الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كلمة المحقّق
الحمد لله المتفرّد بالخلق يصطفي من يشاء ويختار، أحمده سبحانه وأستغفره وأستهديه؛ له الفضل والمنة والثناء والإكبار، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والبقاء والاقتدار.
والصلاة والسلام على الشريف المشرّف بأشرف الرسالات، الكريم المكرّم بأكرم البيّنات، العظيم المعظّم بأعظم الآيات، الفاضل المفضّل على جميع الكائنات، العالي المعلّى في أعلى المقامات، السيّد المسوّد باللواء في العرصات؛ آدم ومن دونه تحت لوائه وسائر المخلوقات.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك وأنعم على صفيك المصفّى المصطفى المختار، الخليل المتوّج بالحلّة والوقار، وعلى آله وأصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
أمّا بعد:
فإن الاشتغال بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ودراسة سيرته ونشر محاسنه من أفضل القربات عند الله، لا يزال يهتم بها الخلف عن السلف من أهل السنة والجماعة.
ولمّا رأيت من نفسي ادعاءها حبّ هذا النبي الكريم، ورغبتها في التقرب من المولى العظيم مع ضعف العمل وقلة الزاد، أردت تكليفها خدمة شيء مما ألّف في سيرته صلى الله عليه وسلم؛ لعلمي ويقيني باستحالة أن ينفك دارس سيرته حبّا له وإيمانا به ثم لا يرجع من ذلك بشيء من فضائلها ومحاسنها، أو يحلّ عليه شيء من بركاتها وأسرارها ويمنح من كراماتها،(1/5)
بل الظن بالله أن يفعل وهو سبحانه وتعالى يقول على لسان نبيه: «أنا عند ظن عبدي بي» .
ولمّا عزمت على ذلك بإذن المولى انتقيت كتاب «شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم» من بين مجموعة من الأصول الخطية، كنت قد اطلعت عليها في مكتبات عدة، وجعلته الخيرة لأن يكون محلّ خدمتي إذا ما تيسر لي الحصول على صور من نسخه، فكنت بفضل الله وكرمه مخدوما في ذلك، حملت إلى دارنا ثلاث نسخ من بلاد بعيدة، فله الحمد والمنة، وهو المحسن على الدوام.
فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن ينفعني بخدمته في الدنيا والآخرة، وأن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني إنه سميع قريب، وأن يجزي عنا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل ما هو أهله إنه على ما يشاء قدير.
وأرى من الواجب علي هنا أن أتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الدكتور العلّامة عويد بن عياد الكحيلي المطرفي الأستاذ المشارك في علوم الكتاب والسنة، ورئيس قسم القضاء بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وكيل الكلية للدراسات العليا والبحث العلمي بكلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقا، الذي قدر جهدنا واجتهادنا في خدمة السنة فاستثمر ذلك فينا وساعدنا في الحصول على إحدى نسخه، ومثل عمله هذا لا يستغرب من مثله من أهل العلم والفضل، الذين يرون أن خدمة المجتهدين في البحث والتحصيل والانتفاع إنما هي خدمة للقرآن والسنة وللعلم وأهله، سيما إذا لم يكن لهم غرض من مال وعرض.
أرجو من الله أن يجزيه عني خيرا.
كتبه السيّد أبو عاصم نبيل بن هاشم الغمري آل باعلوي 6/ 9/ 1421 هـ(1/6)
أوّلا: مقدّمة التّحقيق وفيها فصول:(1/7)
الفصل الأوّل: في ترجمة المؤلّف «1» صاحب شرف المصطفى
هو الإمام الهمام، الفقيه شيخ الإسلام، العلّامة قدوة الأنام، الزاهد المنقطع العابد القوّام، الواعظ الموفق لفعل الخيرات على الدوام، الرحّالة، نزيل مكة، المجاور بيت الله الحرام، الشيخ السخي المقدام: أبو سعد عبد الملك بن أبي عثمان محمد بن إبراهيم الخركوشي- منسوب إلى سكة بنيسابور، أحد المشهورين بأعمال البرّ، الموفّقين في العلن والسرّ، المرزوقين للقبول من ربه البرّ، والرضى من الرحمن في بحر الكون والبرّ.
لم أقف على سنة مولده، ولا رأيت من ذكر سنه عند وفاته.
وقد نشأ أبو سعد في بيت علم وصلاح، فقد كان أبوه ممن صحب
__________
(1) قولنا: «في ترجمة المؤلف» : انظر عنه في: سير أعلام النبلاء [17/ 256] ، تاريخ بغداد [10/ 432] ، تاريخ الإسلام للذهبي [وفيات سنة 406، ص 161] ، تذكرة الحفاظ [3/ 1066] ، طبقات السبكي [5/ 222] ، والمنتظم [15/ 115] ، تبيين كذب المفتري [/ 233- 236] ، الأنساب للسمعاني [2/ 350- الخركوشي] ، تاريخ دمشق لابن عساكر [37/ 90] ، تهذيب تاريخ دمشق لابن منظور [15/ 214] ، العبر [3/ 96] ، شذرات الذهب [3/ 184] ، تاريخ التراث [2/ 496] ، معجم البلدان [2/ 360] ، أعلام الزركلي [4/ 163] ، هدية العارفين [5/ 625] ، معجم المؤلفين [6/ 188] ، اللباب لابن الأثير [1/ 436] .(1/9)
أهل العلم، لكن لم أر من أفرده بترجمة إنما يدل على ذلك روايته عنه- أعني رواية أبي سعد عن أبيه-، ولذلك ذكر من ترجم له أنه تفقه في حداثة سنه، وتزهد، قالوا:
فجالس أبو سعد الزهّاد المجردين، إلى أن جعله الله خلفا لجماعة ممن تقدمه من العلماء العاملين، والعباد المجتهدين، والزهاد القانعين.
رحل أبو سعد في طلب العلم والحديث إلى العراق، قال أبو سعد السمعاني: سمع بالعراق بعد السبعين وثلاثمائة، ثم خرج إلى الحجاز، والديار المصرية، فأدرك الكبار من العلماء والمحدثين، وقال الحافظ ابن عساكر: قدم دمشق سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. اه.
فمن العلماء والفقهاء والمحدثين الذين لقيهم أبو سعد وأخذ عنهم، - ترجمت لمن روى عنهم في كتابه هذا كلّا في أول موضع له في الكتاب-، وسردتهم هنا على وجه الجملة مرتّبا أسماءهم كما يلي:
1- إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء، أبو إسحاق الإبزاري.
2- إبراهيم بن عبد الله، أبو إسحاق الأصبهاني.
3- إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن سيبخت، أبو الفتح البغدادي.
4- إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه المزكّي، الحافظ:
أبو إسحاق النيسابوري.
5- إبراهيم بن محمد الدينوري.
6- أحمد بن إسماعيل بن يحيى بن حازم، أبو الفضل الأزدي.
7- أحمد بن جعفر، أبو الحسن اليزيدي.
8- أحمد بن علي الإسفراييني، أبو علي الحافظ.(1/10)
9- أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، أبو سعيد الجوزي.
10- أحمد بن محمد بن إسماعيل السفياني، الهروي.
11- أحمد بن محمد بن حمدان، أبو حامد المرادي العدل.
12- أحمد بن محمد بن زياد، الإمام الحافظ أبو سعيد بن الأعرابي.
13- أحمد بن محمد بن سعيد الحيري، وهو: أحمد بن أبي بكر بن أبي عثمان ابن إسماعيل النيسابوري الشهيد أحد أئمة الحديث.
14- أحمد بن محمد بن يحيى، الحافظ أبو بكر الحيري.
15- أحمد بن يعقوب بن عبد الجبار القرشي، أبو بكر الجرجاني.
16- إسحاق بن زوران بن قهزاد السيرافي، الفقيه الشافعي.
17- إسماعيل بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز، الحافظ أبو سعيد الخلالي الجرجاني، النيسابوري.
18- إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال، أبو العباس الفارسي.
19- إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف، الحافظ أبو عمرو النيسابوري.
20- بشر بن أحمد بن بشر بن أحمد بن محمود المهرجاني، أبو سهل الإسفراييني.
21- بكر بن محمد الطبراني، أبو محمد العابد.
22- تمام بن عبد الله الصّقلّي، أبو الوفاء مولى جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير بمصر.
23- جعفر بن الفضل بن حنزابة المصري، وزير كافور.(1/11)
24- حازم بن إبراهيم بن أحمد، أبو الحسن العدل.
25- حامد بن محمد بن عبد الله بن محمد الرفّاء، أبو علي الهروي.
26- حسان بن محمد بن أحمد بن هارون، الحافظ أبو الوليد، شيخ خراسان.
27- الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن الدولابي، أبو محمد المصري.
28- الحسن بن أحمد بن محمد الصفّار، أبو عبد الله الهروي.
29- الحسين بن أحمد بن محمد بن موسى، أبو علي القاضي.
30- الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي، أبو أحمد النيسابوري، المشهور ب: حسينك.
31- الحسين بن عمر بن الحسن، الفقيه: أبو علي الغافقي.
32- الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد الماسرجسي الحافظ.
33- زيد بن عبد الله، أبو الحسن البلوطي.
34- عبد الرحمن بن محمد بن حامد بن متّويه، أبو القاسم البلخي.
35- عبد الرحمن بن عمر، أبو محمد النحاس بن محمد.
36- عبد الرحمن بن محمد بن محبوب.
37- عبد الرحمن بن محمد بن يحيى الجوبري، أبو الحسن التميمي، العدل.
38- عبد العزيز بن الحسن، أبو الحسن بن شاه الفارسي.
39- عبد الله بن حامد.(1/12)
40- عبد الله بن الحسن الصوفي، أبو القاسم بن بالويه.
41- عبد الله بن عبد الرحمن الأزدي، أبو محمد المصري نزيلها.
42- عبد الله بن محمد بن إسماعيل الطرسوسي.
43- عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصير بن عطاء بن وائل القرشي، أبو سعيد الرازي.
44- عبد الله بن محمد بن علي بن زياد الدقّاق، أبو محمد.
45- عبد الله بن محمد الرازي، الصوفي.
46- عبد الله بن يحيى بن طاهر بن يحيى، أبو محمد الحسيني.
47- عبد الوهاب بن الحسن بن علي بن داود بن سليمان بن خلف المصري.
48- عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد بن موسى الكلابي، أبو الحسين الدمشقي المحدث، أخو تبوك.
49- عبد الوهاب بن عبد الله الدمشقي.
50- علي بن بندار أبو الحسن الصوفي.
51- علي بن محمد بن عمر، أبو الحسن البغدادي، القصار.
52- علي بن داود المقرئ، أبو الحسن الداراني، إمام جامع دمشق.
53- علي بن عبد الله بن جهضم، أبو الحسن نزيل مكة.
54- علي بن عثمان بن محمد السراج، البغدادي.
55- علي بن عمر، الحافظ: أبو الحسن الدارقطني.
56- علي بن عمر بن موسى، أبو الحسن المكي.
57- علي بن محمد بن إسحاق، أبو الحسن الاصطخري.(1/13)
58- علي بن محمد بن إسحاق بن يزيد، أبو الحسن الحلبي القاضي.
59- علي بن محمد بن علي بن أحمد المصري، الحافظ أبو القاسم الفارسي.
60- عمار بن محمد، أبو ذر البغدادي.
61- عمر بن إبراهيم بن يحيى، أبو القاسم البصري.
62- محمد بن إبراهيم، أبو عثمان الخركوشي (والده) .
63- محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد، المعروف بابن البصري، أبو الفتح المقدسي الطرسوسي.
64- محمد بن أحمد بن حمدان، أبو عمرو الحيري، الحافظ، مسند خراسان.
65- محمد بن أحمد بن بالويه، أبو بكر، النيسابوري.
66- محمد بن أحمد بن حامد، أبو الحسن العطار.
67- محمد بن أحمد بن العباس، أبو الحسن الإخميمي.
68- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني الرحالة، روى عنه، وربما نسبه لجده جميع.
69- محمد بن أحمد بن هارون الأصفهاني.
70- محمد بن جبير، أبو بكر النسوي.
71- محمد بن جعفر بن محمد بن أحمد الموسائي، أبو جعفر العلوي، الهاشمي.
72- محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النيسابوري الحافظ.
73- محمد بن جعفر، أبو بكر البستي.(1/14)
74- محمد بن الحسن بن إسماعيل، أبو الحسين السرّاج.
75- محمد بن داود، الشريف أبو الحسن الحسني.
76- محمد بن زكرياء بن حسين النسفي، أبو بكر الصكوكي.
77- محمد بن سليمان النيسابوري، أبو سهل الصعلوكي.
78- محمد بن سهل بن هلال، أبو عمر البستي، نزيل مكة.
79- محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، الحافظ: أبو عبد الله الحاكم بن البيّع.
80- محمد بن عبد الله، أبو بكر الرازي.
81- محمد بن عبد الله بن قريش أبو بكر الريونجي.
82- محمد بن عبد الملك بن جبير النسوي.
83- محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، أبو بكر القفال.
84- محمد بن علي بن الحسين، أبو الحسن الحسني.
85- محمد بن علي بن سهل بن مصلح الماسرجسي، أبو الحسن النيسابوري.
86- محمد بن علي بن عيسى، أبو بكر التستري الخباز.
87- محمد بن محمد بن الحسين الشيباني النيسابوري.
88- يحيى بن الحسين، أبو الحسين المطلبي، إمام المسجد النبوي.
89- يحيى بن منصور بن يحيى بن عبد الملك القاضي، أبو أحمد- أو: أبو محمد-.
90- وروى عن رجل في حديث الهجرة والغار فكناه فقال: أخبرنا(1/15)
أبو عبد الله التميمي بين المسجدين: مكة والمدينة، ثنا ابن الأعرابي.. لم أعرفه.
91- وحدّث في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم عن الثقة عنده.
وبعد أن استفاد أبو سعد من رحلاته في طلب العلم خرج إلى الحجاز رغبة في المجاورة، فأقام بها، ثلاث سنوات فيما أظن، فقد قال الخطيب في تاريخه: قال لي التنوخي: قدم علينا أبو سعد بغداد حاجّا في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وخرج إلى مكة، وأقام بها مجاورا، وسمعت منه بعد عوده في سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
فاستفاد أبو سعد في سنوات المجاورة من الوافدين من أهل العلم، وبذل نفسه وماله للغرباء والفقراء المنقطع بهم ولطلبة العلم، وانتفع به كثيرون، وتخرج عليه أئمة هم في الحفظ جهابذة، وفي الفقه والحديث أركان.
فمن الرواة عنه من الأعلام:
1- الحاكم- صاحب المستدرك-.
قال الحافظ ابن عساكر: روى عنه الحاكم وهو أسند منه. وقال الذهبي: روى عنه الحاكم وهو أكبر منه- يريد في الإسناد وعلم الحديث-؛ فإنه من أقرانه، وقد أخرج عنه في كتابه هذا عدة أحاديث.
قال الحاكم في تاريخه- فيما رواه عنه البيهقي «1» رحمهما الله-:
عبد الملك بن محمد بن إبراهيم، أبو سعد بن أبي عثمان الواعظ
__________
(1) قوله: «فيما رواه عنه البيهقي» : تاريخ ابن عساكر [37/ 92] .(1/16)
الزاهد، تفقه في حداثة السن وتزهد، وجالس الزهاد والمجردين، إلى أن جعله الله خلفا لجماعة ممن تقدمه من العباد المجتهدين والزهاد القانعين، سمع بنيسابور ...
إلى أن قال: ثم خرج إلى الحجاز، وجاور حرم الله وأمنه مكة، وصحب بها العباد الصالحين، وسمع الحديث من أهلها والواردين، وانصرف إلى وطنه بنيسابور وقد أنجز الله له موعوده على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة «1» ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبه، فينادي جبريل بذلك في السماء فيحبّه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. فلزم منزله ومجلسه، وبذل النفس والمال والجاه للمستورين من الغرباء والفقراء والمنقطع بهم، حتى صار الفقراء في مجلسه كما حدثونا عن إبراهيم بن الحسين، ثنا عمرو بن عون، ثنا يحيى بن يمان، قال: كان الفقراء في مجلس سفيان كالأمراء.
__________
(1) قوله: «في حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة» : أخرجه مالك في الموطأ، باب ما جاء في المتحابين في الله، ومن طريق مالك أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، رقم 2637. وأخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف برقم 19673، ومن طريقه الإمام أحمد في المسند [2/ 267] . وأخرجه الحافظ الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة مريم، رقم 3161، وأبو داود الطيالسي في مسنده برقم 2436، وهو في صحيح ابن حبان كما في الإحسان برقم 365.(1/17)
قال: وقد وفقه الله تعالى لعمارة المساجد والحياض والقناطر والدروب وكسوة الفقراء العراة من الغرباء والبلدية، حتى بنى دارا للمرضى بعد أن خربت الدور القديمة لهم بنيسابور، ووكل جماعة من أصحابه المستورين بتمريضهم وحمل مياههم إلى الأطباء، وشراء الأدوية لهم، ولقد أخبرني الثقة أن الله تعالى ذكره قد شفى جماعة منهم فكساهم وزودهم إلى الرجوع إلى أوطانهم.
قال: وقد صنّف في علوم الشريعة ودلائل النبوة، وفي سير العبّاد والزهاد كتبا نسخها جماعة من أهل الحديث وسمعوها منه، وسارت تلك المصنفات في بلاد المسلمين تاريخا لنيسابور وعلمائها الماضين منهم والباقين.
قال: وكثيرا ما أقول: أن لا يباهى بأجمع منه علما وزهدا وتواضعا وإرشادا إلى الله تعالى ذكره وإلى شريعة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وإلى الزاهدين في الدنيا الفانية والتزود للآخرة الباقية، زاده الله توفيقا، وأسعدنا بأيامه، ووفقنا للشكر لله تعالى ذكره بمكانه، إنه خير معين وموفق. اه.
وممن أخذ عنه من الحفاظ الجهابذة:
2- الإمام الفقيه، الحافظ: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أوحد أهل زمانه، ممن يرحل إليه وإلى تصانيفه، روى عنه واستفاد منه في دلائله كما سترى عند تخريج بعض أحاديث هذا الكتاب.
ومنهم:
3- الإمام الزاهد والولي العابد: أبو القاسم القشيري،(1/18)
صاحب الرسالة القشيرية في السلوك وآداب الطريق، وهو راوي كتابه هذا.
ومنهم:
4- الحافظ مسند خراسان ومحدثها ومؤذن مسجدها: أبو صالح أحمد بن عبد الملك بن علي النيسابوري.
ومنهم:
5- محدث العراق الحافظ المتقن: أبو محمد الحسن بن محمد الخلّال.
6- والإمام مقرئ الآفاق، صاحب القراءات والحروف: أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي.
7- والإمام مسند الوقت، نحوي زمانه: أبو بكر أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن خلف الشيرازي ثم النيسابوري، يقال: هو آخر من حدّث عنه من أهل نيسابور.
8- وعلي بن عثمان الأصبهاني البيّع المحدث.
9- والإمام المحدث: عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي.
10- والإمام الحجة المحدث مسند العراق: أبو الحسين محمد بن علي بن المهتدي بالله.
11- ومحمد بن الحسن الخمازي.
12- وعبد الجبار بن عبد الله بن إبراهيم بن برزة الأردستاني.(1/19)
13- والإمام القاضي الفقيه: أبو القاسم علي بن عبد المحسن بن علي التنوخي، المصري ثم البغدادي، راوي كتاب الأشربة للإمام أحمد ابن حنبل، وابن صاحب كتاب الفرج بعد الشدة.
14- وعبد الوهاب بن الميداني الدمشقي.
15- وعلي الحنائي.
ثناء الأئمة عليه رحمه الله، وكلامهم فيه:
وممن أثنى عليه أيضا: الخطيب البغدادي في تاريخه حيث قال:
كان ثقة صالحا ورعا زاهدا، وكذلك قال ابن الجوزي.
وقال الحافظ ابن عساكر في التبيين: أخبرنا الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل إجازة قال: عبد الملك بن أبي عثمان محمد بن إبراهيم النيسابوري أبو سعد الزاهد الخركوشي الواعظ الأستاذ الكامل أحد أفراد خراسان علما وزهدا وورعا وخشية وطريقة، تفقه على أبي الحسن الماسرجسي ثم ترك الجاه وجالس الزهاد ولزم العمل وحج وجاور ثم رجع إلى خراسان، وكان يعمل القلانس ويأمر ببيعها بحيث لا يدرى أنها من صنعته ويأكل من كسب يده، وبنى في سكنه المدرسة ودار المرضى، ووقف أوقافا عليها ووضع في المدرسة خزانة للكتب، وصنف أعدادا من الكتب، قال عبد الغافر:
سمعت أبا الفضل محمد بن عبيد الله الصّرّام الزاهد يقول:
رأيت الأستاذ يستسقي ويقول:
إليك جئنا وأنت جئت بنا ... وليس رب سواك يغنينا
بابك رحب فناؤه كرم ... تؤوي إلى بابك المساكينا(1/20)
ثم يدعو ويقول: اللهم اسقنا.. قال: فما أتم ثلاثا حتى سقينا كأفواه القرب.
وذكره الحافظ الذهبي في مواضع من كتبه فكان مما قال: الإمام القدوة شيخ الإسلام الواعظ ... قال: كان أبو سعد ممن وضع له القبول في الأرض ... صحب الزهاد وحج وجاور وصنف ورزق القبول التام فالله يرحمه. وقال في تاريخه: ذكر ابن عساكر أنه كان أشعريا.
وقال التاج السبكي في طبقاته: كان فقيها زاهدا من أئمة الدين وأعلام المؤمنين، ترتجى الرحمة بذكره.
وقال التقي السبكي في شفاء السقام [/ 39] : توفي عبد الملك سنة ست وأربعمائة بنيسابور، وقبره مشهور يزار ويتبرك به، شيخه في الفقه أبو الحسن الماسرجسي.
وقال الحافظ أبو سعد السمعاني في الأنساب: زرت قبره غير مرة.
وفاته:
توفي أبو سعد الخركوشي في جمادى الأولى، سنة ست- وقيل:
سبع- وأربعمائة، رحمه الله رحمة واسعة ورضي عنه، ونفعنا وإياه بما صنف وكتب.(1/21)
الفصل الثّاني: كالذّيل للتّرجمة المتقدّمة
أذكر فيه: ما وقفت عليه من أوهام بعض المتقدمين في تسمية المصنف، ومن كناه بغير كنيته، وعزا كتابه إلى غيره، أو سمى كتابه بغير اسمه.
* قال الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني في شرح المواهب معلقا على قول الشيخ القسطلاني: وقد ذكر الحافظ أبو سعيد- كذا- النيسابوري «1» ، عن أبي بكر ابن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب الأحبار في ... وذكر قصة نوره الشريف لما صار إلى عبد المطلب.
قال الشارح: أبو سعيد: هو عبد الرحمن بن الحسن الأصبهاني الأصل النيسابوري- بفتح النون- نسبة إلى نيسابور أشهر مدن خراسان، صاحب المسند وكتاب شرف المصطفى، الثقة، المتوفى سنة سبع وثلثمائة.
__________
(1) قوله: «وقد ذكر الحافظ: أبو سعيد النيسابوري» : كذا في النسخ المطبوعة قديما من المواهب: أبو سعيد، قال الشارح معلقا: قلد المصنف في قوله: أبو سعيد- بالياء-: السهيلي، وقد تعقبه مغلطاي بأنه إنما هو سعد بسكون العين. اهـ، وفي المواهب المطبوعة بتحقيق صالح أحمد الشامي [1/ 97] : سعد، قال في حاشيته: كذا في أ، ب، وفي النسخ- يعني المطبوعة قديما- سعيد.(1/22)
قلت: وفي كلامه من الأوهام:
1- قوله: هو عبد الرحمن بن الحسن، وإنما هو عبد الملك بن أبي عثمان صاحبنا.
2- قوله: صاحب المسند وهم، إذ لم أجد أحدا ممن ترجم لصاحبنا ذكر أن له مسندا، وكذلك الحال لعبد الرحمن بن الحسن الذي ذكره لم أجد من ذكر أن له مسندا، فالله أعلم.
3- قوله: المتوفى سنة سبع وثلثمائة، ذكر الحافظ الذهبي عبد الرحمن بن الحسن هذا في تاريخ الإسلام في وفيات سنة تسع- بتقديم الفوقية على المهملة- وثلثمائة.
* نعم، وفي موضع آخر من المواهب اللدنية للقسطاني عند ذكر قصة حمله صلى الله عليه وسلم قال: وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابوري في كتابه الكبير.
«1» قال الشارح [1/ 111] : صريح المصنف أنه غير صاحب شرف المصطفى فإن اسمه عبد الرحمن كما مر، والمصنف سماه عبد الملك.
اهـ. كذا قال، وهو هو في الموضعين، عبد الملك بن أبي عثمان، والقصة مذكورة في هذا الكتاب كما سترى.
* وقال السيد محمد بن جعفر الكتاني في الرسالة المستطرفة [/ 81] : وكتاب شرف المصطفى لأبي سعيد- وضبطها كتابة فقال:
__________
(1) قوله: «في كتابه الكبير» : كذا في النسخ المطبوعة قديما والمطبوعة بتحقيق صالح أحمد الشامي، وفي صلب الشرح: في كتابه المعجم الكبير.(1/23)
بكسر العين- عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الواعظ المتوفى بنيسابور سنة ست وأربعمائة وهو في ثمان مجلدات، قال:
ولمؤلفة في علوم الشريعة كتب، قال: وهو غير أبي سعد- بسكون العين- عبد الرحمن بن الحسن الأصبهاني النيسابوري صاحب كتاب شرف المصطفى أيضا. اهـ. كذا قال رحمه الله.
* وممن كناه أبا سعيد أيضا: الحافظ في الفتح [6/ 674] وفي غير موضع من الإصابة- كما سترى عند التعرض لذلك في ثنايا الشرح والتخريج- لكن لا أدري أهو من أخطاء الطبع أو سبق قلم من الحافظ-.
أما الزرقاني فقال في شرح المواهب متعقبا القسطلاني [1/ 81] :
قلّد المصنف في قوله: أبو سعيد- بالياء-: السهيلي، قال: وقد تعقبه مغلطاي بأنه إنما هو سعد- بسكون العين-، قال: وكذا قال صاحب رونق الألفاظ، وقال: إن الذهبي ذكره- أي بوصف الحافظ- في تاريخه، وأغفله في طبقات الحفاظ اهـ. والحق أنه لم يغفله فقد بينت لك موضعه فيه، والله أعلم.
* ومن الغريب جدا ما رأيته من الحافظ أبي حفص: عمر بن محمد الموصلي، الشهير بالملاء، المتوفى سنة 570 في كتابه: وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، الذي عوّل فيه كثيرا على أحاديث وآثار كتاب المصنف، رأيته يكنيه فيه بكنية أبيه أبي عثمان!!
ففي [5/ ق- 1/ 172] أثناء ذكره لجبال وأحجار مكة، قال: قال أبو عثمان الواعظ صاحب شرف النبوة: قد تأملت ذلك فوجدته كما حكي.(1/24)
وقال في [6/ ق- 2/ 47] : ذكر أبو عثمان الواعظ في كتابه..
وأورد له حديث البقلة الحمقاء. ومثله في [6/ ق- 2/ 83] عند ذكر آخر خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم.
ومثله في [6/- 2/ 103] : عند ذكره لكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفاته صلى الله عليه وسلم.
* بقي أن نشير إلى بعض من تعرض لذكر الكتاب أو أشار إليه بغير اسمه:
فمنهم الحافظ السمعاني عند ترجمته للمؤلف في الأنساب قال: صنف في علوم الشريعة ودلائل النبوة- كذا- وفي سير العباد والزهاد. اه.
وقال الحافظ الذهبي في تاريخه، وفي سيره أيضا: له تفسير كبير وكتاب دلائل النبوة، وكتاب الزهد. اه.
والذي يظهر لي- والله أعلم- أنهما عنيا بالدلائل هذا الكتاب الذي نحن بصدده، ذلك أني لم أر أحدا جمع بينهما- بأن قال مثلا: له شرف المصطفى ودلائل النبوة-، اللهم إلا ما كان من صاحب هدية العارفين الذي حكى أن له شرف المصطفى وشرف النبوة، ولا يخفى ما في قوله من البعد إن أريد حقيقة الاسمين وأنهما له لا الإشارة بالثاني لمعنى ما تضمنه الأول.
