الْقُرْآنُ» لَا يُحْصَى عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ وَلَا أَلْفَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ.. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعُجِزَ عَنْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ.. وَأَقْصَرُ السُّوَرِ «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» » فكل آية منه أَوْ آيَاتٍ مِنْهُ بِعَدَدِهَا وَقَدْرِهَا مُعْجِزَةٌ.. ثُمَّ فيها نفسها معجزات على ما سنفعله فِيمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
ثُمَّ مُعْجِزَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
- قِسْمٌ مِنْهَا عُلِمَ قَطْعًا وَنُقِلَ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا كَالْقُرْآنِ فَلَا مِرْيَةَ وَلَا خِلَافَ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ بِهِ وظهووه مِنْ قِبَلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ بِحُجَّتِهِ.. وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا مُعَانِدٌ جَاحِدٌ فَهُوَ كَإِنْكَارِهِ وُجُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا..
وَإِنَّمَا جَاءَ اعْتِرَاضُ الْجَاحِدِينَ فِي الْحُجَّةِ بِهِ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مُعْجِزٍ مَعْلُومٌ ضرورة، ووجه إعجازه معلوم ضرورة
__________
(1) سورة الكوثر (1) .(1/493)
وَنَظَرًا كَمَا سَنَشْرَحُهُ.. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا «1» وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٌ وَخَوَارِقُ عَادَاتٍ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهَا معينا القطع فيبلغها جَمِيعُهَا فَلَا مِرْيَةَ فِي جَرَيَانِ مَعَانِيهَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَا يَخْتَلِفُ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ أَنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عَجَائِبُ..
وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعَانِدِ فِي كَوْنِهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ.. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَوْنَهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ.. وَإِنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ «صَدَقْتَ» فَقَدْ عُلِمَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا أَيْضًا مِنْ نَبِيِّنَا ضَرُورَةً لِاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا، كَمَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً جُودُ حَاتِمٍ «2» وَشَجَاعَةُ عَنْتَرَةَ «3» ، وَحِلْمُ أَحْنَفَ «4» .. لِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.. عَلَى كَرَمِ هَذَا وَشَجَاعَةِ هَذَا.. وَحِلْمِ هَذَا.. وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ بِنَفْسِهِ لَا يوجب العلم، ولا يقطع بصحته
__________
(1) أي علماء الحديث والتفسير. لا المالكية إذ لا اختصاص لما ذكر بمذهب.
(2) وهو حاتم الطائي اشهر من يعرف فأخباره في الجود مشهورة معروفة وكان في الجاهلية قريبا من مبعثه صلّى الله عليه وسلم فابنه عدي أدرك الاسلام وكان من كبار الصحابة رضي الله عنهم.
(3) عنترة ويقال: عنتر وهو ابن معاوية بن شداد القيسي من فرسانها العرب وفصحائها المشهورين وله إحدى المعلقات السبع، مات على كفره في الجاهلية
(4) الاحنف بن قيس بن معاوية بن حصين المري السعدي المنقري التميمي أبو بحر: سيد تميم، أحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان الفاتحين يضرب به المثل في الحلم ولد في البصرة وأدرك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يره وهو الذي إذا غضب غضب له مائه ألف لا يدرون فيم غضب توفي سنة 72 هـ.(1/494)
- وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الضَّرُورَةِ وَالْقَطْعِ.. وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ.
- نَوْعٌ مُشْتَهِرٌ مُنْتَشِرٌ.. رَوَاهُ الْعَدَدُ وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالرُّوَاةِ وَنَقَلَةِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ.. كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ.
- وَنَوْعٌ مِنْهُ اخْتُصَّ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ.. وَرَوَاهُ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَلَمْ يَشْتَهِرِ اشْتِهَارَ غَيْرِهِ.. لَكِنَّهُ إِذَا جُمِعَ إِلَى مِثْلِهِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى وَاجْتَمَعَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُعْجِزِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: وَأَنَا أَقُولُ- صَدْعًا بِالْحَقِّ- إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ.
أَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَالْقُرْآنُ نَصَّ بِوُقُوعِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ وُجُودِهِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ.. وَجَاءَ بِرَفْعِ احْتِمَالِهِ صَحِيحُ الْأَخْبَارِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يُوهِنُ عَزْمَنَا خِلَافُ أَخْرَقَ «1» مُنْحَلِّ عُرَى الدِّينِ.. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سَخَافَةِ مُبْتَدِعٍ يُلْقِي الشَّكَّ عَلَى قلوب ضعفاء المؤمنين.. بل نرغم بهذا أنفه وننبذ بالعراء سخفه
__________
(1) أخرق: قال الثعالبي في فقه اللغة في أنواع الحمق أولها أحمق ثم أبله فان كان معه عدم الرفق فهو أخرق.(1/495)
وَكَذَلِكَ قِصَّةُ نَبْعِ الْمَاءِ وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ: رَوَاهَا الثِّقَاتُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ عَنِ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ..
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْكَافَّةِ مُتَّصِلًا عَمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَأَخْيَارِهِمْ.. أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَوْطِنِ اجْتِمَاعِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ «1» ، وَفِي غَزْوَةِ بُوَاطٍ «2» .. وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ «3» وَغَزْوَةِ تَبُوكَ «4» وَأَمْثَالِهَا مِنْ مَحَافِلِ «5» الْمُسْلِمِينَ وَمَجْمَعِ الْعَسَاكِرِ.. وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةٌ لِلرَّاوِي فِيمَا حكاه.. ولا إنكار عما
__________
(1) الخندق بفتح الخاء المعجمة وسكون وفتح الدال المهملة وقاف وهو فارسي معرب «كنده» بمعنى الحفر والمراد غزوة الخندق «تسمى غزوة الأحزاب» لاجتماع أحزاب المشركين واليهود بها حول المدينة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بحفر خندق أشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه به ولم يكن ذلك معروفا عند العرب وإنما هو من مكائد الفرس. وكان ذلك في شوال وقيل في ذي القعدة سنة أربع أو خمس من الهجر النبوية.
(2) بواط: بضم الباء وفتحها وهو اسم جبل من جبال حهينة بينه وبين المدينة أربعة برد بقرب رضوى وهو جبل أيضا، وهي التي ظفر بها النبي صلّى الله عليه وسلم بعير قريش، وكانت الغزاة في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة
(3) الحديبية: مصفر كدويهية اسم مكان أو بئر فيه قريبة من مكة سميت بشجرة حدباء، وهي التي وقع تحتها بيعة المرضوان، وهي بتخفيف الياء الثانية على الصحيح وشددها بعضهم وكانت في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.
(4) غزوة تبوك آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم السنة التاسعة. وتبوك موضع بطرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة.
(5) محافل: جمع محفل من حفل القوم إذا اجتمعوا وكثروا وقيل المحفل مجمع الرجال والمأثم مجمع النساء والنادي مجمع النساء في الشتاء ودار الندوة والمصطبة مجمع الغرباء وقيل محل اجتماعهم لأمورهم والمجلس مقر الناس في بيوتهم والحان محل المسافرين والحانوت محل البيع والشراء.(1/496)
ذكر عنهم أنهم رأوه كما رواه.. فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق.. إذهم الْمُنَزَّهُونَ عَنِ السُّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ.. وَالْمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ.. وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَةٌ وَلَا رَهْبَةٌ تَمْنَعُهُمْ.. وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَغَيْرَ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ لَأَنْكَرُوهُ كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَشْيَاءَ رَوَاهَا مِنَ السُّنَنِ وَالسِّيَرِ وَحُرُوفِ «1» الْقُرْآنِ.
وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَوَهَّمَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ.
- فَهَذَا النَّوْعُ كُلُّهُ يَلْحَقُ بِالْقَطْعِيِّ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَبُنِيَتْ على باطل لا بدمع مرور الأزمات وَتَدَاوُلِ النَّاسِ وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنِ انْكِشَافِ ضَعْفِهَا وَخُمُولِ ذِكْرِهَا.. كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَرَاجِيفِ «2» الطَّارِئَةِ.. وَأَعْلَامُ «3» نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْوَارِدَةُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ.. لَا تَزْدَادُ مَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ إِلَّا ظهورا.. ومع
__________
(1) حروف القرآن: أي قراءاته المتعددة فإن كل وجه من القراءة يطلق عليه حرف وبه فسر حديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي لغات.
(2) الأراجيف: جمع إرجاف بكسر الهمزة وفتحها وقيل إنه جمع رجفة من الرجف وهو الاضطراب والتحرك بحركات متوالية ولذا سمي البحر رجافا لاضطراب أمواجه، وهي هنا بمعنى الأخبار السيئة التي تشيع بين الناس ثم تنسى لظهور كذبها.
(3) أعلام: بفتح الهمزة جمع علم بمعنى علامة او راية كبيرة والمراد معجزته المعلومة المشهورة.(1/497)
تَدَاوُلِ الْفِرَقِ وَكَثْرَةِ طَعْنِ الْعَدُوِّ وَحِرْصِهِ عَلَى توهينها وتضعيف أصلها وإجهاد الملحد من إطفاء نورها إلا قوة وقبولا ولا للطاعن عَلَيْهَا إِلَّا حَسْرَةً وَغَلِيلًا «1» ..
- وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ وَإِنْبَاؤُهُ بِمَا يَكُونُ وَكَانَ مَعْلُومٌ مِنْ آياته على الجملة بالضرورة.. وهذا حق لاغطاء عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ بِهِ مِنْ أَئِمَّتِنَا «2» الْقَاضِي»
وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ «4» وَغَيْرُهُمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ الْقَائِلِ إِنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ الْمَشْهُورَةَ مِنْ بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا قِلَّةُ مُطَالَعَتِهِ لِلْأَخْبَارِ وَرِوَايَتِهَا، وَشُغْلُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ. وَإِلَّا فَمَنِ اعْتَنَى بِطُرُقِ النَّقْلِ، وَطَالَعَ الْأَحَادِيثَ وَالسِّيَرَ، لَمْ يَرْتَبْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ وَاحِدٍ، وَلَا يَحْصُلُ عِنْدَ آخَرَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ بِالْخَبَرِ كَوْنَ بَغْدَادَ مَوْجُودَةً وَأَنَّهَا مَدِينَةٌ عظيمة، ودار الإمامة الخلافة،
__________
(1) غليلا: بالغين المعجمة أو أصله حرارة وتلهف في الجوف من شدة العطش والمراد به هنا مجازا الحقد المضمر والحسد.
(2) المقتدى بهم من الأشعرية أو المالكية.
(3) أبو بكر الباقلاني الأصولي المالكي لأنه المراد به إذا أطلق تقدمت ترجمته في ص «385» رقم «1» .
(4) بن فورك تقدمت ترجمته في ص «119» رقم «4»(1/498)
وَآحَادٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْمَهَا فَضْلًا عَنْ وَصْفِهَا..
وَهَكَذَا يَعْلَمُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ «1» بِالضَّرُورَةِ وَتَوَاتُرِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ إِيجَابُ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ، وَإِجْزَاءُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ عَمَّا سِوَاهُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ «2» يَرَى تَجْدِيدَ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ. وَالِاقْتِصَارَ فِي الْمَسْحِ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ.
وَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا «3» الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ «4» وَغَيْرِهِ «5» وَإِيجَابُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَاشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ.. وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ «6» يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ «7» .. وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَا رَوَى أَقْوَالَهُمْ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ.
وَعِنْدَ ذِكْرِنَا آحَادَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ نَزِيدُ الْكَلَامَ فِيهَا بَيَانًا إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «341» رقم «7» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «155» رقم «8» .
(3) اي مالك والشافعي.
(4) المحدد: اسم مصقول مشدد الدال وهو حديد له حد جارح كالسيف ونحوه
(5) وغيره: مما لا حد له كالعصا والحجر والشجر.
(6) أعلام: النعمان بن ثابت التيمي بالولاء الكوفي- أبو حنيفة واليه ينسب المذهب الحنفي، الفقيه المجتهد المحقق. أحد الأئمة الأربعة، ولد ونشأ بالكوفة، طلبه المنصور للقضاء فامتنع فحبسه وضربه حتى مات. كان قوي الحجة ومن أحسن الناس منطقا. جوادا، كريما في أخلاقه، حسن الصورة جهوري الصوت توفي سنة 150 هـ
(7) في مذهب أبي حنيفة أن القصاص لا يوجب في غير المحدد بل الدية ولا يوجب النية في الوضوء، وخالف فيه بعض الحنيفة كما في الأسرار للدبوسي، كذلك لا يشترط في النكاح الولي.(1/499)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ.
وَتَحْصِيلَهَا مِنْ جهة صبط أَنْوَاعِهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: حُسْنُ تَأْلِيفِهِ، والتئام كلمه، وفصاحته وجوه إِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةَ الْعَرَبِ.
- وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ هَذَا الشَّأْنِ، وَفُرْسَانَ الْكَلَامِ..
قَدْ خصّوا من البلاغة والحكم ما لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأُوتُوا مِنْ ذَرَابَةِ «1» اللِّسَانِ مَا لَمْ يُؤْتَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ مَا يُقَيِّدُ الْأَلْبَابَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ طَبْعًا وَخِلْقَةً، وَفِيهِمْ غَرِيزَةً
__________
(1) ذرابة: بذال معجمة وراء مهملة وموحدة أصل معناها حدة السيف والسنان ونحوه وقد يكون بمعنى كونه سليطا صخابا فيكون ذما كالحدة قال الله تعالى: «سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ الأحزاب 19(1/500)
وَقُوَّةً.. يَأْتُونَ مِنْهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ بِالْعَجَبِ، وَيُدْلُونَ بِهِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ فَيَخْطُبُونَ بَدِيهًا فِي الْمَقَامَاتِ، وَشَدِيدِ الْخُطَبِ وَيَرْتَجِزُونَ «1» بِهِ بَيْنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيَمْدَحُونَ وَيَقْدَحُونَ، وَيَتَوَسَّلُونَ وَيَتَوَصَّلُونَ، وَيَرْفَعُونَ وَيَضَعُونَ، فَيَأْتُونَ مِنْ ذَلِكَ بِالسِّحْرِ «2» الْحَلَالِ، وَيُطَوِّقُونَ مِنْ أَوْصَافِهِمْ أَجْمَلَ مِنْ سُمْطِ «3» اللَّآلِ، فَيَخْدَعُونَ الْأَلْبَابَ وَيُذَلِّلُونَ الصِّعَابَ، وَيُذْهِبُونَ الْإِحَنَ «4» وَيُهَيِّجُونَ الدِّمَنَ «5» ، وَيُجَرِّئُونَ الْجَبَانَ، وَيَبْسُطُونَ يَدَ الْجَعْدِ «6» الْبَنَانِ: وَيُصَيِّرُونَ النَّاقِصَ كاملا «7»
__________
(1) يرتجزون: أي ينشدون شعرا على بحر الرجز.
(2) السحر الحلال: السحر في الأصل لفظة ولكل ما دق ثم إنه يشبه به الكلام البليغ الذي تلذ به النفوس وتنجذب له القلوب ومنه «ان من البيان لسحر» فهو تشبيه بليغ والسحر معناه الحقيقي معروف وهو قبيح محرم فوصفه يالحلال بيان للمعنى المراد منه.
(3) السمط: الخيط الذي من حبات العقد فإذا لم يكن فيه حبات فهو خيط وهو بكسر السين المهملة وسكون الميم.
(4) الإحن: الأحقاد وهي جمع إحئة بكسر فسكون.
(5) الدمن: بكسر الدال المهملة وفتح الميم والنون جمع دمنة وهي في الأصل ما في مبارك الابل من بعرها المتلب بما عليه من أبوالها وأستعير للحقد المضمر المجتمع في الباطن وهي استعارة بليغة شائعة في كلام العرب وكون المراد به آثار السكان في الديار والمعنى أنهم يندبون الأطلال وسكانها فيهيجون الأشواق بذكرها.
(6) الجعد البنان: البنان الاصابع والجعودة ضد الانبساط والجعد اذا اضيف الى اليد والبنان كان الذم بمعنى البخيل اللئيم فان أطلق كان بمعنى الجواد الكريم والمعنى أنهم بفصاحتهم يصيرون البخيل كريما.
(7) بسبب ذمهم له وتنقيصهم إياه بالهجاء..(1/501)
وَيَتْرُكُونَ النَّبِيهَ خَامِلًا مِنْهُمُ الْبَدَوِيُّ ذُو اللَّفْظِ الْجَزْلِ «1» ، وَالْقَوْلِ الْفَصْلِ وَالْكَلَامِ الْفَخْمِ، وَالطَّبْعِ الْجَوْهَرِيِّ «2» وَالْمَنْزَعِ «3» الْقَوِيِّ.
وَمِنْهُمُ الْحَضَرِيُّ ذُو الْبَلَاغَةِ الْبَارِعَةِ وَالْأَلْفَاظِ النَّاصِعَةِ.. وَالْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ، وَالطَّبْعِ السَّهْلِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي الْقَوْلِ الْقَلِيلِ الْكُلْفَةِ الْكَثِيرِ الرَّوْنَقِ، الرَّقِيقِ الحاشية «4» .. وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة، والقوة الدافعه «5» والقدح الفالج «6» والمهيع
__________
(1) اللفظ الجزل: أي صاحب اللفظ المحكم القاطع الفاصل ويكون الجزل بمعنى الكثير أيضا ومنه الثواب الجزيل.
(2) الطبع الجوهري: نسبة للجوهر وهو الخالص النقي وفي نسخة الجهوري من جهورة الصوت أي علوه.
(3) والمنزع القوي: بفتح الميم والزاي المعجمة مصدر ميمي أو اسم مكان بمعنى المشرب الصافي.
(4) الرقيق الحاشية: أصل الحاشية طرف البرد والثوب ورقة حاشيته عبارة عن رقته وحسن نسجه والكلام يشبهه بالحلل والبرود والتكلم بالنسج وفي «أساس البلاغة» من المجاز «عيش رقيق الحواشي، وكلام رقيق الحواشي» وهو عبارة عن سهولته وسلاسته بان يكون لفظه رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ومعناه ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا.
(5) القوة الدامغة: أي الغالبة لغيرها من سائر اللغات، وأصل الدمغ الضرب على الدماغ فاريد به ما ذكر من الغلبة والقهر يقال دمغ الحق الباطل أي أبطله ودمغت فلانا قهرته.
(6) القدح الفالج: بكسر القاف وسكون الدال والحاء المهملتين واحد قداح الميسر وهو سهم بغير ريش وقداح الميسر التي كانوا يتقامرون بها في الجاهلية ولها أسماء مشهورة ومنها ما له نصيب زائد ومنها ما لا نصيب له والفالج بالفاء واللام والجيم بمعنى الفائز يقال فلج أمره أي فاز وسعد أي لهذه اللغة شرف وفوز عند سامعها.(1/502)
النَّاهِجُ «1» .. لَا يَشُكُّونَ أَنَّ الْكَلَامَ طَوْعُ مُرَادِهِمْ، وَالْبَلَاغَةَ مِلْكُ قِيَادِهِمْ.. قَدْ حَوَوْا فُنُونَهَا وَاسْتَنْبَطُوا عُيُونَهَا.. وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا.. وَعَلَوْا صَرْحًا «2» لِبُلُوغِ أَسْبَابِهَا. فَقَالُوا فِي الْخَطِيرِ وَالْمَهِينِ، وَتَفَنَّنُوا فِي الْغَثِّ «3» وَالسَّمِينِ.. وَتَقَاوَلُوا فِي الْقُلِّ وَالْكُثْرِ «4» وَتَسَاجَلُوا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.. فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا رَسُولٌ كَرِيمٌ.. بِكِتَابٍ «عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «5» » أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَفُصِّلَتْ كَلِمَاتُهُ، وَبَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ.. وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ.. وَتَظَافَرَ «6» إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ.. وَتَظَاهَرَتْ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ.. وَتَبَارَتْ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ.. وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ وَاعْتَدَلَ مَعَ إِيجَازِهِ حُسْنُ نَظْمِهِ.. وَانْطَبَقَ عَلَى كَثْرَةِ فَوَائِدِهِ مُخْتَارُ لَفْظِهِ.. وَهُمْ أَفْسَحُ مَا كانوا في هذا الباب مجالا.. وأشهر
__________
(1) والمهيع الناهج: بفتح الميم وسكون الهاء وفتح المثناة التحتية وهي الطريق الواسع والناهج بمعنى البين الواضح المسلوك.
(2) صرحا: وهو البيت العالي المزخرف بناؤه.
(3) الغث: بفتح الغين المعجمة وتشديد المثلثة واصله اللحم المهزول الذي يكره تناوله فاستعير للامر القبيح والفاسد وضده السمين.
(4) القل والكثر: بضم القاف والكاف أي القليل والكثير.
(5) سورة فصلت آية «42»
(6) تظافر: تغلب على غيره.(1/503)
فِي الْخَطَابَةِ رِجَالًا.. وَأَكْثَرُ فِي السَّجْعِ وَالشِّعْرِ سِجَالًا.. وَأَوْسَعُ فِي الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ مَقَالًا بِلُغَتِهِمُ التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صَارِخًا بِهِمْ فِي كُلٍّ حِينٍ وَمُقَرِّعًا لَهُمْ بضعا وعشرين عاما على رؤوس الْمَلَإِ أَجْمَعِينَ..
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» » «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «2» » إلى قوله «وَلَنْ تَفْعَلُوا» . «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ «3» » الآية «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ»
» .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرَى أَسْهَلُ.. وَوَضْعَ الْبَاطِلِ وَالْمُخْتَلَقِ عَلَى الِاخْتِيَارِ أَقْرَبُ.. وَاللَّفْظُ إِذَا تَبِعَ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ كَانَ أَصْعَبَ.
وَلِهَذَا قِيلَ: فُلَانٌ يَكْتُبُ كما يقال، وَفُلَانٌ يَكْتُبُ كَمَا يُرِيدُ.
وَلِلْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فضل.. وبينهما شأو. بعيد
__________
(1) سورة يونس «31»
(2) سورة البقرة «23»
(3) «لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» سورة الاسراء «88»
(4) سورة هود «13»(1/504)
فَلَمْ يَزَلْ يُقَرِّعُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَيُوَبِّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ، وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم.. ويذم آلهتهم وإياهم.. وَيَسْتَبِيحُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.. وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.. مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ.. يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب. والإغتراء بِالِافْتِرَاءِ وَقَوْلِهِمْ «إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «1» » وَ «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» » وَ «إِفْكٌ افْتَراهُ «3» » وَ «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «4» » . والمباهتة والرضى بِالدَّنِيئَةِ.
كَقَوْلِهِمْ: «قُلُوبُنا غُلْفٌ «5» » وَ «فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «6» » وَ «لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «7» » والادعاء مع
__________
(1) سورة المدثر الآيات: 25، 24
(2) «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» سورة القمر آية (2)
(3) «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» سورة الفرقان آية (4) .
(4) «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» سورة الفرقان آية (5)
(5) «وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» سورة البقرة آية (88)
(6) سورة فصلت آية (5)
(7) «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ» .. سورة فصلت آية «26»(1/505)
الْعَجْزِ بِقَوْلِهِمْ: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «1» » .
وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ «وَلَنْ تَفْعَلُوا «2» » فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا وَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ سفهائهم كَمُسَيْلِمَةَ «3» . كُشِفَ عَوَارُهُ «4» لِجَمِيعِهِمْ..
وَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا ألفوه من فضح كَلَامِهِمْ.. وَإِلَّا فَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ الْمَيْزِ «5» منهم أنّه ليس من نمط فصاحتم، وَلَا جِنْسِ بَلَاغَتِهِمْ.. بَلْ وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ وَأَتَوْا مُذْعِنِينَ مِنْ بَيْنِ مُهْتَدٍ وَبَيْنِ مَفْتُونٍ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ «6» بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم «7» «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ «8» » الْآيَةَ. قَالَ: «وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لِحَلَاوَةً.. وَإِنَّ عليه
__________
(1) «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» سورة الأنفال آية (31)
(2) «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» سورة البقرة آية «24»
(3) وهو مسليمة بن تمامة بن كبير الحنفي الوائلي من بني حنيفة ومن المعمرين ولد ونشأ باليمامة ووفد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسلم وتنبأ في حياته صلّى الله عليه وسلم وكتب مسيلمة اليه من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله ... فرد عليه من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب ... وذلك في أواخر سنة 10 هـ قتل على يد خالد بن الوليد في خلافة سيدنا أبي بكر سنة 12 هـ
(4) عواره: عيب نفسه.
(5) الميز: بفتح الميم وسكون التحتية والزاي المعجمة أي التمييز والعقل.
(6) هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي زعيم قريش وكبيرها وهو والد خالد بن الوليد رضي الله عنه مات كافرا.
(7) هذا الحديث رواه البيهقي عن عكرمة مرسلا. وكذا ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب بغير اسناد. ورواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بسند جيد إلا أنه قال: إن الوليد بن المغيرة بدل خالد بن عقبة. وكذا ذكر ابن اسحق في سيرته.
(8) سورة النحل آية (90) .(1/506)
لَطَلَاوَةً «1» ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لِمُغْدِقٌ «2» ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لِمُثْمِرٌ ما يقول هذا بشر» .
وذكر أبو عبيدة «3» : أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «4» » فسجد وقال: «سجدت لفصاحته» .
وسمع آخر يقرأ: «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «5» » فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَحُكِيَ:
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَوْمًا نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بِقَائِمٍ عَلَى رَأْسِهِ يَتَشَهَّدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ.. فَاسْتَخْبَرَهُ.. فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ مِنْ بَطَارِقَةِ «7» الرُّومِ مِمَّنْ يُحْسِنُ كَلَامَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِكُمْ فَتَأَمَّلْتُهَا فَإِذَا قَدْ جُمِعَ فيها ما أنزل الله على عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهِيَ قَوْلُهُ «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ
__________
(1) الطلاوة: الرونق والحسن الفائق.
(2) المغدق: كثير الماء.
(3) وفي نسخة أبو عبيد وهو القاسم بن سلام الامام في الفقه والحديث واللغة أخذ عن الشافعي وغيره وكان عبدا روميا لرجل من هراة توفي سنة 224
(4) «وأعرض عن المشركين» سورة الحجر آية «94»
(5) سورة يوسف آية «80»
(6) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4»
(7) بطارقة: جمع بطريق بكسر الراء معرب بترك ومعناه الرئيس وقائد الجيش.(1/507)
فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ «1» » الْآيَةَ وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ «2» : أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ جَارِيَةٍ.. فَقَالَ لَهَا: «قَاتَلَكِ «3» اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ» !!.
فَقَالَتْ: أو يعدّ هَذَا فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ «4» » .. الآية فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ «5» وَنَهْيَيْنِ «6» وَخَبَرَيْنِ «7» وَبِشَارَتَيْنِ «8» .
فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ إِعْجَازِهِ مُنْفَرِدٌ بِذَاتِهِ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
- وَكَوْنُ الْقُرْآنِ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَحَدِّيًا بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً. وَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَكَوْنُهُ فِي فصاحته خارقا للعادة معلوم ضرورة
__________
(1) سورة النور آية (52)
(2) عبد الملك بن قريب بالتصغير بن اصمع إمام البصرة في اللغة والنحو والادب والنوادر ولد بالبصرة سنة 123 وبها توفي سنة 210 هـ
(3) تعجب من فصاحة لسانها وبالغ في تعجبه فانها تقال لمن أتى بامر بديع غريب وهي في الاصل جملة دعائية يراد بها شدة الاستحسان كأنه ممن يستحق أن يحسد ويدعى عليه.
(4) سورة القصص اية «7»
(5) «أَرْضِعِيهِ فَأَلْقِيهِ»
(6) «لا تَخافِي، وَلا تَحْزَنِي»
(7) «أوحينا، وخفت عليه»
(8) «رادوه اليك، وجاعلوه من المرسلين»(1/508)
لِلْعَالِمِينَ بِالْفَصَاحَةِ وَوُجُوهِ الْبَلَاغَةِ.. وَسَبِيلُ مَنْ لَيْسَ من أهلها علم ذلك بعجز المكرين مِنْ أَهْلِهَا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَاعْتِرَافِ الْمُقِرِّينَ بِإِعْجَازِ بَلَاغَتِهِ.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» » وَقَوْلَهُ «وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ.. وأخذوا من مكان قريب»
» وَقَوْلَهُ «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «3» » وقوله: «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي «4» » الْآيَةَ وَقَوْلَهُ: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً «5» » .. الْآيَةَ وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْآيِ «6» .. بَلْ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ.. حَقَّقَتْ مَا بَيَّنْتُهُ مِنْ إِيجَازِ أَلْفَاظِهَا وَكَثْرَةِ مَعَانِيهَا، وَدِيبَاجَةِ عِبَارَتِهَا «7» وَحُسْنِ تَأْلِيفِ حُرُوفِهَا، وَتَلَاؤُمِ كَلِمِهَا، وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا جُمَلًا كثيرة،
__________
(1) «يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» سورة البقرة اية 179
(2) سورة سبأ «51»
(3) سورة فصلت آية «34»
(4) «وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» سورة هود آية «44»
(5) سورة العنكبوت (40)
(6) الآي: اسم جنس جمعي لكلم وكلمة أو اسم جمع.
(7) ديباجة عبارتها: أي حسن عبارته.(1/509)
وَفُصُولًا جَمَّةً، وَعُلُومًا زَوَاخِرَ «1» . مُلِئَتِ الدَّوَاوِينُ مِنْ بَعْضِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْهَا، وَكَثُرَتِ الْمَقَالَاتُ فِي المستنبطات عنها.. ثم هو في سرد الْقِصَصَ الطِّوَالَ وَأَخْبَارَ الْقُرُونِ السَّوَالِفِ الَّتِي يَضْعُفُ فِي عَادَةِ الْفُصَحَاءِ عِنْدَهَا الْكَلَامُ، وَيَذْهَبُ مَاءُ الْبَيَانِ آيَةٌ لِمُتَأَمِّلِهِ مِنْ رَبْطِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَالْتِئَامِ سَرْدِهِ، وَتَنَاصُفِ وُجُوهِهِ.
كَقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى طُولِهَا. ثُمَّ إِذَا تَرَدَّدَتْ قِصَصُهُ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ عَنْهَا عَلَى كَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا.. حَتَّى تَكَادَ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُنْسِي فِي الْبَيَانِ صَاحِبَتَهَا، وَتُنَاصِفُ فِي الْحُسْنِ وَجْهَ مُقَابِلَتِهَا.. وَلَا نُفُورَ لِلنُّفُوسِ من ترديدها ولا معاداة لمعادها.
__________
(1) علوما زواخر: بزاي وخاء معجمتين ثم راء مهملة أي علوما كثيرة كالبحار الزواخر من زخر البحر اذا كثر ماؤه وارتفعت أمواجه.(1/510)
الْفَصْلُ الْخَامِسُ إِعْجَازُ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ.. صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَنَاهِجِ نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، وَوَقَفَتْ مَقَاطِعُ آيِهِ وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ إِلَيْهِ.. وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ.. وَلَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مُمَاثَلَةَ شيء فيه مِنْهُ بَلْ حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ.. وَتَدَلَّهَتْ «1» دُونَهُ أَحْلَامُهُمْ..
وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مِثْلِهِ فِي جِنْسِ كَلَامِهِمْ.. مِنْ نَثْرٍ، أَوْ نَظْمٍ، أَوْ سَجْعٍ، أَوْ رَجَزٍ، أَوْ شِعْرٍ..
وَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ «2» . وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَقَّ فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ «3» مُنْكِرًا عَلَيْهِ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أعلم
__________
(1) تدلهت: اندهشت بفتح الدال المهملة واللام المشددة أي اندهشت وفي نسخة «تولهت» بواو بدل الدال.
(2) تقدمت ترجمته في ص «506» رقم «6»
(3) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «3»(1/511)
بِالْأَشْعَارِ مِنِّي وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا» .
وَفِي خَبَرِهِ الْآخَرِ «1» حِينَ جمع قريشا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْسِمِ وَقَالَ:
«إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا لَا يُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا» فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ.. مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ «2» وَلَا سَجْعِهِ. قَالُوا: مَجْنُونٌ!! قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ.. وَلَا بِخَنْقِهِ «3» وَلَا وَسْوَسَتِهِ «4» . قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ!! قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ.. قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ «5» وَهَزَجَهُ «6» ، وَقَرِيضَهُ «7» وَمَبْسُوطَهُ «8» وَمَقْبُوضَهُ «9» مَا هُوَ بِشَاعِرٍ.
قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ!! قَالَ: مَا هُوَ بساحر، ولا نفثه «10»
__________
(1) الذي رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) زمزمته: صوته الخفي الذي لا يكاد يفهم.
(3) بخنقه: بفتح الخاء وكسر النون وتسكن وفتح القاف أي ليس ممن أصابه الجبن
(4) وسوسة: بفتح الواو مصدر وهو شيء يلقى في القلب او في السمع بصوت خفي وقد يحدث المرء به نفسه ولذا سمي حديث النفس.
(5) رجزه: هو بحر من أبحر الشعر المعروفة وزنه مستفعلن مستفعلن مستفعلن
(6) هزجه: بفتحتين ومعجمتين وهو اسم لبحر من بحور الشعر وزنه مفاعلين مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن.
(7) قريضة: قرض الشعر لغة جاء من القطع وسمي الشعر بذلك لأن الشاعر يورده قطعا قطعا وعرفا: معرفة محاسن الشعر وقبحه.
(8) مبسوطة: اي مطولات قصائده.
(9) مقبوضه: مختصر أوزانه المسمى في العروض بالمجزوء او المنهوك.
(10) نقثه: النفث النفخ مع ريق.(1/512)
وَلَا عَقْدِهِ «1» . قَالُوا: فَمَا نَقُولُ؟!!. قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّهُ بَاطِلٌ.. وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنَّهُ سَاحِرٌ فَإِنَّهُ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَابْنِهِ وَالْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَالْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَالْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ فَتَفَرَّقُوا وَجَلَسُوا عَلَى السُّبُلِ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» «2»
وَقَالَ عُتْبَةُ «3» بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: «يَا قَوْمُ.. قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وَقَرَأْتُهُ وَقُلْتُهُ.. وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا.. وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ.. مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ» .
وَقَالَ النَّضْرُ «4» بْنُ الْحَارِثِ نَحْوَهُ..
وَفِي حَدِيثِ «5» إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ «6» وَوَصَفَ أَخَاهُ أُنَيْسًا «7» فقال:
__________
(1) عقده: بفتح العين المهملة وسكون القاف أو بضم ففتح جمع عقدة والعقد عقد حبال أو شعر مضفور ونحوه كما يعرفه السحرة مما يؤثر أمورا خارقة للعادة في الخارج عنه وكنى به عن انه ليس عمل مما يعمله السحرة فقد تربى صلّى الله تعالى عليه وسلم بين أظهرهم ولم ير أحد منه ذلك فلذا خطأهم الوليد في وصفهم له صلّى الله عليه وسلم
(2) سورة المدثر آية (11)
(3) هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف والد هند أم معاوية رضي الله عنهما والذي قتل عتبة هو عبيدة بن الحارث في غزوة بدر كافرا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «8» .
(5) رواه مسلم.
(6) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(7) انيس بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار الغفاري أخو أبي ذر وكان أكبر منه كما كان شاعرا.(1/513)
وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِأَشْعَرَ مِنْ أَخِي أُنَيْسٍ.. لَقَدْ نَاقَضَ اثْنَيْ عَشَرَ شَاعِرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَنَا أَحَدُهُمْ.. وَإِنَّهُ انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ وَجَاءَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟!. قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ، لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكهانة فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ «1» الشِّعْرِ فَلَمْ يَلْتَئِمْ، وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ وَالْإِعْجَازُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ الْإِيجَازُ وَالْبَلَاغَةُ بِذَاتِهَا، والأسلوب الْغَرِيبُ بِذَاتِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ إِعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.. إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا، مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا وَكَلَامِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ إِلَى أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ وَأَتَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلٍ تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَالصَّحِيحُ: مَا قَدَّمْنَاهُ والعلم بهذا كله ضرورة وقطعا. ومن تفنّن في علوم البلاغة،
__________
(1) أقراء: بفتح الهمزة والمد جمع قلة أريد به الكثرة هنا فهو جمع قرء بالضم وقيل انه جمع قرء بالفتح وهو طرقه وأنواعه.(1/514)
وَأَرْهَفَ خَاطِرَهُ وَلِسَانَهُ أَدَبُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي وَجْهِ عَجْزِهِمْ عَنْهُ فَأَكْثَرُهُمْ يقول: إنّه مما جَمَعَ فِي قُوَّةِ جَزَالَتِهِ وَنَصَاعَةِ أَلْفَاظِهِ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَإِيجَازِهِ، وَبَدِيعِ تَأْلِيفِهِ، وَأُسْلُوبِهِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ..
وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ الْخَلْقِ عَلَيْهَا كإحياء «1» الموتى، وقلب العصا «2» ، وتسبيح الحصا «3» وذهب الشيخ أبو الحسن «4» إلى أنّه مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَيُقَدِّرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ.. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا يَكُونُ..
فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ هَذَا وَعَجَّزَهُمْ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ»
. وَعَلَى الطريقتين.. فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بما أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ.. وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّعْجِيزِ، وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيعِ وَالِاحْتِجَاجُ بِمَجِيءِ بِشَرٍ مِثْلِهِمْ بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ لَازِمٌ.. وَهُوَ أَبْهَرُ آية، وأقمع دلالة.
__________
(1) وهذا مما وقع لعيسى عليه الصلاة والسلام وابراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلم.
(2) أي قلب العصاحية كما وقع لموسى عليه الصلاة والسلام.
(3) وذلك في كف النبي صلّى الله عليه وسلم كما ثبت في معجزاته.
(4) ابو حسن الاشعري تقدمت ترجمته في ص «381» رقم «2»
(5) لكن هذا هو القول بالصرفة وهو مرجوح عند أكابر الأئمة.(1/515)
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِمَقَالٍ بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْقَتْلِ، وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ «1» وَالذُّلِّ، وَكَانُوا مِنْ شُمُوخِ «2» الْأَنْفِ «3» وَإِبَاءَةِ الضَّيْمِ بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَلَا يَرْضَوْنَهُ إِلَّا اضْطِرَارًا.. وَإِلَّا فَالْمُعَارَضَةُ- لَوْ كَانَتْ مِنْ قُدَرِهِمْ «4» - وَالشُّغْلُ بِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرَعُ بِالنَّجْحِ «5» وَقَطْعِ الْعُذْرِ، وَإِفْحَامِ الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ.. وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ، وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَمَا مِنْهُمْ الا من جهد جهده واستنفر «6» مَا عِنْدَهُ فِي إِخْفَاءِ ظُهُورِهِ، وَإِطْفَاءِ نُورِهِ فَمَا جَلَوْا «7» فِي ذَلِكَ خَبِيئَةً «8» مِنْ بَنَاتِ شفاههم «9» ، ولا أتوا بنطفة «10» من
__________
(1) الصغار: بفتح الصاد المهملة وهو المذلة.
(2) شموخ: بفتح الشين المعجمة مصدر شمخ اذا ارتفع وهو كناية عن غاية التكبر
(3) الانف: بفتح الهمزة والمد وضم النون جمع أنف او يجوز فتح الهمزة وسكون النون بالافراد.
(4) قدرهم: بضم القاف وفتح الدال المهملة جمع قدرة.
(5) النجح: بضم النون وسكون الجيم وحاء مهملة وهو الظفر والفوز بمطلوبهم وهو ابطال الحجة عليهم.
(6) جهده: بفتح الجيم وضمها الطاقة والمشقة.
(7) جلوا: أظهروا.
(8) خبيئة: بفتح الخاء المعجمة وكسر الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية والهمزة والهاء فعيلة بمعنى مفعولة أي مختبأة في ضمائرهم ومستوره تحت أستار سرائرهم.
(9) بنات شفاههم: أي كلمات يتلفظون بها، شبهت الكلمة بالبنت، والشفة بالأم لظهورها منها، وهي استعارة تصريحية أو مكنية.
(10) بنطفة: بضم النون وسكون الطاء المهملة والفاء، وهي الماء الصافي من نطف بمعنى صب والناطف السائل والمراد القطرة القليلة. وفي نسخة نقطة بالقاف مقدمة على الطاء.(1/516)
معين «1» مياههم مع طول الأمر، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَتَظَاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ بَلْ أبلسوا «2» فما نبسوا «3» ومنعوا فانقطعوا فهذان النوعان من إعجازه.
__________
(1) معين: وهو الماء الجاري ظاهرا.
(2) أبلسوا: بالبناء للفاعل وفتح الهمزة يقال أبلس اذا أيس قيل ومنه إبليس ليأسه من رحمة الله تعالى.
(3) نبسوا: بنون وباء موحدة مفتوحة مخففة وورد بتشديدها.(1/517)
الفصل السّادس الإخبار عن المغيّبات
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ، مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» » وَقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «2» » .
وقوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «3» » .
وَقَوْلِهِ: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «4» » الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «5» » إلى آخرها.
__________
(1) سورة الفتح آية «27»
(2) سورة الروم آية «3»
(3) «وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» سورة الصف آية «9»
(4) سورة النور آية «55»
(5) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» سورة النصر(1/518)
فَكَانَ جَمِيعُ هَذَا كَمَا قَالَ.. فَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ.
وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا فَمَا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بِلَادِ الْعَرَبِ كُلِّهَا مَوْضِعٌ لَمْ يَدْخُلْهُ الْإِسْلَامُ. وَاسْتَخْلَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ ومكن دِينَهُمْ.. وَمَلَّكَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ أَقْصَى الْمَشَارِقِ إِلَى أَقْصَى الْمَغَارِبِ.. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «1» «زويت «2» لي الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» .
وَقَوْلِهِ: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ «3» وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «4» » فَكَانَ كَذَلِكَ، لَا يَكَادُ يُعَدُّ مَنْ سَعَى فِي تَغْيِيرِهِ وَتَبْدِيلِ مُحْكَمِهِ مِنَ الْمُلْحِدَةِ «5» وَالْمُعَطِّلَةِ «6» لا سيما القرامطة «7» ، فأجمعوا كيدهم،
__________
(1) رواه مسلم عن ثوبان مرفوعا.
(2) زويت: بزاي معجمة وواو وياء مبني للمجهول أي جمعت وطويت.
(3) أخبر الله تعالى بانه تولى حفظ القرآن من التبديل والتغيير في سائر الأزمان بدلالة الاسمية المؤكدة..
(4) سورة الحجر اية «9»
(5) الملحدة: أي المائلة عن الحق الى الباطل كالحلولية والاتحادية وأمثالهما.
(6) المعطلة: أي بتعطيل الكون من المكون كالدهرية ونحوها.
(7) القرامطة: هم طائفة من الملحدين أيضا، قال السمعاني في الانساب: «القرمطي بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم والطاء المهملة نسبة لطائفة خبيثة من أهل هجر والحسا وأصلهم من سواد الكوفة يقال له قرمط، وقيل حمدان بن قرمط وسبب ظهورهم أن جماعة من اولاد بهرام جوز ذكروا آباءهم وجدودهم وما كانوا فيه من العز والملك وزوال ذلك بدولة الاسلام في أيام أبي مسلم الخراساني ونقله الخلافه المروانية وهو من الموالي وهم من أولاد الملوك فاتفقوا على رفع الاسلام ونقض عراه وراحوا يعيثون في الأرض فسادا.(1/519)
وَحَوْلَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ الْيَوْمَ «1» نَيِّفًا عَلَى خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فَمَا قَدَرُوا عَلَى إِطْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ نُورِهِ، ولا تغير كَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِهِ، وَلَا تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «2» » .
وقوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «3» » الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى «4» » الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ «5» » الْآيَةَ.
فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَمَقَالِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِذَلِكَ.
كَقَوْلِهِ: «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ «6» » .
وَقَوْلِهِ: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ»
» الآية.
وقوله: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ «8» الآية.
__________
(1) منصوب بنزع الخافض اي الى هذا اليوم والمراد مطلق الزمان والوقت الحاضر في زمن المصنف.
(2) سورة القمر آية «45»
(3) «وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» سورة التوبة «14»
(4) «وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» سورة التوبة «33»
(5) «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» سورة ال عمران «111»
(6) «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» سورة المجادلة «8»
(7) ... الآية سورة ال عمران «154»
(8) سورة المائدة «42»(1/520)
وَقَوْلِهِ: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» إلى قوله «فِي الدِّينِ «1» » .
وَقَدْ قَالَ مُبْدِيًا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَاعْتَقَدَهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «2» » ومنه قوله تعالى:
«إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «3» » .
وَلَمَّا نَزَلَتْ بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ.. بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ. وكان المستهزؤون نَفَرًا بِمَكَّةَ يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيُؤْذُونَهُ فَهَلَكُوا.. وقوله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «4» » .
فَكَانَ كَذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ رَامَ ضُرَّهُ وقصد قتله.
والأخبار بذلك معروفة وصحيحة.
__________
(1) سورة النساء «46»
(2) «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» . سورة الانفال «7»
(3) سورة الحجر «65»
(4) «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» سورة المائدة «67» ..(1/521)
الفصل السّابع إخباره عن القرون السّالفة والأمم البائدة
الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ «1» ، مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ «2» مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمُرَهُ فِي تَعَلُّمٍ ذَلِكَ.
فَيُورِدُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بِصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَنَلْهُ بِتَعْلِيمٍ.
وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا اشْتَغَلَ بِمُدَارَسَةٍ وَلَا مُثَافَنَةٍ «3» ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ، وَلَا جَهِلَ حَالَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَثِيرًا مَا يَسْأَلُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هذا فينزل عليه
__________
(1) الفذ: الفرد المتوحد المنفرد عن أقرانه.
(2) الداثرة: بدال مهملة وثاء مثلثة من دثر اذا اندرس ولم يبق له أثر.
(3) مثافنة: بضم الميم وتليها مثلثة ثم الف وفاء ونون أي مداومة طلب ومجالسة تحتك فيها الركب بالركب حتى يؤثر فيها الاحتكاك وهو عبارة عن كثرة الجلوس مع أهل العلم بالاخبار والشرائع للتعلم منهم وهو مجاز من ثفن البعير اذا برك.(1/522)
مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذِكْرًا. كَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ وَخَبَرِ مُوسَى وَالْخَضِرِ «1» ، وَيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ «2» ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ «3» ، وَلُقْمَانَ «4» وابنه، وأشباه ذلك من الأنبياء، وَبَدْءِ الْخَلْقِ، وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِمَّا صَدَّقَهُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ بِهَا، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَكْذِيبِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا، بَلْ أَذْعَنُوا لِذَلِكَ. فَمِنْ مُوَفَّقٍ آمَنَ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَمِنْ شَقِيٍّ مُعَانِدٍ حَاسِدٍ..
وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ عَلَى شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَطُولِ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مَصَاحِفُهُمْ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وتعينتهم «5» إياه عن أخبار أنبيائهم، وأسرار علومهم،
__________
(1) يقال انه بليا بن ملكان واختلف في نبوته ورسالته وولايته وحياته والصحيح أنه ولي من أولياء الله تعالى ويذكر أنه ما يزال على قيد الحياة وليس في ذلك دليل قاطع وفي صحيح البخاري إنه انما سمي الخضر لانه جلس على فروة فاذا هي تهتز من خلفه خضراء والفروة هي الارض اليابسه او الحشيش اليابس.
(2) ذكرت قصتهم في سورة الكهف والخلاف في أسمائهم وزمانهم وغير ذلك لا طائل وراءه.
(3) وهو اسكندر ذو القرنين ذكرت قصته كذلك في سورة الكهف ولا فائدة من الخلاف فيما هو وراء ذلك.
(4) تقدمت ترجمته في ص «187» رقم «6»
(5) تعنيتهم: تعنيت على وزن تفعيل من العنت وهو المشقة والتعب أي تكليفهم بما هو شاق.(1/523)
وَمُسْتَوْدَعَاتِ سِيَرِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ لَهُمْ بِمَكْتُومِ شَرَائِعِهِمْ، وَمُضَمَّنَاتِ كُتُبِهِمْ.. مِثْلَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ.. وَذِي الْقَرْنَيْنِ.. وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ.. وَعِيسَى.. وَحُكْمِ الرَّجْمِ.. وَمَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ.. وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الأنعام ومن طيبات كانت أُحِلَّتْ لَهُمْ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ.
وَقَوْلِهِ: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «1» » وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ فَأَجَابَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ ذلك.. فما عرف عن أحد أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.. وَصِدْقِ مَقَالَتِهِ..
وَاعْتَرَفَ بِعِنَادِهِ وحسده إِيَّاهُ. كَأَهْلِ نَجْرَانَ «2» .. وَابْنِ صُورِيَا «3» وَابْنَيْ أَخْطَبَ «4» .. وغيرهم.
__________
(1) سورة الفتح آية «29» .
(2) طائفة من النصارى حاجوه في عيسى فدعاهم الى المباهلة كما في ايتها فامتنعوا خوفا.
(3) عبد الله بن صوريا الأعور حبر من أحبار اليهود الذين كانوا بالمدينة وهو الذي وضع يده على آية الرجم واختلف فيه قيل انه أسلم وقيل بل مات على كفره ولقب بالاعور لان عبد الله بن سلام قال له حين وضع يده يخفي اية الرجم: «ارفع يدك يا أعور» كما ورد في البخاري.
(4) ابني أخطب هما حيي وأبو ياسر اتا على كفرهما. وحيي هو والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها. وكانت تقول: كان عمي أبو ياسر أحسن رأيا من أبي، كان يقول: ألست تجده في كتبنا فيقول: نعم هو هو. فيقول له فما في نفسك منه. فيقول: معاداته ...(1/524)
وَمَنْ بَاهَتَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْمُبَاهَتَةِ.. وَادَّعَى أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِمَا حَكَاهُ مُخَالَفَةً.. دُعِيَ إِلَى إِقَامَةِ حُجَّتِهِ.. وَكَشْفِ دَعْوَتِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إلى قوله «الظَّالِمُونَ «1» » .. فَقَرَّعَ وَوَبَّخَ.. وَدَعَا إِلَى إِحْضَارِ مُمْكِنٍ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ فَمِنْ مُعْتَرِفٍ بِمَا جَحَدَهُ.. وَمُتَوَاقِحٍ يُلْقِي عَلَى فَضِيحَتِهِ مِنْ كِتَابِهِ يَدَهُ «2» .. وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَظْهَرَ خِلَافَ قَوْلِهِ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَا أَبْدَى صَحِيحًا وَلَا سَقِيمًا مِنْ صحفه.
قال الله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ.. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ.. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «3» » الآيتين.
__________
(1) سورة آل عمران «93»
(2) أي يضع يده على كتابه وعلى الآية التي فيها ما يخالف دعواه ويكذبه.
(3) أي إلى قوله تَعَالَى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» سورة المائدة 15- 16.(1/525)
الفصل الثامن التّحدي والتعجيز في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها
هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ..
وَمِنَ الْوُجُوهِ الْبَيِّنَةِ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَيْ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا.. وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لا يغفلونها.. فَمَا فَعَلُوا، وَلَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِ: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً «1» » الآية.
قال أبو إسحق الزَّجَّاجُ «2» : «فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ حُجَّةٍ، وَأَظْهَرُ دلالة على صحة الرسالة.. لأنه قال لهم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» وأعلمهم أنّهم لا يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا.. فَلَمْ يَتَمَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
وَعَنِ النبي صلى الله عليه وسلم «3» : والذي نفسي بيده لا يقولها رجل منهم
__________
(1) خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» البقرة «94»
(2) تقدمت ترجمته في ص «88» رقم «8»
(3) في حديث رواه البيهقي من طريق الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بهذا اللفظ الآني. وأحمد في مسنده عن ابن عباس مرفوعا بسند جيد بلفظ: «لو ان اليهود تمنوا الموت لماتوا»(1/526)
إِلَّا غَصَّ بِرِيقِهِ- يَعْنِي يَمُوتُ مَكَانَهُ- فَصَرَفَهُمُ الله عن تمنيه..
وجرّعهم لِيُظْهِرَ صِدْقَ رَسُولِهِ، وَصِحَّةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ..
إذ لَمْ يَتَمَنَّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.. وَكَانُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ أَحْرَصَ لَوْ قَدَرُوا.. وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.. فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ.
وَبَانَتْ حُجَّتُهُ..
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ «1» : مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا وَاحِدٌ مِنْ يوم أمر الله بذلك بنيّه يُقْدِمُ عَلَيْهِ.. وَلَا يُجِيبُ إِلَيْهِ.. وَهَذَا مَوْجُودٌ مَشَاهَدٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهُ مِنْهُمْ..
وَكَذَلِكَ آيَةُ الْمُبَاهَلَةِ «2» مِنْ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ: وَفَدَ عليه أساقفة نجران، وأتوا الْإِسْلَامَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ بقوله: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ «3» ..» الْآيَةَ. فَامْتَنَعُوا مِنْهَا..
وَرَضُوا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ.. وَذَلِكَ أنّ العاقب عظيمهم قال لهم:
__________
(1) عبد الله بن ابراهيم بن عمر الأموي عالم بالحديث والفقه من أهل أصيلة في المغرب رحل في طلب العلم وعاد الى الاندلس في اخر أيام المستنصر فمات بقرطبة سنة 392 هـ.
(2) المباهلة: الملاعنة والدعاء على الظالم.
(3) «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» سورة آل عمران «61» .(1/527)
قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ.. وَأَنَّهُ مَا لَاعَنَ قَوْمًا نَبِيٌّ قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا صَغِيرُهُمْ.. «وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» إِلَى قَوْلِهِ: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «1» » . فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ كَمَا كَانَ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ وَلَكِنْ فِيهَا مِنَ التَّعْجِيزِ مَا فِي الَّتِي قبلها..
__________
(1) «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» سورة البقرة «240» ،(1/528)
الفصل التاسع روعته في السمع وهيبته فِي الْقُلُوبِ
وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ وَأَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ وَإِنَافَةِ «1» خَطَرِهِ..
وَهِيَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ.. حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ وَيَزِيدُهُمْ نُفُورًا.. كَمَا قَالَ تَعَالَى «2» .. وَيَوَدُّونَ انْقِطَاعَهُ لِكَرَاهَتِهِمْ لَهُ.. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْقُرْآنَ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ وَهُوَ الْحَكَمُ» «3» .
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ.. فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ بِهِ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا.. وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً «4» لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ.. وتصديقه به
قال الله تَعَالَى: «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ،
__________
(1) أي علو مرتبته.
(2) «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» سورة الاسراء «46»
(3) رواه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير مرفوعا.
(4) هشاشة: بفتح الهاء والشين المعجمة أي مسرة وخفة ولينا.(1/529)
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ»
» .
وَقَالَ: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «2» ، الآية ويدخل عَلَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ خُصَّ بِهِ أَنَّهُ يَعْتَرِي مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ. وَلَا يَعْلَمُ تَفَاسِيرَهُ.. كَمَا رُوِيَ عَنْ نَصْرَانِيٍّ: أَنَّهُ مَرَّ بقارىء فَوَقَفَ يَبْكِي.
فَقِيلَ لَهُ- مِمَّ بَكَيْتَ.. قَالَ: للشجا «3» والنظم.. وهذه الروعة قد اعترف جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ.. وَآمَنَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ..
فَحُكِيَ فِي الصَّحِيحِ «4» .. عَنْ جُبَيْرِ «5» بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ!! أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» إلى قوله «الْمُصَيْطِرُونَ «6»
__________
(1) «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» سورة الزمر «23» .
(2) «لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» سورة الحشر «21» .
(3) الشجا: بفتح الشين المعجمة والجيم مقصور وفي بعض النسخ (الشجي) بفتح معجمة فسكون جيم. والمعنى الحزن الذي أصابه من استماعه فرق قلبه وخشع بدنه.
(4) بل روي في الصحيحين وغيرهما.
(5) تقدمت ترجمته في ص «444» رقم «1»
(6) «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» سورة الطور «35، 36، 37» .(1/530)
كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ لِلْإِسْلَامِ.. وَفِي رِوَايَةٍ: وذلك أول ما وقر الاسلام فِي قَلْبِي.. وَعَنْ «1» عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ «2» : أَنَّهُ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِمْ «حم فُصِّلَتْ إِلَى قَوْلِهِ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «3» » فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ بِيَدِهِ عَلَى فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ «4» : فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ، وَعُتْبَةُ مُصْغٍ مُلْقٍ يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِمَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ عتبة لا يدري بم يراجعه.. ورجع إِلَى قَوْمِهِ حَتَّى أَتَوْهُ فَاعْتَذَرَ لَهُمْ.. وَقَالَ: «وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ بِمِثْلِهِ قَطُّ.. فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ» .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ رَامَ مُعَارَضَتَهُ. أَنَّهُ اعْتَرَتْهُ رَوْعَةٌ وَهَيْبَةٌ كَفَّ بِهَا عَنْ ذَلِكَ فَحُكِيَ: أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ «5» طلب
__________
(1) رواه البغوي في تفسيره عن جابر بلفظ المصنف وأبو يعلى بنحوه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «513» رقم «3» .
(3) سورة فصلت آية «137» .
(4) لابن اسحق في سيرته عن محمد بن كعب القرظي.
(5) عبد الله بن المقفع من أئمة الكتاب. أول من عني في الاسلام بترجمة كتب المنطق أصله من الفرس ولد في العراق مجوسيا «مشركا» وأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح اتهم بالزندقة فقتله في البصرة أميرها سفيان بن معاوية المهلبي سنة 142 هـ.(1/531)
ذَلِكَ وَرَامَهُ «1» وَشَرَعَ فِيهِ فَمَرَّ بِصَبِيٍّ يَقْرَأُ «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ «2» » فرجع فمحى مَا عَمِلَ.. وَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ.. وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ» وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ أَهْلِ وَقْتِهِ
وَكَانَ يَحْيَى بْنُ حَكَمٍ «3» الْغَزَّالُ بَلِيغَ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَنِهِ فَحُكِيَ:
أَنَّهُ رَامَ شَيْئًا مِنْ هَذَا.. فَنَظَرَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِيَحْذُوَ عَلَى مِثَالِهَا.. وَيَنْسِجَ بِزَعْمِهِ على منوالها.. قال: فاعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة..
__________
(1) هذا بعيد كما ذكر ذلك الرافعي في كنابة إعجاز القران والبلاغة النبوية وذلك أن القران الكريم كان أول ما يتعلمه مريد الأدب ويحفظه ليستعين بفصاحته على صناعة الأدب فيبعد تماما أن لا ينتبه ابن المقفع الى بلاغة القران إلا حينما سمعه من صبي يقرؤه وهو من هو بلاغة وفصاحة.
(2) «يا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» سور هود «44» .
(3) يحيى بن الحكم الجياني المعروف بالغزال شاعر مطبوع من أهل الاندلس امتاز بحدة خاطره وبصواب رأيه وحسن جوابه ونجدته وإقدامه ودخوله وخروجه من كل باب توفي سنة 250 هـ.(1/532)
الفصل العاشر بقاؤه على الزمن
وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لَا تُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا.. مَعَ تَكَفُّلِ اللَّهِ تَعَالَى بِحِفْظِهِ.
فَقَالَ: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» » .
وَقَالَ: «لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «2» » وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ انْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ أَوْقَاتِهَا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا خَبَرُهَا.. وَالْقُرْآنُ الْعَزِيزُ الْبَاهِرَةُ آيَاتُهُ الظَّاهِرَةُ مُعْجِزَاتُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مدة خمس مئة عَامٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً «3» لِأَوَّلِ نُزُولِهِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا حُجَّتُهُ قَاهِرَةٌ وَمُعَارَضَتُهُ مُمْتَنِعَةٌ، وَالْأَعْصَارُ كلها طافحة
__________
(1) سورة الحجر «9» .
(2) «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» سورة فصلت «42» .
(3) وها هي تصبح الفا وثلاث مائة وستين عاما الى زمننا هذا ولا يزال حجة الزمان فسبحان من لا يعتريه نقص في ذاته ولا في صفاته.(1/533)
بِأَهْلِ الْبَيَانِ وَحَمَلَةِ عِلْمِ اللِّسَانِ وَأَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ.. وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ، وَجَهَابِذَةِ «1» الْبَرَاعَةِ.. وَالْمُلْحِدُ فِيهِمْ كَثِيرٌ.. وَالْمُعَادِي لِلشَّرْعِ عَتِيدٌ.. فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ يُؤْثَرُ فِي مُعَارَضَتِهِ.. وَلَا أَلَّفَ كَلِمَتَيْنِ فِي مُنَاقَضَتِهِ.. وَلَا قَدَرَ فِيهِ عَلَى مَطْعَنٍ صَحِيحٍ.. وَلَا قَدَحَ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ ذِهْنِهِ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِزَنْدٍ «2» شَحِيحٍ..
بَلِ الْمَأْثُورُ عَنْ كُلِّ مَنْ رَامَ ذَلِكَ إِلْقَاؤُهُ فِي الْعَجْزِ بيديه، والنكوص «3» على عقبيه..
__________
(1) الجهابذة: جمع جهبذ: بكسر الجيم والباء وبينهما هاء ساكنة واخره ذال معجمة يقال جهبذ أي عالم نحرير وهو لفظ معرب وأصل معنى الجهبذ النقاد البصير فاستعير لما ذكر.
(2) يقال زئد شحيح إذا كان لا يوري وهذه استعارة حسنة جميلة ومحل حسنها كون الذهن يوصف بالتوقد والاشتعال. فالاستعارة في (زند) وإجراؤها هو أن المصنف شبه الذهن المعارض للقرآن بالزند الشحيح ووجه الشبه في عدم اتقاد كل من العقل الخامد البليد في معارضة القران وعد اتقاد الزند الشحيج واشتعاله. وهي استعارة تصريحية أصلية.
(3) يقال: نكص على عقبيه: أي رجع عما كان عليه من خير فهو خاص بالرجوع عن الخير.(1/534)
الْفَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ وُجُوهٌ أُخْرَى لِلْإِعْجَازِ
وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ فِي إِعْجَازِهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنْهَا: أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ، وَسَامِعَهُ لَا يَمُجُّهُ «1» .. بَلِ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً.. وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً.. لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا.. وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ.. وَلَوْ بَلَغَ فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغَهُ يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ، وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ وَكِتَابُنَا يُسْتَلَذُّ بِهِ فِي الْخَلَوَاتِ.. وَيُؤْنَسُ بِتِلَاوَتِهِ فِي الْأَزَمَاتِ.. وَسِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ.. حتى أحدث لها أَصْحَابُهَا لُحُونًا وَطُرُقًا يَسْتَجْلِبُونَ بِتِلْكَ اللُّحُونِ تَنْشِيطَهُمْ على قراءتها.
__________
(1) يمجه: أي لا يكره تكراره على سامعه يقال مج الشراب إذا رماه من فيه فالمج حقيقة طرح المائع من الفم فان كان غير مائع يقال لفظه فاقام الأذن مقام الفم واللفظ مقام الماء لرقته ولطفه وهي استعارة لطيفة.(1/535)
وَلِهَذَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ «1» : «لَا يَخْلَقُ «2» عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عِبَرُهُ وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ.. هُوَ الْفَصْلُ «3» لَيْسَ بِالْهَزْلِ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلَا تَزِيغُ «4» بِهِ الْأَهْوَاءُ.. وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ.. هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ حِينَ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «5» » .
وَمِنْهَا: جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَمْ تَعْهَدِ الْعَرَبُ عَامَّةً وَلَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ خَاصَّةً بِمَعْرِفَتِهَا وَلَا الْقِيَامِ بِهَا.. وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ.. ولا يشتمل عليها كتاب على كُتُبِهِمْ..
فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ عَلْمِ الشَّرَائِعِ والتنبه عَلَى طُرُقِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّاتِ.
وَالرَّدِّ عَلَى فِرَقِ الْأُمَمِ بِبَرَاهِينَ قَوِيَّةٍ وَأَدِلَّةٍ بَيِّنَةٍ سَهْلَةِ الْأَلْفَاظِ مُوجَزَةِ الْمَقَاصِدِ.. رَامَ الْمُتَحَذْلِقُونَ «6» بَعْدَ أَنْ يَنْصِبُوا أدلة مثلها فلم
__________
(1) رواه الترمذي عن علي مرفوعا بدون قوله: «هو الذي أرشده الجن» ورواه غيره.
(2) لا يخلق: بفتح الياء وضم اللام ويجوز فتحها أي لا يبلى ولا يتغير حاله بمرور الزمان.
(3) العقل: أي الجد الفاصل بين الحق والباطل.
(4) أي لا يضل من اتبعه ويميل الى هوى نفسه الامارة بالسوء.
(5) فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا سورة الجن 1، 2.
(6) المتحذلقون: جمع متحذاق بزنه اسم الفاعل بحاء مهملة وذال معجمه ولام وقاف وهو مدعي الحذق وهو سرعة الفهم (أي قصد مدعي الذكاء في العلم وإقامة البراهين)(1/536)
يَقْدِرُوا عَلَيْهَا ... كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى «1» » . وَ «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2» » وَ «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3» » إِلَى مَا حَوَاهُ مِنْ عُلُومِ السِّيَرِ، وَأَنْبَاءِ الْأُمَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، وَأَخْبَارِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالشِّيَمِ «4» ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ «مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «5» » و «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ»
» و «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «7» » .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «8» «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ آمِرًا وَزَاجِرًا وَسُنَّةً خَالِيَةً «9» ، وَمَثَلًا مَضْرُوبًا.. فِيهِ نَبَؤُكُمْ وَخَبَرُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ.. وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ.. وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ.. لا يخلقه طول
__________
(1) «وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» سورة يس اية. 81.
(2) «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» سورة يس اية 715.
(3) «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» سورة الانبياء آية 22.
(4) الشيم: بشين معجمة مثناة تحتية وبهمز أيضا بزنه عنب جمع شيمة وهي الطبيعة
(5) «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» سورة الأنعام اية «38» .
(6) «وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» سورة النمل آية «89» .
(7) «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» سورة الروم آية «58» .
(8) رواه الترمذي عن علي وتقدم بعضه.
(9) أي طريقة متبعة مستقيمة لمن كان قبلكم من الأمم من خلا بمعنى ذهب ومضى.(1/537)
الرَّدِّ.. وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ.. هُوَ الْحَقُّ لَيْسَ بِالْهَزْلِ.. مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ.. وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ.. وَمَنْ خَاصَمَ بِهِ فَلَجَ «1» وَمَنْ قَسَمَ «2» بِهِ أَقْسَطَ «3» .. وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ.. وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.. من طَلَبَ الْهُدَى مِنْ غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ..
وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ «4» اللَّهُ.. هُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ.. وَالنُّورُ الْمُبِينُ.. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.. وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ.. وَنَجَاةٌ لمن اتبعه.. لا يعوج فيقوّم..
ولا يزيع فَيُسْتَعْتَبَ «5» وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ.. وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ.. وَنَحْوُهُ «6» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «7» .. وَقَالَ فيه:
ولا يختلف.. ولا يتشانّ «8» .. فيه فنبأ الأولين والآخرين.
__________
(1) فلج: بفتح الفاء واللام وبجيم يقال فلج إذا فاز وظفر بالغلبة.
(2) قسم: بفتح القاف والسين المخففة أي من تولى قسيمة أمر فقسمها بما في كتاب الله كقسمة المواريث والغنائم وغيرها عدل.
(3) أقسط: يقال قسط إذا جار وأقسط بالهمزة إذا عدل فهو مقسط فالهمزة للسلب كأشكيته إذا زالت شكايته وهو مأخوذ من القسط وهو الميزان كالقسطاس.
(4) قصمه: أي قتله وأهلكه هلاكا شديدا.
(5) أي لا يميل عن الحق والصواب لذلك لا يستحق العقاب واللوم.
(6) نحوه في المعنى مع اختلاف في المبنى. كما رواه الحاكم عنه مرفوعا.
(7) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(8) يتشان: بفتح الياء التحتية والتاء الفوقية والشين المعجمة وألف بعدها نون مشددة من الشن وهي القربة البالية فهو مستعار للبلا والفناء أي لا تذهب طلاوته ولا تبلى طراوته.(1/538)
وَفِي الْحَدِيثِ «1» ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْكَ تَوْرَاةً حَدِيثَةً. تَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا.. وَآذَانًا صُمًّا..
وَقُلُوبًا غُلْفًا.. فِيهَا يَنَابِيعُ الْعِلْمِ.. وَفَهْمُ الْحِكْمَةِ.. وَرَبِيعُ الْقُلُوبِ» وَعَنْ كَعْبٍ «2» «عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ فَهْمُ الْعُقُولِ.
وَنُورُ الْحِكْمَةِ» .
وَقَالَ تَعَالَى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «3» » . وقال: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً «4» » الْآيَةَ. فَجُمِعَ فِيهِ مَعَ وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ وَجَوَامِعِ كَلِمِهِ أَضْعَافُ مَا فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ.. الَّتِي أَلْفَاظُهَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْهُ مَرَّاتٍ.
وَمِنْهَا: جَمْعُهُ فِيهِ بَيْنَ الدَّلِيلِ «5» وَمَدْلُولِهِ «6» .. وَذَلِكَ أَنَّهُ احْتَجَّ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ وَصْفِهِ وَإِيجَازِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَأَثْنَاءَ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ.. فَالتَّالِي له يفهم موضع الحجة
__________
(1) رواه ابن الضريس في فضائل القرآن عن كعب رضي الله عنه، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن مغيث بن سمي مرفوعا مرسلا بلفظ (أنزلت علي توراة محدثة فيها نور الحكمة وينابيع العلم ليفتح بها أعينا عميا، وقلوبا غلظا، وآذانا صما» .
(2) تقدمت ترجمته في ص (58) رقم (3) .
(3) سورة النمل اية (76) .
(4) «وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» سورة آل عمران آية «138» .
(5) الدليل: هو الدال المرشد إلى ما يمكن التوصل بالنظر فيه إلى مطلوب خبري
(6) المدلول: هو المطلوب بالدليل هنا.(1/539)
وَالتَّكْلِيفِ مَعًا مِنْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَسُورَةٍ مُنْفَرِدَةٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ جَعْلَهُ فِي حَيِّزِ الْمَنْظُومِ الَّذِي لم يعهد، ولم يكن في الْمَنْثُورِ.. لِأَنَّ الْمَنْظُومَ أَسْهَلُ عَلَى النُّفُوسِ.. وَأَوْعَى للقلوب، وأسمح فِي الْآذَانِ.. وَأَحْلَى عَلَى الْأَفْهَامِ، فَالنَّاسُ إِلَيْهِ أميل..
والأهواء إليه أسرع.. ومنا: تيسيره تعالى حفظه لمتعلمه..
وَتَقْرِيبُهُ عَلَى مُتَحَفِّظِيهِ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ «1» » وَسَائِرُ الْأُمَمِ لَا يَحْفَظُ كُتُبَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَكَيْفَ الْجَمَّاءُ عَلَى مُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِمْ.. وَالْقُرْآنُ مُيَسَّرٌ حِفْظُهُ لِلْغِلْمَانِ فِي أَقْرَبِ مُدَّةٍ.
وَمِنْهَا: مُشَاكَلَةُ «2» بَعْضِ أَجْزَائِهِ بَعْضًا.. وَحُسْنُ ائْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا.. والتتئام أَقْسَامِهَا.. وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى.. وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهِ..
وَانْقِسَامُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى: أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةٍ وَتَوْحِيدٍ وتقرير «3» وترغيب
__________
(1) «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» سورة القمر آية «17» .
(2) أي مشاكلة بعضه لبعض.
(3) لبعض ما شرع أولا.(1/540)
وَتَرْهِيبٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِهِ.. دُونَ خَلَلٍ يَتَخَلَّلُ فُصُولَهُ.
وَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ إِذَا اعْتَوَرَهُ «1» مِثْلُ هَذَا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ.. وَلَانَتْ جَزَالَتُهُ.. وَقَلَّ رونقه.. وتقلقلت ألفاظه..
فتأمل أول «ص «2» » وَمَا جُمِعَ فِيهَا مِنْ أَخْبَارِ الْكُفَّارِ، وَشِقَاقِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِهِمْ.. وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَعَجُّبِهِمْ مِمَّا أَتَى بِهِ، وَالْخَبَرِ عَنِ اجْتِمَاعِ مَلَئِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.. وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْحَسَدِ فِي كَلَامِهِمْ..
وَتَعْجِيزِهِمْ. وَتَوْهِينِهِمْ.. وَوَعِيدِهِمْ بِخِزْيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
وَتَكْذِيبِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ.. وَإِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُمْ.. وَوَعِيدِ هَؤُلَاءِ مِثْلَ مُصَابِهِمْ.. وَتَصْبِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَذَاهُمْ.. وَتَسْلِيَتِهِ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ أَخَذَ فِي ذكر داوود «3» .. وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ..
كُلُّ هَذَا فِي أَوْجَزِ كَلَامٍ، وأحسن نظام.. ومنها: الْجُمْلَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي انْطَوَتْ عَلَيْهَا الْكَلِمَاتُ الْقَلِيلَةُ.
وَهَذَا كُلُّهُ.. وَكَثِيرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. ذَكَرَهَا الأئمة لم نذكرها.. إذ أكثرها داخل
__________
(1) اعتوره: أو ورد عليه.
(2) سورة «ص»
(3) تقدمت ترجمته في ص «197» رقم «6»(1/541)
في باب بلاغته.. فلا نحب أَنْ يُعَدَّ فَنًّا مُنْفَرِدًا فِي إِعْجَازِهِ..
إِلَّا فِي بَابِ تَفْصِيلِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ.. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْهُمْ.. يُعَدُّ فِي خَوَاصِّهِ وفضائله.. لا في إِعْجَازِهِ. وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهَا.
وَمَا بَعْدَهَا.. مِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا تَنْقَضِي.
وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.(1/542)
الفصل الثاني عشر في انْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَحَبْسُ الشَّمْسِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «1» » «2» أَخْبَرَ تَعَالَى بِوُقُوعِ انْشِقَاقِهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي. وَإِعْرَاضِ الْكَفَرَةِ عَنْ آيَاتِهِ.
وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السُّنَّةِ على وقوعه عَنِ «3» ابْنِ مَسْعُودٍ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ «5» ، وفرقة دونه
__________
(1) مستمر: أي دائم أو محكم من أمر الجبل إذا أحكم فضله.
(2) سورة القمر (2) .
(3) أخرجه البخاري في تفسيره وأخرجه عنه مسلم والترمذي والنسائي. وقال الترمذي حسن صحيح. وفي مسند أحمد برواية الأسود وفي الدلائل للبيهقي برواية مسروق ورواه علقمة عن ابن مسعود.
(4) تقدمت ترجمته في ص (256) رقم (2) .
(5) الجبل حراء أو أبو قيس.(1/543)
فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْهَدُوا وَفِي رِوَايَةِ «1» مُجَاهِدٍ «2» : وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم..
وفي بعض طرق الأعمش «3» : بمعنى.. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَسْوَدُ»
وَقَالَ «5» : حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر الْقَمَرِ. وَرَوَاهُ عَنْهُ مَسْرُوقٌ «6» أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ «7» .
وزاد: فقال: فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: «سَحَرَكُمُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ «8» » فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: «إِنَّ مُحَمَّدًا إِنْ كَانَ سَحَرَ الْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مِنْ سِحْرِهِ أَنْ يَسْحَرَ الْأَرْضَ كُلَّهَا.. فَاسْأَلُوا مَنْ يَأْتِيكُمْ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ..
هَلْ رَأَوْا هَذَا؟. فَأَتَوْا فسألوهم.. فأخبر وهم أنّهم رأوا مثل ذلك»
__________
(1) في الصحيحين عن ابن مسعود زيادة قوله.
(2) تقدمت ترجمته في ص (70) رقم (1) .
(3) سليمان بن مهران الأسدي بالولاء أبو محمد الأعمش تابعي مشهور أصله من الري كان عالما بالقرآن والحديث والفرائض، وكان رأسا في العلم النافع والعمل الصالح وقال الشحاوي: قيل: «ولم ير السلاطين والملوك والأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع شدة حاجته وفقره» . نشأ في الكوفة وبها توفي سنة 148 هـ.
(4) الأسود بن يزيد بن قيس بن قيس بن عبد الله النخعي من كبار التابعين عرف بالرواية عن ابن مسعود واشتهر بفقهه وحفظه وزهده وكثرة عبادته وكان عالم الكوفة في عصره توفي سنة 75 هـ.
(5) رواه أحمد في المسند.
(6) تقدمت ترجمته في ص (361) رقم (12) .
(7) كما رواه البيهقي في دلائله.
(8) أبو كبشه رجل فارق دين الجاهلية قديما وعبد الشعرى. فشبهوا الرسول صلى الله عليه وسلم به أو أن أباه من الرضاعة كانت له ابنته تسمى كبشه فكان يكنى بها.(1/544)
وحكى السمرقندي «1» عن الضحاك «2» نحوه فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ «3» :
هَذَا سِحْرٌ.. فَابْعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْآفَاقِ حَتَّى تَنْظُرُوا.. أَرَأَوْا ذَلِكَ أَمْ لَا!!. فَأَخْبَرَ أَهْلُ الْآفَاقِ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُنْشَقًّا.. فقالوا- يعني الكفار- هذا سحر مستمر رواه أَيْضًا عَنِ ابْنِ «4» مَسْعُودٍ عَلْقَمَةُ «5» فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ..
كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ: أَنَسٌ «6» - وَابْنُ عَبَّاسٍ «7» - وَابْنُ عُمَرَ «8» - وَحُذَيْفَةُ «9» وَعَلِيٌّ «10» - وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ «11» -
فَقَالَ عَلِيٌّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حذيفة الأرحبي «12» «انشق القمر ونحن
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (51) رقم (2) .
(2) تقدمت ترجمته في ص (75) رقم (6) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (370) رقم (3) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (514) رقم (2) .
(5) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي أبو شبل تابعي كان فقيه العراق يشبه ابن مسعود في هديه وسمته وفضله ولد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وتوفي في الكوفة سنة 62 هـ.
(6) تقدمت ترجمته في ص (147) رقم (1)
(7) تقدمت ترجمته في ص (82) رقم (1) كما رواه الشيخان عنهما وهما وإن لم يدركا بأعينهما فقد سمعا ممن حضر وروى، ومرسل الصحابة بالإجماع حجة.
(8) تقدمت ترجمته في ص (182) رقم (1) وقد رواه مسلم والترمذي.
(9) تقدمت ترجمته في ص (64) رقم (1) وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل.
(10) تقدمت ترجمته في ص (54) رقم (4) لم يعرف مخرجه.
(11) تقدمت ترجمته في ص (444) رقم (1) وقد رواه أحمد والبيهقي عنه.
(12) مسلمة بن صهيب أبو حذيفة الكوفي الأرحبي روى عن حذيفة وابن مسعود وعلي وعائشة رضي الله عنهم ذكره ابن حبان في الثقات.(1/545)
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَعَنْ أَنَسٍ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القمر مرتين «1» حتى رأوا حراء بينما.. رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ قَتَادَةُ «2» وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ «3» وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ «4» :
أَرَاهُمُ الْقَمَرَ مَرَّتَيْنِ انشقاقه «5» .. فنزلت «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «6» » .
وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْرِ «7» بْنِ مُطْعِمٍ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ «8» ، وَابْنُ ابْنِهِ جُبَيْرُ «9» بْنُ مُحَمَّدٍ وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «10» عُبَيْدُ اللَّهِ «11» بْنُ عَبْدِ الله بن عتبة.
__________
(1) لعله أراد بالمرتين الفلقتين، وإلا لم يعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق قاله العسقلاني. هذا وقد ورد في نسخة صحيحة «فرقتين» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3»
(3) تقدمت ترجمته في ص «28» رقم «6»
(4) أي عن ابن عباس.
(5) بالنصب بدل من القمر بدل اشتمال وفي تقديم مرتين في هذه الرواية دليل على ما قلناه سابقا من أن التعدد في الآراء لا في الانشقاق وأنه مرتين، كما ذهب إليه من نظر لظاهر هذه الرواية.
(6) سورة القمر آية «1» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «444» رقم «1» .
(8) محمد بن جبير بن مطعم، مدني تابعي ثقة قليل الحديث توفي في خلافة سليمان بن عبد الملك.
(9) جبير بن محمد بن جبير بن مطعم روى عن أبيه وعن جده وروى له أبو داوود حديثا واحدا وذكره ابن حبان في الثقات.
(10) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(11) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهدلي أبو عبد الله مفتي المدينة وأحد الفقهاء السبعة فيها، من أعلام التابعين وهو مؤدب عمر بن عبد العزيز كان ثقة شاعرا مجيدا وعالما فقيها كثير الحديث والعلم بالشعر وقد ذهب بصره توفي بالمدينة سنة 98 هـ.(1/546)
وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «1» مُجَاهِدٌ «2» . وَرَوَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ «3» أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ «4» السُّلَمِيُّ، وَمُسْلِمُ»
بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْأَزْدِيُّ. وَأَكْثَرُ طُرُقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ.. وَالْآيَةُ مُصَرِّحَةٌ.. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى اعْتِرَاضِ مَخْذُولٍ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا لَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ إِذْ هُوَ شَيْءٌ ظَاهِرٌ لِجَمِيعِهِمْ.. إِذْ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَّهُمْ رَصَدُوهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.. فَلَمْ يَرَوْهُ انْشَقَّ.. وَلَوْ نُقِلَ إِلَيْنَا عَمَّنْ لَا يَجُوزُ تَمَالُؤُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ لَمَا كَانَتْ عَلَيْنَا بِهِ حُجَّةٌ.. إِذْ لَيْسَ الْقَمَرُ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ.. فَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قوم قبل أن يطلع على الآخرين.. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْمٍ بِضِدِّ مَا هُوَ من مقابليهم مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ.. أَوْ يَحُولُ بَيْنَ قَوْمٍ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ جِبَالٌ.. وَلِهَذَا نَجِدُ الْكُسُوفَاتِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ..
وَفِي بَعْضِهَا جُزْئِيَّةً.. وَفِي بَعْضِهَا كُلِّيَّةً.. وَفِي بَعْضِهَا لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْمُدَّعُونَ لِعِلْمِهَا «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «6» » وآية القمر
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (182) رقم (1)
(2) تقدمت ترجمته في ص (70) رقم (1)
(3) تقدمت ترجمته في ص (64) رقم (4)
(4) تقدمت ترجمته في ص (61) رقم (4)
(5) مسلم بن عمران وقيل ابن أبي عمران البطين أبو عبد الله الكوفي روى عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم قال أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة.
(6) سورة يسن آية (38) .(1/547)
كانت ليلا.. والعادة من الناس بالليل الهدوء وَالسُّكُونُ. وَإِيجَافُ «1» الْأَبْوَابِ، وَقَطْعُ التَّصَرُّفِ.. وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُ مِنْ أُمُورِ السَّمَاءِ شَيْئًا إِلَّا مَنْ رَصَدَ ذَلِكَ، وَاهْتَبَلَ «2» بِهِ، وَلِذَلِكَ مَا يَكُونُ الْكُسُوفُ الْقَمَرِيُّ كَثِيرًا فِي الْبِلَادِ.. وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُ بِهِ حَتَّى يُخْبَرَ.. وَكَثِيرًا مَا يُحَدِّثُ الثقات بعجائب يشاهد ونها مِنْ أَنْوَارٍ وَنُجُومٍ طَوَالِعَ عِظَامٍ تَظْهَرُ فِي الْأَحْيَانِ بِاللَّيْلِ فِي السَّمَاءِ وَلَا عِلْمَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهَا..
وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ «3» فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ «4» بِنْتِ عُمَيْسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5» : كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ «6» فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ. حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَصَلَّيْتَ يَا عَلِيُّ؟ .. قَالَ: لَا.. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ.. قَالَتْ أسماء: فرأيتها غربت
__________
(1) الايجاف: بكسر الهمزة، وسكون المثناة التحتية وجيم وفاء وهو الإغلاق بسرعة.
(2) اهتبل به: أي بذل جهده والمثنى به غاية الاعتناء.
(3) الطحاوي هو أحمد بن محمد بن مسلمة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي ثم المصري الحنفي وهو الإمام المحدث الجليل القدر ويكنى أبا جعفر وكان شافعيا من تلامذة خاله المزني ثم صار حنفيا وله تآليف جليلة ولد في سنة 239 وتوفي سنة 321 هـ.
(4) أسماء بنت عميس بن معد بن تيم الخثعمي صحابية كان لها شأن. اسلمت قبل دخول النبي صلّى الله عليه وسلم دار الأرقم زوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر ثم علي رضي الله عنه توفيت نحو سنة 40 هـ.
(5) ورواه الطبراني بأسانيد رجال بعضها ثقاة.
(6) تقدمت ترجمته في ص (54) رقم (4) .(1/548)
ثم رأيتها طَلَعَتْ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ.. وَوَقَفَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَرَ..
قَالَ: وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ «1» ثَابِتَانِ، وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ «2» بْنَ صَالِحٍ كَانَ يَقُولُ: «لَا يَنْبَغِي لِمَنْ سَبِيلُهُ الْعِلْمُ التَّخَلُّفُ عَنْ حِفْظِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ، لِأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ» .
وَرَوَى يُونُسُ «3» بن بكير في زيادة المغازي، روايته عن ابن اسحق «4» : «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِالرُّفْقَةِ وَالْعَلَامَةِ الَّتِي فِي الْعِيرِ قَالُوا: مَتَى تَجِيءُ؟ .. قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ.
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ.. أَشْرَفَتْ قُرَيْشٌ يَنْظُرُونَ وقد ولّى النهار ولم تجيء.. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةٌ وَحُبِسَتْ عَلَيْهِ الشمس» .
__________
(1) جعلهما حديثين والمذكور حديث واحد تسمحا لأنه روي من طريقين. وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ولكن خاتمة الحفاظ السيوطي قال وكذا السخاوي: أن ابن الجوزي في موضوعاته تحامل تحاملا كثيرا حتى أدرج منه كثيرا من الأحاديث الصحيحة كما أشار إليه ابن الصلاح. وهذا الحديث صححة المصنف رحمه الله تعالى وأشار إلى تعدد طرقه شاهد صدق على صحته، وقد صححه قبله كثير من الأئمة كالطحاوي، وأخرجه ابن شاهين وابن منده وابن مردويه والطبراني في معجمه وقال إنه حسن، وحكاه العراقي في التقريب.
(2) أحمد بن صالح أبو جعفر الطبري المصري الحافظ الثقة سمع من ابن عيينة وروى عنه البخاري وغيره وكان جامعا يحفظ كما روى عنه أصحاب السنن توفي سنة 248
(3) يونس بن بكير أبو بكر الشيباني الامام الثقة وثقة ابن معين وقال: إنه صدوق توفي سنة 199 هـ.
(4) تقدمت ترجمته في ص (73) رقم (7) .(1/549)
الفصل الثالث عشر نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِهِ بِبَرَكَتِهِ
أَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا فَكَثِيرَةٌ جِدًّا.. رَوَى حَدِيثَ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: أَنَسٌ «1» - وجابر «2» - وابن مسعود «3» عَنْ «4» أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحانت صلاة العصر، فالتمس الْوُضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ.. فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يده وأمر الناس أن يتوضؤوا مِنْهُ.. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أصابعه.. فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «256» رقم «2» .
(4) حديث أنس رواه الشيخان إلا أن المصنف ساقه شاهدا بسنده إلى الإمام مالك عنه.(1/550)
آخِرِهِمْ.. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَتَادَةُ «1» وَقَالَ «2» : «بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ أَوْ لَا يكاد يغمر» .. قال: كم كنتم؟ .. قال:
زهاء ثلاث مئة. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «وَهُمْ بِالزَّوْرَاءِ «3» عِنْدَ السُّوقِ»
وَرَوَاهُ أَيْضًا- حُمَيْدٌ «4» - وَثَابِتٌ «5» - وَالْحَسَنُ «6» عَنْ أَنَسٍ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ قُلْتُ. كَمْ كَانُوا؟ .. قَالَ: ثمانين رجلا.
وَنَحْوُهُ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ «7» .. فَفِي الصَّحِيحِ «8» مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ «9» عَنْهُ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ.. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ.. فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِي إِنَاءٍ.
ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ.. فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «3» .
(2) كما في مسلم.
(3) الزوراء: مكان يعرف بالمدينة قرب السوق.
(4) حميد وهو تير أو تيرويه أبو عبيدة مولى طلحة الطلحات الخزاعي وهو ثقة أخرج له الأئمة الستة إلا أنه نسب للتدليس مات وهو قائم يصلي سنة 142 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «347» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(8) رواه البخاري وغيره.
(9) تقدمت ترجمته في ص «454» رقم «5» .(1/551)
وَفِي الصَّحِيحِ «1» عَنْ سَالِمِ «2» بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ «4» .. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ «5» . فَتَوَضَّأَ مِنْهَا.. وَأَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ.. وَقَالُوا:
لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ.. فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يفوز مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ.
وَفِيهِ: فَقُلْتُ: كم كنتم؟ .. قال: «لو كنا مئة ألف لكفانا كنا خمس عشرة «6» مئة..» وري «7» مِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ»
عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ.
«أَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ» ..
وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ «9» بْنِ عُبَادَةَ بن الصامت عنه في حديث
__________
(1) للبخاري وغيره.
(2) سالم بن أبي الجعد الأشجعي الكوفي وهو من كبار التابعين الثقات روى عن ابن عباس وغيره وتوفي سنة مائة وله ترجة مفصلة في الميزان
(3) تقدمت ترجمته في ص (154) رقم (1) .
(4) الحديبية: بئر بين جده ومكة.
(5) ركوة: بفتج الراء وكسرها وضمها والأفصح الفتح وكاف ساكنة وواو. إناه للماء من جلد كالإبريق وجمعه ركاء بالكسر والمد.
(6) والأصح أربع عشرة مئة كما في الصحاح، وأكثر الروايات كما قال البيهقي أنه الف وأربعمئة.
(7) في مسند الدارمي.
(8) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(9) الوليد بن عبادة بن الصامت ولد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وتوفى في خلافة عبد الملك بن مروان وهو تقة ولكنه قليل الحديث وأخرج له الشيخان والترمذي وابن ماجه وهو يروي عن أبيه.(1/552)
مُسْلِمٍ «1» الطَّوِيلِ فِي ذِكْرِ غَزْوَةِ بُوَاطٍ «2» قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«يَا جَابِرُ.. نَادِ الْوُضُوءَ- وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَأَنَّهُ: لَمْ يَجِدْ إِلَّا قَطْرَةً فِي عزلاء «3» شجب فأتي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَمَزَهُ «4» وَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لا أدري ما هو..» وقال: «نادبجفنة «5» الرَّكْبِ فَأَتَيْتُ بِهَا فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ..» وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَسَطَ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ، وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ.. وَصَبَّ جَابِرٌ عَلَيْهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ قَالَ: «فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ..» ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ وَاسْتَدَارَتْ حَتَّى امْتَلَأَتْ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالِاسْتِقَاءِ فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوَوْا.. فَقُلْتُ: «هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ» فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يده من الجنفة وَهِيَ مَلْأَى «6» وَعَنِ «7» الشِّعْبِيِّ «8» : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِإِدَاوَةِ
__________
(1) ثاني غزواته صلّى الله عليه وسلم وهي سنة اثنين في ربيع الاول.
(2) وبواط جبال لجهينة على أبراد من المدينة بقرب الينبع.
(3) عزلاء شجب: أي فم قربة بالية وعزلاء بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة ولام بعدها مدة وهمزة وهو فم الراوية ومصب الماء منها وجمعة عزالى بفتح اللام وكسرها وشجب: بفتح الشين المعجمة قيل أو كسرها وسكون الجيم وباء موحدة ما قدم من القرب أو أعواد تعلق عليها القرب ونحوها وجمعه شجب وأشجاب وأصل معناه الهلاك.
(4) غمزه: عصره وكبسه بيده بيده. وفي نسخة (وغمره) .
(5) الجفنه: أكبر قصاع الركب.
(6) وحديث جابر هذا ليس في شيء من الكتب السنة إلا في مسلم على ما صرح به الحلبي وغيره.
(7) حديثه هذا مرسل وهو حجة عند الجمهور خلاما للشافعي..
(8) عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري أبو عمرو راوية تابعي مشهور بذكائه وهو جليس عبد الملك ونديمه ومن رجال الحديث الثقات توفي في الكوفة سنة 103 هـ(1/553)
مَاءٍ وَقِيلَ: مَا مَعَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاءٌ غَيْرُهَا.. فَسَكَبَهَا فِي رَكْوَةٍ..
وَوَضَعَ إِصْبُعَهُ وَسَطَهَا وَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ.. وَجَعَلَ النَّاسُ يَجِيئُونَ ويتوضؤون ثُمَّ يَقُومُونَ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ «1» .. وَفِي الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «2» ...
وَمِثْلُ هَذَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الْحَفِلَةِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ لَا تَتَطَرَّقُ التُّهْمَةُ إِلَى الْمُحَدِّثِ بِهِ.. لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ شَيْءٍ إلى تكذييه لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ..
فَهَؤُلَاءِ قَدْ رَوَوْا هَذَا وَأَشَاعُوهُ.. وَنَسَبُوا حُضُورَ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ لَهُ.. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وشاهدوه.. فصار كتصديق جميعهم له.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (81) رقم (4) .
(2) تقدمت ترجمته في ص (38) رقم (5) .(1/554)
الفصل الرابع عشر تفجير الماء ببركته
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ.. تَفْجِيرُ الْمَاءِ بِبَرَكَتِهِ وَابْتِعَاثُهُ بِمَسِّهِ وَدَعْوَتِهِ.
فِيمَا رَوَى مَالِكٌ «1» فِي الْمُوَطَّإِ «2» عَنْ «3» مُعَاذِ «4» بْنِ جَبَلٍ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنَّهُمْ وَرَدُوا الْعَيْنَ وَهِيَ تبضّ «5» بشيء من ماء مثل
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «41» رقم «3» .
(2) الموطأ: كتاب ألفه الامام مالك جمع فيه أحاديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مع أقوال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وسمي موطأ من التوطئة وهو التليين والتمهيد. وقد قال أبو جعفر المنصور للامام عند حجه.. أنه لم يبق من العلماء سواي وسواك.. أما أنا فاشتغلت بالسياسة عن التأليف، وأما أنت فاجعل للناس كتابا في الحديث يرجعون إليه. وتجنب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر ووطئه للناس توطئة.
(3) ورواه مسلم. ولكن المؤلف أورده من الموطأ دونه لأن روايته له أعلى سندا عنده أو لترجيح روايته.
(4) تقدمت ترجمته في ص (379) رقم (3) .
(5) تبض: تقطر. مضارع بض بزنة رد بموحدة وضاد معجمة مشددة بض الماء إذا سال سيلانا قليلا.(1/555)
الشِّرَاكِ «1» .. فَغَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ «2» ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَأَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ.. فَاسْتَقَى النَّاسُ..
قَالَ في حديث «3» ابن إسحق «4» : «فانخرق «5» من الماء ماله حِسٌّ كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ ثُمَّ قَالَ: يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى ما هاهنا قد مليء جنانا..»
وفي حديث البراء «6» .. وسلمة «7» بْنِ الْأَكْوَعِ.. وَحَدِيثُهُ أَتَمُّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ: وهم أربع عشرة مئة.. وَبِئْرُهَا لَا تَرْوِي خَمْسِينَ شَاةً.. فَنَزَحْنَاهَا «8» فَلَمْ نترك فيها قطرة.. فقعد رسول
__________
(1) الشراك: بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المهملة وألف وكاف وهو سير النعل الذي يكون على وجهه وشبهه به لقلته وضعف جريانه وليس بمعنى أخدود في الأرض.
(2) أي في شيء من الأواني التي كانت معهم وليس فيه قلب وإن الأصل غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير.
(3) فيما يرويه أهل المغازي عنه.
(4) تقدمت ترجمته في ص (73) رقم (7) .
(5) اتخزق: بنون وخاء معجمة وراء مهملة وقاف أي انفجر انفجارا شديدا.
(6) تقدمت ترجمته في ص (146) رقم (4) .
(7) سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع الأسلمي صحابي من الذين بايعوا تحت الشجرة غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات منها الحديبية وخيبر وحنين وكان شجاعا بطلا راميا عداء، وهو ممن غزا أفريقية في أيام عثمان له (77) حديثا وتوفي في المدينة.
(8) نزحناها: أي أخرجنا جميع ما فيها من الماء بطينة.(1/556)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَاهَا «1» قال البراء- وأوتي بِدَلْوٍ مِنْهَا فَبَصَقَ..
فَدَعَا وَقَالَ سَلَمَةُ- فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا.. فَجَاشَتْ «2» ..
فَأَرْوَوْا أَنْفُسَهُمْ وركابهم.. وفي غير هاتين الرِّوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ «3» فِي الْحُدَيْبِيَةِ: فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَوَضَعَهُ فِي قَعْرِ قَلِيبٍ «4» لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ.. فَرُوِيَ النَّاسُ حَتَّى ضَرَبُوا بِعَطَنٍ «5» وَعَنْ «6» أَبِي قَتَادَةَ «7» وَذَكَرَ: أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ.. فَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ»
فَجَعَلَهَا فِي ضَبْنِهِ «9» ثُمَّ الْتَقَمَ فَمَهَا.. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.. نَفَثَ فِيهَا أم لا..
فشرب الناس حتى رووا وملؤوا كل إناء معهم.. فخيّل إلي أنها
__________
(1) جباها: بفتح الجيم والباء الموحدة مقصور وهو فم البئر وما حولها وبالكسر ما جمع فيها من الماء.
(2) جاشت: أي فار ماؤها حتى ارتفع لفمها من جاشت القدر إذا غلت.
(3) تقدمت ترجمته في ص (251) رقم (4) .
(4) قليب: بئر محفورة من غير بناء فإن بنيت فهي طوى ويذكر ويؤنث.
(5) العطن: هو بفتح العين والطاء المهملنين موضع الإبل حول الماء لتبرك فيه إذا شربت لتعاد إلى الشرب مرة أخرى وهو ضرب مثل للاتساع والاستغناء. والمعنى حتى رووا
(6) رواه البيهقي عنه.
(7) تقدمت ترجمته في ص «259» رقم «6» .
(8) الميضأة: بكسر الميم وياء منقلبة عن واو لأنها آلة الوضوء وهي مقصورة وزنها مفعلة وقد تمد فوزنها مفعالة ودعا بمعنى طلب مطهرة ماء الوضوء فأتى بها.
(9) ضبنه: بكسر الصاد المعجمة وسكون الباء الموحدة والنون وهو ما تحت الإبط قريب من الحضن.(1/557)
كَمَا أَخَذَهَا مِنِّي. وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ رَجُلًا.. وَرَوَى مِثْلَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «1» ..
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ «2» حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بِهِمْ مُمِدًّا «3» لِأَهْلِ مُؤْتَةَ «4» عِنْدَمَا بَلَغَهُ قَتْلُ الْأُمَرَاءِ- وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ مُعْجِزَاتٌ وَآيَاتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهِ إِعْلَامُهُمْ أَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ الْمَاءَ فِي غَدٍ- وذكر حديث الميضأة- قال- والقوم زهاء ثلاث مئة» .
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ «5» . أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ: «احْفَظْ عَلَيَّ مِيضَأَتَكَ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ- وَذَكَرَ نَحْوَهُ..» وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ «6» عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ حِينَ أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَطَشٌ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِمْ فَوَجَّهَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَعْلَمَهُمَا أَنَّهُمَا يَجِدَانِ امْرَأَةً بِمَكَانِ كَذَا مَعَهَا بَعِيرٌ عَلَيْهِ مَزَادَتَانِ «7» الْحَدِيثَ فَوَجَدَاهَا وَأَتَيَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَجَعَلَ فِي إِنَاءٍ مِنْ مَزَادَتَيْهَا وقال: فيه: ما شاء الله
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «238» رقم «5» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «2» .
(3) ممدا: مقويا ومعينا.
(4) مؤتة: بضم الميم وسكون الواو وهي أرض من البلقاء وقرية بين تبوك وحوران من الشام.
(5) تقدمت ترجمته في ص «158» رقم «2» .
(6) كما في الصحيحين.
(7) مزادتان: المزادة بفتح الميم ظرف من جلد يحمل فيه الماء كالقربة وهو من الزيادة لأنه زيد فيه جلد مع جلد لا من الزاد.(1/558)
أَنْ يَقُولَ.. ثُمَّ أَعَادَ الْمَاءَ فِي الْمَزَادَتَيْنِ.. ثم فتحت عزاليهما «1» .
وأمر الناس فماؤا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلّا ماؤوه.. قال عمران: ويخيل إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَمْ تَزْدَادَا إِلَّا امْتِلَاءً.. ثُمَّ أمر فجمع المرأة مِنَ الْأَزْوَادِ حَتَّى مَلَأَ ثَوْبَهَا.. وَقَالَ: اذْهَبِي فَإِنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنْ مَائِكِ شَيْئًا.. وَلَكِنَّ اللَّهَ سَقَانَا.. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ..
وَعَنْ سَلَمَةَ «2» بْنِ الْأَكْوَعِ.. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟. فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ «3» فِيهَا نُطْفَةٌ «4» فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ..
فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا ندغفقه «5» دغفقة أربع عشرة مئة.
وَفِي حَدِيثِ «6» عُمَرَ «7» فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ «8» .. وَذَكَرَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَطَشِ: حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ ليخر يعيره فيعصر فرثه «9» فيشربه..
__________
(1) العزال: بكسر اللام جمع عزلاء وهو القربه كما تقدم.
(2) سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات، كان شجاعا بطلا راميا عداء توفي في المدينة سنة 74 هـ.
(3) الاداوة: بكسر الهمزة ودال مهملة أي إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
(4) نطفة: قليل من الماء.
(5) ندغفقه: بضم النون وفتح الدال المهملة وسكون الغين المعجمة ثم فاء مسكورة وقاف أي بصبه صبا كثيرا.
(6) رواه ابن خزيمة في صحيحه. والبيهقي والبزار عنه بسند صحيح.
(7) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(8) وهي غزوة تبوك سنة 9 للهجرة.
(9) فرثه: ما في كرشه.(1/559)
فَرَغِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ.. فَرَفَعَ يَدَيْهِ ... فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ «1» السَّمَاءُ فانسكبت «2» .. فملؤوا مَا مَعَهُمْ مِنْ آنِيَةٍ.. وَلَمْ تُجَاوِزِ الْعَسْكَرَ.
وعن عمر «3» بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ «4» قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَدِيفُهُ بِذِي الْمَجَازِ «5» : عَطِشْتُ وَلَيْسَ عِنْدِي مَاءٌ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبَ بِقَدَمِهِ الْأَرْضَ فَخَرَجَ الْمَاءُ فَقَالَ اشْرَبْ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ.. وَمِنْهُ الْإِجَابَةُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمَا جاء به..
__________
(1) قالت السماء: أي غيمت وظهر فيها سحاب.
(2) انسكبت: أي انسكب ماؤها.
(3) عمر بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي الصحابي المشهور في الاحتجاج بعمر وهذا اختلاف وأقوال والأكثر على الاحتجاج وهو يروي عن أبيه وغيره وأخرج له أربعة من اصحاب السنن وهذا الحديث ليس فيها وتوفي سنة ثمان عشرة ومائة ودفن بالطائف.
(4) وهو عم النبي صلّى الله عليه وسلم كان النصير والوالد للرسول الأعظم ولكنه كان على غير الايمان توفي سنة 10 للهجرة.
(5) ذو المجاز: سوق عند عرفة وهو من أسواق الجاهلية.(1/560)
الفصل الخامس عشر تكثير الطّعام ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلم تكثير الطعام ببركته ودعائه
عَنْ «1» جَابِرٍ «2» أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ «3» وَسْقِ «4» شَعِيرٍ.. فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُ حَتَّى كَالَهُ.. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ.. وَلَقَامَ بِكُمْ «5» ..
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ «6» أَبِي طَلْحَةَ «7» الْمَشْهُورُ: وَإِطْعَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) رواه مسلم.
(2) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(3) شطر: الشطر هنا بمعنى النصف وهو أصله ويكون بمعنى البعض مطلقا وبمعنى الجهة كقوله تعالى في سورة البقرة آية (150) «قول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره» المراد جهته.
(4) الوسق: بفتح الواو وكسرها وسكون السين المهملة وقاف بمعنى الحمل فيقال وسق بعير أي حمله ثم خص وصار حقيقة عرفية في ستين صاعا بصاعه صلّى الله عليه وسلم وهو ثلاث مائة وعشرون رطلا حجازية وأربع مائة وثمانون رطلا عراقية على الاختلاف في قدر الصاع والمد فشطره ثلاثون صاعا وعلى الأول مائة وستون رطلا وعلى الثاني مائتان وأربعون رطلا والكلام في المقادير الشرعية مفصل في كتب الفروع.
(5) أي لكفاكم مدة حياتكم.
(6) رواه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمته في ص «238» رقم «3» .(1/561)
ثَمَانِينَ «1» أَوْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَقْرَاصٍ مِنْ شَعِيرٍ.. جَاءَ بِهَا أَنَسٌ «2» تَحْتَ يَدِهِ- أَيْ إبطه- فأمر بها ففتّت وقال فيها: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.. وَحَدِيثُ جَابِرٍ»
فِي إِطْعَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ صَاعِ شَعِيرٍ وَعَنَاقٍ «4» وَقَالَ جَابِرٌ: فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا.. وَإِنَّ بُرْمَتَنَا «5» لَتَغَطُّ «6» كَمَا هِيَ.. وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ.. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ فِي الْعَجِينِ وَالْبُرْمَةِ وَبَارَكَ.. رَوَاهُ عَنْ «7» جَابِرٍ سَعِيدُ «8» بْنُ مِينَاءَ وَأَيْمَنُ «9» .
وَعَنْ ثَابِتٍ «10» : مِثْلُهُ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وامرأته.. لم يُسَمِّهِمَا «11» قَالَ: وَجِيءَ بِمِثْلِ الْكَفِّ.. فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) وجزم مسلم في روايته بثمانين رجلا.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1»
(3) كما رواه البخاري.
(4) عناق: الأنثى من أولاد الماعز ما لم يتم لها سنة!
(5) البرمة: بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة ثم ميم وهاء القدر مطلقا أو من حجارة.
(6) تغط: تغلي من حرارة النار حتى يسمع صوت غليانها.
(7) حديث سعيد هذا عن جابر في الصحيحين.
(8) سعيد بن ميناء المكي ابو الوليد مولى البختري ابن أبي ذباب وثقة ابن معين وابو حاتم وابن حبان والنسائي.
(9) أيمن الحبشي المكي وأمه أم أيمن حاضنة النبي صلّى الله عليه وسلم ومولاته أخو أسامه بن زيد لأمه استشهد يوم حنين.
(10) تقدمت ترجمته في ص «347» رقم «1» .
(11) أي الراوي عنهما ممكن جهالتهما لا تغر لكونهما صحابيين.(1/562)
يَبْسُطُهَا فِي الْإِنَاءِ وَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ.. فَأَكَلَ مِنْهُ مَنْ فِي الْبَيْتِ وَالْحُجْرَةِ وَالدَّارِ وَكَانَ ذَلِكَ قَدِ امْتَلَأَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَهُ صلّى الله عليه وسلم لذلك..
وبقي بعدما شَبِعُوا مِثْلُ مَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ.
وَحَدِيثُ «1» أبي أيوب «2» : أنه صنع لرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي «3» بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ زُهَاءَ مَا يَكْفِيهِمَا.. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَنْصَارِ.. فَدَعَاهُمْ.. فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا.. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ سِتِّينَ.. فَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ قال: ادع سبعين.. فأكلوا حتى تركوه وَمَا خَرَجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى أَسْلَمَ وَبَايَعَ.. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِي مِائَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا..
وَعَنْ «4» سَمُرَةَ «5» بْنِ جُنْدُبٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا لَحْمٌ فَتَعَاقَبُوهَا مِنْ غَدْوَةٍ حَتَّى اللَّيْلِ يَقُومُ قوم، ويقعد آخرون..
__________
(1) رواه الطبري والبيهقي.
(2) خالد بن زيد الانصاري من بني النجار شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد. كان شجاعا تقيا صابرا ولما غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في خلافة أبيه صحبه أبو أيوب غازيا فحضر الوقائع ومرض ودفن في أصل حصن القسطنطينية سنة 52 هـ.
(3) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» .
(4) رواه الترمذي والبيهقي وصححاه والنسائي عنه.
(5) سمرة بن جندب الغزاوي صحابي من الشجعان والقادة. نشأ في المدينة ونزل البصرة وكان واليا عليها أيام زياد وبعده مات بالكوفة سنة 60 هـ.(1/563)
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ «1» عَبْدِ الرَّحْمَنِ «2» بْنِ أَبِي بَكْرٍ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً- وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ عُجِنَ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ..
وَصُنِعَتْ شَاةٌ فَشُوِيَ سَوَادُ «3» بَطْنِهَا قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ مَا مِنَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ إِلَّا وَقَدْ حَزَّ «4» لَهُ حَزَّةً «5» من سواد بطنها.. ثمّ جعل منها قَصْعَتَيْنِ فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ، وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ «6» عَبْدِ الرَّحْمَنِ «7» بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ «8» ، وَمِثْلُهُ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «9» ، وَأَبِي «10» هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ الخطاب «11» رضي الله عنهم فَذَكَرُوا مَخْمَصَةً «12» أَصَابَتِ النَّاسَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم في بعض
__________
(1) رواه الشيخان عنه.
(2) عبد الرّحمن بن عبد الله أبي بكر الصديق القرشي صحابى ابن صحابي بان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة فسماه النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الرّحمن وكان من أشجع قريش وأرماهم بسهم. وكان شاعرا مجيدا مات قبل بيعة يزيد في مكة سنة 53 هـ.
(3) سواد بطنها: المقصود به كبدها او معاليقها مما في جوفها..
(4) حز: بفتح الحاء المهملة والزاي المعجمة المشددة والحز هو القطع بالسكين.
(5) حزة: بضم الحاء المهملة قطعة من لحم.
(6) رواه ابن سعد والبيهقي عنه.
(7) عبد الرّحمن بن أبي عمرة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الدارقطني وهو ثقة.
(8) هو أبو عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري الصحابي البدري قتل مع علي كرم الله وجهه بصفين.
(9) تقدمت ترجمته آنفا
(10) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» رواه البخاري عنهما.
(11) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» كما رواه أبو يعلى بسند جيد.
(12) محمصة: بفتح الميمين بينهما خاء معجمة ساكنة ثم صاد مهملة وهي الجوع من الخمص وهو خلو البطن من الطعام أي مجاعة.(1/564)
مَغَازِيهِ.. فَدَعَا بِبَقِيَّةِ الْأَزْوَادِ.. فَجَاءَ الرَّجُلُ بِالْحَثْيَةِ «1» مِنَ الطَّعَامِ وَفَوْقَ ذَلِكَ.. وَأَعْلَاهُمُ «2» الَّذِي أَتَى بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ.. فَجَمَعَهُ عَلَى نِطْعٍ «3» .. قَالَ سلمة: فخزرته «4» كَرَبْضَةِ «5» الْعَنْزِ ثُمَّ دَعَا النَّاسَ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَمَا بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه.. وَبَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ مَا جَعَلَ وَأَكْثَرُ.. وَلَوْ وَرَدَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ لَكَفَاهُمْ.
وَعَنْ «6» أَبِي هُرَيْرَةَ.. أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَدْعُوَ لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ..
فَتَتَبَّعْتُهُمْ حَتَّى جَمَعْتُهُمْ.. فوضعت بين أيدينا صحفة»
.. فَأَكَلْنَا مَا شِئْنَا وَفَرَغْنَا وَهِيَ مِثْلُهَا حِينَ وُضِعَتْ إِلَّا أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْأَصَابِعِ.
وَعَنْ «8» علي بن أبي طالب «9» رضي الله عنه: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبَ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ.. مِنْهُمْ قَوْمٌ يأكلون الجذعة «10»
__________
(1) الحثية: بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة والمثناة التحتية ويقال حثوة بالواو لأنه يقال حثا يحثي وحثا يحثو وهو ما يملأ اليدين معا.
(2) أعلاهم: أي أكثرهم زادا.
(3) النطع: بكسر النون وفتح الطاء المهملة بزنة عنب بساط من أدم.
(4) فحزرته: بحاء مهملة وزاي معجمة وراء مهملة أي قدرته بطريق الحدس والتخمين.
(5) ربضة: براء مهملة مفتوحة وقيل انها مكسورة أي مثل جثتها اذا ربضت.
(6) رواه ابن أبي شيبة والطبراني في الاوسط بسند جيد.
(7) الصحفة: اناء بين الصغير والكبير يعد للطعام.
(8) رواه أحمد والبيهقي بسند جيد.
(9) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(10) الجذعة: الداخلة في السنة الثانية من الماعز او ما دخل ثمانية أشهر من الضأن(1/565)
وَيَشْرَبُونَ الْفَرَقَ «1» .. فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا.
وَبَقِيَ كَمَا هُوَ. ثُمَّ دَعَا بِعُسٍّ «2» فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا وَبَقِيَ كَأَنَّهُ لَمْ يُشْرَبْ مِنْهُ..
وَقَالَ «3» أَنَسٌ «4» : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ابْتَنَى بِزَيْنَبَ «5» أَمَرَهُ «6» أَنْ يَدْعُوَ لَهُ قَوْمًا سَمَّاهُمْ، وَكُلَّ مَنْ لَقِيتُ «7» حَتَّى امْتَلَأَ الْبَيْتُ وَالْحُجْرَةُ.. وَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ تَوْرًا «8» فِيهِ قَدْرُ مُدٍّ مِنْ تَمْرٍ جَعَلَ حَيْسًا «9» .. فَوَضَعَهُ قُدَّامَهُ وَغَمَسَ ثَلَاثَ أَصَابِعِهِ وجعل القوم
__________
(1) الفرق: مكيال يسع ثلاثة آصع بكيل الحجاز وقيل انه يسع اثنى عشر صاعا بصاع النبي صلّى الله عليه وسلم. وذلك ستة عشر رطلا.
(2) عس: بضم المهملة وتشديد السين المهملة وهو قدح كبير من خشب يروي الثلاثة والأربعة من اللبن.
(3) رواه الشيخان. واللفظ لمسلم.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) زينب بنت جحش بن رئاب الاسدية أم المؤمنين كانت زوجة زيد بن حارثة فطلقها وتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم وكان اسمها برة فسماها زينب توفيت سنة 20 هـ
(6) المعروف ان هذه القصة اتفقت في بنائه بصفية. وفي شرح مسلم للخفاجي أن الراوي ادخل قصة في قصة. وقال بعضهم في حديث الصحيح يحتمل انه اتفق الشيثان يعني الشاة والحبس.
(7) أي أمره أيضا أن يدعو كل من لقي.
(8) تورا: بمثناة فوقية وواو ساكنة وراء مهملة وهو اناء من صفر او حجارة كالاجانة او كالقدح الذي يشرب فيه.
(9) حيسا: بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية والسين المهملة وهو تمر خلط بسمن وأقط او دقيق.(1/566)
يَتَغَدَّوْنَ وَيَخْرُجُونَ.. وَبَقِيَ التَّوْرُ نَحْوًا مِمَّا كَانَ.. وَكَانَ الْقَوْمُ أَحَدًا أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ..
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ مِثْلِهَا إن القوم كانوا زهاء ثلاث مائة.. وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا.. وَقَالَ لِي: ارْفَعْ..
فَلَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رُفِعَتْ.
وَفِي حَدِيثِ «1» جَعْفَرِ «2» بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّ فَاطِمَةَ «4» طَبَخَتْ قِدْرًا لِغَدَائِهِمَا وَوَجَّهَتْ عَلِيًّا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَغَدَّى معهما.. فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صحفة صحفة..
ثُمَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِعَلِيٍّ ثُمَّ لَهَا.. ثُمَّ رَفَعَتِ الْقِدْرَ وَإِنَّهَا لَتَفِيضُ..
قالت: فأكلنا منا مَا شَاءَ اللَّهُ.. وَأَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «5» أن يزود أربع مائة رَاكِبٍ مِنْ أَحْمَسَ «6» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما هي
__________
(1) رواه ابن سعد منقطعا لان محمدا ووالده لم يدركا عليا فقول الحلبي رواية الباقر عن علي مرسلة فيه نوع مسامحة.
(2) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «412» رقم «2» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(6) أحس: بزنة أحمر بحاء وسين مهملتين بينهما ميم اسم قوم من العرب وهم بطن من حنيفة يقال لهم بنو حمس وهو من الحماسة وهي الشدة والصلابة ويقال لقريش الحمس لتصلبهم في دينهم في الجاهلية.(1/567)
إِلَّا أَصْوُعٌ قَالَ: اذْهَبْ.. فَذَهَبَ فَزَوَّدَهُمْ مِنْهُ.. وَكَانَ قَدْرَ الْفَصِيلِ «1» الرَّابِضِ مِنَ التَّمْرِ.. وَبَقِيَ بِحَالِهِ «2» .. مِنْ رِوَايَةِ دُكَيْنٍ الْأَحْمَسِيِّ.. وَمِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ «3» ..
وَمِثْلُهُ «4» مِنْ رِوَايَةِ النُّعْمَانِ «5» بْنِ مُقَرِّنٍ.. الخبر بعينه إلا أنه قال.. أربع مائة رَاكِبٍ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ «6» جَابِرٍ «7» فِي دَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ كَانَ بَذَلَ لِغُرَمَاءِ أَبِيهِ أَصْلَ مَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلُوهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ثَمَرِهَا سَنَتَيْنِ كَفَافُ دَيْنِهِمْ.. فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أن أمره بجذّها «8» وَجَعْلِهَا بَيَادِرَ فِي أُصُولِهَا.. فَمَشَى فِيهَا وَدَعَا، فَأَوْفَى مِنْهُ جَابِرٌ غُرَمَاءَ أَبِيهِ وَفَضَلَ مِثْلُ مَا كَانُوا يَجِدُونَ كُلَّ سَنَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ.. قَالَ: وَكَانَ الْغُرَمَاءُ يَهُودَ فعجبوا من ذلك.
__________
(1) الفصيا ولد الناقة الصغير.
(2) رواه أبو داود.
(3) تقدمت ترجمته في ص «247» رقم «7» .
(4) أخرجه احمد والبيهقي بسند صحيح.
(5) هو النعمان بن مقرن بن عائذ المزني أبو عمرو صحابي فاتح، كان صاحب لواء مزينة يوم فتح مكة، سكن البصرة ثم تحول الى الكوفة، حارب الهمذاني وهزمه ووجهه عمر غازيا الى أصفهان ففتحها ثم الى نهاوند فاستشهد فيها سنة 21 هـ ولما بلغ عمر مقتله دخل المسجد ونعاه الى الناس على المنبر ثم وضع يده على رأسه يبكي.
(6) رواه البخاري.
(7) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(8) بجدها: بفتح جيم وذال معجمة ويجوز اهمالها وكلاهما بمعنى قطع الثمار وجمعها(1/568)
وَقَالَ «1» أَبُو هُرَيْرَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَصَابَ النَّاسَ مَخْمَصَةٌ..
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْتُ: شَيْءٌ مِنَ التَّمْرِ فِي الْمِزْوَدِ «3» .. قَالَ: فَأْتِنِي بِهِ.. فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ قَبْضَةً فَبَسَطَهَا وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ.. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ عَشَرَةً.. فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا..
ثُمَّ عَشَرَةً كَذَلِكَ.. حَتَّى أَطْعَمَ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ.. وَشَبِعُوا.. قَالَ:
خُذْ مَا جِئْتَ بِهِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ وَاقْبِضْ مِنْهُ وَلَا تَكُبَّهُ.. فَقَبَضْتُ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا جِئْتُ بِهِ.. فَأَكَلْتُ مِنْهُ وَأَطْعَمْتُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي «4» بَكْرٍ وَعُمَرَ «5» إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ»
فَانْتُهِبَ مِنِّي فَذَهَبَ وَفِي «7» رِوَايَةٍ فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. وَذُكِرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَإِنَّ التَّمْرَ كَانَ بِضْعَ عَشْرَةَ تَمْرَةً. وَمِنْهُ أَيْضًا حَدِيثُ «8» أَبِي هريرة حين أصابه الجوع
__________
(1) رواه البيهقي عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) المزود: بكسر الميم وهو وعاء الزاد.
(4) تقدمت ترجمته في ص «159» رقم «6» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(6) عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية من قريش أمير المؤمنين ذو النورين. ثالث الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ولد بمكة وأسلم قديما. كان كريما جوادا كثير الحياء تم جمع القرآن في عهده واكثر من الفتح قتل ظلما صبيحة عيد الأضحى وهو يقرأ القرآن في بيته بالمدينة سنة 35 هـ.
(7) حسنه الترمذي.
(8) رواه البخاري.(1/569)
فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ قَدْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ أَهْلَ الصُّفَّةِ.. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا اللَّبَنُ فِيهِمْ كُنْتُ أَحَقُّ أَنْ أُصِيبَ مِنْهُ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَدَعَوْتُهُمْ.. وَذَكَرَ أَمْرَ النبي صلّى الله عليه وسلم له أَنْ يَسْقِيَهُمْ، فَجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْآخَرُ حَتَّى رُوِيَ جَمِيعُهُمْ قَالَ- فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَدَحَ.. وَقَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ.. اقْعُدْ فَاشْرَبْ.. فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ: اشْرَبْ.. وَمَا زَالَ يَقُولُهَا وَأَشْرَبُ حَتَّى قُلْتُ.. لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا.. فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ «1» ..
وَفِي حَدِيثِ «2» خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى «3» أَنَّهُ أَجَزَرَ «4» النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً.. وَكَانَ عِيَالُ خَالِدٍ كَثِيرًا.. يَذْبَحُ الشَّاةَ فَلَا تُبِدُّ «5» عِيَالَهُ عَظْمًا عَظْمًا.. وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل من هذه الشاة.. وجعل
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي قتادة. وغيرهما عن غيره.
(2) قال الدلجي: حديثه هذا رواه البيهقي عنه.
(3) هو أبو خناس وهو خزاعي وله صحبة وروى عنه ابن مسعود وهو ابن أخي خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها هاجر الى الحبشة في المرة الثانية فمات في الطريق.
(4) أجزر هنا أعطى.
(5) تبد: بفتح المثناة الفوقية وضمها وضم الموحدة وكسرها وفاعله ضمير الشاة يقال يده بموحدة ودال مهملة مشددة يبده اذا فرقه. والمقصود هنا أنهم كثرة يعني أن الشاة اذا فرقت عليهم لا تكفيهم.(1/570)
فَضْلَتَهَا فِي دَلْوِ خَالِدٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ.. فَنَثَرَ ذَلِكَ لِعِيَالِهِ.. فَأَكَلُوا وَأَفْضَلُوا.. ذَكَرَ خَبَرَهُ الدُّولَابِيُّ «1» ..
وَفِي حَدِيثِ الْآجُرِّيِّ «2» فِي إِنْكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ «3» فَاطِمَةَ «4» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِقَصْعَةٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْدَادٍ.. أَوْ خَمْسَةٍ وَيَذْبَحُ جَزُورًا لِوَلِيمَتِهَا.. قَالَ.. فَأَتَيْتُهُ بِذَلِكَ.. فَطَعَنَ فِي رَأْسِهَا.. ثُمَّ أَدْخَلَ النَّاسَ رُفْقَةً «5» رُفْقَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا حَتَّى فَرَغُوا.. وَبَقِيَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ.. فَبَرَّكَ فيها وأمر بحملها إلى إِلَى أَزْوَاجِهِ.. وَقَالَ: «كُلْنَ وَأَطْعِمْنَ مَنْ غَشِيَكُنَّ» .
وفي «6» حديث «7» أنس رضي الله عنه تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ «8» حَيْسًا فَجَعَلَتْهُ فِي تور.. فذهبت به إلى
__________
(1) هو الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الوراق المحدث الجليل صاحب التصانيف روى عنه الكبار كالطبراني وأبو حاتم وتوفي بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة سنة عشر وثلاث مائة.
(2) محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الآجري فقيه شافعي محدث ولد ببغداد ثم انتقل الى مكة فتنسك وتوفي فيها سنة 360 هـ.
(3) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «412» رقم «2» .
(5) رفقة: بضم الراء وكسرها بمعنى الجماعة المترافقين المتصاحبين.
(6) رواه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(8) ام سليم بنت ملحات بن خالد الأنصارية أم أنس بن مالك خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية فولدت أنسا في الجاهلية واسلمت مع السابقين-(1/571)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال: ضَعْهُ وَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا.. وَمَنْ لَقِيتَ فَدَعَوْتُهُمْ.. وَلَمْ أَدَعْ أَحَدًا لَقِيتُهُ إِلَّا دَعَوْتُهُ.. وذكر أنهم كانوا زهاء ثلاث مائة.. حتى الصُّفَّةَ وَالْحُجْرَةَ.. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَلَّقُوا عَشْرَةً عَشْرَةً. وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَدَعَا فِيهِ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.. فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا كُلُّهُمْ.. فَقَالَ لِي ارْفَعْ.. فَمَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رُفِعَتْ وَأَكْثَرُ أَحَادِيثِ هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحِيحِ.. وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ هَذَا الْفَصْلِ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ.. رَوَاهُ عَنْهُمْ أَضْعَافُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ ثُمَّ مِنْ لَا يَنْعَدُّ بَعْدَهُمْ.. وَأَكْثَرُهَا فِي قِصَصٍ مَشْهُورَةٍ ومجامع مشهورة.. وَلَا يُمْكِنُ التَّحَدُّثُ عَنْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ.. وَلَا يَسْكُتُ الْحَاضِرُ لَهَا عَلَى مَا أَنْكَرَ مِنْهَا.
__________
- الى الاسلام من الأنصار فغضب مالك وخرج الى الشام فمات بها فتزوجت بعده ابا طلحة، اتخذت في حنين خنجرا لنبقر به بطن من يقرب النبي صلّى الله عليه وسلم من المشركين وقدمت ابنها أنسا لخدمة النبي صلّى الله عليه وسلم وعمره عشر سنين.(1/572)
الفصل السّادس عشر في كلام الشجر وانقيادها في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته صلّى الله عليه وسلم
عَنِ «1» ابْنِ عُمَرَ «2» قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلم في سفر. فَدَنَا مِنْهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ.. أَيْنَ تُرِيدُ؟ .. قَالَ: إِلَى أَهْلِي..
قَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ؟ .. قَالَ: وَمَا هُوَ؟؟. قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ..
قَالَ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: هذه الشجرة السّمرة «3» .
وهي بشاطيء الوادي.. فأقبلت تخدّ «4» الأرض حتى قامت
__________
(1) رواه الدارمي والبيهقي والبزار.
(2) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(3) السمرة: بفتح السين المهملة وضم الميم وراء مهملة مفتوحة وهي شجرة عظيمة ذات شوكة من الطلح.
(4) تخد: بمثناة فوقيه وخاء معجمة مضمومة ودال مهملة مشددة أي تشقها ومنه الاخدود(1/573)
بين يديه.. فاستشهدها ثلاثا فشهدت أَنَّهُ كَمَا قَالَ.. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا.
وَعَنْ «1» بُرَيْدَةَ «2» سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً فَقَالَ لَهُ: قُلْ لِتِلْكَ الشَّجَرَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكِ قَالَ: فَمَالَتِ الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا وَبَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا فَتَقَطَّعَتْ عُرُوقُهَا ثُمَّ جَاءَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ تَجُرُّ عُرُوقَهَا مُغْبَرَّةً حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.. قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَنْبَتِهَا.. فَرَجَعَتْ فَدَلَّتْ عُرُوقَهَا فَاسْتَوَتْ.. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ ائْذَنْ لِي أَسْجُدْ لَكَ.. قَالَ: لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا.. قَالَ فَأْذَنْ لِي أَنْ أُقَبِّلَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ.. فأذن له.
وفي الصحيح «3» حَدِيثِ جَابِرِ «4» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّوِيلِ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حاجة فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ.. فَإِذَا بِشَجَرَتَيْنِ
__________
(1) رواه البزار عنه.
(2) أبو عبد الله بن الحقيب وهو صحابي أسلم قبلى بدر وشهد الحديبة ومات. مرو بخراسان غازيا في أيام معاوية أو يزيد سنة 263 هـ.
(3) صحيح مسلم
(4) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .(1/574)
بشاطيء الْوَادِي. فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى إحداها..
فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ.. فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ «1» الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ.. وَذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ- حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصِفِ «2» بَيْنَهُمَا قَالَ التئما عليّ بإذن لله فَالْتَأَمَتَا..
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «3» فَقَالَ: يَا جَابِرُ قُلْ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ يَقُولُ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحَقِي بِصَاحِبَتِكِ حَتَّى أجلس خلفكما فزحفت حَتَّى لَحِقَتْ بِصَاحِبَتِهَا، فَجَلَسَ خَلْفَهُمَا، فَخَرَجْتُ أَحْضِرُ «4» وجلست أحدث نفسي. فالتفت فإذا رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا وَالشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْفَةً فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا يَمِينًا وَشِمَالًا. وروي «5» أسامه «6» بن زيد
__________
(1) المخشوش: بخاء وشينين معجمئين الذي جعل في أنفه عود يربط علية حبل ويشد به الزمام لينقاد.
(2) المنصف: بفتح الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة أي حل وسط المكان.
(3) لمسلم وغيره.
(4) أحضر: بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة والراء المهملة أي أسرع في العدو من الحضر بالضم والسكون وهو العدو. وانما فعل ذلك حتى لا يتأذى من قربه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(5) رواه البيهقي وأبو يعلى بسند حسن عنه.
(6) تقدمت ترجمته في ص «412» رقم «3» .(1/575)
نحوه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في بعض مغازيه هل؟ - يعني مَكَانًا لِحَاجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ الْوَادِيَ مَا فِيهِ مَوْضِعٌ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: هَلْ تَرَى مِنْ نَخْلٍ أَوْ حِجَارَةٍ؟. قُلْتُ: أَرَى نَخَلَاتٍ مُتَقَارِبَاتٍ. قَالَ: انْطَلِقْ.. وَقُلْ لَهُنَّ.. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَأْتِينَ لِمَخْرَجِ رَسُولِ صلّى الله عليه وسلم.. وقل للجحا مثل ذلك. فقلت ذلك لهن. فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّخَلَاتِ يَتَقَارَبْنَ حَتَّى اجْتَمَعْنَ، وَالْحِجَارَةَ يَتَعَاقَدْنَ حَتَّى صِرْنَ رُكَامًا خَلْفَهُنَّ.. فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ لِي: قُلْ لَهُنَّ يفترقن..
فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَرَأَيْتُهُنَّ وَالْحِجَارَةَ يَفْتَرِقْنَ حَتَّى عُدْنَ إلى مواضعهن وقال «1» يعلى «2» بن سيّابة كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. وَذَكَرَ فَأَمَرَ وَدِيَّتَيْنِ «3» فَانْضَمَّتَا..
وَفِي رِوَايَةٍ أَشَاءَتَيْنِ «4» .. وعن غيلان «5» بن سلمة الثقفي مثله
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي والطبراني بسند صحيح عنه.
(2) يعلى بن مرة والده اسمه مرة ووالدته اسمها سيابة وهذان المذكوران واحدا لا اثنان
(3) وديتين: تثنية ودية بفتح الواو وكسر الدال المهملة والمثناة المشددة قبل الهاء وهي صغار النخل التي تخرج من أصول كبارها فتنقل وتغرس وتسمى فسيلا وفراخا.
(4) أشاءتين: بفتح الهمزة وكسرها في بعض النسخ خطأ وشين معجمة والف ممدودة وهمزة وتاء تأنيث مثنى أشاءة وهي من صغار النخل أيضا ولكنها أكبر من الودية
(5) غيلان بن سلمة الثقفي أسلم بعد الطائف وكان شاعرا وتوفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب.(1/576)
فِي شَجَرَتَيْنِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «1» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ فِي غَزَاةِ حُنَيْنٍ
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ «2» وَهُوَ ابْنُ سيابة أَيْضًا وَذَكَرَ أَشْيَاءَ رَآهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّ طَلْحَةَ أَوْ سَمُرَةَ جَاءَتْ فَأَطَافَتْ بِهِ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا اسْتَأْذَنَتْ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيَّ. وَفِي حَدِيثِ «3» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا لَهُ شَجَرَةٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ «4» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «5» أَنَّ الْجِنَّ قَالُوا: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ .. قَالَ: هَذِهِ الشَّجَرَةُ.. تَعَالِي يَا شَجَرَةُ..