ومثله أيضا: قول السمعاني والذهبي وصاحب هدية العارفين والزركلي أنه صنف- وبعضهم يقول: له- في سير العباد والزهاد، والظاهر أنهم عنوا كتاب تهذيب الأسرار في طبقات الأخيار الذي طبع مؤخرا، والله أعلم.(1/25)
مؤلفاته:
فالذي نخلص إليه مما تقدم ومن خلال النظر في مواضع ترجمة المؤلف إلى أن له من المصنفات:
1- شرف المصطفى، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي ربما عبر عنه من ترجم له بدلائل النبوة أو شرف النبوة.
2- تهذيب الأسرار في مقامات الأخيار، وهو المطبوع مؤخرا بتحقيق بسام محمد بارود، نشر المجمع الثقافي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، وربما عبر عنه من ترجم للمصنف ب: سير العباد والزهاد.
3- الفتوة، أشار إليه المصنف في باب آداب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ومن السنة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عند الاستيقاظ من النوم، وهي دعوات مشهورة ذكرتها في باب الدعاء من كتاب الفتوة.
4- البشارة والنذارة، كتاب في تعبير الرؤيا، ذكره الدكتور فؤاد سزكين في تاريخ التراث وبيّن مواضع وجود أصله.
5- كتاب في التفسير، ذكر الذهبي أنه كتاب كبير لكن لم يسمه.
6- وكتابه: شعائر الصالحين.
7- وكتابه: لوامع.(1/26)
الفصل الثّالث: في أهمّيّة موضوع الكتاب، وسبب تأليفه
مما لا يخفى على أهل العلم أن العلوم تشرف وتفضل على بعضها بشرف وفضل موضوعها، ومن هنا علم شرف وفضل القرآن الكريم وعلومه على سائر الكتب وعلومها.
وإن موضوع كتابنا هذا هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أقواله وأفعاله وأحواله وأوصافه وما يتعلق بدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وعلاماتها وغير ذلك مما هو معدود اعتقاده من أصول الدين، ومن هنا جاءت أهمية موضوع هذا الكتاب وشرفه وفضله إذ هي الشريعة بعينها، وهو صلى الله عليه وسلم الدال على الله بما يصدر عنه ومنه صلى الله عليه وسلم، ومن هنا علم حاجة الخلق إلى الرسل، واضطرارهم إلى معرفة أحوالهم ودراسة سيرتهم ومعرفة ما يصدر عنهم، دليل ذلك في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الآية، وقوله تعالى:
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا الآية، وقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الآية.
فإذا تبين لك هذا عرفت أن حال كتب الشمائل والفضائل والسير حال غيرها من كتب السنة والفقه والأحكام والعقائد، بل هي الأصل فيها إذ جميعهم: أهل الحديث والفقه والأصول واللغة على اختلاف مذاهبهم وفهمهم للنصوص لم يتعدوا ما صدر عن هذه الذات النبوية الشريفة، المؤيدة بروح القدس لا تجد أحدا منهم إلا وقد اعتمد فيما ذهب إليه على ما صدر منها.(1/27)
ومما تقدم نخلص إلى أن سعادة العبد في الدارين متوقفة على أمرين متعلقين بذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم:
الأول: هديه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي به يتوصل إلى سبيل الله ورضوانه.
الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم التي لا تكتسب إلا بدراسة سيرته؛ إذ القلب لا يشغف بحب أحد إلا بعد التعرف عليه عن قرب ومخالطته بالتعايش معه، وهو ما حدا بكثير من المصنفين إلى التأليف فيها، منهم: صاحبنا مؤلف هذا الكتاب كما سيأتي عنه في سبب تأليفه، ووجهاتهم في ذلك مختلفة- أي بين المفرد والجامع لها- ومقصدهم واحد، وهو حبه صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سعد صاحب الكتاب رحمه الله، مبينا سبب تأليفه وجمعه:
حدا بي إلى أن أجمع شرف النبي صلى الله عليه وسلم حبّه والأنس بذكره؛ لأن من أحب شيئا أكثر ذكره، ولكي يكثر الصلاة عليه رسما ونطقا ...(1/28)
الفصل الرّابع: في أنّ تعظيمه وإظهار شرفه واعتقاد أفضليّته صلى الله عليه وسلم من أصول الدّين
اعلم علمني الله وإياك أن الكلام في هذا الباب ينم عن صدق الإيمان، وحسن الإسلام وصحة الاعتقاد.
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد شرفه الله وخصه وميزه عن سائر الخلق بمزايا تولى سبحانه بنفسه إظهارها في كتابه العزيز، فنوه بها ونبه على أهمية اعتبارها من المؤمنين، فمن أثبت له من المزايا والخصائص ما أثبته الله له واعتقد اتصافه بتلك الأخلاق السامية التي ذكرها في كتابه وأشار إلى اتصافه بها في نحو قوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ كان بذلك مثبتا لله تعالى ما أثبته لنبيه صلى الله عليه وسلم وذلك من واجبات الإسلام وصريح الإيمان.
وكذلك من أثبت له صلى الله عليه وسلم ما صح من الأخبار والأحاديث في فضله وشرفه ومعجزاته؛ إذ هي بمنزلة الكتاب، لقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ...
الحديث، وبها يستعان على إثبات رسالته والاستدلال على نبوته «1» .
__________
(1) قولنا: «والاستدلال على نبوته» : يقول الحافظ البيهقي في مقدمة الدلائل [1/ 68- 69] : أما بعد، فإني لما فرغت بعون الله وحسن توفيقه من تخريج الأخبار الواردة في الأسماء والصفات، والرؤيا والإيمان، والقدر وعذاب القبر، وأشراط الساعة، -(1/29)
هذا الذي ذكرت هو مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، كما يفهم من كتب أصولهم، ويعلم من تصانيفهم في هذا الباب، والأصل فيه عندهم الآيات التي نوهت بعظيم قدره، والأحاديث المروية التي أشارت إلى كبير شرفه.
قال الحافظ أبو محمد الدارمي رحمه الله في مسنده: أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا زمعة، عن سلمة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «1» ينتظرونه، فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فتسمّع حديثهم، فإذا بعضهم يقول: عجبا! إن الله اتخذ من خلقه خليلا، فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم، وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله
__________
- والبعث والنشور، والميزان والحساب، والصراط، والحوض، والشفاعة، والجنة والنار، وغير ذلك مما يتعلق بالأصول وتمييزها ليكون عونا لمن تكلم فيها واستشهد بما بلغه منها، فلم يعرف حالها وما يقبل وما يروى منها: أردت- والمشيئة لله تعالى- أن أجمع بعض ما بلغنا من معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته؛ ليكون عونا لهم على إثبات رسالته ... إلخ. اه. فانظر رحمك الله كيف جعل الأحاديث الواردة في شرفه وفضله وما أكرمه الله به من أصول الدين التي أشار إلى ما خرّجه وألفه فيه، حتى أعقبها بالدلائل التي يثبت بأحاديثها رسالته ونبوته صلى الله عليه وسلم.
(1) قوله: «جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم» : انظر تخريجنا له في كتابنا فتح المنان شرح مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن تحت رقم 49.(1/30)
وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر ... الحديث، وفيه- مما نحن بصدده- إظهارهم لفضائل الأنبياء وتباحثهم فيها واجتهادهم في معرفة أفضلهم قياسا على مبنى التفضيل عندهم؛ إذ جعلوه منوطا بخصال الكمال الرفيعة، والمزايا العلية التي منحها الله عز وجل لكل نبي من أنبيائه.
وعلى الأساس الذي أسسوه، والمبنى الذي أصلوه بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فضله وفضيلته وأفضليته على جميع الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأغفل صلى الله عليه وسلم في بيانه ما خصه الله به من الأخلاق العظيمة التي مدحه بها في كتابه بكلام يبين عن تفرده بها على سائر الأنبياء، إذ لم يكن ذلك عندهم مما أسسوه في بحثهم مع كونها داخلة فيه، بل هي في الحقيقة أساس أساسهم وأصل مبناهم، لاعتنائه سبحانه وتعالى بها أشد الاعتناء واهتمامه بها أكبر الاهتمام، فقد تعرض لبيانها، وأشار إليها في آيات كثيرة، من أجلّها قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وقد أفادت وأبانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هذا الخلق الذي وصفه الله بالعظيم حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواب وجيز جامع، فقالت: كان خلقه القرآن، إذ معناه أن جميع ما في القرآن من أخلاق وآداب وفضائل ومكارم متمثّلة في شخصه العظيم صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم متلبس بها.
وقد علم أنه ليس أحد من رسول ولا نبي ولا ملك جمع هذه الأمور كلها غيره، فيفهم من هذه الآية، وهذا الحديث مع قوله صلى الله عليه وسلم:
أقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أنه ليس ثمة مقام أعلى من مقامه(1/31)
ومجلسه، وحينئذ نقول: لا يوجد أحد يساويه فضلا عن أن يفوقه، ومن هنا قطعنا بأفضليته صلى الله عليه وسلم على من تقدمه من الأنبياء والرسل.
قال إمام الأئمة الشافعي رحمه الله في الرسالة، في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خيرته المصطفى لوحيه، المجتبى لرسالته، المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعم ما أرسل به رسلا قبله، المرفوع ذكره مع ذكره في الأولى، والشافع في الأخرى، أفضل خلقه نفسا، وأجمعهم لكل خلق رضيّة في دين ودنيا، وخيرهم نسبا ودارا: محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. اه.
وروى الربيع عنه قوله: محمد رسول الله خير خلق رب العالمين.
وقال الحافظ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في المسألة الثالثة من الأصل الرابع عشر من كتابه أصول الدين في تفضيل بعض الأنبياء على بعض قال: قال أصحابنا مع أكثر الأمة بجواز تفضيل بعضهم على بعض، وقال: إن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم.
وقد أجاد الحافظ الحليمي في شعبه وأفاد؛ إذ ساق الأدلة على ذلك من الآيات والأخبار، وبرهن على أفضليته صلى الله عليه وسلم فأتى بما لا مزيد عليه، نقلنا جملة كبيرة منه في شرحنا للدارمي، فليرجع إليه من شاء.(1/32)
الفصل الخامس: كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم تناول المصنّف لموضوعه، ومن روى عنه، أو اقتبس منه أو أشار إليه
لقد توسع المصنف رحمه الله في بعض أبواب الكتاب التي أفردت بالتصنيف، كأبواب فضائل الحرمين مكة والمدينة، وأبواب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفضائل آل البيت، وباب ما ضربه صلى الله عليه وسلم من الأمثال، وغيرها، حتى عوّل عليه في بعض أحاديث تلك الأبواب، وكأنها لا تعرف إلا من جهته رحمه الله.
أولا:
ولنبدأ بأصل موضوعه وهو دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وأعلامها، فقد تميز تناوله لذلك عن غيره، بذكره ما وقع من ذلك منذ أن قضى الله نبوته صلى الله عليه وسلم في سابق علمه.
قال الحافظ في الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام: قد جمع ما وقع من ذلك قبل المبعث، بل قبل المولد: الحاكم في الإكليل، وأبو سعيد- كذا- النيسابوري في شرف المصطفى. اه.
وقال التقي السبكي في شفاء السقام [/ 39] : قال أبو سعيد- كذا- عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، الخركوشي، الواعظ في كتاب شرف المصطفى ... فذكر حديثا، ثم قال: وهذا الكتاب في ثمان(1/33)
مجلدات، ومصنفه عبد الملك النيسابوري، صنف في علوم الشريعة كتبا ...
ومن كتب الدلائل والأعلام أيضا:
1- دلائل النبوة: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، المشار إليه، وهو مطبوع متداول، وقد تقدمت الإشارة إلى أن الحافظ البيهقي ممن روى عن المصنف واستفاد منه وأخرج عنه في كتابه هذا.
2- دلائل النبوة- أو: تثبيت دلائل النبوة-: للقاضي عبد الجبار المعتزلي، طبع بتحقيق: عبد الكريم عثمان.
3- دلائل النبوة: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، المتوفى سنة 430 هـ.
4- دلائل النبوة: للحافظ إسماعيل بن محمد التيمي، أبي القاسم الأصبهاني، المتوفى سنة 535 هـ، طبع باعتناء محمد بن محمد الحداد.
5- دلائل النبوة: لأبي بكر جعفر بن محمد الفريابي، طبع باعتناء عامر حسن صبري.
وممن ألف في الدلائل أيضا:
6- إبراهيم بن الهيثم البلدي، المتوفى سنة 277 هـ «1» .
__________
(1) تاريخ بغداد [6/ 206] ، ويلاحظ أنا أقتصرنا على ذكر أسماء المؤلفين في هذا دون اسم كتبهم لما رأينا من تجوز أهل العلم في التسمية، كما وقع لكتاب المصنف، وقد استفدنا في هذا من كتب التراجم التي ترجمت لأصحابها، وكتب المؤلفات كهدية العارفين، وكشف الظنون، والذيل عليه لإسماعيل باشا، وكتاب السخاوي المسمى بالاعلان بالتوبيخ، ومعجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاح الدين المنجد، والسيرة النبوية الصحيحة للدكتور-(1/34)
7- إبراهيم بن إسحاق الحربي، المتوفى سنة 285 هـ.
8- أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، المتوفى سنة 264 هـ.
9- أبو قتيبة: عبد الله بن سلم، المتوفى سنة 276 هـ.
10- ابن أبي الدنيا عبد الله بن محمد، المتوفى سنة 281 هـ.
11- ثابت بن حزم السرقسطي، المتوفى سنة 313 هـ.
12- إبراهيم بن حماد بن إسحاق، المتوفى سنة 330 هـ.
13- محمد بن أحمد بن إبراهيم العسال، المتوفى سنة 349 هـ.
14- أبو بكر: محمد بن الحسن النقاش المقرئ، المتوفى سنة 351 هـ.
15- سليمان بن أحمد الطبراني، المتوفى سنة 430 هـ.
16- محمد بن علي القفال الشاشي، المتوفى سنة 366 هـ.
17- عبد الله بن محمد بن حبان الأصبهاني، المعروف ب: أبي الشيخ، المتوفى سنة 369 هـ.
18- ابن منده، أبو عبد الله محمد بن إسحاق، المتوفى سنة 395 هـ.
19- جعفر بن محمد المستغفري، المتوفى سنة 432 هـ.
20- أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، المتوفى سنة 434 هـ.
21- أبو ذر مصعب بن محمد الخشني، المتوفى سنة 604 هـ.
ومن كتب أعلام النبوة أيضا:
22- أعلام النبوة: لأبي الحسين الماوردي، المتوفى سنة 450 هـ، وهو مطبوع.
__________
- الفاضل أكرم ضياء العمري، وتاريخ التراث العربي للدكتور فؤاد سزكين.(1/35)
23- أعلام النبوة: لأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، المتوفى سنة 277 هـ.
24- أعلام النبوة: لعلاء الدين مغلطاي، المتوفى سنة 762 هـ.
25- أعلام النبوة- أو: إمارات النبوة-: لإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، المتوفى سنة 295 هـ.
26- أعلام النبوة: لعبد الله بن عبد العزيز البكري، الأندلسي، المتوفى سنة 487 هـ.
ثانيا:
ومما تناوله المصنف رحمه الله في كتابه هذا: شرفه صلى الله عليه وسلم في القرآن، وما فيه من الآيات التي تبين عن عظيم قدره، وعلو منزلته، وما ذكر فيه من أسمائه وصفاته وغير ذلك.
وقد كتب في هذا الجزء أيضا:
1- الحافظ أبو عبد الله الحليمي، في شعب الإيمان في الباب الخامس عشر.
2- ثم عول عليه الحافظ البيهقي في شعبه.
3- وممن كتب فيه أيضا وتوسع: القاضي عياض، في كتابه الشفاء، فقال في الباب الأول منه:
في ثناء الله تعالى عليه، وإظهاره عظيم قدره لديه: اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدّ محاسنه وتعظيم أمره وتنويه قدره، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه وبان(1/36)
فحواه، وجمعنا ذلك في عشرة فصول:
الفصل الأول: فيما جاء من ذلك مجرى المدح والثناء وتعداد المحاسن كقوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الآية.
الفصل الثاني: في وصفه تعالى له بالشهادة وما يتعلق بها من الثناء والكرامة.
الفصل الثالث: فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة والمبرة.
الفصل الرابع: في قسمه تعالى بعظيم قدره.
الفصل الخامس: في قسمه تعالى جده له لتتحقق مكانته عنده.
الفصل السادس: فيما ورد من قوله تعالى في جهته صلى الله عليه وسلم مورد الشفقة والإكرام.
الفصل السابع: فيما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز من عظيم قدره وشريف منزلته على الأنبياء وحظوة رتبته عليهم.
الفصل الثامن: في إعلام الله تعالى خلقه بصلاته عليه وولايته له ورفعه العذاب بسببه.
الفصل التاسع: فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله عليه وسلم.
الفصل العاشر: فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كرامته عليه ومكانته عنده وما خصه به من ذلك سوى ما انتظم فيما ذكرناه قبل.
4- وممن كتب في هذا أيضا: الحافظ القسطلاني في المقصد السادس من المواهب اللدنية وهو في: آيات من التنزيل في تعظيم قدره صلى الله عليه وسلم، وفيه:(1/37)
النوع الأول: في آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته.
النوع الثاني: في أخذ الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه.
النوع الثالث: في وصفه له صلى الله عليه وسلم بالشهادة وشهادته له بالرسالة.
النوع الرابع: في التنويه به صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل.
النوع الخامس: في آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته، وفيه فصول:
الفصل الأول: في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم.
الفصل الثاني: في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلي لديه.
الفصل الثالث: في قسمه تعالى على تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى في خطابه.
الفصل الرابع: في قسمه تعالى على تحقيق رسالته.
الفصل الخامس: في قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده.
النوع السادس: في وصفه تعالى له صلى الله عليه وسلم بالنور والسراج المنير.
النوع السابع: في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته.
النوع الثامن: فيما يتضمن الأدب معه صلى الله عليه وسلم.(1/38)
النوع التاسع: في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه صلى الله عليه وسلم ترفيعا لشأنه.
النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه صلى الله عليه وسلم مشكلات متشابهات.
5- وممن كتب في ذلك وصنف: شيخنا الحافظ العلّامة محدث المغرب ومسندها السيد عبد الله بن صديق الغماري رحمه الله تعالى في كتابه الجليل: «دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين» ، يقول في مقدمته نظما:
هذا كتاب دلالة القرآن ... أوضحت فيه حقائق التبيان
وجعلته وضعا رصينا شيدت ... صفحاته بنواصع برهان
ينبيك عن قدر النبي وفضله ... بسواطع جاءت من الفرقان
فاق الشفا ومواهبا في بحثه ... وأجاد في سبك وحسن بيان
والله أرجو سائلا بكتابه ... ونبيه أجرا بلا حسبان
بدأ فيه شيخنا بما جاء من فضائله وقدره في سورة البقرة ومنتهيا بسورة الناس على ترتيب السور في القرآن.
6- وممن ألف في هذا الجزء أيضا: شيخنا العلّامة الدكتور عويد بن عياد الكحيلي المطرفي الأستاذ المشارك في علوم الكتاب والسنة، ورئيس قسم القضاء بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، ثم وكيل الكلية للدراسات العليا والبحث العلمي بكلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقا، في رسالة علمية مطبوعة عنوانها: «آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والاجتهاد» أورد فيه من الآيات التي يشتبه ظاهرها على بعض من قصر باعه عن معرفة الأسلوب الخطابي للقرآن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم،(1/39)
فيهمون جهلا، ويظنون خطأ أنها آيات عتاب ومؤاخذة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي ليست كذلك، فتناول شيخنا تلك الآيات بالشرح والتفسير مسلما جدلا لمن يقول بأنها آيات عتاب ومؤاخذة، مفندا في الوقت نفسه أنواع ما كان من ذلك في الخطاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء منه في القرآن ومبينا الأسلوب الذي انتهجه سبحانه في كتابه مع نبيه مما هو معروف ومعلوم عند العرب حتى يخلص الدكتور في بحثه إلى أن جميع تلك الآيات الواردة في هذا الباب إنما هي آيات تشريف وتكريم وأنها آيات وردت لطمأنة نفس النبي صلى الله عليه وسلم بعدم مؤاخذته لما كان منه ويكون، وذلك من خلال القرائن الواردة في تفسيرها والأدلة الثابتة في أسباب نزولها.
وأما ما جاء من التنويه بشرفه وفضله صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة فلم أر من أفرده بالتصنيف، على كثرة ما جاء من ذلك وصحته، لكن عقد كثير ممن صنف في سيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم أبوابا في ذلك، وأوردوا ما جاء في الكتاب العزيز من الإشارة إلى ذلك كقوله تعالى:
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ الآية، وكقوله تعالى:
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ونحو ذلك من الآيات، منهم ابن سعد في الطبقات.
ثالثا:
ومما تناوله- رحمه الله- في كتابه هذا أيضا سيرته صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب والطب، وتناول أيضا ما يتصل به صلى الله عليه وسلم من ملابس وفرش وما يتعلق به ويستخدمه من أدوات ومركوب وأسلحة.
وقد استفاد من طريقته هذه واقتبس منه:
الحافظ أبو حفص عمر بن محمد الشهير بالملّاء الموصلي في كتابه(1/40)
«وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم» ، طبع بالهند سنة 1391 هـ مؤخرا، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، فيه جملة من الأحاديث- كما سترى- استفادها واقتبسها من المصنف.
ومن مظان هذا البحث أيضا كتب الشمائل، ومنها:
1- شمائل الترمذي: الإمام المشهور صاحب الجامع.
2- كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: لأبي الشيخ الأصبهاني، المتوفى سنة 369 هـ.
3- الأنوار في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم المختار: للحافظ محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي، المتوفى سنة 516 هـ.
4- كتاب إمتاع الأسماع بما للنبي صلى الله عليه وسلم من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع: لتقي الدين المقريزي، المتوفى سنة 845 هـ.
5- كتاب الرصف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل والوصف: للعلامة محمد بن محمد العاقولي، المتوفى سنة 797 هـ.
6- كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد: لابن قيم الجوزية، المتوفى سنة 751 هـ.
7- سفر السعادة: للعلامة مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس، المتوفى سنة 826 هـ.
8- الوفا بأحوال المصطفى: لأبي الفرج ابن الجوزي، المتوفى سنة 597 هـ.(1/41)
رابعا:
ومما تناوله الحافظ الخركوشي في كتابه هذا أيضا خصائصه صلى الله عليه وسلم التي اختصه الله بها، وفضّله بها على إخوانه من الأنبياء والمرسلين وسائر البشر.
ولا يخفى أن مظان هذا البحث كتب السنة المشهورة، لكن جماعة من أهل العلم أفردوها بالتصنيف.
وقد اقتبس منه الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى جملة من الأحاديث والنصوص كما سترى في ثنايا التعليق من أبواب الخصائص والفضائل.
وممن أفرد هذا الموضوع بالتصنيف:
1- الحافظ أبو حفص عمر بن علي الأنصاري، الشهير بابن الملقن في كتابه: غاية السول في خصائص الرسول، المتوفى سنة 804 هـ.
2- الإمام الفقيه العلامة: العز بن عبد السلام في كتابه: بداية السول في تفضيل الرسول.
3- الحافظ قطب الدين محمد بن محمد الخيضري في كتابه: اللفظ المكرم بخصائص النبي المعظم، طبع مؤخرا بتحقيق: الدكتور محمد الأمين الجكني.
4- شمس الدين ابن طولون، المتوفى سنة 953 هـ في كتابه:
مرشد المختار إلى خصائص المختار، أيضا طبع مؤخرا بتحقيق:
الدكتور بهاء محمد.
5- السيد محمد بن أحمد الأهدل في كتابه: فتح الكريم القريب شرح أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب.(1/42)
خامسا:
ومما تناوله العلامة الخركوشي في كتابه هذا وتوسع فيه: فضائل الصحابة وفضائل آل البيت.
وقد اقتبس منه جملة من الأحاديث المحب الطبري في «ذخائر العقبى» ، والمرتضى الفيروز آبادي في «فضائل الخمسة من الصحاح الستة» ، وأبو حفص الملّاء في «وسيلة المتعبدين» .
ولا يخفى أن من مظان هذا البحث: الكتب الستة المشهورة، لكنها أفردت بالتصنيف في كتب منها:
1- كتاب الفضائل: للإمام أحمد بن حنبل.
2- كتاب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: للحافظ النسائي صاحب السنن.
3- كتاب الذرية الطاهرة: للحافظ أبي بشر الدولابي، المتوفى سنة 310 هـ.
4- كتاب الحافظ أبي الحسن الواسطي الجلّاني الشافعي الشهير بابن المغازلي، المتوفى سنة 483 هـ، طبع المكتب العالمي للبحوث.
5- كتاب الشرف المؤبد لآل محمد: للشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني.
6- كتاب در السحابة في مناقب القرابة والصحابة: للعلامة محمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1250 هـ.
سادسا:
ومما تناوله العلامة الخركوشي في كتابه هذا وتوسع فيه:
باب الأقوال النبوية، وما ضربه صلى الله عليه وسلم من الأمثال، وقد أفرده بالتصنيف:(1/43)
1- القاضي أبو محمد الحسن الرامهرمزي، المتوفى سنة 360 هـ، في كتابه: أمثال الحديث.
2- وأبو الشيخ الأصبهاني، المتوفى سنة 369 هـ، أيضا في كتابه: أمثال الحديث النبوي.
3- وأبو عبد الله محمد الحكيم الترمذي.
وكلها بحمد الله مطبوعة ومتداولة بين أهل العلم.
سابعا:
ومما تناوله صاحبنا العلامة أيضا في كتابه هذا وتوسع فيه: فضائل مكة والمدينة زادهما الله شرفا، عوّل كثيرا فيما يتعلق بتاريخ مكة على كتاب أبي الوليد الأزرقي، وما يتعلق بتاريخ المدينة وفضائلها على تاريخ المدينة للعلامة النسابة يحيى بن الحسين العلوي، وهو بإسناده إلى ابن زبالة أو ابن النجار أو الزبير بن بكار في أخبار وتاريخ المدينة لهم.(1/44)
الفصل السّادس: وصف حال كتاب شرف المصطفى، وأصوله الخطّيّة، وعملنا في التّحقيق
عند قراءتنا لأصل الكتاب الخطي، ومطابقة أصوله بعضها ببعض وجدنا أن العمل فيه يتطلب جهدا كبيرا، إذ سيكون العمل فيه متعدد الجوانب غير مقتصر على المقابلة والتخريج كما في غالب تحقيق المخطوطات.
فهو أشبه ما يكون بالكتاب الذي لم يبيضه مصنفه بعد، مع شهرته عند المتقدمين، وإشادة أهل العلم به واقتباسهم منه.
أبوابه غير مرتبة، وعند المقارنة بين النسخ نجدها لم تتفق على ترتيب واحد لها، أحاديثه- غير المسندة- مسرودة على طريقة المحدثين الأولى، الحديث تلو الآخر، دون النظر إلى الرابط الموضوعي بينها، أو العلاقة بين الحديث والترجمة.
أحاديث المعجزات غير مفندة، تجد حديثا في معجزة نبع الماء، ثم حديثا في دعائه صلى الله عليه وسلم على الأعداء، ثم حديثا في أثر يده الشريفة صلى الله عليه وسلم في الشفاء، ثم حديثا في إجابة الأشجار والأحجار له صلى الله عليه وسلم، ثم يعود ثانية إلى معجزة الماء فيورد قصة أخرى غير الأولى، وهكذا اتبع طريقته هذه في أكثر الأبواب.
وقد تبين أن إثبات النص على هذا النحو وإخراجه كما ورد في الأصول لن يعطيه القيمة العلمية التي ينبغي أن تعطى لمثله من كتب أهل(1/45)
الرواية في هذا الموضوع، وقد تصبح الإستفادة منه إذا ما ظهر على هذا النحو محدودة، وبذلك يفقد النص أهميته، والكتاب موضعه، والمحقق جهده.
ولما رأينا خدمة المتقدمين من أهل العلم في التحقيق، قد تعددت طرقها وتنوعت، حتى شملت أعمالهم في ذلك إعادة ترتيب الأبواب والأحاديث، رأينا أن نأخذ بذلك، إذ كان لنا فيمن تقدم أسوة.
فكان مما قمت به:
1- أعدت ترتيب أبواب الكتاب بما يتناسب والأحداث التاريخية للسيرة ما أمكن.
2- أعدت ترتيب الأحاديث المنثورة والمسرودة بحيث يتم إدخالها فيما بوّب له المصنف إن وجدت العلاقة بينها وبين الترجمة، وإلا ترجمت لها بترجمة من عندي، مشيرا إلى ذلك بفصل، ليسهل التفريق بين عملي وما بوب له المصنف، وكذا اجتهدت في ترتيب ما كرره المصنف من الأحاديث إن لم تكن ثمة علاقة.
3- ترجمت لأحاديث المعجزات في فصول كما تقدم، وذلك بعد تنفيدها ثم جمعها وترتيبها، كأحاديث حنين الجذع، وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وغيرها من المعجزات.
4- قمت بعمل ترجمة لرجال الأحاديث المسندة في أول كل موضع، نقلت كلام الأئمة فيهم باختصار مفيد غير مخل.
5- قمت بتخريج أحاديث الكتاب وآثاره ما أمكن لي، مع ذكر أقوال المحدثين فيه.(1/46)
6- لم أعتن بشرح الأحاديث والآثار بقدر الاعتناء بتخريجها، غير أني أتطرق إلى ذلك أحيانا فلا أدعه بالكلية.
7- اهتممت بتوثيق النصوص- اهتماما أرجو أن يكون جيدا- فنقلت عزو المتقدمين لنصوص الكتاب وآثاره ما أمكن.
هذا باختصار خلاصة العمل الذي قمت به عند التحقيق أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسدد قلمي فيه وأن يلهمني الصواب فيما أكتبه، وأن يتقبله مني، ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه سميع قريب مجيب
أما أصوله الخطية:
فقد ذكر الدكتور فؤاد سزكين أن للكتاب عدة نسخ خطية منها «1» :
1- نسخة في مكتبة برلين تحت رقم 9571، وعدد أوراقها 313، نسخت سنة 447 هـ، حصلنا على صورة منها مصورة، خطها كبير وواضح، وهي أقرب النسخ عهدا بالمؤلف، كما يظهر من تاريخ نسخها، غير أن بها عيوبا، إذ يوجد بها خرم وسقط وليس بها سماعات، ولا في صفحاتها الأخيرة ما يدل على انتهاء الكتاب، وقد عوضنا ذلك الخلل الحاصل فيها بالنسخة التالية.
2- وهي نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق، والموجودة تحت رقم 35 من قسم السيرة النبوية، وعدد أوراقها 207، نسخت سنة 597،
__________
(1) تاريخ التراث العربي المجلد الأول [4/ 177- 178 قسم العقائد والتصوف] جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1403 هـ- 1983 م.(1/47)
خطها جميل وواضح، وفي أولها سند الكتاب وابتداؤه، وفي آخرها ما يدل على انتهائه وتمامه، وفي الصفحتين الأخيرتين سماعات دوّن تاريخها ومكانها، ساعدنا في الحصول عليها أمناء المكتبة والقائمين عليها جزاهم الله خيرا.
سقط منها بعض الأبواب الموجودة في النسختين الأخريين.
3- أما نسخة المتحف البريطاني والموجودة بالملحق تحت رقم 509 من قسم المخطوطات الشرقية 3014، فعدد أوراقها 254، نسخت سنة 815، فهذه أيضا يوجد بها نقص وخرم، وليس بها سماعات، وقد حصلنا على صورة منها بواسطة القائمين على خدمة العلم وأهله بمكتبة الملك فيصل بن عبد العزيز- رحمه الله-.
هذه النسخ الثلاث هي التي اعتمدت عليها عند المقابلة، جاءت مكملة لبعضها البعض، وقد جعلت نسخة الظاهرية هي المرجع عند الاختلاف.
وقد زاد بروكلمان على ما ذكره الدكتور فؤاد بشأن نسخ الكتاب.
4- نسخة المكتبة السليمانية، قسم ولي الدين تحت رقم 888، عدد أوراقها 191، ونسخت سنة 755 هـ، لكنها باللغة الفارسية.
5- قطعة منه موجودة في توبنجن، تحت رقم 12، نسخت في القرن الخامس الهجري، تلي نسخة برلين في قدم النسخ، لكنها قطعة ناقصة، لذلك لم اجتهد في طلبها والوقوف عليها.
6- قطعة أخرى في برلين، تحت رقم 9572، أظنها الأوراق(1/48)
الساقطة من نسختنا الأولى فقد ذكر أنها من صفحة 297 إلى 313.
هذا وقد أشرنا في التحقيق إلى نسخة برلين بالحرف «ب» ، وإلى الظاهرية بالحرف «ظ» ، وإلى نسخة المتحف البريطاني بالحرف «م» .(1/49)
نماذج من النّسخ الخطّيّة المعتمدة في التّحقيق(1/51)
(أ) نماذج مصورة من نسخة الظاهرية (صورة صفحة العنوان)(1/53)
(صورة الصفحة الأولى من النسخة الظاهرية)(1/54)
(صورة الورقة الثانية (أ) من نسخة الظاهرية)(1/55)
(صورة نموذج من نسخة الظاهرية)(1/56)
الصفحة ما قبل الأخيرة من نسخة الظاهرية ويظهر فيها جزء من السماعات(1/57)
الصفحة الأخيرة من نسخة الظاهرية ويظهر فيها جزء من السماعات(1/58)
(ب) نماذج مصورة من نسخة المتحف البريطاني (صفحة العنوان)(1/59)
الصفحة الأولى من نسخة المتحف البريطاني(1/60)
صورة نموذج من نسخة المتحف البريطاني(1/61)
الصفحة ما قبل الأخيرة من نسخة المتحف البريطاني(1/62)
الصفحة الأخيرة من نسخة المتحف البريطاني(1/63)
(ج) نموذج مصور للصفحات الأولى مننسخة برلين (صفحة العنوان)(1/64)
صورة نموذج من نسخة برلين(1/65)
صورة نموذج من نسخة برلين(1/66)
الفصل السّابع: في تراجم الرّواة المذكورين في سند الكتاب
1- أبو القاسم: عبد الكريم بن هوازن القشيري:
«1» قال الحافظ الذهبي: هو الإمام الزاهد، القدوة: الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري، الخراساني، النيسابوري، الشافعي، الصوفي، المفسر، صاحب الرسالة شيخ خراسان، وأستاذ الجماعة، ومقدم الطائفة.
ولد سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، توفي أبوه وهو طفل، فوقع إلى أبي القاسم اليماني، فقرأ الأدب والعربية عليه، وتعانى الفروسية والعمل بالسلاح حتى برع في ذلك.
__________
(1) - أبو القاسم: عبد الكريم بن هوازن القشيري، انظر عنه في: سير أعلام النبلاء [18/ 227] ، تاريخ بغداد [11/ 83] ، المنتظم [16/ 148] ، طبقات الشافعية للسبكي [5/ 153] ، طبقات الإسنوي [2/ 313] ، طبقات الأولياء [/ 257] ، طبقات ابن قاضي شهبة [1/ 273] ، وفيات الأعيان [3/ 205] ، الأنساب [4/ 503] ، طبقات الشافعية لابن الصلاح [2/ 652] ، التقييد لابن نقطة [2/ 131] ، التبيين [/ 271] ، العبر [2/ 319] ، تاريخ الإسلام [حوادث 461- 470 الصفحة 170] ، المنتخب من السياق [/ 334] ، اللباب [3/ 38] ، التدوين [3/ 210] ، النجوم الزاهرة [5/ 91] ، إنباه الرواة [2/ 193] ، طبقات المفسرين للداودي [1/ 238] ، البداية والنهاية [12/ 107] ، دمية القصر [2/ 993] ، الشذرات [4/ 6] ، التدوين في أخبار قزوين [3/ 273] .(1/67)
قال: كانت له ضيعة مثقلة بالخراج بناحية استوا، فرأوا من الرأي أن يتعلم طرفا من الاستيفاء ويشرع في بعض الأعمال بعد ما أونس رشده في العربية لعله يصون قريته ويدفع عنها ما يتوجه عليها من مطالبات الدولة، فدخل نيسابور على هذه العزيمة فاتفق حضوره مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق- وكان واعظ وقته- فاستحلى كلامه فوقع في شبكة الدقاق ونسخ ما عزم عليه، طلب القباء فوجد العباء، وسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق وأقبل عليه، وأشار إليه بتعلم العلم فمضى إلى درس الفقيه أبي بكر الطوسي فلازمه حتى فرغ من التعليق، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك الأصولي فأخذ عنه الكلام والنظر حتى بلغ فيه الغاية، ثم اختلف إلى أبي إسحاق الإسفرايني، ونظر في تواليف ابن الباقلاني، ثم زوجه أبو علي الدقاق بابنته فاطمة.
فلما توفي أبو علي صحب أبا عبد الرحمن السلمي، ولزم المجاهدات، وصار شيخ خراسان في التصوف، وتخرج به المريدون، وكان عديم النظير في السلوك والتذكير، لطيف العبارة، طيب الأخلاق، غواصا على المعاني.
قال أبو سعد السمعاني: لم ير الأستاذ أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته، جمع بين الشريعة والحقيقة.
وقال أبو بكر الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة، حسن الوعظ مليح الإشارة، يعرف الأصول على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي.
وقال أبو الحسن الباخرزي: ماهر في التكلم على مذهب أبي الحسن الأشعري، خارج في إحاطته عن الحد البشري، كلماته(1/68)
للمستفيدين فرائد، وعتبات منبره للعارفين وسائد، له نظم تتوج به رؤوس معاليه، إذا ختمت به أذناب آماليه، اه. باختصار وتصرف مما كتبه عنه الحافظ الذهبي، وأرخ وفاته في سنة خمس وستين وأربع مائة، وقال:
عاش تسعين سنة.
2- عبد الملك بن المعافى التنوخي:
«1» هكذا جاء في الصفحة الأولى من الأصل منسوبا إلى جده الأعلى وهو: عبد الملك بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن المعافى، القاضي الشهير والإمام الكبير، علم الدين وأحد حسنات قزوين أبو القاسم القزويني، قال الرافعي في تاريخه: مشهور بالفضل، لطيف الطبع، كثير الجمع والكتابة، حسن الخط، يتهاداه الناس فيما بينهم، خالط فضلاء العصر مكاتبة ومعاشرة ومشاعرة.
روى عن أبي إسحاق الشيرازي، وأبي علي ابن الوليد، وهبة الله ابن زاذان، والقاضي عبد السلام بن يوسف القزويني، والخطيب أبي زكرياء التبريزي، وأبي عامر: الفضل بن إسماعيل الجرجاني، وعلي ابن الحسن الباخرزي وغيرهم من الكبار.
وروى عن الأستاذ أبي القاسم القشيري، وسمع منه الرسالة بقزوين سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وسمع صحيح البخاري من كريمة المروزية بمكة سنة تسع وخمسين وأربعمائة بروايتها عن الكشميهني، وسمع غريب الحديث لأبي عبيد من أبي حفص عمر بن محمد بن زاذان هبة الله بروايته عن أبي محمد الحسن بن جعفر، عن أبي الحسن
__________
(1) - عبد الملك بن المعافى التنوخي، انظر عنه في: التدوين في أخبار قزوين [3/ 260] .(1/69)
القطان عن علي بن عبد العزيز، وسمع بهيت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة أبا أحمد حامد بن يوسف الحسن التفليسي.
وكان أحد الفضلاء ومن أهل العلم النجباء، أثنى عليه الناس كثيرا، فكان مما كتب فيه وأرسل إليه:
قزوين طابت كالمدينة إذ أتى ... منها الإمام الأفضل ابن معافى
فأفاده الله الفضائل حكمة ... وعدالة وشجاعة وعفافا
وهي التي يعلو بها كل أمر ... يحظى بها الآباء والأسلافا
يا رب بارك في بقايا عمره ... واجعله من عبر الزمان معافى
وقال بعضهم أيضا:
رعى الله خلّا نقي الذمام ... من العذر يلزمنا أن يعافى
هو المشرفي أذيق الصقال ... والسمهري أشم الثقافا
إذا غاب أو آب كان الزمان ... كالليل طال وكالصبح وافا
وفي الناس من لا يبر الصديق ... وابن أخ عن جفاء تجافى
وهم عصب ينكرون العلى ... ولا يعرفون التقى والعفافا
فأعرضت عنهم ومثلي يجب ... أخا الكرام ويهوى الظرافا
وجربتهم واحدا واحدا ... فلم أرض غيرك يا ابن المعافى
توفي ابن المعافى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة رحمه الله ورضي عنه.
3- أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني:
«1» هو الإمام العلامة الفقيه الشافعي رضي الدين أبو الخير أحمد بن
__________
(1) . (3) - أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني، انظر عنه في: سير أعلام النبلاء [21/ 190] ، التكملة للمنذري [1/ 200] ، طبقات-(1/70)
إسماعيل بن يوسف بن محمد بن العباس الطالقاني الواعظ، كثير الخير والبركة ممن نشأ في طاعة الله وتوفي عليها.
ولد بقزوين في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.
تفقه بقزوين على ملكداذ بن علي العمركي- أحد كبار فقهاء الشافعية في وقته- ثم رحل إلى نيسابور فتفقه بمحمد بن محمد الفقيه فبرع في المذهب، فصار إماما فيه وفي أصوله، وعقد مجالس الإملاء فأقبل الناس إليه لحسن سمته، وتواضعه، وحلاوة منطقه، وأحبه أهل العلم والعوام.
وكان كثير الصلاة والعبادة دائم الذكر لله، يقال: كان يختم كل يوم مع استدامته الصوم، ويفطر على قرص واحد.
قال ابن الدبيثي: كان مقبلا على الخير كثير الصلاة، له يد باسطة في النظر، واطلاع على العلوم ومعرفة الحديث.
كان جماعة للفنون رحمه الله، رد إلى بلده فأقام مشتغلا بالعبادة لا يزال رطبا من ذكر الله إلى أن توفي سنة تسعين وخمس مائة، ويقال:
قبلها بسنة.
__________
- السبكي [6/ 7] ، البداية والنهاية [13/ 9] ، النجوم الزاهرة [6/ 134] ، غاية النهاية لابن الجوزي [1/ 39] ، العبر [3/ 100] ، شذرات الذهب [5/ 7] ، مرآة الجنان [3/ 466] ، المختصر المحتاج إليه [1/ 174] ، التقييد لابن نقطة [1/ 137] ، الأنساب [4/ 31] ، اللباب [2/ 77] ، مرآة الزمان [8/ 443] ، هدية العارفين [1/ 88] ، التدوين [2/ 144] ، الوافي بالوفيات [6/ 253] .(1/71)
4- أبو المناقب محمد بن أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني:
«1» هو الإمام الزاهد أبو المناقب وأبو الفتح- ويقال: أبو حامد- محمد ابن الماضي ترجمته: الإمام أبي الخير أحمد بن إسماعيل ابن يوسف بن محمد بن العباس القزويني، الطالقاني، الشافعي.
ولد بقزوين سنة ثمان وأربعين، وبها نشأ، ثم قدم بغداد مع والده وأقام بها معه مدة، ثم تزهد بعد موت أبيه وساح في البلاد ورزق القبول عند الملوك والأمراء، وتكلم فيه الناس لزعمه سماعه من أبي الوقت، فالله أعلم.
أرخ المنذري وفاته سنة اثنتين وعشرين وست مائة، وجعلها الذهبي في تاريخ الإسلام بعدها بسنة ثم كتب في الهامش (فيما ذكره محقق تاريخه) : يحول إلى سنة 619 هـ.
وله أخ أصغر منه اسمه مثل اسمه: محمد بن أحمد بن إسماعيل، وكنيته أبو بكر، توفي سنة 614 هـ.
__________
(1) . (4) - أبو المناقب محمد بن أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني، انظر عنه في: سير أعلام النبلاء [22/ 182] ، التدوين [1/ 171] ، تكملة المنذري [2/ 395- 396، 3/ 194] ، وتاريخ الإسلام [وفيات سنة 619 الصفحة 411] .(1/72)
الفصل الثّامن: في تراجم بعض من سمع الكتاب ودوّن سماعه في أصله
جاء في الصفحة الأخيرة من النسخة الظاهرية ما نصه:
بلغت المقابلة، وصح بحمد الله ومنّه بمعارضة الأصل ولداي:
عبد الله ويوسف، وعارضني بالأصل معهم أيضا الشيخ يوسف بن حسين القرشي المقدسي، وهو ساكن ... من أعمال مصر.
وجاء فيها أيضا: صورة سماع الأصل:
سمع جميع كتاب شرف المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم على الشيخ الإمام العالم حجة الله على خلقه رضي الدين شيخ الإسلام أبي الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني، الطالقاني، الحاكمي، أسعده الله، وهو سمع على الإمام ناصح السنة أبي القاسم عبد الملك بن أحمد بن المعافى التنوخي، وهو ما روى عن الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وهو ما روى عن مصنفه الإمام الفقيه أبي سعد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ الخركوشي رضي الله عنه.
فسمع ولداه: الشيخ ... الدين أبو إسماعيل محمد وفخر الدين أبو المناقب محمد، وإسماعيل بن عبد الملك بن عثمان البارقي الصوفي، والشيخ أبو الحسن علي بن المبارك المقري، والحاج محمد ابن مهند بن علي البارقي، والإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد(1/73)
المساوي، وصاحب الكتاب قاريه الإمام الأجل العالم ركن الدين أبو علي عبد الملك بن سعيد وتاج الدين محمد بن إسماعيل ...
وكتبه: محمد بن عمر بن أبي الحسن الموصلي في شهر الله رجب الأصم سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وبختمه مكتوب الطبقة، بخط الشيخ المسموع عليه.
كذلك سمعوا على كاتبه أحمد بن إسماعيل القزويني.
نقله من الأصل الفقير إلى رحمة الله محمد بن تمام بن علي البصروي البزاز بإملاء الفقيه الإمام عمر بن يوسف خطيب بيت الآبار، من غوطة دمشق، صاحب الكتاب.
وجاء فيها أيضا:
سمع جميع كتاب شرف المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم على الشيخ الإمام العابد الزاهد الثقة الحافظ الورع فخر الدين حجة الإسلام أبي المناقب محمد ابن الإمام رضي الدين أبي الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني الطالقاني الحاكمي أثابه الله- قدم علينا محرما من بيت الله المقدس حرسه الله طالبا للحج في شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمس مائة، نحو سماعه من والده الفقيه الإمام بقية المشايخ رضي الدين أبي الخير أحمد بن إسماعيل رحمه الله، نحو سماعه من الشيخ الإمام ناسخ السنة أبو القاسم عبد الملك بن أحمد بن المعافى التنوخي، قال: أخبرنا الشيخ الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري، قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو سعد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ النيسابوري الخركوشي مصنفه رحمه الله-، الشيوخ السادة وفقهم الله: صاحب الكتاب الشيخ الفقيه الإمام العالم العابد الورع الفاضل أبو عبد الله: عمر بن يوسف بن يحيى(1/74)
المقدسي الشافعي خطيب بيت الآبار من غوطة دمشق بقراءته أسعده الله في الدارين الدنيا والآخرة.
وسمع معه: ولداه أبو طاهر يوسف وأبو المعالي داود جبرهما الله تعالى والمعمر إسماعيل بن كيمان بن إيداش السلّار وابن أخيه أحمد بن علي بن سليمان بن إيداش السلار، والأمير إيداش بن يوسف بن إيداش السلار وعبد الله بن محمد بن عبد الله الطائي الضرير الحنفي وعبد الرحيم بن محمد ... ومحمد شاه بن أحمد بن سونج السنجاري ... ابن عبد الله المعظمي والخضر بن الحسين بن الخضر بن عبدان الأزدي وولده أبو الحسين عبد الرحمن وأبو عبد الله محمد بن عثمان بن عابد الأنصاري وإبراهيم بن عمر بن محمد القزويني وجبريل بن أبي الحسن ابن عبد العزيز الأنصاري وعلي بن تميم بن عبد السلام المغربي ومحمد وعمر وإبراهيم أولاد ... ابن عبد الله المعظمي، وأبو محمد ابن حازم بن جوهر ...
وكارم بن ناصر بن طاهر ... وولده عبد الرحيم وأبو الحسن علي بن وهب بن عبد الواحد ... وإبراهيم بن أحمد بن أبي الفضل الواسطي وعبد الواحد بن أبي الحسن بن عبد الواحد ابن ... والفقيه الإمام محمد بن أبي المعالي بن موهوب ... وكاتب الأسماء الفقير إلى رحمة الله محمد وأبو التمام ابن علي البصروي البرّاد.
وسمع أبو بكر بن ربعي بن عبد الله المعظمي من باب ذكر عصمة الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى باب مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومن باب ما خصّ به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرف في القرآن إلى آخر الكتاب، وأجاز له الشيخ المستمع ما كان منه، وسمع آخرون في مجمل سماعهم.
وصح ذلك لهم وثبت بقراءة الفقيه الإمام عمر بن يوسف خطيب(1/75)
بيت الآبار المقدم ذكره وذلك في مجالس عدة آخرها يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شوال سنة سبع وتسعين وخمس مائة بمقصورة الحنفية الشرقية من جامع دمشق عمّره الله تعالى.
كتبه أبو المناقب محمد بن أحمد الطالقاني الشامي رضي الله عنه.
1- عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي: «1»
الشافعي، الإمام الصالح والشيخ العابد أبو حفص- ويقال:
أبو عبد الله- الملقب بالموفق، وخطيب بيت الآبار- قرية من قرى دمشق- توفي بها ودفن من الغد.
حدّث عن أبي القاسم بن عساكر، وخطب نيابة بجامع دمشق مدة.
روى عنه ولداه، والقوصي وغيرهم.
توفي في رجب سنة 618 هـ.
2- أبو الطاهر: يوسف بن عمر بن يوسف بن يحيى: «2»
وهو ابن عمر بن كامل المقدسي الزبيدي، ابن المتقدم قبله، الملقّب بالضياء.
__________
(1) - عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي، انظر عنه في: تكملة المنذري [3/ 53] ، تاريخ الذهبي [حوادث سنة 618، الصفحة 373] ، البداية والنهاية [13/ 96] ، سير أعلام النبلاء [23/ 302] .
(2) - أبو الطاهر: يوسف بن عمر بن يوسف بن يحيى، انظر عنه في: الشذرات [5/ 461] ، العبر [3/ 314] .(1/76)
سمع: الجنزوي، والخشوعي، وناب في خطابة دمشق زمن العادل.
توفي يوم الجمعة سنة 665 هـ.
3- أبو المعالي: داود بن عمر بن يوسف بن يحيى المقدسي: «1»
الشافعي الملقب بالعماد، الدمشقي، الآباري، أخو المتقدم قبله، وخطيب بيت الآبار وابن خطيبها.
سمع: الخشوعي، وعبد الخالق بن فيروز، وابن عساكر، وابن طبرزد.
روى عنه: الدمياطي، والعماد بن البالسي، والفخر بن عساكر، وابنه محمد بن داود.
قال الذهبي: كان فاضلا، دينا فصيحا مليح الموعظة، درس بالغزالية، وخطب بدمشق بعد انفصال الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم بعد ست سنين عزل العماد ورد إلى خطابة قريته.
4- علي بن المبارك بن الحسن الواسطي: «2»
هو الإمام المقرئ تقي الدين أبو الحسن بن باسويه البرجوني،
__________
(1) - أبو المعالي: داود بن عمر بن يوسف بن يحيى المقدسي، انظر عنه في: سير أعلام النبلاء [23/ 301] ، ذيل مرآة الزمان [1/ 126] ، العبر [3/ 279] ، البداية والنهاية [13/ 213] ، عيون التواريخ [20/ 168] .
(2) - علي بن المبارك بن الحسن الواسطي، انظر عنه في: تكملة المنذري [3/ 394] ، النجوم الزاهرة [6/ 292] ، معرفة القراء الكبار [2/ 622] ، تذكرة الحفاظ [4/ 1458] ، المختصر المحتاج إليه [15/ 317] ، غاية النهاية [1/ 562] ، الشذرات [5/ 256] .(1/77)
الفقيه الشافعي قرأ بالروايات العشر على علي بن المظفر الخطيب وأخذ عن أبي بكر الباقلاني، وسمع أبا طالب الكتاني وأبا شاتيل وأبا السعادات القزاز وعبد المنعم بن الفراوي.
ثم تصدر للإقراء، فقرأ عليه علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي، والرشيد بن أبي الدر، والتقي يعقوب الجرائدي والعماد الفصال، والصفي المراغي.
وروى عنه الضياء، وابن الحلوانية، وأبو القاسم عبد الصمد بن الحرستاني، ومحمد بن قايماز، ومحمد ابن مشرف، ومات في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وست مائة.
قال الذهبي: كان ثقة إماما.(1/78)
الفصل التّاسع: في ذكر سند المحقّق إلى أبي القاسم القشيريّ راوي الكتاب، وسنده إلى عمر بن يوسف صاحب الأصل والسّماع
محل بسط هذا الفصل تجده في القسم الثاني من كتابي: الاعتزاز بذكر بعض من لقيت وسمعت ومن أجاز، المسمى: بالطلعة البدرية بالأسانيد الغمرية، حيث ذكرت هناك طرق الرواية إلى كتب الأسانيد والأثبات، وسأقتصر هنا على ذكر بعضها اختصارا وتبركا بشيخنا الجليل القدوة رفيع الأخلاق، الولي الحجة باتفاق: الحبيب عبد القادر بن أحمد بن عبد الرحمن السقاف.
قال لي شيخي: أتصل بأبي القاسم القشيري بإسناد رجال المجاهدة فأروي كتابه: الرسالة وغيرها، من طريق والدي: الحبيب أحمد بن عبد الرحمن، والحبيب: سالم بن حفيظ، صاحب مشطة، كلاهما عن صاحب عقد اليواقيت، ومنحة الفتاح، وعقود اللآلئ، العارف بالله:
عيدروس بن عمر الحبشي [ح] .
وقال شيخي الفقيه قاضي مكة والحجاز الحسن بن محمد المشاط:
أروي كتاب الرسالة وغيرها لأبي القاسم القشيري عن الحبيب مصطفى ابن أحمد المحضار، عن مفتي مكة السيد: حسين بن محمد الحبشي، كلاهما- صاحب العقد، والسيد حسين- عن والد الثاني الفقيه مفتي مكة السيد محمد بن حسين الحبشي، عن العارف بالله شيخ العلم والعمل السيد: عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل،(1/79)
عن أبيه، عن جده، عن الشيخ المحدث: الحسن بن علي العجيمي [ح] .
وقال لي شيخي محدث طنجة والديار المغاربية السيد عبد الله بن الصديق الغماري: أتصل بالعلامة المحدث: السيد مرتضى الزبيدي الحنفي، المتوفى سنة 1205 هـ، بأعلى سند يوجد في الدنيا اليوم، عن شيخنا القاضي عبد الحفيظ الفاسي، عن يوسف السويدي البغدادي، عنه، وهو عن السيد الفقيه: شيخ بن زيد باعبود العلوي الحضرمي، الشافعي، عن الشهاب: أحمد بن محمد النخلي [ح] .
قال السيد عبد الله بن الصديق: وأروي ثبت العلامة محمد الأمير المصري المالكي، عن شيخي الفقيه المسند المعمّر: محمد بن دويدار التلاوي الكفراوي- وقد جاوز المائة- عن البرهان إبراهيم الباجوري عنه، وهو عن الشهابين: أحمد بن عبد الفتاح الملوي، وأحمد بن الحسن الجوهري، كلاهما عن الحافظ المسند: أبي سالم عبد الله بن سالم البصري المكي، ثلاثتهم: الحسن بن علي العجيمي، وأحمد بن محمد النخلي، وعبد الله بن سالم البصري، عن الحافظ الشمس محمد ابن العلاء البابلي، عن الشيخ محمد حجازي الواعظ، عن النجم محمد ابن أحمد الغيطي، عن الفقيه الشافعي القاضي الشيخ: زكرياء بن محمد الأنصاري، عن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم المعروف بابن الفرات، عن قاضي القضاة أبي عمر: عز الدين عبد العزيز بن البدر بن جماعة، عن أبي الفضل بن عساكر، عن المؤيد الطوسي، عن أبي الفتوح عبد الوهاب الشاذياخي، عن القطب أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري صاحب الرسالة.