فَجَاءَتْ تَجُرُّ عُرُوقَهَا.. لَهَا قَعَاقِعُ «6» .. وَذَكَرَ مِثْلَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَوْ نَحْوَهُ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: فَهَذَا ابن عمر «7» وبريدة «8» وجابر «9»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2»
(2) تقدمت ترجمته آنفا.
(3) في الصحيحين.
(4) تقدمت ترجمته في ص «70» رقم «1» .
(5) الذي رواه الشيخان وقد نقل الحافظ العلاء عن أبي زرعة أنه مرسل ولا مضرة فانه عند الجمهور حجه.
(6) قعاقع: أي صوت قوي كصوت الرحا وهو جمع قعقعة وهي حكاية صوت الحركة من الاجرام الصلبة.
(7) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(8) بريدة بن الحصيب بن عبد الله أسلم حين مر به النبي صلّى الله عليه وسلم مهاجرا وفي الصحيحين أنه غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة تحول الى مرو فمات فيها سنة 63 هـ.
(9) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .(1/577)
وَابْنُ مَسْعُودٍ «1» وَيَعْلَى «2» بْنُ مُرَّةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ «3» وَأَنَسُ «4» بْنُ مَالِكٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «5» وَابْنُ عَبَّاسٍ «6» وَغَيْرُهُمْ.. قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هذه القصة نفسها أو معناها.. ورواها عَنْهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ أَضْعَافُهُمْ، فَصَارَتْ فِي انْتِشَارِهَا مِنَ الْقُوَّةِ حَيْثُ هِيَ.
وَذَكَرَ ابْنُ فَوْرَكٍ «7» : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ لَيْلًا وَهُوَ وَسِنٌ «8» ، فَاعْتَرَضَتْهُ سِدْرَةٌ فَانْفَرَجَتْ لَهُ نِصْفَيْنِ حَتَّى جَازَ بَيْنَهُمَا..
وَبَقِيَتْ على ساقين إلى وقتنا.. وَهِيَ هُنَاكَ مَعْرُوفَةٌ مُعَظَّمَةٌ..
وَمِنْ «9» ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ حَزِينًا أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ نَعَمْ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي فَقَالَ: أدع تلك الشجرة.. فجاءت تمشي حتى
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «576» رقم «2» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «412» رقم «2» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ص (54) رقم (4) .
(6) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(7) تقدمت ترجمته في ص (119) رقم (4) .
(8) وسن: بزنة حذر والوسن قريب من النعاس وفي فقه اللغة في مراتب النوم أوله النعاس ثم الوسن ثم الترنيق ثم الكرى والغمض ثم التعفيف ثم الاغضاء ثم التهريم ثم الضرار ثم التهجاج وهو الهجوج. يعني أنه صلّى الله عليه وسلم نعس وهو سائر على دابته بحيث لا يرى ما في طريقه.
(9) رواه ابن ماجه والدارمي والبيهقي عنه.(1/578)
قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ.. فَعَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا.
وَعَنْ «1» عَلِيٍّ نَحْوَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا جِبْرِيلَ. قَالَ: اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَةً لَا أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بَعْدَهَا فَدَعَا شَجَرَةً وَذَكَرَ مِثْلَهُ..
- وَحُزْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ. وَطَلَبُهُ الْآيَةَ لَهُمْ لَا لَهُ.
وذكر «2» ابن إسحق «3» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُكَانَةَ «4» مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي شَجَرَةٍ دَعَاهَا فَأَتَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ارْجِعِي فَرَجَعَتْ.. وَعَنِ «5» الْحَسَنِ «6» : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم شكى إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّهُمْ يُخَوِّفُونَهُ، وَسَأَلَهُ آية يعلم بها أن لا مخافة عليه، فأوحي إليه:
أن ائْتِ وَادِيَ كَذَا فِيهِ شَجَرَةٌ، فَادْعُ غُصْنًا مِنْهَا يَأْتِكَ، فَفَعَلَ فَجَاءَ يَخُطُّ الْأَرْضَ خَطًّا حَتَّى انْتَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَبَسَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ كَمَا جِئْتَ فَرَجَعَ.. فَقَالَ: يَا رَبِّ عَلِمْتُ أَنْ لَا مخافة علي.
__________
(1) قال السيوطي لم أجده عن علي وانما هو عن جابر رضي الله تعالى عنه.
(2) مما رواه في سيره ورواه أبو نعيم والبيهقي عن أبي أمامة بسند من طريقين مرفوعا ومرسلا.
(3) تقدمت ترجمته في ص (73) رقم (7) .
(4) ركانه بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المكي الصحابي الذي أسلم عام الفتح وتوفي بالمدينة في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة اثنين وأربعين وكان شديد البأس قويا حسيما معروفا بالقوة في المصارعة بحيث إنه لم يصرعه أحد قط ولم يمس جنبه الأرض مقلوبا قط وقد صح انه صلّى الله عليه وسلم صارعه فصرعه.
(5) في حديث رواه البيهقي مرسلا.
(6) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «2» .(1/579)
وَنَحْوٌ «1» مِنْهُ عَنْ عُمَرَ «2» وَقَالَ فِيهِ: أَرِنِي آية لا أبالي من كذبتي بَعْدَهَا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَعَنِ «3» ابْنِ عَبَّاسٍ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: «أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ «5» مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ ... قال: نعم.. فدعاه فجعل ينقز «6» حَتَّى أَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ.. فَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ.. خرّجه الترمذي وقال:
هذا حديث صحيح «7» .
__________
(1) أي من مروي الحسن كما رواه البزار وأبو يعلى والبيهقي بسند حسن.
(2) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(3) رواه البخاري في تاريخه والدارمي والبيهقي مسندا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(5) العذق: بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة والقاف وهو العرجون من النخلة بما فيه من الشماريخ والعرجون عود العذق الذي تركبه الشماريخ وهي العيدان التي عليها البسر والعذق بالفتح النخلة كلها.
(6) ينقز: بفتح المثناة التحتية وسكون النون وضم القاف وكسرها وآخره زاي معجمة ومعناه يثب صعدا.
(7) وقع في أصل الدلجي وغيره حسن صحيح فقيا جمع بينهما لروايته من طريقين إحداهما نقتضي صحته والأخرى حسنة او حسن لذاته صحيح لغيره باعتبار تعاضد وآية، أو حسن لغة صحيح حجة.(1/580)
الفصل السّابع عشر حنين الجذع في قصة حنين الجذع له صلّى الله عليه وسلم
وَيُعَضِّدُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ حَدِيثُ أَنِينِ الْجِذْعِ.. وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَشْهُورٌ مُنْتَشِرٌ.. وَالْخَبَرُ بِهِ مُتَوَاتِرٌ قَدْ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ «1» ..
وَرَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ: أُبَيُّ «2» بْنُ كَعْبٍ «3» وَجَابِرُ «4» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «5» وَأَنَسُ «6» بْنُ مَالِكٍ «7» وَعَبْدُ «8» الله بن عمر «9»
__________
(1) أي رواه مسندا أصحاب الكتب الستة الصحيحة كالبخاري ومسلم وابن حبان وابن خزيمة وما وصل الى مثلهم بطرق متعددة صحيحة يكون متواترا حقيقة لإجماع من بعدهم على صحتها كما قاله ابن حجر ردا على ابن الصلاح في قوله إن التواتر لا يكاد يوجد في شرح النخبة والمراد بأهل الصحيح من التزم أن يورد في كنابه الأحاديث الصحيحة عنده.
(2) رواه عنه الشافعي في مسنده وابن ماجه والدارمي.
(3) أبي بن كعب بن قيس الأنصاري البخاري سيد القراء من أصحاب العقبة الثانية شهد بدرا والمشاهد كلها وكان عمر يسميه سيد المسلمين أخرج الأئمة أحاديثه في صحاحهم وهو أول من كتب للنبي صلّى الله عليه وسلم مات سنة 30 هـ.
(4) رواه عنه البخاري.
(5) تقدمت ترجمته في ص «145» رقم «1»
(6) رواه عنه الترمذي وصححه.
(7) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1»
(8) رواه عنه البخاري.
(9) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .(1/581)
وَعَبْدُ «1» اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ «2» وَسَهْلُ «3» بْنُ سَعْدٍ «4» وَأَبُو «5» سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «6» وَبُرَيْدَةُ «7» وَأُمُّ «8» سَلَمَةَ «9» ، وَالْمُطَّلِبُ «10» بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ «11» كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ بِمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ «12» : وَحَدِيثُ أَنَسٍ صَحِيحٌ.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعِ نَخْلٍ..
فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا.. فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِذَلِكَ الجذع صوتا كصوت العشار «13» » .
__________
(1) رواه عنه أحمد في مسنده بإسناد صحيح على شرط مسلم والدارمي والبيهقي.
(2) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(3) رواه عنه الشيخان.
(4) تقدمت ترجمته في ص (231) رقم (5) .
(5) رواه عنه الدارمي.
(6) تقدمت ترجمته في ص (63) رقم (1) .
(7) تقدمت ترجمته في ص (577) رقم (8) .
(8) رواه عنها البيهقي.
(9) تقدمت ترجمتها في ص (286) رقم (10)
(10) رواه عنه أحمد والزبير بن بكار.
(11) المطلب بن أبي وداعة الحرث بن صبيرة بن سعيد القرشي السهمي كان لدة النبي صلّى الله عليه وسلم وأسر يوم بدر فقال النبي صلّى الله عليه وسلم إن له ابنا كيسا تاجرا ذا مال كأنكم به قد جاء في فدء أبيه فكان كذلك.
(12) تقدمت ترجمته في ص (181) رقم (4) .
(13) العشار: بكسر العين المهملة وشين معجمة والف وراء مهملة جمع عشراء كنفساء وهي الناقة التي أتى عليها الفحل عشرة أهشر وزال عنها اسم المخاض ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وبعد وضعها أيضا والمراد خوارها عند وضعها أو عقبه.(1/582)
وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ «حَتَّى ارْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِخُوَارِهِ «1» » .
وَفِي رِوَايَةِ سَهْلٍ «وَكَثُرَ بُكَاءُ النَّاسِ لِمَا رَأَوْا بِهِ» .
وَفِي رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ وَأُبَيٍّ «حَتَّى تصدّع وانشق حتى جاءه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَسَكَتَ. زَادَ غَيْرُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فقد من الذكر» . وذكر غَيْرُهُ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ..
لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحَزُّنًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُفِنَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ» . كَذَا فِي حَدِيثِ المطلب وسهل بن سعد واسحق «2» عَنْ أَنَسٍ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ سَهْلٍ: «فَدُفِنَتْ تَحْتَ مِنْبَرِهِ.. أَوْ جُعِلَتْ فِي السَّقْفِ، وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ «فَكَانَ إِذَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَيْهِ فَلَمَّا هُدِمَ الْمَسْجِدُ أَخَذَهُ أُبَيٌّ فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أن أكلته الأرض «3»
__________
(1) خواره: بضم الخاء المعجمة وفتح الواو بعدها الف وراء مهملة بوزن فعال بضم الفاء وهو بناء مطرد في أسماء الاصوات والخوار في الأصل يختص بصياح البقر ثم توسعوا فيه على أصوات جميع البهائم.
(2) اسحق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، أخرج له الستة روى عن أبيه وغيره وهو تابعي حجة ثقة أخرج له الأئمة الستة توفي سنة 132 هـ.
(3) وقع في رواية (الأرضة) بفتحات وهي دويبة صغيرة تأكل الخشب وغيره من الثياب والكتب، وقال الامام المزني: إن هذه الرواية هي المشهورة عند المحدثين وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى صحيح والأرض فيه إما بمعناها المشهور لأنها تبلي ما يدفن فيها فاستعير له الاكل أو هو بتقدير محذوف أي «دابة الأرض» . وهي تلك المتقدمة بعينها أو مصدر أرض يأرض أرضا إذا أكلته الأرضة. فليس في كلام المصنف ما يعترض به عليه كما توهم.(1/583)
وعاد رفاتا «1» » .. وذكر الإسفرائني «2» : «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إلى نفسه فجاءة يَخْرِقُ «3» الْأَرْضَ فَالْتَزَمَهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ فَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ» .
وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: فَقَالَ: يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنْ شِئْتَ أَرُدُّكَ إِلَى الْحَائِطِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ تَنْبُتُ لَكَ عُرُوقُكَ وَيُكْمَلُ خَلْقُكَ، وَيُجَدَّدُ لَكَ خُوصٌ «4» وَثَمَرَةٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَغَرِسُكَ فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مِنْ ثَمَرِكَ. ثُمَّ أَصْغَى لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ:
فقال: بل تَغْرِسُنِي فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُ مِنِّي أَوْلِيَاءُ اللَّهِ.. وَأَكُونُ فِي مَكَانٍ لَا أَبْلَى فِيهِ.. فَسَمِعَهُ مَنْ يَلِيهِ.. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ فَعَلْتُ..
ثُمَّ قَالَ: «اخْتَارَ دَارَ الْبَقَاءِ عَلَى دَارِ الْفَنَاءِ» .
فَكَانَ الْحَسَنُ «5» إِذَا حدث بهذا بكى.. وقال: «يا عباد
__________
(1) عاد رفاقا: عاد هنا بمعنى صار لا بمعنى رجع لأمر كان عليه وهو أحد معنييه كما بين في كتب اللغة والرفات بوزن غراب براء مهملة وفاء مثناة فوقية وهو ما تكسر وتفرق.
(2) ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن مهران أبو اسحاق عالم بالفقه والأصول كان يلقب بركن الدين نشأ في اسفرايين ثم خرج الى نيسابور بنيت له فيها مدرسة عظيمة فدرس فيها ورحل الى خراسان وبعض أنحاء العراق واشتهر وكان ثقة في رواية الحديث وله مناظرات مع المعتزلة مات في نيسابور وفن في اسفرايين سنة 418 هـ.
(3) يخرق: أي يشق بمشية.
(4) خوص: بضم الخاء المعجمة وواو ساكنة وصاد مهملة واحده خوصة وهي ورق النخل.
(5) تقدمت ترجمته في ص «6» رقم «8» .(1/584)
اللَّهِ.. الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَيْهِ لِمَكَانِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَى لِقَائِهِ» ..
رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ «1» حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ «2» اللَّهِ- وَيُقَالُ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ- وَأَيْمَنُ «3» وَأَبُو نَضْرَةَ «4» - وَابْنُ الْمُسَيَّبِ «5» - وَسَعِيدُ «6» بْنُ أَبِي كَرْبٍ- وَكُرَيْبٌ «7» - وَأَبُو صالح «8» .
وراه عن أنس بن مالك «9» الحسن- وثابت «10» - واسحق «11» بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «12» نافع «13» وأبو حية «14» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(2) حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك ذكره ابن حبان في الثقات وقال أبو حاتم لا يثبت له السماع الا من جده.
(3) أيمن الحبشي مولى ابن أبي عمرة المخزومي وثقه أبو زرعة وأخرج له البخاري
(4) المنذر بن مالك العبدي النفري له رواية عن ابن عباس وغيره وأخرج له أصحاب السنن وكان فصيحا ثقة توفي سنة تسعة ومائة.
(5) تقدمت ترجمته في ص «252» رقم «3» .
(6) سعيد بن أبي كرب وفي تهذيب التهذيب ابن أبي كريب تابعي وثقه أبو زرعة وابن حبان وقال ابن المديني مجهول.
(7) كريب بن أبي مسلم مولى بني هاشم تابعي وثقه ابن سعد وابن معين والنسائي وابن حبان توفي في المدينة سنة 98 هـ
(8) ذكوان السمان تقدمت ترجمته في ص «432» رقم «4» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1»
(10) تقدمت ترجمته في ص «347» رقم «1»
(11) تقدمت ترجمته في ص «583» رقم «2»
(12) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1»
(13) نافع هو مولى عبد الله بن عمرو وشيخ الامام مالك وهو الامام الثقة المشهور أخرج له السنن توفي سنة 117 هـ.
(14) حبي الكلبي ابو حية والد أبي جنان كوفي قال ابو زرعة محله الصدق تابعي روى عن ابن عمرو وسعد بن ابي وقاص.(1/585)
وَرَوَاهُ أَبُو نَضْرَةَ وَأَبُو الْوَدَّاكِ «1» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «2» وَعَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ «3» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «4» وَأَبُو حَازِمٍ «5» ، وَعَبَّاسُ «6» بْنُ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «7» وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ «8» عَنِ الْمُطَّلِبِ «9» وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ «10» عَنْ أَبِيهِ «11» وَالطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيٍّ «12» عَنْ أَبِيهِ «13» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: فَهَذَا حَدِيثٌ كَمَا تراه خرّجه
__________
(1) أبو الوداك جبر بن توف البسطاني الكوفي التابعي وثقة ابن معين ورواه ابن حبان في الثقات.
(2) تقدمت ترجمته في ص (63) رقم (1) .
(3) عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم ابو عمرو المكي تابعي وثقه ابو داود وابو زرعة وابو حاتم وابن حبان مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق.
(4) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(5) مسلمة بن وضاء المخزومي ابو حازم عالم المدينة وقاضيها كان زاهدا عابدا توفي سنة 140 هـ.
(6) عباس بن سهيل بن سعد الساعدي أخرج له اصحاب السنن زاد عمره على التسعين توفي حوالي سنة 114 هـ.
(7) تقدمت ترجمته في ص (231) رقم (5) .
(8) كثير بن زيد الاسلمي مولى بني سهم كثير الحديث وفي حديثه لين وضعف توفي في أواخر خلافه ابي جعفر حوالي سنة 158 هـ.
(9) تقدمت ترجمته في ص (582) رقم (11) .
(10) تقدمت ترجمته في ص (405) رقم (5) .
(11) تقدمت ترجمته في ص (577) رقم (8) .
(12) الطفيل بن أبي بن كعب الانصاري الخزرجي ولد على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وثقه ابن سعد والعجلي وابن حبان.
(13) تقدمت ترجمته في ص (581) رقم (3) .(1/586)
أهل الصحة.. ورواه من الصحابة من ذكرنا وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ ضِعْفُهُمْ إِلَى مَنْ لَمْ نَذَكُرْهُ.. وَبِدُونِ هَذَا الْعَدَدِ يَقَعُ الْعِلْمُ لِمَنِ اعْتَنَى بِهَذَا الْبَابِ..
وَاللَّهُ الْمُثَبِّتُ عَلَى الصَّوَابِ.(1/587)
الفصل الثامن عشر في سائر الجمادات ومثل هذا في سائر الجمادات
عن «1» ابن مسعود «2» «لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ» وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَهُ» «3» .
وَقَالَ أَنَسٌ «4» : «أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفًّا مِنْ حَصَى فَسَبَّحْنَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا التَّسْبِيحَ، ثُمَّ صَبَّهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَبَّحْنَ ثُمَّ فِي أَيْدِينَا فما سبحن.
__________
(1) رواه البخاري وأخرجه الترمذي في المناقب وقال حسن صحيح.
(2) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(3) أي في رواية الترمذي لا في رواية البخاري.
(4) أخرجه ابن عساكر في تاريخه تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ص (156) رقم (6) .(1/588)
وَرَوَى «1» مِثْلَهُ أَبُو ذَرٍّ «2» وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ «سَبَّحْنَ فِي كَفِّ عُمَرَ «3» وَعُثْمَانَ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» وَقَالَ «5» عَلِيٌّ «6» : «كُنَّا بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ نواحيها فما اسْتَقْبَلَهُ شَجَرَةٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا قَالَ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» .
وَعَنْ «7» جَابِرِ «8» بْنِ سَمُرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ» قِيلَ: «إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ» .
وَعَنْ «9» عَائِشَةَ «10» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «لَمَّا اسْتَقْبَلَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ جَعَلْتُ لَا أَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» .
وَعَنْ «11» جَابِرِ «12» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِحَجَرٍ
__________
(1) رواه الطبراني والبيهقي والبزار.
(2) تقدمت ترجمته في ص (285) رقم (1) .
(3) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «569» رقم «6» .
(5) رواه الدارمي والترمذي بسند حسن.
(6) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(7) رواه مسلم.
(8) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «8» .
(9) في حديث صحيح رواه البزار في سنده.
(10) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .
(11) رواه البيهقي.
(12) تقدمت ترجمته في ص (154) رقم (1) .(1/589)
وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سَجَدَ «1» لَهُ» . وَفِي حَدِيثِ «2» العباس «3» : «إذ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى بَنِيهِ بِمُلَاءَةٍ «4» وَدَعَا لَهُمْ بِالسَّتْرِ مِنَ النَّارِ كَسَتْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمُلَاءَتِهِ فَأَمَّنَتْ أُسْكُفَّةُ «5» الْبَابِ، وَحَوَائِطُ الْبَيْتِ آمِينَ آمِينَ» وَعَنْ «6» جَعْفَرِ «7» بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «8» :
«مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِطَبَقٍ فِيهِ رُمَّانٌ وَعِنَبٌ.. فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَّحَ» .. وَعَنْ «9» أَنَسٍ «10» : «صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ «11» وَعُمَرُ «12» وَعُثْمَانُ أحدا فرجف بهم.. فقال:
__________
(1) أي انخفض حتى حس الأرض على هيئة السجود تواضعا له صلّى الله عليه وسلم وتعظيما له وتكريما.
(2) رواه البيهقي.
(3) تقدمت ترجمته في ص (181) رقم (1) .
(4) ملاءة: بميم مضمومة ولام وهمزة ممدودة وهاء وهي الإزار والملحفة.
(5) أسكفة: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الكاف وفاء مشددة مفتوحة وهاء وهي القلبه وما يعلوه من الداخل من الباب.
(6) قال السيوطي لم اجد هذا في كتب الحديث يعني المشهورة. وقال الدلجي لم أدر من رواه وقال القسطلاني في المواهب اللدنية ذكره القاضي عياضي في الشفاء ونقله عنه عبد الحافظ أبو الفضل في فتح الباري وقال ملا على القاري يكفي أنه رواه المصنف وهو من أكابر المحدثين ولولا أن الحديث له أصل لما ذكره.
(7) تقدمت ترجمته في ص (55) رقم (6) .
(8) تقدمت ترجمته في ص (356) رقم (1) .
(9) رواه أحمد البخاري والترمذي وابن ماجه.
(10) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(11) تقدمت ترجمته في ص (156) رقم (6) .
(12) تقدمت ترجمته في ص (113) رقم (4) .(1/590)
«اثْبُتْ أُحُدُ.. فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ» .
وَمِثْلُهُ «1» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «2» : «فِي حِرَاءٍ- وَزَادَ- معه وعلي «3» وَطَلْحَةُ «4» وَالزُّبَيْرُ «5» وَقَالَ: «فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ وَالْخَبَرُ «6» فِي حِرَاءٍ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: «وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَا فِيهِمْ وَزَادَ- عَبْدَ الرَّحْمَنِ «7» وَسَعْدًا «8» قَالَ- وَنَسِيتُ الِاثْنَيْنِ..
وَفِي حَدِيثِ «9» سَعِيدِ «10» بْنِ زَيْدٍ أيضا مثله وذكر عشرة وزاد نفسه وقد روي: أنّه حيز طلبته قريش.. قال له ثبير «11» : اهبط
__________
(1) رواه مسلم.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(4) طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي أبو محمد صحابي من العشرة المبشرة والثمانية السابقين الى الاسلام والستة أصحاب الشورى.
(5) الزبير بن العوام بن خويلد الاسدي القرشي ابو عبد الله الصحابي الشجاع أحد العشرة المبشرين بالجنة وأول من سل سيفه في الاسلام وهو ابن عمه النبي صلّى الله عليه وسلم أسلم وله 12 سنة، شهد بدرا وأحدا وغيرها قتل عليه يوم انصرف من موقعة الجمل سنة 36.
(6) رواه مسلم والترمذي والنسائي.
(7) تقدمت ترجمته في ص «281» رقم «3» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «215» رقم «1» .
(9) رواه أبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن ماجة.
(10) سعيد بن زيد بن عمرو بن ثقيل العدوي القرشي صحابى وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة شهد المشاهد كلها إلا بدرا وكان من ذوي الرأي والبسالة توفي في المدينة سنة 51 هـ
(11) ثبير: بثاء مثلثة مفتوحة وموحدة مكسورة ومثناة تحتية ساكنة وراء مهملة جبل بالمزدلفة عن يسار الذاهب الى منى وسمي ثبيرا من الثبور باسم رجل كان يسمى ثبيرا دفن به فسمي باسمه.(1/591)
يَا رَسُولَ اللَّهِ.. فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبُنِي اللَّهُ..
فَقَالَ حِرَاءٌ: إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ..
وَرَوَى «1» ابْنُ عُمَرَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «3» » ثُمَّ قَالَ: «يُمَجِّدُ الْجَبَّارُ نَفْسَهُ.. يَقُولُ: أَنَا الْجَبَّارُ.. أَنَا الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ..
فَرَجَفَ الْمِنْبَرُ «4» حَتَّى قُلْنَا: لَيَخِرَّنَّ «5» عَنْهُ.
وَعَنِ «6» ابْنِ عَبَّاسٍ «7» : «كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ مُثَبَّتَةُ الْأَرْجُلِ بِالرَّصَاصِ فِي الْحِجَارَةِ.. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ عَامَ الْفَتْحِ جَعَلَ يُشِيرُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ إِلَيْهَا وَلَا يمسها ويقول:
«جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ «8» . الْآيَةَ فَمَا أَشَارَ إِلَى وَجْهِ صَنَمٍ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ.. وَلَا لِقَفَاهُ إِلَّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ.. حتى ما بقي
__________
(1) رواه مسلم والنسائي وأحمد في مسنده. وما ذكره المصنف هو رواية أحمد بلفظه
(2) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(3) سوره الأنعام رقم 90.
(4) أي اهتز واضطرب من مهابة مقاله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
(5) ليخرجن: بفتح اللام والياء وكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة والنون أي ليسقطن.
(6) أخرجه الشيخان والبزار والطبراني والبيهقي وأبو يعلى عن جابر وابن مسعود
(7) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(8) «إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» سورة الاسراء رقم 81(1/592)
مِنْهَا صَنَمٌ» وَمِثْلُهُ «1» فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «2» وَقَالَ: «فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا. «3» وَيَقُولُ: «جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ «4» الْباطِلُ وَما يُعِيدُ «5» »
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُهُ «6» مَعَ الرَّاهِبِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ.. إِذْ خَرَجَ تَاجِرًا مَعَ عَمِّهِ.. وَكَانَ الرَّاهِبُ لَا يَخْرُجُ إلى أحد فخرج وجعل يتخللهم حتى أخذ بيد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» .. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ:
«مَا عِلْمُكَ؟» . فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ ساجدا له ولا يسجد إِلَّا لِنَبِيٍّ» وَذَكَرَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ: «وَأَقْبَلَ صلى الله عليه وسلم وعليه غمامة تظله فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ الْفَيْءُ إِلَيْهِ» .
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص «265» رقم «2» .
(3) يطعنها: يطعن بفتح العين ويجوز ضمها والاول أشهر وأفصح خلافا عن عكس إن ما مر في الرواية السابقة أنه أشار إيها من غير أن يمسها بيده وما فيها من عصا ونحوها وهذه الرواية تقتضي أنه مسها بالعصا ودفعها بها كالطاعن لها فبينهما اختلاف ولذا فسر بعضهم طعنها باشار اليها من غير مس وهو خلاف الظاهر وقيل إنها كانت كثيرة فأشار لبعض منها وطعن بعضا منها فلا تعارض في الروايات.
(4) الإبداء: الإيجاد ابتداء من غير سبق إيجاد آخر والاعادة: الايجاد مرة بعد مرة أخرى و (ما) هنا جوز فيها أن تكون نافية واستفهامية استفهاما إنكاريا وهو بمعنى النفي أيضا فالمعنى واحد وهو أن الحق ظهر ولم يبق للباطل إبداء ولا إعادة أو ما يبدىء الصنم خلقا ولا يعيده أو لا يبدىء ضرا لأهله في الدنيا ولا يعيده في العقبى.
(5) سورة سبأ رقم (49) .
(6) رواه الترمذي والبيهقي.(1/593)
الْفَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ فِي الْآيَاتِ فِي ضُرُوبِ الحيوانات
عَنْ «1» عَائِشَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ عِنْدَنَا دَاجِنٌ «3» .
فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّ وَثَبَتَ مَكَانَهُ فلم يجيء وَلَمْ يَذْهَبْ.. وَإِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَذَهَبَ» .
وَرُوِيَ «4» عَنْ عُمَرَ «5» : «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَحْفَلٍ «6» مِنْ أَصْحَابِهِ.. إِذْ جاء أعرابي قد صاد ضبّا فقال من هذا؟ ..
__________
(1) رواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني والبيهقي والدارقطني وهو صحيح
(2) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم (5) .
(3) داجن: بكسر الجيم ما يألف البيت من الحيوان كالشاة والطير مأخوذ من المداجة وهي المخالطة والملازمة.
(4) روي بصيغة المجهول إشعارا بضعفه فقد قال الحافظ المزي لا يصح إسنادا ولا متنا وقال ابن دحية إنه موضوع لكن قال القسطلاني قد رواه الأئمة فنهايته الضعف لا الوضع فممن رواه الطبراني والبيهقي قال وروي أيضا بأسانيد عن عائشة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وقال السيوطي إنه ضعيف وليس بموضوع كما قيل.
(5) تقدمت ترجمته في ص (113) رقم (4) .
(6) محفل: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الفاء واللام محل يجتمع فيه ناس كثيرون من حفل بمعنى جمع.(1/594)
قَالُوا: نَبِيُّ اللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا آمنت بك أو يؤمن بك هَذَا الضَّبُّ.. وَطَرَحَهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم له: «يَا ضَبُّ.. فَأَجَابَهُ بِلِسَانٍ مُبِينٍ يَسْمَعُهُ الْقَوْمُ جَمِيعًا..
لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا زَيْنَ مَنْ وَافَى الْقِيَامَةَ.. قَالَ: مَنْ تَعْبُدُ؟ ..
قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ عَرْشُهُ.. وَفِي الْأَرْضِ سُلْطَانُهُ.. وَفِي الْبَحْرِ سَبِيلُهُ.. وَفِي الْجَنَّةِ رَحْمَتُهُ.. وَفِي النَّارِ عِقَابُهُ.. قال: فمن أنا؟
قال: رسول رَبِّ الْعَالَمِينَ.. وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ.. وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ صَدَّقَكَ.. وَخَابَ مَنْ كَذَّبَكَ» .. فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ.
وَمِنْ ذلك قصة كلام الذئب المشهور عَنْ «1» أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «2» :
«بَيْنَا «3» رَاعٍ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ عَرَضَ الذِّئْبُ لِشَاةٍ مِنْهَا فَأَخَذَهَا مِنْهُ..
فَأَقْعَى «4» الذِّئْبُ وَقَالَ لِلرَّاعِي.. أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ.. حُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ رِزْقِي.. قَالَ الرَّاعِي: الْعَجَبُ مِنْ ذِئْبٍ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الْإِنْسِ.. فَقَالَ الذئب: «ألا اخبرك بأعجب من ذلك؟؟.
__________
(1) رواه أحمد البزار والبيهقي وصححه.
(2) تقدمت ترجمته في ص (63) رقم (1) .
(3) وفي نسخة (بينما) . على أن ما زائدة كافة وأما الف (بينا) فقيل هي إشباع فلا تمنع الجر وقيل مانعة له منه وهو المشهور عند الجمهور.
(4) أقعى: ألصق أسته بالأرض ونصب ساقيه وفخذيه ووضع يديه على الأرض.(1/595)
رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ «1» يُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ» .
فَأَتَى الرَّاعِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم له: قُمْ فَحَدِّثْهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ.. وَالْحَدِيثُ فِيهِ قصة وفيه بعض طول..
وري حَدِيثُ الذِّئْبِ عَنْ «2» أَبِي هُرَيْرَةَ «3» .. وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الذِّئْبُ: «أَنْتَ أَعْجَبُ وَاقِفًا عَلَى غَنَمِكَ وَتَرَكَتْ نَبِيًّا لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهُ عِنْدَهُ قَدْرًا..
قَدْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَأَشْرَفَ «4» أَهْلُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ يَنْظُرُونَ فعالهم.. وَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِلَّا هَذَا الشِّعْبُ «5» .. فَتَصِيرُ في جُنُودِ اللَّهِ.. قَالَ الرَّاعِي: مَنْ لِي بِغَنَمِي؟ .. قَالَ الذِّئْبُ: أَنَا أَرْعَاهَا حَتَّى تَرْجِعَ.. فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ غَنَمَهُ وَمَضَى.. وَذَكَرَ قِصَّتَهُ وَإِسْلَامَهُ وَوُجُودَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ.. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) الحرتين: بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين وتاء تأنيث مثنى حرة وهي ثنية مرتفعة ذات حجارة سود كأنها اسودت من الحر والحرتان بالمدينة.
(2) رواه أحمد والبزار والبيهقي وصححه والبغوي وأبو نعيم بسند صحيح.
(3) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) أي أطلع أهل الجنة على أصحابه ينظرون اليهم وهم في صفوف واقفون في القتال كصفوف الملائكة.
(5) الشعب: بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة بعدها موحدة وهو منفرج بين جبلين يعني أنه قريب منك.(1/596)
«عُدْ إِلَى غَنَمِكَ تَجِدْهَا «بِوَفْرِهَا «1» » .. فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ وَذَبَحَ لِلذِّئْبِ شَاةً مِنْهَا.
وَعَنْ «2» أُهْبَانَ بْنِ أَوْسٍ «3» .. وَأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ الْقِصَّةِ وَالْمُحَدِّثَ بِهَا وَمُكَلِّمَ الذِّئْبِ. وَعَنْ «4» سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ «5» وَأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا وَسَبَبُ إِسْلَامِهِ بِمِثْلِ حَدِيثِ «6» أَبِي سَعِيدٍ «7» . وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ «8» مِثْلَ هَذَا أَنَّهُ جَرَى لِأَبِي سُفْيَانَ «9» بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ «10» بْنِ أُمَيَّةَ مَعَ ذِئْبٍ وَجَدَاهُ أَخَذَ ظَبْيًا فَدَخَلَ الظَّبْيُ الْحَرَمَ فَانْصَرَفَ الذِّئْبُ.. فَعَجِبَا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ الذِّئْبُ: «أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَتَدْعُونَهُ إِلَى النار» .. فقال أبو سفيان: «واللات
__________
(1) وفرها: بفتح الواو وسكون الفاء أي بتمامها وكمالها لم ينقص منها شيء من قولهم أرض وفرة لم يرع نباتها.
(2) رواه البيهقي والبخاري في تاريخه عنه.
(3) إهبان بن أوس الاسلمي الصحابي نزل الكوفة وتوفي رحمه الله في خلافة سيدنا معاوية رضي الله عنه.
(4) على ما في الروض الانف.
(5) تقدمت ترجمته في ص «556» رقم «7» .
(6) الحديث كما في الطبراني الكبير بسند لا بأس به قريب مما هنا.
(7) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «332» رقم «1» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «229» رقم «1» .
(10) تقدمت ترجمته في ص «232» رقم «5» .(1/597)
وَالْعُزَّى لَئِنْ ذَكَرْتَ هَذَا بِمَكَّةَ لَتَتْرُكَنَّهَا خُلُوفًا «1» .
وقد روي قبل هَذَا الْخَبَرِ وَأَنَّهُ جَرَى لِأَبِي «2» جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَعَنْ «3» عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ «4» «لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ كَلَامِ (ضِمَارٍ) «5» صَنَمِهِ وَإِنْشَادِهِ «6» الشِّعْرَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَإِذَا طَائِرٌ سَقَطَ.. فَقَالَ يَا عَبَّاسُ.. أَتَعْجَبُ مِنْ كَلَامِ ضِمَارٍ وَلَا تَعْجَبُ مِنْ نَفْسِكَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْتَ جَالِسٌ!! فَكَانَ سَبَبَ إِسْلَامِهِ.
__________
(1) خلوفا: بضم الخاء المعجمة واللام والفاء مصدر او جمع خالف والمراد تركها خالية من أهلها بان يسلموا جميعا ويرتحلوا له صلّى الله عليه وسلم لان من سمع مثله لا يتردد في صحة رسالته.
(2) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «3» .
(3) قال السيوطي «حديث عباس بن مرداس رضي الله تعالى عنه في كلام الطائر لم أقف عليه كذا في معجم الطبراني الكبير من حديثه قريب من هذا السند» .
(4) عباس بن مرداس السلمي من مصر كان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية أسلم ثم حسن اسلامه أمه الخنساء الشاعرة توفي في خلافة عمر نحو سنة 18 هـ.
(5) ضمار: بكسر الضاد المعجمة وتفتح وميم مخففة فألف فراء وهو اسم للصنم الذي كان يعبده مرداس ووسطه.
(6) سبب إنشاد الشعر أن مرداس لما احتضر قال لابنه عباس أي بني أعبد ضمارا فانه سينفعك ولا يضرك فتفكر عباس يوما عند ضمارا وقال انه حجر لا ينفع ولا يضر ثم صاح باعلى صوته: «يا إلهي الاعلى اهدني للتي هي أقوم فصاح صائح من جوف الصنم:
أودى ضمار وكان يعبد مرة ... قبل البيان من النبي محمد
وهو الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهند
قل للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمارا وعاش أهل المسجد
فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي صلّى الله عليه وسلم.(1/598)
وَعَنْ «1» جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ وَهُوَ عَلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ.. وَكَانَ فِي غَنَمٍ يَرْعَاهَا لَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. كَيْفَ بِالْغَنَمِ؟ .. قَالَ:
«أَحْصِبْ «3» وُجُوهَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ ويردها إلى أهلها» . ففعل.. فسارعت كُلُّ شَاةٍ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى أَهْلِهَا وَعَنْ «4» أَنَسٍ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطَ أَنْصَارِيٍّ، وَأَبُو «6» بَكْرٍ وعمر «7» ورجل من الأنصا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي الْحَائِطِ غَنَمٌ فَسَجَدَتْ لَهُ.. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ «نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ مِنْهَا» الْحَدِيثَ «8» ..
وَعَنْ «9» أَبِي هُرَيْرَةَ «10» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا فَجَاءَ بِعِيرٌ فَسَجَدَ لَهُ» وَذَكَرَ مثله.
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(3) أحصب: بفتح الهمزة وكسر الصاد أي ارمها في وجهها بالحصباء وهي دقاق الحجارة وصغارها.
(4) رواه أحمد والبزار بسند صحيح.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(8) وتتمته أنه صلّى الله عليه وسلم قال له: «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد» .
(9) رواه البزار بسند حسن.
(10) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .(1/599)
وَمِثْلُهُ فِي الْجَمَلِ.. عَنْ «1» ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكٍ «2» وَجَابِرِ «3» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «4» وَيَعْلَى «5» بْنِ مُرَّةَ «6» وَعَبْدِ «7» اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ «8» قَالَ: «وَكَانَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْحَائِطَ إِلَّا شَدَّ «9» عَلَيْهِ الْجَمَلُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَوَضَعَ مِشْفَرَهُ «10» عَلَى الْأَرْضِ وَبَرَكَ «11» بَيْنَ يَدَيْهِ فَخَطَمَهُ «12» وَقَالَ: «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا عَاصِيَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» وَمِثْلُهُ عَنْ «13» عَبْدِ الله «14» بن أبي أوفى..
__________
(1) رواه أبو نعيم.
(2) صحابي جليل هو غير ابن أبي مالك واستشهد في غزوة أحد.
(3) رواه أحمد والدارمي والبزار والبيهقي بسند صحيح عنه.
(4) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(5) رواه أحمد والحاكم والبيهقي رحمهم الله تعالى بسند صحيح.
(6) تقدمت ترجمته في ص «576» رقم «2» .
(7) رواه مسلم وأبو داود.
(8) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولد بأرض الحبشة حين هاجر أبواه اليها وكان كريما بليغا توفي في المدينة سنة 80 هـ.
(9) شد: أسرع وحمل حملة عليه يعني انه كان عقورا هاتجا على كل من استقر به
(10) شفره: بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الفاء وراء مهملة وهو في الابل كالشفة في الانسان.
(11) برك: البروك للجمل كالجلوس للانسان
(12) خطمه: أي وضع زمامه الذي يقاد به في رأسه على فمه لأنه برك عنده صلى الله عليه وسلم وانقاد له متذللا بعد ما كان لا يطاق.
(13) هذا الحديث مذكور في دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي.
(14) هو وأبوه صحابيان رضي الله تعالى عنهما شهد المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الذي دعا له النبي صلّى الله عليه وسلم حين اتى اليه بصدقته وقال اللهم صلى على آل أبي أوفى.(1/600)
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ فِي حَدِيثِ الْجَمَلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَبْحَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:
«أنّه شكى كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ «1» » وَفِي رِوَايَةٍ «2» «أَنَّهُ شكى إِلَيَّ أَنَّكُمْ أَرَدْتُمْ ذَبْحَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ فِي شَاقِّ الْعَمَلِ مِنْ صِغَرِهِ» .. فَقَالُوا: نَعَمْ..
وفي «3» قِصَّةِ الْعَضْبَاءِ «4» وَكَلَامِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيفِهَا لَهُ بِنَفْسِهَا، وَمُبَادَرَةِ الْعُشْبِ إِلَيْهَا فِي الرَّعْيِ. وَتَجَنُّبِ الْوُحُوشِ عَنْهَا، وَنِدَائِهِمْ لَهَا إِنَّكِ لِمُحَمَّدٍ.. وَإِنَّهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى مَاتَتْ..
ذَكَرَهُ الْإِسْفَرَائِينِيُّ «5» وَرَوَى «6» ابن وهب «7» «أنّ حمام مكة أظلّت
__________
(1) العلف: بفتح العين المهملة وفتح اللام فعل بمعنى المفعول والمعلوف يطلق على قوت الدواب من الحبوب وغيرها.
(2) هذا الحديث أخرجه الطبراني وابن ماجة في سننه في غزوة ذات الرقاع عن جابر وتميم الداري.
(3) ذكر قصتها مفصلة أبو سعيد في كتاب الشرف وكان له صلّى الله عليه وسلم نوق أخر كما بينه أصحاب السير.
(4) العضباء: بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة التحتية والمد وهي اسم ناقة للنبي صلّى الله عليه وسلم ومعناها المشقوقة الاذن.
(5) تقدمت ترجمته في ص «584» رقم «2» .
(6) قال الدلجى: (وأما قصة العضباء فلم أدر من رواها ولا حديث حمام مكة) وقال الخفاجى: (وهذا الحديث لم يخرجوه) .
(7) تقدمت ترجمته في ص (332) رقم (1) .(1/601)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِهَا فدعا لها بالبركة» . وروي «1» عن أنس «2» زيد بْنِ أَرْقَمَ «3» وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «4» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ ليلة الغار شجرة فنبتت تُجَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَتَرَتْهُ، وَأَمَرَ حَمَامَتَيْنِ فَوَقَفَتَا بِفَمِ الْغَارِ» وَفِي حَدِيثٍ «5» آخر «أنّ الْعَنْكَبُوتَ نَسَجَتْ عَلَى بَابِهِ..
فَلَمَّا أَتَى الطَّالِبُونَ لَهُ وَرَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا:.. «لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لَمْ تَكُنِ الْحَمَامَتَانِ بِبَابِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ.. فَانْصَرَفُوا..
وَعَنْ «6» عبد الله بن قرط «7» .. قرّب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٍ «8» خَمْسٍ أَوْ ست أو سبع لينحرها يوم عيد فاز دلفن «9» إِلَيْهِ بِأَيِّهِنَّ يَبْدَأُ.
وَعَنْ «10» أُمِّ سَلَمَةَ «11» : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحْرَاءَ فنادته ظبية
__________
(1) رواه ابن سعد والبزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن أنس وزيد بن أرقم المغيرة بن شعبة.
(2) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (404) رقم (12) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (285) رقم (6) .
(5) رواه ابن سعد والبزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عَنْ أَنَسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة.
(6) رواه الحاكم والطبراني وأبو نعيم مسندا.
(7) صحابي شمالي امير حمص من قبل معاوية أخرج له أصحاب السنن وأحمد وغيرهم قتل بارض الروم سنة 56 هـ.
(8) بدنات بفتحتين جمع بدنة وهي ما يعد للنحر من الابل او البقر وسميت بدنه لعظمها وسمنها.
(9) ازدلفن: اقتربن.
(10) رواه البيهقي في دلائل النبوة من طرق وصنفه جماعة من الأئمة حتى قال ابن كثير لا أصل له وأن من نسبه الى النبي صلّى الله عليه وسلم فقد كذب لكن طرقه بقوي بعضها بعضا وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في الدلائل بإسناده فيه مجاهيل عن أم سلمة نحو ما ذكره المصنف وكذا رواه الطبراني بنحوه وساقه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب من باب الزكاة.
(11) تقدمت ترجمته في ص (286) رقم (1) .(1/602)
يا رسول الله.. قال: «ما حاجتك؟.» قال: صَادَنِي هَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَلِي خِشْفَانِ «1» فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ فَأَطْلِقْنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُرْضِعَهُمَا وَأَرْجِعَ قَالَ: «أو تفعلين؟ ..» قَالَتْ: «نَعَمْ..» فَأَطْلَقَهَا فَذَهَبَتْ وَرَجَعَتْ، فَأَوْثَقَهَا، فَانْتَبَهَ الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ ..» قَالَ: «تُطْلِقُ هَذِهِ الظَّبْيَةَ» .. فَأَطْلَقَهَا فَخَرَجَتْ تَعْدُو فِي الصَّحْرَاءِ وَتَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ..
وَمِنْ هَذَا الباب ما روي «2» من نسخير الْأَسَدِ لِسَفِينَةَ «3» مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ وَجَّهَهُ إِلَى مُعَاذٍ «4» بِالْيَمَنِ فَلَقِيَ الْأَسَدَ فَعَرَفَهُ أَنَّهُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ كِتَابُهُ فَهَمْهَمَ «5» وتنحى عن الطريق
__________
(1) خشفان: مثنى خشف بكسر الخاء المعجمة وسكون الشين المعجمة بوزن طفل وهو الظبي الصغير الذي ولدته أمه.
(2) قال السيوطي: (لم أقف على هذا الحديث هكذا) وقال الدلجى: (لم أدر من رواه كذا) وأخرج البيهقي أنه وقع لسفينه حين ضل عن الجيش بارض الروم إلا أن البخاري ذكره في تاريخه كما قال المصنف فلا اعتراض عليه وقال القاري؛ (يحمل على تعدد المواقعة كما يشير اليه قول المصنف وفي رواية أخرى عنه (أي عن سفينة) .
(3) أسمه رومان وسماه النبي صلّى الله عليه وسلم سفينة لأنه رآه في بعض أسفاره حاملا لامتعته فقال: إنما أنت سفينة وهو من خدمته صلّى الله عليه وسلم روى عنه مسلم وغيره من اصحاب السنن.
(4) تقدمت ترجمته في ص «339» رقم «3» .
(5) همهم: الهمهمة: صوت لا يفهم وقيل صوت فيه بحة.(1/603)
وَذَكَرَ فِي مُنْصَرَفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ «1» أُخْرَى عَنْهُ: أَنَّ سَفِينَةً تَكَسَّرَتْ بِهِ فَخَرَجَ إلى جزيرة فإذا الأسد.. فقلت: «أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَجَعَلَ يَغْمِزُنِي «2» بِمَنْكِبِهِ حَتَّى أَقَامَنِي عَلَى الأرض» . وأخذ «3» عليه الصلاة والسلام بِأُذُنِ شَاةٍ لِقَوْمٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بَيْنَ أصبعيه.. ثُمَّ خَلَّاهَا فَصَارَ لَهَا مِيسَمًا «4» وَبَقِيَ ذَلِكَ الْأَثَرُ فِيهَا وَفِي نَسْلِهَا بَعْدُ..
وَمَا رُوِيَ «5» عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمَّادٍ «6» بِسَنَدِهِ مِنْ كَلَامِ الحمار
__________
(1) رواها البزار والبيهقي وصححها السيوطي في تخريجه.
(2) يغمزني: لسكون الغين المعجمة وكسر الميم وضمها وزاي معجمة وأصل الغمز الإشارة بالجفن فتجوز به عن الدفع الخفيف بقرينة قوله (بمنكبه) بفتح الميم وكسر الكاف وهو رأس الذراع وما بين الكتف والعنق.
(3) قال الدلجي (لا أدري من رواه) .
(4) ميسما: بكسر الميم وفتح السين أصله موسم فقلبت واوه ياء من الوسم وهو الكي فهو اسم آلة الكي من الحديد فأطلقت على العلامة وأثرها مجازا
(5) هذا الحديث رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي منظور وقال لا أصل له وإسناده ليس بشيء وذكره ابن الجوزي في الموضوعات قال القاري «قلت قصة يعفور ذكرها غير القاضي فقد نقلها السهيلي في روضة عن ابن فورك في كتاب الفصول، قال السهيلي: (وزاد الجويني، أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أحدا من أصحابه أرسل هذا الحمار إليه فيذهب حتى يضرب برأسه الباب فيخرج الرجل فيعلم ان قد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ اليه أن أجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم) هذا وقد أخرجه ابن عساكر عن أبي منظور وله صحبة نحو ما سبق وقال هذا حديث عريب وفي إسناده غير واحد من المجهولين ورواه أبو نعيم عن معاذ بن جبل
(6) لعله ابراهيم بن محمد بن عبد الرّحمن الرؤاسي الكوفي أبو اسحاق وثقه ابن معين وابو حاتم والنسائي مات سنة 178.(1/604)
الذي أصابه بخيبر وقال له: ما اسمك قال: «اسْمِي يَزِيدُ بْنُ شِهَابٍ «1» فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْفُورًا وَأَنَّهُ كَانَ يُوَجِّهُهُ إِلَى دُورِ أَصْحَابِهِ فَيَضْرِبُ عَلَيْهِمُ الْبَابَ بِرَأْسِهِ ... وَيَسْتَدْعِيهِمْ..
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ «2» جَزَعًا وَحُزْنًا «3» فَمَاتَ.
وَحَدِيثُ «4» «النَّاقَةِ الَّتِي شَهِدَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهَا أَنَّهُ مَا سرقها وأنّها ملكه» .
وفي حديث «5» «الْعَنْزِ الَّتِي أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَسْكَرِهِ وَقَدْ أَصَابَهُمْ عَطَشٌ ونزلوا على غير ماء.. وهم زهاء ثلاثمئة فَحَلَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْوَى الْجُنْدَ ... ثُمَّ قَالَ لِرَافِعٍ «6» امْلِكْهَا وَمَا أَرَاكَ «7» ... فَرَبَطَهَا فَوَجَدَهَا قَدِ انْطَلَقَتْ «8» رَوَاهُ ابْنُ قانع «9»
__________
(1) وقال: إنه من نسل ستين حمارا كلها لم يركبها إلا نبي، وقال له: كنت اتوقع أن تراكبني إذ لم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك وكنت ليهودي وكنت اعثر به عمدا فكان يجيعني ويضربني.
(2) بئر كانت بالمدينة معروفة لأبي الهيثم بن التيهان فكانت البئر قبره.
(3) حزنا بفتحتين او بضم فسكون.
(4) رواه الطبراني عن زيد بن ثابت بسند فيه مجاهيل والحاكم عن ابن عمر وقال الذهبي إنه موضوع وفيه نظر.
(5) أخرجه ابن سعد والبيهقي وابن عدي عن سعد مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه
(6) يقول الشراح: مولى النبي صلّى الله عليه وسلم ومولاه ابو رافع وقد تقدمت ترجمته في ص «196» رقم «2» .
(7) أراك: بضم الهمزة أي ما أظنك تملكها وتحفظها.
(8) أي ذهبت وغابت عنه بحيث لم يدر أحد عنها.
(9) تقدمت ترجمته في ص «340» رقم «1» .(1/605)
وَغَيْرُهُ ... وَفِيهِ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الَّذِي جَاءَ بِهَا هُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِهَا» .
وَقَالَ لِفَرَسِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ: «لَا تَبْرَحْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ حَتَّى نَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِنَا» وَجَعَلَهُ قِبْلَتَهُ.. فَمَا حَرَّكَ عُضْوًا حتى صلّى صلّى الله عليه وسلم.
ويلحق بِهَذَا.. مَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ «1» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَ رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ ... فَخَرَجَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.. فَأَصْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ وَقَدْ جِئْنَا مِنْهُ بِالْمَشْهُورِ وَمَا وقع في كتب الأئمة..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «551» رقم «3» .(1/606)
الفصل العشرون إحياء الموتى في احياء الموتى وكلامهم وكلام الصِّبْيَانِ وَالْمَرَاضِعِ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
عَنْ «1» أَبِي «2» هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً «3» سَمَّتْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ ... فقال: ارفعوا أيديكم فإنّها أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ.. فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ «4» .. وَقَالَ لِلْيَهُودِيَّةِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ؟ ..
قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صنعت.. وإن كنت ملكا
__________
(1) وقع هذا الحديث في رواية سعيد عن ابن الاعرابي عن أبي داود مسندا موصولا وعند باقي الرواة عن أبي سلمة وليس فيه أبو هريرة فهو مرسل.
(2) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(3) مصلية: بفتح الميم وكسر اللام وياء تحتية مشددة وأصلها مصلوية فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها أي مشوية من صلاه بالنار إذا شواه.
(4) بشر بن البراء صحابي خزرجي شهد العقبة وبدرا سودة النبي صلّى الله عليه وسلم على بني نضله، قيل انه مات في الحال وقيل بعد أن مرض سنة.(1/607)
أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ ... قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ ... وَقَدْ رَوَى «1» هَذَا الْحَدِيثَ أَنَسٌ «2» وَفِيهِ:
قَالَتْ: أَرَدْتُ قَتْلَكَ ... فَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ..
فَقَالُوا نَقْتُلُهَا قَالَ: لَا «3» ...
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ وَهْبٍ «4» قَالَ:
«فَمَا عَرَضَ لَهَا» .
وَرَوَاهُ «5» أَيْضًا جابر بن «6» عبد الله وفيه «أخبرتني به هَذِهِ الذِّرَاعُ» .. قَالَ: «وَلَمْ يُعَاقِبْهَا» .
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ «7» .. «أَنَّ فَخِذَهَا تُكَلِّمُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» ..
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ «8» بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَالَتْ: «إني مسمومة»
__________
(1) كما في الصحيحين.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) أي لا تقتلوها: لعل هذا كان قبل موت بشر بن البراء وبهذا يجمع بين هذه الرواية وبين رواية أبي هريرة أنه قتلها وبه يجاب عما قيل انه مشكل لأنه كيف يعفي عنها مع قتلها للبراء إلا أن يقال أن البراء عفا عنها أو على أنه لا يقتل بالسم وإنما يستحق الدية على ما فصل في كتب الفقه.
(4) تقدمت ترجمته في ص «162» رقم «1» .
(5) روى مثله أبو داود والبيهقي.
(6) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «6» رقم «8» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «286» رقم «3» .(1/608)
وكذلك ذكر الخبر ابن اسحق «1» وَقَالَ فِيهِ: «فَتَجَاوَزَ عَنْهَا» .
وَفِي الْحَدِيثِ «2» الْآخَرِ عن أنس «3» انه قَالَ: «فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ «4» رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
وَفِي حَدِيثِ «5» أَبِي هُرَيْرَةَ «6» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال في مرجعه:
الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا زَالَتْ أَكْلَةُ «7» خَيْبَرَ تعادّني «8» .. فالآن أوان قطعت أبهري «9» .
وقال ابن إسحق إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ شَهِيدًا مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ..
وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ «10» أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(2) رواه الشيخان.
(3) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(4) لهوات: بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة المعلقة في سقف أفصى الفم.
(5) رواه ابن سعد وهو الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
(6) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(7) أكلة: بصم الهمزة وفتح الكاف واللام.
(8) تعادني: بضم التاء وتشديد الدال أي يرادوني ويراجعني وياودني ألم سمها في أوقات معينه لها وهو مأخوذ من العداد بكسر العين وهو اهنياج وجع اللديغ لوقت معلوم فانه اذا تمت له سنة من حين اللدغ هاج به الألم.
(9) أبهري: بفتح الهمزة وسكون التاء الموحدة وفتح الهاء وكسر الراء عرق يكتنف الصلب والقلب اذا قطع لم يبق معه حياة وهو الذي يمند الى الحلق فيسمى الوريد والى الطهر فيسمى الوتين.
(10) محمد بن عبد السلام بن سعيد التنوخي فقيه مالكي مناظر كثير التصانيف توفي بالساحل ونقل الى القيروان فدفن فيها سنة 256 هـ ورثي بثلاثمائة مرثية.(1/609)
قَتَلَ الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي سَمَّتْهُ «1» .
وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ وَفِي رِوَايَةِ «2» ابْنِ عَبَّاسٍ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» أَنَّهُ دَفَعَهَا لِأَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ «4» فقتلوها» وكذلك قد اختلف في قتله الذي سَحَرَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ «5» «وَعَفْوُهُ عَنْهُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا» .. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ قَتَلَهُ» ..
وَرَوَى الْحَدِيثَ الْبَزَّارُ «6» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «7» فَذَكَرَ مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ «فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ: كلوا بسم الله ... فأكلنا..
***
__________
(1) رواه أبو داود عن أبي سلمة مرسلا ووصله البيهقي عن أبي هريرة.
(2) رواه ابن سعد.
(3) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «607» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «155» رقم «3» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «355» رقم «4» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .(1/610)
وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ- فَلَمْ تَضُرَّ مِنَّا أَحَدًا «1» » .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَهْلُ الصَّحِيحِ.. وَخَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ ... وَهُوَ حديث مشهور ... واختلف أئمة أهل النَّظَرِ فِي هَذَا الْبَابِ.
- فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: هُوَ كَلَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ، أَوِ الْحَجَرِ، أَوِ الشَّجَرِ. وَحُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهَا وَيُسْمِعُهَا مِنْهَا دُونَ تَغْيِيرِ اشكالها ونقلها عن هيئتها وهو مذهب أَبِي الْحَسَنِ «2» وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ «3» رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَآخَرُونَ ذَهَبُوا إِلَى إِيجَادِ الْحَيَاةِ بِهَا أَوَّلًا ثم الكلام بعده.
__________
(1) قال ملا علي القارىء في شرح الشفاء «عن الحافظ ابن حجر أنه منكر ذكره الدلجي ولعل وجه الانكار عموم نفي الاضرار مع أنه ثبت في الصحيح موت البراء منه كما سبق به التصريح وكذا تقدم أنه صلّى الله عليه وسلم تضرر منها الى ان توفي بسببها وحصل له مرتبة الشهادة بها هذا والحديث رواه الجزري أيضا في الحصن الحصين بلفظ وأمر الصحابة في الشاة المسمومة التي أهدتها اليه اليهودية أن أذكروا اسم الله وكلوا فأكلوا ولم يصب أحدا منهم شيء وأسنده الى مستدرك الحاكم قال صاحب السلاح رواه الحاكم في مستدركه عن ابي سعيد الخدري وقال صحيح الاسناد انتهى لكن قال بعض مشايخنا وفيه تأمل لا يخفى إذ المشهور بين أصحاب الحديث وأرباب السير أنه لم يأكل من تلك الشاة المسمومة أحد من الصحابة إلا بشر بن البراء أكل منها لقمة ومات منها وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم باحراق تلك الشاة ودفنها تحت التراب واحتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولي لبني بياضة من الانصار والله سبحانه وتعالى أعلم» أهـ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «381» رقم «2» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «385» رقم «1» .(1/611)
وَحُكِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ ... وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ..
إِذْ لَمْ نَجْعَلِ الْحَيَاةَ شَرْطًا لِوُجُودِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِذْ لَا يَسْتَحِيلُ وَجُودُهَا مَعَ عَدَمِ الْحَيَاةِ بِمُجَرَّدِهَا ... فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِبَارَةً عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ.. فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْحَيَاةِ لَهَا ... إِذْ لَا يُوجَدُ كَلَامُ النَّفْسِ إِلَّا مِنْ حَيٍّ خِلَافًا للجبّائي «1» من بيز سَائِرِ مُتَكَلِّمِي الْفِرَقِ فِي إِحَالَةِ وُجُودِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ وَالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِلَّا مِنْ حَيٍّ مُرَكَّبٍ عَلَى تَرْكِيبِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ والأصوات والتزم ذلك في الحصا وَالْجِذْعِ وَالذِّرَاعِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِيهَا حياة وخرو لَهَا فَمًا وَلِسَانًا وَآلَةً أَمْكَنَهَا بِهَا مِنَ الْكَلَامِ.
- وَهَذَا لَوْ كَانَ لَكَانَ نَقْلُهُ وَالتَّهَمُّمُ «2» بِهِ آكَدُ «3» مِنَ التَّهَمُّمِ بِنَقْلِ تَسْبِيحِهِ «4» أَوْ حنينه «5» ...
__________
(1) أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام من متقدمي أئمة المعتزلة كان بارعا في علم الكلام. اخذ عنه الاشعري لمدة أربعين سنة ثم انقلب عليه وصار امام أهل السنة وله معه مناظرات مستحسنة توفي الجبائي سنة 303 هـ.
(2) أي الاهتمام بنقله.
(3) لكونه أغرب وأعجب فنقله أهم.
(4) أي تسبيح الحصى في يديه صلّى الله عليه وسلم.
(5) أي حنين الجذع.(1/612)
- وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالرِّوَايَةِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ دَعْوَاهُ..
- مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ فِي النَّظَرِ «1» ... وَالْمُوَفِّقُ اللَّهُ. وَرَوَى «2» وَكِيعٌ «3» ... رَفْعَهُ عَنْ فَهْدِ بْنِ عَطِيَّةَ «4» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ قَدْ شَبَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ ... فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ .. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ.
وَرُوِيَ «5» عَنْ مُعَرِّضِ بْنِ «6» مُعَيْقِيبٍ رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَبًا ... جِيءَ بصي يوم ولد فذكر مثله. وهو مُبَارَكِ الْيَمَامَةِ «7» وَيُعْرَفُ بِحَدِيثِ شَاصُونَةَ «8» اسْمُ رَاوِيهِ وَفِيهِ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْتَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ.. ثُمَّ إِنَّ الغلام لم
__________
(1) أي في نظر العقل وخبر النقل إذ المقام مقام خرق العادة وهو انما يكون على وفق القدرة والارادة وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
(2) حديث رواه البيهقي.
(3) وكيع بن الجراح بن ملح الرواسي ابو شعبان حافظ ثبت، محدث العراق في عصره امتنع ورعا عن قضاء الكوفة حين أراد الرشيد على ذلك توفي سنة 197 هـ.
(4) صرح العلماء بعدم معرفته.
(5) رواه البيهقي وابن عساكر وقال ابن دحبة إنه موضوع وقال الخفاجي في معرض ذكره عن وضع الحديث «هذا لم يسلم» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «147» رقم «1» .
(7) كان ذلك الولد يسمى مبارك اليمامة لقوله صلّى الله عليه وسلم له بارك الله فيك.
(8) شاصونه بن عبيد ابو محمد اليمامي.(1/613)
يَتَكَلَّمْ بَعْدَهَا حَتَّى شَبَّ فَكَانَ يُسَمَّى مُبَارَكَ «1» اليمامة ... وكانت هذه الفصة بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَعَنِ «2» الْحَسَنِ «3» أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ له أَنَّهُ طَرَحَ بُنَيَّةً لَهُ فِي وَادِي كَذَا.. فَانْطَلَقَ مَعَهُ إِلَى الْوَادِي.. وَنَادَاهَا بِاسْمِهَا يَا فُلَانَةُ.. أَجِيبِي بِإِذْنِ اللَّهِ.. فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.. فَقَالَ لَهَا: إِنَّ أَبَوَيْكِ قَدْ أَسْلَمَا.. فَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أَرُدَّكِ عَلَيْهِمَا.. قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِمَا ... وَجَدْتُ اللَّهَ خَيْرًا لي منهما ...
__________
(1) سمي مبارك اليمامة لكونه صلّى الله عليه وسلم دعا له بالبركة ضيف الى اليمامة لانه كان من أهلها، وفي القاموس أن اليمامة جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام وبلاد الجوف منسوبة اليها سميت باسمها وهي اكثر نخيلا من سائر الحجاز وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة هذا وقد جمع الجلال السيوطي رحمه الله تعالى جميع من تكلم وهو صغير في هذه الابيات:
تكلم في الهد النبي محمد ... ويحي وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مربا لأمه التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم
وما شطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم
(2) ذكر الدلجي أن الحديث عن الحسن لم يعلم من رواه ويذكر ملا علي القاري في شرح الشفاء «رأيت الحديث في دلائل البيهقي صريحا في إحيائها حيث ذكر أنه صلّى الله عليه وسلم دعا رجلا الى الاسلام فقال لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي فقال صلّى الله عليه وسلم: «أرني قبرها» فأراه إياه فقال صلّى الله عليه وسلم: «فلانة» قالت: «لبيك وسعديك» فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتحبين أن ترجعي الى الدنيا» فقالت: «لا والله يا رسول الله إني وجدت جوار الله خيرا لي من جوار أبوي، ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا» .
(3) الحسن هو البصري تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .(1/614)
وَعَنْ «1» أَنَسٍ «2» أَنَّ شَابًّا مِنَ الْأَنْصَارِ تُوُفِّيَ وَلَهُ أُمٌّ عَجُوزٌ عَمْيَاءُ..
فَسَجَّيْنَاهُ «3» وَعَزَّيْنَاهَا.. فَقَالَتْ: مَاتَ ابْنِي؟ .. قُلْنَا: نَعَمْ..
قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى رسولك رَجَاءَ أَنْ تُعِينَنِي عَلَى كُلِّ شِدَّةٍ فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ ... فَمَا بَرِحْنَا أَنْ كَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَطَعِمَ وَطَعِمْنَا «4» .
وَرُوِيَ «5» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «6» كُنْتُ فِيمَنْ دَفَنَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ «7» بْنِ شَمَّاسٍ. وَكَانَ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ.. فَسَمِعْنَاهُ حِينَ أَدْخَلْنَاهُ الْقَبْرَ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.. أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عُمَرُ الشَّهِيدُ، عُثْمَانُ الْبَرُّ الرَّحِيمُ «8» .. فَنَظَرْنَا فإذا هو ميت.