وأرويه من طرق أخرى بأسانيد عن الحبيب أحمد مشهور الحداد،(1/80)
والحبيب المعمّر أبي بكر: عطاس الحبشي، وعن شيخنا مسند وقته العلم أبي الفيض الفاداني رحمه الله تعالى، وعن شيخي في القراءات السبع، مقرئ فاس الحافظ المجود المعمّر: المكي بن عبد السلام بن كيران تغمّده ربي بالمغفرة والرضوان، والمحدث عبد الفتاح أبو غدّة، وغيرهم بأسانيدهم التي ذكرتها في الطلعة البدرية إلى الشمس البابلي عن الشيخ سالم بن محمد السنهوري المتوفى سنة 1015 هـ، عن العلامة النجم الغيطي، عن القاضي زكرياء الأنصاري، عن الحافظ ابن حجر، عن الصلاح محمد بن عمر، عن الفخر علي بن البخاري، عن زينب بنت عبد الرحمن الشعري، عن أبي الفتوح: عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي، عن أبي القاسم بن هوازن القشيري.
فهذان طريقان إلى تلميذ أبي القاسم.
وأتصل بصاحب الأصل والسماع: الحافظ عمر بن يوسف بإسناد عال، أخبرنا به شيخنا محدث طنجة ومسندها السيد: عبد الله بن الصديق الغماري، عن شيخه محمد إمام السقا خطيب الأزهر، عن أبيه البرهان إبراهيم السقا، عن الإمام الولي محمد بن سالم بن ناصر الشهير بثعيلب الفشني، عن الشهابين المذكورين: الملوي والجوهري، كلاهما عن أبي العز العجمي، عن الشمس الشوبري، عن الشهاب أحمد بن محمد الرملي، عن القاضي زكرياء الأنصاري، عن الحافظ ابن حجر، عن أبي هريرة عبد الرحمن بن محمد الذهبي، عن أبيه الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، عن محمد بن داود بن عمر بن يوسف بن يحيى الآباري، عن أبيه داود بن عمر، عن جده عمر بن يوسف صاحب الأصل والسماع.(1/81)
وصف الحافظ الذهبي شيخه محمد بن داود في معجم الشيوخ [2/ 186] بالمسند المكثر.
وبهذا الفصل ينتهي ما أردنا جمعه في هذه المقدمة، ويليه إن شاء الله تعالى النص المحقق.(1/82)
ثانيا: النّصّ المحقّق كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعه: مناحل الشّفا ومناهل الصّفا(1/83)
مقدمة المؤلّف
بسم الله الرّحمن الرّحيم استعنت بالله وحده وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب جزى الله محمّدا عنّا ما هو أهله أخبرنا الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الورع الصالح أبو المناقب:
محمد ابن الإمام العالم الفقيه أبي الخير: أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني الحاكمي القزويني أثابه الله وأعانه، - قدم علينا طالبا للحج- بقراءتي عليه بمقصورة الحنفية الشرقية من جامع دمشق حرسها الله في آخرين رحمهم الله في مجالس أولها يوم الأحد ثامن وعشرين من شهر رمضان وآخرها العشرين من شوال سنة سبع وتسعين وخمسمائة، قال: أخبرنا والدي الإمام العالم الفقيه رضي الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع في مدة آخرها شهر الله الأصم رجب سنة اثنتين وستين وخمسمائة في آخرين رحمهم الله، قال: أخبرنا الإمام العالم ناصح السنة أبو القاسم عبد الملك بن معافى التنوخي رحمه الله، قال:
أخبرنا الإمام العالم الأستاذ الفقيه أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله قال: أخبرنا الإمام العالم الفقيه الواعظ أبو سعد: عبد الملك ابن الإمام أبي عثمان محمد بن إبراهيم النيسابوري الخركوشي قال:
الحمد لله الذي تجلى لقلوب أهل الولاية بأنوار الهداية، وحفظهم بدوام الكلاءة، والحمد لله الحي المعبود الواحد الموجود، والحمد لله(1/85)
الحميد المجيد الفعّال لما يريد، ذي الفضل العظيم والطّول الكريم، ناصر الحق وأهله، وقامع الباطل وحزبه، وجاعل العاقبة للمتقين، والحمد لله الذي أظهر من بدائع آثار سلطانه آيات ألوهيته، والحمد لله الذي أنعم فأجزل، وأعطى فأكثر، والحمد لله الذي خلق فأتقن، وصنع فأحكم، وحكم فعدل، وقال فصدق، ووعد فأنجز، وأنعم فأسبغ، والحمد لله الذي اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم صفوته، وساق إلى الجنة زمرته، وفرض الإسلام ملّته، والكعبة قبلته، وجعل خير الناس أمته، وأنزل عليه صلاته ورحمته وبركته.
فصلى الله على محمد الهادي إلى الجنة ومسالكها، والمحذّر من النار ومخاوفها، والمتحنن على أمّته، والرؤوف بهم، المبعوث من جبال تهامة، بالأنوار التامة، والحجج الباهرة، والبراهين الزاهرة، والآيات الظاهرة، فصلوات الله على النبي الأمي، والرسول العربي، الهادي قوله: «من بدائع آثار» :
كذا في «ب» ، وفي غيرها: الذي أظهر بدائع آثار سلطانه وآيات ربوبيته.
قوله: «الذي أنعم فأجزل» :
سقط في «ب» من هنا إلى قوله: وصنع فأحكم.
قوله: «والكعبة قبلته» :
وقع في «ب» : وجعل الكعبة قبلته وخير الناس أمته.
قوله: «وأنزل عليه صلاته» :
كذا في «ب» و «م» ، وفي «ظ» : وجعل عليه صلواته ورحمته وبركاته.
قوله: «فصلى الله» :
كذا في «ظ» ، وفي «د» : اللهم صل ...(1/86)
المهدي، الطاهر الزكي، النقي الوفي، التقي السمح السخي، الجواد، الأريحي الألمعي، الهاشمي القرشي، المكي المدني، السيد السني، الأبطحي العربي، صفيّ ربّه، وخازن وحيه، ونجيّ سرّه، وأليف محبته، وربيب نعمته، وخطيب توحيده، وشمس رسله، وقمر أنبيائه، وسراج دينه، خير من علا المنبر، ولبّى وكبّر، وسعى ونحر، وطاف وجمّر، ومن أعطي الكوثر: محمد بن عبد الله، صلى الله عليه أفضل وأكمل وأجمل، وأعلى وأعظم، وأجلّ وأطيب، وأظهر وأطهر، وأنمى وأزكى، وأشرف وأتم، وأعم وأكفى، وأكبر وأكثر، وأنفع وأرفع، وأبلغ ما صلى على أحد من خلقه، وعلى الطيبين الطاهرين الأخيار، المنتخبين المباركين الأبرار، وسلم تسليما كثيرا.
قال الأستاذ الفقيه أبو سعد عبد الملك بن أبي عثمان محمد الواعظ رحمه الله: قد حداني إلى جمع شرف المصطفى محمد النبي صلى الله عليه وسلم حبّه والأنس بذكره، لأن من أحبّ شيئا أكثر ذكره، ولأنه صلى الله عليه وسلم حكم:
قوله: «الأبطحي العربي» :
الأبطح: كل مسيل فيه دقاق الحصى، وقيل: الأبطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، والمراد: المكي لشهرة إضافة الأبطح إلى مكة، ووقع في غير نسخة «ب» : الأبطحي الحجازي.
قوله: «رحمه الله» :
كذا في «ظ» ، وفي «ب» : سلمه الله، فكأنها كتبت أو قوبلت في حياته، وفي «م» رضي الله عنه.
قوله: «قد حداني» :
يريد: الذي ساقني وألزمني، وجعلني أقدم عليه؛ إذ أصل الحدو: سوق الإبل، يقال: حدا الإبل وحدا بها إذا ساقها، والحادي: المتعمد للشيء.(1/87)
أن المرء مع من أحب، ولكي أكثر الصلاة عليه رسما ونطقا، فإن الدعاء بين الصلاتين لا يرد.
قوله: «أن المرء مع من أحب» :
أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وأنس بن مالك.
- فأما حديث ابن مسعود، فأخرجه البخاري في الأدب: باب علامة حب الله، رقم 6168، 6169، ومسلم في البر والصلة، رقم 2640 (165) .
- وأما حديث أبي موسى، فأخرجه البخاري في الأدب أيضا: باب علامة الحب في الله، رقم 6170، ومسلم في البر والصلة، رقم 2641.
- وأما حديث أنس بن مالك، فأخرجه البخاري في فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب، رقم 3688، وفي الأدب: باب ما جاء في قول الرجل: ويلك، رقم 6167، وفي باب علامة الحب في الله، رقم 6171، وفي الأحكام: باب القضاء والفتيا، رقم 7153، وأخرجه مسلم في البر والصلة، برقم 2639 (161، 162، 163، 164) .
قوله: «ولكي أكثر الصلاة عليه رسما ونطقا» :
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث: ينبغي- يعني لكاتب الحديث- أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره.
قوله: «فإن الدعاء بين الصلاتين لا يرد» :
لأنه لما كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مقبولة من صاحبها؛ يقبلها الرب سبحانه ويضاعف المثوبة عليها كرامة لخليله، ولما كان سبحانه حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا؛ كان سبحانه أجلّ وأكرم من أن-(1/88)
.........
- يقبل من دعائه شيئا ويرد عليه من دعائه شيئا.
وكأن المصنف رحمه الله يشير إلى قول أبي سليمان الداراني رحمه الله ورضي عنه: من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليسأل حاجته، وليختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة، والله أكرم أن يرد ما بينهما.
ذكره الشيخ ابن القيم في جلاء الأفهام وقال: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء مثل الفاتحة من الصلاة، وللصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مواطن تشرع فيها أمام الدعاء؛ لأن مفتاح الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن مفتاح الصلاة الطهور.
وله ثلاث مراتب: إحداها: أن يصلي عليه قبل الدعاء وبعد حمده الله تعالى.
والمرتبة الثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره. والثالثة: أن يصلي عليه في أوله وآخره ويجعل حاجته متوسطة بينهما.
- فأما المرتبة الأولى: فالدليل عليها حديث فضالة بن عبيد وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد بما شاء.
وقال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
سل تعطه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أراد أحدكم أن يسأل الله فليبدأ بحمده والثناء عليه بما هو أهله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل بعد؛ فإنه أجدر أن ينجح أو يصيب. -(1/89)
.........
- ورواه شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله نحوه.
- وأما المرتبة الثانية: فقال عبد الرزاق: عن الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوني كقدح الراكب- فذكر الحديث- وقال: اجعلوني في وسط الدعاء وفي أوله وفي آخره.
وفي حديث علي: ما من دعاء إلا بينه وبين الله حجاب حتى يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم انخرق الحجاب، واستجيب الدعاء، وإذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يستجب الدعاء.
وفي قول عمر رضي الله عنه: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد بن علي بن شعيب: حدثنا محمد بن حفص، حدثنا الجراح بن يحيى، حدثني عمرو بن عمرو قال: سمعت عبد الله بن بشر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء كله محجوب حتى يكون أوله ثناء على الله عز وجل وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو يستجاب لدعائه» ، وعمرو بن عمرو هذا هو الأحموسي، له عن عبد الله بن بشر حديثان هذا أحدهما، والآخر رواه الطبراني في معجمه الكبير عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من استفتح أول نهاره بخير وختمه بالخير قال الله عز وجل لملائكته: لا تكتبوا عليه ما بين ذلك من الذنوب، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما» . اه.
وسيأتي تخريج هذه الأحاديث في محلها من الكتاب إن شاء الله تعالى.
ولله در القائل:
أدم الصلاة على النبي محمد ... فقبولها حتما بغير تردد
أعمالنا بين القبول وردها ... إلا الصلاة على النبي محمد(1/90)
جامع أبواب بشائره صلى الله عليه وسلم من أخبار الأحبار والرّهبان والكهنة وما سمع من الهواتف وأجواف الأصنام ومن آمن وصدّق به قبل ولادته وبعثته صلى الله عليه وسلم(1/91)
[1- باب: في شأن من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثه صلى الله عليه وسلم بألف سنة]
1- باب: في شأن من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثه صلى الله عليه وسلم بألف سنة 1- حدثنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي رحمه الله بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع الخزاعي بمكة، (1) - قوله: «البستي» :
بضم الموحدة، وسكون السين المهملة، بعدها تاء فوقية، من بلاد كابل، بين هراة وغزنة، قال السمعاني: بلدة حسنة، كثيرة الخضر والأنهار والبساتين، وأبو عمر هذا ممن أكثر عنه المصنف وعول عليه كثيرا في تاريخ مكة، وهو من شرط الفاسي في عقده الثمين، لكني لم أقف عليه عنده، ولا رأيته في أنساب السمعاني، ولا وجدته في غيرهما مما لدي من المصادر.
قوله: «محمد بن نافع الخزاعي» :
ابن أخي إسحاق بن أحمد الآتي، روى عن عمه تاريخ الأزرقي، قال التقي الفاسي في تاريخ مكة: له عليه حاشيتان يتعلقان بدار الندوة، وزيادة باب إبراهيم، رواه عنه الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس، قال: وله تآليف في فضائل الكعبة، وكان حيا سنة خمسين وثلاثمائة. اه. وتعرض لذكره ياقوت في معجم البلدان أثناء ترجمته لأبي عثمان بن محمد البلدي- في مادة: البلدة- وقال: لقي أبا بكر محمد بن الحسين الآجري وقرأ عليه جملة من تآليفه، ولقي أبا الحسن محمد بن نافع الخزاعي وقرأ عليه فضائل الكعبة من تأليفه. اه.
العقد الثمين [2/ 378] ، معجم البلدان [1/ 483] .(1/93)
ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد، ثنا أبو الوليد الأزرقي قال: قوله: «ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد» :
الإمام المقرئ الحافظ المجود شيخ الحرم، ومحدث مكة أبو محمد الخزاعي. قرأ القرآن عن البزي، وعبد الوهاب بن فليح، وحدث عن ابن أبي عمر، وأبي الوليد الأزرقي صاحب تاريخ مكة، قال الحافظ الذهبي:
كان ثقة متقنا، ذكر أنه تلا على ابن فليح مئة وعشرين ختمة، وله مصنفات في القراءات، قرأ عليه ابن شنبوذ والمطوعي وغيرهما، وتوفي سنة ثمان وثلاث مائة.
سير أعلام النبلاء [4/ 289] ، معرفة القراء الكبار [1/ 184] ، الوافي بالوفيات [8/ 403] ، العقد الثمين [3/ 290] ، غاية النهاية [1/ 156] ، البداية والنهاية [11/ 131] ، تاريخ الإسلام [وفيات 308، ص: 229] ، العبر [2/ 136] ، الشذرات [2/ 252] .
قوله: «ثنا أبو الوليد الأزرقي» :
هو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة الغساني، الإمام الحافظ مؤرخ مكة، روى فيه عن جده، وروى عن ابن أبي عمر العدني وجماعة، وذكر النووي في تهذيب الأسماء أنه روى عن الشافعي، فوهمه بذلك الفاسي في تاريخ مكة وقال:
إنما نشأ وهمه من أمرين:
أحدهما: أن الذين صنفوا في طبقات الشافعية لم يذكروا في أصحاب الشافعي إلا أحمد بن محمد جد أبي الوليد هذا.
الثاني: أن جده يكنى أيضا بأبي الوليد فظنه النووي أنه هو، قال: ولو أن أبا الوليد- يعني الحفيد- روى عن الشافعي لأخرج عنه في تاريخه؛ لما له من الجلالة والعظمة، كما أخرج عن ابن أبي عمر، وجده، وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم الإمام الشافعي. -(1/94)
حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، - قال: وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكلام النووي فإنه ممن يعتمد عليه وهذا مما لا ريب فيه.
العقد الثمين [2/ 49- 50] ، الأنساب [1/ 122] ، تهذيب الأسماء اللغات [3/ 150] .
قوله: «حدثني جدي» :
هو الإمام الحافظ الثقة: أبو الوليد- وأبو محمد الأزرقي- أحمد بن محمد ابن عقبة بن الأزرق الغساني، جد صاحب تاريخ مكة، وأحد شيوخ البخاري في الصحيح، وثقه الجمهور.
تهذيب الكمال [1/ 480] ، تهذيب التهذيب [1/ 68] ، الكاشف [1/ 27] ، إكمال مغلطاي [1/ 140] ، العقد الثمين [3/ 177] ، التعديل والتجريح [1/ 318] .
قوله: «عن سعيد بن سالم» :
هو القداح، أبو عثمان المكي، من رجال أبي داود والنسائي، صدوق، حسن الحديث، قال غير واحد: ليس به بأس، يقال: كان مرجئا.
تهذيب الكمال [10/ 454] ، تهذيب التهذيب [4/ 31] ، الكاشف [1/ 286] .
قوله: «عن عثمان بن ساج» :
هو عثمان بن عمرو بن ساج، ينسب إلى جده، وكنيته: أبو ساج القرشي، الجزري، مولى بني أمية، من رجال النسائي، قال الذهبي في الميزان:
مقارب الحديث، وقال الحافظ في التقريب: فيه ضعف.
تهذيب الكمال [19/ 467] ، تهذيب التهذيب [7/ 131] ، الكاشف [2/ 23] ، الميزان [3/ 446] ، التقريب [/ 386] الترجمة رقم 4506.(1/95)
عن محمد بن إسحاق، قال: سار تبّع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها، قوله: «عن محمد بن إسحاق» :
ابن يسار، الإمام الحافظ الإخباري الصدوق أبو بكر القرشي المطلبي، مولى قيس ابن مخرمة، رأى أنس بن مالك، وروى عن بعض من التابعين، وكان صاحب علم وحديث، يشهد له بذلك كتبه في السير والمغازي، ويكفيه فخرا قول الشافعي رحمه الله: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق.
ثم اختلف أهل العلم بالحديث في الاحتجاج به مع عدم استغنائهم عن حديثه، والحق أنه صدوق، حديثه لا ينزل عن الحسن لولا ما اشتهر به من التدليس، فإذا ما صرح بالتحديث فهو قوي، والمتشددون لا يرفعونه إلى الحجة، قال الذهبي في الكاشف: من بحور العلم، وله غرائب تستنكر في سعة ما روى، واختلف في الاحتجاج به، وحديثه حسن، وقد صححه جماعة. اه، وانظر:
تهذيب الكمال [24/ 405] ، سير أعلام النبلاء [7/ 33] ، الثقات لابن حبان [7/ 380] ، طبقات ابن سعد [7/ 321] ، الكامل لابن عدي [6/ 2116] ، الميزان [4/ 388] ، تهذيب التهذيب [9/ 34] ، الكاشف [3/ 18] ، التقريب [/ 467] الترجمة رقم 5725.
قوله: «سار تبّع الأول» :
الخبر في تاريخ أبي الوليد بسياق مختلف عن سياق المصنف هنا.
وقد اختلف في اسمه وتعينه فقيل: تبّع لقب للملك الأكبر بلغة أهل اليمن، ككسرى بالفارسية، وقيصر بالرومية، والنجاشي بلغة الحبشة، وهو: حسان ابن تبّع بن أسعد بن كرب الحميري، وقيل: هو تبّع بن حسان بن ملكي كرب- أو كليكرب- بن تبّع بن الأقرن، قال ابن قتيبة في المعارف: وهو تبّع الأصغر، آخر التبابعة، قال: ويقول قوم: إنه تبّع الأوسط، وهو أول من كسا البيت، وقد قيل: إن تبّع الأوسط أسعد أبو كرب هو الذي كسا البيت الأقطاع، وهو الذي آمن بمحمد، فالله أعلم.(1/96)
وكان من الخمسة الذين كانت لهم الدنيا بأسرها، وكان له وزراء، فاختار واحدا وأخرجه معه، وكان يسمى عماريسا لينظر إلى مملكته، وخرج في مائة ألف وثلاثة وثلاثين ألفا من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، وكان يدخل في كل بلدة، وكانوا يعظمونه، وكان يختار من كل بلدة عشرة أنفس من حكمائها، حتى جاء إلى مكة، وكان معه أربعة آلاف رجل من العلماء والحكماء الذين اختارهم من بلدان مختلفة، فلم يتحرك أهل مكة ولم يعظموه، فغضب عليهم، ودعا عماريسا، وقال له: كيف شأن أهل هذه البلد الذين لم يهابوني ولم يهابوا عسكري، كيف شأنهم وأثرهم؟ فقال الوزير: أيها الملك إنهم قوم عربيون جاهلون لا يعرفون شيئا، وإن لهم بيتا يقال له كعبة، وإنهم معجبون بها، ويسجدون للطاغوت والأصنام دون الله، قال الملك: إنهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم.
فنزل ببطحاء مكة مع عسكره، وتفكر في نفسه دون الوزير ودون الناس وعزم أن يأمر بهدم هذا البيت، وأن الذي يسمى كعبة يسمى خربة، وأن يقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم، فأخذه الله بالصداع وفتح من عينيه وأذنيه وأنفه وفمه ماء منتنا، فلم يصبر أحد عنده طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك، وقال لوزيره: اجمع العلماء والأطباء، وشاورهم في أمري، فاجتمع الأطباء عنده، فلم يصبر أحد عنده طرفة عين من نتن الريح، ولم يمكنهم مداواته، فقال: قد جمعت الحكماء من بلدان مختلفة، ووقعت لي هذه العلة ولم يقم أحد في مداواتي؟! فقالوا بأجمعهم: إنا قوم أمرنا الدنيا، وهذا أمر سماوي، لا نستطيع رد أمر السماء.
قوله: «رد أمر السماء» :
كذا في رواية ابن عساكر، وفي الأصول: ردا من السماء.(1/97)
واشتد الأمر على الملك، فتفرق الناس، وأمره كل ساعة كان يشتد، حتى أقبل الليل.
وجاء أحد العلماء إلى وزيره وقال: إن بيني وبينك سرّا، وهو: إن كان الملك يصدق لي في كلامه وما نواه: عالجته، فاستبشر الوزير بذلك، وأخذ بيده وحمله إلى الملك، وقال للملك: إن رجلا من العلماء ذكر: إن صدق الملك له ما نواه في قلبه ولم يكتمه شيئا منه عالجته، فاستبشر الملك بذلك، وأذن له بالدخول عليه، فدخل فقال: بيني وبينك سرّا أريد الخلوة، فخلا به، فقال له: هل نويت في هذا البيت أمرا؟
قال: نعم، قد نويت أن أخرب هذا البيت، وأقتل رجاله.
فقال: إن وجعك وبلاءك من هذا، اعلم أن صاحب هذا البيت قوي يعلم الأسرار، فأخرج من قبلك جميع ما هممت به من أذى هذا البيت، ولك خير الدنيا والآخرة.
قال الملك: أفعل، قد أخرجت جميع المكروهات من قلبي، ونويت جميع الخيرات والمعروفات.
قال: فلم يخرج العالم من عنده حتى برأ من العلّة، وعافاه الله جل جلاله بقدرته، فآمن بالله من ساعته، وخرج من منزله صحيحا على دين إبراهيم عليه السّلام، وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أول من كسا البيت، ودعا أهل مملكته، وأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج هو إلى يثرب، ويثرب بقعة فيها عين من ماء، ليس فيها بناء ولا نبت ولا أحد، فنزل على رأس العين مع عسكره، فجمع العلماء والحكماء الذين كانوا معه من الذين اختارهم من بلدان مختلفة ورئيس العلماء العالم الناصح الشفيق لدين الله الذي أعلم الملك بشأن الكعبة، وأخرج الملك من بلائه بحسن نيته في شأن الكعبة.(1/98)
ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا، فاعتزل من بين أربعة آلاف أربعمائة- منهم صاحبه- أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وحرقهم، وجاءوا بجملتهم، ووقفوا بباب الملك وقالوا: إنا خرجنا من بلداننا، وطفنا مع الملك زمانا وجئنا هذا المقام إلى أن نموت فيه، فإنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام وإن قتلنا وحرقنا.
فقال الملك للوزير: انظر ما شأنهم، يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ولا أستغني عنهم، وأي حكمة في نزولهم في هذا المقام واختيارهم ذلك؟
فخرج الوزير وجمعهم، وذكر لهم قول الملك، فقالوا للوزير مثل ما قالوا للملك، فقال الوزير: فما الحكمة في ذلك؟
قالوا: اعلم أيها الوزير أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب شرف الرجل الذي يخرج يقال له: محمد، إمام الحق، صاحب القضيب والناقة، صاحب التاج والهراوة، صاحب القرآن والقبلة، صاحب اللواء والمنبر، صاحب قول لا إله إلا الله، مولده بمكة، وهجرته إلى ههنا، فطوبى لمن أدركه، وآمن به، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا.
فلما سمع الوزير مقالتهم همّ أن يقيم معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمر الملك أن يرتحلوا، فقالوا بأجمعهم: لا نرتحل، وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا، فدعا الملك الوزير وقال له: لم لم تخبرني بمقالة القوم؟ فقال: قد عزمت على المقام معهم وخفت ألا تدعني، واعلم أنهم لا يخرجون.(1/99)
فلما سمع الملك منه تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمر الملك أن يبنوا أربع مائة دار، لكل واحد من أولئك العلماء دارا، واشترى لكل واحد منهم جارية، وأعتقها، وزوجها منه، وأعطى كل واحد منهم عطاء جزيلا، وأمرهم أن يقيموا في ذلك الموضع إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب كتابا وختمه بالذهب، ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإن لم يدركه دفعه إلى أولاده، ويوصي لهم بمثل ذلك، وكذلك إلى أولاد أولاده أبدا ما تناسلوا حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان في الكتاب:
أما بعد، يا محمد- صلى الله عليك- إني آمنت بك، وبكتابك قوله: «إني آمنت بك» :
أخرج أبو نعيم في الدلائل- فيما ذكره السيوطي في الدر المنثور- عن عبد الله بن سلام قال: لم يمت تبّع حتى صدّق بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لما كان يهود يثرب يخبرونه.
وأخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 158- 159] ، ومن طريقه ابن عساكر [11/ 14] بإسناد فيه الواقدي من حديث ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة فبعث إلى أحبار اليهود فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب، فقال له سامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكة، اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، إن منزلك هذا الذي أنت فيه يكون به من القتلى والجراح أمر كثير في أصحابه وفي عددهم، قال تبع: ومن يقاتلهم يومئذ وهو نبي كما تزعم؟
قال: يسير إليه قوم فيقتتلون ههنا، قال: فأين قبره؟ قال: بهذه البلد، قال:
فإذا قوتل لمن تكون الدبرة؟ قال: تكون عليه مرة، وله مرة، وبهذا المكان-(1/100)
الذي أنزل الله عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وبكل ما جاء من ربك من شرائع الإيمان والإسلام، وأنا قبلت ذلك، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإني من أمتك الأولين، وبايعتك قبل مجيئك، وقبل إرسال الله إياك، وأنا على ملتك وملة إبراهيم أبيك خليل الله- صلى الله عليه وسلم-، وختم الكتاب بالذهب، ونقش عليه: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ، وكتب على عنوان الكتاب: إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صلوات الله عليه، من تبّع الأول حمير بن وردع أمانة الله في يد من وقع إليه أن يوصله إلى صاحبه.
- الذي أنت عليه يكون عليه، ويقتل به أصحابه مقتلة عظيمة لم يقتلوا في موطن، ثم تكون العاقبة له، ويظهر فلا ينازعه هذا الأمر أحد، قال: وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى: أخ أو ابن عم أو عم حتى يظهر أمره، قال تبع: ما إلى هذه البلد من سبيل، وما كان ليكون أن خرابها على يدي، فخرج منصرفا إلى اليمن.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه [11/ 18] من حديث عباد بن زياد المري عمن أدرك قال: أقبل تبع يفتتح المدائن ويقاتل العرب حتى نزل المدينة وأهلها يومئذ يهود، فظهر على أهلها وجمع أحبار اليهود فأخبروه أنه سيخرج نبي مكة، يكون قراره بها، اسمه أحمد، وأخبروه أنه لا يدركه، فقال تبع للأوس والخزرج: أقيموا بهذه البلدة فإن خرج فيكم فوازروه، وصدقوه، وإن لم يخرج فأوصوا بذلك أولادكم، وأنشد يقول:
حدثت أن رسول المليك ... يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مد دهري إلى دهره ... لكنت وزيرا له وابن عم(1/101)
ودفع الكتاب إلى الرجل العالم الذي نصح له في شأن الكعبة، وأمره أن يحفظه.