__________
(1) رواه ابن عدي والبيهقي وابن أبي الدنيا وأبو نعيم.
(2) أنس بن مالك تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) سجيناه: بفتح السين المهملة وتشديد الجيم. غطيناه.
(4) في هذا إشارة الى ان الكرامات نوع من المعجزات بل هي ابلغ منها حيث حصل للتابع ما حصل للمتبوع من خوارق العادات هذا وليس فيه صريح دلالة على إحيائه بعد إماتته لاحتمال اغمائه مع وجود سكنة لكن زال الغم بدعاء الأم.
(5) رواه البيهقي.
(6) لم نعثر على ترجمته.
(7) ثابت بن قيس بن مالك بن زهير خزرجي أنصاري وكان خطيب الانصار» جهوري الصوت وشهد له رسول الله بأنه من أهل الجنة وكانت وفاته في وقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق.
(8) هذا الحديث دليل كلام الموتى لا إحيائهم كما لا يخفى.(1/615)
وَذَكَرَ عَنِ «1» النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «2» أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَارِجَةَ «3» خَرَّ مَيِّتًا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ المدينة فرفع وسجّي إذ سمعوه بين العشائين وَالنِّسَاءُ يَصْرُخْنَ حَوْلَهُ.. يَقُولُ: أَنْصِتُوا أَنْصِتُوا.. فَحَسَرَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.. النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ..
كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ «4» ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ صَدَقَ وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ... ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ... ثُمَّ عاد ميتا كما كان.
__________
(1) رواه الطبراني وابو نعيم وابن منده في تقدمة الصحابة وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم.
(2) النعمان بن بشير هو الصحابي الانصاري الخزرجي البدري، اول من بايع أبا بكر واستشهد مع خالد بن الوليد بعين النهر بعد انصرافه من اليمامة سنة 64 هـ والنعمان اول مولود بعد الهجرة ولد بعد اربعة أشهر منها، وولاه معاوية حمصا والكوفة.
(3) هذا أصح مما وقع في بعض النسخ من أنه ابن حارثة وهو الذي عليه ابن عبد البر وابن الاثير والذهبي وأبو نعيم الاصبهاني. وزيد بن خارجة أنصاري خزرجي شهد بدرا، قال ابن السكن: تزوج أبو بكر أخته فولدت له أم كلثوم بعد وفاته.
(4) أي كونه رسولا نبيا أميا وخاتما كليا في الكتاب الاول أي اللوح المحفوظ الذي كل ما فيه لا يبدل.(1/616)
الفصل الحادي والعشرون ابراء المرضى وذوي العاهات
في إبرائه المرضى وذوي العاهات حَدَّثَنَا «1» ابْنُ شِهَابٍ «2» وَعَاصِمُ «3» بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٌ ذَكَرَهُمْ بِقَضِيَّةِ أُحُدٍ بِطُولِهَا قَالَ:
وَقَالُوا: قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ «4» : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لَا نَصْلَ «5» لَهُ فَيَقُولُ: ارْمِ بِهِ.. وَقَدْ رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ «6» .. وَأُصِيبَ يومئذ عين
__________
(1) رواه ابن اسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا ووصله ابن عدي والبيهقي عن عاصم عن جده قتادة ورواه البيهقي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري عن قتادة
(2) تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4»
(3) الظفري، الشقة، إمام رواه المغازي توفي سنة تسع او سبع وعشرين، أو عشرين فقط ومائة أخرج له الستة.
(4) تقدمت ترجمته في ص «215» رقم «1» .
(5) نصل: بالصاد المهملة جديدة السهم والرمح.
(6) اندقت: بتشديد القاف اي انكسرت.(1/617)
قَتَادَةَ «1» - يَعْنِي ابْنَ النُّعْمَانِ- حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ «2» .. فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ..
وَرَوَى قِصَّةَ قَتَادَةَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَيَزِيدُ «3» بْنُ عياض ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ. وَرَوَاهَا «4» أَبُو سَعِيدٍ «5» الْخُدْرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ «6» وَبَصَقَ عَلَى أَثَرِ سَهْمٍ فِي وَجْهِ أَبِي قَتَادَةَ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ «7» - قَالَ- فَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ وَلَا قَاحَ «8» .
وَرَوَى «9» النَّسَائِيُّ «10» عَنْ عُثْمَانَ «11» بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَعْمَى قال:
__________
(1) قتادة بن النعمان الاوسي ثم الظفري أخو ابو سعيد الخدري لأمه يكنى أبا عمرو الانصاري شهد بدرا روى عنه اخوه ابو سعيد الخدري وابنه عمر بن قتادة ومحمود بن لبيد وآخرون» عاش خمسا وستين سنة.
(2) وجنته: بكسر الواو وضمها وفتحها والفتح أفصح وهي الخد.
(3) كذا وقع في النسخ والصحيح يزيد بن عياض عن ابن عمر بن قتادة، ويزيد ابن عياض الليثي الحجازي حدث عن نافع.
(4) رواه البيهقي وهي رواية الأكابر عن الأصاغر.
(5) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته آنفا.
(7) ذي قرد: بفتح القاف والراء فدال مهملة وهو منصرف ماء على ليلتين وقيل ليلة من المدينة بينها وبين خيبر، ويقال لها غزوة الغابة كان يومه قبل خيبر بثلاثة وقال ابن سعد كانت في ربيع الاول سنة ست وفي البخاري بعد حنين بثلاثة أيام وقيل الحديبة وفي مسلم نحوه وقال ابن القيم: «وهذه الغزوة كانت بعد الحديبية وقد وهم جماعة من أهل المغازي والسير فذكروا أنها قبل الحديبية.
(8) قاح: من القيح يقال قاح الجرح يقيح اذا حصل فيه مادة بيضاء.
(9) واخرجه أيضا الترمذي وقال حسن صحيح غريب والحاكم والبيهقي وصححاه. ورواه ابن ماجة في الصلاة.
(10) تقدمت ترجمته في ص «195» رقم «7» .
(11) على التصغير وهو أخو عباد وسهل ابنا وهب وله صحبة ورواية ولي سواد العراق والبصرة وعاش الى زمن معاوية.(1/618)
يا رسول.. ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي.. قَالَ: فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قل: اللهم إني اسألك وأتوجه اليك بنبيي مُحَمَّدٍ «1» نَبِيِّ الرَّحْمَةِ.. يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِي.. اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ قَالَ: فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصَرِهِ.
وَرُوِيَ «2» أَنَّ ابْنَ مُلَاعِبِ «3» الْأَسِنَّةِ أَصَابَهُ اسْتِسْقَاءٌ «4» فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَثْوَةً «5» مِنَ الْأَرْضِ فَتَفَلَ عَلَيْهَا ثُمَّ أَعْطَاهَا رَسُولَهُ فَأَخَذَهَا متعجبا يرى «6» أن قد هزىء بِهِ.. فَأَتَاهُ بِهَا وَهُوَ عَلَى شَفَا «7» فَشَرِبَهَا فشفاه الله..
__________
(1) وفي رواية بنبيك.
(2) رواه أبو نعيم والواقدي عن عروة.
(3) قال البرهان الحلبي: إن ابن ملاعب الاسنة لا يعرف اسمه ولا ترجمته وأما ملاعب الاسنة فهو عامر بن مالك، سمي ملاعب الاسنة جمع سنان وهو حديد في طرف الرمح لان الشاعر قال فيه مخاطبا أخاه:
فررت وأسملت ابن مالك عامرا ... يلاعب اطراف الوشيح المزعزع
فسمي ملاعب الرماح، والاسنة وذكره بعضهم في الصحابة وقال الذهبي: الاصح أنه لم يسلم.
(4) الاستسقاء: مرض معروف بكثرة شرب الماء وسببه اجتماع ماء أصفر في البطن
(5) حثوة: بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة لغة في حثية بالياء من حثا التراب عليه يحثوه ويحثيه والمعنى أخذ قبضة منها.
(6) يرى: بضم الياء أو فتحها أي يظن أو يعتقد.
(7) شفا: بفتح الشين المعجمة مقصورا منونا وهو حرف كل شيء ومنه قوله تعالى «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» أي حرفها وطرفها.(1/619)
وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ «1» عَنْ «2» حَبِيبِ «3» بْنِ فُدَيْكٍ- وَيُقَالُ- فُرَيْكٍ أَنَّ أَبَاهُ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ.. فَكَانَ لَا يُبْصِرُ بِهِمَا شَيْئًا.. فَنَفَثَ «4» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَأَبْصَرَ.. فَرَأَيْتُهُ يُدْخِلُ الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ «5» ..
وَرُمِيَ «6» كُلْثُومُ بْنُ «7» الْحُصَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي نَحْرِهِ.. فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فيه فبرأ «8» .. وتفل «9» على شجة «10» عبد الله «11»
__________
(1) بالتصغير هو الامام الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى صاحب كتاب الضعفاء الذي ربه الذهبي وهو ثقة جليل توفي سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة.
(2) رواه البيهقي والطبراني ورواه بلفظ ابن فديك ابن أبي شيبة في مسنده.
(3) بالحاء المهملة وقيل المعجمة ذكره الذهبي في الصحابة وقيل: هو حبيب بن عمرو ابن فديك السلاماني وقد اضطرب فيه وفي اسمه.
(4) نفث: نفخ.
(5) وفي رواية: «إن عينيه لمبيضتان» في المواهب رواها ابن أبي شيبة والبغوي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم ونون مصغر حصن وهو أبو رهم الغفاري الصحابي من أصحاب الشجرة، وشهد أحدا.
(6) قال الدلجي: «لا ادري من رواه» .
(7) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين
(8) برأ: بفتح الراء ويكسر وقيل برأ من المرض بفتح الراء وبرىء من الدين بكسرها.
(9) رواه الطبراني.
(10) شجة: ضربة في الوجه والرأس فقط وقد يسمى بذلك ما يكون في سائر الجسد مجازا.
(11) بالتصغير وهو ابن أسعد بن حرام من الانصار، شهد أحدا، وكانت شجته حين بعثه رسول الله مع ابن رواحه الى اليسير بن رزام بخيبر.(1/620)
ابن أُنَيْسٍ فَلَمْ تُمِدَّ «1» وَتَفَلَ «2» فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَكَانَ رَمِدًا «3» فَأَصْبَحَ بَارِئًا.. وَنَفَثَ «4» عَلَى ضَرْبَةٍ بِسَاقِ سَلَمَةَ بْنِ «5» الْأَكْوَعِ يَوْمَ حيبر فَبَرِئَتْ.. وَفِي «6» رِجْلِ زَيْدِ بْنِ مُعَاذٍ حِينَ أَصَابَهَا السَّيْفُ إِلَى الْكَعْبِ حِينَ قَتَلَ ابْنَ «7» الأشرف فبرئت، وعلى «8» ساق علي «9» ابن الحكم يوم الخندق اذ انكسرت فبرىء مَكَانَهُ.. وَمَا نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَاشْتَكَى عَلِيُّ «10» بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَجَعَلَ يَدْعُو فَقَالَ النَّبِيُّ
__________
(1) تمد: بضم التاء وكسر الميم وتشديد الدال من أمد الجرح صارت فيه مدة أي قيحا والمعنى لم تحصل مادة من القيح في ذلك الجرح.
(2) رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي.
(3) رمدا: بفتح الراء المهملة وكسر الميم أي ذار مد بفتحتين وهو وجع العين
(4) رواه البخاري عن سلمة.
(5) هو سلمة بن عمرو بن سنان بن الاكوع الاسلمي صحابي من الذين بايعوا تحت الشجرة غزا مع النبي صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات وكان شجاعا بطلا راميا عداء وهو ممن غزا افريقية أيام عثمان، توفي في المدينة.
(6) رواه عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة ورواه ابن اسحق والواقدي أيضا لكن قال بدل زيد بن معاذ الحارث بن اوس ورواه البيهقي من حديث جابر ذكر بدلهما عباد بن بشر وهو ممن حضر قتل كعب وأما زيد بن معاذ فقال الحلبي: «لا اعرف انه ذكر في هذه الواقعة بل ولا في الصحابه أحد يقال له زيد بن معاذ إلا ان يكون احد نسب الى جده او جد له أعلى بل الذي جرح في رأسه او رجله على الشك من الراوي في قتل كعب بن الاشرف إنما هو الحارث بن أوس.
(7) وكعب بن الاشرف احد اليهود الذين ندب الرسول صلّى الله عليه وسلم الصحابة الى قتلهم، وقد تبرع بقتله محمد بن مسلمة وسلطان بن سلامة وعباد بن بشر وقيس وأبو عبس بن جبير
(8) رواه ابو القاسم البغوي في معجمه.
(9) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «3»
(10) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4»(1/621)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اشْفِهِ أَوْ عَافِهِ.. ثُمَّ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ.. فَمَا اشْتَكَى ذَلِكَ الْوَجَعَ بَعْدُ «1» وَقَطَعَ أَبُو جَهْلٍ «2» يَوْمَ بَدْرٍ يَدَ مُعَوِّذِ بْنِ «3» عَفْرَاءَ فَجَاءَ يَحْمِلُ يَدَهُ فَبَصَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْصَقَهَا فَلَصِقَتْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ «4» .
وَمِنْ «5» روايته أيضا أنّ حبيب بْنَ «6» يَسَافٍ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبَةٍ عَلَى عَاتِقِهِ «7» حَتَّى مَالَ شِقُّهُ «8» .
فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَثَ عَلَيْهِ حَتَّى صَحَّ وَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ «9» مِنْ خَثْعَمَ «10» مَعَهَا صَبِيٌّ بِهِ بَلَاءٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ فَاهُ وَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَعْطَاهَا إِيَّاهُ وَأَمَرَهَا بِسَقْيِهِ وَمَسِّهِ بِهِ فَبَرَأَ الْغُلَامُ وَعَقَلَ عَقْلًا يفضل عقول الناس «11» ..
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «3»
(3) وعفراء اسم أمه وهو من شهداء بدر والذي في سيرة ابن سيد الناس ان معادا قتل أبا جهل فضربه ابنه عكرمة وطرح يده وتعلقت بجلده من جنبه وأجهضه القتال فقاتل يومه وهو يسحب يده خلفه فلما أذنه وضع عليها قدمه فقطعها.
(4) تقدمت ترجمته في ص «332» رقم «1»
(5) رواه البيهقي عن ابن اسحق.
(6) بالتصغير وخاء معجمة وهو من الانصار وهو ابن يساف ويسال: إساف بهمزة مكسورة وتأخر اسلامه الى ان سار رسول الله الى بدر فلحقه وأسلم وشهد بدرا.
(7) عانقه: أي ما بين منكبه وعنقه.
(8) شقه: بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف أي احد شقيه بانفصاله عنه بحد سيفه
(9) رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أم جندب مرفوعا.
(10) خثعم: اسم قبيلة من قبائل العرب.
(11) رواه البيهقي وابن ابي شيبة وأحمد.(1/622)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «1» جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جُنُونٌ.. فَمَسَحَ صَدْرَهُ فَثَعَّ ثَعَّةً «2» فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مِثْلُ الجرو «3» الأسود فشفي.
وَانْكَفَأَتِ «4» الْقِدْرُ عَلَى ذِرَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ «5» حَاطِبٍ وهو طفل..
فمسح عليها وَدَعَا لَهُ.. وَتَفَلَ فِيهِ فَبَرَأَ لِحِينِهِ «6» .
وَكَانَتْ فِي كَفِّ شُرَحْبِيلَ «7» الْجُعْفِيِّ سَلْعَةً «8» تَمْنَعُهُ الْقَبْضَ عَلَى السَّيْفِ وَعِنَانِ «9» الدَّابَّةِ فَشَكَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم.. فما زال يطحنها «10» ***
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(2) ثع ثعة: بمثلثة ومهملة مشددة اي قاء قيئة.
(3) الجرو: بكسر الجيم وفتحها وضمها ولد الكلب والسبع.
(4) انكفأت: بهمزه مفتوحة بعد الفاء اي انقلبت وسقطت.
(5) القرشي الجمحي الصحابي ولد بالحبشة وهو اول من سمي محمدا في الاسلام توفي عام أربع وسبعين بمكة وقيل بالكوفة.
(6) رواه النسائي والطيالسي والبيهقي.
(7) شرحبيل بن عبد الرّحمن الجعفي وقيل: ابن أوس الجعفي وقال ابن السكن وابن حبان: قيل: له صحبة.
(8) سلعة: بكسر السين المهملة وسكون اللام وفتح العين المهملة وهي زيادات تحدث في الجسد بين الجلد واللحم كالغدة تكون من قدر حمصة الى قدر بطيخة اذا غمزت باليد تحركت.
(9) عنان: بكسر العين المهملة لجامها او زمامها.
(10) يطحنها: بفتح الحاء الهملة أي يعالجها ويفحصها بكفه.(1/623)
بِكَفِّهِ حَتَّى رَفَعَهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ «1» .. وَسَأَلَتْهُ جَارِيَةٌ طَعَامًا وَهُوَ يَأْكُلُ فَنَاوَلَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.. وَكَانَتْ قَلِيلَةَ الْحَيَاءِ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أُرِيدُ مِنَ الَّذِي فِي فِيكَ.. فَنَاوَلَهَا مَا فِي فِيهِ.. وَلَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعُهُ.. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِهَا أُلْقِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَيَاءِ مَا لَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ أَشَدَّ حياء منها «2» ..
__________
(1) رواه الطبراني والبيهقي.
(2) رواه الطبراني عن أبي أمامة.(1/624)
الفصل الثاني والعشرون إِجَابَةِ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمَاعَةٍ بِمَا دَعَا لَهُمْ وعليهم متواتر على الجملة معلوم بالضرورة وقد جاء في حديث «1» حذيفة «2» :
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا لِرَجُلٍ أَدْرَكَتِ الدَّعْوَةُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ ولده.
عَنْ «3» أَنَسٍ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالَتْ أُمِّي «5» : يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ.. قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا آتَيْتَهُ.
وَمِنْ رِوَايَةِ «6» عِكْرِمَةَ «7» قال أنس: فو الله إن مالي لكثير
__________
(1) رواه احمد في مسنده.
(2) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «6» .
(3) أسنده المصنف عن طريق البخاري وأخرجه مسلم أيضا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) هي الصحابية الجليلة أم سليم واسمها رميلة وقيل الرمضاء.
(6) على ما انفرد بها مسلم.
(7) تقدمت ترجمته في ص «160» رقم «1» .(1/625)
وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيُعَادُّونُ «1» الْيَوْمَ عَلَى نحو المئة.
وفي رواية «2» فما أَعْلَمُ أَحَدًا أَصَابَ مِنْ رَخَاءِ الْعَيْشِ مَا أصبت..
ولقد دفنت بيدي هاتين مئة مِنْ وَلَدِي.. لَا أَقُولُ سَقْطًا «3» وَلَا وَلَدَ وَلَدٍ.
وَمِنْهُ «4» دُعَاؤُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ «5» عَوْفٍ بِالْبَرَكَةِ.. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ تَحْتَهُ ذَهَبًا وَفَتَحَ اللَّهُ عليه ومات فحضر الذهب من تركته بالفؤوس «6» حَتَّى مَجَلَتْ «7» فِيهِ الْأَيْدِي.. وَأَخَذَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ ثمانين ألفا وكن أربعا وقيل مئة أَلْفٍ.. وَقِيلَ بَلْ صُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا في مرضه عن نَيِّفٍ «8» وَثَمَانِينَ أَلْفًا. وَأَوْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفًا بَعْدَ صدقاته الفاشية «9» في حياته وعوارفه العظيمة.
__________
(1) ليعادون: بضم الياء وتشديد الدال المعجمة أي يعد بعضهم بعضا. قال التلمساني: «وفي رواية الصحيحين والمصابيح ليتعادون بزيادة التاء.
(2) وهي غير معروفة.
(3) سقطا: بكسر السين المهملة ويجوز ضمها وفتحها وهو الجنين الذي يسقط قبل تمامه.
(4) رواه البيهقي.
(5) تقدمت ترجمته في ص «281» رقم «3»
(6) الفؤوس: بضم الفاء والهمزة وسكون الواو جمع فأس بالهمزة ويبدل كرأس ورؤوس وكأس وكؤوس.
(7) مجلت: بفتح الميم والجيم ويكسر اي: تنفطت من كثرة العمل.
(8) نيف: بفتح النون وتشديد الياء المثناة التحتة المكسورة او تسكينها.
(9) الفاشية: أي الكثيرة الشائعة.(1/626)
- أَعْتَقَ يَوْمًا ثَلَاثِينَ عَبْدًا وَتَصَدَّقَ مَرَّةً بِعِيرٍ «1» فيها سبعمئة بَعِيرٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.. فَتَصَدَّقَ بِهَا وَبِمَا عَلَيْهَا وَبِأَقْتَابِهَا «2» وَأَحْلَاسِهَا «3» .
وَدَعَا «4» لِمُعَاوِيَةَ «5» بِالتَّمْكِينِ فِي الْبِلَادِ فَنَالَ الْخِلَافَةَ وَلِسَعْدِ «6» ابن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُجِيبَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَمَا دَعَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ «7» .
وَدَعَا «8» بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِعُمَرَ «9» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ بِأَبِي «10» جَهْلٍ فَاسْتُجِيبَ لَهُ في عمر.
__________
(1) بعير: أي بقافلة.
(2) أقتابها: جمع قتب بالتحريك بالفتح وهو الرحل الصغير على قدر منام البعير
(3) احلاسها: جمع حلس بكسر الحاء المهملة وتسكين اللام وهو كساء يلي ظهر البعير تحت القتب.
(4) رواه ابن سعد.
(5) تقدمت ترجمته في ص «359» رقم «2» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «215» رقم «1» .
(7) رواه الترمذي موصولا ورواه البيهقي عن قيس بن أبي حازم مرسلا بلفظ «اللهم استجب له اذا دعا» وحسنه، وقد استجيب لسعد دعوات مخرجة في الصحيح وغيره.
(8) رواه الامام أحمد والترمذي في جامعة وغيرهما عن ابن عمر به مرفوعا ولفظه «اللهم أيد الاسلام باحد هذين الرجلين اليك بأبي جهل او بعمر بن الخطاب» وصححه ابن حبان والحاكم في مستدركه عن ابن عباس «اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب خاصة» وقال انه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(9) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم (4) .
(10) تقدمت ترجمته في ص 270 رقم «3» .(1/627)
وقال «1» ابْنُ مَسْعُودٍ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ وَأَصَابَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ عَطَشٌ فَسَأَلَهُ عُمَرُ الدُّعَاءَ فَدَعَا فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَسَقَتْهُمْ حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أَقْلَعَتْ.
وَدَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ «3» فَسُقُوا ثُمَّ شَكَوْا إِلَيْهِ الْمَطَرَ فدعا فصحوا وَقَالَ «4» لِأَبِي قَتَادَةَ «5» أَفْلَحَ وَجْهُكَ.. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي شَعْرِهِ «6» وَبَشَرِهِ فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً وَكَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَالَ «7» لِلنَّابِغَةِ «8» لَا يَفْضِضُ «9» اللَّهُ فَاكَ «10» .. فَمَا سقطت له
__________
(1) رواه البخاري.
(2) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» وفي ص «256» رقم «2»
(3) رواه الشيخان عن أنس.
(4) رواه البيهقي عنه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «259» رقم «6» .
(6) شعره: بفتح الشين المعجمة وفتح العين المهملة وتسكينها.
(7) رواه البيهقي وابن ماجة عن النابغة.
(8) واسمه قيس: وقيل حبان بن عبد الله بن عمر بن عدس والنابغة لقبه وفي الشعراء من لقب غيره بلقب النابغة كالذبياني، ولكن اذا أطلق فالمقصود منه هذا وهو من المحضرمين المعمرين قيل: عاش مائتين وثمانين سنة وقيل مئاتين وأربعين وقيل: مائة واربعين واجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلم ومدحه بقصيدته الرائية وهي نحو مائة بيت أنشدها بين يديه فدعا له النبي صلّى الله عليه وسلم.
(9) لا يفضض: بضم الضاد المعجمة الاولى وكسر الثانية على ان لا ناهية وضمها على ان لا نافية وهي ابلغ أي لا يسقط وقيل لا يكسر من فض كسر وفرق وروى لا يفض الله فاك من الفضاء وهو الخلا أي لا يجعل الله فاك فضاء لا أسنان فيه،
(10) فاك: أي الاسنان الموجودة في فمك وهو مجاز علاقته إطلاق المحل وإرادة الحال كقوله تعالى «أسأل القرية» .(1/628)
سِنٌّ وَفِي رِوَايَةٍ فَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ ثَغْرًا «1» .. إِذَا سَقَطَتْ لَهُ سِنٌّ نَبَتَتْ لَهُ أُخْرَى وعاش عشرين ومئة وَقِيلَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
وَدَعَا «2» لِابْنِ عَبَّاسٍ «3» «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ..
فَسُمِّيَ بَعْدُ الْحَبْرَ «4» وَتَرْجُمَانَ «5» الْقُرْآنِ.
وَدَعَا «6» لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ «7» جَعْفَرٍ بِالْبَرَكَةِ فِي صَفْقَةِ «8» يَمِينِهِ فَمَا اشْتَرَى شَيْئًا إِلَّا رَبِحَ فِيهِ.
وَدَعَا «9» لِلْمِقْدَادِ «10» بالبركة فكانت عنده غرائر «11» من الْمَالِ وَدَعَا «12» بِمِثْلِهِ لِعُرْوَةَ «13» بْنِ أَبِي الْجَعْدِ فقال: فلقد كنت
__________
(1) ثغرا: بفتح المثلثة وسكون الغين المعجمة أي سنا وقيل هو ما تقدم من الاسنان
(2) رواه الشيخان.
(3) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «6» .
(4) الحبر: بفتح الحاء المهملة وكسرها وتسكين الباء المعجمة الموحدة العالم وسمي بالحبر وهو المدا لمزاولته له غالبا في أداء المراد.
(5) ترجمان: بفتح التاء المثناة الفوقية وضم الجيم وضمهما وحكي فتحهما أي مفسره
(6) رواه البيهقي عن عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه.
(7) تقدمت ترجمته في ص «600» رقم «8» .
(8) صفقة يمينه: أي بتابعه وسمي صفقة لوضع كل من البائعين يده في يد الآخر عرفا وعادة
(9) رواه البيهقي.
(10) وهو ابن عمرو بن ثعلبة واشتهر بابن الأسود لأنه تربى في حجره وهو صحابي مشهور توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
(11) غرائر: بفتح الغين المعجمة جمع غرارة بكسر الغين المعجمة وهي جوالق.
(12) رواه البخاري، ورواية أنه كان يقوم بالكناسة أخرجها أحمد.
(13) البارقي وقيل: الأزدي واختلف فيه فقيل عروة ابن أبي الجعد وقيل ابن الجعد. وهو صحابي مشهور أخرج له الستة وأحمد وولاه عمر قضاء الكوفة.(1/629)
أَقُومُ بِالْكُنَاسَةِ «1» فَمَا أَرْجِعُ حَتَّى أَرْبَحَ أَرْبَعِينَ ألفا..
وقال البخاري في حديثه فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ رَبِحَ فِيهِ..
وَرُوِيَ «2» مِثْلُ هَذَا لِغَرْقَدَةَ «3» أَيْضًا: وَنَدَّتْ «4» لَهُ نَاقَةٌ فَدَعَا.. فَجَاءَهُ بِهَا إِعْصَارُ «5» رِيحٍ حَتَّى رَدَّهَا عَلَيْهِ.
وَدَعَا «6» لِأُمِّ «7» أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَسْلَمَتْ.
وَدَعَا «8» لَعَلِيٍّ «9» أَنْ يُكْفَى الْحَرَّ وَالْقُرَّ «10» فَكَانَ يَلْبَسُ فِي الشِّتَاءِ ثِيَابَ الصَّيْفِ وَفِي الصَّيْفِ ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَلَا يُصِيبُهُ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ.
وَدَعَا «11» لفاطمة «12» ابنته الله أن لا يجيعها.. قالت: فما جعت بعد
__________
(1) الكناسة: بضم الكاف موضع او سوء بالكوفة وكانوا يرمون فيه كناسات دورهم
(2) قال الدلجي: «لا أدري من رواه» .
(3) صحابي يسمى أبا شبيب روى عنه ابنه.
(4) ندت بنون وتشديد الدال المهملة أي نفرت وذهبت على وجهها شاردة.
(5) إعصار: بكسر الهمزة ريح عاصف يستدير في الارض ثم يسطع الى السماء مستديرا كالعمود.
(6) رواه مسلم فدعاها للاسلام يوما فأسمعته ما يكره فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء الى النبي وشكا اليه ذلك فدعا لها فأسلمت.
(7) واسمها أميمة بنت صبيح وقيل بنت صفيح وقيل اسمها ميمونة وكان ابنها أبو هريرة رضي الله عنه حريصا على إسلامها.
(8) رواه ابن ماجه والبيهقي.
(9) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4»
(10) القر: بضم القاف وفتحها وكسرها، البرد او شديده.
(11) رواه البيهقي عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه.
(12) بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولقبها: الزهراء وأمها خديجة رضي الله عنها، تزوجها علي رضي الله عنه في رمتها بالحسن والحسين وأم كلثوم وزينب وعاشت بعد أبيها ستة أشهر.(1/630)
وَسَأَلَهُ «1» الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو «2» آيَةً «3» لِقَوْمِهِ فَقَالَ: اللهم نوّر له فسطع له نور بين عينيه فقال: يا رب أخاف أن يقولوا: مثلة «4» فتحول إلى سوطه.. فقال يضيء في الليلة المظلمة فسمي ذا النَّوِرَ.
وَدَعَا «5» عَلَى مُضَرَ «6» فَأَقْحَطُوا حَتَّى اسْتَعْطَفَتْهُ قُرَيْشٌ فَدَعَا لَهُمْ فَسُقُوا.
وَدَعَا «7» عَلَى كِسْرَى «8» حِينَ مَزَّقَ كِتَابَهُ أَنْ يُمَزِّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ..
فلم يبق لَهُ بَاقِيَةٌ، وَلَا بَقِيَتْ لِفَارِسَ رِيَاسَةٌ فِي أقطار الدنيا..
__________
(1) رواه ابن إسحاق بلا سند والبيهقي عنه وابن جرير من طريق الكلبي.
(2) الأزدي الدوسي ويقال له: ذو النور وهو من كبار الصحابة وأصحاب النور وهم ستة: أسيد بن حضير وعباد بن بشر وحمزة بن عمرو الأسلمي وقتادة بن النعمان والحسن بن علي والطفيا هذا وقتل في وقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة من الهجرة.
(3) آية: علامة.
(4) مثلة: بضم الميم ويفتح ويكسر وسكون التاء المثلثة الفوقية أي تنكيل وعقوبة
(5) رواه النسائي عن ابن عباس والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وأصله في الصحيحين.
(6) تعز: وهي قبيلة من قبائل العرب.
(7) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(8) وهو لقب لكل من ملك الفرس واسم هذا الذي كتب اليه النبي صلّى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه الى الاسلام ابرويز بن هرمز وهو من اولاد أنو شروان.(1/631)
وَدَعَا «1» عَلَى صَبِيٍّ قَطَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ أَنْ يقطع الله أثره فأقعد.
وقال «2» لرجل «3» رآه يأكل شماله: كل بيمينك.. فقال لا أستطيع.. فقال لا اسْتَطَعْتَ.. فَلَمْ يَرْفَعْهَا إِلَى فِيهِ.
وَقَالَ «4» لِعُتْبَةَ «5» بْنِ أَبِي لَهَبٍ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا من كلابك فأكله الاسد.
__________
(1) رواه أبو داود والبيهقي ورواه ابن حبان عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد ابن مهران يقول: «مررت بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو يصلي» فقال: «اللهم اقطع أثره» فما مشيت، وقد ضعف عبد الحق وابن القطان إسناده وكذا ابن القيم وقال الذهبي أظن أنه موضوع ثم على تقدير ثبوته فيه إشكال وهو أنه صلّى الله عليه وسلم كيف يدعو على الصبي وهو غير مكلف بالاحكام إنما صارت متعلقة بالبلوغ بعد الهجرة قال الحلبي «وفي كلام السبكي أنها إنما صارت متعلقة بالبلوغ بعد أحد» ثم قال ألحلبي «أن هذا من باب خطاب الوضع لأنه إتلاف لا يشترط فيه التكلف» اهـ وتبعه الانطاكي وقرره التلمساني وفيه «أن الصلاة صحيحة بالاجماع فليس من الاتلاف بلا نزاع لكمال الحال في حصور البال وهو غير مقتض لهذا النكال» ولذا قال الدلجي: «وأجيب عنه بما لا يشفي ثم أقول ولعل الصبي كان من أولاد الكفار وقد أمره أهله بان يقطع الصلاة على سيد الابرار فأراهم صلّى الله عليه وسلم معجزة اظهارا للمعزة ودفعا للمذلة أو كان الصبي مراهقا فظنه صلّى الله عليه وسلم بالغا وفي قطعه قاصدا فتبين انه كان صبيا قاصرا او يكون من باب مقنية الخضر مع الصغير مكاشفا.
(2) رواه مسلم عن سلمة بن الاكوع
(3) وهو بشر بن راعي العبر الأشجعي وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لا عذر له في المخالفة وأنه لم يمتثل أمره تكبيرا ولذا قال المصنف في شرح مسلم: انه كان منافقا إلا أن الذهبي قال: انه صحابي جليل فيحتمل انه كان في اول أمره منافقا ثم لما ظهرت له هذه الآية تاب وأخلص لله.
(4) رواه ابن اسحاق من طريق عروة بن الزبير عن هبار بن الاسود والحاكم من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه والبيهقي من طريق أخرى.
(5) الجهنمي وكان لأبي لهب اولاد ثلاثة عتبة وعتيبة ومعتب أسلم منهم اثنان يوم الفتح ولم يهاجرا من مكة وبقي منهم على الكفر عتبة هذا اهـ وكانت عنده بنت النبي صلى الله عليه وسلم فطلقها ودعا عليه النبي بما يأتي.(1/632)
وَقَالَ «1» لِامْرَأَةٍ «2» أَكَلَكِ الْأَسَدُ ... فَأَكَلَهَا..
وَحَدِيثُهُ «3» الْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «4» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دُعَائِهِ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ وَضَعُوا السَّلَا «5» عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ مَعَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَسَمَّاهُمْ وَقَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَدَعَا «6» عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَبِي «7» الْعَاصِ وَكَانَ يَخْتَلِجُ بِوَجْهِهِ وَيَغْمِزُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «8» أَيْ لَا «9» فَرَآهُ فَقَالَ: كَذَلِكَ كُنْ.. فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِجُ إِلَى أن مات.
__________
(1) رواه ابن سعد في الطبقات من طريق الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما قال: «أقبلت ليلى بنت الحطية إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مول ظهره للشمس وضربت على منكبه فقال من هذا أكله الاسد فقالت أنا بنت مطعم الطير ومبادي الريح أنا ليلى بنت الحطية جئت لأعرض عليك نفسي تزوجني قال قد فعلت فرجعت الى قومها فقالت قد تزوجني النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا أنت امرأة النبي وللنبي نساء فيدعو عليك فرجعت وقالت له: أقلني فأقالها وتزوجت بغيره فبينما هي في حائط بالمدينة افترسها ذئب فالأسد هنا بمعنى الحيوان المفترس.
(2) تقدم شيء عنها في رقم «1» .
(3) رواه الشيخان.
(4) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» وص «256» رقم «2» .
(5) السلا: بفتح السين المهملة مقصورا هو للبهيمة كالمشيمة لبني آدم وهي جلد رقيق يخرج مع الولد من بطن أمه ملفوفا فيه.
(6) رواه البيهقي من طريق عبد الرّحمن بن أبي بكر وعن ابن عمرو عن هند بن خديجة
(7) ابن عبد شمس بن عبد مناف وهو ابو مروان وعم عثمان رضي الله عنه وهو ممن أسلم في الفتح وكان قد أخرجه النبي صلّى الله عليه وسلم في الطائف هو وابنه مروان وردة عثمان في خلافته لما علم من توبته وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
(8) كان يجلس خلفه صلّى الله عليه وسلم فاذا تكلم يحرك شفته وذقنه حكاية لفعله ويرمز مشيرا بعينه او حاجبه.
(9) أي اراد به ردا لكلامه استهزاء وسخرية.(1/633)
وَدَعَا «1» عَلَى مُحَلِّمِ بْنِ «2» جَثَّامَةَ فَمَاتَ لِسَبْعٍ فلفظته «3» الأرض ثم وروي فَلَفَظَتْهُ مَرَّاتٍ فَأَلْقَوْهُ بَيْنَ صُدَّيْنِ «4» وَرَضَمُوا «5» عَلَيْهِ بالحجارة والصدّ جانب الوادي.
وجحده «6» رجل بيع فَرَسٍ وَهِيَ الَّتِي شَهِدَ «7» فِيهَا خُزَيْمَةُ «8» لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ الْفَرَسَ بَعْدَ «9» النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجُلِ وقال اللهم
__________
(1) رواه البيهقي عن تبعية بن ذؤيب وابن جرير موصولا عن ابن عمر وقال الحسن بلغني انه دعا، الحديث وسبب دعائه على محلم أنه كان بعث سرية للغزو فيها محلم فأمر عليهم عامر بن الاضبط فلما بلغوا بطن واد قتل محلم عامرا غدرا فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) بضم الميم وفتح الحاء وكسر اللام المشددة وسبب الدعاء عليه قد مر آنفا وفي هذا نزل قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» ولهم في سبب نزول الآية وفيمن نزلت أقوال كثيرة وقد اختلف في محلم هذا بعد تحقق اسلامه وصحبته هل كان منافقا أم لا؟
(3) فلفظته: بفتح اللام وفتح الظاء المعجمة أي قذفته الارض ورمته على ظهرها بعد دفنه في بطنها.
(4) صدين: بفتح الصاد ويضم جبين أو واديين.
(5) رضموا: بفتح الراء المهملة والضاد المعجمة أي كوموا عليه.
(6) والحديث رواه أعرابي اسمه سواد بن قيس وقيل ابن الحارث وهو صحابي وكان كلام الاعرابي قبل إسلامه او قبل خلوص إسلامه والا فمثله لا يليق.
(7) أي بأنه اشتراه منه مع انه لم يره وجعل صلّى الله عليه وسلم شهادته وحدها مقبولة عن اثنين. هذا خاص به ولا يقاس عليه.
(8) يقال: اسمه ابو حزيمة وهو صحابي مشهور قتل بصفين مع علي سنة سبع وثلاثين ولما شهد للنبي صلّى الله عليه وسلم قبل شهادته وجعل شهادته بشهادتين وقال: من شهد له خزيمة فهو حسبه.
(9) أي بعد جحده وشادة خزيمة له رد النبي عليه الصلاة والسلام الفرس على الرجل(1/634)
إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا تُبَارِكْ لَهُ فِيهَا ... فَأَصْبَحَتْ شَاصِيَةً «1» بِرِجْلِهَا- أَيْ رَافِعَةً.. وَهَذَا الْبَابُ أكثر من أن يحاط به.
__________
(1) شاصية: أي رافعة بسبب نفخها من شصا بصره أي شخص.(1/635)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ فِي كَرَامَاتِهِ وَبَرَكَاتِهِ وَانْقِلَابِ الْأَعْيَانِ لَهُ فِيمَا لَمَسَهُ أَوْ بَاشَرَهُ صَلَّى الله عليه وسلم
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طلحة «3» كان يقطف «4» أو به قطوف «5» وَقَالَ غَيْرُهُ يُبَطَّأُ. فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: وَجَدْنَا فَرَسَكَ بَحْرًا «6» ... فَكَانَ بَعْدُ لَا يُجَارَى.
وَنَخَسَ «7» جمل جابر «8» وكان قد أعيى فنشط حتى كان ما يملك «9» زمامه «10» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «238» رقم «3» .
(4) يقطف: بضم الطاء ويكسر أي يقارب خطوة في سرعة.
(5) قطوف: بضم أوله قال الجوهري: «القطوف من الدواب البطيء» . أبو زيد: «هو الضيق المشي» .
(6) بحرا: أي واسع الجري سريع العدو.
(7) نخس: بالنون والخاء المعجمتين المفتوحتين أي طعنه عند دبره أو جنبه بمحجن او نحوه.
(8) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1» .
(9) وفي نسخة لا يملك.
(10) رواه الشيخان.(1/636)
وَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ بِفَرَسٍ لِجُعَيْلٍ الْأَشْجَعِيِّ «1» خَفَقَهَا بِمِخْفَقَةٍ «2» مَعَهُ وَبَرَّكَ «3» عَلَيْهَا فَلَمْ يَمْلِكْ رَأْسَهَا نَشَاطًا وَبَاعَ مِنْ بَطْنِهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا «4» .
وَرَكِبَ حِمَارًا قَطُوفًا لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ «5» فَرَدَّهُ هِمْلَاجًا «6» لَا يُسَايَرُ «7» .
وَكَانَتْ شَعَرَاتٌ مِنْ شَعْرِهِ فِي قَلَنْسُوَةِ «8» خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ «9» فَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا قِتَالًا إِلَّا رُزِقَ النَّصْرَ «10» .
وَفِي الصَّحِيحِ «11» عَنْ أَسْمَاءَ «12» بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنها:
__________
(1) بالتصغير وهو ابن زياد وقيل إنه سمرة الصحابي الكوفي وقيل: اسمه جعال وأشجع قبيلة معروفة.
(2) خفقها بمخفقة: أي ضربها بدرة.
(3) برك عليها: بتشديد الراء دعا لها بالبركة.
(4) رواه البيهقي.
(5) سيد الخزرج من الانصار وأحد الأمراء الاشراف جاهلية واسلاما شهد العقبة مع السبعين، وكان احد النقباء الاثني عشر، وشهد أحدا والخندق وغيرهما من المشاهد وتوفي بحوران من أرض الشام.
(6) هملاجا: بكسر فسكون ثم جيم أي سريع الهرولة فارسي معرب ويسمى الآن رهوانا.
(7) رواه ابن سعد من حديث اسحق بن عبد الله بن أبي طلحة.
(8) قلنسوة: بفتح القاف واللام وضم السين تلبس في الرأس.
(9) ابن المغيرة المخزومي سيف الله. كان من اشراف قريش في الجاهلية، وشهد مع المشركين حروب الاسلام الى عمرة الحديبية، واسلم قبل فتح مكة، وسيره أبو بكر لقتال المرتدين ثم الى العراق ثم الى الشام وجعله أميرا على من فيها من الامراء، ولما تولى عمر الخلافة عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح فلم يثن ذلك من عزمه ومات في حمص، وقيل في المدينة، كان خطيبا فصيحا، يشبه عمر بن الخطاب في خلقه وصفته.
(10) رواه البيهقي.
(11) أي من رواية مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة.
(12) تقدمت ترجمته في ص «405» رقم «12» .(1/637)
«أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ «1» وَقَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا» .
وَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ «2» عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمَأْمُونِ «3»
قال: «كانت عِنْدَنَا قَصْعَةٌ «4» مِنْ قِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَكُنَّا نَجْعَلُ فِيهَا الْمَاءَ لِلْمَرْضَى فَيَسْتَشْفُونَ بِهَا ... وَأَخَذَ جَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ «5» الْقَضِيبَ «6» مِنْ يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَكْسِرَهُ عَلَى رُكْبَتِهِ فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَأَخَذَتْهُ فِيهَا الْآكِلَةُ «7» فَقَطَعَهَا وَمَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ «8» » .
وَسَكَبَ مِنْ فَضْلِ وَضَوْئِهِ «9» فِي بِئْرِ قُبَاءَ فَمَا نَزَفَتْ «10» بَعْدُ «11»
__________
(1) الطيلس هو الأسود أي جبة سوداء وهي كلمة أعجمية
(2) هو حسين بن محمد أبو علي، قاض محدث من أهل سرقسطة رحل الى المشرق رحلة واسعة سنة 481- 490 وقبل القضاء في المريه على كره منه واستشهد في معركة قتندة بثغر الاندلس.
(3) لم نعثر على ترجمته.
(4) قصعة: الصحفة
(5) اختلف في اسم أبيه فقيل: هو ابن مسعود رضي الله عنه وقيل ابن سعد بن حرام وقيل ابن سعيد وقيل ابن قيس وهو صحابي مهاجري مدني شهد المشاهد كلها وتوفي بعد عثمان بسنة.
(6) القضيب: هو عصا النبي صلّى الله عليه وسلم التي كان الخلفاء يتداولونها
(7) الأكلة: بفتح الهمزة وكسر الكاف وتسكن، وفي لغة بكسر الهمزة وتسكين الكاف وفي لغة بفتحتين وهي الحكة، وفي نسخة بمد فكسر.
(8) رواه أبو نعيم في الدلائل وابن السكن في معرفة الصحابة.
(9) وضوئه: بفتح الواو وتضم أي ماء وضوئه.
(10) ما نزفت: أي ما نقصت.
(11) رواه البيهقي عن أنس.(1/638)
وَبَزَقَ فِي بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِ أَنَسٍ فَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ أَعْذَبُ مِنْهَا «1»
وَمَرَّ عَلَى مَاءٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ اسْمُهُ بَيْسَانُ «2» وَمَاؤُهُ مِلْحٌ..
فَقَالَ: بَلْ هُوَ نُعْمَانُ وَمَاؤُهُ طَيِّبٌ فَطَابَ.
وَأُتِيَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فمج «3» فيه فصار أَطْيَبَ مِنَ الْمِسْكِ «4»
وَأَعْطَى الْحَسَنَ «5» وَالْحُسَيْنَ «6» لِسَانَهُ فمصاه وكانا يَبْكِيَانِ عَطَشًا فَسَكَتَا «7» .
وَكَانَ لِأُمِّ مَالِكٍ «8» عُكَّةٌ «9» تَهْدِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا تَعْصِرَهَا ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَيْهَا. فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَةٌ سَمْنًا فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا يَسْأَلُونَهَا الْأُدْمَ «10» وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ فَتَعْمِدُ إِلَيْهَا فَتَجِدُ فِيهَا سَمْنًا فَكَانَتْ تُقِيمُ أُدْمَهَا حَتَّى عَصَرَتْهَا «11» .
وَكَانَ يَتْفُلُ فِي أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ الْمَرَاضِعِ فَيُجْزِئُهُمْ رِيقُهُ إِلَى اللَّيْلِ
__________
(1) رواه أبو نعيم.
(2) بيسان: بكسر موحدة وتفتح فسكون تحتية.
(3) مج: بفتح الميم وتشديد الجيم أي ألقى من فيه ماء.
(4) رواه ابن ماجة وروى البيهقي عن وائل الحضرمي ولم يقل من ماء زمزم.
(5) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «2» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «309» رقم «2» .
(7) رواه الطبراني عن أبي هريرة.
(8) الأنصارية الصحابية وهي أم سليمان بنت ملحان وفي شرح المصابيح للتور بشتي: أن أم مالك في الصحابة اثنتان أم مالك الانصارية وأم مالك البهزية وهي صاحبة العكة وقد قيل: إنه لا يعرف اسمها.
(9) عكة: بضم العين المهملة وتشديد الكاف إناء من الجلد يجعل فيه السمن.
(10) الأدم: بضم الهمزة وسكون الدال المهملة أو بضمتين وهو كل ما يؤتم به.
(11) رواه مسلم عن جابر.(1/639)
وَمِنْ ذَلِكَ بَرَكَةُ يَدِهِ فِيمَا لَمَسَهُ وَغَرَسَهُ لسلمان «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَاتَبَهُ مَوَالِيهِ عَلَى ثلاثمئة ودّية «2» يغرسها لهم كلها تعلق «3» وتطعم «4» على أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً «5» مِنْ ذَهَبٍ. فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا لَهُ بِيَدِهِ إِلَّا وَاحِدَةً غرسها غيره «6» . فأخذت كلها إلّا تلك لواحدة فَقَلَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهَا فَأَخَذَتْ. وَفِي كِتَابِ الْبَزَّارِ «7» فَأَطْعَمَ النَّخْلُ مِنْ عَامِهِ إِلَّا الْوَاحِدَةَ.. فَقَلَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا فَأَطْعَمَتْ مِنْ عَامِهَا. وَأَعْطَاهُ مِثْلَ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ بَعْدَ أن
__________
(1) هو أبو عبد الله الفارسي مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من قرية يقال لها: «جؤجؤ» من أصبهان ولم يتخلف عن رسول الله بعد ما أعتقه وكان من علماء الصحابة وزهادهم المعمرين قال النووي اتفقوا على أنه عاش مائتين وخمسين سنة وتوفي في المدائن ودفن فيها سنة خمس او ست وثلاثين وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: إن الجنة لتشتاق له.
(2) ودية: بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية. وهي صغير فسيل النخل.
(3) تعلق: بفتح اللام تمسك او تحبل.
(4) تطعم: بضم التاء وكسر العين أي تعطي الثمرة او تدرك.
(5) أوقية: بضم الهمزة وتشديد التحتية على المشهور وبحذف الهمزة وفتح الواو في لغة وهي كانت اربعين درهما من فضة في زمنه صلّى الله عليه وسلم فالمراد هنا وزنها.
(6) وهو عمر بن الخطاب على ما ذكره ابن عبد البر بسنده في الاستيعاب وهو مسند أحمد أيضا وفي طريق أخرى ذكرها البخاري في غير صحيحه أن الذي غرسها سلمان فيجمع بينهما بان واحدة غرسها عمر وأخرى غرسها سلمان او أن يكونا غرسا واحدة فلم تطعم ويكون الراوي عزا غرسها لعمر مرة ومرة غراسها لسلمان إن كان الراوي واحدا وهو بريدة كما رواه احمد وان كان غيره فيكون فيه مجاز.
(7) تقدمت ترجمته في ص «355» رقم «4» .(1/640)
أَدَارَهَا عَلَى لِسَانِهِ فَوَزَنَ مِنْهَا لِمَوَالِيهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ.
وَفِي «1» حَدِيثِ حَنَشِ بْنِ عُقَيْلٍ «2» سَقَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ شَرِبَ أَوَّلَهَا وَشَرِبْتُ آخِرَهَا فَمَا بَرِحْتُ أَجِدُ شِبَعَهَا إِذَا جُعْتُ وَرِيَّهَا إِذَا عَطِشْتُ وَبَرْدَهَا إِذَا ظَمِئْتُ.
وَأَعْطَى «3» قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ «4» - وَصَلَّى معه العشاء في ليلة
__________
(1) هذا حديث طويل رواه قاسم بن ثابت في الدلائل من طريق موسى بن عقبة عن المسور بن محزمة عنه.
(2) بفتحتين وشين معجمة ابن عقيل أحد بني نفيلة بن مليك أخي غفار وروي عن المسور بن محزمة قال: خرجنا مع عمر حجاجا حتى اذا كنا بالعرج اذا هاتف على الطريق: قفوا، فوقفنا فقال: أفيكم رسول الله؟ فقال له عمر: أتعقل ما تقول؟ قال: نعم. قال: مات، فاسترجع فقال: من ولي بعده؟ قال: أبو بكر. قال: أهو فيكم؟ قال: مات، فاسترجع وقال: من ولي بعده؟ قال عمر قال: أهو فيكم؟ قال هو الذي يخاطبك، قال: الغوث الغوث، قال: فمن أنت؟ قال: أنا الحنش بن عقيل لقيني رسول الله فدعاني الى الاسلام فأسلمت فسقاني فضلة سويق (الخ الحديث الوارد في الاصل) ثم يممت رأس الابيض فما زلت فيه أنا وأهلي عشرة أعوام أصلي خمسا في كل يوم وأصوم شهر رمضان وأذبح بعشر ذي الحجة نسكا، كذلك علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد أصابتني السنة، قال: قد أتاك الغوث، الحقني على الماء، قال: فلما رجعنا سألنا صاحب الماء عنه فقال: ذاك قبره، فأتاه عمر فترحم عليه واستغفر له.
(3) رواه أحمد عن أبي سعيد بسند صحيح.
(4) تقدمت ترجمته آنفا.(1/641)
مُظْلِمَةٍ مَطِيرَةٍ «1» - عُرْجُونًا «2» ، وَقَالَ: انْطَلِقْ بِهِ فَإِنَّهُ سَيُضِيءُ لَكَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ عَشْرًا «3» وَمِنْ خَلْفِكَ عَشْرًا.. فَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَتَرَى سَوَادًا فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَخْرُجَ فَإِنَّهُ الشَّيْطَانُ..
فَانْطَلَقَ فَأَضَاءَ لَهُ الْعُرْجُونُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ وَوَجَدَ السَّوَادَ فَضَرَبَهُ حَتَّى خَرَجَ.
وَمِنْهَا «4» دَفْعُهُ لِعُكَاشَةَ «5» جِذْلَ «6» حَطَبٍ وَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ حِينَ انْكَسَرَ سَيْفُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَادَ فِي يَدِهِ سَيْفًا صَارِمًا طَوِيلَ الْقَامَةِ أَبْيَضَ شَدِيدَ الْمَتْنِ ... فَقَاتَلَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَوَاقِفَ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وكان هذا السيف يسمى العون «7»
__________
(1) مطيرة: كثيرة المطر.
(2) عرجونا: بضم العين المهملة والجيم وبكسر مع فتح الجيم وهو أصل الغدق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ فبقي على النخل يابسا ولعله هو العذق مطلقا وقيل اذا يبس مطلقا وهو الملائم لقوله تعالى: «حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» سورة يس آية 39
(3) أي عشرة أذرع.
(4) رواه البيهقي عن عكاشة رضي الله عنه.
(5) هو عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي من بني غنم، صحابي من أهل السرايا يعد من أهل المدينة، شهد المشاهد كلها مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم «سبقك بها عكاشة» وقتل في حرب الردة بارض نجد.
(6) جذل: بكسر جيم وبفتح وسكون ذال معجمة أي أصل شجرة وأراد به هنا عودا وقيل هو الحطبة او الخشبة الغلظة.
(7) العون: بالمصدر للمبالغة او بمعنى المعين او المعان والمستعان.(1/642)
وَدَفْعُهُ «1» لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ «2» يَوْمَ أُحُدٍ- وَقَدْ ذَهَبَ سَيْفُهُ «3» - عَسِيبَ «4» نَخْلٍ فَرَجَعَ فِي يَدِهِ سَيْفًا. وَمِنْهُ بَرَكَتُهُ فِي دُرُورِ الشِّيَاهِ الْحَوَائِلِ «5» بِاللَّبَنِ الْكَثِيرِ كَقِصَّةِ «6» شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ «7» وَأَعْنُزِ «8» مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرٍ «9» وَشَاةِ أَنَسٍ «10» وَغَنَمِ «11» حليمة «12» مرضعته
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) هو ابن عمة النبي صلّى الله عليه وسلم وأسمها أميمة بنت عبد المطلب وهو من المهاجرين بالهجرتين، ويسمى: المجدع لأنه استشهد بأحد وقيل بقطع أنفه وأذنيه لأنه طلب ذلك من الله تعالى.
(3) جملة اعتراضية.
(4) عسيب نخل: أي جريدة منه مما لا خوص عليه وما نبت عليه الخوص فهو سعف والخوص الاوراق.
(5) الحوائل: جمع حائلة وهي الشاة العديمة اللبن.
(6) رواه ابن سعد والطبراني عن أبي معبد الخزاعي.
(7) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «9» .
(8) وفد معاوية على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو شيخ كبير ومعه ابنه بشر فدعا له النبي صلّى الله عليه وسلم ومسح رأسه وأعطاه أعنزا عشرا فقال محمد بن بشر بن معاوية ابن ثور في أبيه:
وأبي الذي مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات
كما روى ذلك ابن سعد وابن شاهين عن الجعد بن عبد الله.
(9) هو معاوية بن ثور بن عبادة بن البكار العامري البكائي وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم فأعطاه ما تقدم تحت رقم (12) وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلم علم معاوية وابنه بشرا يسن والفاتحة والمعوذات.
(10) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(11) رواه ابو يعلى والطبراني وغيرهما بسند حسن.
(12) حليمة بنت عبد الله بن الحارث العدية وزوجها هو الحارث بن عبد العزى وقد أسلمت هي وزوجها وأولادها وهي مرضعته صلّى الله عليه وسلم.(1/643)
وَشَارِفِهَا «1» وَشَاةِ «2» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «3» وَكَانَتْ له لَمْ يَنْزُ «4» عَلَيْهَا فَحْلٌ وَشَاةُ «5» الْمِقْدَادِ «6» .
وَمِنْ ذَلِكَ «7» تَزْوِيدُهُ أَصْحَابَهُ سِقَاءَ «8» مَاءٍ بَعْدَ أَنْ أَوْكَاهُ «9» وَدَعَا فِيهِ.. فَلَمَّا حَضَرَتْهُمُ الصَّلَاةُ نَزَلُوا فَحَلُّوهُ فَإِذَا بِهِ لَبَنٌ طَيِّبٌ وَزُبْدَةٌ فِي فَمِهِ.
مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ «10» . وَمَسَحَ «11» عَلَى رَأْسِ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ «12» وَبَرَّكَ «13» فَمَاتَ وهو ابن ثمانين فما شاب.
__________
(1) شارفها: هي المسنة من النوق وقيل من الابل وقيل من المعز.
(2) رواه البيهقي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» و «256» رقم «2» .
(4) لم ينز: لم يثب عليها فحل للضراب.
(5) رواه مسلم.
(6) هو المقداد بن عمرو ويعرف بابن الاسود الكندي البهراني الحضرمي، أبو معبد او ابو عمرو، صحابي من الابطال وهو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الاسلام، وأول من قاتل على فرس في سبيل الله، شهد بدرا وغيرها وسكن المدينة وتوفي على مقربة منها فحمل اليها ودفن فيها.
(7) رواه ابن سعد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا
(8) سقاء: بكسر السين المهملة وعاء.
(9) أوكاه: بألف بعد الكاف أي ربطه بالوكاء وهو خيط يشد به الوعاء.
(10) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «2» .
(11) لم يخوجه السيوطي.
(12) عمير بن سعد بن عبيد الأوسي الانصاري، صحابي من الولاة، الزهاد، شهد فتوح الشام، واستعمله عمر على حمص فأقام سنة ودعاه الى المدينة فجاءها فأراد عمر اعادته فأبى ومات في أيامه، وقيل: عاش الى خلافة معاوية، وكان عمر يقول: وددت أن لي رجالا مثل عمير بن سعد أستعين بهم على أعمال المسلمين.
(13) برك: دعا له بالبركة.(1/644)
وَرُوِيَ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَصِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ «1» وَمَدْلُوكٍ «2» .
وَكَانَ يُوجَدُ لِعُتْبَةَ «3» بْنِ فَرْقَدٍ طِيبٌ يَغْلِبُ طِيبَ نِسَائِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح بيديه عَلَى بَطْنِهِ وَظَهْرِهِ «4» .
وَسَلَتَ «5» الدَّمَ عَنْ وَجْهِ عائذ «6» بن عمرو وكان جرح يَوْمَ حُنَيْنٍ «7» وَدَعَا لَهُ فَكَانَتْ لَهُ غُرَّةٌ «8» كغرة الفرس «9» .
__________
(1) السائب بن يزيد بن سعد بن تمامة بن الاسود، صحابي، مولده قبيل السنة الاولى من الهجرة، وكان مع أبيه يوم حج النبي صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع واستعمله عمر على سوق المدينة وهو آخر من توفي بها من الصحابة له في الصحيحين 22 حديثا
(2) هو أبو سفيان القرازي له وفادة على النبي صلّى الله عليه وسلم مع مواليه كان يسكن الشام وأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فمسح برأسه فكان ما مست يده أسود وسائر رأسه أبيض.
(3) هو أبو عبد الله عتبة بن فرقد بن يربوع السلمي الصحابي، شهد خيبر وابتنى بالموصل دارا ومسجدا وابنه عمرو عد من الاولياء وسكن عتبة الكوفة ويقال لأولاده الفراقده وولي الموصل.
(4) رواه الطبراني والبيهقي.
(5) سلت: من السلت وهو مختص باخراج المائع والرطب المتصق بشيء آخر يقال سلت القصعة اذا أمر أصابعه على جوانبها لتنظف والمقصود هنا مسح ما على وجه عائذ من الدم.
(6) هو عائذ بن عمرو بن هلال بن عبيد بن يزيد المزني أبو هبيرة- كان ممن بايع تحت الشجرة وسكن البصرة ومات في إمارة ابن زياد.
(7) أي وقعة حنين التي وقعت مع هوازن سنة ثمان من الهجرة.
(8) غرة: وهي بياض منتشر طولا وعرضا في الوجه.
(9) رواه الطبراني.(1/645)
وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِ قَيْسِ «1» بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيِّ ودعا له فهلك وهو ابن مئة سَنَةٍ وَرَأْسُهُ أَبْيَضُ «2» ، وَمَوْضِعُ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَرَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ من شعره أسود «3» .. فكان يُدْعَى الْأَغَرَّ «4» .
وَرُوِيَ «5» مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِعَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ الْجُهَنِيِّ «6» وَمَسَحَ وَجْهَ آخَرَ «7» فَمَا زَالَ عَلَى وَجْهِهِ نُورٌ.
وَمَسَحَ «8» وَجْهَ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانَ «9» فَكَانَ لِوَجْهِهِ بَرِيقٌ حَتَّى كَانَ يُنْظَرُ فِي وَجْهِهِ كَمَا يُنْظَرُ فِي الْمِرْآةِ «10» .
__________
(1) هو قيس بن زيد بن جبار الجذامي ويقال له: قيس الاغر وروي انه وفد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فولاه الرياسة على قرية بين يديه ومسح على رأسه ودعا له وقال له: بارك الله فيك يا قيس، وكان ابنه نائل سيد جذام بالشام.
(2) أي رأسه أبيض من الشيب.
(3) أي لم يشب بل بقي أسود اللون ببركته صلّى الله عليه وسلم.
(4) ذكره ابن الكلبي.
(5) رواه البيهقي.
(6) هو وهب بن عدي بن مالك البخاري الزهري، والجهني منسوب بالجهينة وهي قبيلة معروفة.
(7) قال البرهان: «لا أعرفه» وقيل لعله خزيمة بن سواد بن الحارث لأنه روي أنه مسح على وجهه فصارت له غرة بيضاء وقيل لعله طلحة بن أم سليم فانه روي أنه صلّى الله عليه وسلم مسح بناصيته فكان كغرة.
(8) رواه أحمد والبيهقي.
(9) هو قتادة بن سلمان القيسي يعد في البصريين.
(10) المرآة: بكسر الميم اسم آلة من الرواية. والظاهر أن النظر في وجهه مبالغة من صفائه وحسنه وليس المراد حقيقته.(1/646)
ووضع «1» يده على رأس حنظلة بن «2» حذيم وَبَرَّكَ «3» عَلَيْهِ فَكَانَ حَنْظَلَةُ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ وَرِمَ وَجْهُهُ وَالشَّاةُ قَدْ وَرِمَ ضَرْعُهَا فَيُوضَعُ عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيذهب الورم.
و «4» نفح «5» فِي وَجْهِ زَيْنَبَ «6» بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ نَضْحَةً مِنْ مَاءٍ فَمَا يُعْرَفُ كَانَ فِي وَجْهِ امْرَأَةٍ مِنَ الْجَمَالِ مَا بِهَا.
وَمَسَحَ «7» عَلَى رَأْسِ صَبِيٍّ بِهِ عَاهَةٌ «8» فَبَرَأَ «9» وَاسْتَوَى شَعْرُهُ.
ومثله روي «10» في خبر المهلب بن قبالة «11» وَعَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى وَالْمَجَانِينِ فبرؤوا.
__________
(1) رواه البيهقي في حديث طويل مسندا وغيره.
(2) هو حنظلة بن خديم بن حنيفة التميمي، له ولأبيه ولجده صحبة.
(3) برك: بفتح الباء المعجمة الموحدة التحتية وتشديد الراء المهملة وفتح الكاف أي دعا له بالبركة وقال: «بارك الله فيك» .
(4) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب.
(5) نفح: بفتح النون وفتح الفاء المعجمة وفتح الحاء المهملة رش.
(6) هي زينب بنت أم سلمة، وأم سلمة هي أم المؤمنين واسمها هند، وقيل رملة وأبوها حذيفة المعروف بزاد الراكب، فزينب ربيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخت ابن الزبير من الرضاعة وكانت عند عبد الله بن زمقة فولدت له، وكانت من أفقه أهل زمانها وأعقلهم، وزينب ولدت في أرض الحبشة فقدمت بها أمها وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب.
(7) هذا الحديث لم يخرجه السيوطي ولا غيره من الشراح.
(8) عاهة: أي عاهة من قرع او غيره.
(9) برأ بزنة ضرب وآخره مهموز أي زالت عاهته وشفي مما به أما برىء بكسر الراء بمعنى خلق فمعتل.
(10) لم يخرجه السيوطي.
(11) قيل هو الذي جاء الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبه أدرة وقيل: أنهما قصتان وصاحب القصة الثانية هو المهلب بن يزيد بن عدي بن قنانة. وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أقرع فمسح على رأسه فنبت شعره.(1/647)
وَأَتَاهُ «1» رَجُلٌ بِهِ أُدْرَةٌ «2» فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْضَحَهَا بماء من عين مجّ «3» فيه ففعل فبرأ..
وعن «4» طاووس «5» لَمْ يُؤْتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَدٍ بِهِ مَسٌّ فَصَكَّ «6» فِي صَدْرِهِ إِلَّا ذَهَبَ (الْمَسُّ الْجُنُونُ) وَمَجَّ فِي دَلْوٍ مِنْ بِئْرٍ ثُمَّ صَبَّ فِيهَا فَفَاحَ مِنْهَا رِيحُ الْمِسْكِ.
وَأَخَذَ «7» قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَقَالَ: شَاهَتِ «8» الوجوه فانصرفوا يمسحون القذى «9» عن أعينهم.
وشكى «10» إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ «11» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّسْيَانَ فأمره ببسط
__________
(1) قال الدلجي «لا أعلم من رواه» .
(2) أدرة: بضم الهمزة وسكون الدال المهملة وفتح الراء المهملة وهاء وهو انتفاخ في الخصيتين.
(3) مج: أي تفل.
(4) هذا الحديث موقوف على طاووس ولم يعلم من رواه عنه من المخرجين.