وخرج تبع من يثرب- ويثرب هذه هي الموضع الذي نزل فيه العلماء، وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم-، وخرج تبع وسار حتى مات بغلسان- بلد من بلدان الهند-، ومن اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف سنة، لا زيادة فيها ولا نقصان.
ثم إن أهل المدينة الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولاد أولئك العلماء الأربع مائة الذين سكنوا دور تبّع الأول إلى بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوا بخروجه استشاروا في إيصال الكتاب إليه فأشار عليهم عبد الرحمن بن عوف أن اختاروا رجلا ثقة، فاختاروا رجلا يقال له: أبو ليلى- وكان من الأنصار- ودفعوا إليه الكتاب، وخرج من المدينة على طريق مكة فوجد محمدا صلى الله عليه وسلم في قبيلة بني سليم فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال: أنت أبو ليلى؟ قال: نعم، قال: ومعك كتاب تبّع الأول؟ فبقي الرجل متفكرا، وذكر في نفسه:
إن هذا من العجائب، ولم يعرفه، فقال: من أنت فإني لست أعرف في وجهك أثر السحر؟ وتوهم أنه ساحر، فقال: لا، بل أنا محمد رسول الله، هات الكتاب، ففتح الرجل رحله- وكان يخفي الكتاب- فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى علي بن أبي طالب قوله: «لا زيادة فيها ولا نقصان» :
وقيل: سبعمائة سنة، حكاه الماوردي في الأعلام [/ 230] عن ابن قتيبة.
قوله: «فدفعه إلى علي بن أبي طالب» :
كذا في الأصول عندنا. وفي رواية ابن عساكر- وهي من طريق المصنف-:
فقرأه أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحتمل.(1/102)
فقرأه عليه، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام تبّع قال: مرحبا بالأخ الصالح- ثلاث مرات-، وأمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحد منهم عطاء على تلك البشارة.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أهل القبائل أن ينزل عليهم، وتعلقوا بناقته، فقال: دعوها فإنها مأمورة، حتى جاءت إلى دار أبي أيوب فبركت، قوله: «مرحبا بالأخ الصالح» :
أخرج الإمام أحمد في مسنده [5/ 340]- واللفظ له-، وابن أبي حاتم في تفسيره [10/ 3289] رقم 18554، والطبراني في معجمه الكبير [6/ 250] رقم 6013 من حديث سهل بن سعد مرفوعا: لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم.
وأخرج الطبراني في معجمه الكبير [11/ 196] من حديث عكرمة عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه [11/ 6] من حديث عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما.
وأخرج الحافظ عبد الرزاق في التفسير من المصنف [2/ 209] من حديث وهب بن منبه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن سب أسعد- وهو تبع-، قلنا: يا أبا عبد الله وما كان أسعد؟ قال: كان على دين إبراهيم عليه السّلام، وكان إبراهيم يصلي كل يوم صلاة ولم تكن شريعة.
وأخرج من حديث قتادة عن عائشة قالت: كان تبع رجلا صالحا، قال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه.
قوله: «دعوها فإنها مأمورة» :
أخرج سعيد بن منصور في سننه برقم 2978، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 509] ، والطبراني في الأوسط [4/ 330] رقم 3568، من حديث ابن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي ودار الحسن بن زيد، وأتاه الناس فقالوا: -(1/103)
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب، وأبو أيوب كان من أولاد العالم الناصح لتبع في شأن الكعبة، فكانوا ينتظرونه، وهم من أولاد العلماء- يا رسول الله، المنزل؟! فانبعثت به راحلته، فقال: «دعوها فإنها مأمورة» ، ثم خرجت به حتى جاءت به موضع المنبر فاستناخت به، ثم تحلحلت، ولنا خصّ ثمّ عريش، فأتوا يرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، فأوى إلى الظل فنزل فيه، فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليك فانقل رحلك إليّ. قال: نعم، فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل آخر فقال: يا رسول الله انزل عليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل مع رحله حيث كان، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بني المسجد.
قال الطبراني: تفرد به سعيد بن منصور. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [6/ 63] : فيه صديق بن موسى، قال الذهبي: ليس بحجة.
قلت: وأخرج البيهقي في الدلائل [2/ 508] من حديث إبراهيم بن صرمة، ثنا يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما دخل جاءت الأنصار برجالها ونسائها، فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب، وخرجت جوار بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن:
نحن جوار بني النجار ... يا حبذا محمدا من جار
... الحديث.
وأخرج ابن عدي في الكامل [2/ 591- 592] ، ومن طريقه ابن عساكر [16/ 43] من حديث ابن عمر قال: قال أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل المدينة راشدا مهديا. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج الناس ينظرون إلى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما مر على قوم قالوا: يا رسول الله هاهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة- يعني ناقته-، حتى بركت على باب أبي أيوب. -(1/104)
الذين سكنوا يثرب في دور تبع التي بنى لهم، والدار التي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هي الدار التي بنى تبّع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- في إسناده جسر بن فرقد وهو ضعيف، وفي الذي قبله إبراهيم بن صرمة، وسيأتي مزيد تخريج له عند حديث الهجرة وقدومه صلى الله عليه وسلم المدينة.
قوله: «التي بنى تبّع لرسول الله صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه من طريق المصنف: ابن عساكر في تاريخه [11/ 10] بإسناده إلى أبي الحسن علي بن الحسن القرشي، ثنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد الغازي النيسابوري، أنا الأستاذ أبو سعيد- كذا وصوابه: أبو سعد- عبد الملك ابن أبي عثمان الواعظ به.
وأخرج ابن إسحاق في سيرته [/ 52- 53] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [11/ 14] ، في قصة مسير تبّع قال: ثم إن تبّعا أقبل من مسيره الذي كان سار يجول الأرض فيه حتى نزل على المدينة فنزل بوادي قناة، فحفر فيها بئرا فهي اليوم تدعى بئر الملك، قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود والأوس والخزرج، فنصبوا له فقاتلوه بالنهار، فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة وإلى أصحابه، فلما فعلوا به ليال، استحيا، فأرسل إليهم يريد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح بن حريش بن جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الأوس، وخرج إليه من يهود بنيامين القرظي، فقال له أحيحة: أيها الملك نحن قومك، وقال بنيامين:
أيها الملك هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها لو جهدت بجميع جهدك، فقال: ولم؟ قال: لأنها منزل نبي من الأنبياء يبعثه الله من قريش.
وجاء تبّعا مخبر خبّره عن اليمن أنه بعث عليها نار تحرق كلّ ما مرت به، فخرج سريعا وخرج معه نفر من اليهود فيهم بنيامين وغيره وهو يقول: -(1/105)
.........
- إني نذرت يمينا غير ذي خلف ... ألا أجوز وبالحجاز مخلّد
حتى أتاني من قريظة عالم ... حبر لعمرك في اليهود مسوّد
ألقى إليّ نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد
ولقد تركت بها رجالا وضعا ... للنصر ينتظرون نور المهتدي
قال: ثم خرج يسير حتى إذا كان بالدف من جمدان من مكة على ليلتين أتاه ناس من هذيل بن مدركة وتلك منازلهم فقالوا: أيها الملك ألا ندلك على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا تصيبه وتعطينا منه؟ قال: بلى، فقالوا: هو بيت بمكة، فراح تبّع وهو مجمع لهدم البيت، فبعث الله عليه ريحا فقعت يديه ورجليه، وشجت جسده، فأرسل إلى من كان معه من يهود فقال: ويحكم ما هذا الذي أصابني؟ قالوا: أحدثت شيئا؟ قال: وما أحدث؟ فقالوا: حدثت نفسك بشيء؟ فقال: نعم، جاءني نفر من أهل هذا المنزل الذي رحنا منه، فدلوني على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا ودعوني إلى تخريبه وإصابة ما فيه على أن أعطيهم منه شيئا فنويت لهم بذلك، فبرحت وأنا مجمع لهدمه، قال النفر الذين كانوا معه من يهود: ذلك بيت الله الحرام ومن أراده هلك، قال:
ويحكم فما المخرج مما دخلت فيه؟ قالوا: تحدّث نفسك أن تطوف به كما يصنع به أهله، وتكسوه وتهدي له، فحدّث نفسه بذلك، فأطلقه.
وقال في شعره:
بالدف من جمدان فوز مصعد ... حتى أتاني من هذيل أعبد
ذكروا لي البيت وقالوا كنزه ... در وياقوت وفيه زبرجد
فأردت أمرا حال ربي دونه ... والرب يدفع عن خراب المسجد
قال: ثم سار حتى دخل مكة فطاف بالبيت سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، فأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف، وكان أول من كساه، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل- وصائل اليمن- وأقام بمكة ستة-(1/106)
.........
- أيام فيما ذكر لي ينحر بها للناس ويطعم من كان من أهلها ويسقيهم العسل، قال: فكان تبّع فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه ميتة ولا دما ولا مثلاثا- وهي المحائض- وجعل له بابا ومفتاحا، وقال تبّع في الشعر:
ونحرنا في الشعب ستة آلاف ... ترى الناس نحوهن ورودا
وكسونا البيت الذي حرم ... الله [ملاء] معضدا وبرودا
وأقمنا به من الشهر ستا ... فجعلنا لنا به إقليدا
وأمرنا للجرهميين خيرا ... حين كانوا لحافتيه سهودا
ثم سرنا نوم قصد سهيل ... قد رفعنا لواءنا معقودا
قال: فلما أرادوا الشخوص إلى اليمن أراد أن يخرج الركن فخرج به معه، فاجتمعت قريش إلى خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ فقالوا: ما دخل علينا يا خويلد أن ذهب هذا بحجرنا؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: تبّع يريد أن يأخذ حجرنا يحمله إلى أرضه، فقام خويلد، ثم أخذ السيف وخرج وخرجت معه قريش بسيوفهم حتى أتوا تبّعا فقالوا له، ماذا تريد يا تبّع إلى الركن؟ فقال: أردت أن أخرج به إلى قومي، فقالت قريش: الموت أقرب من ذلك، ثم خرجوا حتى أتوا الركن، فقاموا عنده فحالوا بينه وبين ما أراد من ذلك، وقال خويلد في ذلك شعرا:
دعيني أم عمرو ولا تلومي ... ومهلا عاذلي لا تعذليني
دعيني لأخذت الخسف منهم ... وبيت الله حين يقتلوني
فما عذري وهذا السيف عندي ... وعضب نال قائمة يميني
ولكن لم أجد عنها محيدا ... وإني زاهق ما أزهقوني
قال: ثم خرج متوجها إلى اليمن بمن معه من جنود حتى إذ قدمها وكان لأهل اليمن مدينتين يقال لأحدهما مأرب وللأخرى ظفار، وكان منزل الملك في مأرب مبني بصفائح الذهب وكان منزله في ظفار مبني في الرخام، فكان إذا-(1/107)
.........
- شتا شتى في مأرب وإذا صاف صاف في ظفار. وكانت مأرب بها نشوء أبناء الملوك ويتعلمون بها الكلام، وكان ابن الحميري إذا بلغ قال: أرسلوا به إلى مأرب ليتعلم فيها المنطق، وكان في ظفار أسطوان من البلد الحرام مكتوب في أعلاها بكتاب من الكتاب الأول: لمن الملك ظفار لحمير الأخيار، لمن الملك ظفار لفارس الأحرار، لمن الملك ظفار لقريش التجار.
فلما قدمها تبّع نشرت التوراة اليهود، وجعلوا يدعون الله على النار حتى أطفأها الله، وكان لأهل اليمن شيطان يعبدونه قد بنوا له بيتا من ذهب وجعلوا بين يديه حياضا وكانوا يذبحون له فيها، فيخرج فيصيب من ذلك الدم ويكلمهم ويسألونه وكانوا يعبدونه.
فلما أن أطفأت اليهود النار قالوا لتبّع: إن ديننا هذا الذي نحن عليه خير من دينك، فلو أنك تابعتنا على ديننا فقد رأيت أن إلهك هذا لم يغن عنك شيئا ولا عن قومك عند الذي نزل بكم، فقال تبّع: فكيف نصنع به ونحن نرى منه ما ترون من الأعاجيب؟ فقالوا: أرأيت إن أخرجناه عنك أتتبعنا على ديننا؟ قال: نعم، فجاءوا إلى باب ذلك البيت فجلسوا عليه بتوراتهم ثم جعلوا يذكرون اسم الله، فلما سمع بذلك الشيطان لم يثبت وخرج جهارا حتى وقع في البحر، وهم ينظرون، وأمر تبّع بيته ذلك الذي كان فيه فهدم، وتهوّد بعض ملوك حمير، ويزعم بعض الناس أن تبعا كان قد تهوّد.
قال: ولما فعل تبّع ما فعل غضبت ملوك حمير وقالوا: أما كان يرضى أن يطيل غزونا ويبعدنا في المسير من أهلنا حتى طعن علينا أيضا في ديننا وعاب آباءنا؟ فاجتمعوا على أن يقتلوه ويستخلفوا أخاه من بعده.
وأخرج قصة تبّع أيضا من طريق ابن إسحاق: ابن جرير في تاريخه [2/ 105- 109- 110] وفي السياق اختلاف في اللفظ.
وأخرجها باختلاف أيضا أبو الوليد في تاريخ مكة [1/ 132- 134] ، وابن عساكر [11/ 10- 18] من طرق.(1/108)
[2- فصل: ذكر حديث نمرود، وسبب هلاكه]
2- فصل: ذكر حديث نمرود، وسبب هلاكه 2- وهو أن نمرود حاج إبراهيم في ربه، إذ قال له إبراهيم:
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ الآية.
قوله: «حديث نمرود» :
أخرج قصته بسياق آخر: الحافظ عبد الرزاق في جزء التفسير من المصنف [1/ 105- 106] ، ومن طريقه ابن جرير في تفسيره [3/ 25- 26] ، وابن أبي حاتم [2/ 499] رقم 2638، عن زيد بن أسلم: أن أول جبار كان في الأرض نمرود، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم عليه السّلام يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟
قالوا له: أنت، حتى مر به إبراهيم فقال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر؛ فرده بغير طعام، فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أعفر فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم؟ فأخذ منه فأتى أهله، فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو بأجود طعام رآه أحد، فصنعت له منه فقربته إليه، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أن الله رزقه فحمد الله.
ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأنا أتركك على ملكك، فهل رب غيري؟ فأبى، فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار-(1/109)
وهو نمرود، وعرف أن ذلك ليس بيده ولا في ملكه، سأل إبراهيم أن يستأذن ربه، ويسأله محاربة نمرود ربه، فقال إبراهيم عليه السّلام: يا رب أنت أعلم بما قال هذا الكافر، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن قل: استعد للمحاربة، فحشر نمرود جنوده فجمع في صعيد أربعمائة فرسخ في أربعمائة فرسخ، ثم قال لإبراهيم: قل لربك حتى يبرز إلينا، فقال إبراهيم عليه السّلام: أي رب أنت أعلم بما يقول هذا الكافر، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى إبراهيم أني أرسل إليك روح محمد صلى الله عليه وسلم مبارزا، - جموعه، فأمر الله الملك ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه، وكان جبارا أربعمائة سنة فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ثم أماته الله، وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة [/ 358] رقم 997 من حديث ابن وهب عن ابن زيد قال: بعث الله تبارك وتعالى جبريل عليه السّلام إلى نمرود، فقال له: إن ربك يأمرك أن تعبده، ولا تشرك به شيئا، فقال: ابرز أنت وصاحبك إن كنت صادقا، قال له: موعدك بالغداة، فقال: من أين تأتي جموعكم؟ قال:
من نحو المشرق، قال: فذهب يجمع، وكان إذا جمع فلم يسل الوادي من أبوال دوابهم غضب ورجع، فجمع جمعا لم يجمع مثله، فأتاه جبريل عليه السّلام فقال له: إن جموع ربك قد أتت، قال: فأوحى الله عزّ وجلّ إلى خازن البعوض: أن افتح منه بابا، فخرج منه مثل السحاب، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهم أن: كلوهم ودوابهم ولا تقربوه، احتبسوه، قال: فاحتبست الشمس أن تطلع ساعة، فقال: ما للشمس لا تطلع؟ فقال: حال بينك وبينها جنده-(1/110)
ثم أوحى الله عزّ وجلّ إلى السماء السابعة أني أرسل روح محمد صلى الله عليه وسلم لمبارزة نمرود فاتبعوه، فضربوا طبل العظمة بسوط الجلالة وشخصوا بالتكبير والتهليل والتقديس، ثم أوحى كذلك إلى كل سماء، ثم أوحى إلى الأرضين كذلك، ثم أوحى إلى الميزان كلها كذلك، ثم إلى الموات أن اتبعوا روح محمد صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من نمرود، كبر، وكبر بتكبيره الملائكة وجميع خلق الله عزّ وجلّ من الحيوان والموات، فلم يبق فارس على ظهر دابته إلا سقط مغشيا إلا نمرود وإبراهيم عليه السّلام بين يديه، فقال نمرود: ما أعظم جند ربك إذ سقط الفرسان من أصواتهم من غير رؤيتهم، فكيف إذا رأوهم؟ فينبغي أن تقول لربك حتى يبرز هو إليّ وحده كي لا يفسد الخلق، فقال إبراهيم عليه السّلام: أي رب أنت أعلم بما يقول هذا- الذين بعثهم إليك، وما بعث إليك إلا أضعف جند هو له، فغشيهم مثل السحاب، فما انجلين إلا عن عظام تلوح منهم ومن دوابهم، قال: فازداد طغيانا إذ لم يمسه ورجع فنام، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى بعوضة أن: اقرصي شفته السفلى، فقرصتها فحكها فطمرت وتورمت، قال: فدعا الأطباء، قالوا: ما لها دواء إلا أن تشقها، فشقها، فسقطت شقة ههنا وشقة ههنا، ثم أوحى الله عزّ وجلّ إليها أن: اقرصي شفته العليا، فقرصتها فطمرت أيضا وتورمت، قال: فدعا الأطباء، فقالوا: ما لها دواء إلا أن تصنع ما صنعت بالشفة السفلى، قال: ففعل ذلك، ثم أوحى الله عزّ وجلّ إليها أن: اقرصي أنفه، فقرصته فطمرت أنفه، فدعا الأطباء فقالوا: ما نعلم لها دواء إلا أن تشقها، قال: فشقها، قال: فصار وجهه ستة شقوق، ونام، فأوحى الله عزّ وجلّ إليها أن: ادخلي، فقعي على دماغه، وكلي حتى يأتيك أمري، قال:
ففعلت ذلك، قال: فكان أرحم الناس به الذي يدق فوق رأسه ما استطاع، قال: فعمّره الله تعالى في ذلك أربعمائة سنة مثل ما ملكه أربعمائة سنة، والبعوض في رأسه، وكانت تأكل حتى صارت مثل الفارة العظيمة.(1/111)
الكافر، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه السّلام: أي خلق أضعف مما خلقت؟ فقال: يا رب أنت أعلم، ولكن لا أعلم خلقا أضعف من البعوضة، قال الله عزّ وجلّ: أي موضع مما خلق فيه البعوضة أضعف؟
قال: يا رب أنت أعلم، ولكني لا أعلم من البعوضة أضعف مما في البحر الأخضر، قال الله عزّ وجلّ: وأي بعوضة فيها أضعف؟ قال جبريل عليه السّلام: يا رب أنت أعلم، ولكني لا أعلم من بعوضة أضعف من بعوضة بلست نصف أعضائه.
قال الله عزّ وجلّ: يا جبريل ائت بها، قال: فأتى بها جبريل عليه السّلام، فأمر الله تبارك وتعالى البعوضة أن تبرز إلى نمرود، فذهبت، فوقعت على شفته السفلى فلدغته، فأراد نمرود أن يحك شفته العليا فطارت البعوضة في منخره حتى وصلت إلى دماغه، فكانت تأكل دماغه.
وكان نمرود لما ابتلي بذلك لم يكن له صبر على أكل الدماغ حتى أمر من هو أعز عليه من حشمه أن يحمل مرزبة ويضرب بها على رأسه حتى مات في ذلك، فشق رأسه بعد ذلك فطارت البعوضة من دماغه وقد صارت مثل عصفور، وبلغني أنه مكثت البعوضة في رأسه أربعين يوما وليلة.
قوله: «أن يحك شفته العليا» :
هكذا في الأصول، وكأن في السياق اختصارا تقديره: فأراد أن يحك شفته السفلى فلدغته في الشفة العليا، فأراد أن يحك شفته العليا فطارت ...
وهذا مستفاد من سياق المصادر التي أخرجت القصة، والله أعلم.(1/112)
[3- فصل: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة الغسّاني حين أتى مكّة.]
3- فصل: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة الغسّاني حين أتى مكّة.
3- أخبرنا أبو أحمد: الحسين بن علي بن محمد قوله: «سطيح بن ربيعة الغساني» :
اسمه: ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، يقال: كان لا أعضاء له، كان مثل السطيحة يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه، وجهه في صدره، إذا غضب انتفخ وجلس، يقال: ورث الكهانة من طريفة بنت الخير الحميرية امرأة عمرو بن عامر، تفلت في فمه وفم صديقه شق، والله أعلم.
قال ابن كثير في تاريخه: قال المعافى بن زكرياء الجريري: أخبار سطيح كثيرة قد جمعها غير واحد من أهل العلم، والمشهور أنه كان كاهنا، أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته وعن بعثته.
قال ابن كثير: ظاهر عباراته في الحديث تدل على علم واسع جيد لسطيح، فيها روائح التصديق، لكنه لم يدرك الإسلام، وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق، ذكر ابن طرار الجريري أنه عاش سبعمائة سنة، وقال غيره: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة، وقد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا فقال له: ألا تخبرني عن علمك هذا؟ فقال: إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء، فقال: أرأيت أخاك هذا الجني أهو معاك لا يفارقك؟ فقال: إنه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول.(1/113)
ابن يحيى التميمي قراءة عليه في ذي الحجة سنة ستين وثلاث مائة قال: أخبرنا أبو محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي، 3- قوله: «ابن يحيى التميمي» :
هو المشهور بحسينك: الإمام الحجة المعروف بابن منينة، تربى في حجر ابن خزيمة، فكان يعزه ويقدمه على أولاده ويبعثه إلى مجلس السلطان ينوب عنه، قال الخطيب: كان ثقة حجة، وقال الحاكم: هو شيخ العرب في بلدنا، ووصفه الحافظ الذهبي في سيره بالإمام الحافظ القدوة الأنبل.
سير أعلام النبلاء [16/ 407] ، تاريخ بغداد [8/ 74] ، المنتظم [14/ 312] ، تذكرة الحفاظ [3/ 968] ، طبقات الشافعية للسبكي [3/ 274] ، طبقات الإسنوي [1/ 419] ، النجوم الزاهرة [4/ 147] ، الشذرات [3/ 84] ، العبر [2/ 368] .
قوله: «عبد الرحمن بن أبي حاتم» :
الإمام الحافظ المشهور، ابن الإمام العلم المعروف أبي حاتم: محمد بن إدريس الرازي إمام التجريح والتعديل، قال الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال، صنف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، وكان زاهدا يعد من الأبدال.
سير أعلام النبلاء [13/ 263] ، تذكرة الحفاظ [2/ 829] ، طبقات السبكي [3/ 324] ، طبقات المفسرين [1/ 279] ، تاريخ ابن عساكر [35/ 357] ، فوات الوفيات [2/ 287] ، طبقات الحنابلة [2/ 55] .
قوله: «يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي» :
أبو القاسم الهاشمي مولاهم، أحد ثقات رجال أبي داود والنسائي.
تهذيب الكمال [32/ 234] ، تهذيب التهذيب [11/ 313] ، الكاشف-(1/114)
ثنا سليمان بن عبد الرحمن، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السّيباني، عن عبد الله بن الديلمي، عن ابن عباس: أن رجلا أتاه-[3/ 249] ، التقريب [/ 604] ، سير أعلام النبلاء [13/ 151] ، تذكرة الحفاظ [2/ 631] .
قوله: «ثنا سليمان بن عبد الرحمن» :
هو ابن بنت شرحبيل بن مسلم، وهو: سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى، الدمشقي، أخرج له الجماعة سوى مسلم، وهو صدوق لا بأس به.
تهذيب الكمال [12/ 26] ، تهذيب التهذيب [4/ 181] ، الكاشف [1/ 317] ، التقريب [/ 253] الترجمة رقم 2588.
قوله: «عن إسماعيل بن عياش» :
الحمصي، من رجال الأربعة، لا بأس به، حديثه عن أهل بلده مستقيم وهذا منه.
تهذيب الكمال [3/ 163] ، تهذيب التهذيب [1/ 280] ، الكاشف [1/ 76] ، التقريب [/ 109] الترجمة رقم 473.
قوله: «يحيى بن أبي عمرو السّيباني» :
حمصي ثقة، حديثه عند «د» ، «س» ، «ق» ، والبخاري في الأدب المفرد.
تهذيب الكمال [31/ 480] ، تهذيب التهذيب [11/ 228] ، الكاشف [3/ 232] ، التقريب [/ 595] الترجمة رقم 7616.
قوله: «عبد الله بن الديلمي» :
هو ابن فيروز ثقة، من كبار التابعين، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
تهذيب الكمال [15/ 435] ، تهذيب التهذيب [5/ 313] ، الكاشف [2/ 105] ، التقريب [/ 317] الترجمة رقم 3534.(1/115)
فقال: بلغنا أنك تذكر سطيحا، تزعم أن الله لم يخلق من ولد آدم شيئا يشبهه!
قال: نعم، إن الله خلق سطيح الغساني لحما على وضم- والوضم شرايح من جرائد النخل- وكان يحمل على وضمه فيؤتى به حيث شاء، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والعنق والكفان، وكان يطوى من رجله إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمه فأتي به مكة فخرج إليه أربعة نفر من قريش: عبد شمس، وعبد مناف ابنا قصي، والأحوص ابن فهر، وعقيل بن أبي وقاص، فانتموا إلى غير نسبهم، وقالوا: نحن أناس من جمح، أتيناك لنزورك لما بلغنا قدومك، ورأينا إتياننا إياك حقّا لك واجبا علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية وصعدة ردينية فوضعتا على باب البيت الحرام لينظروا هل يراهما سطيح أم لا.
فقال: يا عقيل ناولني يدك، فناوله يده، فقال: يا عقيل والعالم الخفيّة، والغافر الخطيّة، والذّمّة الوفيّة، والكعبة المبنيّة، إنك الجائي بالهديّة، بالصفيحة الهنديّة، والصّعدة الردينيّة.
فقالوا: صدقت يا سطيح.
فقال: والآتي بالفرح، وقوس قزح، وسائق القرح، واللّطيم المنبطح، والنّخل والرطّب والبلح، إن الغراب حيث مرّ سح، أخبر أن قوله: «على وضمه فيؤتى به» :
الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم أو الطعام من خشب أو بارية يوقى به من الأرض.(1/116)
القوم ليسوا من جمح، وأن نسبهم في قريش ذي البطح.
قالوا: صدقت يا سطيح، نحن أهل البلد، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا، وما يكون من بعده إن يكن عندك في علم.
قال: الآن صدقتم، خذوا مني ومن إلهام الله إياي اليوم: يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، ينشؤ من عقبكم دهم، يطلبون أنواع العلم، يكسرون الصنم، يبلغون الروم، يقتلون العجم، يطلبون الغنم.
قالوا: يا سطيح ممن يكون أولئك؟
قال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسّكان، لينشأون من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، ويتركون عبادة الشيطان، يوحدون الرحمن، ويستنون دين الدّيان، يشرّفون البنيان، ويسقون العميان.
قالوا: يا سطيح فمن نسل من يكون أولئك؟
قال: وأشرف الأشراف، والمحصي الأسراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشأنّ آلاف، من عبد شمس وعبد مناف، نشوءا يكون فيه اختلاف.