(5) هو طاووس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرّحمن اليماني المشهور وهو من أبناء الفرس وابنه ذكوان فلقب بطاووس لأنه طاووس القراء وكان رأسا في التابعين حجة في العلم عاملا، زاهدا، توفي سنة ست او خمس ومائة وأخرج له الستة حج أربعين حجة وصلّى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ودفن بمكة رضي الله عنه.
(6) صك: بصاد مهملة وكاف مشددة أي ضرب صدره بيده المباركة.
(7) رواه أحمد عن وائل بن حجر مسندا. في حديث مشهور رواه مسلم عن سلمة بن الاكوع.
(8) شاهت الوجوه: جملة دعائية بمعنى قبحت وقبحها الله وهي من الشوهة والتشويه وهو القبح.
(9) القذى: بفتح القاف والذال المعجمة وألف مقصورة وهو ما يقع في العين من التراب ويكون أيضا ما يقع في الماء المشروب ونحوه مما يكدره.
(10) رواه البخاري.
(11) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «5» .(1/648)
ثَوْبِهِ وَغَرَفَ «1» بِيَدِهِ فِيهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِضَمِّهِ فَفَعَلَ فَمَا نَسِيَ شَيْئًا بَعْدُ.
وَمَا يُرْوَى عنه فِي هَذَا كَثِيرٌ..
وَضَرَبَ «2» صَدْرَ جَرِيرِ «3» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَدَعَا لَهُ وَكَانَ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَصَارَ مِنْ أفرس العرب وأثبتهم.
ومسح «4» رَأْسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ «5» زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَغِيرٌ وَكَانَ دَمِيمًا «6» وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فضرع «7» الرجال طولا وتماما.
__________
(1) غرف: أي فعل فعلا شبيها بمن يغرف من شيء ما.
(2) روي في الصحيحين.
(3) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «7» .
(4) رواه الزبير بن بكار عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزبيري عن أبيه.
(5) هو عبد الرّحمن بن زيد بن الخطاب القرشي العدوي أمه لبابة بنت أبي لبابة الأنصارية. ولد سنة خمس، وقيل ولد سنة الهجرة وزوجه عمر بنته فاطمة فولدت له: عبد الله وولى يزيد بعد معاوية عبد الرّحمن إمرة مكة.
(6) دميما: بدال مهملة: أي قبيحا ودميما لكونه هزيلا قصيرا والدمامة بالمهملة المفتوحة في الخلق وبالمعجمة المضمومة في الخلق.
(7) ضرع: بضاء معجمة وراء مهملة مفتوحتين فعين مهملة أي طال وعلا وغلب.(1/649)
الفصل الرابع والعشرون مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ وَمَا يَكُونُ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ وَمَا يَكُونُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ بَحْرٌ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلَا يَنْزِفُ «1» غَمْرُهُ «2» .. وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى الْقَطْعِ.. الْوَاصِلِ إِلَيْنَا خَبَرُهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهَا واتفاق معانيها على الاطلاع على الغيب.
عَنْ «3» حُذَيْفَةَ «4» قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا.. فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَهُ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ.. قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ.. وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ فَأَعْرِفُهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إذا رآه عرفه ثم قال حذيفة:
__________
(1) ينزف بمعجمة وفاء مبني للمفعول او للفاعل والنزف والنزح بمعنى واحد أي لا يفنى.
(2) غمره: بفتح الغين المعجمة وسكون الميم قبل راء مهملة وهو الماء الكثير جدا
(3) رواه أبو داود والشيخان. وفي رواية أبي داود الموجودة هنا زيادة على رواية الشيخين.
(4) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «6» .(1/650)
مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي أَمْ تَنَاسَوْهُ ... وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدنيا يبلغ من معه ثلاثمئة فَصَاعِدًا إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ.
وَقَالَ «1» أَبُو ذَرٍّ «2» لَقَدْ تَرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا.
وَقَدْ خَرَّجَ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالْأَئِمَّةُ مَا أَعْلَمَ بِهِ أَصْحَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَفَتْحِ مَكَّةَ «3» ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ «4» وَالْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ «5» وَظُهُورِ الْأَمْنِ حَتَّى تَظْعَنَ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحِيرَةِ «6» إِلَى مَكَّةَ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ «7» ..
وأن المدينة ستغزى وتفتح خيبر «8» على يد عَلِيٍّ فِي غَدِ يَوْمِهِ «9» ..
وَمَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَيُؤْتَوْنَ مِنْ زَهْرَتِهَا «10» ..
__________
(1) رواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح.
(2) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(3) كما رواه الشيخان وغيرهما.
(4) كما رواه البخاري وغيره.
(5) كما في الصحيحين عن سفيان بن أبي زهير.
(6) الحيرة: بكسر الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الراء المهملة والهاء مدينة بقرب الكوفة واسم بلدة أخرى بقرب نيسابور.
(7) على ما رواه البخاري عن عدي بن حاتم.
(8) كما رواه الشيخان.
(9) كما رواه الشيخان عن سهل بن سعد بلفظ لاعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فدعا عليا وكان أرمد فبصق في عينيه فبرأ وفتح الله على يديه» .
(10) رواه الشيخان من طرق صحيحة.(1/651)
وَقِسْمَتِهِمْ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ «1» ، وَمَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفُتُونِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَهْوَاءِ «2» ، وَسُلُوكِ سَبِيلِ مَنْ قَبْلَهُمْ «3» ..
وَافْتِرَاقِهِمْ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً.. النَّاجِيَةُ منها فرقة وَاحِدَةٌ «4» ..
وَأَنَّهَا «5» سَتَكُونُ لَهُمْ أَنْمَاطٌ «6» وَيَغْدُو «7» أَحَدُهُمْ فِي حُلَّةٍ «8» وَيَرُوحُ «9» فِي أُخْرَى وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ «10» وَتُرْفَعُ أُخْرَى وَيَسْتُرُونَ بُيُوتَهُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ «11» ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْحَدِيثِ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ.. وَإِنَّهُمْ «12» إِذَا مَشَوُا المطيطاء «13» وخدمتهم
__________
(1) كما في الصحيحين عن طرق أبي هريرة وغيره.
(2) على ما رواه الشيخان من طرق.
(3) كما رواه الشيخان عن أبي سعد بلفظ «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» .
(4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم.
(5) رواه الشيخان عن جابر رضي الله تعالى عنه.
(6) أنماط: جمع نمط كسبب أسباب وهو البساط يعني ان أمته صلّى الله عليه وسلم يتوسعون في الدنيا حتى يتخذوا الفرش النفيسة لبسط الله لهم الرزق بعد ما كانوا فيه من الفقر وضيق المعيشة.
(7) الغدو: بغين معجمة ودال مهملة سير اول النهار.
(8) الحلة: الثوب النفيس.
(9) الرواح: السير آخر النهار.
(10) صحفة: بزنة قصعة وهي إناء الطعام.
(11) رواه الترمذي عن علي وحسنه
(12) رواه الترمذي عن ابن عمر كما قاله الدلجي وأما ما ذكره الحلبي من ان الحديث رواه الذهبي في ميزانه من ترجمة محمد بن خليل الحنفي الكرماني ولفظه وروى عن ابن المبارك عن ابن سوقة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر الحديث ثم قال لا يصح فلا يعارض ما تقدم فان عدم صحته يحمل على روايته مع أنه لا يلزم من عدم الصحة نفي الثبوت بطريق الحسن وهو كاف في الحجة.
(13) المطيطاء: بضم الميم وفتح الطاء المهملة ومثناة تحتية ساكنة وألف ممدودة كما في النهاية وهو مبني على التصغير كالكميت وهي مشية فيها مد اليدين والمراد به التبختر(1/652)
بَنَاتُ فَارِسَ وَالرُّومِ رَدَّ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.. وسلط شرارهم على خيارهم وقتالهم الترك «1» وَالْخَزَرَ «2» وَالرُّومَ وَذَهَابِ كِسْرَى وَفَارِسَ..
حَتَّى لَا كِسْرَى وَلَا فَارِسَ بَعْدَهُ.. وَذَهَابِ قَيْصَرَ حَتَّى لَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ «3» .. وَذَكَرَ أَنَّ الرُّومَ ذَاتُ قُرُونٍ «4» إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ..
وَبِذَهَابِ الْأَمْثَلِ «5» فَالْأَمْثَلِ من الناس «6» .. وتقارب الزمان «7» ..
__________
(1) كما في الصحيحين «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك أقواما نعالهم الشعر وحتى تقاتلوا الترك صغار الاعين حمر الوجوه دنف الانوف كأن وجوههم المجان المطرقة
(2) خزر: بضم الخاء وسكون الزاي جمع أخزر والخزر بفتحتين ضيق العين وصغرها وهم طائفة من الترك.
(3) رواه الشيخان بدون فارس وذكر الحارث عن ابن مخيرير مرفوعا فارس.
(4) ذات قرون: القرون: جمع قرن وهم الجماعة في عصر واحد أي كلما مضى قرن خلفه قرن مكانه.
(5) الأمثل: أي الأشرف.
(6) ورد في البخاري «يذهب الصالحون الاول فالاول وتبقى حثالة كحثالة الشعير او التمر لا يباليهم الله بالة» أي لا يرفع الله لهم وزنا والحثالة بالحاء المهملة والثاء المثلثة من كل شيء رديئه.
(7) كما في حديث رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كالضرمة بالنار» الضرمة بضاد مفتوحة معجمة وراء مهملة مفتوحة وهو حشيش يحترق بسرعة، والتقارب تفاعل من القرب والمراد قصره وقلته لأن القصير يقرب بعضه من بعض وقد اختلف في معنى التقارب: فقيل المراد به آخر الزمان وقتراب الساعة والظاهر أنه زمن عيسى عليه السلام فانه لكثرة الخيرات تستقصر الأوقات للاستلذاذ بالمسرات وقيل زمن الدجال فانه لكثرة اهتمام الناس بما يدهمهم من هموهم لا يدرون كيف تنقضي أيامهم أو أريد به تسارع الازمنة فيتقارب زمانهم في النحر أو المحنة، وقيل اريد به قلة البركة في أعمالهم مع كثرة الحركة في أحوالهم(1/653)
وَقَبْضِ الْعِلْمِ «1» .. وَظُهُورِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ «2» .. وَقَالَ «3» :
«وَيْلٌ «4» لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» . وَأَنَّهُ «5» زُوِيَتْ «6» لَهُ الْأَرْضُ فَأُرِيَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا. وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أمته ما زوي له منها..
ولذلك كَانَ امْتَدَّتْ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا بَيْنَ أَرْضِ الْهِنْدِ أَقْصَى الْمَشْرِقِ إِلَى بَحْرِ طَنْجَةَ «7» حَيْثُ لَا عِمَارَةَ «8» وَرَاءَهُ وَذَلِكَ مَا لَمْ تملكه
__________
(1) الحديث «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من العباد ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» كما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة.
(2) الهرج بفتح الهاء فسكون الراء فجيم قيل لغة حبشية ومعناها القتل وأصل معناه لغة الكثرة وقد ورد في الحديث روي في الصحيحين عن أبي هريرة «يتقارب الزمان بقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشج ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل»
(3) كما في حديث الشيخين عن أم المؤمنين زينب والحديث: أوله قالت زينب رضي الله تعالى عنها استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من النوم محمرا وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من ردم يأجوج ومأجوج بمقدار هكذا.
(4) ويل: كلمة تفجع وتعجب فتعجب النبي صلّى الله عليه وسلم مما ينالهم من المشقة والهلاك بفتن تقع بين المسلمين كقطع الليل المظلم.
(5) فيما رواه مسلم عن ثوبان.
(6) زويت: بالبناء للمجهول اي جمعت وضم بعضها لبعض حتى يصير في محل يحيط به الناظر اليه سريعا أي أراه الله جميع ذلك
(7) طنجة: بفتح طاء مهملة وسكون نون وفتح جيم مدينة مشهورة بساحل بحر المغرب وطنجة لفظ بربري وهي مدينة عظيمة فتحت في الاسلام ثم استولى عليها الصليبيون في سنة (807 هـ) بعد قتال عظيم فلما رأى المسلمون أن لا معين لهم ولا مغيث سلموها لهم ولم تزل الصليبية ظاهرة ثمة حتى تملكت أكثر البلاد فعاد الاسلام غريبا كما بدا ودفنت آثار الحضارة الاسلامية التي لا تزال واضحة في بعض معالم المدينة الأثرية.
(8) عمارة: بكسر العين أي بلاد معمورة.(1/654)
أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ.. وَلَمْ تَمْتَدَّ فِي الْجَنُوبِ وَلَا فِي الشَّمَالِ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ «1» «لَا يزال أهل الغرب ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» .
ذَهَبَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ «2» إِلَى أَنَّهُمُ الْعَرَبُ لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالسَّقْيِ بِالْغَرْبِ «3» وَهِيَ الدَّلْوُ.
وَغَيْرُهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَقَدْ وَرَدَ «الْمَغْرِبُ» كَذَا فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ.
وَفِي حَدِيثٍ «4» آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ «5» لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وأجيز «6»
__________
(1) رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
(2) وهو علي بن عبد الله بن جعفر بن خزع أبو الحسن إمام أهل الحديث في عصره قال النسائي: كأن الله لم يخلقه إلا لهذا الشأن وقال البخاري ما استصغرت نفسي الا بين يدي علي بن المديني وينسب الى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلم نوفي سنة اربع وثلاثين ومائتين وله ثلاث وسبعون سنة.
(3) الغرب بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة هي الدلو.
(4) رواه الطبراني وعبد الله بن أحمد بن حنبل.
(5) تقدمت ترجمته في ص «262» رقم «4» .
(6) في حديث رواه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما. ورواه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلا وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف وعن أبي هريرة وفي سنده الزنجي وهو غير معروف ذاتا وحالا.(1/655)
بِمُلْكِ بَنِي أُمَيَّةَ وَوِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ «1» وَوَصَّاهُ «2» . وَاتِّخَاذِ بَنِي أُمَيَّةَ مَالَ اللَّهِ دُوَلًا «3» وَخُرُوجِ «4» وَلَدِ الْعَبَّاسِ بِالرَّايَاتِ السُّودِ «5» وَمُلْكِهِمْ أَضْعَافَ مَا مَلَكُوا «6» وخروج «7» المهدي «8» ... وما ينال
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «359» رقم «2» .
(2) أي ان النبي صلّى الله عليه وسلم وصي سيدنا معاوية رضي الله تبارك وتعالى عنه وذلك فيما رواه البيهقي عن معاوية بلفظ «ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلّى الله عليه وسلم «يا معاوية إن ملكت وفي رواية إذا وليت فأحسن» وضعفه البيهقي ثم قال غيره «ان له شواهد منها حديث سعد بن العاص «أن معاوية أخذ الادارة فتبع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال له يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل» ومنها حديث راشد بن سعد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» يقول أبو الدرداء: «كلمة سمعها معاوية منه صلّى الله عليه وسلم فنفعه الله بها» . وهذا من جملة ما أخبر به صلّى الله عليه وسلم من المغيبات
(3) كما ورد في حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «اذا بلغ بنو أبي العاص اربعين او ثلاثين اتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولا ومال الله دولا» . دولا: بضم الدال المهملة وفتح الواو ولام جمع دولة. بضم الدال وتفتح وسكون الواو وهو ما يتداول أي يأخذه واحد بعد واحد، والمراد أنهم استأثروا به ومنعوا حقوقه فأسرفوا وبذروا وضيعوا بيت مال المسلمين او هم اول من فعل ذلك في الاسلام.
(4) كما ورد في حديث رواه احمد والبيهقي بسند فيه ضعف.
(5) أي الاعلام الملونة بالسواد تفاؤلا بغلبتهم على العباد.
(6) رواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر رضي الله عنه.
(7) كما ورد في حديث رواه أصحاب السنن وغيرهم من طرق كثيرة جدا.
(8) في آخر الزمان كما ورد في حديث رواه أصحاب السنن وغيرهم من طرق كثيرة لا تخلو من ضعف قيل: ان المهدي عباسي وقيل: علوي وانه يملك سبع سنين وكنيته أبو القاسم واسمه محمد بن عبد الله ويبسط العدل والامن في زمنه وقيل: المراد به عيسى بن مريم عليه السلام وذكره النبي عليه الصلاة والسلام باسمه وصفته وهو ممن يملك الارض كلها.(1/656)
أَهْلَ بَيْتِهِ «1» وَتَقْتِيلِهِمْ وَتَشْرِيدِهِمْ وَقَتْلِ «2» عَلِيٍّ «3» .. وَأَنَّ أَشْقَاهَا «4» الَّذِي يُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ- أَيْ لِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ- وَأَنَّهُ قَسِيمُ «5» النَّارِ يَدْخُلُ أَوْلِيَاؤُهُ الْجَنَّةَ وَأَعْدَاؤُهُ النَّارَ.. فَكَانَ فِيمَنْ عَادَاهُ الْخَوَارِجُ «6» وَالنَّاصِبَةُ «7» .. وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ
__________
(1) كما في حديث رواه الحاكم «إن اهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا» وضعفه الذهبي. والتشريد الطرد والتفريق من شرد البعير إذا ند.
(2) كما رواه احمد عن عمار بن ياسر والطبراني عن علي وصهيب وجابر بن سمرة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.
(3) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(4) أي أشقى الخلائق.
(5) يقول الخفاجي في شرح الشفاء: «ظاهر كلامه أن هذا مما أخبر به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إلا أنهم قالوا لم يرده أحد من المحدثين، إلا ان ابن الأثير قال في النهاية إلا ان عليا رضي الله عنه قال: أنا قسيم النار يعني اراد ان الناس فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق علي فهم على ضلال فنصف معي في الجنة ونصف على في النار انتهى قلت ابن الاثير ثقة وما ذكره علي لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع إذ لا مجال فيه للاجتهاد ومعناه أنا ومن معي قسيم لاهل النار أي مقابل لهم لأنه من أهل الجنة وقيل القسيم القاسم كالجليس والسمير. وقيل أراد بهم الخوارج ومن قاتله كما في النهاية.
(6) الخوارج هم الذين خرجوا على سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله تعالى عنه. عند التحكيم فكانوا اثني عشر ألفا أصحاب صلاة وصيام وقد أخبر عنهم النبي صلّى الله عليه وسلم وذكرهم بصفاتهم فقال فيهم «يحضر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وصومه في جنب صومهم لا تجاوز قراءتهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» وكان لعلي رضي الله عنه معهم وقائع مدونه في التواريخ وهم من الفرقة الضالة، ولهم اعتقادات فاسدة وأعمال كاسدة والواحد منهم خارج وخارجي.
(7) أي الفرقة أو الطائفة الناصبة ويقال لهم النواصب وهم قوم تدينوا ببغض علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه قال ابن السيد: «من نصبت الشرك والحبالة فاستعير ذلك لكل من يكيد ويوقع المكروه واشتق منه هذا الاسم» . وفي الكشاف النصب بغض علي وعداوته وهو بالصاد المهملة وهم من الخوارج أيضا.(1/657)
الروافض «1» كفّروه «2» ..
وقال «3» بقتل عُثْمَانُ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَأَنَّ «4» اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَهُ قَمِيصًا «5» .. وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ خَلْعَهُ «6» .. وأنه «7» سيقطر دمه على قوله تعالى «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «8» » .
__________
(1) الروافض: من الرفض وهو الترك سموا بذلك لتركهم السنة والجماعة وخروجهم على الخليفة.
(2) كفروه لتركه الخلافة وهي حقه وهو زعم فاسد وحماقة وهم المنكرون للتحكيم وقولهم لا حكم إلا لله وهي كلمة حتى أريد بها باطل وقد كفروا غيره من الصحابة أيضا.
(3) رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه ورواه الترمذي عن ابن عمر ولفظه «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتنته فقال يقتل هذا مظلوما- يعني عثمان- رضي الله تعالى عنه وحسنه الترمذي أيضا وهو من جملة ما أخبر به من المغيبات فكان كما قال.
(4) رواه ابن ماجة والترمذي عن عائشة رضي الله عنها وهو حديث حسن ولفظه: «يا عثمان لعل الله أن يقمصك قميصا فان أرادوك على خلعة فلا تخلعه لهم» . ورواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم.
(5) استعار القميص هنا للخلافة وهذا على سبيل الاستعاره التصريحية التبعية الترشيحية
(6) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه- أي عثمان- أصبح يحدث الناس فقال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا عثمان أفطر عندنا فأصبح صائما وقتل في يومه» .
(7) رواه الحاكم عن ابن عباس قال الذهبي: «إنه موضوع» وتبعه السيوطي ولكن نقل المحب الطبري في الرياض النضرة إن أكثرهم يروي أن قطرة من دمه أو قطرات سقطت على قوله تعالى «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» في المصحف، ونقل عن حذيفة قال: «أول الفتن قتل عثمان وآخرها خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت أحد وفي قلبه مثقال حبة من حب قتلة عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه وان لم يدركه آمن به في قبره» أخرجه السقلي الحافظ.
(8) سورة البقرة آية 137.(1/658)
وَأَنَّ الْفِتَنَ لَا تَظْهَرُ مَا دَامَ عُمَرُ «1» حَيًّا «2» وَبِمُحَارَبَةِ «3» الزُّبَيْرِ «4» لِعَلِيٍّ «5» وَبِنُبَاحِ كِلَابِ الْحَوْأَبِ «6» عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ «7» وَأَنَّهُ «8» يُقْتَلُ حَوْلَهَا قَتْلَى كَثِيرٌ وَتَنْجُو بَعْدَ مَا كَادَتْ.. فَنَبَحَتْ عَلَى عَائِشَةَ «9» عِنْدَ خُرُوجِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَأَنَّ عَمَّارًا «10» تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ «11» - فَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ «12» وَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ «13» بْنِ الزُّبَيْرِ: «وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ وويل لك
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4»
(2) رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والشيخان عن حذيفة.
(3) رواه البيهقي في دلائله من طرق.
(4) تقدمت ترجمته آنفا.
(5) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(6) الحوأب: بحاء مهملة وواو ساكنة وهمزة مفتوحة وموحدة اسم ماء او موضع بين البصرة ومكة نزلته عائشه لما توجهت للصلح بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهم
(7) رواه أحمد والبزار والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها بسند صحيح
(8) رواه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بسند صحيح.
(9) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .
(10) هو عمار بن ياسر بن عامر الكناني المذحجي العشي القطماني، ابو اليقظان صحابي من الولاة الشجعان ذوي الرأي، أحد السابقين الى الاسلام والجهر به، هاجر الى المدينة وشهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يلقبه الطيب المطيب وهو اول من بنى مسجدا في الاسلام (بناه في المدينة وسماه مباء) وولاه عمر الكوفة فأقام زمنا ثم عزله عنها وشهد الجمل وصفين مع علي وقتل في صفين وعمره ثلاث وتسعون سنة.
(11) رواه الشيخان وغيرهما من طرق.
(12) تقدمت ترجمته في ص «359» رقم «2» .
(13) تقدمت ترجمته في ص «157» رقم «4» .(1/659)
مِنَ النَّاسِ» . وَقَالَ «1» فِي قُزْمَانَ «2» وَقَدْ أَبْلَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ..
وَقَالَ «3» فِي جَمَاعَةٍ فِيهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ «4» وَسَمُرَةُ «5» بْنُ جُنْدُبٍ وَحُذَيْفَةُ «6» آخِرُكُمْ مَوْتًا فِي النَّارِ «7» .. فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْأَلُ عَنْ بَعْضٍ فَكَانَ سَمُرَةُ آخِرَهُمْ مَوْتًا هَرِمَ وَخَرِفَ فَاصْطَلَى بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ فِيهَا.
وَقَالَ «8» فِي حَنْظَلَةَ «9» الْغَسِيلِ «10» .. سَلُوا زوجته عنه فإني
__________
(1) رواه الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2) وهو مولى لبعض الأنصار وكان شجاعا لكنه منافق وكان قاتل قتالا شديدا اعجب الصحابة رضي الله تعالى عنهم الا أن ذلك لم يكن خالصا لله وقد أطلع الله رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم على حاله.
(3) رواه البيهقي والطبراني من طرق عن أبي هريرة موصولة ومنقطعة ومرسلة وروي قضية احتراقه بلاغا عن بعض أهل العلم وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن محمد ابن سيرين أن سمرة كان أصابه كراز شديد وكان لا يكاد يدفا فأمر بقدر عظيمة فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ فوقها مجلسا وكان لم يصل اليه بخارها فيدفئه فبينما هو كذلك إذ خسف به فاحترق.
(4) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «5» .
(5) تقدم آنفا.
(6) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «6» .
(7) المقصود بالاحتراق أن يحترق في الدنيا احتراقا يموت به فيها لا انه يدخل نار جهنم للرواية التي سيفت لموت سمرة فيما تقدم.
(8) رواه ابن اسحاق عن عاصم عن عمر بن قتادة.
(9) هو حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك المعروف بغسيل الملائكة وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب واسمه عمرو ويقال عبد عمرو وكان يذكر البعث ودين الحنيفية فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلم عائده وحده وخرج عن المدينة وشهد مع قريش وقعة أحد ثم رجع مع قريش الى مكة ثم خرج الى الروم فمات بها سنة تسع، وأسلم ابنه حنظلة فحسن اسلامه واستشهد بأحد.
(10) الغسيل: فعيل بمعنى مفعول من الغسل سمي بذلك لأن الملائكة غسلته لما استشهد بأحد وكان جنبا فقتله ابو سفيان بن حرب.(1/660)
رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ.. فَسَأَلُوهَا فَقَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ جُنُبًا وَأَعْجَلَهُ الْحَالُ عَنِ الْغُسْلِ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَجَدْنَا رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً.
وَقَالَ «2» الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ.. وَلَنْ «3» يَزَالَ هذا لأمر فِي قُرَيْشٍ مَا أَقَامُوا الدِّينَ. وَقَالَ «4» يَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ «5» فَرَأَوْهُمَا «6» الْحَجَّاجُ «7» وَالْمُخْتَارُ «8» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «1» .
(2) رواه احمد والترمذي.
(3) ورد في حديث رواه البخاري عن معاوية رضي الله تعالى عنه.
(4) رواه مسلم والبيهقي.
(5) مبير: بضم الميم فكسر الباء الموحدة التحتية فياء مثناة تحتية فراء مهملة أي مهلك من أبار أي اهلك مأخوذ من البوار وهو الهلاك.
(6) فرأوهما: من الرأي أي رأي العلماء أن المراد بهما الحجاج بن يوسف الثقفي وهو المبير والكذاب المختار بن عبيد الثقفي. وهذا مما أخبر به صلّى الله تعالى عليه وسلم من المغيبات ففي حديث أسماء رضي الله تعالى عنهما من طريق مسلم أنها قالت للحجاج «ان في ثقيف كذابا ومبيرا» أما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا اخالك إلا إياه، وقال النووي: «أجمع العلماء على ان المبير هو الحجاج» وقال الترمذي في جامعه: «ويقال الكذاب المختار والمبير الحجاج ثم ذكر بسنده الى هشام بن حسان قال أخصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة وعشرين ألفا.
(7) الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد: قائد، داهية، سفاك، خطيب. ولد ونشأ في الطائف (بالحجاز) وانتقل الى الشام فلحق بروح بن زنباع نائب عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، ثم ما زال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره، وأمره بقتال عبد الله بن الزبير وثبتت له الامارة عشرين سنة وبنى مدينة واسط سفاكا سفاحا باتفاق معظم المؤرخين ومات بواسط وأجرى على قبره الماء فاندرس
(8) هو المختار بن عبيد الثقفي بن مسعود بن عمر بن عمير وأبوه أسلم في حياة النبي عليه السلام ولم يره فلم يعد من الصحابة والمختار هذا كان يزعم أن جبريل عليه الصلاة-(1/661)
وَأَنَّ «1» مُسَيْلِمَةَ «2» يَعْقِرُهُ «3» اللَّهُ وَأَنَّ «4» فَاطِمَةَ «5» أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ وَأَنْذَرَ «6» بِالرِّدَّةِ وَبِأَنَّ «7» الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا فَكَانَتْ كذلك بِمُدَّةِ «8» الْحَسَنِ «9» بْنِ عَلِيٍّ.
وَقَالَ «10» إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَدَأَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ رَحْمَةً
__________
- والسلام يأتيه وكان يظهر مدح ابن الزبير ومحمد بن الحنفية واستحوذ على الكوفة وأظهر التشيع واجتمع عليه ناس كثيرون وطلب الأخذ بثأر الحسين فقتل كثيرا من قتلته وعظم أمره وكان يتكهن ويزعم أنه يوحي اليه وله كرسي يضاهي به تابوت بني اسرائيل فهو ضال مضل واستمر على ذلك مدة حتى قتله مصعب ابن الزبير.
(1) رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) تقدمت ترجمته في ص «506» رقم «3» .
(3) يعقره: بكسر القاف أي يهلكه.
(4) رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنهما.
(5) تقدم آنفا.
(6) كما في حديث الشيخين «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعصكم رقاب بعض» وفي حديث مسلم «لا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الاوثان» فوقعت الردة في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
(7) رواه أصحاب الكتب الستة مسندا.
(8) أي بمعنى مدة خلافته وهي ستة أشهر تقريبا وفيه دلالة على ان معاوية لم يحصل له ولاية الخلافة ولو بعد فراغ الحسن له بالامارة ويشير اليه ما رواه البخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة بلفظ «الخلافة بالمدينة والملك بالشام» ثم أعلم ان خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوما وخلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام وخلافة عثمان احدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما وخلافة علي أربع سنين وعشرة أشهر او تسعة وبتمامها خلافة الحسن.
(9) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «2» .
(10) رواه البزار عن أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.(1/662)
وَخِلَافَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا «1» .. ثُمَّ يَكُونُ عُتُوًّا «2» وَجَبَرُوتًا «3» وَفَسَادًا فِي الْأُمَّةِ..
وَأَخْبَرَ «4» بِشَأْنِ أويس «5» القربي وبأمراء «6» يؤخرون الصلاة وفي «7» حديث آخر: ثلاثون دجالا كذابا.. أحدهم الدَّجَّالُ الْكَذَّابُ «8» كُلُّهُمْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
__________
(1) عضوضا: بفتح العين المهملة وضمها صيغة مبالغة جمع عض بكسر العين المهملة وهو الشرير الخبيث والمراد هنا سلطنة خالية عن الرحمة والشفقة على الرعية فكأنهم يعضون بالنواجذ فيه عضا حرصا على الملك. وهذا من باب الاستعارة التصريحية او المكنية بتشبيه ظلمهم وتعديهم على الرعية بعض حيوان مفترس.
(2) عتوا: بضم العين المهملة وتشديد التاء المثناة الفوقية وضمها أي تكبرا.
(3) جبروتا: بفتحتين فعلوت من الجبر بمعنى القهر مبالغة أي تجبرا وقهرا.
(4) رواه مسلم.
(5) هو أويس بن عامر المرادي نسبة لمراد قبيلة مشهورة و (القرني) بفتحتين نسبة لقرن بن ردمان بن ناجية بن مراد في طبقات الاولياء للشرجي انه خير التابعين مطلقا بشهادة النبي صلّى الله عليه وسلم له وكان أدرك زمن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ولم يره باشتغاله ببر أمه وتوفي بصفين على ما قيل عام سبع وثلاثين شهيدا مع أصحاب علي رضي الله تعالى عنهم.
(6) رواه مسلم من طرق عن أبي ذر رضي الله عنه ولفظه «كيف انت إذا كنت وعليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت فما تأمرني قال: صل الصلاة لوقتها فان أدركتها فصل فانها لك نافلة» قال النووي «المراد تأخيرها عن وقتها الاختياري لا عن وقتها مطلقا بشهادة أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم باعادتها معهم بعد أدائها منفردا إذ لا اعادة بعد خروج وقت الصلاة» .
(7) رواه الشيخان عن ابي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(8) أي الدجال الاعور الذي يظهر في آخر الزمان ويقتله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وفي تذكرة القرطبي «انه ابن صياد يدعي الألوهية ويظهر أمورا خارقة للعادة ولا يدخل مكة والمدينة والقدس معه جنة ونار وجبال من خبز» .(1/663)
وَقَالَ «1» يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ فِيكُمُ الْعَجَمُ يَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ «2» ، وَيَضْرِبُونَ رِقَابَكُمْ. وَلَا «3» تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُوقَ النَّاسَ بِعَصَاهُ «4» رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ «5» وَقَالَ «6» : خَيْرُكُمْ قَرْنِي.. ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا «7» يُسْتَشْهَدُونَ وَيُخَوَّنُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ «8»
وَقَالَ «9» : لَا يَأْتِي زمان إلّا والذي بعده شر منه.
__________
(1) رواه البزار والطبراني بسند صحيح من حديث طويل.
(2) فيئكم: بفتح الفاء وسكون الياء مهموز أي أموالكم.
(3) رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(4) أي يملك الناس ويسخرهم كما يريد من غير مانع ولاكد وتعب وفيه استعارة تمثيلية لتشبيهه براع لغنم يسوقها بعصاه يهش بها عليها وفيها اشارة الى ضعف الناس وجهلهم فكأنهم غنم سائمة همها أن ترعى والعصا فيه كما هو قولهم فلان تحت عصا فلان أي منقاد لأمره وحكمه وهم عبيد العصا.
(5) وهذا الرجل يسمى الجهجاه كما ورد في الحديث.
(6) رواه الشيخان.
(7) أي يؤدون الشهادة قبل أن تطلب منهم ومثله لا يقبل وهذا لا ينافي ما ورد في الحديث «ان خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل ان تطلب منهم» فان هذا حمل على من كان عنده علم بامر وشهادة فيه وصاحبها لا يدري أنها عنده فيخبره بما عنده ليستشهده عند حاجته ولكل مقام مقال.
(8) أي عظم البدن بكثرة لحمه وهذا علامة على كثرة أكلهم وشربهم وترفههم وعدم خوفهم من الله وعدم تفكرهم في عواقب الأمور وروي «يأتي في آخر الزمان قوم يتسمنون» وفي التوراة «إن الله يبغض الحبر السمين» وفي الغالب من سمن وكثرت رطوبة بدنه كان بليدا مغفلا غير مكترث بدينه ودنياه فجعل هذا كناية عما ذكر لأنه من لوازمه غالبا فلا ينافيه ما يشاهد من كون بعض العلماء والصلحاء سمين الجثة خلقة أنشأه الله عليها، وقيل المذموم منه ما يكتسب دون الخلقي.
(9) رواه البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه.(1/664)
وقال «1» : «هلاك أمتي على يد أغيلمة «2» من قريش» .
وقال أبو هريرة «3» رواية «4» : «لَوْ شِئْتُ سَمَّيْتُهُمْ لَكُمْ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فلان»
وأخبر «5» بظهور القدرية «6» و «7» الرافضة «8» وسب «9» آخر
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) أغيلمة: تصغير أغلمة وهو جمع قلة يجوز فيه التصغير على لفظه وهو في حكم المفرد وهو تصغير تحقير.
(3) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «2» .
(4) لكنه لم يسمهم تسمية صريحة خوف الفساد والفتنة.
(5) رواه الترمذي وأبو داوود والحاكم ولفظه «القدرية مجوس هذه الأمة» .
(6) يقول القدرية إن الأمور كلها ليست بقضاء الله وقدره وإن الانسان خالق لأفعاله وأنها بقدرته سموا قدرية لاثباتهم للعبد قدرة لا لانكار قدرة الله على أفعاله وشبههم بالمجوس لأنهم أثبتوا خالقين خالق الخير وهو النور الذي سموه (يزدان) وخالق الشر الظلمة سموها (أهرمن) وهؤلاء لما نسبوا أفعال العباد لهم قالوا بتعدد الخالق على ما تقرر في علم الأصول وأما معنى القضاء والقدر فعند السلف القضاء ارادة الله الأزلية المتعلقة بجميع الأشياء خيرها وشرها والقدر إيجاده إياها على ما معناه أولا وعند الفلاسفة القضاء علمه بما عليه الوجود حتى يكون على أحسن نظام ويسمونه العناية والقدر خروجها على دفعة وهؤلاء القدرية هم المعتزلة وأما القدرية الذين أنكروا القدر وأن الأمر أنف أي مستأنف لا يعلمه إلا الله إلا بعد وجوده فليس المراد بالحديث هم لأنهم انقرضوا ولم يبق منهم أحد.
(7) رواه البيهقي من طرق كلها ضعيفة إلا أنها يتقوى بعضها ببعض ويعضدها ما رواه البزار بلفظ «يكون في أمتي قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الاسلام وروي يلفظونه- فاقتلوهم فانهم مشركون» .
(8) الرفض معناه لغة الترك أي أنهم قوم يرفضون الاسلام بالكلية لأنهم يستحلون سب الصحابة ويكفرون أهل السنة والجماعة.
(9) رواه أبو القاسم البغوي عن عائشة مرفوعا بلفظ «لا تذهب الأمة حتى يلعن آخرها أولها» وقد وقع هذا كثيرا من الرافضة فأظهروا سب الشيخين وسب عائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عليهم. وكذلك للترمذي من حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ولعن آخر هذه الأمة أولها فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام قطع سلكه» .(1/665)
هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا وَقِلَّةِ «1» الْأَنْصَارِ «2» حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَتَبَدَّدُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ.. وَأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ بَعْدَهُ أَثَرَةً «3» .
وَأَخْبَرَ «4» بِشَأْنِ الْخَوَارِجِ «5» وَصِفَتِهِمْ وَالْمُخَدَّجِ «6» الذي
__________
(1) لما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فان الناس يكثرون ويقل الأنصار» أي بعدي.
(2) وهم الأوس والخزرج وسموا أنصارا لأنهم نصروا الرسول صلّى الله عليه وسلم وأيدوه وهو جمع ناصر أو نصير غلب على هذه القبيلة ولذا نسب إليهم أنصاري.
(3) أثرة: بفتح الهمزة والمثلثة والراء المهملة قيل ويجوز كسر الهمزة وسكون المثلثة وهما بمعنى واحد وهو الاستبداد والمراد أنهم يلقون بعده صلّى الله عليه وسلم من يؤثر عليهم غيرهم ويقدمه عليهم في العطاء من الديوان ويقل نصيبهم من الفيء فتضيق معيشتهم وفي نفسهم شرف وحمية فيتشتتوا ويتبدد أمرهم..
(4) رواه الشيخان.
(5) الخوارج: هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه بالنهر وهم نحو أربعة آلاف فقاتلهم حتى قتلهم واستشهد بحربهم لبعض أصحابه وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير
(6) وهو بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة ويروي بفتح الخاء وتشديد الدال والمعنى واحد وروى المخدوج وهو الناقص خلفه ومنه الخداج وهو إشارة لما في حديث الصحيحين من أن صلّى الله عليه وسلم قسم في بعض الأيام قسمة فقال له رجل من تميم وهو ذو الخويصرة اعدل يا رسول الله فقال ويحك ومن يعدل إذا لم اعدل خبت وخسرت فقال عمر رضي الله عنه ائذن لي اضرب عنقه فقال له دعه ان له أصحابا يحقر أحدكم صلاته إلى آخره وآيتهم رجل أسود احدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ولما كانت وقعتهم وقتال علي لهم خطب الناس وذكر الحديث وقال اطلبوا ذا الثدية فطلبوه فوجدوه تحت القتلى فجاؤا به فقال شقوا قميصه فشقوه فلما رأى احدى ثدييه مثل المرأة عليه شعرات سجد شكر الله تعالى اذ صدق نبيه صلّى الله عليه وسلم وعلم أنه على الحق وهم على الباطل.(1/666)
فيهم وأنّ سيماهم «1» التحليق «2» ويرى «3» راء الغنم «4» رؤوس النَّاسِ وَالْعُرَاةُ الْحُفَاةُ يَتَبَارَوْنَ فِي الْبُنْيَانِ «5» .. وَأَنْ «6» تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا «7» وَأَنَّ «8» قُرَيْشًا وَالْأَحْزَابَ لَا يَغْزُونَهُ أَبَدًا وَأَنَّهُ هُوَ يَغْزُوهُمْ «9» .
وَأَخْبَرَ «10» بِالْمَوْتَانِ «11» الذي يكون بعد فتح بيت المقدس
__________
(1) سيماهم: بكسر السين المهملة وهي العلامة.
(2) التحليق: أي يحلقون شعور رؤوسهم ولم يكن في الصدر الأول حلق الرؤوس إلا في النسك وقيل جلوسهم حلقا حلقا.
(3) هذا الحديث في الصحيحين بمعناه وبعض ألفاظه فالمصنف رحمه الله تعالى رواه من طريق آخر ورواه بالمعنى.
(4) وفي نسخة المشاد.
(5) أي أن أرباب الجهالة والقلة والذلة يتفاخرون في البنيان وإشادته ويتغلبون على أهل العلم والغنى والعزة.
(6) وهذا مأخوذ من حديث صحيح مشهور رواه الشيخان وغيرهما.
(7) ربتها: بتاء التأنيث وربت ورب بمعنى سيد وسيدة والرب لغة لها معان: السيد والمالك والمدبر والمربي والقيم والمنعم ويطلق على الله تبارك وتعالى. والمراد هنا السيد ذكرا كان او أنثى وفي معنى هذا الحديث اختلاف كثير فقيل معناه أن الإماء يلدن الملوك فتكون أمه أمة من جملة رعيته وقيل وهو عبارة عن فساد أحوال الناس في آخر الزمان وكثرة بيع أمهات الاولاد وقيل هو كناية عن كثرة العقوق وقلة تأدية الحقوق
(8) رواه البخاري عن سليمان بن صرد.
(9) أي أن كفار قريش وسائر طوائف الكفار لا يغزونه أبدا بل هو الذي يبدؤهم بالمحاربة كما وقع له ولأصحابه بفتح مكة.
(10) رواه البخاري عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه.
(11) الموتان: بضم الميم وتفتح وسكون الواو وهو مصدر بمعنى الموت الكثير او الوباء الخطير، وكان هذا الوباء في خلافة عمر رضي الله عنه بعمواس وهي قرية من قرى بيت المقدس نزل بها عسكره وهو اول طاعون وقع في الاسلام مات فيه سبعون ألفا في ثلاثة أيام وكان ذلك سنة ست عشرة من الهجرة وقد مات في عمواس سيدنا أبو عبيدة بن الجراح.(1/667)
وَمَا «1» وَعَدَ مِنْ سُكْنَى الْبَصْرَةِ «2» وَأَنَّهُمْ «3» يَغْزُونَ فِي الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ «4» وَأَنَّ «5» الدِّينَ لو كان منوطا في الثريا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ. وَهَاجَتْ «6» رِيحٌ في غزاته «7» فَقَالَ:
هَاجَتْ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ «8» فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدُوا ذَلِكَ.
وَقَالَ «9» لِقَوْمٍ مِنْ جُلَسَائِهِ: ضِرْسُ أَحَدِكُمْ فِي النَّارِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ «10» قال أبو هريرة فذهت القوم- يعني ماتوا- وبقيت أنا
__________
(1) لما رواه أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه انه صلّى الله تعالى عليه وسلم قال له: يا أنس إن الناس يمصرون أمصارا وان مصرا فيها يقال له البصرة فان أنت مررت بها او دخلتها فاياك وسباخها وكلاؤها وسوقها وباب أمرائها وعليك بضواحيها فانه يكون بها خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير» ولعل هذه الامور وردت معنوية او ترد بعد ذلك صورية.
(2) ص اعلام.
(3) رواه الشيخان.
(4) الأسرة جمع سرير وهو مقعد يعد للملوك مرتفع يجلسون عليه ترفعا وتعظما ومؤخر المراكب المعدة للغزو الذي يقعد عليه رئيسهم يعمل على هيئة سرير الملك بعينه كما يعرفه من شاهد فهو من الاخبار العجيبة لأنه لم يكن ذلك بديار العرب ولم يره أحد منهم فهذا من خوارق العادات والاخبار بالمغيبات.
(5) رواه الشيخان عن أبي هريرة.
(6) رواه مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه.
(7) ذكر الدلجي أنها غزوة تبوك وقرر الحلبي وهو الأولى بالاعتماد أنها غزوة بني المصطلق.
(8) وهو رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود وكهناء المنافقين.
(9) رواه الطبراني عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه.
(10) المراد ان احدهم يموت كافرا كما في حديث آخر «ضرس الكافر قبل أحد» .(1/668)
وَرَجُلٌ فَقُتِلَ مُرْتَدًّا «1» يَوْمَ الْيَمَامَةِ «2» .
وَأَعْلَمَ «3» بِالَّذِي غَلَّ «4» خَرَزًا مِنْ خَرَزِ يَهُودَ فَوُجِدَتْ فِي رَحْلِهِ وَبِالَّذِي «5» غَلَّ الشَّمْلَةَ «6» وَحَيْثُ هِيَ «7» .
وَنَاقَتِهِ «8» حِينَ ضَلَّتْ وَكَيْفَ تَعَلَّقَتْ بِالشَّجَرَةِ بِخِطَامِهَا «9» وَبِشَأْنِ «10»
__________
(1) وهو الرجال بن عفوة أسلم فلما ادعى مسيلمة النبوة ارتد وشهد له بذلك.
(2) وهي الحرب التي كانت باليمامة واليمامة اسم ارض معروفة شرقي الحجاز ومدينتها العظمى الحجر ويسمى حجر اليمامة
(3) رواه ابو داود والنسائي عن زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه.
(4) غل: بغين معجمة ولام مشددة من الغلول وهو السرقة خفية.
(5) رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولفظه أهدى رجل لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غلاما اسمه مدعم فبينما هو يحط رحل رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاءه سهم عائر- أي لا يدرى راميه- فقتله فقالوا هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «كلا والذي نفسي بيده ان الشملة التي اخذها يوم خيبر من الغنائم قبل القسمة لتشتعل عليه نارا» .
(6) الشملة: وهي المرة من الشمول وكساء صغير يشتمل به الانسان.
(7) أي وبالمكان الذي هي فيه.
(8) رواه البيهقي عن عروة مرسلا.
(9) بخطامها: بكسر الخاء المعجمة وهو زمامها ومقصودها. وكان صلّى الله عليه وسلم لما ضلت فقال رجل من المنافقين كيف يزعم محمد أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل وأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فقال صلى الله عليه وسلم «ما أزعم أني اعلم الغيب وما اعلمه ولكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي وهي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة كذا فخرجوا يسعون قبل الشعب فوجدوها حيث قال وكما وصف فجاؤوا بها وآمن ذلك المنافق وهو زيد بن اللصيب.
(10) رواه الشيخان عن علي كرم الله وجهه.(1/669)
كِتَابِ حَاطِبٍ «1» إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ «2» .
وَبِقَضِيَّةِ «3» عُمَيْرٍ «4» مَعَ صَفْوَانَ «5» حِينَ سَارَّهُ وَشَارَطَهُ عَلَى قَتْلِ
__________
(1) هو حاطب بن ابي لمتعة اللخمي: صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان من أشد الرماة، في الصحابة، وكانت له تجارة واسعة. بعثه النبي صلّى الله عليه وسلم بكتابه الى المقوقس صاحب الاسكندرية. ومات في المدينة. وكان أحد فرسان قريش وشعرائها في الجاهلية.
(2) وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما تجهز لفتح مكة ولم يعلم أحدا بتوجهه ومقصده فكتب حاطب اليهم كتابا فيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد توجه اليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار اليكم وحده نصره الله عليكم فانه منجز له ما وعده فعليكم الحذر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي وبعض أصحابه رضي الله تعالى عليهم اذهبوا الى روضه خاخ ففيها جارية معها مكتوب فأتوني به وكان صلى الله عليه وسلم أخفى مسيره فأتوا المحل فوجدوا الجارية فأنكرت ففتشوها فلم يجدوا معها شيئا فهموا بالرجوع ثم بدا لعلي رضي الله تعالى عنه ان خبره صلّى الله عليه وسلم صدق فهدد الجارية فأخرجت الكتاب من عقصتها وهذا من جملة المغيبات التي أخبر بها النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه.
(3) رواه ابن اسحاق والبيهقي والطبراني.
(4) هو عمير بن وهب بن خلف الجمحي، أبو أمية: صحابي، من الشجعان. أبطا في قبول الاسلام، وشهد وقعة بدر مع المشركين فأسر المسلمون ابنا له، فرجع الى مكة فخلا به صفوان بن أمية بالحجر وقال له: دينك علي، وعيالك علي، أمونهم ما عشت، واجعل لك كذا وكذا إن أنت خرجت إلى محمد فقتلته، فوافقه عمير ورحل الى المدينة فدخل بسيفه على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فسأله: لم قدمت قال: أريد فداء ابني فقال: مالك والسلاح؟ قال نسيته علي لما دخلت، قال فما جعل لك صفوان بن أمية في الحجر؟ فأنكر، فأخبره النبي صلّى الله عليه وسلم بما كان، فدهش وأسلم، وعاد إملى كة وأشهر إسلامه ثم هاجر إلى المدينة، وشهد مع المسلمين أحدا وما بعدها.
(5) هو صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي القرشي المكي، أبو وهب: صحابي، فصيح جواد، كان من أشراف قريش في الجاهلية والاسلام. قال أبو عبيدة: إن صفوان «قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه» أي صار له قنطار ذهبا، أسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، وشهد اليرموك، ومات بمكة، له في الصحيحين 13 حديثا.(1/670)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ عمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاصِدًا لِقَتْلِهِ وَأَطْلَعَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْأَمْرِ وَالسِّرِّ أَسْلَمَ وَأَخْبَرَ «1» بِالْمَالِ الَّذِي تَرَكَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ «3» بَعْدَ أَنْ كَتَمَهُ فَقَالَ: مَا عَلِمَهُ غَيْرِي وَغَيْرُهَا. فَأَسْلَمَ. وَأَعْلَمَ «4» بِأَنَّهُ سَيَقْتُلُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ «5» .
وَفِي عُتْبَةَ بْنِ «6» أَبِي لَهَبٍ أنه يأكله كلب من كلاب «7» اللَّهِ وَعَنْ «8» مَصَارِعِ أَهْلِ بَدْرٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ «9» فِي الْحَسَنِ «10» : «إِنَّ ابْنِي هَذَا سيد وسيصلح لله به
__________
(1) رواه أحمد عن ابن عباس والحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها بسند صحيح.
(2) تقدمت ترجمته في ص «181» رقم «1» .
(3) هي لبابة بنت الحارث بن حرب الهلالية كنيت باسم ابنها الفضل كما كني العباس أبو الفضل وهي من أشراف الصحابة رضي الله تعالى عنها يقال أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة.
(4) رواه البيهقي عن عروة وسعيد بن المسيب مرسلا.
(5) تقدمت ترجمته في ص «278» رقم «7» .
(6) تقدمت ترجمته آنفا.
(7) فأكله الأسد وهو ذاهب إلى الشام والأسد يسمى كلبا وهو يشبهه صورة.
(8) كما ورد في صحيح مسلم وغيره أنه صلّى الله عليه وسلم قام ببدر قبل قتالهم وقال هذا مصرع فلان ووضع يده على الأرض ثم قال هذا مصرع فلان ووضع يده عليها وعدهم واحدا واحدا مشيرا لمصارعهم فلم يتجاوز أحدهم موضعه فصرعوا كذلك ثم جروا بأرجلهم وطرحوا في القليب ثم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم وقال يا فلان بن فلان يناديهم بأسمائهم واحدا بعد واحد هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فقال الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أتكلم أجسادا لا أرواح لها فقال والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم لكلامي ولكنهم لا يستطيعون أن يردوا.
(9) كما ورد في حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما.
(10) تقدمت ترجمته في ص «192» رقم «2» .(1/671)
بين فئتين» . و «1» لسعد «2» : «لَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيَسْتَضِرَّ بِكَ آخَرُونَ «3» » وَأَخْبَرَ «4» بِقَتْلِ أَهْلِ مُؤْتَةَ «5» يَوْمَ قُتِلُوا «6» وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ أَوْ أَزْيَدُ.
وَبِمَوْتِ «7» النَّجَاشِيِّ «8» يَوْمَ مَاتَ «9» وَهُوَ بِأَرْضِهِ. وَأَخْبَرَ «10» فَيْرُوزَ «11» إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِ رَسُولًا مِنْ كِسْرَى «12» بِمَوْتِ كسرى ذلك اليوم فلما تحقق فيروز القصة أسلم.
وأخبر «13» أباذر «14» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَطْرِيدِهِ «15» كَمَا كَانَ وَوَجَدَهُ
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص «215» رقم «1» .
(3) في هذا الحديث من المعجزات تحقق ما أخبر به فإنه عاش ونفع الله به المسلمين لما كان على يديه من الفتوح وهدى الله به ناسا أسلموا على يديه وغنموا معه وضر الله به ناسا من الكفار وجاهدهم وقتل منهم وسبى وليس المراد بضرر ضرر المسلمين.
(4) كما ورد في حديث صحيح رواه البخاري عن أنس.
(5) مؤنة: بضم الميم وسكون الواو والهمزة فإن فيها لغتين كما في القاموس وهي اسم موضع بالشام كان فيه غزوه مشهورة.
(6) أي امراء الغزوة فكان النبي صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه فقال لهم: «أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب ثم جعفر بن أبي طالب فأصيب ثم عبد الله بن رواحة فأصيب ثم خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح الله عليه على يديه» .
(7) كما رواه الشيخان عن أبي هريرة
(8) تقدمت ترجمته في ص «164» رقم «2»
(9) أي سنة تسع من الهجرة وهو بأرضه وصلّى عليه صلاة الغائب عن أصحابه وقد أحضرت جنازته لديه.
(10) كما رواه البيهقي.
(11) وزير كسرى ملك فارس.
(12) كسرى لقب لكل من يملك الفرس واسم هذا أبرويز وهو الذي كتب اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا فمزق فمزق الله ملكه استجابة لدعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم
(13) رواه أحمد في مسنده.
(14) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(15) بإخراجه من المدينة إلى الربذة.(1/672)
فِي الْمَسْجِدِ نَائِمًا فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ قَالَ: أَسْكُنُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ: فَإِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ؟ .. الْحَدِيثَ «1» .
وَبِعَيْشِهِ «2» وَحْدَهُ وَأَخْبَرَ «3» أَنَّ أَسْرَعَ أَزْوَاجِهِ بِهِ لُحُوقًا أَطُولُهُنَّ يَدًا فَكَانَتْ زَيْنَبَ «4» لِطُولِ يَدِهَا بِالصَّدَقَةِ.
وَأَخْبَرَ «5» بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ «6» بِالطَّفِّ «7» وَأَخْرَجَ بِيَدِهِ تُرْبَةً وَقَالَ:
فِيهَا مَضْجَعُهُ «8» . وَقَالَ «9» فِي زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ «10» : «يسبقه
__________
(1) تتمة الحديث: «قال: ألحق بالشام أرض الهجرة والمحشر وأرض الأنبياء فأكون رجلا من أهلها قال، فاذا أخرجوك عن الشام قال: أرجع اليه فيكون منزلي قال: فكيف بك اذا أخرجوك منه الثانية قال آخذ سيفي وأقاتل حتى اموت فوكزه صلى الله عليه وسلم بيده وقال: خير لك منه أن تنقاد حيث قادوك حتى تلقاني وانت على ذلك» .
(2) كما روى ذلك أحمد وابن راهويه وابن أبي أسامة والبيهقي.
(3) رواه البخاري ومسلم ورواه الشعبي مرسلا. ولفظ مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أسر عكن لحوقا بي أطولكن يدا» فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا فكانت زينب أطولنا يدا لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق.
(4) تقدمت ترجمته في ص «259» رقم «4» .
(5) رواه البيهقي من طرق.
(6) تقدمت ترجمته في ص «309» رقم «2» .
(7) الطف: بفتح الطاء المهملة وتشديدها وهو مكان بناحية الكوفة على شط نهر الفرات واشتهر الآن بكربلاء. كأنه مركب من الكرب والبلاء وحذفت الباء الاولى تخفيفا.
(8) مضجعه: بفتح الميم والجيم المعجمة وتكسر والاول أقيس وأفصح أي مصرعه
(9) كما ورد في حديث رواه ابن عدي والبيهقي مسندا.
(10) بضم الصاد المهملة وواو ساكنة وحاء مهملة والف ونون وهو زيد بن صوحان ابن حجر بن الحارث العبدي أخو صعصعة وله وفادة على النبي صلّى الله عليه وسلم وقيل انه تابعي وقال الذهبي ومن خطه نقلت كان زيد بن صوحان مواخيا لسلمان-(1/673)
عُضْوٌ مِنْهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ «1» فِي الْجِهَادِ «2» » .
وَقَالَ «3» فِي الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى حِرَاءٍ: «اثْبُتْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ فَقُتِلَ عَلِيٌّ «4» وَعُمَرُ «5» وَعُثْمَانُ «6» وَطَلْحَةُ «7» وَالزُّبَيْرُ «8» وَطُعِنَ سعد رضي الله عنهم «9» وقال «10» لسراقة «11» كيف بك إذا لبست سِوَارَيْ «12» كِسْرَى «13» فَلَمَّا أُتِيَ بِهِمَا عُمَرُ أَلْبَسَهُمَا إياه وقال: الحمد لله الذي سلبها كسرى وألبسهما سراقة «14»
__________
- وكان زاهدا عابدا ذكر له مناقب كثيرة وعده من الصحابة وصوحان معناه اليابس يقال صوح النبت اذا صار هشيما ولفظ الحديث «من سره ان ينظر الى رجل يسبقه بعض أعضائه الى الجنة فلينظر الى زيد بن صوحان» وفي سنده هذيل بن بلال وهو ضعيف.
(1) قطعت يده اليسرى كما رواه الذهبي.
(2) قيل كان هذا يرم نهاوند وقيل في قتال المشركين.
(3) رواه مسلم وغيره
(4) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «569» رقم «6»
(7) تقدمت ترجمته في ص «591» رقم «4»
(8) تقدمت ترجمته في ص «591» رقم «5» .
(9) لفظ مسلم «ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحرك فقال اهدا فما عليك الا نبي وصديق وشهيد» زاد بعضهم سعدا مكان علي.
(10) كما رواه البيهقي.
(11) تقدمت ترجمته في ص «130» رقم «5» .
(12) سواري: مثنى سوار بضم السين وكسرها ويقال أسوار بضم الهمزة وكسرها أيضا وهذا مما كان يتزين به العجم والملوك.
(13) تقدمت ترجمته في ص «631» رقم «8» .
(14) وليس في هذا استعمال للذهب وليس الرجال له وهو من المحرمات لأنه لا يفعله إلا تحقيقا وتصديقا لقوله صلّى الله عليه وسلم من غير ان يقرها ومثله لا يعد استعمالا(1/674)
وَقَالَ «1» تُبْنَى مَدِينَةٌ بَيْنَ دِجْلَةَ «2» وَدُجَيْلٍ «3» وَقُطْرُبُلَّ «4» وَالصَّرَاةِ «5» تُجْبَى إِلَيْهَا خَزَائِنُ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِهَا. - يَعْنِي بَغْدَادَ-
وَقَالَ «6» : «سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ «7» هُوَ شَرٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ «8» لِقَوْمِهِ» وَقَالَ «9» : لَا تَقُومُ الساعة
__________
(1) كما روا ابو نعيم في الدلائل عن جرير بن عبد الله والخطيب في تاريخه لكن قال احمد بن حنبل: «ولم يحدث به- بحديث بغداد ثقة ومداره على عمار بن سيف وهو مغفل وقال الذهبي في ميزانه حديثه منكر.
(2) دجلة: بدال مهملة مفتوحة او مكسورة من دجله اذ غطاء ومنه الدجال لخفاء أمره بتخليطه في أموره وهو علم لنهر مشهور بالعراق ولا يجوز دخول الالف واللام عليه لأنه علم مرتجل.
(3) دجيل: مصغر علم نهر بالاهواز حفره أردشير بن بابك اول ملوك بني ساسان بالمدائن عليه قرى كثيرة ومخرجه من أصبهان وقيل إنه خليج متشعب من دجلة.
(4) قطربل: بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء المهملة وضم الباء الموحدة المشددة وقد تخفف وتشدد اللام وهو موضع بالعراق تنسب اليه الخمر.
(5) الصراة: بفتح الصاد المشددة والراء المخففة المهملتين ثم الف وهاء وهو نهر بالعراق أيضا مشهور وهو الاصح المعروف وفي بعض النسخ الهراة بالهاء بدل الصاد وهي بلدة بالعجم وقد ضرب عليه وصحح الصراة وهو المعتمد.
(6) رواه الامام أحمد والبيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلا وحسنه قال الدلجي الحديث في مسند أحمد من حديث سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله تعالى عنه وسعيد اختلف في سماعه من عمر وقد ذهب أحمد إلى أنه سمع منه ذكر هذا الحديث ابن الجرزي في موضوعاته من طريق أحمد ثم نقل عن ابن حبان أنه خبر باطل.
(7) قال الأوزاعي: «كانوا يرون أنه الوليد بن عبد الملك ثم رأوا أنه ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك الجبار الذي كان مفتاح أبواب الفتن على هذه الأمة وكان ماجنا سفيها مدمنا للخمر» . وكنيته أبو العباس من ملوك الدولة المروانية بالشام كان من فتيان بني أمية وظرفائهم وشجعانهم وأجوادهم، يعاب بالانهماك في اللهو وسماع الغناء وكان يضرب بالعود والطبل والدف وقال السيد المرتضى: «كان مشهورا بالالحاد متظاهرا بالعناد» ولي الخلافة سنة (125 هـ) بعد وفاة عمه هشام بن عبد الملك، فمكث سنة وثلاثة أشهر ونقم عليه الناس حبه للهو. فبايعوا سرا ليزيد بن الوليد بن عبد الملك.
(8) فرعون لقب يطلق على كل من ملك مصر والذي كان عدوا لسيدنا موسى عليه السلام كان اسمه الوليد كما ذكر الخفاجي وغيره وقصته في القرآن معروفة.
(9) كما ورد في الصحيحين.(1/675)
حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ «1» » . وَقَالَ «2» لِعُمَرَ فِي سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو «3» : «عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا يَسُرُّكَ يَا عُمَرُ» فَكَانَ كَذَلِكَ.. قَامَ بِمَكَّةَ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ «4» يَوْمَ بَلَغَهُمْ مَوْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَ بِنَحْوِ خُطْبَتِهِ وَثَبَّتَهُمْ وَقَوَّى بَصَائِرَهُمْ.
وَقَالَ «5» لِخَالِدٍ «6» حِينَ وَجَّهَهُ لِأُكَيْدِرَ «7» : إِنَّكَ تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ فَوُجِدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ جُلَسَاءَهُ مِنْ أَسْرَارِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ وَكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فيه وفي المؤمنين.. حتى إن
__________
(1) كما وقع في صفين في وقعة علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما.
(2) كما ورد في حديث رواه البيهقي والحاكم عن الحسن بن محمد مرسلا.
(3) هو سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود أبو يزيد العامر القرشي أحد خطباء قريش اسلم يوم الفتح واستشهد باليرموك وقيل توفي بالشام سنة ثمان عشرة وقال الواقدي «توفي سنة تسع عشرة في طاعون عمواس» وكان يقوم خطيبا يحرض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فلما أسر يوم بدر قال عمر يا رسول الله انه رجل مفوه فدعني أنتزع ثنيتيه السفليتين فلا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم.
(4) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «1» .
(5) كما رواه ابن اسحق والبيهقي.
(6) تقدمت ترجمته في ص «637» رقم «9» .
(7) أكيدر بضم الهمزة وكاف مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة ودال مكسورة وراء مهملتين، مصغر أكدر وهو ملك كندة اختلف في إسلامه وصحبته قال الخطيب «كان نصرانيا ثم أسلم» وقيل بل مات نصرانيا وجمع بينهما بانه اسلم ثم ارتد قال ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما معرفة الصحابة أن أكيدر أسلم وأهدى للنبي صلّى الله عليه وسلم حلة سيراء فوهبها العمر قال ابن الأثير: «أما الهدية والمصالحة فصحيحان وأما الاسلام فغلطا فيه فانه لم يسلم بلا خلاف بين علماء السير وكان أكيدر نصرانيا فلما صالحة علمه الصلاة والسلام عاد الى حصنه وبقي فيه ثم إن خالدا حاصره زمن أبي بكر فقتله مشركا نصرانيا لنقض العهد.(1/676)
كان بعضهم ليقول لصاحبه اسكت فو الله لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ لَأَخْبَرَتْهُ حِجَارَةُ الْبَطْحَاءِ «1» .
وَإِعْلَامُهُ «2» بِصِفَةِ السِّحْرِ الَّذِي سَحَرَهُ بِهِ لَبِيدُ «3» بْنُ الْأَعْصَمِ.
وَكَوْنِهِ فِي مُشْطٍ «4» وَمُشَاقَةٍ «5» فِي جُفِّ «6» طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ وَأَنَّهُ أُلْقِيَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ «7» فَكَانَ كَمَا قَالَ ووجد على تلك الصفة.
وإعلامه «8» قريشا بأكل الْأَرَضَةُ «9» مَا فِي صَحِيفَتِهِمُ الَّتِي تَظَاهَرُوا بِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ «10» وَقَطَعُوا بِهَا رَحِمَهُمْ وَأَنَّهَا أَبْقَتْ فِيهَا كُلَّ اسْمٍ لِلَّهِ.
فَوَجَدُوهَا كَمَا قَالَ. وَوَصْفُهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ
__________
(1) البطحاء: هي أرض مستوية يسيل فيها الماء والمراد بحجارتها ما فيها من الحصباء.
(2) كما في الصحيحين عن عائشة.
(3) تقدمت ترجمته في ص «224» رقم «4» .
(4) مشط: بضم الميم وكسرها وسكون الشين المعجمة وطاء مهملة اسم آلة معروفة يسرح بها الشعر ويقال له ممشط أيضا.
(5) مشاقة: وفي نسخة مشاطة بضم الميم وهو ما يسقط من الشعر اذا سرح.
(6) جف: بضم الجيم وتشديد الفاء وهو وعاء الطلع الذي يكون عليه كالغشاء وفي نسخة جب بباء موحدة بمعنى داخل وجوف منه ومنه جب البئر.
(7) ذروان: بفتح الذال المعجمة وسكون الراء وهي بئر بالمدينة لبني زريق ويقال له بئر ذي أروان كذا في مسلم وكلاهما صحيح وما في مسلم أصح وأدعى أنه الصحيح ذكره النووي.