قالوا: يا سوءتاه مما تخبر به من العلم بأمرهم، ومن أي بلد يخرج؟
قوله: «ينشأ من عقبكم دهم» :
الدهم: الجماعات الكثيرة، وفي رواية أبي نعيم: ذوو فهم.(1/117)
قال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من خير البلد، نبي مهتد، يهدي إلى الرّشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ من عبادة الضد، ويعبد ربّا انفرد، ثم يتوفاه الله محمودا، ومن الأرض مفقودا، وفي السماء مشهودا، ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرّب غطريف، ويترك قول الرجل اللّقيف، قد ضاق المضيف، وأحكم التحنيف، ثم يلي أمره دارعا لأمره مجربا، فيجمع له جموعا وعصبا، فيقتلونه نقمة عليه وغضبا، فيؤخذ الشيخ فيذبح إربا، فيقوم له رجال خطباء، ثم يلي أمره الناصر- يعني: معاوية-، يخلط الرأي برأي ماكر، يظهر في الأرض العساكر، ثم يلي أمره من بعده ابنه، يأخذ جمعه، ويقل حمده، ويأخذ المال فيأكل وحده، ويكثر المال لعقبه من بعده، ثم يلي من بعده ملوك، لا شك الدم فيهم مسفوك، ثم يلي أمره من بعده الصعلوك، يطأهم كوطأة الدرنوك، ثم يلي عضوض: أبو جعفر، يقصي الحق، ويدني مضر، ويفتح الأرض افتتاحا منكرا، ثم يلي قصير القامة، بظهره علامة يموت موتة سلامة، ثم يلي قليلا ماكرا، يترك الملك بائرا، ثم يلي أخوه، لسنته سائر، يختص بالأموال والمنابر، ثم يلي من بعده أهوجا، صاحب دنيا ونعيم غنجا، يتأوه معاشره وذووه، ينهضوا إليه ويخلعوه، يأخذوا الملك ويقتلوه، ثم يلي من بعده السابع فيترك الملك مخلى ضائع، يبور في ملكه مشوه جائع، عند ذلك يطمع في الأمر كل غرثان، ويلي أمر الناس اللهفان، يوطن نزار جمع قحطان، إذا التقى بدمشق جمعان، بين بيسان ولبنان، فصنف اليمن يومئذ صنفان، صنف المشوه، وصنف المخذول، لا ترى إلا خبأ مجلولا، ولواء محلولا، وأسيرا مغلولا، بين الفرات والجبول، عند ذلك تخرب المنازل، وتسلب الأرامل، وتسقط الحوامل،(1/118)
وتظهر الزلازل، ويطلب الخلافة وائل، فيغضب نزار ويدني العبيد والأشرار، ويقصي النسّاك والأخيار، يجوع الناس وتغلو الأسعار، وفي صفر الأصفار يقتل كل جبار، يسوق إلى جنادل وأنهار، ذات أسهال وأشجار، يصمد له الأغمار، يهزمهم أول النهار، يظهر لأمره الأخيار، فلا ينفعهم نوم ولا قرار، حتى يدخل مصرا من الأمصار، فيدركه القضاء والأقدار، ثم تجيء الرماة، بزحف مشاة، لقتل الكماة، وأسر الحماة، ومهل الغواة، هنالك يدرك في أعلى المياه، ثم يبور الدين، وتقلب الأمور، وتكفر الزبور، وتقطع الجسور، ولا يفلت من كان في جرائر البحور، ثم تبور الحبوب، وتظهر الأعايب، ليس فيهم معيب، على أهل الفسوق والريب، في زمان عصيب، لو كان للقوم حياء- لو يغني الحياء-.
قالوا: ثم ماذا يا سطيح؟
قال: ثم يظهر رجل من اليمن، أبيض كالشطن، يخرج من بين صنعاء وعدن، يسمى حسين أو حسن، يذهب الله على رأسه الفتن.
4- قال أبو محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: حدثنا محمد الشامي، عن إسماعيل بن عياش.
(4) - قوله: «قال أبو محمد» :
يعني: بالإسناد السابق إليه.
قوله: «سألت أبي» :
هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، الإمام الحافظ، الثبت الناقد، شيخ المحدثين والمعدلين، قال الذهبي: كان من بحور العلم، طوف البلاد، وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنف، وجرح وعدل، -(1/119)
قال: فقلنا: من محمد الشامي؟
قال: واليا كان علينا.
- وهو من نظراء البخاري ومن طبقته، ولكنه عمّر بعده أزيد من عشرين سنة، يتعذر استقصاء مشايخه.
أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي.
سير أعلام النبلاء [13/ 247] ، تاريخ بغداد [2/ 73] ، الوافي بالوفيات [2/ 183] ، وطبقات السبكي [2/ 207] ، تهذيب الكمال [24/ 381] ، وتهذيب التهذيب [9/ 28] ، الكاشف [3/ 16] .
قوله: «واليا كان علينا» :
أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 122] رقم 69 من طريق أحمد بن إبراهيم، ثنا سليمان بن عبد الرحمن به، وعزاه السيوطي في الخصائص أيضا [1/ 83] لابن عساكر- يعني في ترجمة سطيح وهي ساقطة من الأصل، وأوردها ابن منظور في المختصر [8/ 297]-.(1/120)
[4- فصل: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة في رؤيا الموبذان وخمود النّيران ليلة مولده صلى الله عليه وسلم]
4- فصل:
في ذكر حديث سطيح بن ربيعة في رؤيا الموبذان وخمود النّيران ليلة مولده صلى الله عليه وسلم 5- أخبرنا أبو أحمد: الحسين بن أحمد بن علي التميمي رحمه الله، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثنا علي بن حرب الموصلي، ثنا أبو أيوب: يعلى بن عمران- من ولد جرير بن عبد الله- قال:
قوله: «ذكر حديث سطيح بن ربيعة في رؤيا الموبذان» :
قال الماوردي في الأعلام: هذا قول كاهن، وقد أبطلته النبوة، فلم يقبل قوله في إثبات النبوة؟ قال: وعنه جوابان: أحدهما: أنه تأويل رؤيا تحققت فخرج بها عن حكم الكهانة، والثاني: أن علمها بنقل الجن- كهتوف سبرت، كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ الآية، فإذا سبر ما اختلفت طرقه وتغاير وصفه خرج عن القلة إلى التكاثر، وعن الآحاد إلى التواتر، فصار الظن معلوما والتوهم محتوما.
(5) - قوله: «ثنا علي بن حرب الموصلي» :
الإمام الحافظ الثقة: أبو الحسن الطائي، مسند وقته، وكان شاعرا أديبا عالما بالأخبار وأنساب العرب، وثقه الدارقطني وغيره، والنسائي في سننه.
تهذيب الكمال [20/ 361] ، تهذيب التهذيب [7/ 260] ، الكاشف [2/ 244] ، التقريب [/ 399] الترجمة رقم 4701.
قوله: «من ولد جرير بن عبد الله» :
البجلي، مذكور في ترجمة شيخه مخزوم، ولم أر من أفرده بترجمة، -(1/121)
حدثني مخزوم بن هانيء المخزومي، عن أبيه- وأتت له مائة وخمسون سنة- قال: لما كان الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف العام- وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك وتصبّر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يدخر ذلك عن وزرائه ومرازبته حين عيل صبره فجمعهم، ولبس تاجه، وقعد على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا، - وكذا شيخه مخزوم بن هانيء، فأما أبوه هانئ المخزومي فمذكور في الصحابة.
قوله: «لما كان الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه من طريق المصنف: الحافظ البيهقي في الدلائل [1/ 126] .
ومن طرق أخرجه الخرائطي في هواتف الجنان [/ 179] رقم 16، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 138] رقم 82، وابن جرير في تاريخه [2/ 166] ، وأبو القاسم الأصبهاني في الدلائل برقم 147، وأبو سعيد النقاش في الفنون [/ 69] ، والأزهري في تهذيب اللغة [4/ 276] ، وابن السكن في الصحابة- كما في الفتح [6/ 524] وبعضهم يزيد على بعض.
وهو في ترجمة سطيح من تاريخ ابن عساكر، لكن سقطت ترجمته فيما سقط من الأصل، وهو في تهذيب ابن منظور [8/ 300] .
قال ابن عساكر عقبه: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث مخزوم عن أبيه، تفرد به أبو أيوب البجلي. اه ذكره في الخصائص.(1/122)
ألا يخبرنا الملك؟ فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما هاله، فقال الموبذان: أنا، أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة.. ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال:
أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ - وكان أعلمهم في أنفسهم- قال: حدث يكون من ناحية العرب.
فكتب كسرى عند ذلك:
من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر.
أما بعد، فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
قال: فأرسل إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني.
فلما قدم عليه قال: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال:
ليسألني- أو: يخبرني- الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم أخبرته وإلا دللته على من يعلمه، قال: فأخبره بما رأى فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له: سطيح، قال: فاذهب فاسأله وأتني بتأويل ما عنده.
فنهض عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وحيّاه، فلم يحر جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
قوله: «إلى النعمان بن المنذر» :
تأتي ترجمته في الحديث بعده.(1/123)
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فازلمّ به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه غضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن حجن
أزرق بهم الناب صرار الأذن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن
قوله: «أصمّ» :
بهمزة الاستفهام، والبناء للمفعول.
قوله: «أم يسمع غطريف اليمن» :
الغطريف: السيد.
قوله: «فاد» :
أي مات، وفي بعض المصادر فاز.
قوله: «فازلم به شأو العنن» :
فازلم: ذهب مسرعا. وشأو العنن: اعتراض الموت.
قوله: «بهم الناب» :
أي حديدة.
قوله: «فضفاض الرداء والبدن» :
الفضفاض: الواسع، وسعة الرداء والبدن: كناية عن سعة الصدر وكثرة العطاء.
قوله: «رسول قيل» :
القيل: الملك، وللوسن: يريد الرؤيا التي رآها.(1/124)
لا يرهب الرعب ولا ريب الزمن ... يجوب في الأرض علندات شجن
ترفعني وجنات وتهوي بي وجن ... حتى أتى عالي الجآجي والعطن
تلفه الريح وبوغاء الدمن ... كأنما حثحث من حضني ثكن
قال: ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، قوله: «يجوب في الأرض علندات» :
يجوب: يقطع، العلندات: النوق القوية، والشجن: الناقة المتداخلة الخلق، وفي بعض المصادر: «شزن» ، وفسرت بالبعير الذي أعياه الحفا.
قوله: «وتهوي بي وجن» :
الوجن: الأرض الغليظة الصلبة.
قوله: «الجآجي» :
جمع جؤجؤ، وهو الصدر، ويطلق أيضا على عظام الصدر، والعطن:
ما بين الفخدين.
قوله: «وبوغاء الدمن» :
البوغاء: التراب الناعم وما تجمّع منه وتلبد، ويقال له: الدمن، ومنه في الأثر: إياكم وخضراء الدمن.
قوله: «كأنما حثحث» :
أي حث بالإسراع، والحضن: الجنب، وثكن بالتحريك: اسم جبل في الحجاز.
قوله: «على جمل مشيح» :
أي جار ومسرع.(1/125)
أتى إلى سطيح وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوكا وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
شمّر فإنك ماضي الهمّ شمّير ... لا يفزعنّك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربّما أصبحوا يوما بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصّرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وشابور وسابور
والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور
وهم بنو الأمّ أمّا إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشّرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشّرّ محذور
قوله: «ماضي الهم» :
في بعض المصادر: ماضي العزم، وفي بعضها الآخر: ماضي الدهر، وعند الأزهري: شمّر فإنك ما عمرت شمير.(1/126)
فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال:
إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور.
فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان بن عفان رحمه الله.
قوله: «فلما قدم عبد المسيح على كسرى» :
قلت: في إسناده مخزوم مجهول، وأبو أيوب البجلي مثله، وأعاد ابن عساكر روايته في ترجمة عبد المسيح من تاريخه [37/ 361] ، فأخرجه من طريق ابن المقرىء، عن علي بن حرب به ثم قال: رواه معروف بن خربوذ، عن بشير بن تيم المكي قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها الرسول ...
فذكر نحوه، ومن هذا الوجه أخرجه عبدان في كتاب الصحابة- فيما ذكره السيوطي في الخصائص [1/ 129]- وأورد الحافظ في الإصابة عند ترجمته لهانىء طرفا منه؛ وتعقب ابن الأثير لقوله: وليس في هذا الحديث ما يدل على صحبته فقال: قلت: إذا كان مخزوميا لم يبق من قريش بعد الفتح ممن عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا من شهد حجة الوداع. اه. يعني: فيكون صحابيا بناء على قول ابن السكن وغيره أنه أدرك الجاهلية.(1/127)
[5- فصل: في ذكر حديث آخر لسطيح وشقّ]
5- فصل: في ذكر حديث آخر لسطيح وشقّ 6- أخبرنا أبو أحمد: الحسين بن علي التميمي رحمه الله، أنا عبد الرحمن ابن أبي حاتم، ثنا محمد بن العباس مولى بني هاشم، ثنا عبد الرحمن بن سلمة، ثنا سلمة بن الفضل قال: حدثني محمد بن إسحاق، (6) - قوله: «ثنا محمد بن العباس مولى بني هاشم» :
المكي، عم الإمام الشافعي، ووالد إبراهيم بن محمد الشافعي، من رجال ابن ماجه، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق، وقال الحافظ المزي:
عزيز الحديث.
تهذيب الكمال [25/ 448] ، تهذيب التهذيب [9/ 220] ، الكاشف [2/ 51] ، التقريب [/ 486] الترجمة رقم 5998.
قوله: «ثنا عبد الرحمن بن سلمة» :
الرازي، كاتب سلمة بن الفضل الآتي، كنيته: أبو محمد، ترجم له ابن أبي حاتم، وسكت عنه فلم ينقل عن أبيه فيه شيئا، وليس له في الكتب شيء.
الجرح والتعديل [5/ 241] .
قوله: «ثنا سلمة بن الفضل» :
هو الأبرش، الأنصاري مولاهم، الحافظ، أبو عبد الله الأزرق، الرازي، قاضي الري، وعالمها، أخرج له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في التفسير، روى مغازي ابن إسحاق، له أفراد وغرائب ضعفه بسببها بعض الحفاظ، قال ابن عدي: عنده غرائب وإفرادات، ولم أجد في حديثه حديثا قد جاوز الحد في الإنكار، وأحاديثه متقاربة محتملة، وقال ابن معين: ثقة، -(1/128)
عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا هالته وفظع بها، فلما رآها بعث إلى الحزاة من أهل مملكته، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما إلا رفعه إليه، ثم قال لهم: قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها، فلما قال لهم ذلك قال له رجل من القوم الذي جمع لذلك: فإن كان الملك يريدها فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.
- كتبنا عنه، كان كيسا، ومغازيه أتم، ليس في الكتب أتم من كتابه، وضعفه النسائي، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه إنكار، يكتب حديثه ولا يحتج به.
تهذيب الكمال [11/ 305] ، تهذيب التهذيب [4/ 135] ، الكاشف [1/ 308] ، الميزان [2/ 382] ، التقريب [/ 248] الترجمة رقم 2505، سير أعلام النبلاء [9/ 49] .
قوله: «أن ربيعة بن نصر» :
اللخمي، ملك تبّع الأول وهو زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة، ثم ملك اليمن بعد ذلك فكان ملكه فيها فيما بين التبابعة من حمير، رواه الطبري [2/ 111] عن ابن إسحاق، عمن حدثه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وغيره من علماء اليمن.
والقصة بطولها في سيرة ابن إسحاق [1/ 16 سيرة ابن هشام] ، ومن طريقه الطبري في تاريخه [2/ 112- 114] ، وابن عساكر في تاريخه- كما في خصائص السيوطي [1/ 87]- ولعلها في ترجمة سطيح وهي ضمن الجزء المفقود.(1/129)
واسم سطيح: ربيع بن ربيعة بن عدي بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، وكان يقال لسطيح: الذئبي، نسبة إلى ذئب بن عدي بن مازن.
وشق هو: ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن يزيد بن قيس ابن عبقر بن أنمار.
فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، وقدم عليه سطيح قبل شق، ولم يكن في زمانهما مثلهما، فلما قدم عليه سطيح دعاه فقال له: يا سطيح إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال: أفعل.
رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة.
قال الملك: ما أخطأت منها شيئا، سطيح، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟
فقال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين.
قال: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟
قال: بل ينقطع ليضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعين، ويخرجون منها هاربين.(1/130)
قال الملك: ومن الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟
قال: ثلاثة: إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحد باليمن.
قال: فيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟
قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي.
قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك ابن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر يا سطيح؟
قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح.
قال: نعم، والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به الحق.
فلما فرغ منه قدم عليه شق، فدعاه فقال له: يا شق إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها- كما قال لسطيح، وقد كتمه ما قال له سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان-.
قال: نعم، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.(1/131)
فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما قول واحد، إلا أن سطيحا قال: وقعت بأرض بهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة، وقال شق: وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما رأى ذلك الملك- من قولهما شيئا واحدا- قال: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.
قال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟
أفي زماني أم بعده.
قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، يذيقهم أشد الهوان.
قال: ومن هذا العظيم الشأن؟
قال: غلام ليس بدنيء ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن.
قال: فهل يدوم سلطانه؟ أو ينقطع؟
قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
قال: وما يوم الفصل؟
قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء دعوات، يسمع منه الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.(1/132)
قال: أحق ما تقول يا شق؟
قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما نبأتك لحق، وما فيه أمت ولا أمض.
فلما فرغ من مسألتهما وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى الملك من ملوك فارس يقال له: سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة.
7- قال ابن إسحاق: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم.
(7) - قوله: «قال ابن إسحاق» :
نص عبارته كما في سيرة ابن هشام [1/ 11- 12] : قال ابن إسحاق: وأما قنص ابن معد- يعني بن عدنان- فهلكت بقيتهم فيما يزعم نساب معد، وكان منهم: النعمان بن المنذر ملك الحيرة، قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري: أن النعمان بن المنذر كان من ولد قنص بن معد.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن شيخ من الأنصار من بني زريق أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أتي بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم وكان من أنسب قريش ... وفيه أنه سأله:
ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر؟ فقال: كان من أشلاء قنص بن معد.
قال ابن إسحاق: فأما سائر العرب فيزعمون أنه كان رجلا من لخم من ولد ربيعة بن نصر، فالله أعلم أيّ ذلك كان.(1/133)
8- وروي أن أبرويز بن هرمز المعروف بكسرى- وهو ابن شيرويه- كان في منزله ليلا، فنام على مركبه، وطال حتى ثقل فمال، وخاف من وراءه من قواده سقوطه، فأتاه رجل منهم فأيقظه فانتبه مذعورا لرؤيا رآها قطعها عليه الموقظ، قال: رأيت كأني عرضت على الله عز وجل فقال لي: غيرتم فغيّر ما بكم، سلّم ما بيدك إلى صاحب الهراوة.
قال: ثم لم يزالوا يتوقعون حادثة حتى كتب النعمان بن المنذر بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه.
9- وفي بعض الكتب: أن كتاب النعمان بن المنذر ورد بذلك في يوم كان كسرى خاليا فيه بلذته ولهوه، وأمرهم أن لا ينهوا إليه خبرا يسوءه، ولا يوصلوا إليه كتابا من أحد أعماله ليأمن على سروره، فبينا هو كذلك إذ سمع صوت البريد فسأل عنه فقالوا: كتاب عامل السواد، فتعلق قلبه به، وقال لهم: ما أرى إلا تعلق قلبي بما ورد به، حتى أعلمه أعظم عليّ مما أنا فيه، فأوصلوا الكتاب إليه فقرأه فإذا العامل يخبره فيه (8) - قوله: «وروي أن أبرويز بن هرمز» :
ذكر الماوردي قصته وقصة كتاب النعمان بن المنذر الآتية بعده في الباب السابع عشر من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فيما هجست به النفوس من إلهام العقول بنبوته صلى الله عليه وسلم بلفظ مختصر، وقال المسعودي في مروج الذهب [1/ 228- 289] : وفي أيام أبرويز كانت حوادث تنذر بالنبوة وتبشر بالرسالة، وأنفذ أبرويز عبد المسيح بن بقيلة الغساني إلى سطيح الكاهن فأخبروه برؤيا الموبذان، وارتجاج الإيوان وغير ذلك من أخبار فيض وادي السماوة، وما كان من بحيرة ساوة.
وانظر أخبار أبرويز كسرى والنعمان مبسوطة في: تاريخ الطبري [2/ 176- 212] .(1/134)
بأن الفرات أتى بمد لم يسمع بمثله، وأنه فاض فغرّق زروع الناس ومنازلهم، وأفسد ثمارهم، فغمّه ما نال رعيته من الضرر في أموالهم، وما نال جنوده بذهاب الخراج الذي كان يجبى من السواد لهم، فسهل عليه وزراؤه ذلك، وسيّبوا للجنود أموالا من وجوه كثيرة، وعاد إلى لهوه.
ثم سمع صوت بريد آخر فسأل عنه فقالوا: كتاب العامل على ثغر أرمينية فتعلق قلبه به، ثم أمر بإيصال الكتاب فإذا فيه: إن الجنود قد انشقوا على عاملهم فقتلوه، واستباحوا ما قبله من المال، فغمه ذلك، ثم سهل عليه وزراؤه، وضمنوا له إصلاح الناحية، فعاد إلى لهوه.
ثم سمع صوت بريد آخر فأمر بأخذ كتابه وقراءته، فإذا كتاب النعمان بن المنذر يخبره فيه بأنه خرج نجم بتهامة يخبر بأنه رسول إله السماء والأرض إلى أهل الأرض كافة، فاستعظم ذلك وأكبره، وعلم أنه الذي كان يتوقعه ورآه في منامه.
قوله: «بأنه خرج نجم» :
في الأصول: بأن خارجا نجم بتهامه، وسيأتي حديث سلمان الفارسي برقم: 66 وقوله: كنت قرأت في الكتب نجوم الأنبياء والمرسلين، فما رأيت شيئا أحسن من نجم تلألأ نورا ولمعانا، له أربعة شعب تتوقد كأنها مصابيح ... الأثر.
وأخرج ابن إسحاق في السيرة، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل برقم 35، من حديث حسان بن ثابت قال: والله إني لغلام ابن ثمان سنين أو سبع، -(1/135)
.........
- أعقل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ على أطمة يثرب: يا معشر اليهود، حتى اجتمعوا إليه، فقالوا له: ويلك ما لك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
وفي رواية الواقدي عن حسان أنه قال قبل وفاته: والله إني لفي منزلي ابن سبع سنين وأنا أحفظ ما أرى وأعي ما أسمع، وأنا مع أبي، إذ دخل علينا فتى منا يقال له: ثابت بن الضحاك، وهو يوم نجوى، فتحدث فقال: زعم يهودي من يهود قريظة الساعة، وهو يلاحيني: قد أظل خروج نبيّ يأتي بكتاب مثل كتابنا، يقتلكم قتل عاد، قال حسان: فو الله إني لعلى فادع- يعني أطم- حسان في السحر إذ سمعت صوتا ما أسمع صوتا قط أنفذ منه، فإذا يهودي على أطم من آطام المدينة، معه شعلة من نار، فاجتمع إليها الناس، فقالوا: ما لك ويلك؟ قال حسان: فأسمعه يقول: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا بالنبّوة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد، قال: فجعل الناس يضحكون منه ويعجبون لما يأتي منه.
أخرجه أيضا أبو نعيم في إثر الذي قبله، وسيأتي نحو هذه الأخبار في الفصول التالية.(1/136)
[6- فصل: ذكر ما ظهر في بني إسرائيل من أمارات نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم]
6- فصل: ذكر ما ظهر في بني إسرائيل من أمارات نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم 10- أخبرنا أبو بكر: محمد بن زكرياء، أنا أبو حاتم:
مكي بن عبدان التميمي في صفر سنة خمس وعشرين وثلثمائة، قوله: «ذكر ما ظهر في بني إسرائيل من أمارات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
أورد المصنف فيه قصة طويلة للغاية لو اقتصر على ما ورد في أولها من الشاهد لكان أولى، وفي أكثر قصص بني إسرائيل نظر، والله أعلم.
(10) - قوله: «أخبرنا أبو بكر: محمد بن زكرياء» :
النسفي، وصفه الحافظ الذهبي في السير بالإمام الحافظ المتقن وقال:
حدث عن محمد بن نصر المروزي، وصالح جزرة، والبوشنجي وطبقتهم، ذكره المستغفري في تاريخ نسف فقال: كان حافظا مؤلفا للأبواب، عارفا بحديث أهل بلده، توفي في جمادي الأولى سنة أربع وأربعين وثلاث مائة.
سير أعلام النبلاء [16/ 233] ، الشذرات [2/ 369] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 344- ص 308] ، معجم المؤلفين [10/ 6] ، تذكرة الحفاظ [3/ 930] ، طبقات الحفاظ [376- 377] .
قوله: «مكي بن عبدان التميمي» :
النيسابوري المحدث الثقة، سمع محمد بن يحيى الذهلي، ومسلم صاحب الصحيح وغيرهما، حدث عنه ابن عقدة، وأثنى عليه أبو علي النيسابوري فقال: ثقة مأمون مقدم على أقرانه من المشايخ، توفي في جمادي الآخرة من نفس السنة التي حدث فيها أبا بكر بحديث الباب. -(1/137)
ثنا موسى بن يزيد الإسفنجي، ثنا عبد الله بن صالح المصري، ثنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود،........
- سير أعلام النبلاء [15/ 70] ، تاريخ بغداد [13/ 119] ، تقييد ابن نقطة [450، 451] ، الشذرات [2/ 307] ، تاريخ الإسلام [وفيات 325- ص 181] ، العبر [2/ 205] .
قوله: «ثنا موسى بن يزيد الإسفنجي» :
نسبة إلى إسفنج، قرية من أرغيان بناحية نيسابور يقال لها: سبنج، قاله الحافظ السمعاني، ولم أر من ذكر موسى بن يزيد هذا أو أورده في الأسماء.
قوله: «ثنا عبد الله بن صالح المصري» :
كاتب الليث، وأحد رجال الصدق، رجح غير واحد من أصحاب التهذيب أن البخاري أخرج له في الصحيح، وقد أخرج له الباقون، وحديثه من قبيل الحسن.
تهذيب الكمال [15/ 98] ، تهذيب التهذيب [5/ 225] ، الكاشف [2/ 86] ، الميزان [3/ 154] ، التقريب [/ 308] الترجمة رقم 3388، سير أعلام النبلاء [10/ 405] .
قوله: «ثنا عبد الله بن لهيعة» :
الحضرمي، محدث الديار المصرية مع الليث بن سعد، جيد الحديث بشروط وضعها أهل الحديث، إذا صرح بالسماع، وكان ذلك عن ثقة، وقبل احتراق كتبه، انظر عنه:
تهذيب الكمال [15/ 487] ، تهذيب التهذيب [5/ 327] ، الكاشف [2/ 109] ، التقريب [/ 319] الترجمة رقم 6335، سير أعلام النبلاء [8/ 11] .
قوله: «عن أبي الأسود» :
في الأصول: عن الأسود، هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني، -(1/138)
عن عبد الملك بن هشام الدمشقي، عن عبد الله بن سلام الإسرائيلي قال:
كان في بني إسرائيل رجل يقال له: أوشا، وكان من علمائهم- يتيم عروة، من ثقات شيوخ بقية، وحديثه عند الجماعة، ووقع في الأصول: عن الأسود، وهو تصحيف.
تهذيب الكمال [25/ 645- 646] ، تهذيب التهذيب [9/ 273] ، الكاشف [3/ 62] ، التقريب [/ 493] الترجمة رقم: 6085.
قوله: «عن عبد الملك بن هشام الدمشقي» :
لعله الذماري، بيّض له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل [5/ 374] ولم أر من ذكره غيره.
قوله: «عن عبد الله بن سلام الإسرائيلي» :
الصحابي الحبر، الصادق في إسلامه وأخباره، البر، حليف الأنصار وأحد خواص النبي صلى الله عليه وسلم الأخيار.
أسلم قديما بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة يوم انجفل الناس إليه، وعرف وجهه بما أودع الله في قلبه من الصدق وصفاء السريرة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة لأصحابه: يدخل عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فجاء ابن سلام، أخرجه الإمام أحمد، وله فضائل واسعة مذكورة في مظان ترجمته.
طبقات ابن سعد [2/ 352] ، سير أعلام النبلاء [2/ 413] ، الإصابة [6/ 108] ، أسد الغابة [3/ 264] ، المعرفة لأبي نعيم [3/ 1665] ، الاستيعاب [6/ 228] ، الوافي بالوفيات [17/ 198] ، تاريخ دمشق [29/ 97] ، تهذيب تاريخ دمشق [12/ 246] ، المستدرك [3/ 413] ، صفة الصفوة [1/ 718] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 270] ، تهذيب الكمال [15/ 74] ، مجمع الزوائد [9/ 326] ، البداية والنهاية [8/ 27] ، أنساب الأشراف [1/ 266] ، تاريخ الذهبي [عهد معاوية- ص 74] .(1/139)
وكبرائهم وكان كثير المال، وكان إمام بني إسرائيل، وكان قد قرأ الكتب وعرف نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من التوراة، وكان قد عزله عنها وخبأه في خزانته، وكان له ابن يقال له: بلوقيا، وكان ذلك بعد موت سليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بلوقيا خليفة أبيه في بني إسرائيل وكانت الإمامة إليه وفي يديه والقضاء إليه، قال: فلما مات والده فتّش خزائن والده فوجد فيها تابوتا من حديد مقفلا عليه، وعلى القفل خاتم رصاص، قال: فسأل الخزان عن ذلك؟ فقالوا: لا ندري ما فيه، نفك الخاتم، ثم أمر بكسر القفل ففتح، فإذا فيه درج من فضة وفيها حقة من فضة مقفل عليها قفل من ذهب مختوم بخاتم من مسك، ففك الخاتم فإذا فيه رق مكتوب ملفوف في حرير قد رش على الحرير مسك وعنبر، فنشر الرق فإذا فيه مكتوب نعت محمد ونعت أمته، وصفته ومبعثه وكرامته على ربه وكرامة أمته وأنه خاتم الأنبياء وأنه الشفيع يوم القيامة، وأن له الشفاعة التامة والكرامة الكاملة والمنزلة العظيمة، يغبطه الأولون والآخرون بمكانه من ربه وأنه صلى الله عليه وسلم وأمته شهود على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين والأمم وأن الجنة محرمة على جميع الأنبياء والأمم حتى يدخلها هو وأمته، وأخرج الرق وقرأه على بني إسرائيل فقالوا: ويله من ربه إذ كتم الحق وغش الخلق.
قال: فقالت بنو إسرائيل: يا بلوقيا لولا أنك إمامنا وكبيرنا لنبشنا قبر والدك وأخرجناه منه ثم أحرقناه بالنار، فقال بلوقيا: يا قوم لا ضير إنما ترك حظ نفسه وما يريد الله عز وجل به من سطوات عذابه ونقماته أشد وأشد مما تريدون وتصنعون به، فكفاه خزيا وغضبا من ربه فألحقوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في التوراة.(1/140)
وكانت أم بلوقيا في الأحياء وكانت عاقلة ممسكة بما فيها يقال لها هلفا بنت برنا، فقال لها بلوقيا: يا أماه إني قد أزمعت على التطواف في الدنيا برها وبحرها سهلها وجبلها أطلب أثر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فقالت له أمه: يا بني أسأل الله لك العون والتوفيق فيما عزمت وأن يمن عليك بلقائه ويجعلك من أمته، ومشركا في شفاعته، فسر على اسم الله وعونه وبركته فإنه المعين لك والصانع.
فسار بلوقيا متوجها نحو الشام، فكان ينزل مصر فاستخلف على بني إسرائيل خليفة، ثم تزود وتهيأ ومضى حتى قدم بلد الشام فأقام فيها أياما يعبد ربه.
ثم خرج في الطلب فبينا هو يسير إذ انتهى إلى جزيرة من جزائر البحر فإذا فيها حيات كأمثال البخاتي العظام سود فنظر إلى أمر من أمر الله العظيم فارتعد وهو ينظر إليهن وهن يقلن: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بلوقيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
فرفعت الحيات رؤسهن وقلن: أيها المخلوق من أنت وما اسمك؟
فقال: أنا إنسان واسمي بلوقيا وأنا من بني إسرائيل، فقلن: وما بنو إسرائيل؟ قال: من ولد آدم عليه السّلام، فقلن: ما سمعنا اسم آدم ولا إسرائيل ولا نعرفهم، فقال لهن بلوقيا: أيتها الحيات من أنتن؟ فقلن: نحن من حيات جهنم نعذب الكفار في النار يوم القيامة، فقال بلوقيا: ماذا تصنعن ها هنا وكيف عرفتن اسم محمد صلى الله عليه وسلم؟ قلن: إن جهنم تفور وتزفر كل سنة مرتين: واحدة بحرّ والأخرى ببرد فإذا تنفست ألقينا إلى ماء ها هنا نتنفس ثم نعود إليها، فشدة حر الصيف من حرها وشدة برد الشتاء من بردها، وليس في جهنم باب ولا ستر إلا مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فمن أجل ذلك عرفنا محمدا صلى الله عليه وسلم.(1/141)
قال: فقال بلوقيا: أيتها الحيات هل في جهنم مثلكن أو أكبر منكن؟ فقلن: إن في جهنم حيات تدخل إحدانا في أنوفهن وتخرج من آذانهن فلا يشعرن بنا من عظمهن.
قال: فسلم عليهن بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى جزيرة أخرى فإذا هو بحيات سود كأنهن جذوع وعلى متن إحداهن حية صفراء صغيرة إذا صفرت اجتمعن الحيات حولها وإذا نفخت طرن جميعا ودخلن الماء وصرن تحت الأرض وهن يقلن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: فلما رأته الحية الصغيرة قالت له: أيها الخلق المخلوق من أنت وما اسمك؟ قال: اسمي بلوقيا وأنا من بني إسرائيل وإسرائيل من ولد آدم عليه السّلام، فأخبريني أيتها الحية من أنت؟ قالت الحية: أنا ملكة الحيات واسمي بليخا وإن ربي عزّ وجلّ قد وكّلني بهؤلاء الحيات وحفظهن، ولولاه لقتلت الحيات بني آدم كلهم في يوم واحد ولا لتقمتهم بلقمة ولهان ذلك عليهن، ولكني إذا صفرت صفيرة وسمعن صوتي دخلن الماء وصرن تحت الأرض، وأنت يا بلوقيا أين تذهب؟ قال: خرجت في طلب الأرض التي تكلمت بنبوة محمد، قالت: يا بلوقيا إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: إن لقيت محمدا فاقره مني السلام وقل له: إن بليخا تقرئك السلام.
ثم إن بلوقيا مضى حتى أتى بيت المقدس وكان بها حبرا من أحبارهم يسمى عفان، قال: فلقي عفان بلوقيا فسأله عن خبره فيما جاء، فأخبره بخبره وحدّثه بحديث الحيات وقصة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونعت أمته وما كان من أمر أبيه وأمر الرق وخروجه لذلك، وحدّث بما لقي في الجزيرة من الحيات وحدّثه بشأن بليخا ملكة الحيات.(1/142)
فقال له عفان: يا بلوقيا ليس هذا زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وإن بينك وبينه سنين وقرونا كثيرة، ثم قال له: يا بلوقيا أتدلني على الحية التي تسمى بليخا فإنا إن قدرنا على صيدها رجونا أن ننال ملكا عظيما ونحيا إلى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فإذا بعثه دخلنا في دينه واتبعناه وآمنا به، فحمل بلوقيا حرصه على الإسلام ودخوله في دين محمد صلى الله عليه وسلم أن قال له:
أنا أدلك على المكان الذي فيه بليخا.
وكان عفان قد قرأ الكتب وأحكمها فاتخذ تابوتا من حديد وكوزين من فضة فملأ إحدى الكوزين خمرا والأخرى لبنا ثم وضعهما في التابوت، ثم سارا جميعا حتى انتهيا إلى الجزيرة التي فيها تلك الحية ففتحا التابوت ووضعاه وتركا رأس الكيزان مفتوحة وتنحيا ناحية، فجاءت الحيّة- ملكة الحيات- فدخلت التابوت فشربت الخمر واللبن فسكرت ونامت في التابوت فقام عفان فدّب إلى التابوت دبيبا خفيا فأغلق باب التابوت عليها وحمله تحت حضنه وإبطه ثم مضيا وسارا جميعا فجعلا لا يمران بشيء من شجر ولا حجر ولا مدر ولا حشيش ولا زيتونة ولا نبت إلا كلمتهما بإذن الله ووصفت ما فيهن من النفع والضر والداء والدواء.
فبينا هما يسيران إذ انتهيا إلى شجرة يقال لها: الفريصة فنادتهما تلك الشجرة: يا عفان من يأخذني فيقطعني ويأخذ ورقي ويدقني ويعصر دهني ويطلي بين قدميه من حيث شاء فيجوز البحار السبع ولا تبتل قدماه بإذن الله ولا يغرق، فقال عفان: لك أردت، وإياك طلبت، فدنا من تلك الشجرة فقطع من أغصانها فدقها وعصر دهنها وجعله في إحدى الكوزين، ثم خلّا عن الحية فطارت الحية بين السماء والأرض وهو يقول: يا بني آدم ما أجرأكما على الله فلا تصلا إلى ما تريدان، وذهبت الحية.(1/143)
وسار عفان وبلوقيا حتى أتيا البحر وطليا أقدامهما من ذلك الدهن ثم دخلا في اليمّ ومرّا على وجه الماء كما كانا يمران على وجه الأرض لا تبتل لهما رجل ولا تغرق لهما قدم حتى جازا البحر الأول ثم الثاني فبينا هما يسيران إذا هما بجبل في وسط البحر ليس بعال ولا متدان ترابه كالمسك فيه كهف، وفي الكهف سرير من ذهب وعلى السرير شاب مستلق على قفاه ذو وفرة وهو واضع يده اليمنى على صدره ويده اليسرى على بطنه بمنزلة النائم وليس بنائم ولكنه ميت وهو سليمان بن داود عليهما السلام وعند رأسه تنين وعند رجله تنين وخاتمه في إصبعه في يده اليسرى وكان ملكه في خاتمه وحلقته من ذهب وفصّه من ياقوتة حمراء مربع مكتوب عليه أربعة أسطر في كل سطر اسم من أسماء الله تعالى الأعظم.
قال: وكان عفان قد علم الكتاب، فقال بلوقيا لعفان: من هذا؟
قال: هذا سليمان بن داود عليهما السلام، ونريد أن نأخذ خاتمه من يده فيعود ملكه إلينا ونرجو الحياة إلى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال له بلوقيا: ويحك أليس سأل سليمان عليه السّلام ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده إلى يوم القيامة، فأعطاه ذلك، ولن ينال أحد ملكه إلى يوم الدين لدعائه؟
فقال له عفان: يا بلوقيا اسكت فإن معنا اسم الله الأكبر، ولكن أنت يا بلوقيا فاقرأ التوراة وعليك منها بأسماء الله العظام، فقال له بلوقيا: وكيف تصل إلى الخاتم والتنينان يحرسانه؟ فقال له عفان:
إن التنينين لا يضران مع اسماء الله شيئا.
قال: فأخذ بلوقيا في قراءة التوراة وتقدم عفان ليأخذ الخاتم من يد سليمان عليه السّلام، فقال التنينان: يا عفان ما أجرأك على الله حيث تريد أن تسلب خاتم نبيه سليمان عليه السّلام فإنك إن قهرتنا باسم الله لنغلبنك بقوة الله تبارك وتعالى.(1/144)
قال: فنفخ التنينان عفان وبلوقيا، فلم يضرهما نفخة التنينين لحال ما قرأ بلوقيا اسم الله الأعظم من التوراة، فدنا عفان من السرير ليأخذ الخاتم من يده، واشتغل بلوقيا بالنظر إلى عفان وفعله وترك القراءة حتى نزل جبريل من السماء فصاح بهما صيحة، فاضطربت الأرض والجبال وتزلزلت واختلطت البحار حتى صار كل ماء عذب مالحا وكل مالح عذبا من شدة صوت جبريل.
قال: وسقط بلوقيا وعفان جميعا مغشيا عليهما، ونفخ التنينان الثانية فخرج من جوفهما نار كالبرق الخاطف فاحترق منها عفان وصار رمادا، وجازت نفخاتهما في البحار فلم تمر بشيء إلا أحرقته ولا بالماء إلا أغلته، ونجا بلوقيا باسم الله الأعظم الذي كان يقرأه فلم تضره بإذن الله وجاز العذاب ولم يصبه.
قال: ثم تراءى له جبريل عليه السّلام على صورة رجل فقال له: يا ابن آدم ما أجرأك على الله، فقال له بلوقيا: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا جبريل أمين رب العالمين، فقال له بلوقيا: يا جبريل إنما خرجت محبة لمحمد صلى الله عليه وسلم وشوقا إليه ورغبة في دينه، ولم أخرج لطلب الخطأ ولم أتعمد لذلك، فقال له جبريل: فبذلك نجوت وإلا كنت تهلك مع صاحبك، ثم ارتفع جبريل عليه السّلام إلى السماء.
ومضى بلوقيا وطلى قدميه ببقية الدهن الذي كان معهما، فركب البحر راجعا فغلط الطريق الذي جاء فيه مع عفان وأخذ طريقا آخر وهو لا يدري فجاوز البحر الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس حتى انتهى إلى البحر السابع وقد بقي حيران لا يدري في أي بلاد الله هو، ولكنه كان يتلو التوراة دائما ويقرأ اسم الله الأعظم ويدعو ربه جل وعلا(1/145)
بذلك الاسم، فكان الله (تعالى جدّه) يقويه ويعينه على الجوع والعطش والإعياء، فكان لا يجوع ولا يعطش ولا يعيى في مسيره ذلك.
فلما انتهى إلى البحر السابع فإذا هو بجزيرة من ذهب أحمر حشيشها الورس والزعفران، وأشجارها النخل والرمان والعنب وألوان الثمار، لم ير الراؤون مثلها حسنا وزهرة والتفافا وكثرة، فقال بلوقيا:
ما أشبه هذا المكان بصفة الجنة.
قال: فتقدم بلوقيا إلى بعض أشجارها ليأخذ من ثمرها فقالت الشجرة: إليك عني يا خاطىء بن الخاطىء لا تأخذ مني شيئا فإنك لا تقدر عليه، فبقي بلوقيا متعجبا من قولها ومتفكرا.
ثم نظر أمامه فإذا بجبال الشجر فرسان يتراكضون نحوه، بأيديهم السيوف الشاهرة تبرق كالبرق اللامع، كأنهم يطيرون بين السماء والأرض، حتى أحاطوا به، فلما رأوه تعجبوا منه وأغمدوا أسيافهم، ثم قالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحك! من أنت يا عبد الله وما حالك؟ فقال: أنا بلوقيا رجل من بني إسرائيل من ولد آدم عليه السّلام، قالوا: نعم وما أوقعك علينا وكيف صرت إلى هذا الموضع؟
فقال بلوقيا: بعون الله وبقوته والذي خلقني وخلقكم إنما جئت في طلب الاسم الذي تتكلمون: محمد رسول الله، وقص عليهم قصته وقصة والده وأمر الرق، فقالوا: ويحك يا بلوقيا إنك قد غلطت الطريق ووقعت في البحر السابع، وإنك سترى أهوالا وأقراعا كثيرة حتى تجاوز البحر السابع، فقال بلوقيا: من أنتم رحمكم الله؟ قالوا: نحن قوم من الجن مؤمنون كنا مع الملائكة في السماء فأنزلنا الله إلى الأرض وأمرنا بقتال كفرة الجن، ونحن ها هنا غازون نغزوا إلى يوم القيامة، فقال بلوقيا:(1/146)
أنشدكم بالله أتعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم وخبره؟ فقالوا: اللهم لا، فقال بلوقيا:
فما لكم تذكرونه دائما؟، فقالوا: لقد أمرنا الله بذلك.
ثم أخذوا بيد بلوقيا فانطلقوا به إلى ملكهم وكان اسمه صخريا.
قال: فلما رأى بلوقيا سلم عليه وأجلسه عنده وسأله عن حاله وخبره فأخبره بشأنه وقصته وما عاين من العجائب، فبكت الجن وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا بلوقيا إنا أقوام من الجن أعطينا الحياة إلى يوم القيامة، فنقاتل كفرة الجن فلا صبر لمثلك معنا.
فقال بلوقيا لملك الجن: يا صخريا أخبرني عن بدء خلق الجان وكيف صار إبليس ملعونا من بينهم.
فقال صخريا: نعم إن الله جلّ جلاله لما خلق جهنم وعذابها وأنكالها جعل لها سبعة أبواب وسبع دركات وسبعة ألسن، فخلق فيها خلقين يسمى أحدهما حبليت والآخر نمليت، فأما حبليت فإنه خلق في صورة الأسد وأما نمليت فإنه خلق في صورة الذئب فجعل الأسد ذكرا والذئب أنثى وجعل طول كل واحد منهما مسيرة خمس مائة عام وجعل للأسد ذنبا كذنب الحية وللذئب مثل ذنب العقرب وأمرهما أن ينتفضا في النار انتفاضا فسقط من ذنب الأسد حية ومن ذنب الذئب عقرب فعقارب جهنم وحياتها من ذلك، ثم أمرها أن يتناكحا في النار فتناكحا، فحمل الذئب من الأسد فولد لهما سبع بنين وسبع بنات فأمرهما الله عزّ وجلّ بتزويج بعضهم من بعض كما أمر به آدم عليه السّلام فأطاع ستة منهم فتزوجوا وعصى السابع ولم يتزوج فلعنه أبوه وهو إبليس عليه لعائن الله تترى، فكان اسمه الحرث وكنيته أبو الضمر ويقال أيضا أبو مرة، فلما لعنه الله ثانيا على رأس آدم إذ عصى أمره سماه إبليسا وكناه أبا مرة، فهذا أول شأن خلق الجان كما أخبرتك.(1/147)
ثم قال: يا بلوقيا إن دوابنا لا تستقر مع الإنسان ولكن اركب فرسي هذا، قال: فحمله على فرس مجلل مبرقع، وقال ملك الجان:
يا بلوقيا إذا انتهيت إلى أقصى عمالي على ساحل البحر فإنك ستلقى قبة ومسلحة لي فيهما شيخ وشاب فسلم الفرس إليهما وامض أنت راشدا.
قال: فركب بلوقيا الفرس حتى انتهى إلى المسلحة فسلم على الشيخ والشاب ونزل ورد الفرس إليهما وكان قد خرج من عند ملكهم وقت صلاة الغداة وبلغ إليها نصف النهار، فقال له الشيخ: يا بلوقيا متى فارقت الملك؟ قال: فارقته وقت صلاة الغداة، قال: ما أسرع ما جئت أتعبت فرسنا، قال: فقال بلوقيا: ما رفعت عليه يدا ولا حركت عليه رجلا ولا سرت به سيرا شديدا، قال: فلم نراك جئت الساعة؟ قال:
عسى جئت خمس فراسخ أقل أو أكثر، قال: فنزعوا عنه السرج واللجام والبرقع والحلّ فإذا الفرس ينصب عرقا وإذا له جناحان قد استرخيا من شدة الطيران والإعياء، فقالوا: يا بلوقيا: جئت اليوم مسيرة عشرين ومائة سنة وذلك أن الفرس أحس بثقلك وعرق فطار بك بين السماء والأرض حول الدنيا دون تأن وأنت لا تعلم ونحن الجان نكون أخف منكم فمن أجل ذلك عرق الفرس، قال بلوقيا: هذا هو العجب ما ظننت أن يكون مثل هذا؟ قالا: يا بلوقيا عجائب الله أكثر من ذلك، قال: ثم سلم عليهم بلوقيا وركب البحر ومضى.
فبينا هو في مسيرة يسيرة إذا هو بملك إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: فسلم عليه بلوقيا، فقال له الملك: من أنت يا أيها الخلق المخلوق؟ قال: أنا بلوقيا وأنا من بني إسرائيل وإسرائيل من ولد آدم عليه السّلام فمن أنت أيها الملك وما اسمك؟ قال الملك: اسمي ترحبابيل، وأنا(1/148)
موكل بضوء النهار وظلمة الليل، قال: فما بال يديك مبسوطتان؟ قال:
في يدي اليمنى ضوء النهار وفي يدي اليسرى ظلمة الليل فلو نسيت ظلمة الليل لأظلمت السماوات والأرض وما بينهما فلم يكن ضوء أبدا ولو نسيت ضوء النهار لأضاءت السماوات والأرض وما بينهما ولم يكن ظلمة أبدا- وبين عينيه لوح معلق مكتوب فيه سطران، سطر أبيض وسطر أسود- فإذا رأيت السواد قد زاد الضوء زدت بقدر ما زاد في السطر الأسود وإذا رأيت البياض قد نقص نقصت من الضوء بقدر ما نقص من السطر الأبيض فكذلك الليل في الشتاء أطول والنهار أقصر، وفي الصيف النهار أطول والليل أقصر، وكل شيء يزيد في الظلمة فإنه يزيد في الشتاء من طول الليل وكل شيء يزيد في البياض فإنه يزيد في الصيف والحر وطول النهار.
قال: فسلم عليه بلوقيا ومضى، فإذا هو في مسيره إذا هو بملك قائم يده اليمنى في السماء ويده اليسرى في البحر قد جاوز الماء وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: فسلم عليه بلوقيا، فقال الملك: من أنت؟ قال: أنا من بني إسرائيل وإسرائيل من بني آدم فمن أنت أيها الملك وما اسمك؟ قال الملك: اسمي صنحبابيل، قال: فما لي أرى يمينك في السماء وشمالك في الأرض على الماء، فقال: إني أحبس الريح بيميني والبحر بشمالي عن الخلق ولولا ذلك لأغرق البحر من على الأرض من الخلق إذا امتد في ساعة واحدة ويميني في الهواء أحبس الريح عن الخلق ولولا ذلك لأهلك الريح من على وجه الأرض من الخلق، وإن بين السماء والأرض لريحا يقال لها العايجة لو تركتها لقلبت الأرض ومن عليها فجعلت عليها سافلها وذلك من شدة بردها وشدتها بإذن الله ولكن أخليها من بين أصبعي بقدر(1/149)
ما يأمرني الله به إذا جاء وقتها فإذا خرجت لم يمر في الهواء ماء إلا جمدته فيصير بعضه ثلجا وبعضه بردا فإذا صار إلى الأرض ذاب وعاد كما كان أول مرة.
قال فسلم عليه بلوقيا ومضى وسار فإذا هو بأربعة أملاك أحدهم رأسه كرأس الرجل والثاني رأسه كرأس الأسد والثالث رأسه كرأس الثور والرابع رأسه كرأس النسر، فأما الملك الذي كان على خلقة الرجل اسمه مليادون وكلامه الفارسية الدريّة وهو الذي صاح بموسى بن عمران عليه السّلام حين قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، فهو يدعو لبني آدم ويقول: اللهم ارحم المسلمين ولا تعذبهم وادفع عنهم البلاء وبرد الشتاء وحر الصيف وأعنهم على طاعتك وادخلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم التناد.
وأما الملك الذي على خلقة الثور فهو يدعو للبهائم ويقول: اللهم ارحم البهائم ولا تعذبهم وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف والق لهم الرحمة في قلوب بني آدم أن لا تحملوا عليها فوق طاقتها، واجعلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأما الملك الذي على خلقة النسر فهو يدعو للطيور ويقول: اللهم ارحم الطيور ولا تعذبهم وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف واجعلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأما الملك الذي على خلقة الأسد فهو يدعو للسباع ويقول: اللهم ارحم السباع ولا تعذبهم وادفع عنهم برد الشتاء وحر الصيف وادخلني في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: فسلم عليهم بلوقيا ومضى، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا بلوقيا من ولد آدم، قالوا: ومن جاء بك إلى ها هنا؟ قال: الذي خلقني وخلقكم.(1/150)
فمضى بلوقيا حتى انتهى إلى قاف فإذا هو بملك قائم على جبل قاف- وقاف جبل محيط بالدنيا وهو جبل من ياقوتة خضراء فخضرة هذه السماء منه، وذلك قول الله عزّ وجلّ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ-، فلما نظر بلوقيا إلى الملك سلم عليه وفرق منه، فرد عليه السّلام فقال له: من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من ولد آدم واسمي بلوقيا، فقال له الملك: وأين تريد؟ قال: خرجت في طلب نبي يقال له محمد صلى الله عليه وسلم ولست أرى أثره ولا أدري في أي بلاد الله أنا، فقال الملك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أمر ربنا عزّ وجلّ بالصلاة على محمد.
فقال له بلوقيا: أيها الملك، وما اسمك؟ قال: اسمي حزيائيل، قال: وما تصنع ها هنا؟ فقال: أنا أمين الله على قاف، قال: فنظر بلوقيا فإذا في يد الملك وتر مرة يطويه ومرة يحله وعرق الأرض كلها مشدودة عليه، والوتر في كف الملك، فقال بلوقيا: ما هذا الوتر في يديك؟ قال:
عروق الأرضين كلها مشدودة عليه وهو بيدي فإذا أراد الله تعالى ذكره أن يضيق على عباده أمرني أن ألوي الوتر وأشد عروق الأرضين فيضيق الله عليهم، وإذا أراد الله عزّ وجلّ أن يوسع عليهم أمرني أن أخلي الوتر وأرخي عروق الأرضين فتتسع الدنيا على العباد، وإذا أراد الله أن يرجف بقوم أمرني أن أحرك عروق تلك الأرضين فتهتز وترجف بأهلها، فلذلك يهتز موضع ولا يهتز آخر، فإذا حركت تلك الأرض تحركت الحوت التي عليها قرار الأرضين وهو تحت الأرضين السابعة السفلى واسمها بهموت فتحركت الأرض التي أمر الله وذلك عند كثرة المعاصي والزنا واللواط خاصة، فإذا ظهرت تكون الزلازل والهلاك.
فقال له بلوقيا: وما وراء قاف؟ قال: أربعون ألف دنيا غير الدنيا التي جئت منها، في كل دنيا من هذه الأربعين أربع مائة باب، في كل(1/151)
باب أربع مائة ضعف مثل الدنيا التي جئت منها، وليس في شيء منها ظلمة إلا كلها نور وأرضها من ذهب وعليها حجاب من نور وسكانها ملائكة مطيعون للرب عزّ وجلّ ما عصوه قط طرفة عين، ولا يعرفون آدم ولا إبليس ولا جهنم، خلقهم الله لعبادته فهم برآء من العصيان إلى آخر الدهر وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله كذلك ألهموا، ولذلك خلقوا وبه أمروا إلى يوم القيامة، فقال بلوقيا: فما وراءهم؟ قال:
حجب، سبعون حجابا، كل حجاب كمقدار الدنيا التي جئت منها سبعين مرة فهذا سلطان ربك وقدرته، وخلف تلك الحجب علم الله وقدرته.
قال بلوقيا: أخبرني أيها الملك عن قاف، على أي شيء هو موضوع، قال: على قرن ثور اسمه قونيط وهو أقمر، مقدمه في المشرق ومؤخره في المغرب بين قرنيه مسيرة ثلاثين ألف سنة وهو ساجد لربه جل وعلا على صخرة بيضاء إلى يوم القيامة، قال: فالثور على أي شيء هو قائم؟ قال: إن الثور له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، فقرونه تحت العرش وقوائمه على صخرة في البحر السفلي تحت الأرضين السابعة والصخرة بيضاء، قال: الصخرة على أي شيء هي موضوعة؟
قال: على جناح بهموت السمكة التي عليها قرار الأرضين واسم الجناح الدنيا، والسمكة مزمومة مشدودة إلى قائمة العرش، قال بلوقيا: أيها الملك فكم الأرضون وكم البحار؟ قال: الأرضون سبع والبحار سبعة، قال: فأين جهنم؟ قال: تحت الأرضين السابعة.