(8) كما رواه البيهقي عن الزهري في الدلائل.
(9) الأرضة: بفتح الهمزة والراء دويبة تأكل الخشب.
(10) هو هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة، من قريش، أحد من انتهت اليهم السيادة في الجاهلية، ومن بنيه النبي صلّى الله عليه وسلم قال مؤرخوه: «اسمه عمرو، وغلب عليه لقبه «هاشم» لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة في احدى المجاعات. وهو أول من سن الرحلتين لقريش» .(1/677)
كَذَّبُوهُ فِي خَبَرِ الْإِسْرَاءِ وَنَعْتُهُ إِيَّاهُ نَعْتَ من عرفه وإعلامهم بعيرهم التي مر عليها في طريقه وإنذارهم بِوَقْتِ وُصُولِهَا فَكَانَ كُلُّهُ كَمَا قَالَ.
إِلَى مَا أَخْبَرَ «1» بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَكُونُ وَلَمْ تَأْتِ بَعْدُ مِنْهَا مَا ظَهَرَتْ مُقَدِّمَاتُهَا كَقَوْلِهِ: عُمْرَانُ «2» بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ «3» . وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ «4» .
وَمِنْ «5» أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَآيَاتِ حُلُولِهَا وَذِكْرِ النَّشْرِ والحشر «6»
__________
(1) كما في حديث رواه أبو داود في سنته.
(2) بمعنى كونه معمورا بتمام بنائه وكثرة سكانه وذلك باستيلاء الكفرة عليه وتعميره هو السبب في خراب المدينة المشرفة.
(3) الملحمة: بميم مفتوحة ولام ساكنة وحاء مهملة وهي موضع المعركة والقتال ويكون بمعنى الحرب نفسه والمراد هنا الفتن العظيمة والهرج الذي يكون في آخر الزمان
(4) القسطنطينة: وفي نسخة قسطنطينية» بغير ألف ولام وهي مدينة عظيمة هي قاعدة ديار الكفر وكرسيها وهي منسوبة لقسطنطين اسم أول ملك بناها وهو من أظهر دين النصرانية ودونه وهي مدينة عظيمة الشكل منها جانبان في البحر وجانب في البر ولها سبعة أسوار وسمك سورها الكبير احدى وعشرون ذراعا وفيه مائة باب وبابها الكبير يسمى باب الذهب وهو باب مموه بالذهب وفيها منارة من نحاس قد قلبت قطعة واحدة وليس لها باب وفيها منارة قريبة من مارستانها قد ألبست كلها بالنحاس وعليها قبر قسطنطين وهو راكب على فرس وقوائمه محكمة بالرصاص.
(5) ما ورد في الصحيحين «أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل والزنا وشرب الخمر وتقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» .
(6) كما في حديث مسلم.(1/678)
وَأَخْبَارِ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ.
وَبِحَسْبِ هَذَا الْفَصْلِ أَنْ يَكُونَ دِيوَانًا مُفْرَدًا يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْزَاءٍ وَحْدَهُ.
وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ نُكَتِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كِفَايَةٌ وَأَكْثَرُهَا في الصحيح وعند الأئمة والله ولي التوفيق..(1/679)
الفصل الخامس والعشرون عصمة الله لَهُ مِنَ النَّاسِ وَكِفَايَتِهِ مِنْ أَذَاهِمْ
قَالَ الله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» » .
وَقَالَ تَعَالَى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا «2» » .
وقال: «أَلَيْسَ «3» اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ «4» » .
قِيلَ: بِكَافٍ «5» مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا وَقَالَ: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «6» » .
وقال: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «7» » الآية.
__________
(1) سورة النساء آية رقم 70.
(2) سورة الطور آية رقم 48.
(3) فيه إثبات لكفاية الله له على أبلغ وجه لأنه استفهام إنكاري وهي نفي معنى ونفي النفي اثبات يعني إن عبادي يحفظون عبيدهم فكيف لا أحفظ عبدي.
(4) سورة الزمر آية رقم 36.
(5) أي قيل إن معناه بكاف محمدا صلّى الله عليه وسلم لأن العبد في الآية غير معين. وقيل في تفسير الآية غير هذا.
(6) سورة الحجر آية رقم 95.
(7) «لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» سورة الأنفال آية رقم 30.(1/680)
عَنْ «1» عَائِشَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من القبّة «3» . فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ..
انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» ..
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ شَجَرَةً يَقِيلُ «4» تَحْتَهَا.. فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ «5» سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فقال: الله عز وجل فأرعدت يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ سَيْفُهُ وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى سَالَ دِمَاغُهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ «6» .
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَأَنَّ غَوْرَثَ «7» بْنَ الْحَارِثِ صَاحِبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ:
جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ «8» .
__________
(1) أخرجه الترمذي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «146» رقم «5» .
(3) القبة: بضم القاف وتشديد الباء الموحدة وهي كل مرتفع من البناء أو الخيمة والخباء من وقب اذا علا والمراد هنا خباء كان فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ.
(4) يقيل من قال يقيل قيلولة وهي الظهيرة وما قرب منها للاستراحة سواء نام أم لا وإن كثر فيها النوم.
(5) اخترط: سل سيفه من غمده.
(6) أي «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .
(7) هو غورث بن الحارث اختلف في إسلامه لاختلاف الروايات في القصة فقد ورد أن النبي قال له: «لا أو تسلم» فقال الاعرابي: «لا، ولكن أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك» ويتمسك الذين يقولون بإسلامه بقوله: جئتكم من عند خير الناس
(8) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه.(1/681)
وقد حكيت مثل الحكاية أنها جَرَتْ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدِ انْفَرَدَ مِنْ أصحابه لقضاء حاجة فَتَبِعَهُ رَجُلٌ «1» مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ مِثْلَهُ «2» .
وَقَدْ رُوِيَ «3» أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ مِثْلُهَا فِي غَزْوَةِ غَطَفَانَ «4» بِذِي أَمْرٍ «5» مَعَ رَجُلٍ اسْمُهُ دَعْثُورُ «6» بْنُ الْحَارِثِ.. وَأَنَّ الرَّجُلَ أَسْلَمَ فَلَمَّا رَجَعَ إلى قومه الذين أغروه «7» به وَكَانَ سَيِّدَهُمْ وَأَشْجَعَهُمْ قَالُوا لَهُ: أَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ وَقَدْ أَمْكَنَكَ فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ دَفَعَ فِي صَدْرِي فَوَقَعْتُ لِظَهْرِي وَسَقَطَ السَّيْفُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ وأسلمت.
قيل: وفيه نزلت «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «8» » الآية.
__________
(1) هذا الرجل لم يعرف كما قاله البرهان.
(2) الحديث لم يخرج.
(3) رواه ابن اسحاق في سيرته الكبرى موصولا عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.
(4) غطفان: بغين معجمة وطاء مهملة مفتوحتين وهي قبيلة مشهورة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم في سرية نحو أربع مائة وخمسين فارسا في ربيع الاول بعد خمسة أشهر من الهجرة.
(5) ذي أمر: بهمزة وميم مفتوحتين وراء مهملة وهو اسم مكان ويسمى غزوة غطفان وغزوة أنمار وغزو ذات الرقاع.
(6) هو رجل من محارب ويبدو أنه هذا الرجل هو غورث بن الحارث المتقدم ذكره وان العصيتين واحدة وقال ابن سيد الناس: أن الخبرين والرجلين واحد.
(7) أي حرضوه على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلم
(8) «فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» سورة المائدة آية رقم 12.(1/682)
وَفِي رِوَايَةِ الْخَطَّابِيِّ «1» أَنَّ غَوْرَثَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَفْتِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ مُنْتَضِيًا «2» سَيْفَهُ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكفينه بِمَا شِئْتَ» فَانْكَبَّ مِنْ وَجْهِهِ مِنْ زُلَّخَةٍ «3» زُلِّخَهَا «4» بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَنَدَرَ «5» سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ..
و «الزُّلَّخَةُ» وَجَعُ الظَّهْرِ.
وَقِيلَ فِي قِصَّتِهِ غَيْرُ هذا.. وذكر أنّ فيه نزلت «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ «6» » الْآيَةَ.
وَقِيلَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخَافُ قُرَيْشًا فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتَلْقَى ثُمَّ قَالَ «مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي» .
وَذَكَرَ «7» عَبْدُ «8» بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: كَانَتْ حَمَّالَةُ الحطب «9» تضع
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «6» .
(2) منتضيا: بضاد معجمة ومثناة تحتية أي مجردا وسالا.
(3) الزلخة: بضم الزاي المعجمة وفتح اللام المشددة وخاء معجمة وتاء.
(4) زلخها: بضم الزاي المعجمة وتشديد اللام المكسورة وخاء مفتوحة معجمة. وهاء ضمير.
(5) ندر: بنون ودال مهملة مفتوحتين وراء مهملة أي سقط.
(6) «إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» سورة المائدة آية رقم 12.
(7) رواه ابن جرير في تفسيره مرسلا.
(8) تقدمت ترجمته في ص «370» رقم «1»
(9) هي أم جميل العوراء أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية زوج أبي لهب.(1/683)
العضاه «1» - وهي حجر «2» - عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّمَا يَطَؤُهَا كَثِيبًا «3» أَهْيَلَ «4» .
وَذَكَرَ «5» ابْنُ اسحق «6» عَنْهَا أَنَّهَا لَمَّا بَلَغَهَا نُزُولُ «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «7» وَتَبَّ «8» » وَذِكْرُهَا بِمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ مَعَ زَوْجِهَا مِنَ الذَّمِّ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بكر «9» .
وفي يدها فهر مِنْ حِجَارَةٍ.. فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا لَمْ تَرَ إلا أبابكر وأخذ الله تعالى ببصرها على نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُكَ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يهجوني.. والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر «10» فاه.
وعن «11» الحكم بن أبي العاص «12» قال: تَوَاعَدْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) العضاه: بكسر العين وفي آخر الكلمة هاء وقفا ووصلا وهي أشجار عظام ذات شوك.
(2) المراد تشبيه الشوك بالجمر حال حدتها.
(3) كثيبا: بالمثلثة ومثناة تحتية وموحدة وهو ما اجتمع من الرمل.
(4) أهيل: مبني للمجهول يقال أهال الرمل إذا أساله ولم يجمعه كالربوة والمشي عليه حينئذ أسهل وألين أي يجده صلّى الله عليه وسلم سهلا لا يؤذيه.
(5) رواه أبو يعلى والبيهقي وابن أبي حاتم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما
(6) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «261» رقم «2» .
(8) سورة المسد آية رقم «1» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» .
(10) فهر: بكسر الفاء وسكون الهاء وراء مهملة وهو حجر ملء الكف او هو الحجر مطلقا.
(11) رواه أبو نعيم في الدلائل والطبراني بسند جيد.
(12) وهو والد مروان بن الحكم، وهو ممن أسلم عام الفتح وتوفي في خلافة عثمان وفي الصحابة من وافقه في اسمه واسم أبيه ولكن المشهور هو هذا.(1/684)
إذا رأيناه حتى سَمِعَنَا صَوْتًا خَلْفَنَا مَا ظَنَنَّا أَنَّهُ بَقِيَ بِتِهَامَةَ أَحَدٌ فَوَقَعْنَا مَغْشِيًّا عَلَيْنَا.. فَمَا أَفَقْنَا حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ.. ثُمَّ تَوَاعَدْنَا لَيْلَةً أُخْرَى فَجِئْنَا حَتَّى إِذَا رَأَيْنَاهُ جَاءَتِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ فَحَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.
وَعَنْ «1» عُمَرَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَاعَدْتُ أَنَا وَأَبُو جَهْمِ «3» بْنِ حُذَيْفَةَ لَيْلَةً قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَجِئْنَا مَنْزِلَهُ فَسَمِعْنَا له فافتتح وقرأ «الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ «4» » .. إِلَى «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «5» » .
فَضَرَبَ أَبُو جَهْمٍ عَلَى عَضُدِ عُمَرَ وَقَالَ: انْجُ.. وَفَرَّا هَارِبَيْنِ فَكَانَتْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ إِسْلَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْهُ «6» الْعِبْرَةُ الْمَشْهُورَةُ وَالْكِفَايَةُ التَّامَّةُ عِنْدَمَا أَخَافَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ وَبَيَّتُوهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِهِ فَقَامَ على رؤوسهم وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَذَرَّ التراب على رؤوسهم وخلص
__________
(1) هذا الحديث لم يوجد بهذا اللفظ إلا انه في مسند أحمد بما يقرب منه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(3) هو عامر او عبيد بن حذيفة بن غانم بن عامر العدوي اسلم عام الفتح وصحبه صلى الله عليه وسلم وكان معظما في قريش توفي في ايام معاوية رضي الله تعالى عنه وكانت فيه وفي بنيه شدتها وقد ادرك بنيان الكعبة حين بناها ابن الزبير فعمل فيها ثم قال قد عملت في الكعبة مرتين مرة في الجاهلية بقوة غلام يافع وفي الاسلام بقوة شيخ فان وهو صاحب الانبجانية
(4) سورة الحاقة آية رقم «1، 2» .
(5) سورة الحاقة آية رقم «8» .
(6) كما رواه ابن اسحق والبيهقي.(1/685)
مِنْهُمْ.. وَحِمَايَتُهُ «1» عَنْ رُؤْيَتِهِمْ فِي الْغَارِ «2» بِمَا هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي نَسَجَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ «3» خَلَفٍ حِينَ قَالُوا: نَدْخُلُ الْغَارَ.. مَا «4» أَرَبُكُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ مِنْ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ مَا أَرَى «5» إنه قبل أن يولد محمد.. ووقفت حَمَامَتَانِ عَلَى فَمِ الْغَارِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لَمَا كَانَتْ هُنَاكَ الْحَمَامُ..
وقصته «6» من سُرَاقَةَ «7» بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ الْهِجْرَةِ.. وَقَدْ جَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ وَفِي أَبِي بَكْرٍ «8» الجعائل «9» .. فأنذر به فركب
__________
(1) رواه البزار مسندا.
(2) أي غار ثور وثور اسم جبل يمنة مكة والغار كالمغار نقرة في الجبل كالبيت وسمي بثور بن عبد مناف لنزوله به.
(3) أمية بن خلف بن وهب من بني لؤي: أحد جبابرة قريش في الجاهلية، ومن ساداتهم، أدرك الاسلام، ولم يسلم. وهو الذي عذب بلالا الحبشي في بداءة ظهور الاسلام أسره عبد الرّحمن بن عوف يوم بدر. فرآه بلال فصاح بالناس يحرضهم على قتله، فقتلوه.
(4) ما أربكم: بفتح الهمزة والراء المهملة والموحدة ويجوز كسر الهمزة وتسكين الراء وهو الحاجة المطلوبة وما استفهامية او نافية أي ليس لكم مطلوب وهو محمد صلّى الله عليه وسلم ولا حاجة.
(5) أرى: بضم الهمزة وفتحها أي أظن وأعتقد.
(6) رواه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمته في ص «130» رقم «5» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» .
(9) الجعائل: جمع جعيلة أو جعالة بالفتح وهي الاجرة على شيء فعلا او قولا والجعل بالضم الاسم وبالفتح المصدر وقد عينت قريش مائة ناقة لمن يرد عليهم محمدا صلّى الله عليه وسلم حيا او ميتا.(1/686)
فَرَسَهُ وَاتَّبَعَهُ حَتَّى إِذَا قَرُبَ مِنْهُ دَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ «1» قَوَائِمُ فَرَسِهِ فَخَرَّ عَنْهَا وَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ «2» فَخَرَجَ لَهُ مَا يَكْرَهُ..
ثُمَّ رَكِبَ وَدَنَا حَتَّى سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْتَفِتُ.. وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُتِينَا.
فَقَالَ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «4» » .. فساخت ثانية إلى ركبتها وَخَرَّ عَنْهَا فَزَجَرَهَا فَنَهَضَتْ وَلِقَوَائِمِهَا مِثْلُ الدُّخَانِ فَنَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ فَكَتَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانًا.. كَتَبَهُ ابْنُ فُهَيْرَةَ «5» وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ وَأَخْبَرَهُمْ بِالْأَخْبَارِ وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم أن لا يَتْرُكَ أَحَدًا يَلْحَقُ بِهِمْ فَانْصَرَفَ يَقُولُ لِلنَّاسِ.. كفيتم ما هاهنا.
__________
(1) فساخت: بسين مهملة وخاء معجمة بمعنى فغاصت في الارض.
(2) الأزلام: جمع زلم بفتحتين ويضم وفتح بزنة عمر وهي قداح أي سهام لا ريش لها ولا فصل كانوا في الجاهلية يكتبون على بعضها أفعل وعلى بعضها لا أفعل ويضعونها في متاعهم اذا سافر واذا عرض لهم سهم أخرجوا منها زلما يتفاءلون به فيفعلون أو يتركون وهو معنى الاستقسام أي طلب ما قسم وقدر له.
(3) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6» .
(4) سورة التوبة آية رقم «40» .
(5) هو عامر بن فهيرة مولى ابي بكر رضي الله تعالى عنه وهو من مولدي الازد مملوك للطفيل فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه منه وأعتقه واسلم وكان يرعى غنما لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ويهيء لهما كل ليلة في الغار اللبن يتغذيانه ثم هاجر معهما وشهد بدرا وأحدا وقتل ببئر معونة فلم يوجد جسده مع القتلى فيقال ان الملائكة دفنته وقيل رفعته الى السماء.(1/687)
وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُمَا.. أَرَاكُمَا دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَنَجَا..
وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ظُهُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي خَبَرٍ «1» آخَرَ أَنَّ رَاعِيًا عَرَفَ خَبَرَهُمَا فَخَرَجَ يَشْتَدُّ يُعْلِمُ قُرَيْشًا فَلَمَّا وَرَدَ مَكَّةَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ فَمَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ وَأُنْسِيَ مَا خَرَجَ لَهُ.. حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ.
وَجَاءَهُ «2» - فيما ذكره ابن اسحق «3» وَغَيْرُهُ- أَبُو جَهْلٍ «4» بِصَخْرَةٍ وَهُوَ سَاجِدٌ.. وَقُرَيْشٌ يَنْظُرُونَ لِيَطْرَحَهَا عَلَيْهِ فَلَزِقَتْ بِيَدِهِ وَيَبِسَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ وَأَقْبَلَ يَرْجِعُ الْقَهْقَرَى إِلَى خَلْفِهِ.. ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَفَعَلَ فَانْطَلَقَتْ يَدَاهُ.. وَكَانَ قَدْ تَوَاعَدَ مَعَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ وحلف لئن رآه ليدفعنه «5» فَسَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ.. فَذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ هَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي.. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ.
وَذَكَرَ «6» السَّمَرْقَنْدِيُّ «7» أَنَّ رَجُلًا «8» مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ «9»
__________
(1) لم يعرف من رواه.
(2) كأبي نعيم في الدلائل عن ابن عباس والبيهقي
(3) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «3» .
(5) أي ليصيبن دماغه وليهلكنه
(6) روى ابو نعيم في الدلائل عن ابن عباس بلفظ «أن ناسا من قريش قاموا ليأخذوه فاذا أيديهم مجموعة على أعناقهم وآذانهم عمي لا يبصرون فقالوا ننشدك الله والرحم فدعا حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت «يسن» الى قوله «لا يؤمنون» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(8) قال البرهان: «لا أعرفه» وقال غيره انه الوليد بن المغيرة وقيل انه ابو جهل
(9) ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم جد أبي جهل.(1/688)
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ قَوْلَهُ.. فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ وَذُكِرَ أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ نَزَلَتْ «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا «1» » الآيتين.
ومن ذلك ما ذكره ابن اسحق «2» فِي قِصَّتِهِ إِذْ خَرَجَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ «3» فِي أَصْحَابِهِ.. فَجَلَسَ إِلَى جِدَارِ بَعْضِ آطَامِهِمْ «4» ..
فَانْبَعَثَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ «5» أَحَدُهُمْ لِيَطْرَحَ عَلَيْهِ رَحًى.. فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمَهُمْ بِقِصَّتِهِمْ.
وَقَدْ قِيلَ إن قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ» «6» فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَزَلَتْ.
وَحَكَى «7» السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّهُ خرج إلى بني النضير «8» يستعين في
__________
(1) «فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» سورة يسن رقم 8- 9.
(2) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7»
(3) بني قريظة: قبيلة من يهود خيبر.
(4) آطامهم: بالمد والطاء المهملة جمع أطم بفتحتين وهو الحصن هنا ويكون بمعنى البيت المربع والقصر.
(5) بفتح الجيم والحاء المهملة المشددة وآخره شين معجمة وهو من بني قريظة، قتل كافرا.
(6) سورة المائدة آية رقم (12) .
(7) كما رواه ابن سيد الناس وغيره من أصحاب السير.
(8) بني النضير: بنون مفتوحة وضاد معجمة مكسورة وهم قوم من يهود خيبر.(1/689)
عَقْلِ «1» الْكِلَابِيَّيْنِ «2» اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو «3» بْنُ أُمَيَّةَ.. فَقَالَ لَهُ حُيَيُّ «4» بْنُ أَخْطَبَ اجْلِسْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ مَا سَأَلْتَنَا فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ «5» وَعُمَرَ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَتَوَامَرَ «7» حُيَيٌّ مَعَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ.. فَأَعْلَمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ..
فَقَامَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ حَاجَتَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ.
وذكر أهل التفسير معنى الحديث «8» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «9» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ «10» وَعَدَ قُرَيْشًا.. لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَيَطَأَنَّ رَقَبَتَهُ.. فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُوهُ فَأَقْبَلَ.. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ وَلَّى هَارِبًا نَاكِصًا «11» عَلَى عَقِبَيْهِ «12» مُتَّقِيًا بيديه.. فسئل فقال: لما دنوت
__________
(1) عقل: مصدر عقل البعير يعقله إذا ربطه بالعقال المانع له من الحركة وأصل معنى العقل المنع ومنه العقل المعروف لمنعه عما لا يليق وسميت به دية المقتول لأنها كانت عند العرب إبلأ يسوقها القاتل نحوه.
(2) الكلابيين: أي في دية الاثنين من قبيلة بني كلاب بكسر أوله.
(3) هو عمرو بن أميه بن خويلد بن عبد الله بن اياس الصحابي الذي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعثه في أموره وهو الذي ذهب للنجاشي بكتابه فأجابه وأسلم وزوجه أم حبيبة اسلم بعد أحد وشهد بئر معونة ومات بالمدينة في خلافة معاوية رضي الله تعالى عنه
(4) هو حيي بن أخطب من يهود بني النضير ومن رؤسائهم، والد صفية أم المؤمنين من الأشداء العتاة. كان ينعت بسيد الحاضر والبادي أدرك الاسلام وآذى المسلمين فأسروه يوم قريظة، ثم قتلوه.
(5) تقدمت ترجمته في ص «156» رقم «6»
(6) تقدمت ترجمته في ص «13» رقم «4»
(7) توامر: بفتح التاء الفوقية والواو ويقال بالهمز تفاعل من الأمر أي نظر كل في أمر الآخر والمراد به هنا المشاورة.
(8) رواه مسلم والنسائي.
(9) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «5» .
(10) تقدمت ترجمته في ص «27» رقم «3»
(11) ناكصا: متأخرا راجعا إلى الخلف.
(12) عقبيه: مثنى عقب مؤخر القدم.(1/690)
مِنْهُ أَشْرَفْتُ عَلَى خَنْدَقٍ مَمْلُوءٍ نَارًا كِدْتُ أَهْوِي فِيهِ.. وَأَبْصَرْتُ هَوْلًا عَظِيمًا وَخَفْقَ أَجْنِحَةٍ قد ملأت الأرض.. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ.. لَوْ دَنَا لَاخْتَطَفَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا» ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «1» ..» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَيُرْوَى «2» أَنَّ شَيْبَةَ «3» بْنَ عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ أَدْرَكَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ «4» وَكَانَ حَمْزَةُ «5» قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ وَعَمَّهُ.. فَقَالَ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمَّدٍ.. فَلَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَرَفَعَ سَيْفَهُ لِيَصُبَّهُ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ ارْتَفَعَ إِلَيَّ شُوَاظٌ «6» مِنْ نار أسرع من البرق..
__________
(1) سورة العلق آية رقم 7 وما بعدها.
(2) رواه ابو نعيم في الدلائل.
(3) هو شيبة بن عثمان الحجبي بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي الصحابي المشهور خادم الكعبة ومن بيده مفتاحها اسلم يوم الفتح وقيل يوم حنين ومات سنة تسع وخمسين واخرج له البخاري واحمد في مسنده وابو داود وترجمته معروفة.
(4) حنين: أي في غزوة حنين وحنين واد قريب من الطائف.
(5) حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، وأبو عمارة، من قريش: عم النبي صلّى الله عليه وسلم وأحد صناديد قريش وساداتهم في الجاهلية والاسلام. ولد ونشأ بمكة. وكان أعز قريش وأشدها شكيمة. ولما ظهر الاسلام تردد في اعتناقه، ثم علم أن أبا جهل تعرض للنبي صلّى الله عليه وسلم وقال منه فقصده حمزة وضربه وأظهر اسلامه، وهاجر حمزة مع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحضر وقعة بدر وغيرها قال المدائني: أول لواء عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لحمزة، وكان شعار حمزة في الحرب ريشة نعامة يضعها على صدره، ولما كان يوم بدر قاتل بسيفين وفعل الأفاعيل. وقتل يوم أحد فدفنه المسلمون في المدينة وانقرض عقبه.
(6) شواظ: بضم الشين المعجمة وتكسر. لهب.(1/691)
فَوَلَّيْتُ هَارِبًا.. وَأَحَسَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَدَعَانِي فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ.. فَمَا رَفَعَهَا إِلَّا وهو أحبّ الخلق إليّ وقال لي: اذن فَقَاتِلْ.. فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي وَأَقِيهِ بِنَفْسِي وَلَوْ لَقِيتُ أَبِي تِلْكَ السَّاعَةَ لَأَوْقَعْتُ بِهِ دونه.
وعن «1» فضالة «2» بن عمرو قال: أَرَدْتُ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.. فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ: أَفَضَالَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: مَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ .. قُلْتُ. لَا شَيْءَ.. فَضَحِكَ وَاسْتَغْفَرَ لِي.. وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي فسكن قلبي.. فو الله مَا رَفَعَهَا حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ.
وَمِنْ «3» مَشْهُورِ ذَلِكَ خَبَرُ عامر بن «4» الطفيل وأربد بن «5» قيس
__________
(1) رواه ابن اسحق وابن سيد الناس.
(2) ذكر ابن حجر في الاصابة أنه فضالة بن عمير بن الملوحي الليثي ولم يرد في ترجمته الاقصته يوم الفتح مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(3) رواه ابن اسحق والبيهقي بلا سند وابو نعيم في الدلائل مسندا إلى عروة.
(4) هو عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامري، من بني عامر بن صعصعة: فارس قومه، وأحد فتاك العرب وشعرائهم وساداتهم في الجاهلية. كنيته أبو علي، ولد ونشأ بنجد. وخاض المعارك الكثيرة وأدرك الاسلام شيخا، فوفد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في المدينة بعد فتح مكة، يريد الغدر به، فلم يجرؤ عليه. فدعاه إلى الاسلام، فأشترط أن يجعل له نصف ثمار المدينة، وأن يجعله ولي الأمر من بعده؛ فرده؛ فعاد حنقا، فمات بطريقه قبل أن يبلغ قومه. وكان أعور أصيبت عينه في احدى وقائعه. عقيما لا يولد له. وهو ابن عم لبيد الشاعر.
(5) بفتح الهمزة وسكون الراء وهو أخو لبيد بن ربيعة لأمه ولبيد صحابي وكان أربد شاعرا أيضا بعث الله عليه صاعقة فأحرقته كافرا بالله سبحانه وتعالى وفيه نزل قوله تعالى «فيرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال» .(1/692)
حِينَ وَفَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عَامِرٌ قَالَ لَهُ: أَنَا أَشْغَلُ عَنْكَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ فَاضْرِبْهُ أَنْتَ.. فَلَمْ يَرَهُ فَعَلَ شَيْئًا.. فَلَمَّا كَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ لَهُ:
وَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَهُ إِلَّا وَجَدْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفَأَضْرِبُكَ؟ ..
وَمِنْ «1» عِصْمَتِهِ لَهُ تَعَالَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ وَالْكَهَنَةِ أَنْذَرُوا به لِقُرَيْشٍ وَأَخْبَرُوهُمْ بِسَطْوَتِهِ بِهِمْ وَحَضُّوهُمْ عَلَى قَتْلِهِ فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى بَلَغَ فِيهِ أَمْرَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَصْرُهُ بِالرُّعْبِ أَمَامَهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ كما قال صلّى الله عليه وسلم..
__________
(1) كما ثبت في الصحيحين وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.(1/693)
الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مَعَارِفُهُ وَعُلُومُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْبَاهِرَةِ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ وَخَصَّهُ بِهِ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِأُمُورِ شَرَائِعِهِ وَقَوَانِينِ دِينِهِ وَسِيَاسَةِ عِبَادِهِ وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ، وَمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَنِهِ، وَحِفْظِ شَرَائِعِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَوَعْيِ سِيَرِهِمْ وَسَرْدِ أَنْبَائِهِمْ وَأَيَّامِ اللَّهِ فِيهِمْ وَصِفَاتِ أَعْيَانِهِمْ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ، وَالْمَعْرِفَةِ بِمُدَدِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ وَحِكَمِ حُكَمَائِهِمْ، وَمُحَاجَّةِ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَمُعَارَضَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنَ الْكِتَابِيِّينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ..
وَإِعْلَامِهِمْ بِأَسْرَارِهَا وَمُخَبَّآتِ عُلُومِهَا.. وَإِخْبَارِهِمْ بِمَا كتموه مِنْ ذَلِكَ وَغَيَّرُوهُ.. إِلَى الِاحْتِوَاءِ عَلَى لُغَاتِ الْعَرَبِ.. وَغَرِيبِ أَلْفَاظِ فِرَقِهَا.. وَالْإِحَاطَةِ بِضُرُوبِ فَصَاحَتِهَا.. والحفظ(1/694)
لِأَيَّامِهَا وَأَمْثَالِهَا وَحِكَمِهَا وَمَعَانِي أَشْعَارِهَا وَالتَّخْصِيصِ بِجَوَامِعِ كَلِمِهَا إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ وَالْحِكَمِ الْبَيِّنَةِ لِتَقْرِيبِ التَّفْهِيمِ لِلْغَامِضِ وَالتَّبْيِينِ لِلْمُشْكِلِ.. إِلَى تَمْهِيدِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا تَنَاقُضَ فِيهِ.. وَلَا تَخَاذُلَ.. مَعَ اشْتِمَالِ شَرِيعَتِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ.. وَمَحَامِدِ الْآدَابِ.. وَكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٍ مُفَضَّلٍ «1» ..
لَمْ يُنْكِرْ مِنْهُ مُلْحِدٌ ذُو عَقْلٍ سَلِيمٍ شَيْئًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْخِذْلَانِ.. بَلْ كُلُّ جَاحِدٍ لَهُ وَكَافِرٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ بِهِ إِذَا سمع ما يدعو اليه صوّبه واستحسن دُونَ طَلَبِ إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَيْهِ.. ثُمَّ مَا أَحَلَّ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَصَانَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِنَ الْمُعَاقَبَاتِ وَالْحُدُودِ عَاجِلًا وَالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ آجِلًا مِمَّا لا يعلم علمه وَلَا يَقُومُ بِهِ وَلَا بِبَعْضِهِ إِلَّا مَنْ مَارَسَ الدَّرْسَ وَالْعُكُوفَ عَلَى الْكُتُبِ وَمُثَافَنَةِ «2» بَعْضِ هذا إلى الاحتواء على ضروب العلم وفنون المعارف كالطب والعبارة «3» والفرائض «4» والحساب
__________
(1) وفي نسخة مفصل بالصاد المهملة.
(2) مثافنة: بميم ونون وقاف مثلثة وهو بمعنى الاستخراج كما في القاموس معطوف على الدروس والمعنى ظاهر وما في بعض النسخ من أنه بالفاء مفاعلة من النفث وهو الريق من الساحر والراقي ويطلق على لازمه وهو السحر والسحر قد شاع في الدقة وكأنه المراد أي والدقيق في بعض هذه الأمور.
(3) العبارة: بكسر العين المهملة أي تعبير رؤيا المنام.
(4) الفرائض: علوم المواريث.(1/695)
وَالنَّسَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ مِمَّا اتَّخَذَ أهل الْمَعَارِفِ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا قُدْوَةً وَأُصُولًا فِي عِلْمِهِمْ.
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» «الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ «2» وَهِيَ «3» عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ» «4» وَقَوْلِهِ «5» «الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: رُؤْيَا حَقٍّ وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلَ نَفْسَهُ وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ من الشيطان» .
__________
(1) رواه ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه.
(2) أي معبر ذو رأي ثاقب عالم بالعبارة على وجه الاشارة إذ أصاب وكان يحسن تعبيرها فإذا اعتبر شروطها وعبرها وقعت وكان ابن سيرين يقول إني اعتبرت الحديث والمعنى أنه يعبرها به كما يعبرها بالقرآن فيعبر القرآن مثلا بالرجل الفاسق والمرأة بالضلع أخذا من تسميته صلّى الله تعالى عليه وسلم له فاسقا وتسميتها ضلعا.
(3) كما رواه أبو داود والترمذي وصححه وأول الحديث: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهي على رجل طائر ما لم تعبر فاذا عبرت وقعت فلا يحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا» .
(4) رجل طائر: بكسر الراء المهملة وسكون الجيم ولام والمعنى أن الرؤيا قدر جار وقضاء ماض وحكم نافذ من خير أو شر أو نفع أو ضر وقال ابن قتيبة: «أراد أنها غير مستقرة يقال للشيء إذا لم يستقر هو على رجل طائر وعلى قرن ظبي» والحاصل أن هذا تمثيل وتصوير لجعل الرؤيا على قدر قدره الله تعالى لصاحبها بشيء متعلق برجل طائر يسقط بأدنى حركة فاذا عبرها أول عابر فكأنها كانت على رجله فسقطت وكل حركة جرت من شيء فهو طائر ومنه قوله تعالى في سورة يسن «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» أي حركاته في عبادته ومعاملاته في ذمته غير منفكة عنه.
(5) كما رواه الشيخان وغيرهما عن بضعة عشر من الصحابة إلا أنه قيل إن الذي في مسلم عن ابن سيرين عن أبي هريرة «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاث: رؤيا صالحة بشرى من الله ورؤيا تخزين من الشيطان ورؤيا يحدث بها المرء نفسه فان رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس» . وقد اختلفوا في ما ذكر من كون الرؤيا ثلاثا إلى آخره فقيل هو مدرج في الحديث من كلام ابن سيرين وقيل هو موقوف على أبي-(1/696)
وَقَوْلِهِ «1» : «إِذَا تَقَارَبَ «2» الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ» وَقَوْلِهِ: «3» «أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ «4» .»
وَمَا رُوِيَ «5» عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «6» رضي الله عنه: «الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ «7» وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ» وَإِنْ كَانَ هَذَا حَدِيثًا لَا نُصَحِّحُهُ لِضَعْفِهِ وَكَوْنِهِ موضوعا «8» .
__________
- هريره وقيل فيه إنه مرفوع ويؤيده أن ابن حنبل رفعه مسندا والحافظ السيوطي اعتمده وكذا المصنف رحمه الله تعالى فلا يرد عليه أن ابن الملقن قال في شرح البخاري أن الصحيح أنه ليس من كلامه صلّى الله عليه وسلم واختلف في قائله والصحيح أنه ابن سيرين وقول ابن حجر في فتح الباري أنها ليست منحصرة في الثلاث فان منها رابعا وهو تهويل الشيطان وخامسا وهو ما يهم به المرء في يقظته وسادسا وهو تلاعب الشيطان وسابعا وهو ما يعتاده الاحسان.
(1) رواه الشيخان عن أبي هريرة مسندا.
(2) المراد اقتراب الساعة وقيل المراد قصر الأيام والليالي على الحقيقة وقيل تقارب الليل والنهار ومن الاعتدال. لقول العابرين إن أصدق الأزمان لوقوع العبارة وقت انفتاق الأنوار والأزهار ووقت ادراك الثمار حين يستوي الليل والنهار وفي بعض الأخبار فيما رواه أحمد والترمذي وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد «أصدق الرؤيا بالأسحار
(3) كما رواه الدارقطني في العلل عن أنس وضعفه ابن السني وابو نعيم في الطب عن علي وعن أبي سعيد وعن الزهري مرسلا فلا وجه لما قيل من أنه لا صحة له.
(4) البردة: بموحدة وراء ودال مهملتين مفتوحات أي التخمة وثقل الطعام على المعدة وسميت بردة لأنها لبرد المعدة حتى تضعف عن طبخه وتصفيه أخلاطه والمراد بكونه أصلا لذلك أنه منشؤه او مبدؤه في الغالب.
(5) كما رواه الطبراني في الأوسط.
(6) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «5» .
. (7) تشبيه بليغ والحوض مجمع الماء فشبه المعدة به لجمعها الطعام وكجمع الحوض الماء.
(8) لا يرد على المصنف رحمه الله تعالى أنه كيف ذكر الموضوع وهو كذب عليه صلى الله عليه وسلم وهو ممتنع لأن ذلك في ذكره مع بيانه، وقد اختلف فيه فقيل إنه مرفوع قال الطبراني في الأوسط عن الزهري عن أبي هريرة مرفوعا «المعدة حوض-(1/697)
تكلم عليه الدارقطني «1» .
وقوله «2» خبر مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ «3» وَاللَّدُودُ «4» وَالْحِجَامَةُ «5» وَالْمَشِيُّ «6» وَخَيْرُ «7» الْحِجَامَةِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ «8» .. وَفِي «9» الْعُودِ الْهِنْدِيِّ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ منها ذات الجنب
__________
البدن والعروق اليها واردة فاذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم» ولم يروه عن الزهري إلا زيد بن أبي أنيسة تفرد به الرهاوي وقوله تكلم الى آخره أي بحث في مسنده وكونه مرفوعا وقال في كتاب العلل «اختلف فيه عن الزهري فرواه أبو قرة الراوي عنه وقال عن عائشة ولم يقل عن أبي هريرة وكلا الروايتين عن أبي هريرة لم يصح ولا يعرف من كلام النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر وقيل انه من كلام الحارث بن كلدة وعن ابن منبه ما يقرب منه وذكر ابن أبي الدنيا أنه اجمعت الاطباء على أن رأس الطب الحمية والحكماء على أن رأس الحكمة الصمت.
(1) تقدمت ترجمته في ص «158» رقم «1» .
(2) كما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(3) السعوط: بفتح السين وضم العين وواو وطاء مهملات مما يجعل في الانف ويستنشق به لفتح السدد الدماغية ومنع النزلات.
(4) اللدود: بفتح اللام وضم الدال المهملة وواو ودال مهملة وهو ما يجعل في أحد شقي الفم ويتغرغر به لدفع ورم به يعتري الصيان غالبا.
(5) الحجامة: بكسر الحاء المهملة وهي مص الدم بآلة معروفة في الرأس وبين الكتفين وهي في مؤخر الدماغ تورث النسيان وهي دواء للشقيقة في الرأس مع انه مرض مزمن وورد فيها أحاديث.
(6) المشي: بفتح الميم وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة التحتية وهو المسهل.
(7) رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا.
(8) في رواية أبي داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه زيادة (كان شفاء من كل داء) .
(9) رواه البخاري عن أم قيس.(1/698)
وَقَوْلِهِ «1» : «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» .. إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ..
وَقَوْلِهِ «2» وَقَدْ سُئِلَ عَنْ سَبَإٍ «3» أَرَجُلٌ هُوَ أو امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ فَقَالَ: «رَجُلٌ وَلَدَ عَشْرَةً تيامن «4» منهم ستة وتشأم «5» أَرْبَعَةٌ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.. وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ «6» فِي نَسَبِ قُضَاعَةَ «7» . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اضْطُرَّتِ الْعَرَبُ عَلَى شَغْلِهَا بِالنَّسَبِ إِلَى سُؤَالِهِ عَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: «8» «حِمْيَرُ «9» رَأْسُ الْعَرَبِ وَنَابُهَا
__________
(1) كما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والمحاكم عن المقدام بن معد يكرب.
(2) رواه الترمذي وأحمد عن ابن عباس مسندا.
(3) هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: من كبار ملوك اليمن في الجاهلية الاولى. قيل اسمه عبد شمس وقيل عامر. ويظن انه كان في القرن العشرين قبل الميلاد، ملك صنعاء وما جاورها، ووصفه مؤرخوه بالشجاعة وأولع بالعمران، فابتنى مدينة مأرب وفيها السد وأعقب نسلا كثيرا.
(4) أي سكنوا اليمن.
(5) أي سكنوا الشام.
(6) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن عمرو بن مرة الجهني أنه صلّى الله عليه وسلم قال: من كان هنا من معد فليقم فقمت فقال: أقعد فقلت: ممن نحن قال: أنتم من قضاعة ابن مالك بن حمير.
(7) قضاعة: بضم القاف وضاد معجمة وعين مهملة أبو حي من اليمن لقب به لانفصاله عن الناس لأن القضاعة ما ينفصل عن أصل الحائط وقيل هي من قضع بمعنى قهر لقهره بشجاعته من عاداه وقيل القضاعة من أسماء الفهد او كلب الماء.
(8) رواه البزار وقال العسقلاني أنه منكر.
(9) هو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: جد جاهلي قديم، كان ملك اليمن واليه نسبة الحميريين وكان شجاعا مظفرا حكم بعد أبيه سبأ، وعاصمة ملكه. صنعاء، وغزا وافتتح حتى بلغ بعض غزاته الصين، ويذكرون من وقائعه قتاله لقبائل ثمود ويرى بعضهم أن اسمه «العرنجج» وأنه لقب بحمير لكثرة لبسه الثياب الحمر. لم يصل التنقيب عن الآثار حتى الآن الى التاريخ الصحيح لقيام الدولة الحميرية والمشتغلون بهذا العلم واقفون عند رأي [إدورد جلازر] بأن قيامها كان سنة «115» قبل الميلاد.(1/699)
وَمَذْحِجٌ «1» هَامَتُهَا «2» وَغَلْصَمَتُهَا «3» وَالْأَزدُ «4» كَاهِلُهَا «5» وَجُمْجُمَتُهَا «6» وَهَمْدَانُ غَارِبُهَا «7» وَذِرْوَتِهَا» «8» .
وَقَوْلِهِ: «9» «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كهيئة يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» وَقَوْلِهِ «10» فِي الْحَوْضِ «11» : «زَوَايَاهُ سَوَاءٌ» «12» .
وَقَوْلِهِ «13» فِي حَدِيثِ الذِّكْرِ: «وإنّ الحسنة بعشر أمثالها فتلك مئة
__________
(1) هو مذحج (واسمه مالك) بن أدد بن زيد. من كهلان: جد جاهلي يماني قديم. من القحطانية. قال اليعقوبي: (كانت تلبية مذحج في الجاهلية إذا حجوا: «لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى» . وكان صنمهم «يغوث» قاتلهم عليه بنو غطيف فهربوا به الى نجران.)
(2) هامتها: أي رأسها.
(3) غلصمتها: بفتح الغين المعجمة وسكون اللام وفتح الصاد المهملة وميم وهاء وهي لحمة بين الرأس والعنق او رأس الحلقوم وهو اشارة الى تمكنهم في الشرف وعلوهم وأصالتهم وعظمتهم.
(4) الأزد بهمزة مفتوحة وزاي معجمة ساكنة ودال مهملة وهو الأزد بن الغوث وهو بالسين المهملة أفصح كما في القاموس أبو حي من اليمن منه الأنصار وأطلق هذا الاسم على قبيلة.
(5) كاهلها: بكسر الهاء وهو ما يلي العنق من أعلى الظهر.
(6) جمجمتها: بضم الجيمين المعجمتين وميمين الاولى ساكنة والثانية مفتوحة وهي عظام الرأس وتطلق على الرأس نفسها والمراد هنا انهم سادة العرب.
(7) غاربها: بكسر الراء وهو من البعير كالكاهل من الانسان وهو ما بين السنام والعنق.
(8) ذروتها: بكسر الذال المعجمة وضمها وسكون الراء المهملة أي أعلاها وسنامها.
(9) رواه الشيخان عن أبي بكرة في خطبة حجة الوداع.
(10) كما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
(11) أي حوضه صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم القيامة.
(12) أي مربع تربيعا مستويا لا يزيد طوله على عرضه.
(13) رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما(1/700)
وخمسون على اللسان وألف وخمسمئة فِي الْمِيزَانِ» «1» . وَقَوْلِهِ «2» وَهُوَ بِمَوْضِعٍ: «نِعْمَ مَوْضِعُ الْحَمَّامِ «3» هَذَا» .. وَقَوْلِهِ: « «4» مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ «5» » . وَقَوْلِهِ «6» لِعُيَيْنَةَ «7» أَوِ الْأَقْرَعِ: «8» . «أَنَا أَفْرَسُ «9» بِالْخَيْلِ مِنْكَ» وَقَوْلِهِ «10» لِكَاتِبِهِ: «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أذنك فإنه أذكر «11» للمملّ» «12» ..
هَذَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْتُبُ وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ حتى قد
__________
(1) في هذا استدلال على معرفته صلّى الله تعالى عليه وسلم بالحساب.
(2) رواه الطبراني عن أبي رافع بسند قالوا ان فيه ضعفا.
(3) الحمام: بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم بيت يعد للغسل يذكر ويؤنث، ولم يكن في عصره صلّى الله تعالى عليه وسلم حمام ولم يدخله.
(4) رواه الترمذي عن أبي هريرة وصححه.
(5) قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «اذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة» الشاهد في هذا الحديث انه يدل على علمه صلّى الله عليه وسلم بعلم الميقات فان معرفة سمت القبلة باب منه تضمنه هذا الحديث.
(6) هذا الحديث ذكره ابن الاثير في النهاية ولم يخرجه السيوطي لانه لم يقف عليه
(7) هو عيينة بن حصن الفزاري ويكنى ابا مالك أسلم يوم الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم وكان من جفاة الاعراب، وهو الذي قال عنه صلّى الله عليه وسلم: «انه الاحمق المطاع» لانه كان سيد قومه وعيينة علم منقول من تصغير العين.
(8) هو الاقرع بن حابس بن عفان بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي واسمه «فراس» ولقب بالاقرع لقرع في رأسه وهو من المؤلفة قلوبهم وكان شجاعا فارسا شريفا في قومه في الجاهلية والاسلام اسلم وقدم على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في وفد بني تميم وهو الذي نزل فيه (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) .
(9) أفرس: أعرف وأبصر ومصدره الفراسة بفتح الفاء والفراسة بالكسر من التفرس وهو معنى آخر.
(10) رواه الترمذي عن زيد بن ثابت.
(11) أي أكثر تذكرا قال الحلبي: «لأنه يقتضي التؤدة وعدم العجلة» .
(12) للممل: بضم الميم الأولى وكسر الثانية وتشديد اللام اسم فاعل أصله المملل ويملي وأملى وأمل بمعنى واحد وهو إلقاء ما يكتب على الكاتب.(1/701)
وَرَدَتْ آثَارٌ بِمَعْرِفَتِهِ حُرُوفَ الْخَطِّ وَحُسْنِ تَصْوِيرِهَا.
كَقَوْلِهِ «1» : «لَا تَمُدُّوا «2» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه ابن شعبان «3» عن طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ «4» وَقَوْلِهِ «5» فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ «6» أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «أَلْقِ الدَّوَاةَ «7» وَحَرِّفِ الْقَلَمَ «8» وَأَقِمِ الْبَاءَ «9» وَفَرِّقِ السِّينَ «10» وَلَا تُعْوِرِ الْمِيمَ «11» وَحَسِّنِ اللَّهَ «12» ، ومدّ الرّحمن «13» وجوّد الرّحيم «14»
__________
(1) قال السيوطي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لا تمد بسم الله الرّحمن الرّحيم..» لم أجده وللديلمي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه «إذ كتب أحدكم بسم الله الرّحمن الرّحيم فليمد الرّحمن» . وله من حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه «إذا كتبت فبين السين في بسم الله الرّحمن الرّحيم» .
(2) أي لا تجعلوا السين مدة طويلة في نسخة (لا تمد) .
(3) ابن شعبان هو محمد بن القاسم بن شعبان بن اسحق المصري المالكي توفي سنة خمس وخمسين ومائة وضعفه ابن حزم وله ترجمة في الميزان.
(4) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(5) كما في مسند الفردوس للديلمي.
(6) تقدمت ترجمته في ص «359» رقم «2» .
(7) ألق: فعل أمر بفتح الهمزة وكسر اللام والقاف لالتقاء الساكنين يقال لاق الدواة يليقها ليقة وليقا وألاق ولاق يتعدى ولا يتعدى أي أصلح مدادها من قولهم لاق به إذا ألصقه ومنه يليق بك كذا.
(8) حرف القلم: بتشديد الراء المكسورة أمر من التحريف أي اجعل طرف شقه الأيمن أزيد من الطرف الأخر قليلا لأنه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة.
(9) وأقم الباء: أي اجعلها مستقيمة أو طولها قيلا لأنها عوض عن ألف اسم.
(10) أي اجعل سننها منفصلا بعضها من بعض.
(11) أي لا تجعل دائرتها مطموسة كالعين العوراء (لا تعور) هو بضم المثناة الفوقية وفتح العين المهملة وكسر الواو المشددة وراء مهملة.
(12) أي كتابته وصورة لفظه تعظيما لمسماه.
(13) أي أكثر حروفه من الحاء والميم والنون أو آخرها وهو الأولى
(14) أي حسن كتابته والتجويد مطلق التحسين.(1/702)
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يرزق علم هذا ويمنع الكتابة والقراءة.
وَأَمَّا عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَحِفْظُهُ مَعَانِيَ أَشْعَارِهَا فَأَمْرٌ مَشْهُورٌ.. قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ أَوَّلَ الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ حِفْظُهُ لِكَثِيرٍ مِنْ لُغَاتِ الْأُمَمِ.
كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «1» سَنَهْ سَنَهْ «2» وَهِيَ «حَسَنَةٌ» بِالْحَبَشِيَّةِ «3» وَقَوْلِهِ «4» وَيَكْثُرُ «الْهَرْجُ» «5» وَهُوَ «الْقَتْلُ» بِهَا «6» .
وَقَوْلِهِ «7» فِي حَدِيثِ أبي هريرة «8» «أشكنب دردم «9» » أي
__________
(1) رواه البخاري عن أم خالد.
(2) سنه: بفتح السين وتخفيف النون وتشدد فهاء ساكنة وفي رواية (سناه سناه) وفي أخرى (سناسنا) بفتح مهمانها وكسرها رواية القابسي وشده نونها وخففها أبو ذر وغيره قال ابن قرقول: «كلها بفتح السين وتشديد النون إلا عند أبي ذر فإنه خفف النون وإلا القابسي فإنه كسر السين.»
(3) أي باللغة المنسوبة إلى الحبشة.
(4) رواه الشيخان وغيرهما من طرق في حديث الفتن.
(5) الهرج: بفتح الهاء وسكون الراء المهملة وجيم كثرة القتل.
(6) أي بلغة الحبشة.
(7) رواه ابن ماجه وفي سنده داود بن عليه والكلام فيه معروف قال الذهبي في في ميزانه روى جماعة عن داود بن علية عن مجاهد عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يا أبا هريرة «اشكنب درد» قلت لا. الحديث أخرجه أحمد في مسند والأصح ما رواه المحاربي عن ليث عن مجاهد مرسلا.
(8) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «5» .
(9) اشكنب دردم: بهمزة مفتوحة وشين معجمة ساكنة وكاف عربية مفتوحة ونون ساكنة وباء موحدة ساكنة وفسره المصنف رحمه الله تعالى بما يأتي وفي الفارسية بهمزة مكسورة وقد تفتح ويزاد فيها هاء فيقال شكنبة بكسر الشين فعربت وغير لفظها-(1/703)
«وَجَعُ الْبَطْنِ» بِالْفَارِسِيَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.. مُمَا لَا يَعْلَمُ بَعْضَ هَذَا وَلَا يَقُومُ بِهِ وَلَا بِبَعْضِهِ إِلَّا مَنْ مَارَسَ الدَّرْسَ وَالْعُكُوفَ عَلَى الْكُتُبِ وَمُثَافَنَةِ «1» أَهْلِهَا عُمُرَهُ.. وَهُوَ رَجُلٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
«أُمِّيٌّ» لَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يَقْرَأْ وَلَا عُرِفَ بِصُحْبَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ..
وَلَا نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عِلْمٌ وَلَا قِرَاءَةٌ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ.. وَلَا عُرِفَ هُوَ قَبْلُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
قَالَ اللَّهُ تعالى: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «2» » الْآيَةَ إِنَّمَا كَانَتْ غَايَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ النَّسَبُ وَأَخْبَارُ أَوَائِلِهَا وَالشِّعْرُ وَالْبَيَانُ.. وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ لهم بعد التفرع لعلم ذلك.. واشتغال بِطَلَبِهِ وَمُبَاحَثَةِ أَهْلِهِ عَنْهُ.. وَهَذَا الْفَنُّ نُقْطَةٌ مِنْ بَحْرِ عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا سبيل إلى جحد الملحد بشيء مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.. وَلَا وَجَدَ الْكَفَرَةُ حِيلَةً فِي دفع ما نصصناه إلا قولهم
__________
ومعناها فإن معناها الكرش عند العجم ودرد بدالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء مهملة ساكنة والميم عندهم ضمير المتكلم والصحيح إهمال الدالين وإسقاط الميم كما رواه ابن ماجة وضبطت به الرواية عنه فإنه قزويني أعلم بلغته وثقة في الرواية فما قيل ان دال درد الأولى معجمة وهم من راويه كرواية الميم.
(1) مثافنة: بالمثلثة والفاء والنون أي مجالسة أهل العلوم وفي نسخة بالقاف الموحدة بمعنى المباحثة.
(2) «إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» سورة العنكبوت آية رقم 48- 49.(1/704)
«أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «1» » «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «2» » فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «3» » ثُمَّ مَا قَالُوهُ مُكَابَرَةُ الْعِيَانِ.. فَإِنَّ الَّذِي نَسَبُوا تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ إِمَّا سَلْمَانُ «4» أَوِ الْعَبْدُ «5» الرُّومِيُّ..
وَسَلْمَانُ إِنَّمَا عَرَفَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَنُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ..
وَظُهُورِ مَا لَا يَنْعَدُّ مِنَ الْآيَاتِ وَأَمَّا الرُّومِيُّ فَكَانَ أَسْلَمَ.. وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَقِيلَ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ عِنْدَهُ عِنْدَ المروة
__________
(1) سورة الفرقان آية رقم (5) .
(2) سورة النحل آية رقم (103) .
(3) سورة النحل آية رقم (103) .
(4) هو سلمان الفارسي: صحابي: جليل كان يسمي نفسه سلمان الاسلام. أصله من مجوس أصبهان. عاش عمرا طويلا، واختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده. وقالوا: نشأ في قرية جيان، ورحل الى الشام، فالموصل، فنصيبين، فعمورية؛ وقرأ كتب الفرس والروم واليهود وقصد بلاد العرب، فلقيه ركب من بني كلب فاستخدموه ثم استعبدوه وباعوه؛ فاشتراه رجل من قريظة فجاء به الى المدينة، وعلم سلمان بخبر الإسلام فقصد النبي صلّى الله عليه وسلم بقباء وسمع كلامه ولازمه أياما وأبى أن «يتحرر» بالاسلام. فأعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه. فأظهر إسلامه، وكان قوي الجسم، صحيح الرأي، عالما بالشرائع وغيرها. وهو الذي دل المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب، حتى اختلف المهاجرون والأنصار، كلاهما يقول: سلمان منا، فقال رسول الله: «سلمان منا أهل البيت» ! وجعل أميرا على المدائن، فأقام فيها الى أن توفي، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به وكان ينسج الخوص ويأكل خبز الشعير من كسب يده.
(5) هو يعيش غلام حويطب بن عبد العزى الرومي وكان ممن قرأ الكتب ثم اسلم وقد اختلف في اسمه فقيل هو يعيش وقيل: بلعام، وقيل: جبر، وقيل يسار، وجمع البعض بين اختلاف الاسماء بأنها أسماء لأشخاص معدودين لا لشخص واحد.(1/705)
وَكِلَاهُمَا أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ.. وَهُمُ الْفُصَحَاءُ اللُّدُّ «1» ، وَالْخُطَبَاءُ اللُّسْنُ «2» قَدْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا أَتَى بِهِ.. وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بَلْ عَنْ فَهْمِ وَصْفِهِ وَصُورَةِ تَأْلِيفِهِ وَنَظْمِهِ فَكَيْفَ بِأَعْجَمِيٍّ أَلْكَنَ «3» نَعَمْ وَقَدْ كَانَ سَلْمَانُ «4» أَوْ بَلْعَامُ «5» الرُّومِيُّ أَوْ يَعِيشُ «6» أَوْ جَبْرٌ «7» أَوْ يَسَارٌ «8» عَلَى اخْتِلَافِهِمْ في اسمه بين أظهرهم يكلمونه مَدَى أَعْمَارِهِمْ فَهَلْ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ مَا كَانَ يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَلْ عُرِفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ .. وَمَا منع العدو حينئذ على كثرة عدده ودؤوب «9» طَلَبِهِ وَقُوَّةِ حَسَدِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى هَذَا فيأخذ عنه أَيْضًا مَا يُعَارِضُ بِهِ.. وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى شِيعَتِهِ كَفِعْلِ النَّضْرِ بْنِ «10» الْحَارِثِ بِمَا كَانَ يُمَخْرِقُ «11» بِهِ مِنْ أَخْبَارِ
__________
(1) اللد: جمع ألد وهو شديد الخصومة.
(2) اللسن: بضم اللام فسكون السين جمع ألسن وقيل جمع لسن بفتح فكسر وهو المنطلق اللسان في ميدان النطق والبيان.
(3) ألكن: أفعل للمبالغة من اللكنه بضم اللام وهي عدم افصاح اللسان وبيان النطق.
(4) تقدمت ترجمته في ص «705» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «705» رقم «5» وانه مختلف في اسمه.
(6) تقدمت ترجمته في ص «705» رقم «5» وانه مختلف في اسمه.
(7) تقدمت ترجمته في ص «705» رقم «5» وانه مختلف في اسمه.
(8) تقدمت ترجمته في ص «705» رقم «5» وانه مختلف في اسمه.
(9) دؤوب بضم دال معجمة وهمزه فسكون واو فموحدة أي جده وتعبه في كده.
(10) تقدمت ترجمته في ص «27» رقم «8» .
(11) يمخرق: من المخرقة بالخاء المعجمة وهي لفظة مولدة ومعناها افتعال الكذب وقد أخذت هذه الكلمة من المخراق وهي خرقة يلعب بها من يرقص وهذه لفظة عربية ميمها زائدة تصرف فيها المولدون وتوهموا أصالة ميمها كما في قولهم تمسكن ويمخرق بضم الياء المثناة التحتية وفتح الميم وخاء معجمة ساكنة وراء مكسورة وقاف.(1/706)
كُتُبِهِ.. وَلَا غَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْمِهِ وَلَا كَثُرَتِ اخْتِلَافَاتُهُ إِلَى بِلَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُقَالُ إِنَّهُ اسْتَمَدَّ مِنْهُمْ.. بَلْ لَمْ يَزَلْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَرْعَى فِي صغره وشبابه على عادة أنبيائهم ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا فِي سَفْرَةٍ أَوْ سَفْرَتَيْنِ «1» لَمْ يَطُلْ فِيهِمَا مُكْثُهُ مُدَّةً يَحْتَمِلُ فِيهَا تَعْلِيمَ الْقَلِيلِ.. فَكَيْفَ الْكَثِيرُ!!. بَلْ كَانَ فِي سَفَرِهِ فِي صُحْبَةِ قَوْمِهِ ورفاقة عشيرته لَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ.. وَلَا خَالَفَ حَالُهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ مِنْ تَعْلِيمٍ وَاخْتِلَافٍ إِلَى حَبْرٍ «2» أَوْ قَسٍّ «3» أَوْ مُنَجِّمٍ أَوْ كَاهِنٍ «4» ..
بَلْ لَوْ كَانَ هَذَا بَعْدُ «5» كُلُّهُ لَكَانَ مَجِيءُ ما أتى به في مُعْجِزِ الْقُرْآنِ قَاطِعًا لِكُلِّ عُذْرٍ وَمُدْحِضًا لِكُلِّ حجة ومجلّيا «6» لكل أمر..
__________
(1) مرة مع أبي طالب عمه الى بلاد الشام حين رده بحير الراهب من منتصف الطريق ومرة في تجارة لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها مع غلامها ميسرة.
(2) حبر بكسر الحاء المهملة وفتحها وهو العالم من علماء اليهود.
(3) قس: بفتح القاف كما في القاموس وغيره واشتهر ضمه وهو خطأ ويكسر فسين مهملة مشددة أي عالم نصراني وكذا القسيس.
(4) كاهن: وهو من يخبر عن المغيبات بواسطة جن ونحوه.
(5) بعد: بضم الدال المهملة وهو ظرف مقطوع عن الاضافة أي مكثه وتصور تعلمه
(6) مجليا: بضم الميم وسكون الجيم وتخفيف اللام وتحتية مخفضة وفي نسخة بضم الميم وفتح الجيم وكسر اللام المشدة وتحتية مخففة مفتوحة والمعنى كاشفا موضحا.(1/707)
الْفَصْلُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ أَنْبَاؤُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ
وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَاتِهِ، وَبَاهِرِ آيَاتِهِ أَنْبَاؤُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَإِمْدَادِ اللَّهِ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَطَاعَةِ الْجِنِّ لَهُ، وَرُؤْيَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَهُمْ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَإِنْ تَظاهَرا «1» عَلَيْهِ «2» فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ «3» وَجِبْرِيلُ «4» » الْآيَةَ.
وَقَالَ «5» «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» .
__________
(1) أي وان تتعاونا عليه والخطاب لعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما.
(2) أي على النبي صلّى الله عليه وسلم بما يسوؤه لديه من الإفراط في الغيرة لكثرة ميلهما إليه.
(3) أي ناصره ومعينه.
(4) أي «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» سورة التحريم آية رقم (4) .
(5) سورة الأنفال آية رقم (12) .(1/708)
وَقَالَ: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ «1» رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ..» «2» الْآيَتَيْنِ.
وَقَالَ: «وَإِذْ صَرَفْنا «3» إِلَيْكَ نَفَراً «4» مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» «5» الآية.
عَنْ «6» عَبْدِ اللَّهِ «7» قَالَ: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «8» قَالَ «9» رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ له ستمئة جَنَاحٍ.
وَالْخَبَرُ «10» فِي مُحَادَثَتِهِ مَعَ جِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ «11» وغيرهما من
__________
(1) أي بمناجاتكم يا غياث المستغيثين أغثنا أعنا على أعدائنا وعن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الكفار ألفا واصحابه ثلاثمائة ونيف أي في بدر فرفع يديه مستقبلا بقوله: «اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه حتى سقط رداءه فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: «يا نبي الله حسبك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك» .
(2) «بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» الآيتين رقم 9، 10 من سورة الأنفال.
(3) أي أملنا ووجهنا اليك.
(4) نفرا: النفر ما دون العشرة وهؤلاء من نصيبين وهذا كان ببطن نخلة في منصرفه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الطائف.
(5) «فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين» الآية رقم (29) من سورة الأحقاف.
(6) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي موقوفا والترمذي وقال حسن وصحيح والمذكور هنا رواية السنن.
(7) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» . وص «256» رقم «2» .
(8) سورة النجم آية رقم (18) .
(9) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسيره وهو موقوف له حكم الرفع.
(10) أي الحديث الصحيح المسند.
(11) إسرافيل هو واحد من خواص الملائكة، موكل بالنفخ في الصور.(1/709)
الْمَلَائِكَةِ، وَمَا شَاهَدَهُ مِنْ كَثْرَتِهِمْ وَعِظَمِ صُوَرِ بَعْضِهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مَشْهُورٌ.. وَقَدْ رَآهُمْ بِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ.
فَرَأَى «1» أَصْحَابُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَرَأَى «2» ابْنُ عَبَّاسٍ «3» وَأُسَامَةُ «4» بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا عِنْدَهُ جِبْرِيلَ «5» فِي صُورَةِ دَحْيَةَ «6» . وَرَأَى «7» سَعْدٌ «8» عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ «9» فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بيض. ومثله عن غَيْرُ وَاحِدٍ وَسَمِعَ «10» بَعْضُهُمْ زَجْرَ «11» الْمَلَائِكَةِ خَيْلَهَا
__________
(1) كما ورد في حديث رواه الشيخان وغيرهما من طرق متعددة.
(2) رواية ابن عباس لجبريل رواها الترمذي ورؤية أسامة له رواها الشيخان عنه وأما غيرهما كعائشة فروى روايتها البيهقي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «412» رقم «3» .
(5) جبريل عليه السلام رئيس الملائكة وهو الذي كان ينزل على الانبياء بالوحي وقد وصفه الله تعالى بِقَوْلِهِ «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ- مطاع ثم أمين» وقد تقدمت ترجمته آنفا
(6) دحية الكلبي هو ابن خليفة الكلبي، الصحابي الجليل المشهور توفي في خلافة معاوية رضي الله عنهما وكان من أجمل الناس وأجلهم ولذا كان جبريل عليه الصلاة والسلام يأتي على صورته.
(7) كما في الصحيحين.
(8) تقدمت ترجمته في ص «215» رقم «1» .
(9) من خواص الملائكة، وهو الملك الموكل بالامطار.
(10) وهذا رواه أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس أن رجلا من غفار قال: قدمت أنا وابن عم لي ونحن مشركان وصعدنا على جبل مشرف على بدر ننظر الوقعة وننظر على من تكون الدبرة فبينما نحن كذلك إذ دنت سحابة فيها حمحمة خيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم فمات ابن عمي من خوفه وكدت أهلك» وحيزوم منادي اسم فرس الملك وروي حيزون بالنون والصحيح الاول.
(11) زجر: بفتح الزاي المعجمة وسكون الجيم أي حثهم وحملهم على السرعة.(1/710)
يوم بدر وبعضهم «1» رأى تطاير الرؤوس مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا يَرَوْنَ الضَّارِبَ وَرَأَى «2» أَبُو سُفْيَانَ «3» بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَئِذٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ «4» بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ وَقَدْ كَانَتِ «5» الْمَلَائِكَةُ تُصَافِحُ عِمْرَانَ «6» بن حصين وَأَرَى «7» النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ «8» جبريل في الكعبة فخر مغشيا عليه..
__________
(1) كما رواه البيهقي عن سهل بن حنيف وأبي واقد الليثي وقال أبو داود المازني على ما في رواية ابن اسحق «اني لا تبع رجلا من المشركين يوم بدر لاضربه اذ وقع رأسه قبل ان يصل اليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري» .
(2) قيل ان الرائي لذلك سهيل بن عمرو كما رواه البيهقي وهذا مخالف لما رواه المصنف رحمه الله تعالى هنا وهو هكذا في تخريج السيوطي لاحاديث هذا الكتاب وفي الشرح الجديد أنه رواه ابن اسحق في سيرته ونقله في حديث طويل في مهلك أبي لهب والعهدة فيه عليه.
(3) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة- أرضعتهما حليمة السعدية واسمه المغيرة وقيل: اسمه كنيته والمغيرة أخوه، وكان ممن يشبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ويقال: إن عليا علمه لما جاء ليسلم أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم من قبل وجهه فيقول (تالله لقد أثرك الله علينا) ففعل فأجابه (لا تثريب عليكم) .
(4) بلق: بضم الباء الموحدة وسكون اللام جمع أبلق أي فيها بياض ولون آخر.
(5) كما رواه ابن سعد عن قتادة وفي مسلم أنها كانت تسلم عليه ولا منافاة بينهما فان المتلاقيين يستحب لهما السلام والمصافحة تحية واكراما وان السلام أمان والمصافحة تسليم يده له فهو أمان لفظا ومعنى وحسا.
(6) تقدمت ترجمته في ص «238» رقم «5» .
(7) رواه البيهقي مرسلا عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما.
(8) تقدمت ترجمته في ص «691» رقم «5» .(1/711)
وَرَأَى «1» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «2» الْجِنَّ لَيْلَةَ «3» الْجِنِّ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ وَشَبَّهَهُمْ بِرِجَالِ الزُّطِّ «4» .
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ «5» أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ «6» لَمَّا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَخَذَ الرَّايَةَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ يَا مُصْعَبُ..
فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: لَسْتُ بِمُصْعَبٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ مَلَكٌ «7» .
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ «8» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «9» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إذ أقبل شيخ بيده
__________
(1) كما رواه البيهقي عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» وص «256» رقم «2» .
(3) أي ليلة رأى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجن وقد أمر بانذارهم ودعوتهم للاسلام فدعاهم.
(4) الزط: بضم الزاي المعجمة وتشديد الطاء المهملة قوم من السودان أو الهنود طوال. وكلمة الزط معرب جت بفتح الجيم.
(5) تقدمت ترجمته في ص «155» رقم «2» .
(6) هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف القرشي من بني عبد الدار صحابي شجاع، من السابقين الى الاسلام. أسلم في مكة وكتم اسلامه، فعلم به أهله، فأوثقوه وحبسوه، فهرب مع من هاجر الى المدينة، فكان أول من جمع الجمعة فيها، وعرف فيها بالمقرىء، وأسلم على يده أسيد بني حضير وسعد بن معاذ وشهد بدرا، وحمل اللواء يوم أحد فاستشهد، وكان في الجاهلية فتى مكة، شبابا وجمالا ونعمة، ولما ظهر الاسلام زهد بالنعيم. وكان يلقب «مصعب الخير» ويقال: فيه وفي أصحابه نزلت الآية «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» .
(7) وروى ابن شيبة في مصنفه انه صلّى الله عليه وسلم قال يوم أحد أقدم مصعب فقال له عبد الرّحمن بن عوف يا رسول الله ألم يقتل مصعب قال بلى لكن قام مكانه وتسمى باسمه.
(8) كالبيهقي وابن ماكولا.
(9) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .(1/712)
عَصًا.. فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ ... وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَغَمَةُ الْجِنِّ «1» » .
مَنْ أَنْتَ؟ .. قَالَ: «أَنَا هامة بن الهيم «2» بن لا قس «3» بْنِ إِبْلِيسَ «4» » .. فَذَكَرَ أَنَّهُ لَقِيَ نُوحًا «5» وَمَنْ بَعْدَهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «6» وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ.
وذكر «7» الواقدي «8» قتل خالد «9» عند هدمه للعزّى «10» لِلسَّوْدَاءِ «11» الَّتِي خَرَجَتْ لَهُ نَاشِرَةً شَعْرَهَا عُرْيَانَةً فَجَزَلَهَا «12» بِسَيْفِهِ وَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
__________
(1) نغمة الجن: بفتح النون أي هذه حركته وصوته وفي نسخة (نغمة جني)
(2) الهيم: بكسر فسكون تحتية وفي نسخة صحيحة بفتح هاء وكسر تحتية مشددة او مخففة.
(3) لاقس: بكسر القاف او لا قيس بزيادة تحتية.
(4) هو إبليس اللعين، أبو الجن، كما ان آدم عليه السلام أبو البشر. ويسمى عزرائيل، وقيل: الحارث ويكنى: بأبي مرة.
(5) نوح نبي ورسول من اولي العزم، ارسله الله الى قومه ودعاهم (950) سنة كما قال الله تعالى «فلبث فيهم الف سنة الا خمسين عاما» ثم دعا عليهم لما يئس منهم فقال «رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا» .
(6) اختلف في هذا الحديث فقال ابن الجوزي إنه حديث موضوع لا أصل له وذكر له طرقا ذكر من في رواتها من الكذابين ومن لم تقبل روايته وخالفه فيه غيره وقال ان تعدد طرقه تدل على صحته وابن الجوزي له مجازفة في موضوعاته أكثرها مردودة وقد روى هذا الحديث من يعتمد عليه كالبيهقي وابن عساكر وغيرهما.
(7) وكذا روى النسائي والبيهقي عن أبي الطفيل.
(8) تقدمت ترجمته في ص «155» رقم «3» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «637» رقم «9» .
(10) العزى: شجرة او ثلاث أشجار كانت في مكان واحد بنوا عليها بناء وكانوا يعبدونها وكانت لغطفان.
(11) وهو شيطان في صورة امرأة سوداء واضعة يدها على رأسها صائحة يا ويلها وناشرة شعرها.
(12) فجز لها: بجيم وزاي معجمة مفتوحتين والزاي مشددة للمبالغة ومخففة أي جعلها جزلين أي قطعتين وروي جدلها بدال مهملة مشددة وروي عن خطه بخاء وذال معجمتين بمعنى قطعها ومعانيها متقاربة وأشهرها أولها.(1/713)
فَقَالَ لَهُ: تِلْكَ الْعُزَّى.
وَقَالَ «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ شَيْطَانًا «2» تَفَلَّتَ «3» الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ.. فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ «4» مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ.. فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ «5» «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا ينبغي لأحد من بعدي «6» » فردّه الله خاسئا «7» ) وهذا باب واسع.
__________
(1) رواه الشيخان عن أبي هريرة.
(2) شيطانا: من شطن اذا بعد لبعده عن الخير أو من شاط اذا هلك لهلاكه في الشر وهو المتمرد من الجن.
(3) تفلت: بتشديد اللام أي وثب بسرعة بغتة وأصله التخلص بغتة يقال انفلت الدابة اذا تخلصت من مربطها.
(4) سارية: عمود او اسطوانة من عمد المسجد.
(5) سليمان عليه الصلاة والسلام رسول ونبي وهو ابن الرسول داود عليهما الصلاة والسلام كان ملكا ونبيا، وقصته في القرآن معروفة.
(6) سورة ص آية رقم «35» .
(7) امتنع نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم من أخذه إما تواضعا او تأدبا او تسليما لدعوة سليمان عليه السلام قال الفاري «التسليم أولى وأسلم» .(1/714)
الفصل الثامن والعشرون أخباره وصفاته وعلامات رسالته عند أحبار ورهبان وعلماء ذلك الزّمان
ومن دلائل نبوته وعلامات رسالاته مَا تَرَادَفَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنِ الرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ وعلماء أهل الكتب عن صِفَتِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَاسْمِهِ وَعَلَامَاتِهِ ... وَذِكْرِ الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ «1» مِنْ شِعْرِ تُبَّعٍ «2» والأوس «3»
__________
(1) أي العرب المتألهين قبل بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلم العالمين بما في الكتب السماوية القديمة.
(2) تبع بضم التاء وتشديد الباء الموحدة اسم لملك اليمن وجمعه تبابعة سمي به لكثرة اتباعه المنقادين له وأصل معناه الظل ولا يسمى تبعا الا اذا ملك حمير وحضرموت واشتهر منهم اثنان تبع الأكبر وهو الاول وتبع الثاني هو الذي أراد تخريب المدينة واستئصال اليهود لما شكر له الانصار منهم لأنهم من اليمن نزلوا عندهم فقال له رجل معمر، الملك أجل من أن يطريه فرق او يستخفه غضب، وأمره أعظم من ان يضيق حلمه او يحزم صفحه وهذه البلدة مهاجر بلدة نبي يبعث بدين ابراهيم عليه الصلاة والسلام
(3) هو ابن ثعلبة العنقا بن عمرو بن مزيقيا بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الازد بن الغوث والاوس في اللغة الذئب او العطية سمي به وله تنسب الانصار وكان أوس من عدة ناس في الفترة هداهم الله تعالى للتوحيد ولم يعبدوا الاصنام وكانوا يعاشرون أهل الكتاب فيخبرونهم بما في كتبهم من ذكر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فيذكرونه في خطبهم وأشعارهم ولاوس شعر فيه وهو سيد جواد طائي كان صديقا لحاتم الطائي.(1/715)
بْنِ حَارِثَةَ وَكَعْبِ بْنِ «1» لُؤَيٍّ وَسُفْيَانَ «2» بْنِ مجاشع. وقس «3» بن ساعدة..
__________
(1) هو اول من جمع يوم الجمعة وسماها جمعة وكانت تسمى عروبة في الجاهلية فكان يخطب فيه الناس ويبشر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وفيما نقل من كلامه نظما ونثرا انه قال في خطبة له اما بعد فاسمعوا وتعلموا وافهموا واعلموا ليل ساج ونهار ضاج والارض مهاد والسماء بناء والجبال اوتاد والنجوم اعلام، الى قوله الدار امامكم والظن غير ما تقولون حرمكم زينوه وعظموه. فسيأتي له بناء عظيم، وسيخرج منه نبي كريم. وينشد:
نهار وليل كل يوم بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها
منونان بالاحداث حتى تناوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها
على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر اخبارا صدوقا خبيرها
(2) التميمي الدارمي المجاشعي جد الفرزدق دقه والاقرع بن حابس وكان احتمل عن قومه ديات فخرج لحي من تميم فاذا هم مجتمعون عند كاهنة فاتاهم وجلس عندهم فسمع الكاهنة تقول: العزيز من والاه. والذليل من خالاه. والموفور من والاه. والموثور من عالاه. فقال سفيان من تذكرين لله ابوك فقالت: صاحب هدى وعلم، وبطش وحلم، وحرب وسلم. ورأس رؤوس ورابض شموس، وماجن بؤوس وماهد زعوس وناعس ومنعوس فقال سفيان لله أبوك من هو قالت: نبي مؤيد قد أتي حين يوجد. ودنا أوان يولد. يبعث الى الاحمر والاسود، بكتاب لا يفند. اسمه محمد. قال سفيان لله أبوك عربي هو أم عجمي فقالت: أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الافنان إنه لمن معد بن عدنان. فأمسك عن سؤالها ثم ان سفيان ولد له ولد فسماه محمدا لرجاء أن يكون هو النبي المذكور.
(3) الإيادي نسبة الى إياد حي من معد، وكان من الحكماء الزهاد كعمه وخاله منقطعا للعبادة في برية وآمن بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه ورآه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم مرتين بسوق عكاظ ولذا عده ابن شاهين وغيره في الصحابة رضي الله عنهم، وعمر حتى قيل انه عاش ست مائة او سبع مائة سنة وأدرك الحواريين فكان على دين عيسى عليه الصلاة والسلام قيل وكانت السباع تدور عنده ولا تؤذيه وربما ضربها بعصاه وهو خطيب مطلق يضرب به المثل وروي له أشعار كثيرة فيها ذكره صلّى الله تعالى عليه وسلم.(1/716)
وَمَا ذُكِرَ عَنْ سَيْفِ بْنِ «1» ذِي يَزَنَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمَا عَرَّفَ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ زَيْدُ بن «2» عمرو بن نفيل وورقة «3» ابن نوفل وعثكلان «4» الحميري وعلماء يهود «5» وشامول «6»
__________
(1) من ملوك حمير وقصته مشهورة في التواريخ والسير وكان ظهر على اليمن وظفر بالحبشة بعد مولد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بسنتين فاتته وفود العرب تهنئه وتمدحه فاتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب وأمية بن عبد شمس وخويلد بن أسد وغيرهم من وجوه قريش واستأذنوا عليه فاذن لهم وهو معطر بالمسك والعنبر وحوله أبناء الملوك فقال لعبد المطلب إن كنت ممن يتكلم بين الملوك فتكلم، فتكلم عبد المطلب كلاما بليغا ثم قال له الملك يا عبد المطلب إني مفض اليك بسر لو يكون غيرك لم أبح به ولكن وجدتك معدنه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فان الله بالغ أمره. إني أجد في الكتاب المكنون، والسر المخزون، الذي اخترناه لانفسنا دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولك خاصة اذا ولد بتهامة. غلام به علامة بين كتفيه شامة. كانت له الامامة ولكم به الزعامة الى يوم القيامة.
(2) ابن عبد العزى بن رباح العدوي الذي قال فيه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم انه يبعث أمة وحده لانه كان يطلب دين ابراهيم ويكره الشرك وأهله ويوحد الله واجتمع بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قبل نبوته وتوفي قبل مبعثه وقال شاعت اليهودية والنصرانية فكرهتهما وكنت بالشام فأتيت راهبا فقصصت عليه فقال أراك تريد دين ابراهيم يا أخا أهل مكة انك لتطلب دينا لا يوجد اليوم وهو دين ابيك ابراهيم فالحق ببلدك فان الله يبعث لك من يأتي بدين ابراهيم الحنيفية وهو اكرم الخلق على الله تعالى.
(3) تقدمت ترجمته في ص «232» رقم «6» .
(4) بفتح العين المهملة وسكون المثلثة وكاف ولام والف ونون والحميري نسبة لحمير قبيلة باليمن وقال الشراح لم نقف على قصة عثكلان وان كان قد ذكر في الخصائص ان ابن عساكر ذكر قصته اجتماع عبد الرّحمن بن عوف بعثكلان في بلاد اليمن قبل أن يؤمن عبد الرّحمن بالله ورسوله فذكر له اقتران ظهور نبي في مكة.
(5) وفي نسخة وعلماء يهود وكلاهما صحيح كما بينه سيبويه في باب العلم فانه يكون علما لهذه القبيلة فيمنع من الصرف ولا تدخله الالف واللام.
(6) من علماء اليهود وممن بشر ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلم.(1/717)
عَالِمُهُمْ صَاحِبُ تُبَّعٍ مِنْ صِفَتِهِ وَخَبَرِهِ وَمَا أُلْفِيَ «1» مِنْ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا قد جمعه العلماء وبيّنوه ونقله عنهما ثقات ممن «2» أَسْلَمَ مِنْهُمْ مِثْلُ: ابْنِ سَلَامٍ «3» وَبَنِي سَعْيَةَ «4» وابن «5» يا مين ومخيريق «6»
__________
(1) ألفي: بهمزة مضمومة ولام ساكنة وفاء مكسورة وياء مثناة تحتية مبني للمجهول بمعنى وجد وأما ما وجد في نسخة بالقاف عوضا عن الفاء فهو تصحيف بمعنى ما وجد.
(2) وفي نسخة ثقات من أسلم بالاضافه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «3» .
(4) بني جمع ابن وسعية بسين مفتوحة وعين مهملتين ساكنة ومثناة تحتية وقيل صوابه النون بدل المثناة التحتية بل قيل النون أكثر وأشهر وهم ثعلبة وأسيد بالتصغير والتكبير وفتح الهمزة وزيد وسبب اسلامهم انه قدم عليهم رجل من أهل الشام يقال له ابن الهيبان اقام عندهم وكان عالما يتبركون به ويستسقون فيسقون فلما حضرته الوفاة قال يا معشر يهود انما اقدمني هذه البلدة خروج بني قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجرة وقد كنت أرجو ان ادركه فاتبعه فلما بعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهاجر وحاصر بني قريظة قال لهم بنو سعية وهم احداث والله انه هو الذي عهد اليكم فيه ابن الهيبان فقالوا ليس به قالوا بل هو بصفتة فنزلوا وأسلموا واحرزوا أهلهم وأموالهم ودماءهم.
(5) هو ابن عمير بن عمرو بن كعب بن جحاش من بني النضير وقيل انه بنيامين ويقال بنيامين باللام وهو أحد الحبرين اللذين قدما من اليمن مع تبع واسم الآخر سخيت كما مر وكأنه تصغير سخت كما قاله التلمساني.
(6) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والياء الساكنة وكسر الراء المهملة والياء الساكنة وقاف بصيغة المصغر كان عالما حبرا من أحبار اليهود كثير المال والخيل وكان يعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصفته إلا انه غلبه الف دينه فلما كان أحد يوم السبت قال يا معشر يهود انكم لتعلمون ان نصر محمد لحق عليكم فقالوا اليوم يوم السبت فقال إنكم لا سبت لكم ثم أخذ سلاحه وخرج حتى أتى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه باحد وعهد الى قومه ان قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع بها ما رآه ثم قاتل حتى قتل فجعل ماله صدقة بالمدينة وكان صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول مخيريق خير يهود.(1/718)
وَكَعْبٍ «1» وَأَشْبَاهِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ يَهُودَ وبحيراء «2» ونصطور «3» الْحَبَشَةِ وَصَاحِبِ «4» بُصَرَى وَضَغَاطِرَ «5» وَأُسْقُفِ «6» الشَّامِ وَالْجَارُودِ «7»
__________
(1) ابن مانع وهو كعب الاحبار التابعي المشهور ادرك زمنه صلّى الله عليه وسلم وأسلم في خلافة ابي بكر رضي الله عنه وقيل في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وتوفي في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وثلاثين ودفن بحمص وروى عنه آثار كثيرة في صفاته صلّى الله تعالى عليه وسلم في التوراة.
(2) عطفه على علماء اليهود لانه ليس منهم فانه كان نصرانيا وبحيرا بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة ومثناة تحتية وراء مهملة والف مقصورة على المشهور إلا ان البرهان قال ان راءه ممدودة وقصته صحيحة مشهورة في السير وهو راهب كان منقطعا للعبادة بصومعة له عند محل يقال له بصرى في طريق الشام.
(3) احترز به عن نسطور الشام وغيره ونسطور معرب ويقرأ بالسين والصاد ونسطور الشام قصته مذكورة في السير وهي قريبة من قصة بحيرا.
(4) بضم الباء كحبلى بلدة بالشام وهي بين المدينة والشام وصاحبها ملكها الذي أرسل اليه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم دحية بكتابه وهو الحارث بن ابي شمر الغساني كما قاله ابن حجر وقال إنه مات عام الفتح.
(5) بضاد وغين معجمتين مفتوحتين بعدهما الف وطاء وراء مهملتان ويقال ضغاطن بنون وبغاطر بموحدة تحتية مفتوحة وفاء وهو أسقف من كبار الروم أسلم على يد دحية رضي الله تعالى عنه لما أرسله رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الى هرقل وغير لباسه وأظهر اسلامه فقتلوه كما ذكره الذهبي وكان ذلك في سنة ست من الهجرة.
(6) وفي نسخة أساقفة الشام ويعني بهم صاحب إيليا وهرقل وابن الناطور وغيرهم واسقف بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم القاف وتشديد الفاء.
(7) هو ابن عمرو بن العلاء او ابن العلاء ويكنى أبا غياث او ابا عتاب واسمه بشر وكان سيد عبد القيس على دين النصرانية وقد وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنة تسع فعرض عليه الاسلام ورغبه فيه فاسلم هو وأصحابه وحسن اسلامه وكان متصلبا في دينه وادرك الردة ولما ارتد قومه دعاهم الى الحق وقال اشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله وكفر من لم يشهد وسكن بالبصرة وقيل بفارس وقيل بنهاوند سنة احدى وعشرين وسمي الجارود لانه غار على بكر بن وائل فجردهم وقيل لانه فر بابله وبها داء الى اخو له بني شيبان ففشا الداء في ابلهم حتى اهلكها نهو فاعول من الجرد بالجيم وهو الاستئصال.(1/719)
وسلمان «1» وتميم «2» وَالنَّجَاشِيِّ «3» وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ «4» وَأَسَاقِفِ «5» نَجْرَانَ «6» وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى.
وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ هرقل «7» وصاحب «8» رومة «9» عالما
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «705» رقم «4» .
(2) الداري ينسب للدار وهم بطن باليمن من لخم هم ولد هانىء بن حبيب بن غارة ابن لخم ويكنى بابي رقية واسلم تميم سنة تسع وسكن المدينة ثم انتقل الى الشام بعد قتل عثمان وكان من أهل الكتاب عالما بكتبهم فقرأ فيها بعثة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم والتبشير به فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآمن به واقطعه اراضي بالقدس وقصته مشهورة افردها ابن حجر وكذا السيوطي بالتاليف.
(3) تقدمت ترجمته في ص «64» رقم «2» .
(4) هم قوم من نصارى الحبشة عرفوا صفته صلّى الله تعالى عليه وسلم في الانجيل وأخبروا بها.
(5) أساقفة: جمع أسقف وهو الرئيس وهم نصارى وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستون راكبا من اشرافهم وكان لهم علم بالكتاب.
(6) نجران: بفتح النون وسكون الجيم وراء مهملة وألف ونون وهو موضع باليمن سمي بنجران فتح سنة عشر. كذا في القاموس.
(7) ملك الروم بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف وحكي اسكان الراء وكسر القاف وكان يعرف امره صلّى الله تعالى عليه وسلم في الكتب الآلهيه ولكن احب الملك فحكم بشقائه مالك الملك وقد مات على النصرانية وكان عالما بالكتاب وباحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما اخبر به دحية.
(8) اختلف فيه فقيل هو ابن الناطور وهو لفظ أعجمي معناه حارس الكروم وقيل هو ضغاطر الذي تقدم واعترض بانه أسلم فلا يناسبه قوله بعده انه ممن حمله الشقاء على البقاء على كفره.
(9) رومه: بضم الراء وسكون الواو وميم مخففة مفتوحة يليها هاء في أكثر النسخ وفي بعضها رومية بياء مخففة عند اهل اللغة كأنطاكية وغيرها وعدوا التشديد لحنا لأنه ليس بنسبة عربية وبعضهم يشددها.(1/720)
وهم رئيسا النصارى وَمُقَوْقِسُ «1» صَاحِبُ مِصْرَ وَالشَّيْخُ «2» صَاحِبُهُ وَابْنُ صُورِيَا «3» وابن أخطب «4» وأخوه 5، وكعب «6» بن
__________
(1) أي ملكها وهو الذي اهدى الى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قدحا من قوارير وجاريته مارية ولم يسلم وغلظ من عده من الصحابة كيف وهو لم يلاق النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وما زال نصرانيا على الاصح واسمه جريح بن سينا كما قاله الدارقطني ولهم مقوقس آخر عد في الصحابة قال الذهبي ولعله الاول وهو ملك القبط وصاحب الاسكندرية وارسل له النبي صلّى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه الى الاسلام فاجابه بما هو معلوم في كتب الحديث والسير.
(2) أي صاحب المقوقس قال البرهان وغيره وهذا الشيخ لا نعرفه إلا أن المسعودي ذكره وذكر له قصة في كتاب العجائب أحال عليها في مروج الذهب.
(3) بضم الصاد المهملة وواو ساكنة يليها راء مهملة مكسورة ومثناة تحتية والف مقصورة وقيل انها ممالة وهو عبد الله بن صوريا الاعور اليهودي ولم يكن في زمانه أعلم منه بالتوراة وقال النقاش انه اسلم وقيل اسلم ثم ارتد ولم يذكر ابن اسحاق اسلامه وعده في الاصابة من الصحابة وفي معالم التنزيل انه الذي نزل فيه قوله تعالى «من كان عدوا لجبريل» وكلام المصنف رحمه الله مبني على عدم اسلامه.
(4) - (5) بزنة أفعل من الخطبة وهو حيي ابو أم المؤمنين صفية رضي الله تعالى عنها. وياسر أخو حيي بن أخطب، قتل وأخوه كافرين، وكانا يهوديين وكانا يعلمان امر النبي صلّى الله عليه وسلم وما في التوراة من ذكره بصفته ومع ذلك كانا أشد الناس عداوة له كما ذكرت ذلك صفية لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد ما أسلمت وقالت لما قدم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الى المدينة غدا اليه أبي وعمي ثم جاءا بالعشي فسمعت عمي يقول لأبي أهو هو قال نعم. فقال له عمي ياسر وما في صدرك منه قال: العداوة له ما بقيت.
(6) من بني قريظة وهو صاحب عقدهم وقال لهم لما حاصرهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يا معشر يهود إنكم ترون ما نزل بكم من الامر فقالوا نتابعه ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وانه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على نسائكم واموالكم واهلكم فقالوا لا نفارق حكم التوراة ولا نستبدل به غيره الى آخر القصة وما فيها من نقضهم العهد وقتلهم ويقال إن اسم كعب بفتحتين وكاف ومثناة فوقية ودال مهملة.(1/721)
أَسَدٍ وَالزُّبَيْرُ «1» بْنُ بَاطِيَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِمَّنْ حَمَلَهُ الْحَسَدُ «2» وَالنَّفَاسَةُ «3» عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الشَّقَاءِ.
وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ وَقَدْ قَرَّعَ «4» أَسْمَاعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ أَصْحَابِهِ.. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ صُحُفُهُمْ «5» .. وَذَمَّهُمْ بِتَحْرِيفِ ذَلِكَ وَكِتْمَانِهِ وَلَيِّهِمْ «6» ألسنتهم ببيان أمره.. ودعوتهم إلى
__________
(1) الزبير هنا بفتح الزاي المعجمة وهو من يهود بني قريظة ايضا قتل كافرا في وقعة بني قريظة وهو جد عبد الرّحمن بن الزبير بضم الزاي وقيل انه بفتحها كاسم جده قيل والصحيح انه بالضم كما في تاريخ البخاري والزبير هذا قتله ثابت بن قيس بن شماس يوم بني قريظة وكان من أعلم اليهود روى عنه ابنه انه كان يقول اني وجدت سطرا كان ابي يختمه فيه ذكر احمد نبي يخرج بارض القرظ صفته كذا وكذا فتحدث به الزبير بعد أبيه والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يبعث، وباطيا بموحدة والف تليها طاء مهملة ومثناة تحتية والف مقصورة.
(2) الحسد: هو ارادة زوال النعمة عن الناس. وكان من هؤلاء ابن سلول.
(3) النفاسة: بفتح النون بمعنى المنافسة من نفست عليه الشيء نفاسة إذا لم تره يستأهله أنفة.
(4) قرع: بالبناء للفاعل والتخفيف والتشديد. والقرع الضرب بما يسمع له صوت فاذا شدد كان مبالغة فيه ويكون بمعنى التوبيخ والتعيير فاذا خفف فهو استعارة للمبالغة في الجهر حتى كأنه يضرب أسماعهم فاذا شدد فالمراد به توبيخهم بما ذكر.
(5) صحف: بفتحتين وتسكن تخفيفا جمع صحيفة وهي الكتاب والاكثر جمعه على صحائف لان فعيله لا تجمع على فعل الا نادرا.
(6) ليهم: أصل اللي: قتل الحبل ونحوه فاستعير لصرف السنتهم عن الصدق الى الكذب.(1/722)
المباهلة «1» على الكاذب فما منهم إلا نَفَرَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَإِبْدَاءِ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ كُتُبِهِمْ إِظْهَارَهُ وَلَوْ وَجَدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ.. لَكَانَ إِظْهَارُهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَنَبْذِ الْقِتَالِ
وَقَدْ قَالَ لَهُمْ «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» » إِلَى مَا أَنْذَرَ بِهِ الْكُهَّانُ «3» مِثْلُ شَافِعِ «4» بْنِ كُلَيْبٍ وَشِقٍّ «5» وَسَطِيحٍ «6» وَسَوَادِ «7» بْنِ قَارِبٍ
__________
(1) أي قرع أسماعهم بدعوتهم الى المباهلة وكلها منهم كما وقع له صلّى الله عليه وسلم مع نصارى نجران اذ دعاهم الى المباهلة فاتوا وبذلوا الجزية والمباهلة؛ الملاعنة من البهل وهي اللعنة بأن يقول كل منهما لعنة الله على الظالم الكاذب منا.
(2) سورة آل عمران آية رقم «94» .
(3) الكهان: جمع كاهن وهو الذي كان يخبر بالامور قبل وقوعها ويدعي الاطلاع عليها.
(4) شافع بشين معجمة كاسم الفاعل من الشفاعة وكليب مصغر كلب وهو كاهن من كهان العرب اخبر تبعا يخبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وبمهاجرته الى المدينة.
(5) كاهن من كهان العرب بكسر الشين المعجمة هو شق بن صعب بن يشكر وجده الاعلى ربيعة بن المسار وكان بيد واحدة وعين واحدة وكانت العرب تأتيه فيخبرهم بما سيأتي.
(6) كاهن من كهان العرب بفتح السين وكسر الطاء المهملتين ومثناة تحتية ساكنة وحاء مهملة وهو ابن ربيعة بن مسعود بن مازن بن غسان قيل ان جسده لا عظم فيه غير جمجمة رأسه فكان يدرج كالثوب فاذا غضب انتفخ وقيل انه عاش ثلاثمائة سنة.
(7) هو سواد الدوسي الصحابي وكان كاهنا من كهان العرب له رئي من الجن يأتيه ويخبره بالمغيبات فبينما هو ذات ليلة اذ أتاه فضربه برجله وقال له قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي ان كنت تعقل قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو الى الله تعالى والى عبادته ثم اتاه ليالي يقول له مثل مقالته فركب ناقته واتى المدينة واجتمع مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وآمن به وأخبره بخبر رؤيته.(1/723)
وَخُنَافِرٍ «1» وَأَفْعَى «2» نَجْرَانَ وَجَذْلِ «3» بْنِ جَذْلٍ الْكِنْدِيِّ وَابْنِ خَلَصَةَ «4» الدَّوْسِيِّ وَسَعْدِ «5» بْنِ بِنْتِ كُرَيْزٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ «6» وَمَنْ لَا يَنْعَدُّ كَثْرَةً.
__________
(1) بضم الخاء المعجمة ونون والف بعدها فاء مكسورة وراء مهملة وهو كاهن من حمير له رئي من الجن اخبره ببعثة النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فاسلم على يد معاذ رضي الله تعالى عنه ولم ير النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فهو تابعي.
(2) هو ملك من ملوك نجران، كان كاهنا وهو الافعى بن الافعى الجرهمي وهو الذي حكم بين بني أولاد نزار لما تشاحنوا في ميراث ابيهم وهم مضر وربيعة وانمار وإياد وقال يا مضر أنت أبو النبي التهامي فانا نجد في الاثار انه من ولد نزار بن سعد بن عدنان واني لارى للنبوة بين عينيك نورا وأجلسه على سرير ملكه وجلس تحته.
(3) كاهن من كهان العرب أخبر بمبعثه صلّى الله عليه وسلم قديما من كندة وهي قبيلة معروفة لما ولدته أمه التمست ذكره فلم تجده من شدة البرد فظنته جارية فطرحته وزوجها في سكرات الموت فاشتغلت بموته ثم ذكرت بعد ثلاث رؤيا بشرت فيها بولد ذكر تسميه باسم أبيه فقامت وهي تظن انه مات فوجدت كلبة ترضعه فحملته وسمته باسم أبيه.
(4) بخاء معجمة ولام وصاد مهملة مفتوحات هو كاهن من كهان العرب بشر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والشراح لعدم وقوفهم على قصتها ظنوها كاهنا ذكرا وانما هي كاهنة فإن خلصة امرأة والكاهن ابنها.
(5) بضم الكاف وبالراء وآخره زاي معجمة وفي النسخ هنا اختلاف والصحيح ما ذكرناه وهي خالة عثمان بن عفان اخت أمه كانت في الجاهلية لها علم وكهانة فاخبرت عثمان ببعثة النبي وتزوجه بابنته رقية فصدقها وكان ذلك سبب إسلامه فلما أسلم كانت تنشد
هدى الله عثمانا بقولي الى التي ... بها رشده والله يهدي الى الحق.
(6) هي فاطمة بنت النعمان النجارية كان لها تابع من الجن وكان إذا جاء اقتحم عليها فلما بعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم اتى وقعد على حائط الدار فقالت له لم لا تدخل فقال قد بعث نبي يحرم الزنا فكان ذلك اول ما سمع بذكر النبي صلّى الله عليه وسلم بالمدينة وكانت في الجاهلية عالمة كاهنة ونعمان بضم النون هو نعمان بن فراد وقيل هو علي بن نعمان بن قراد وروى عن ابن عمرو وغيره فهو تابعي ونعمان اسم موضع.(1/724)
إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَصْنَامِ «1» مِنْ نُبُوَّتِهِ وَحُلُولِ وَقْتِ رِسَالَتِهِ.. وَسُمِعَ مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ «2» وَمِنْ ذَبَائِحَ «3» النُّصُبِ «4» وَأَجْوَافِ الصُّوَرِ «5» وَمَا وُجِدَ مِنَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ مَكْتُوبًا فِي الْحِجَارَةِ وَالْقُبُورِ بِالْخَطِّ الْقَدِيمِ مَا أَكْثَرَهُ مَشْهُورٌ «6»
وَإِسْلَامُ من أسلم بسبب ذلك معلوم مذكور.
__________
(1) أي من بيان حصول نبوته كقول صنم عمرو بن جبلة: «يا عصام يا عصام، جاء الاسلام، وذهب الأصنام» وقول صنم طارق من بني هند بن حرام «يا طارق، بعث النبي الصادق» .
(2) كسماع ذباب بن الحارث هاتفا منهم «يا ذياب يا ذياب، اسمع العجب العجاب، بعث محمد بالكتاب يدعو بمكة فلا يجاب» .
(3) الذبائح: جمع ذبيحة وهي ما يذبح من بقر ونحوه.
(4) النصب: بضمتين جمع نصب بفتح فسكون وهو ما ينصب من الحجارة والأصنام للعبادة وهو مثل ما سمع عمر رضي الله تعالى عنه من عجل قربه رجل ليذبحه قربانا لصنم فقال «يا آل ذريح أمر نجيح، رجل فصبح، يقول لا إله إلا الله» .
(5) أي ما سمع من الأصنام التي كانوا يصور ونها فهو جمع صورة بمعنى جثة مصورة وهي التمثال والأجواف جمع جوف وهو داخل كل شيء.
(6) كما نقله ثقات المؤرخين في قصص لا تحصى وكما فسر ابن عباس قوله تعالى: «وكان تحته كنز لهما» بأنه قد وجد لوح من ذهب مكتوب فيه «عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب وعجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك وعجبا لمن يرى الدنيّا وتقلبها كيف يطمئن اليها أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي» .(1/725)
الفصل التاسع والعشرون ما حدث عند مولده
صلى الله عليه وسلم وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ، وَمَا حَكَتْهُ أُمُّهُ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ العجائب «1» ..
وكونه «2» رافعا رأسه عند ما وضعته شاخصا ببصره الى السماء وما «3»
__________
(1) اشارة إلى ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن أمه صلى الله تعالى عليه وسلم لما حملت به أتاها آت في منامها بعد ستة أشهر وقال لها: «يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمي شأنك» فلما أخذني ما يأخذ النساء لم يعلم بي أحد وإني لوحيدة في منزلي في طرفه فسمعت وجبة عظيمه وأمرا عظيما هالني فرأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل ما أجد ثم التفت فاذا نور غالب ونسوة طوال حولي فقلت من أين علمن بي وفي رواية «انهن قلن نحن آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران «وهؤلاء من الحور العين» فلبينا أنا كذلك وإذا أنا بديباج أبيض بين السماء والأرض وقائل يقول خذاه من أعين الناس ورجال في الهواء بأيديهم أباريق من فضة وقطعة من الطير مناقيرها من زمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف الله عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، فرأيت علما بالمشرق وعلما بالمغرب فوضعته صلّى الله عليه وسلم وكانت قريش مجدبة قأخصبت الى غير ذلك مما ذكروه
(2) كما رواه البيهقي عن الزهري مرسلا.
(3) كما رواه أحمد والبيهقي عن العرباض وأبي أمامة.(1/726)
رَأَتْهُ مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ «1» وَمَا «2» رَأَتْهُ إِذْ ذَاكَ أُمُّ عُثْمَانَ «3» بْنِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ تَدَلِّي النُّجُومِ وَظُهُورِ النُّورِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ حَتَّى مَا تَنْظُرُ إِلَّا النُّورَ وَقَوْلِ «4» الشِّفَاءِ «5» أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَمَّا سَقَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدَيَّ وَاسْتَهَلَّ «6» سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ «7» ... وَأَضَاءَ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الرُّومِ وَمَا «8» تَعَرَّفَتْ به حليمة «9» وزوجها «10»
__________
(1) وحديث النور الذي خرج معه أضاء له جميع الأرض رواه جماعة صححه ابن حبان والحاكم وعن اسحق بن عبد الله أن امه صلّى الله عليه وسلم قالت لما ولدته: «خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام» قال ابن رجب رحمه الله تعالى «وهو اشارة إلى نور هدايته الذي محا ظلمة الشرك كما قال تَعَالَى: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مبين» .
(2) رواه البيهقي والطبراني عن ابنها عنها.
(3) فاطمة بنت عبد الله وعثمان ابنها هو أبو عبد الله بن بشير الثقفي من أكابر الصحابة وله فتوحات وتولى قضاء البصرة وروى عن أمه أنها شهدت مولده صلّى الله عليه وسلم
(4) رواه أبو نعيم في الدلائل عن عبد الرّحمن بن عوف عن أمه الشفاء رضي الله تعالى عنها.
(5) بشين معجمة مفتوحة وفاء مشددة ومد وقيل بكسر الشين وهي بنت عوف بن عبد الزهرية من المهاجرين والدة عبد الرّحمن وبنت عم أبية عوف بن الحارث وفي الاستيعاب أنها اخت عبد الرّحمن بن عوف وحكاه عن الزبير قال وقد قيل انها أمه.
(6) استهل: بتشديد اللام أي رفع صوته بأن عطس.
(7) أي إن الملائكة شمتت النبي صلّى الله عليه وسلم.
(8) رواه ابن اسحق الطبراني وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثت عن حليمة قال الذهبي جيد الاسناد.
(9) حليمه بنت أبي ذؤيب السعدية مرضعته صلّى الله عليه وسلم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يكرمها وقد دفنت بالبقيع.
(10) الحارث بن عبد العزى زوج حليمة السعدية يكنى أبا ذؤيت وأسلم رضي الله تعالى عنه وحسن اسلامه.(1/727)
ظئراه «1» من بركته وورود لبنها له ولبن شارفها «2» وخصب «3» غنمها وَسُرْعَةِ شَبَابِهِ وَحُسْنِ نَشْأَتِهِ.
وَمَا «4» جَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ مِنَ ارْتِجَاجِ إِيوَانِ «5» كِسْرَى «6» ، وسقوط شرفاته «7» ، وغيض «8» بحيرة «9»
__________
(1) ظئراه: عطف بيان أو بدل من حليمة وزوجها وهو تثنية ظئر وهو المرضعة في الأصل وتطلق على الأب من الرضاعة كما هنا والظئر مشترك معنوي لأنه من ظأر إذا عطف فلا إشكال في تثنيته فإنه لبس نحو عينين مع أنه مسموع أيضا.
(2) شارفها: الشارف الناقة المسنة والغالب ان لبنها لا يدر.
(3) خصب: بكسر الخاء المعجمة أي رعيها في مكان مخصب في سنة مجدبة أو هو مجاز عن سمنها وكثرة لبنها وكل ذلك ببركته صلّى الله عليه وسلم لكونه عندها. وأصل معنى الخصب بكسر الخاء المعجمة المكان الكثير العشب وأول من أرضعته صلّى الله تعالى عليه وسلم ثويبة جارية أبي لهب ثم حليمة رضي الله تعالى عنهما.
(4) رواه البيهقي وابن أبي الدنيا وابن السكن في معرفة الصحابة عن مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه والذي في مسلم وصححوه أنه ولد نهارا بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وجمع بينهما بأن تلك الحصة قد تعد ليلا لقربها منه وبعضهم يرى أن اليوم من طلوع الشمس والحاصل أنه لا ينافي ما تقرر من ولادته نهارا الحديث المتقدم عن أم عثمان بن أبي العاص على تقرير صححه من دلالته على أنه ولد ليلا فإن زمان النبوة صالح للخوارق ويجوز أن يسقط النجوم نهارا أي فضلا عن أن تكاد تسقط سيما إن قلنا ولد عند الفجر لأن ذلك ملحق بالليل كما تقرر.
(5) ايوان: بكسر الهمزة وهو العقد.
(6) تقدمت ترجمته في ص «631» رقم «8» .
(7) شرفاته: جمع شرفة بضمتين ويجوز سكونها وفتحها كما قاله البرهان وهو جمع قلة وضعت موضع كثرة لأنهن أربع عشرة ولعل الخاتمة في عدد لها عن الكثرة إلى القلة تحقيرا لها لخراب مآلها.
(8) غيض: بفتح العين المعجمة وسكون الياء التحتية وضاد معجمة مصدر غاض يغيض إذ أقل أو ذهب يقال غاض الماء وغاضه الله وأغاضه يتعدى ولا يتعدى.
(9) بحيرة: تصغير بحرة وهي البركة الكبيرة التي كثرة ماؤها ويطلق على الأرض الواسعة والمراد الأول.(1/728)
طَبَرِيَّةَ «1» وَخُمُودِ نَارِ فَارِسَ، وَكَانَ لَهَا أَلْفُ عَامٍ لَمْ تَخْمَدْ «2» ، وَأَنَّهُ «3» كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ «4» وَآلِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ شَبِعُوا وَرَوُوا «5» فَإِذَا «6» غَابَ فَأَكَلُوا فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَشْبَعُوا «7» وَكَانَ سَائِرُ «8» وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ
__________
(1) طبرية: بلدة بالشام معروفة من الأرض المقدسة بينها وبين المقدس مرحلتين وبحيرتها عظيمة.
(2) تخمد: بضم الميم وفتحها لأنه ورد من باب نصر وعلم. كسرى وأتباعه يعبدون هذه النار ويرمون فيها المسك والعنبر ونحوه ولهم بها فتنة عظيمة إذ لم تزل في تأجج.
(3) رواه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد واسماعيل بن أبي حبيبة في حديث طويل دخل حديث بعضهم في حديث بعض.
(4) تقدمت ترجمته في ص «560» رقم «11» .
(5) بضم الواو.
(6) وفي نسخة (وإذا) .
(7) وزيد في نسخة (ولم يرووا) بفتح الواو ولعل النسخة الأولى مبنية على الاكتفاء أو على تغليب شبع الطعام على ري الماء.
(8) قال الحلبي: «استعمل القاضي عياض رحمه الله تعالى سائر بمعنى جميع، والشيخ عمرو بن الصلاح أنكر كون سائر بمعنى جميع وقال: ان ذلك مردود عند أهل اللغة معدود في غلط العامة وأشاههم من الخاصة» قال: الزهري في تهذيبه: «أهل اللغة اتفقوا على ان سائر بمعنى الباقي» وقال الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص: «ومن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يستعملون سائر بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي واستدل بقصة غيلان لما أسلم على عشر نسوة وقال له صلى الله تعالى عليه وسلم أمسك أربعا وفارق سائرهن انتهى. وقال ابن الصلاح ولا التفات الى قول صاحب الصحاح سائر الناس جميعهم فانه ممن لا يقبل ما ينفرد به وقد حكم عليه بالغلط وهذا من وجهين أحدهما تفسير ذلك بالجميع وثانيهما أنه ذكره في سر وحقه أن يذكره في سار وقال النووي: «وهي لغة صحيحة ذكرها غير الجوهري ولم ينفرد بها وافقه عليها الجواليقي في اول شرح أدب الكاتب لابن قتيبة الى آخر كلام النووي في تهذيبه انتهى كلام الحلبي. وتبعه الدلجي في تفسيره السائر بالجميع وقال صاحب القاموس «السائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات، او قد يستعمل له فقد ضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه فقال: «بطني عطري وسائري ذري انتهى ولا-(1/729)
يُصْبِحُونَ شُعْثًا «1» وَيُصْبِحُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَقِيلًا «2» دَهِينًا «3» كَحِيلًا «4» قَالَتْ «5» أُمُّ أَيْمَنَ «6» حَاضِنَتُهُ «7» : ما رأيته صلّى الله عليه وسلم شكى جوعا وَلَا عَطَشًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا.
وَمِنْ «8» ذَلِكَ حِرَاسَةُ السَّمَاءِ بِالشُّهُبِ «9» وَقَطْعِ رَصْدِ «10» الشَّيَاطِينِ وَمَنْعِهِمِ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ.
وَمَا «11» نَشَأَ عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِ الْأَصْنَامِ، وَالْعِفَّةِ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَحَمَاهُ حَتَّى فِي سَتْرِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ «12» عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَخَذَ إِزَارَهُ لِيَجْعَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ «13» لِيَحْمِلَ عليه الحجارة
__________
- يخفى أنه يحتمل كلام الاعرابي أن يكون السائر بمعنى الباقي بل هو المتبادر على ما هو الظاهر والتحقيق أن السائر بمعنى الباقي حقيقة وبمعنى الجميع مجازا وأنه مأخوذ من السؤر مهموزا هـ والبقية الملائمة لمعنى الباقي بخلاف السور معتلا وهو سور البلد المناسب لمعنى الجميع وبهذا يرتفع الخلاف لمن ينظر بعين الانصاف.
(1) شعثا: جمع أشعث وهو المغبر المتغير لونه كما هو عادة الاطفال اذا قاموا من نومهم في مضاجعهم.
(2) صقيلا: أي رائق اللون غير متغير البشرة فهو استعارة من المرآة الصقيلة
(3) دهينا: اي كأن وجهه دهن بما كانوا يدهنون به حتى تبرق وجوههم.
(4) كحيلا: أي مكحل العين وكل ذلك من غير صنع لأحد.
(5) رواه ابن سعد وأبو نعيم في الدلائل.
(6) تقدمت ترجمتها في ص «158» رقم «5» .
(7) حاضنته: أي مربيته ومرضعته وسميت حاضنة لأنها تجعل الولد في حضنها.
(8) كما قال الله تعالى حكاية عنهم: «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا» سورة الجن آية (8)
(9) الشهب: وهي شعل النار المرئية في نجوم السماء جمع شهاب.
(10) رصد: أي ترصدهم وانتظارهم ظهور شيء اليهم ونزول خبر عليهم.
(11) كما روى البيهقي أن زيد بن حارثة مر بصنم فتمسح به فقال له صلّى الله عليه وسلم لا تمسه ونهاه عن القرب منه كما نهى ابراهيم عليه الصلاة والسلام آزر عنها.
(12) رواه الشيخان عن جابر والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم.
(13) عاتقه: وهو ما بين المنكب والعنق.(1/730)
وَتَعَرَّى فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى رَدَّ إِزَارَهُ عَلَيْهِ.. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ:
مَا بَالُكَ فَقَالَ: إني نُهِيتُ عَنِ التَّعَرِّي.
وَمِنْ ذَلِكَ «1» إِظْلَالُ اللَّهِ لَهُ بِالْغَمَامِ فِي سَفَرِهِ وَفِي رِوَايَةٍ «2» أَنَّ خَدِيجَةَ «3» وَنِسَاءَهَا رَأَيْنَهُ لَمَّا قَدِمَ وَمَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِمَيْسَرَةَ «4» فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُنْذُ خَرَجَ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ «5» أَنَّ حَلِيمَةَ «6» رَأَتْ غَمَامَةً تُظِلُّهُ وَهُوَ عِنْدَهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَمِنْ ذَلِكَ «7» أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَبْلَ مبعثه تحت شجرة يابسة فاعشو شب مَا حَوْلَهَا وَأَيْنَعَتْ هِيَ فَأَشْرَقَتْ وَتَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَغْصَانُهَا بِمَحْضَرِ مَنْ رَآهُ وَمَيْلُ فَيْءِ «8» الشَّجَرَةِ إِلَيْهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُ وَمَا ذكر «9» من أنه كان لاظل لشخصه فِي شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ لِأَنَّهُ كَانَ نُورًا..
__________
(1) رواه الترمذي والبيهقي.
(2) لابن سعد عن نفيسة بنت منبه.
(3) تقدمت ترجمتها في ص «260» رقم «5» .
(4) بفتح السين وضمها هو غلام خديجة الذي بعثته مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تجارتها الى الشام قال الحلبي: «لا أعلم له ذكرا في الصحابة وكان توفي قبل النبوة وإلا فلو أدركها لأسلم» .
(5) رواه الوافدي وابن سعد وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس.
(6) تقدمت ترجمتها آنفا.
(7) لم يذكر من رواه من المحدثين ولم يخرجه السيوطي.
(8) فيء: الفيء هو الظل مطلقا او بعد الظهيرة لأنه من فاء إذا رجع.
(9) ذكره الترمذي في نوادر الاصول عن عبد الرّحمن بن قيس وهو مطعون عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد وهو مجهول عن ذكوان.(1/731)
وَأَنَّ «1» الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا ثِيَابِهِ وَمِنْ ذَلِكَ «2» تَحْبِيبُ الْخَلْوَةِ إِلَيْهِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيْهِ ثُمَّ «3» إِعْلَامُهُ بِمَوْتِهِ وَدُنُوِّ أَجَلِهِ وَأَنَّ قَبْرَهُ «4» فِي الْمَدِينَةِ وَفِي «5» بَيْتِهِ وأنّ بين بيته وبين منبره رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ.
وَتَخْيِيرُ «6» اللَّهِ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا اشْتَمَلَ «7» عَلَيْهِ حَدِيثُ الْوَفَاةِ مِنْ كَرَامَاتِهِ وَتَشْرِيفِهِ وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَسَدِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ فِي بَعْضِهَا.. وَاسْتِئْذَانُ مَلَكِ الموت عليه.. ولم يستأذن على غره قبله وندائهم «8» الذي سمعوه: «لا تنزعوا القميص عنه عند غسله» وما روي «9»
__________
(1) قال الدلجي لا علم لي بمن رواه ولم يخرجه السيوطي وقال الحلبي نقل أيضا بعض مشايخي فيما قرأته عليه بالقاهرة عن ابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط قلت فعلى جسده بالاولى كما لا يخفى.
(2) رواه الشيخان عن عائشة.
(3) رواه الشيخان وغيرهما من طرق.
(4) رواه أبو نعيم في الدلائل عن معقل بن يسار ولفظه «المدينة مهاجري ومضجعي من الارض.
(5) روى البيهقي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن قبره يكون في بيته.
(6) رواه البيهقي في الدلائل عن عائشة.
(7) رواه الشافعي في حلقه والبيهقي في دلائله والعدني في مسنده.
(8) رواه أبو داود والبيهقي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأخرجه البيهقي عن بريدة رضي الله تعالى عنها.
(9) كما رواه البيهقي في دلائله يشير الى ما روي عن علي كرم الله وجهه ورضي عنه أنه قال لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمعوا صوتا ولم يروا شخصا وهو يقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة وان في الله عز وجل لعزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك(1/732)
مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ «1» وَالْمَلَائِكَةِ أَهْلَ بَيْتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَبَرَكَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ. كَاسْتِسْقَاءِ عُمَرَ «2» بعمه «3» وتبرك غير واحد بذريته..
__________
- ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا واعلموا ان المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام كما رواه البيهقي وابن أبي حاتم وقال في مرأة الزمان أن المعزي هو جبريل لا الخضر ورواه العراقي في تخريج أحاديث الاحياء بلفظ آخر. وأنكر النووي وجوده في كتب الحديث وإنما ذكره الاصحاب بل رواه الحاتم في المستدرك من حديث أنس ولم يصححه ولا يصح ورواه الطبراني في الاوسط وإسناده ضعيف جدا وابن أبي الدنيا عن علي بسند واه أيضا وذكره الشافعي في الام من غير ذكر الخضر انتهى وانما قال الحاكم وغيره إنه غير صحيح لحديث «انه لا يبقى على وجه الارض ممن هو عليها أحد على رأس مئة سنة من تلك الليلة» وأراد به انخرام كل أحد فيشمل الخصر وغيره يعني به انكار وجوده وسئل عنه ابن حجر رحمه الله تعالى فقال سنده ضعيف ولو قدر ثبوته لم يخالف الحديث المذكور لانه يخص من عمومه ان صح ما ينقل عن بعض الصالحين من اجتماعه بالخضر إلا أنا لم نجد خبرا صحيحا يقتفى أنه خضر موسى عليه الصلاة والسلام والعلم عند الله والحاصل انهم قد اختلفوا في وجوده فالصوفية يثبتون وجوده وان منهم من رآه والمحدثون ينكرونه وبعضهم توقف فيه كابن حجر ومنهم من شدد النكير على من أثبت حياته كصاحب مرآة الزمان حتى صنف في ابطاله كتابا مستقلا سماه «عجالة المنتظر في شرح حال الخضر» ولكنا لا ننكر ما قاله المشايخ واختلفوا فيه هل هو نبي او ملك او عبد صالح من أولياء الله تعالى. والخضر تقدمت ترجمته في ص «523» رقم «1» .
(1) كما رواه البحاري.
(2) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «4» .
(3) أي العباس بن عبد المطلب وتقدمت ترجمته في ص «181» رقم «1» .(1/733)
الفصل الثّلاثون خاتمة وتذييل
قال القاضي أبو الفضل رحمه قَدْ أَتَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى نُكَتٍ «1» مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَاضِحَةٍ، وَجُمَلٍ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ مُقْنِعَةٍ، فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْكِفَايَةُ وَالْغُنْيَةُ، وَتَرَكْنَا الْكَثِيرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا وَاقْتَصَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ عَلَى عَيْنِ الْغَرَضِ، وَفَصِّ «2» الْمَقْصِدِ، وَمِنْ كَثِيرِ الْأَحَادِيثِ وَغَرِيبِهَا عَلَى مَا صَحَّ وَاشْتَهَرَ إِلَّا يَسِيرًا مِنْ غَرِيبِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مَشَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ.
وَحَذَفْنَا الْإِسْنَادَ فِي جُمْهُورِهَا طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ وَبِحَسْبِ هَذَا الْبَابِ لَوْ تُقُصِّيَ «3» أَنْ يَكُونَ ديوانا «4» جامعا يشتمل على مجلّدات
__________
(1) نكت: بضم ففتح أي لطائف وشرائف.
(2) فص: مثلث الفاء يقال أتى بالامر من فصه أي من أصله قال الشاعر:
ورب امرىء تزدريه العيون ... يأتيك بالامر من فصه
وفص الخاتم ما يزين به من الجواهر ويقال نقل الحديث بفصه اذا استوفاه والمراد هنا أي زبدة المقصود.
(3) تقصي: مبني للمجهول بقاف وصاد مهملة أي استوفي وبلغ أقصاه ونهايته.
(4) ديوانا: أي كتابا مستقلا مدونا.(1/734)
عِدَّةٍ. وَمُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرُ مِنْ سَائِرِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا كَثْرَتُهَا وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا وَعِنْدَ نَبِيِّنَا مِثْلُهَا أَوْ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهَا..
وَقَدْ نَبَّهَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ.. فَإِنْ أَرَدْتَهُ فَتَأَمَّلْ فُصُولَ هَذَا الْبَابِ وَمُعْجِزَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَقِفْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شاء الله.
وَأَمَّا كَوْنُهَا كَثِيرَةً فَهَذَا الْقُرْآنُ وَكُلُّهُ مُعْجِزٌ وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ الْإِعْجَازُ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ أئمة المحققين سورة «1» «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «2» » أَوْ آيَةٌ فِي قَدْرِهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُ- كَيْفَ كَانَتْ- مُعْجِزَةً.
وَزَادَ آخَرُونَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ مُعْجِزَةٌ- وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «3» » فَهُوَ أَقَلُّ مَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَعَ مَا يَنْصُرُ هَذَا مِنْ نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ يَطُولُ بَسْطُهُ.. وَإِذَا كَانَ هَذَا فَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيِّفٍ على عدد بعضهم «4» وعدد
__________
(1) وهي أقصر سورة في القرآن.
(2) سورة الكوثر آية رقم «1» .
(3) سورة يونس آية رقم «28» .
(4) قال الداني رحمه الله عدد حروف القرآن سبعة وتسعون ألفا وأربعمئة وتسع وثمانون كلمة وحروفه ثلاثمائة الف وثلاثة وعشرون الفا وقيل ثلاثمائة الف وأحد وعشرون الفا أو خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا وقيل انه الصواب لا ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى والسبب في الاختلاف أن الكلمة والحرف لهما اطلاقات.(1/735)
كلمات «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» عشر كلمات فتجزيء القرآن على نسبة عدد «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» أَزِيدُ مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ جُزْءٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ إِعْجَازُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِوَجْهَيْنِ:
طَرِيقُ بَلَاغَتِهِ وَطَرِيقُ نَظْمِهِ فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مُعْجِزَتَانِ فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ فِيهِ وُجُوهُ إِعْجَازٍ أُخَرُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِعُلُومِ الْغَيْبِ.. فَقَدْ يَكُونُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْغَيْبِ.. كُلُّ خَبَرٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ مُعْجِزٌ.. فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ كَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ وُجُوهُ الْإِعْجَازِ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تُوجِبُ التَّضْعِيفَ..
هَذَا فِي حَقِّ الْقُرْآنِ.. فَلَا يَكَادُ يَأْخُذُ الْعَدُّ مُعْجِزَاتِهِ.. وَلَا يَحْوِي الْحَصْرُ بَرَاهِينَهُ..
ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ.. وَعَمَّا دَلَّ عَلَى أَمْرِهِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى جُمَلِهِ يَبْلُغُ نَحْوًا مِنْ هَذَا- الْوَجْهُ الثَّانِي وُضُوحُ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ كَانَتْ بِقَدْرِ هِمَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَبِحَسْبِ الْفَنِّ الَّذِي سَمَا فيه قرنه.. فلما كان زمن مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السِّحْرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تُشْبِهُ(1/736)
مَا يَدَّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ. فَجَاءَهُمْ مِنْهَا مَا خَرَقَ عَادَتَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِمْ وَأَبْطَلَ سِحْرَهُمْ.
وَكَذَلِكَ زَمَنُ عِيسَى أَغْنَى مَا كَانَ الطِّبُّ وَأَوْفَرُ مَا كَانَ أَهْلُهُ فَجَاءَهُمْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ «1» وَالْأَبْرَصِ دُونَ مُعَالَجَةٍ وَلَا طِبٍّ وَهَكَذَا سَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْلَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ وَعُلُومِهَا أربعة.. البلاغة والشعر والخبر «2» والكهانة «3» .
فأنزل الله عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْخَارِقَ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فُصُولٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَمَطِ كَلَامِهِمْ.. وَمِنَ النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْأُسْلُوبِ الْعَجِيبِ.. الَّذِي لَمْ يهتدوا في المنظوم الى طريفه وَلَا عَلِمُوا فِي أَسَالِيبِ الْأَوْزَانِ مَنْهَجَهُ وَمِنَ الأخبار عن الكوائن «4» والحوادث والاسرار والمخبئآت وَالضَّمَائِرِ فَتُوجَدُ عَلَى مَا كَانَتْ وَيَعْتَرِفُ الْمُخْبَرُ عَنْهَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَصِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَى العدو.
__________
(1) الاكمه: الذي ولد أعمى مطموس العين.
(2) الخبر عمن سلف وما لهم من الوقائع والايام والانساب والمنازل.
(3) الكهانة: بفتح الكاف مصدر وبكسرها صناعته وحرفته وهي معاناة علم المغيبات بتلقيها عن الجن.
(4) الكوائن: عما سيكون في المستقبل من المغيبات جمع كائن.(1/737)
فَأَبْطَلَ الْكِهَانَةَ الَّتِي تَصْدُقُ مَرَّةً وَتَكْذِبُ عَشْرًا. ثُمَّ اجْتَثَّهَا «1» مِنْ أَصْلِهَا بِرَجْمِ الشُّهُبِ «2» ، وَرَصْدِ «3» النُّجُومِ..
وَجَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَأَنْبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، وَالْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ مَا يَعْجِزُ مَنْ تَفَرَّغَ لِهَذَا الْعِلْمِ عَنْ بَعْضِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَسَطْنَاهَا وَبَيَّنَّا الْمُعْجِزَ فِيهَا ثُمَّ بَقِيَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الْجَامِعَةُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ إلى الفصول الأخرى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ ثَابِتَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي لَا يَخْفَى وُجُوهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ إِلَى مَا أَخْبَرَ به من العيوب عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ.. فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ وَلَا زمن إلا ويظهر فِيهِ صِدْقُهُ بِظُهُورِ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ فَيَتَجَدَّدُ الْإِيمَانُ وَيَتَظَاهَرُ الْبُرْهَانُ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، للمشاهدة زِيَادَةٌ فِي الْيَقِينِ، وَالنَّفْسُ أَشُدُّ طُمَأْنِينَةً إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ مِنْهَا إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ..
وَإِنْ كَانَ كُلٌّ عِنْدَهَا حَقًّا وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِهِمْ وَعُدِمَتْ بِعَدَمِ ذَوَاتِهَا وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيدُ وَلَا تنقطع
__________
(1) اجتثها: بجيم ومثناة فوقية ومثلثة أي قطعها بعد إبطالها.
(2) الشهب: بضم الهاء وسكونها جمع شهاب أي رمي الشياطين بشهب تمنعهم من استراق السمع.
(3) رصد بسكون الصاد المهملة مصدر رصده يرصده اذا ترغبه وأعد له ما يمنعه.(1/738)
وَآيَاتُهُ تَتَجَدَّدُ وَلَا تَضْمَحِلُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ صَلَّى الله عليه وسلم بقوله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن «1» النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ.. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وحيا أوحاه اللَّهُ إِلَيَّ.. فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم القيامة. هذا معنى الحديث عند بَعْضِهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَظُهُورِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَعْنَى آخَرَ مِنْ ظُهُورِهَا بكونها وحيا وكلاما لا يمكن التخيل فيه ولا التحيل عَلَيْهِ وَلَا التَّشْبِيهُ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا بِأَشْيَاءَ طَمِعُوا فِي التَّخْيِيلِ بِهَا عَلَى الضُّعَفَاءِ كَإِلْقَاءِ السَّحَرَةِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَشِبْهُ هَذَا مِمَّا يُخَيِّلُهُ السَّاحِرُ أَوْ يَتَحَيَّلُ فِيهِ.
وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَيْسَ لِلْحِيلَةِ ولا للسحر ولا للتخييل فِيهِ عَمَلٌ..
فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.. كَمَا لَا يتم لشاعر ولا خطيب أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّمْوِيهِ وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَخْلَصُ وَأَرْضَى.. وَفِي هذا التأويل
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي.(1/739)
الثاني ما يغمّض عليه الجفن ويغضى. وجه ثالث على مَنْ قَالَ بِالصِّرْفَةِ «1» . وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ فَصُرِفُوا عَنْهَا أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ..
وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلُ وَلَا يَكُونُ بَعْدُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يقدرهم ولا يُقَدِّرْهُمْ عَلَيْهِ.. وَبَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَرْقٌ بَيِّنٌ وَعَلَيْهِمَا جميعا فترك الْعَرَبُ الْإِتْيَانَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِمْ أَوْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ.
وَرِضَاهُمْ بِالْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ وَالسِّبَاءِ وَالْإِذْلَالِ وَتَغْيِيرِ الْحَالِ..
وَسَلْبِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ.. وَالتَّقْرِيعِ.. وَالتَّوْبِيخِ.. وَالتَّعْجِيزِ..
وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.. أَبْيَنُ آيَةً لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.. وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا عَنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ..
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ «2» وَغَيْرُهُ قَالَ:
وَهَذَا عِنْدَنَا أَبْلَغُ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدِيعَةِ فِي أَنْفُسِهَا كَقَلْبِ العصاحيّة وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى بَالِ النَّاظِرِ بدارا «3» أنّ ذلك
__________
(1) الصرفة: بفتح الصاد المعجمة وكسرها وهو مذهب بعض المعتزلة والشيعة حيث قالوا صرف الله همهم عن الاتيان بأقصر سورة منه مع تمكنهم منه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «475» رقم «3» .
(3) بدارا: بكسر الباء أي مبادرة ومسار عنه من اول وهلة قبل التأمل في حقيقة أمره وخفية سره.(1/740)
من اختصاص صاحب ذلك بمزيد مَعْرِفَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ وَفَضْلِ عِلْمٍ..
إِلَى أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ صَحِيحُ النَّظَرِ.. وَأَمَّا التَّحَدِّي للخلائق المئين مِنَ السِّنِينَ بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمْ لِيَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَلَمْ يَأْتُوا.. فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ عَدِمِهَا إِلَّا أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَنْهَا بِمَثَابَةِ مَا لَوْ قَالَ نَبِيٌّ: آيَتِي أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الْقِيَامَ عَنِ النَّاسِ مَعَ مَقْدِرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَارْتِفَاعِ الزَّمَانَةِ عنهم.. فلو كان ذلك وعجّزهم الله تعالى عن القيام لكان من أبهر آيَةٍ وَأَظْهَرِ دَلَالَةٍ.. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ غَابَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ ظُهُورِ آيَتِهِ عَلَى سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى احْتَاجَ لِلْعُذْرِ عَنْ ذَلِكَ بِدِقَّةِ أَفْهَامِ الْعَرَبِ وَذَكَاءِ أَلْبَابِهَا وَوُفُورِ عُقُولِهَا وَأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمُعْجِزَةَ فِيهِ بِفِطْنَتِهِمْ.. وَجَاءَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ إِدْرَاكِهِمْ.. وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ السَّبِيلِ. بَلْ كَانُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ وَقِلَّةِ الْفِطْنَةِ بِحَيْثُ جوّر عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَجَوَّزَ عَلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ «1» ذلك
__________
(1) هو موسى بن ظفر وهو رجل من بني اسرائيل منسوب لرجل اسمه ماهر. والسامري هذا من أهل كرمان من قوم تسمى السامرة يعبدون البقر وكان منافقا يظهر الاسلام قد صاغ لقومه عجلا من الحلي وزينه بالجواهر. وقذف فيه ترابا من أثر فرس ركبه جبريل عليه الصلاة والسلام فكان يتحرك فقال لهم هذا الهكم وإله موسى وان موسى أخطأ الطريق اليه فجاءكم يكلمكم كما كلمه فاتبعوه لسخافة عقولهم كما فصله المفسرون وغيرهم.(1/741)
فِي الْعِجْلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَعَبَدُوا الْمَسِيحَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صَلْبِهِ «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» »
فَجَاءَتْهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْأَبْصَارِ بِقَدْرِ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ مَا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا «2» : «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «3» » وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْمَنِّ «4» وَالسَّلْوَى «5» ، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ «6» .
وَالْعَرَبُ عَلَى جَاهِلِيَّتِهَا أَكْثَرُهَا يَعْتَرِفُ بِالصَّانِعِ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَقَرَّبُ بِالْأَصْنَامِ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ مِنْ قَبْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ عَقْلِهِ وَصَفَاءِ لُبِّهِ. وَلَمَّا جاءهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بِكِتَابِ اللَّهِ فَهِمُوا حِكْمَتَهُ وَتَبَيَّنُوا بِفَضْلِ إِدْرَاكِهِمْ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مُعْجِزَتَهُ فَآمَنُوا بِهِ وَازْدَادُوا كُلَّ يَوْمٍ إِيمَانًا، وَرَفَضُوا الدُّنْيَا كُلَّهَا فِي صُحْبَتِهِ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلُوا آبَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فِي
__________
(1) سورة النساء آية رقم «157» .
(2) وفي نسخة: «قالوا» .
(3) سورة البقرة آية رقم «55» .
(4) المن: وهو طل كالعسل ينزل على الاشجار فيجمع ويؤكل.
(5) السلوى: وهو طائر كالسماني واحده سلواه وكانوا لما خرجوا من التيه قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام أخرجتنا من العمران للقفر فادع الله أن يرزقنا فرزقهم المن ثم سألوه ان يطعمهم من اللحوم فأتاهم بالسلوى فكانوا يأخذونها بأيديهم ثم قالوا: «لن نصبر على طعام واحد» .
(6) أي طلبوا القوم والعدس والبصل.(1/742)
نُصْرَتِهِ وَأُتِيَ فِي مَعْنَى هَذَا بِمَا يَلُوحُ لَهُ رَوْنَقٌ وَيُعْجِبُ مِنْهُ زِبْرِجٌ «1» لَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ وَحُقِّقَ..
لَكُنَّا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظُهُورِهَا مَا يُغْنِي عَنْ رُكُوبِ بُطُونِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ وَظُهُورِهَا.
وبالله أستعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) زبرج: بكسر الزاي المعجمة وسكون الباء الموحدة وكسر الراء المهملة وجيم وهي الزينة والوشي.(1/743)
تم بحمد الله ومنته، الجزء الأول من الشفا بتعريف حقوق المصطفى، مع تحقيقاته الهامة، وتعليقاته المفيدة التي تكشف عن سر البيان الساحر والعلم الجم، الذي ينطوي عليه القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله تعالى..
ومما لا يخفى على القارىء بعد اطلاعه على مكنون الكتاب وفهمه لفحوى معانيه، معرفة عظمة الرسول صلّى الله عليه وسلم وفضله على الأمة جميعا جزاه الله عن أمة الإسلام خيرا..
ونحن أيها الأخوة القراء ما زلنا مستمرين في إصدار الجزء الثاني إن شاء الله تعالى تباعا على أعداد ونسأل المولى القدير أن يلهمنا الرشد والصواب.
المحققون(1/744)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مسرد الفصول والأبواب والعناوين الجانبيه
الصفحة الموضوعات 3 الاهداء
5 تقريظ العلامة الكبير فضيلة الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت 7 تقريظ العلامة الكبير فضيلة الشيخ عبد الكريم الرفاعي
11 مقدمة المحققين
21 ترجمة المؤلف
25 مقدمة المؤلف- تمجيد وتوحيد- نعمة الرسول صلّى الله عليه وسلم- سبب التأليف والدافع اليه- الشعور بثقل التبعة- الشعور بالواجب يبدد الخوف من المسؤولية- تقسيمات الكتاب- سر الكتاب- زيادة هذا الباب-
43 الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى لِقَدْرِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلًا وفعلا- 45 مقدمة القسم الاول.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ) فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ واظهاره عظيم قدره لديه 51 الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَجِيءَ المدح والثناء وتعداد المحاسن- لقد جاءكم رسول من أنفسكم- بالحكمة في كون الرسول من أنفسهم- بيان ما تجمله كلمة (أنفسكم) - صلة المخلوق بالخالق عن طريق الرسل- وما أرسلناك الا رحمة للعالمين- نسمات رحمته صلّى الله عليه وسلم أصابت كل مخلوق- جبريل القوي الامين صار برحمته من الامنين- الرسول صلّى الله عليه وسلم نور من انوار الهداية والخير- شرح الصدر- وضع الوزر- رفع الذكر-(1/745)
الصفحة الموضوعات واطيعوا الله والرسول- حكم العطف بين الخالق والمخلوق- اقوال العلماء في مسألة الجمع بين الخالق والمخلوق بضمير واحد- اختلاف المفسرين في معنى الصراط المستقيم- والعروة الوثقى- نعمة الله- جاء بالصدق
71 الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي وَصْفِهِ- تَعَالَى- لَهُ بِالشَّهَادَةِ وما يتعلق بها من الثناء والكرامة ... شاهدا- ومبشرا- ونذيرا- وداعيا- سراجا منيرا- صفته في التوراة- روايات عن التوراة في صفته صلّى الله عليه وسلم- رحمته بالمؤمنين- فضل امته من فضله- شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأمته بالصدق- قدم الصدق للمؤمنين-..
79 الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مورد الملاطفة والمبرة.
عفا الله عنك- الملاطفة قبل المعاتبة- كان النبي مخيرا ولم يكن معاتبا- التأدب بالقرآن- المعاتبة قبل وقوع الزلة من علامات المحبة- لا يشكون في صدقه ولكن يشكون بما جاء به- تعريف الجحود- تعزية- المخاطبة بصفة محمودة اعلى من المخاطبة بالاسم.
86 الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ ...
بعمره صلّى الله عليه وسلم- ما أقسم الله بحياة أحد غيره- يسن- طه- القسم بالرسالة خاص به- سيادته صلّى الله عليه وسلم- تشرف مكة به- أمنها الله بمقامه فيها- معاني الحروف المقطعة- ق- والنجم- الفجر..
95 الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي قَسْمِهِ- تَعَالَى جَدَّهُ- لَهُ لتحقق مكانته عنده ...
والضحى- سبب نزولها- وجوه تعظيمه في هذه السورة- القسم- بيان مكانته عنده- المآل خير- العطاء محدود بالرضى- رضاه باخراج أمته من النار- تعداد النعم- الايواء- اليتيم- إظهار النعمة- والنجم اذا(1/746)
الصفحة الموضوعات هوى- معاني النجم- فضائله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ- الاشارة تقوم مقام العبارة- تزكية القلب- تزكية اللسان- تزكية البصر- كريم- ذي قوة- مكين- في السماء- أمين- رؤية ربه- ظنين- سورة ن- نهاية المبرة في المخاطبة- نعمة غير ممنونة- اثنى عليه بما منحه- الخلق العظيم- يسر للخير وهدى اليه ثم اثنى به عليه- نصرة الله له أتم من نصرته لنفسه.
الفصل السادس: في ما وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ- تَعَالَى- فِي جِهَتِهِ- صَلَّى الله عليه وسلم- مورد الشفقة والاكرام.. طه ومعانيها- سبب النزول- تكليف الرسول صلّى الله عليه وسلم بالعبادة- تسلية وشفقة سنة الرسل.
111 الفصل السابع: في ما أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وخطوة رتبته عليهم.
اختصاصه بالفضل من دون الانبياء- اخذ العهد من الانبياء- كلام عمر في رثاء الرسول صلّى الله عليه وسلم- أوليته على الانبياء- أمان أهل النار- الاولين في الخلق- سبب تفضيله- مخاطبته بالنبوة والرسالة.
117 الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ وَوِلَايَتِهِ لَهُ وَرَفْعِهِ الْعَذَابَ بِسَبَبِهِ.. جواره امان- استغفار بعض الناس سبب في دفع العذاب عن الكل- فضل الاستغفار- الرسول باق ما دامت سنته باقية- صلاة الله- معنى الصلاة- كهيعص- ولاية الله له.
122 الفصل التاسع: في ما تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم..
سورة الفتح- ظهوره وغلبته- غفران ذنبه- المنة سبب المغفرة- إتمام النعمة- شهادته على امته لنفسه- يعزروه- تمام النعمة- يد الله- استعارات وتجنيس- الرامي هو الله حقيقة- قتل الملائكة لهم حقيقة-(1/747)
الصفحة الموضوعات 129 الفصل العاشر: في ما أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ كرامته عليه ومكانته عنده وما خصه به من ذلك سوى ما تقدم.
مشاهدة العجائب- عصمته من الناس- الكوثر- الشانيء هو الابتر- السبع المثاني- الكرامات السبع- عموم الرسالة- بعثه الى الخلق- اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ رَأْيِ النَّفْسِ فضل الله العظيم-.
137 (الْبَابُ الثَّانِي) فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ- تَعَالَى- لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَقِرَانِهِ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ والدنيوية فيه نسقا.
139 مقدمة الباب الثاني: - خصال الجمال والكمال في البشر- الضروري ما ليس فيه اختيار- المكتسبة ما تقرب الى الله وللانسان فيها اختيار- لا بد للاخلاق المكتسبة من أصول-.
142 الفصل الاول: يعظم الانسان بقليل من هذه الخصال- اجتماع خصال الكمال والجلال في محمد صلّى الله عليه وسلم- لا يحيط بصفاته إلا ما نحها-.
145 الْفَصْلُ الثَّانِي: صِفَاتُهُ الْخِلْقِيَّةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
حاز جميع خصال الكمال الضروري- الصورة وجمالها- الرواة- صفاته الخلقية- نور وجهه كالشمس والقمر- وصف علي رضي الله عنه له-.
152 الْفَصْلُ الثَّالِثُ: نَظَافَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
طيب رائحة يده صلّى الله عليه وسلم- كانوا يمزجون طيبهم بعرقه صلّى الله عليه وسلم- تغوطه صلّى الله عليه وسلم- الارض تبتلع ما يخرج من الانبياء- طهارة الحدثين منه صلّى الله عليه وسلم- صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله طبت حيا وميتا- ذكر من شرب دمه صلّى الله عليه وسلم- شرب بوله صلّى الله عليه وسلم- ولد صلّى الله عليه وسلم مختونا- ما رأى أحد عورته صلّى الله عليه وسلم- كان صلّى الله عليه وسلم محفوظا-.(1/748)
الصفحة الموضوعات 161 الفصل الرابع: وفور عقله وفصاحة لسانه وقوة حواسه صلّى الله عليه وسلم ...
كان صلّى الله عليه وسلم اعقل الناس- عقول الناس كحبة رمل فِي جَنْبِ عَقْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرى من خلفه كما يرى من أمامه- رؤيته لغيره في الظلمة- رؤيته الملائكة والشياطين- رفع النجاشي له ورؤيته بيت المقدس والكعبة- الاخبار المتقدمة محمولة على رؤية العين- رؤية موسى عند التجلي- صرع ركانة- صرع ابا ركانة- سرعة مشيه صلّى الله عليه وسلم- ضحكه كان تبسما- مشيه كان تقلعا.
167 الفصل الخامس: فصاحة لسانه وبلاغته صلّى الله عليه وسلم..
فصاحة لسانه صلّى الله عليه وسلم- يخاطب كل أمة بلسانها- كلامه مع ذي المشعار الهمداني وغيره من أمراء حضر موت- كتابه الى همدان- قوله لنهد- كتابه لوائل بن حجر- حديث عطية السعدي- حديث العامري- كلامه المعتاد- نماذج من بلاغته وفصاحته وجوامع كلمه صلّى الله عليه وسلم- بعض دعائه صلّى الله عليه وسلم- أساليب جديدة- سر فصاحته- جمع في كلامه جزالة البادية ورونق الحاضرة- امداد الوحي له- وصف ام معبد لمنطقه.
180 الْفَصْلُ السَّادِسُ: شَرَفُ نَسَبِهِ وَكَرَمُ بَلَدِهِ وَمَنْشَئِهِ صلّى الله عليه وسلم ...
نخبة بني هاشم- مكة وكرمها- خير القرون قرن النبي صلّى الله عليه وسلم- خيرهم نفسا وخيرهم بيتا- لم يزل خيارا من خيار- إنزال نوره الى الارض- لم يتلق أحد من آبائه على سقاح قط.
184 الفصل السابع: حالته صلّى الله عليه وسلم في الضروريات ...
ما يتمدح بقلته- كثرة الاكل دليل على النهم والحرص- قلته دليل على القناعة- كثرة النوم دليل على الفسولة- الشاهد على هذا- أخذ بالاقل منهما- البطن شر وعاء يملأ- كثرة النوم من كثرة الطعام والشراب-(1/749)
الصفحة الموضوعات من نام كثيرا خسر كثيرا- لم يمتليء جوفه شبعا- لا يسأل الطعام- اعتراض بحديث بريرة- الجواب عنه- الاتكاء هو التمكن للاكل- نومه كان قليلا- النوم على الجانب الايمن وحكمته.
190 الفصل الثامن: زواجه صلّى الله عليه وسلم وما يتعلق به..
النكاح دليل الكمال والصحة- عقلا- شرعا- النهي عن التبتل- لا يقدح الزواج في الزهد- كان زهاد الصحابة كثيري الزوجات- اعتراض- يحيى الحصور- تبتل عيسى عليه السلام- جواب الاعتراض- الحصور هو المعصوم من الذنوب- فضيلة زائدة- لَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ بَلْ زادته عبادة- حبه للنساء والطيب ليس لدنياه بل لآخرته- أعطي من القوة فابيح له من الحرائر ما لم يبح لغيره- تفضيله على الناس بأربع- الجاه- آفات الجاه- مكانته في القلوب قبل النبوة- هيبته في قلوب الناظرين اليه.
201 الفصل التاسع: ما يتعلق بالمال والمتاع ...
العامة تعظم صاحب المال- ليس المال فضيلة بنفسه ولكن بما يشترى به من المحمدة- المال بالحرص والبخل كالعدم- البخيل خازن مال غيره- ما أوتيه صلّى الله عليه وسلم من اموال الارض- لم يمسك منه درهما- راحته بالنفقة- زهده فيما سوى الضروري من نفقته وملبسه ومسكنه- المباهاة بالملابس ليست من خصال الشرف- المحمود نقاوة الثوب وكونه لبس مثله.
206 الفصل العاشر: الاخلاق الحميدة ...
الخصال التي اتفق العقلاء على مدح صاحبها- ثناء الشرع عليها- تعريف حسن الخلق- كان خلقه صلّى الله عليه وسلم القرآن- بعثت لأتمم مكارم الاخلاق-(1/750)
الصفحة الموضوعات ليست أخلاقه باكتساب- غرزت الاخلاق الحميدة في جبلتهم عليهم السلام- خلق يحيى عليه السلام- عيسى عليه السلام- سليمان عليه السلام- موسى وفرعون- ابراهيم عليه السلام- اسحق عليه السلام- استدلال ابراهيم على الله سبحانه- يوسف عليه السلام- بغضه للاوثان والشعر واعمال الجاهلية مذكان صغيرا- هل الاخلاق جبلة أم مكتسبة؟ - 216 الفصل الحادي عشر: العقل ...
العقل- فروع العقل- من علومه- نبي أمي- بحسب عَقْلِهِ كَانَتْ مَعَارِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 219 الفصل الثاني عشر: الحلم والاحتمال والعفو..
الفروق بين هذه الالفاظ- الحلم- الاحتمال- الصبر- العفو- لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إِلَّا صَبْرًا- كان أبعد الناس من الاثم- لم يبعث لعانا- دعاء نوح عليه السلام- نهاية الحنان- صفحه صلّى الله عليه وسلم- عفوه عنهم ودعاؤه لهم- سبب شفقته عليهم- غورث بن الحارث ومحاولة اغتياله صلّى الله عليه وسلم- خير الناس- عفوه عن اليهودية التي أرادت قتله- صبره على المنافقين- صبره على جفوة الاعراب وغلظتهم- كان لا ينتصر لنفسه بل لله عزّ وجل- حلمه على من أراد قتله- حلمه على من اغلظ له بالقول- من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلم انه يسبق حلمه غضبه، وانه لا تزيده شدة الجهل إلا حلما- موقفه من قريش بعد أن أمكنه الله منهم- موقفه من أبي سفيان بعد أن تمكن منه.
230 الفصل الثالث عشر: الجود والكرم..
التفريق بين معاني الجود والكرم والسماحة- الكرم- السماحة- السخاء- ما سئل عن شيء فقال: لا- كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان- يعطي عطاء من لا يخشى فاقة- الغاية في السخاء- كان لا يدخر شيئا لغد.(1/751)
الصفحة الموضوعات 235 الفصل الرابع عشر: الشجاعة والنجدة..
تعريف الشجاعة- النجدة- شجاعته يوم حنين- يحتمي الشجعان به عند اشتداد الحرب- كان أول مستبرىء للخبر عند الفزع- كان اول من يضرب عند الهجوم- قتل أبي بن خلف يوم أحد- شر الناس من قتله نبي.
241 الفصل الخامس عشر: الحياء والاغضاء..
تعريف الحياء- الاغضاء- كان صلّى الله عليه وسلم يعرض بما يكره- وصفه بذلك في التوراة.
244 الفصل السادس عشر: حسن العشرة والادب وبسط الخلق.
وصف علي له- لا يطوي عن أحد بشره- وصف ابن ابي هالة له صلّى الله عليه وسلم- يقبل الهدية مهما حقرت ويكافيء عليها- وصف الخادم أنس لسيده- اهتمامه بامور الناس- اكرام الناس باخلاق وبشاشة- كان أكثر الناس تبسما- خدم المدينة يأتون بالماء ليتبركوا.
251 الفصل السابع عشر: الشفقة والرحمة..
اعطاء الله له اسمين من أسمائه- عطاؤه يمحو البغضاء- الاعراب الجفاة كالناقة الشرود تتألف بالحكمة- سلامة صدره على اصحابه- شفقته على أمته- رحمته- شفقته على الكفار وطمعه في إيمان ذرياتهم- ينصح الناس بِالرِّفْقِ.
257 الْفَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْوَفَاءُ وَحُسْنُ الْعَهْدِ وصلة الرحم..
حسن وفائه- حسن العهد من الايمان- صلته الرحم- ان لهم رحما- حسن مقابلته للاحسان- بره بمرضعته- بره بأبيه وأمه وأخيه من الرضاعة 262 الفصل التاسع عشر: التوضع..(1/752)
الصفحة الموضوعات كان أشد الناس تواضعا- اختار أن يكون نبيا عبدا- لا تقوموا كما يقوم الاعاجم- انما انا عبد- يركب الحمار- حج عليه الصلاة والسلام على رحل رث- تواضعه عند الفتح- لا تفضلوا بين الانبياء- قيامه صلّى الله عليه وسلم باعمال البيت- إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ القديد- نهيه ان تقبل يده- صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ.
268 الْفَصْلُ العشرون: العدل والامانة والعفة وصدق اللهجة..
أعداؤه يعترفون له بذلك- تحكيمه في الجاهلية لرفع الحجر- لا يكذبونه ولكن يكذبون بما جاء به- هرقل يسأل عن صدقه- أصدقكم حديثا- كان يختار أيسر الامرين ما لم يكن إثما- تجزيء اوقاته- بلغوا حاجة من لا يستطيع ابلاغي- عصمة الله له قبل النبوة.
274 الفصل الحادي والعشرون: الوقار والصمت والتؤدة والمروءة وحسن الهدي..
كان أوقر الناس في مجلسه- أكثر جلوسه محتبيا- كان كثير السكوت- ضحكه التبسم- كان سكوته على أربع حالات- كلامه- ما حبب اليه من الدنيا- استعماله خِصَالِ الْفِطْرَةِ.
278 الْفَصْلُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ: الزُّهْدُ فِي الدنيا..
توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عالية- مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثلاثة ايام تباعا- أجوع يوما وأشبع يوما- الدنيا دار من لا دار له- عدد من الروايات في قوته وقوت اهله- فراشه ادم حشوه ليف- وطأته منعتني الليلة صلاتي- مالي وللدنيا.
284 الفصل الثالث والعشرون: الخوف من الله والطاعة له وشدة العبادة صلته بربه على قدر علمه به- قام حتى تورمت قدماه- أفلا أكون عبدا(1/753)
الصفحة الموضوعات شكورا صلاته صلّى الله عليه وسلم في الليل- كان متواصل الاحزان دائم الفكرة.
290 الفصل الرابع والعشرون: صفات الانبياء.
فضل الله بعض النبيين على بعض- ما بعث الله نبيا إلا كان في الذروة من قومه- استعراض كامل لأوصاف الانبياء في القرآن الكريم- أخاف أن أشبع فأنسى الجائع- بكاء سيدنا داود عليه السلام- يسمع الثناء عليه فيزداد تواضعا- أكره أن أعود لساني منطق السوء.
303 الفصل الخامس والعشرون: حديث الحسن عن ابن ابي هالة في جمع (الشمائل) ..
وجهه صلّى الله عليه وسلم- طوله- شعره- لونه- وجهه- حواجبه- أنفه- لحيته- عيناه- خداه- فمه وأسنانه- عنقه- خلقه- مشيه- خشوعه- منطقه- خلقه- غضبه- إشاراته- ضحكه- دخوله- تقسيم وقته- مخرجه- مجلسه- سيرته في جلسائه- احوال صحابته عنده- انواع سكوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
315 الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله 321 (الْبَابُ الثَّالِثُ) فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَمَشْهُورِهَا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ صَلَّى الله عليه وسلم.
325 الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: مَكَانَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انا خير أصحاب اليمين- انا خير السابقين- أنا اتقى ولد آدم واكرمهم على الله- انا اكرم الاولين والآخرين- أبواه صلّى الله عليه وسلم لم يلتقيا على سفاح قط- أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي- بعثت الى الاحمر والاسود- اني فرط لكم- لا نبي بعدي- فضيلته على الانبياء- عطاء الله له- وانما كان الذي اوتيته وحيا- بشارة عيسى بن مريم-(1/754)
الصفحة الموضوعات فضله على أهل السماء- فضله على الانبياء- دعوة ابي ابراهيم- غسلت الملائكة قلبه وبطنه- لو وزنته بأمته لوزنها- استشفع آدم عليه السلام بمحمد صلّى الله عليه وسلم- فتلقى آدم من ربه كلمات- عجائب شاهدة- تسمية محمد بركة وسنة.
343 الفصل الثاني: كرامة الاسراء..
فرضية الصلاة. لم يكن شق الصدر حين الاسراء- معنى السدرة- سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربه- عطاء الكريم- ما كذب الفزاد ما رأى- منتهى علوم جبريل- الاذان- معنى الحجاب ولمن يكون- منتهى علم الملائكة التنزيه.
359 الفصل الثالث: حقيقة الاسراء..
الاقوال في الاسراء وتم كان- الاسراء بالجسد- الاختلاف بشأن صلاته في المسجد الاقصى هل كانت أم لا- اسراء بالجسد والروح في القصة كلها- دليل ذلك- رؤيا عين لا رؤيا منام.
368 الفصل الرابع: ابطال الحجج.
375 الفصل الخامس: رؤيته لربه.
انكار عائشة للرؤية- ابن عباس يثبتها- أحمد بن حنبل يثبت الرؤية- توقف سعيد- جواز الرؤية عقلا في الدنيا- الدليل على الجواز- ليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها او امتناعها- نقص دلائل المانعين- دليل آخر للمانعين- الرد- الوجوب ليس فيه نص قاطع أيضا.
389 الفصل السادس: مناجاته لله تعالى..
393 الفصل السابع: الدنو والقرب..
لا دنو للحق ولا بعد(1/755)
الصفحة الموضوعات 398 الفصل الثامن: تفضيله يوم القيامة..
اول الناس خروجا اذا بعثوا- لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمُقَامَ غيري- ما نَبِيٌّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لوائي- اول شافع واول مشفع- دخول فقراء المؤمنين مع رسولهم الجنة- أكثر الناس تبعا- ابراهيم وعيسى من أمته- لا أفتح لاحد قبلك- مسافة الحوض- رواة حديث الحوض من الصحابة.
407 الفصل التاسع: في تفضيله بالمحبة والخلة..
صاحبكم خليل الله- وأنا حبيب الله- تفسير الخلة- المنقطع- المختص- الاصطفاء- الفقير- صفاء المودة- المحبة- الخلة- اقوى من النبوة- الخلة المحبة- التسوية- الخلة أرفع- المحبة أرفع من الخلة- حصول مزية الخلة وخصوصية المحبة- كلام جميل للتفرقة بين الحبيب والخليل- الخليل يصل بالواسطة- الحبيب يصل اليه به.
418 الفصل العاشر: في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود..
المقام المحمود- اخترت الشفاعة لانها أعم- فيأتون آدم- اذهبوا الى نوح- اذهبوا الى ابراهيم- عليكم بموسى- عليكم بعيسى- عليكم بمحمد- انا لها- اشفع تشفع- يضرب الصراط- فأكون اول من يجيز- مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ فِي أُمَّتِكَ مِنْ نقمة- اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي
434 الفصل الحادي عشر: الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر والفضيلة..
الوسيلة- الكوثر- صفة الكوثر.
438 الفصل الثاني عشر: الاحاديث الواردة في النهي عن تفضيله..
أحاديث في منع التفضيل- تأويلات العلماء- النهي قبل العلم بالتفضيل- كف عن التفضيل- تواضع- عدم تنقصهم- النبوة والرسالة سواء-(1/756)
الصفحة الموضوعات التفاضل في الخصوصيات- التفضيل بالنص- احوال التفضيل- توجيه آخر
444 الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وما تضمنته من فضيلة..
لي خمسة اسماء- التسمية في الكتاب- احمد- محمد- حماية الله ان يسمى احد قبله بذلك- الذين تسموا بمحمد قبل بعثته من العرب- معنى اسم الماضي- معنى اسم العاقب- الاسماء الخمسة- لي عشرة أسماء- طه- يس- الاسماء الخمسة الاخرى- لي في القرآن سبعة اسماء- هي ست- معنى قثم- القابه وسماته في القرآن- اوصاف وسمات أخرى- من اسمائه في الكتب المتقدمة- معنى البار قليط- السريانية- التوراة- كنيته المشهورة.
458 الفصل الرابع عشر: في تشريف الله له باسماء خاصة به تعالى..
سبب تأخر هذا الفصل وفصله عن غيره- الحميد- محمد- احمد- رؤوف رحيم- الحق المبين- نور- سبب تسميته بالنور- شاهدا- شهيدا- كريم- عظيم- في التوراة- في كتاب داود الجبار- معناه في حق النبي الكريم صلّى الله عليه وسلم- الخبير- الفتح- الفاتح- الخاتم- الشكور- العليم- الاول الآخر- ذو القوة المكين- الصادق المصدوق- الولي- المولى- العفو- الهادي مؤمن- امين- المهيمن- المقدس- العزيز المبشر- النذير- طه، يس.
473 الْفَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: اسْتِدْرَاكٌ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ والمخلوق..
حقيقة التوحيد- ليس كمثله شيء.
479 (الباب الرابع) فيما أظهره الله عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الخصائص والكرامات
481 الفصل الاول: مقدمة..(1/757)
الصفحة الموضوعات الفتاه لاهل ملته- اتينا منها بالمحقق- عرفت ان وجهه ليس بوجه كذاب- بلغن قاموس البحر لا يخيس بكم ما دل على خير إلا كان اول آخذ به.
486 الفصل الثاني: بين النبوة والرسالة..
معنى الرسول- الرسول والنبي- الدليل- القول الصحيح- اول الرسل وآخرهم- عدد الانبياء- عدد الرسل- اصل الوحي- معنى آخر للوحي.
491 الفصل الثالث: معنى المعجزات..
معنى المعجزة- انواعها- اكثر الرسل معجزة- معجزة القرآن- أقسام معجزاته صلّى الله عليه وسلم- القسم الثاني- انشقاق القمر نص القرآن عليه- أن كان ذلك- هذا يلحق بالقطعي- أثر الزمن في ازالة الباطل وتثبيت الحق.
500 الفصل الرابع: في اعجاز القرآن.
اربعة وجوه- فرسان الكلام- الافتراء أسهل- التقريع والتسفية- نكوص عن المعارضة- مباهتة- ادعاء وعجز- مسيلمة- الوليد بن المغيرة- اعرابي يسجد- الاصمعي والجارية- 511 الفصل الخامس: اعجاز النظم والأسلوب..
مخالفة أساليب العرب- الوليد والقرآن- ما هو بكاهن- ما هو بمجنون- ما هو بشاعر- ما هو بساحر- عتبة والقرآن- النضر والقرآن- اسلام أبي ذر- وجه عجزهم عنه..
518 الفصل السادس: الإخبار عن المغيبات..
لتدخلن المسجد الحرام- غلبت الروم- اظهاره على الدين كله- الاستخلاف- الفتح- حفظ القرآن-(1/758)
الصفحة الموضوعات 522 الفصل السابع: اخباره عن القرون السالفة والأمم البائدة..
الاخبار عما مضى- اسئلة اهل الكتاب- ما أنكر أحدهم شيئا- احضار التوراة ممكن-
526 الفصل الثامن: التحدي والتعجيز في قضايا واعلامهم انهم لا يفعلونها..
تمني الموت- المباهلة-
529 الفصل التاسع: روعته في السمع وهيبته في القلوب.
تأثيره النفسي- اعجاز الجرس-
533 الفصل العاشر: بقاؤه على الزمن..
525 الفصل الحادي عشر: وجوه أخرى للاعجاز..
قارئه لا يمل- شهادة الجن- علوم غير معهودة- أنباء الأمم- من طلب الهدى من غيره اضله الله- منظوم لم يعهد- تيسير حفظه- 543 الفصل الثاني عشر: في انشقاق القمر وحبس الشمس..
اجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه- معارضته- رد وأدلة- رد الشمس- حديث أسماء ثابت-
550 الفصل الثالث عشر: نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِهِ بِبَرَكَتِهِ..
لا يمكن الكذب على الكثرة وهم سكوت-
555 الفصل الرابع عشر: تفجير الماء ببركته..
ولكن الله سقانا- 651 الفصل الخامس عشر: تكثير الطعام..
خبر الزاد الذي لو ورده أهل الأرض لكفاهم- مزود أبي هريرة- ابو هريرة واللبن- وليمة علي على فاطمة..
573 الفصل السادس عشر: في كلام الشجر وانقيادها.(1/759)
الصفحة الموضوعات السحرة تشهد- تسليم الشجر عليه وتقبيل الاعرابي يديه- فانقادت كالبعير- النخل والحجارة يسرن لِحَاجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استأذنت ان تسلم علي.
581 الفصل السابع عشر: حنين الجذع..
حنين الجذع في نفسه مشهود- الخبر به متواتر- اختيار الجذع لدار البقاء على دار الفناء-
588 الفصل الثامن عشر: في سائر الجمادات ...
تسبيح الطعام- تسبيح الحصا- أمنت اسكفة الباب- ارتجاف أحد- ارتجاف المنبر- انهيار أصام الكعبة- بحيرا الراهب- الفيء يميل إِلَيْهِ.
594 الْفَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: فِي الْآيَاتِ فِي ضروب الحيوانات..
داجن تقر وتثبت بحضرته- شهادة الضب- حديث الذئب للراعي- صنم وطائر يتكلمان- رجوع الغنم الى اصحابهما- سجود الغنم له- سجود بعير- خضوع الجمل- جمل يشتكي- الناقة العضباء- حَمَامَ مَكَّةَ أَظَلَّتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- حمام الغار- العنكبوت- اقتراب البدنات اليه لينحرها- قصة الغزالة- خضوع الاسد لرسوله- الاسد يدل على الطريق- شهادة ناقة- العنزة تروي القوم- طاعة الفرس- تعلم اللغات 607 الفصل العشرون: إحياء الموتى..
الشاة المسمومة- كيفية الكلام- مذهب اهل السنة- مذهب المعتزلة- رد مذهب المعتزلة- صبي ابكم يتكلم- وليد يتكلم- مبارك اليمامة- موؤدة تتكلم- ميت يعود الى الحياة- ميت يتكلم.
617 الفصل الحادي والعشرون: إبراء المرضى وذوي العاهات..
رد عين بعد قلعها- إبراء جرح- حديث الاعمى- برسول الله صلّى الله عليه وسلم-(1/760)
الصفحة الموضوعات شفاء الاستسقاء- شفاء أعمى- جروح تشفى- شفاء عين الامام علي- رده يدا بعد ما قطعت- طفل لا يتكلم ابرىء- مجنون يشفى- حروق تبرأ- سلعة تزول- حياء في الجارية من أثر لقمته صلّى الله عليه وسلم.
625 الفصل الثاني والعشرون: اجابة دعائه صلّى الله عليه وسلم..
دعاؤه لأنس- البركة في الذرية- البركة في مال عبد الرّحمن بن عوف- دعاؤه لمعاوية- استجابة دعوة سعد- دعوة لعمر- دعاؤه بالسقيا-- دعاؤه لأبي قتادة- دعاؤه للنابغة- دعاؤه لابن عباس- دعاؤه لعبد الله بن جعفر- دعاؤه للمقداد- دعاؤه لعروة- دعاؤه لأم ابي هريرة- دعاؤه لعلي- دعاؤه لفاطمة- دعاؤه للطفيل- دعاؤه على مصر ثم لهم- دعاؤه على كسرى- دعاؤه على صبي- دعاؤه على الذي يأكل بشماله- دعاؤه على عتبة- دعاؤه على الذين آذوه- دعاؤه على الحكم- دعاؤه على محلم.
636 الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: فِي كَرَامَاتِهِ وَبَرَكَاتِهِ وَانْقِلَابِ الاعيان له فيم لَمَسَهُ أَوْ بَاشَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
فرس ابي طلحة- نشاط الجمل- نشاط فرس جعيل- حمار يهملج- بركة شعراته في قلنسوة خالد- الاستشفاء بجبته- الاستشفاء بقصعته- قضيب النبي صلّى الله عليه وسلم- بئر قباء- بئر دار أنس- ماء نعمان- لسانه أروى الحسن والحسين- عكة أم مالك- غرس النخيل لسلمان- شربة السويق- العرجون يضيء ويضرب الشيطان- سيف عكاشة جذل حطب- سيف من عسيب نخل- شاه ام معبد- شاة أنس- ماء يتحول الى لبن وعليه زبدة- بركة عمير بن سعد- طيب عتبة- غرة عائذ بن عمرو- الاغر- بركة رأس حنظلة- جمال زينب- ابراء مجانين(1/761)
الصفحة الموضوعات- يوم حنين- ابو هريرة يشكو النسيان- صار افرس العرب- ضرع الرجال طولا وتماما.
الفصل الرابع والعشرون: مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ وَمَا يَكُونُ إخباره بما يكون حتى قيام الساعة- ويل للعرب من شر قد اقترب!! أهل المغرب ظاهرون على الحق حتى تقوم الساعة.
680 الفصل الخامس والعشرون: عصمة الله له من الناس وكفايته من أذاهم انصرفوا فقد عصمني ربي- من شاء فليخذلني- حمالة الحطب- عدم رؤيتها له- عند الهجرة- حادثة سراقة- الراعي ينسى- ابو جهل والصخرة- طمس على بصره- غدر بني قريظة- خيانة حيي وغدره- ابو جهل وخندق النار- شواظ من نار يد النبي صلّى الله عليه وسلم سكن للقلب- أفأضربك.
694 الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعَارِفُهُ وَعُلُومُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم..
أنواع الرؤيا- أنساب- علمه بالرسم- الذين يلحدون اليه- رد الحجج وابطالها.
708 الْفَصْلُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْبَاؤُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ..
في صورة رجل- في صورة دحية- رؤية الجن- نغمة الجن- هدم خالد للعزى وقتله السوداء- أسره للشيطان.
715 الفصل الثامن والعشرون: أخباره وصفاته وعلامات رسالته عند أخيار ورهبان وعلماء ذلك الزمان الذين نقلوا أخباره عن التوراة من أسلم- اعترافهم- هواتف الجن.
726 الفصل التاسع والعشرون: ما حدث عند مولده صلّى الله عليه وسلم..
ولد رافعا رأسه- خروج النور عند ولادته- تدلي النجوم- رؤية قصور(1/762)
الصفحة الموضوعات الروم- البركة عند حليمة- إيوان كسرى- بحيرة طبرية- خمود النار- صقيلا دهينا كحيلا- رصد الشياطين حمايته من امور الجاهلية- نهيت عن التعري- إظلال الغمام- إظلال الشجر- لا ظل لشخصه صلّى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة.
734 الفصل الثلاثون: خاتمة وتذييل.
معجزات لنبينا صلّى الله عليه وسلم أظهر من معجزات غيره- كثرة معجزاته ومعجزات القرآن- البلاغة والنظم- الاخبار بعلوم الغيب- وضوح المعجزات والسحر زمن موسى- الطب زمن عيسى- معجزة خالدة لا تبيد- مذهب الصرفة- عبادة بني اسرائيل.
745 مسرد الفصول والابواب والعناوين الجانبية.(1/763)
الجزء الثاني
القسم الثاني
مُقَدِّمَةُ الْقِسْمِ الثَّانِي
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وفّقه الله تعالى:
وَهَذَا قِسْمٌ لَخَّصْنَا فِيهِ الْكَلَامَ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَمَجْمُوعُهَا فِي وُجُوبِ تَصْدِيقِهِ، وَاتِّبَاعِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَمُنَاصَحَتِهِ، وَتَوْقِيرِهِ، وَبِرِّهِ، وَحُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ، وَزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.(2/5)
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَفِيهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ(2/7)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَرْضُ الْإِيمَانِ بِهِ
إِذَا تَقَرَّرَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ثُبُوتُ نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةُ رِسَالَتِهِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» «1» وَقَالَ: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» «2» . وقال: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ» «3» الْآيَةَ.. فَالْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ «4» مُتَعَيَّنٌ لَا يَتِمُّ إِيمَانٌ «5» إِلَّا بِهِ.. وَلَا يَصِحُّ إِسْلَامٌ «6» إِلَّا مَعَهُ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً» «7» .
__________
(1) «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» التغابن آية «8»
(2) «وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» الفتح آية «8 و 9» .
(3) «الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ألاعراف آية «157» .
(4) لان الله أمر به مرارا.
(5) وفي نسخة «الايمان» .
(6) وفي نسخة «الاسلام» .
(7) الفتح آية «13» .(2/9)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ..» «1»
قَالَ الْقَاضِي «2» أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَالْإِيمَانُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ تَصْدِيقُ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَةِ اللَّهِ لَهُ، وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَمَا قَالَهُ.. وَمُطَابَقَةُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ اللِّسَانِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَإِذَا اجْتَمَعَ التَّصْدِيقُ به بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان تَمَّ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «3» نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ «4» عَبْدِ اللَّهِ «5» بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وأن محمدا رسول الله..
__________
(1) اخرجه القاضي من عند مسلم وهو في الايمان ورواه البخاري أيضا، وفي رواية اخرجها الستة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ السبوطي: وهو متواتر. ولفظه (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا اله الا الله وأني رسول الله، فاذا قالوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على الله.) وفي رواية عن انس رضي الله تعالى عنه: قيل وما حقها؟ قال زنا بعد احصان، او كفر بعد اسلام، او قتل نفس فيقتل بها.
(2) القاضي أبو الفضل عياض المؤلف رضي الله تعالى عنه.
(3) وقد أخرجه الشيخان.
(4) وهذه رواية مسلم عن ابن عمرو فيها (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فاذا فعلوا الخ) .
(5) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «3» .(2/10)
وَقَدْ زَادَهُ وُضُوحًا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ إِذْ قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.. فَقَالَ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) «1» : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.. وَذَكَرَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ الْحَدِيثَ «2» .
فَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ مُحْتَاجٌ «3» إِلَى الْعَقْدِ «4» بِالْجَنَانِ «5» ..
وَالْإِسْلَامَ بِهِ مُضْطَرٌّ إِلَى النطق باللسان.. وهذه الحالة «6» الْمَحْمُودَةُ التَّامَّةُ «7» .. وَأَمَّا الْحَالُ الْمَذْمُومَةُ، فَالشَّهَادَةُ بِاللِّسَانِ دُونَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ.. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ «8» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ..» «9» أَيْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ
__________
(1) هذه الجملة غير موجودة في بعض النسخ.
(2) وتمامه: (واليوم الاخر. وتؤمن بالقدر خيره وشره.) والحديث موجود في الاربعين النووية وقد رواه الستة وغيرهم.
(3) وفي نسخة (يحتاج) .
(4) العقد: الاعتقاد الجازم.
(5) الجنان: بفتح الجيم وهو القلب سمي به لاستتاره او استنار ما فيه من جنه اذا ستره.
(6) وفي نسخة (الحال) .
(7) وفي نسخة (هي المحمودة التامة) .
(8) النفاق: هو اظهار الايمان وابطان الكفر. مشتق من نافقاء اليربوع وهو ما يخفيه من أبواب جحره ليخرج منه اذا أحس بصائده.
(9) سورة المنافقين آية «1» .(2/11)
وَتَصْدِيقِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ.. فَلَمَّا لَمْ تُصَدِّقْ ذَلِكَ ضَمَائِرُهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَخَرَجُوا عَنِ اسْمِ الْإِيمَانِ.. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حُكْمُهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ (إِيمَانٌ) «1» .. وَلَحِقُوا بِالْكَافِرِينَ «2» فِي الدَّرْكِ «3» الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.. وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ حكم الإسلام بإظهار شهادة اللسان فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَئِمَّةِ وَحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ أَحْكَامُهُمْ عَلَى الظَّوَاهِرِ بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ عَلَامَةِ الْإِسْلَامِ.. إِذْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَشَرِ سَبِيلٌ إِلَى السَّرَائِرِ.. وَلَا أُمِرُوا بِالْبَحْثِ عَنْهَا.. بَلْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا، وَذَمَّ ذَلِكَ وَقَالَ «4» : «هَلَّا»
شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» وَالْفَرْقُ «6» بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَقْدِ مَا جُعِلَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الشَّهَادَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالتَّصْدِيقُ مِنَ الْإِيمَانِ.. وَبَقِيَتْ حَالَتَانِ أُخْرَيَانِ بَيْنَ
__________
(1) كلمة (ايمان) غير موجودة في بعض النسخ.
(2) وفي نسخة (بالكفار) .
(3) الدرك: بفتح الراء وسكونها وهو ما ينزل به لاسفل ضد الدرج يعني أنهم في تعرجهم وآخر طبقة منها.
(4) وقاله صلى الله عليه وسلم لاسامة بن زيد في حديث صحيح رواه البخاري لما اضطر بعض الكفار فأسلم فقتله أسامة لاعتقاده أن اسلامه بلسانه خوفا من القتل فقال له صلى الله عليه وسلم: أقتلته بعد ان أسلم؟!! هلا شققت عن قلبه. وقد رواه مسلم أيضا ورواه البيهقي عن عمران بن الحصين.
(5) هلا: اذا دخلت على الماضي افادت التوبيخ واذا دخلت على المضارع افادت الامر والحض.
(6) وفي نسخة (وللفرق) .(2/12)
هَذَيْنِ.. إِحْدَاهُمَا أَنْ يُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ ثُمَّ يُخْتَرَمَ «1» قَبْلَ اتِّسَاعِ وَقْتٍ لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ.. فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ الْقَوْلَ وَالشَّهَادَةَ «2» بِهِ.
وَرَآهُ بَعْضُهُمْ مُؤْمِنًا مُسْتَوْجِبًا لِلْجَنَّةِ «3» لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» «يَخْرُجُ «5» مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» فَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى مَا فِي الْقَلْبِ.. وَهَذَا مُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ غَيْرُ عَاصٍ وَلَا مُفَرِّطٍ بِتَرْكِ غَيْرِهِ.. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْوَجْهِ.
- الثَّانِيَةُ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ وَيُطَوِّلَ «6» مَهَلَهُ «7» ، وَعَلِمَ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا جُمْلَةً، وَلَا اسْتَشْهَدَ «8» فِي عُمُرِهِ وَلَا مَرَّةً، فَهَذَا اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا «9» .
- فَقِيلَ هُوَ مُؤْمِنٌ، لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ.. وَالشَّهَادَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ
__________
(1) يخترم: على صيغة المجهول اي يقتطع ويموت بخاء معجمة وتاء مثناة فوقبة وراء مهملة.
(2) لان الشهادة جزء من الايمان وركن لا شرط، وتعريفه الايمان عند الاشاعرة هو: اقرار باللسان وتصديق بالجنان.. فلا ايمان الا بهما الا عند العجز عن النطق.
(3) اذ نزل منزلة العاجز.
(4) وهو بعض من حديث في الصحيحين.
(5) وقال (يخرج) لانهم قد دخلوا النار فهم عصاة معذبون اما بذنوب أخرى او بترك الشهادة وعلى ذلك فالقول الاول هو الاظهر.
(6) يطول: بضم التحتية وفتح الطاء المهملة وتشديد الواو المكسورة
(7) مهلة: بميم وهاء مفتوحتين مفعول يطول ويجوز تسكين هائه مع فتح ميمه وضمها وهي التؤدة والتأني فأريد به لازمه وهو طول الزمان والمراد زمان سكوته وعدم نطقه بالشهادة.
(8) وفي رواية (شهد)
(9) أيضا: من آض يئيض أيضا اذا رجع.(2/13)
فهو «1» عاص بتركها غير مخلد «2» . وَقِيلَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ «3» حَتَّى يُقَارِنَ عَقْدُهُ شَهَادَةَ اللِّسَانِ «4» ، إِذِ الشَّهَادَةُ إِنْشَاءُ عَقْدٍ، وَالْتِزَامُ إِيمَانٍ.
وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ مَعَ الْعَقْدِ، وَلَا يَتِمُّ التَّصْدِيقُ مَعَ الْمُهْلَةِ إِلَّا بِهَا..
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهَذَا نَبْذٌ «5» يُفْضِي «6» إِلَى مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَبْوَابِهِمَا.. وَفِي الزِّيَادَةِ فِيهِمَا وَالنُّقْصَانِ «7» ..
وَهَلِ التَّجَزِّي «8» مُمْتَنِعٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ لا يصح فيه جملة، إنما يَرْجِعُ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ؟!! أَوْ قَدْ يُعْرَضُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ وَتَبَايُنِ «9» حَالَاتِهِ، مِنْ قُوَّةِ يَقِينٍ، وَتَصْمِيمِ اعْتِقَادٍ، وَوُضُوحِ مَعْرِفَةٍ. وَدَوَامِ حَالَةٍ، وَحُضُورِ قَلْبٍ.. وَفِي بَسْطِ هذا
__________
(1) وفي نسخة (وهو) .
(2) وفي نسخة (غير مخلد في النار) وعند أهل السنة ان أهل الكبائر لا يخلدون في النار
(3) لان الشهادة إما شرط لصحة الايمان او شطر.
(4) وفي نسخة كلمة (اللسان) محذوفة.
(5) نبذ: بفتح النون وسكون الموحدة وذال معجمة أي شيء قليل.. وأصله الرمي والطرح فكأنه لقلته مما يطرح. وفي نسخة (هذه نبذ) بضم النون ففتح الموحدة جمع نبذة بزنة غرفة وقيل انه بضم فسكون والمعروف ما قدمناه.
(6) يفضي: بضم المثناة الفوقية وسكون الفاء وكسر الضاد المعجمة قبل ياء ساكنة مضارع أفضى بمعنى اوصل وأصل معناه الايصال الى الفضاء والمتسع.
(7) أي الكلام في أنهما يقبلان زيادة ونقصا. فيه خلاف مشهور.
(8) بالزيادة والنقص فيهما.
(9) تباين: افتراق.(2/14)
خُرُوجٌ عَنْ غَرَضِ التَّأْلِيفِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا غُنْيَةٌ «1» فيما قصدنا إن شاء الله تعالى «2» .
__________
(1) غنية: بضم الغين وسكون النون وفتح الياء أي كفاية مغنية عن غيره.
(2) مذهب المحققين الاظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الادلة. ولا شك في ان إيمان الصديقين أقوى من ايمان غيرهم.(2/15)
الْفَصْلُ الثَّانِي وُجُوبُ طَاعَتِهِ
وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى به، قال الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» «1» وقال: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» «2» وقال: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» «3» وقال: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» «4» وَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» «5» وَقَالَ: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «6» وقال: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
__________
(1) «وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» الانفال آية «20» .
(2) «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» سورة النور آية «54» .
(3) سورة آل عمران اية «132» .
(4) «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» سورة النور آية «54» .
(5) «وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» النساء «79» .
(6) «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» سورة الحشر آية «7» .(2/16)
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ ... «1» الْآيَةَ وَقَالَ: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «2» .
فَجَعَلَ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ «3» طَاعَتَهُ، وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ.. وَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِسُوءِ الْعِقَابِ.
وَأَوْجَبَ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ..
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَئِمَّةُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ فِي الْتِزَامِ سُنَّتِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ.. وَقَالُوا: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ وَقَالُوا: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ «4» يُطِعِ اللَّهَ
__________
(1) الاية النساء «68» وبقيتها. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين.. وحسن اولئك رفيقا. ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) نزلت هذه الاية في ابن عبد ربه الانصاري حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم اذا مت كنت في عليين فلا نراك. وذكر شدة حزنه لذلك فنزلت الاية.. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى الله أن يعمي بصره حتى لا يرى غيره فعمي مكانه. وهو الذي رأى واقعة الادان.. وقيل نزلت في ثوبان مولاه صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصبر عن رؤيته فحزن حتى تغير لونه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ما بي ضر غير اني لا اصبر عنك فذكرت الاخرة وأني لا أراك ثمة لرفعة مقامك وهبوط منزلتي فنزلت الاية.
(2) الاية «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» النساء آية «63» .
(3) ولذا فان الذي لا يقبل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون كافرا.. أرأيت الى عمر بن الخطاب لما جاءه اليهودي والمنافق الذي لم يرض بحكم رسول الله كيف ضرب عنقه وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه.
(4) وفي نسخة (سننه) . وفي الام للشافعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا الفين احدكم متكئا على أريكته يأتيه ما أمرت او نهيت فيقول: لا أدري!! .. ما وجدنا في كتاب الله عملنا به) .(2/17)
فِي فَرَائِضِهِ.. وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»
عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ:
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) «2» .
وَقَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «3» : يُقَالُ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ وَالرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ.. وَقِيلَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَالرَّسُولَ فِيمَا بَلَّغَكُمْ وَيُقَالُ: أَطِيعُوا اللَّهَ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالنَّبِيَّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بالنبوة «4» .
قال أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ «5» الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ «6» يَقُولُ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.. وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ.. وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي.. وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي «7» .. فَطَاعَةُ الرَّسُولِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، إِذِ اللَّهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ.. فَطَاعَتُهُ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَطَاعَةٌ لَهُ.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ. «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» «8»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «6» .
(2) سورة الحشر آية «7» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(4) وفي نسخة (بالرسالة) .
(5) ابو سلمة بن عبد الرحمن تقدمت ترجمته في ص «286» رقم «3» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «30» رقم «5» .
(7) الحديث رواه الشيخان.
(8) سورة الاحزاب اية «66» .(2/18)
فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّمَنِّي..
وَقَالَ «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ.. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ..» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3» : كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى.. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. وَمَنْ يَأْبَى؟
قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى..»
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ «4» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ «5» كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ.. وَإِنِّي أنا النذير العريان «6» .. فالنجاء «7» ..
__________
(1) وفي نسخة (وقد قال) .
(2) فيما رواه الشيخان وأول الحديث (دعوني ما تركتكم انما هلك من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.. الخ) . وسببه انه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة: «أن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا» .. فقال رجل: «أكل عام يا رسول الله؟!» فسكت حتى قالها ثلاثا فقال: «لو قلت نعم لو جبت ولما استطعتم..» ثم قال: «دعوني» (الحديث) وزاد الدارقطني: فنزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تعبد لكم تسؤكم) .
(3) رواه الحاكم بلفظ: «كلكم يدخل الجنة الا من ابى..» الحديث. وفي الجامع الصغير برواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه (كل أمتي يدخلون الجنة ألا من أبى.. من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد ابى..»
(4) رواه البخاري في صحيحه
(5) «به» ليست موجودة في رواية البخاري.
(6) كان من عادة العربي اذا أخافه عدو خلع ثيابه ولوح بها لقومه حتى يدركوا الخطر قبل وصوله اليهم فالنذير العاري أبلغ في الدلالة على الخطر.
(7) في رواية البخاري (النجاء) مكررة مرتين وهي منصوبة على المصدر بعامل مخذوف ومعناه الخلاص والفرار.(2/19)
فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا «1» ، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا..
وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ «2» الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ «3» .. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ..» .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «4» فِي مَثَلِهِ «5» كَمَثَلِ مَنْ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً «6» .. وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ.. وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ.. وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ «7» بَيْنَ الناس.
__________
(1) أدلجوا: بالتخفيف الدال سير اول الليل وبالتشديد لها سير آخره.
(2) صبحهم: جاءهم في الصباح.
(3) اجتاحهم: استأصلهم. والجاتحة الافة التي تصيب الثمار فتستأصلها.
(4) الذي رواه الشيخان.
(5) مثله: بفتحتين أي تمثيله صلى الله عليه وسلم.
(6) مأدبة: بميم مفتوحة وهمزة ساكنة ودال مهمله مثلثة والاشهر الضم ثم الفتح وباء موحدة وهاء وهي الاطعمة الكثيرة النفيسة المعدة لاكرام الضيوف والاصحاب.
(7) فرق: بفتح فسكون أي فارق بين المؤمنين والكافرين.(2/20)
الفصل الثالث وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه
وأما وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم وامتثال سنته والاقتداء بهديه فقد قَالَ تَعَالَى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «1» وَقَالَ: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2» وَقَالَ: «فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» «3» .. إِلَى قَوْلِهِ تَسْلِيمًا» .
أَيْ ينقادوا لحكمك.. يقال «سلّم» و «استسلم» و «أسلم» إذا انقاد.. وقال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» «4» الاية.
__________
(1) «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة آل عمران اية «31» .
(2) سورة الاعراف آية «157» .
(3) وتتمتها (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) هذه الاية نزلت في حق بعض الانصار لما اختصم مع الزبير في ماء سقى به أرضه. سورة النساء اية «64» .
(4) الاية «وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» سورة الاحزاب اية «21» .(2/21)
قَالَ مُحَمَّدُ «1» بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: «الْأُسْوَةُ» فِي الرَّسُولِ..
الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لِسُنَّتِهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ..
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنَاهُ
وَقِيلَ: هُوَ عِتَابٌ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عنه وقال سهل «2» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
«صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» «3» قَالَ بِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ.. فَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذَلِكَ وَوَعَدَهُمُ الِاهْتِدَاءَ بِاتِّبَاعِهِ.. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُزَكِّيَهُمْ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيَهْدِيَهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.. وَوَعَدَهُمْ مَحَبَّتَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى «4» وَمَغْفِرَتَهُ إِذَا اتَّبَعُوهُ وَآثَرُوهُ عَلَى أَهْوَائِهِمْ، وَمَا تَجْنَحُ «5» إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ.. وَأَنَّ صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ بِانْقِيَادِهِمْ لَهُ، وَرِضَاهُمْ بِحُكْمِهِ، وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ وَرُوِيَ «6» عَنِ الْحَسَنِ»
: «أَنَّ أَقْوَامًا قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ..» «8» الاية.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «78» رقم «5» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «6» .
(3) سورة الفاتحة اية «7» .
(4) اي قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . سورة ال عمران آية «31» .
(5) تجنح: تميل والجنح أصله الميل على احد الشقين مأخوذ من الجناح.
(6) كما في تفسير ابن المنذر.
(7) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(8) سورة آل عمران اية «31» .(2/22)
وَرُوِيَ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ «1» بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِ.
وَأَنَّهُمْ قَالُوا: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» «2» .. «وَنَحْنُ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ وَقَالَ الزَّجَّاجُ «3» : مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله- أَنْ تَقْصِدُوا طَاعَتَهُ- فَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ إِذْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ طَاعَتُهُ لَهُمَا وَرِضَاهُ بِمَا أَمَرَا.. وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ عَفْوُهُ عَنْهُمْ وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ.. وَيُقَالُ: الْحُبُّ مِنَ اللَّهِ عِصْمَةٌ وَتَوْفِيقٌ، وَمِنَ الْعِبَادِ طَاعَةٌ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ «4» :
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَيُقَالُ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعْظِيمُهُ لَهُ، وهيبته منه.. ومحبة الله له رحمته وَإِرَادَتُهُ الْجَمِيلَ لَهُ.. وَتَكُونُ بِمَعْنَى مَدْحِهِ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ «5» : فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ والإرادة والمدح كان
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «621» رقم «7» .
(2) سورة المائدة آية «20» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «88» رقم «8» .
(4) وهو المحمود بن الحسن الوراق كما في زهر الاداب للحصري، وقيل المنصور الفقيه وهو بليغ مفلق كان في أول الدولة العباسية وكان كثيرا ما يأخذ حكم المتقدمين من الفلاسفة وغيرهم فينظمها في شعره. وقيل ان قائله رابعة العدوية.. وفي الاحياء ان قائله عبد الله بن المبارك.
(5) تقدمت ترجمته في ص «470» رقم «3» .(2/23)
مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ.. وَسَيَأْتِي بَعْدُ فِي ذِكْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ غَيْرُ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ «1» فِي حَدِيثِهِ فِي مَوْعِظَةِ «2» النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ.. عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ «3» .. وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ..»
زَادَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ «4» بِمَعْنَاهُ «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النار «5» » .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «334» رقم «5» .
(2) وذلك أن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: اتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه قوله تعالى (ولا على الذين اذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) وقلنا: أتيناك زائرين وعايدين ومقتبسين.. فقال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد الينا؟ فقال: اوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان عبدا حبشيا فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا.. فعليكم بسنتي.. الحديث) . رواه علي عن الوليد كذا قال الذهبي في تاريخه، ومن خطه نقلت.. وقد أخرجه أبو داود في السنة عن احمد بن حنبل عن الوليد بن مسلم بالسند الذي ساقه القاضي والترمذي في العلم. وقال حسن صحيح وابن ماجة في السنة والمصنف عدل عن السنن الثلاث وأخرجه من سند اخر طلبا للعلو.
(3) النواجذ: بالذال المعجمة جمع ناجذ وهي: اقصى الاضراس وهي أربعة او الانياب او التي تليها والمراد الاجتهاد في التمسك بها فهو استعارة تمثيلية لما ذكر لا كناية ويجوز ان تكون استعارة تصريحية تبعية.
(4) تقدمت ترجمته في ص «154» رقم «1»
(5) رواه مسلم.(2/24)
وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي رَافِعٍ «2» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَلْفَيَنَّ «3» أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا «4» عَلَى أَرِيكَتِهِ «5» يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي.. مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» ..
وَفِي حَدِيثِ «6» عَائِشَةَ «7» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ.. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ قَوْمٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ..
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً..»
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «8» أنه قال: «الْقُرْآنَ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ.. وَهُوَ الْحَكَمُ «9» فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِحَدِيثِي وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ جَاءَ مَعَ الْقُرْآنِ «10»
.. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْقُرْآنِ وَحَدِيثِي خَسِرَ
__________
(1) كما رواه الشافعي في ألام، ورواه ابو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح
(2) تقدمت ترجمته في ص «196» رقم «2» .
(3) لا ألفين: بضم الهمزة وسكون اللام وكسر الفاء وفتح المثناة التحتية وتشديد النون، وهنا نفي بمعنى النهي أي لا اجدن وألفى بمعنى وجد قال تعالى «وألفيا سيدها لدى الباب.»
(4) متكئا: اي مائلا مستندا معتمدا وهو بالهمزة والياء أيضا.
(5) أريكته: هي سرير مزين يتخذ في بيت.
(6) مروي في الصحيحين.. ولفظ هذا الحديث الذي اتى به المؤلف من البخاري
(7) عائشة: تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(8) كما رواه أبو الشيخ والديلجي وأبو نعيم عن الحكم بن عمير.
(9) الحكم: بفتحتين أي الذي يحكم على الناس بما تضمنه من الاحكام والحكم من الامثال والموعظة.
(10) أي جاء يوم القيامة محشورا مع القرآن وفيه اشارة الى أن الحديث لا يفارق القرآن وأنهما كشيء واحد لان السنة تبين القرآن.(2/25)
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.. أُمِرَتْ أُمَّتِي أَنْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِي، وَيُطِيعُوا أَمْرِي، وَيَتَّبِعُوا سُنَّتِي.. فَمَنْ رَضِيَ بِقَوْلِي فَقَدْ رَضِيَ بِالْقُرْآنِ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» «1»
الْآيَةَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2»
: «مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَعَنْ «3»
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا «4»
» . وَعَنْ «5»
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ فَمَا سِوَى «6»
ذلك فهو فضل «7»
__________
(1) سورة الحشر اية «7» .
(2) رواه عبد الرزاق عن الحسن مرسلا بلفظ (من استسن بسنتي..) والمؤلف رواه بلفظ (من اقتدى بي) . والقسم الاخير من الحديث موجود في الصحيحين.
(3) لم يخرجه السيوطي بهذا اللفظ قال الدلجي لا أدري من روى هذا الحديث ولعله أنكره من حيث اسناده الى أبي هريرة وألا فقد ورد من حديث جابر كما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة ولفظه «أما بعد فان أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وان افضل الهدى هدى محمد وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وروى البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وابو نصر السحري في الاباتة عن أبي الدرداء مرفوعا وابن أبى شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفا هذا الحديث بلفظ اخر مطول.
(4) محدثاتها: جمع محدثة بالفتح وهي البدعة التي تخالف الكتاب والسنة واجماع الأمة
(5) رواه أبو داود وابن ماجة.
(6) وفي نسخة (وما سوى) .
(7) فضل: أي زائد لا يفتقر الى علمه.(2/26)
آيَةٌ مُحْكَمَةٌ «1»
. أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ «2»
.. أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ «3»
» .
وَعَنِ الْحَسَنِ»
بْنِ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «5»
:
«عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ» وَقَالَ «6»
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ تَمَسَّكَ «7»
بِهَا» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «8»
: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي له أجر مئة شَهِيدٍ» .
وَقَالَ «9»
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً «10»
وَإِنَّ أُمَّتِي تَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي «11»
أَنَا عَلَيْهِ اليوم وأصحابي.»
__________
(1) محكمة اي غير متشابهة لقوله تعالى (منه ايات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات) . او غير منسوخة.. ويطلق المحكم على جميع القران أيضا كما قال تعالى (أحكمت آياته) .
(2) أي دائمة مستمرة لم تنسخ لدوام العمل بها.
(3) أي لا جور فيها. وفي هذا الحديث إشارة جميلة الى أن العلوم اللازمة المفيدة هي علوم الشريعة من تفسير. وحديث. وفقه.
(4) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(5) هو حديث رواه عبد الرزاق عن معمر مرسلا، والدارمي متصلا عن ابن مسعود.
(6) الحديث غير معروف المبنى ولكنه صحيح المعنى ولم يخرجه السيوطي
(7) وفي نسخة (يتمسك بها) .
(8) كما رواه الطبراني في الاوسط.
(9) في حديث رواه الترمذي.
(10) وروي (فرقة) بدل ملة. وفي الحديث روايات مختلفة.
(11) وفي نسخة: قال: (هم الذين على الذي أنا عليه اليوم وأصحابي) .(2/27)
وَعَنْ أَنَسٍ «1»
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2»
: مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» .
وَعَنْ عَمْرِو «3»
بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «4»
لِبِلَالِ «5»
بْنِ الْحَارِثِ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا من غير أن ينقص ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا..
وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ من أوزار الناس شيئا.»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(2) رواه الاصبهاني في ترغيبة واللالكائي في السنة.
(3) عمرو بن عوف المزني: الصحابي، وهو قديم الاسلام، شهد المشاهد وتوفي في زمن معاوية وذكر ابن سعد أن اول غزوة غزاها الابوار وجاءت عنه عدة أحاديث وهو أحد البكائين.
(4) كما رواه الترمذي، وحسنه ابن ماجة.
(5) بلال بن الحارث بن عاصم بن سعيد بن قرة بن مازن ابو عبد الرحمن المزني الصحابي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد مزينة وسكن وراء المدينة توفي سنة 60 وسنه ثمانون سنة.(2/28)
الفصل الرابع مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سنته والاقتداء بهديه وسيرته
عَنْ رَجُلٍ «1»
مِنْ آلِ خَالِدِ «2»
بْنِ أَسِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ «3»
بْنَ عُمَرَ فَقَالَ «4»
: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ «5»
.. إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صلاة السفر!!!. فقال ابن عمر «6»
رضي الله عنهما.. يَا ابْنَ أَخِي.. إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شيئا وإنما نفعل كما رأيناه يفعل..
__________
(1) قال الحلبي: لا أعرفه.. وقال التلمساني: هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسد.. وهكذا روى هذا الحديث مالك ولم يدخل في سنده بينه وبين شهاب أحد. ورواه الليث بن سعد فسمى الرجل وأدخل بين ابن شهاب وأميه بن عبد الله بن أبي بكر
(2) خالد: هو ابن أسيد وهو ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس أخو عتاب أسلم عام الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم.
(3) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .
(4) الحديث رواه مالك والنسائي وابن ماجة.
(5) أبو عبد الرحمن: كنية عبد الله بن عمر.
(6) مر ذكره(2/29)