قال: فسلم عليه بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى حجاب طرفه الأعلى في السماء وأسفله في الماء له باب مقفل مختوم خاتمه نور وعلى الباب ملكان أحدهما رأسه على خلقة رأس الثور وبدنه كبدن الفرس والآخر رأسه على خلقة رأس الكبش وبدنه كبدن الثور وهما يقولان: لا إله إلّا الله(1/152)
محمد رسول الله، قال: فسلم عليهما بلوقيا فردا عليه السلام وقالا: أيها المخلوق من أنت؟ قال: أنا بلوقيا من بني إسرائيل من ولد آدم، فقالا:
لا إله إلا الله محمد رسول الله إن هذه أسامي لم نسمع بها قط؟ فقال بلوقيا: فكيف عرفتم اسم محمد صلى الله عليه وسلم وهو من نسل آدم ولا تعرفون آدم؟
قالا: بذلك أمرنا ولذلك خلقنا ولم نسمع بآدم ولا إسرائيل، قال: فقال لهما بلوقيا: افتحا لي الباب حتى أجوز، فقالا: ليس فتحه إلينا ولا نقدر على فتحه، وإن لله عزّ وجلّ ملكا يسمى جبريل عسى أنه يقدر على فتحه، قال: فجعل بلوقيا يدعو الله عزّ وجلّ باسمه الأعظم من التوراة وتضرع إليه، فأمر الله تعالى جبريل أن يفتح له الباب فنزل جبريل عليه السّلام ففتح الباب بيده ثم قال: يا خاطىء ابن الخاطىء ما أجرأك على الله، اخرج.
قال: فخرج ومضى حتى انتهى إلى البحر المالح والبحر العذب فلما بلغ إلى البحرين رأى بينهما حاجزا وإذا في البحر المالح جبل من ذهب عالي ذاهب في السماء يتلألأ ضوؤه، وفي البحر العذب جبل من فضة عالي في السماء وبين الجبلين خلق كثير كأمثال الغزلان وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله وملائكة على صورة النمل، فلما انتهى إليهم بلوقيا سلم عليهم فردوا عليه السلام وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا بلوقيا من ولد آدم، قال: فمن أنتم؟ قالوا: نحن أمّنا الله بين البحرين نمنعهما أن يختلطان أو يبغيان، وذلك قوله عزّ وجلّ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ يقول: حجاب لا يختلطان، فقال بلوقيا: أيها الخلق المخلوق ما هذا النمل وما هذا الجبل الأحمر؟
قالوا: هذا كنز الله في الأرض فكل ذهب في الأرض فهو من نسل هذا الجبل وكل ماء مالح من نسل هذا البحر، وأما الجبل الأبيض فهو كنز الله في الأرض فكل فضة في الأرض فهو من نسل هذا الجبل وكل(1/153)
ماء عذب فهو من نسل هذا البحر، فهذا البحر العذب كان تحت العرش من قبل أن خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض والملائكة.
قال: فسلم عليهم بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى بحر عظيم، فإذا هو بحيتان قد اجتمعن فيه وإذا بينهن حوت عظيم يقضي بينهن، قال: فلما نظرن إلى بلوقيا قلن بأجمعهن: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال:
فدنا منهن بلوقيا فسلم عليهن فرددن عليه السلام وسألنه عن حاله ومن هو؟ فقال: أنا من ولد آدم واسمي بلوقيا، فقلن ثانيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ما سمعنا بهذه الأسامي، قال بلوقيا: إني خرجت في طلب هذا الاسم الذي تتكلمون به محمدا وهو رسول رب العالمين وهو من نسل آدم فكيف لا تعرفون آدم؟ فقلن: لو أنك لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم فأقره منا السلام كثيرا، قال: نعم إن شاء الله، ثم قال لهن: أيتها الحيتان إني جائع وعطشان وهذا الماء مالح لا أقدر على شربه ولست أجد ما آكل فهل عندكن شيء تطعمنني؟ فقال الحوت الذي يقضي بينهن وهو أكبرهن: أطعمك طعاما تسير به أربعين سنة لا تعيا ولا تنام ولا تجوع ولا تعطش، قال: فأطعمه الحوت قرصة بيضاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، فأكل بلوقيا القرص وسلم عليهن ومضى فسار أربعين سنة فلم يجع ولم يعطش ولم يعيى ولم ينم حتى بلغ العمران فحمد الله تعالى ذكره.
فنظر فإذا هو بشاب يمر على الماء ضوؤه كضوء البرق فقال له: من أنت رحمك الله؟ قال: سل الذي خلفي ولا تحبسني، قال: فسار يوما وليلة فإذا هو بشاب آخر يمر على الماء ضوؤه كضوء الكوكب الدري، فقال له بلوقيا: من أنت؟ قال: سل الذي من خلفي ولا تحبسني، قال(1/154)
فسار يوما وليلة فإذا هو بشاب آخر يمر على الماء ضوؤه كضوء الشمس، فقال له بلوقيا: سألتك بالله وبوجهه الكريم لما وقفت لي، فقال: ويحك لا تستحلفني، قال: حسبت أن تقول لي مثل ما قالا صاحباك، قال:
حاجتك؟ قال: أخبرني من أنت؟ ومن كانا صاحباك؟ قال: الأول إسرافيل صاحب الصور والآخر ميكائيل وهو صاحب الطور والمطر وأرزاق العباد وأنا جبريل رسول رب العالمين، فقال: يا جبريل أين تذهبون؟ قال: إلى اليم، قال: وما تصنعون في اليم؟ قال: إن حية من حيات البحر قد أذت سكانها وقد دعوا الله عليها فاستجاب الله عزّ وجلّ دعاءهم فأرسلنا إليها فنسوقها إلى جهنم حتى يعذب الله الكفار يوم القيامة، قال بلوقيا: فكيف هي حتى بعثكم الله تبارك وتعالى ثلاثة من الملائكة يسوقونها إلى جهنم؟
قال جبريل: طولها ثلاثمائة فرسخ وعرضها مائتي فرسخ، فقال بلوقيا:
لا إله إلا الله محمد رسول الله قال: فهل في جهنم مثلها أو أكبر منها؟
قال: نعم سبعين ضعفا لا يعلم عظم خلقها إلا الله الواحد القهار.
وقال: فسلم على جبريل فرد عليه السلام ثم مضى وسار حتى انتهى إلى جزيرة فإذا هو فيها بغلام أمرد قائم بين قبرين يصلي بينهما فسلم عليه بلوقيا، وقال له: من أنت يا شاب؟ قال: أنا صالح، قال: فما هذان القبران؟ قال: أحدهما قبر أمي والآخر قبر والدي كانا صالحين وأنا عند قبريهما حتى أموت إن شاء الله.
قال: فسلم عليه بلوقيا ومضى حتى انتهى إلى جزيرة فإذا هو في الجزيرة شجرة، وعلى الشجرة طير واقع من ذهب أحمر وعيناه من ياقوتتين حمراوتين ومنقاره من ياقوتة خضراء ورجليه من زبرجدة خضراء وذنبه من درة بيضاء وريشه من زعفران وقوائمه من زمرد، وإذا مائدة مهيأة موضوعة تحت تلك الشجرة عليها طعام وحوت مشوي، فسلم(1/155)
بلوقيا على ذلك الطير فرد الطير عليه السلام، فقال بلوقيا: أخبرني أيها الطير من أنت؟ فإني لم أر طيرا أحسن منك؟ قال: أنا طير من طيور الجنة وإن الله عزّ وجلّ كان بعث إلى آدم بهذه المائدة حين أهبط من الجنة فكنت معه حتى لقي حواء فوكلني الله عليها فكان آدم وحواء عليهما السلام يأكلان منها وأنا ها هنا منذ ذلك، فكل غريب يمر بي يأكل من هذه المائدة فأنا أمين عليها إلى يوم القيامة، قال له بلوقيا: لم ينقص من هذا الطعام ولم يتغير؟ قال الطير: إن طعام الجنة لا ينقص ولا يتغير أبدا، قال: فكل منها ما شئت.
قال: فأكل منها حاجته ثم قال: أيها الطير هل معك أحد ها هنا؟
قال: نعم، معي أبو العباس يأتيني أحيانا، قال بلوقيا: ومن أبو العباس؟
قال: الخضر عليه السّلام، فلما ذكر اسمه إذا هو بالخضر قد أقبل وعليه ثياب بيض كلما خطا خطوة نبت في موضع قدميه الحشيش واخضرّ وكلما جلس اخضرّ مكانه وحول قدميه، فسلم على بلوقيا فرد عليه السلام فسأله الخضر عن حاله فأخبره بجميع حاله وأموره وما رأى من العجائب فيما طلب من أثر النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
فسأل الخضر أن يرده إلى أهله وأمه، فقال له الخضر: إن بينك وبين أمك خمس مائة عام ارحل بك في خمس مائة شهر، فقال الطير:
إن كان بينك وبين أمك مسيرة خمس مائة شهر أرحل بك في خمسمائة يوم، فقال الخضر: إن كان بينك وبين أمك مسيرة خمسمائة يوم رحلت بك في عشرة أيام، فقال الطير: إن كان بينك وبين أمك مسيرة عشرة أيام رحلت بك في يوم واحد، فقال الخضر: إن كان بينك وبين أمك مسيرة يوم واحد رحلت بك في ساعة واحدة.
ثم قال الخضر لبلوقيا: غمض عينيك، فغمض عينيه ثم قال: افتح(1/156)
عينيك ففتحهما فإذا هو عند أمه جالس، وكان بينه وبين أمه مسيرة خمسمائة عام، فقال بلوقيا لأمه: من جاء بي هاهنا؟ قالت: جيء بك على متن طير أبيض يطير بك بين السماء والأرض فوضعك قدامي.
فخرج بلوقيا إلى بني إسرائيل فجعل يجلس لهم كل يوم ويحدثهم بما رأى وعاين من العجائب وهم يكتبون عنه حتى كتبوا عنه ذلك وأثبتوه عندهم، يقرأ في كتبهم إلى الساعة ويتحدثون به، وكتبوا عجائبه في أربعين سنة، وعاش بلوقيا ألف سنة واثنين وعشرين سنة فيما روي لنا، والله أعلم.
والعلم عند الله ولا يعلم الغيب إلا الله لأن له العلم الكامل، والسناء والقدرة التامة لله جلّ جلاله، وصلى الله على محمد المصطفى وآله أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا، فهذا ما كان من حديث بلوقيا وما رأى من الآيات والعجائب.(1/157)
[7- فصل: في ما جاء في الكتب المتقدّمة من التّنويه بشرفه صلى الله عليه وسلم والتّعريف بفضله وفضل أمّته]
7- فصل:
في ما جاء في الكتب المتقدّمة من التّنويه بشرفه صلى الله عليه وسلم والتّعريف بفضله وفضل أمّته 11- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر.
12- وقالت أم الدرداء لكعب: يا كعب كيف تجدون رسول الله صلى الله عليه وسلم (11) - قوله: «إن محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل» :
هكذا رواه العيزار بن حريث عن عائشة، حديثه عند ابن سعد في الطبقات [1/ 363] ، وأبي نعيم في الدلائل كما في خصائص السيوطي [1/ 29] ، والبيهقي في الدلائل أيضا [1/ 377] ، وصححه الحاكم في المستدرك على شرطهما [2/ 614]- ووافقه الذهبي، وهو كذلك-، وابن عساكر في تاريخه [3/ 388] .
نعم، ورواه أبو عبد الله الجدلي عن عائشة قولها، أخرجه الترمذي في البر والصلة من جامعه، باب ما جاء في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 2016، وقال:
حسن صحيح، وفي الشمائل برقم 340، ومن طريقه البغوي في الأنوار برقم 205، وفي شرح السنة [13/ 237] برقم 3668، والإمام أحمد في المسند [6/ 174، 236، 246] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 360] ، والطيالسي في مسنده برقم 2423، والبيهقي في الدلائل [1/ 315] ، وصححه ابن حبان كما في الموارد برقم 2131.
(12) - قوله: «وقالت أم الدرداء» :
هي الصغرى زوج أبي الدرداء، واسمها: هجيمة- ويقال: جهيمة- بنت-(1/158)
في التوراة؟ فقال: نجده محمد رسول الله، ليس بفظ ولا غليظ ولا بصخاب في الأسواق، أعطي الفواتح ليبصر الله به أعينا عورا، ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه، لا يتزين بالفحش ولا يقول الخنا، بكل جميل ذاهب، له خلق كريم، جعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبعه، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به من الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمول، وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأولف به بين قلوب مختلفة وأهواء مشتتة وأمم متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويوحدونني إيمانا وإخلاصا، - حيي الأوصابية الدمشقية، تعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، لها عبادة وتأله، قال ميمون بن مهران: ما دخلت عليها في ساعة إلا وجدتها مصلية، ولها أقوال مأثورة مذكورة في مظان ترجمتها.
تهذيب الكمال [35/ 352] ، تاريخ دمشق [70/ 146] ، تهذيب تاريخ دمشق [27/ 174] ، تهذيب التهذيب [12/ 493] ، التقريب [/ 756] الترجمة رقم 8728، الكاشف [3/ 440] .
قوله: «نجده: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه البيهقي في الدلائل [1/ 376- 377] بلفظ أخصر منه، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 394- 395] ، وقد رواه بنحوه عن كعب من الصحابة: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وأبو واقد الليثي، انظر تخريجنا لأحاديثهم في كتابنا فتح المنان شرح المسند الجامع تحت رقم 5.(1/159)
يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، يخرجون من أموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتحميد والتمجيد والمدحة والتهجد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤس الأشراف ويطهّرون لي الوجوه والأطراف، ويقصرون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
13- وروى روح، عن سعيد، عن قتادة في قوله عزّ وجلّ:
(13) - قوله: «وروى روح» :
هو ابن عبادة بن العلاء القيسي، الإمام الحافظ، أبو محمد البصري، أحد رجال الكتب الستة، من أصحاب سعيد بن أبي عروبة المقدمين فيه، انظر:
تهذيب الكمال [9/ 238] ، تهذيب التهذيب [3/ 253] ، الكاشف [1/ 244] ، التقريب [/ 211] ، الجمع بين رجال الصحيحين [1/ 137] .
قوله: «عن سعيد» :
هو ابن أبي عروبة العدوي، الحافظ الثقة، أبو النضر البصري، أحد رجال الكتب الستة، وأعلم أصحاب قتادة بحديثه، انظر ترجمته في:
تهذيب الكمال [11/ 5] ، تهذيب التهذيب [4/ 56] ، الكاشف [1/ 292] ، التقريب [/ 239] ، الجمع بين رجال الصحيحين [1/ 169] .
قوله: «عن قتادة» :
هو ابن دعامة السدوسي، قال الحافظ الذهبي في سيره: هو الإمام حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين، أحد أوعية العلم، ممن يضرب به المثل في قوة الحفظ، وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع فإنه مدلس-(1/160)
قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ الآية، قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله عزّ وجلّ: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية، يعني: معاصي الله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الآية، قال: فتمنّتها اليهود والنصارى، فأنزل الله عزّ وجلّ شرطا وثيقا فقال الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية، وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب، قال الله عزّ وجلّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ الآية، أي يجدون نعته وأمره مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الآية.
(14) - ومن فضله صلى الله عليه وسلم ما رواه مقاتل بن سليمان قال:
- معروف بذلك ... روى عنه أئمة الإسلام، وما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، انظر ترجمته في:
سير أعلام النبلاء [5/ 269] ، تهذيب الكمال [23/ 498] ، تهذيب التهذيب [8/ 315] ، الكاشف [2/ 341] ، التقريب [/ 453] .
قوله: «فتمنتها اليهود والنصارى» :
أخرج تفسيره: ابن جرير في تفسيره [9/ 80] ، وابن أبي حاتم بلفظ مختصر كذلك [5/ 1579] .
وعزاه السيوطي أيضا في الدر المنثور لعبد بن حميد وأبي الشيخ.
(14) - قوله: «ما رواه مقاتل بن سليمان» :
البلخي، أبو الحسن الخراساني، نزيل مرو، أحد كبار المفسرين والضعفاء المهجورين من المحدثين، قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة، -(1/161)
وجدت مكتوبا في الزبور: إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي إلى العرب، فيقهر العجم، ويفتح مشارق الأرض إلى مغاربها، وهو خير الأنبياء وسيدهم، وأفضل الخلق وأكرمهم عليّ، فطوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، وطوبى لمن هاجر معه، وطوبى لمن اقتدى به.
- وكذّبه غير واحد، ورمي بالتجسيم، فعن أبي حنيفة: أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه، قال البخاري رحمه الله: مقاتل لا شيء البتة، وقال العراقي في ذيل الكاشف: بحر علم إلا أنه ضعيف متهم بالكذب.
طبقات ابن سعد [7/ 373] ، الجرح والتعديل [8/ 354] ، وفيات الأعيان [5/ 255] ، تاريخ بغداد [13/ 160] ، تهذيب الكمال [28/ 434] ، تهذيب التهذيب [10/ 249] ، الميزان [5/ 298] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 111] ، طبقات المفسرين [2/ 330] ، المجروحين [3/ 14] ، سير أعلام النبلاء [7/ 201] ، التقريب [/ 545] الترجمة رقم 6768، الكامل لابن عدي [6/ 2427] ، ذيل الكاشف [/ 276] الترجمة رقم 1521.
قوله: «وجدت مكتوبا في الزبور» :
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى شعيا: إني مبتعث نبيّا أميّا، أفتح به آذانا صمّا، وقلوبا غلفا، أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به من الضلالة، وأعلم به من الجهالة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين القلوب وأهواء متشتتة، وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب.(1/162)
15- عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام:
يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم،........
(15) - قوله: «عن ابن عباس» :
أخرج حديثه الحاكم في المستدرك [2/ 614- 615] من طريق عمرو بن أوس الأنصاري قال: ثنا سعيد بن أبي عروية، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عنه قوله، صححه الحاكم، وأعله الذهبي بعمرو بن أوس بأنه لا يعرف، وأدخله الميزان، فقال: يجهل حاله، وأتى بخبر منكر، أخرجه الحاكم في المستدرك، قال: وأظنه موضوعا. اه. كذا قال فأغرب؛ إذ الحديث لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقال إنه موضوع، ثم إنه ليس في الإسناد من هو متهم بالوضع أو الكذب، وغاية ما يقال في إسناد حديث من لا يعرف حاله أن يقال: إنه ضعيف، وقد حذفه الحافظ من اللسان، ولعله ظنه الثقفي التابعي وهو محتمل، فالله أعلم.
قوله: «فلولا محمد ما خلقت آدم» :
فسر الشيخ ابن تيمية رحمه الله معنى هذا، فقال في الفتاوى [11/ 96- 98] : إذا قيل: فعل كذا لكذا لم يقتض أن لا يكون فيه حكمة أخرى، وكذلك قول القائل: لولا كذا ما خلق كذا، لا يقتضي أن لا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضي: إذا كان أفضل صالحي بني آدم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة وحكمة بالغة مقصودة أعظم من غيره صار تمام الخلق ونهاية الكمال حصل بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال: والله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلقه يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة، قال: ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق وأكرمهم عليه- آدم فمن دونه تحت لوائه- قال صلى الله عليه وسلم: إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل-(1/163)
ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش- في طينته، أي: كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه، قال: فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقا، ومحمد هو إنسان هذا العين، وقطب هذا الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، قال: فما ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وأنه لولاه لما خلقت، قال: فإذا فسر هذا ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك، قال: ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ الآية، وقوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها الآية، وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبني آدم، ومعلوم أن لله فيها حكما عظيمة غير ذلك وأعظم من ذلك، ولكن ليبين لبني آدم ما فيها من المنفعة وما أسبغ عليهم من النعمة. اه.
قلت: ومنه قول الشيخ القسطلاني في المواهب: فإن قلت: مذهب الأشاعرة أن أفعال المولى عزّ وجلّ ليست معللة بالأغراض، فكيف تكون خلقة محمد صلى الله عليه وسلم علة في آدم عليه السّلام؟ أجيب: بأن الظاهر من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التي هي غايات ومنافع لأفعاله تعالى لا بواعث على إقدامه ولا علل مقتضية لفاعليته، لأن ذلك محال في حقه سبحانه وتعالى لما فيه من اكتماله بغيره، قال: والنصوص شاهدة بذلك كقوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي: قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، فالتعليل لفظي لا حقيقي لأن الله تعالى مستغن عن المنافع، فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل. اه.(1/164)
على الماء فاضطرب، فكتبت عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فسكن.
16- روى زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما اقترف آدم الخطيئة رفع رأسه إلى العرش، وقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فقال الله تعالى: يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على ساق عرشك مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقلت: إنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق (16) - قوله: «روى زيد بن أسلم» :
العدوي، الإمام الحجة القدوة، أبو عبد الله العمري، المدني، أحد فقهاء المدينة، كانت له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس فيها علي بن الحسين الإمام، وأبو حازم الأعرج، قال الحافظ الذهبي: له تفسير رواه عنه ابنه عبد الرحمن، وكان من العلماء العاملين، حديثه في الكتب الستة.
سير أعلام النبلاء [5/ 316] ، حلية الأولياء [3/ 221، 229] ، تهذيب الكمال [10/ 12] ، تهذيب التهذيب [3/ 341] ، المعرفة والتاريخ [1/ 675] ، الكاشف [1/ 263] .
قوله: «عن أبيه» :
هو أسلم العدوي، الإمام الفقيه مولى عمر بن الخطاب، اشتراه عمر بمكة، إذ حج بالناس في العام الذي يلي حجة الوداع، زمن الصديق رضي الله عنه، وثقه الجمهور، وحديثه في الكتب الستة.
سير أعلام النبلاء [4/ 98] ، طبقات ابن سعد [5/ 10] ، تذكرة الحفاظ [1/ 49] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 117] ، تهذيب الكمال [2/ 529] ، تهذيب التهذيب [1/ 233] .(1/165)
لديك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك.
17- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: لما أعطى الله تعالى موسى عليه السّلام الألواح نظر فيها، فقال: إلهي لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا قبلي، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أتدري لم فعلت؟ قال: لا يا رب، قال: لأني نظرت إلى قلوب خلقي فلم أر قلبا أشد تواضعا لي من قلبك، فلذلك اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك بجد ومواظبة وكن من الشاكرين أي: مت على التوحيد وعلى حب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال موسى عليه السّلام: ومن محمد يا رب؟ قال: الذي كتبت اسمه على ساق العرش قبل أن أخلق السماوات والأرضين بألفي عام، محمد رسولي وحبيبي وخيرتي من خلقي.
قال: يا رب فإن كان محمد أكرم عليك من جميع خلقك فهل في قوله: «ولولا محمد ما خلقتك» :
أخرجه الحاكم في المستدرك [2/ 651] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [5/ 488] ، والطبراني في معجمه الأوسط [7/ 259] رقم 6498، وفي الصغير برقم 992، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل- وليس في المطبوع منه- عزاه له الشيخ ابن تيمية في الفتاوى [2/ 150] ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
(17) - قوله: «وعن ابن عباس» :
عزاه السيوطي في الدر المنثور [6/ 418- 419] لابن مردويه في التفسير.
قوله: «فلم أر قلبا أشد تواضعا لي من قلبك» :
أخرج هذا المقدار من الحديث: ابن عساكر في تاريخه [61/ 52- 53] عن وهب بن منبه، وابن شوذب، وأبي سليمان الداراني قولهم.(1/166)
الدنيا أكرم من أمتي، ظللت الغمام عليهم، وأنزلت عليهم المنّ والسلوى؟
قال: إن فضل محمد على سائر الأنبياء كفضل الأنبياء على الأمم كلهم.
قال موسى: يا رب ليتني أراهم، قال: إنك لن تراهم، أفتحب أن تسمع كلامهم وأصواتهم؟ قال: نعم يا رب.
قال: فنادى ربنا تبارك وتعالى: يا أمة محمد، فأجابوه كلهم من أصلاب الآباء والأرحام: لبيك اللهم لبيك، إلى آخر التلبية، فجعل الله تعالى تلك الإجابة شعارا للحاج.
ثم نادى ربنا تعالى: يا أمة محمد صلاتي عليكم، ورحمتي عليكم، ومغفرتي لكم، إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، قد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تعصوني، من لقيني بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله أدخلته جنتي ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر.
فلما بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أحب أن يمن عليه بما أكرم به أمته فقال: يا محمد وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أمتك بالكرامة.
قوله: «أمتك بالكرامة» :
أخرج النسائي- واللفظ له- في التفسير من السنن الكبرى [6/ 424] رقم 11382، والحاكم في المستدرك [2/ 408] وصححه، وابن أبي حاتم في تفسيره [9/ 2983] رقم 16946، وابن جرير كذلك [18/ 81] جميعهم عن أبي هريرة، قوله في تفسير وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ الآية، قال: نودي يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني وأجبتكم قبل أن تدعوني.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره أيضا [9/ 2983] عن مقاتل قوله في هذه الآية: وما كنت يا محمد بجانب الطور إذ نادينا أمتك وهم في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت.
قال السيوطي في الدر المنثور [6/ 418] : وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في-(1/167)
18- وقال الله تعالى لموسى: يا موسى بلغ بني إسرائيل أنه من رد على أحمد شيئا- وإن كان حرفا- أدخلته النار مسحوبا.
يا موسى ركعتان يصليهما محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بين طلوع الفجر وطلوع الشمس أغفر لهم ما أصابوا في يومهم وليلتهم، ويكون في ذلك اليوم في ذمتي، ومن مات وهو في ذمتي فلا ضيعة عليه.
19- ولما أخذ موسى الألواح قال: رب أرى في اللوح صفة- الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال:
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا الآية، ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: كتاب كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى: يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
(19) - قوله: «ولما أخذ موسى الألواح» :
في الباب عن قتادة، ووهب بن منبه، وأبي هريرة مرفوعا بإسناد لين، وعن ابن عباس.
أما حديث قتادة فأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [5/ 1564] رقم 8967، وابن جرير في تفسيره [9/ 65] .
وعزاه السيوطي في المنثور [3/ 552] أيضا لأبي الشيخ وعبد بن حميد.
وأما حديث وهب بن منبه فأخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 395- 396] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 379] .
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 68] رقم 36، وقال: غريب من حديث سهيل بن أبي صالح، تفرد به الربيع بن النعمان وفيه لين. اه. -(1/168)
محمد وأمته فمن هم؟ قال: كيف رأيت صفتهم يا موسى؟
قال: رأيت أمة إنك تثيبهم بحسن نياتهم من غير أن يفعلوا شيئا! قال الله تعالى: هي أمة في آخر الأمم.
قال موسى: فأرى أمة السيئة منهم تجزى بواحدة، والحسنة بعشرة، قال: يا موسى هي أمة في آخر الزمان.
قال: اللهم أرى صفة أمة تغفر ذنوبهم ما بين فريضة إلى فريضة، قال الله: يا موسى هي هذه الأمة في آخر الزمان.
قال: إلهي أرى أمة يغزون، قال: هي أمة في آخر الأمم، قال:
إلهي أرى صفة أمة أن الجنة حرام على سائر الأمم حتى تدخلها تلك الأمة، قال: يا موسى هي هذه الأمة في آخر الزمان.
قال: إلهي لمن هذه الأمة؟ قال: لنبي يقال له محمد صلى الله عليه وسلم.
قال موسى: إلهي اجعل هذه الأمة من أمتي، قال الله: يا موسى إن محمدا أولى بهذه الأمة.
قال موسى: إلهي محمدا أفضل مني؟ قال الله: يا موسى إن منزلة علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم كمنزلة الأنبياء، وإن منزلة عامة أمته كمنزلة علماء الأمم، وإن فضل محمد عليك كفضلك على أمتك ... وذكر الحديث بطوله.
20- ويقال: إن موسى عليه السّلام قال: إلهي اصطفيتني وكلمتني فهل جعلت درجتي لنبي بعدي؟ فأوحى الله جل جلاله إليه: يا موسى خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، فوعزتي لأبعثن نبيا تدخل أنت وأمتك بشفاعته الجنة.
- وأما حديث ابن عباس فعزاه السيوطي في الدر المنثور [3/ 553] لأبي الشيخ.(1/169)
21- قال وهب بن منبه: لما أخذ موسى عليه السّلام الألواح من ربه نظر فيها، فإذا فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فقال موسى عليه السّلام: أي رب كيف أقرأ الألواح على أمتي وفيها فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؟ كيف أمنّ عليهم بفضل غيرهم؟
قال الله تبارك وتعالى: يا موسى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني فوق خلقي إني لا أرضى عن عبد لا يقبل فضل محمد صلى الله عليه وسلم ولا يقر به، ولا يعلم أنه أفضل الخلائق عندي، وأقسم بعزتي لأظهرن ما كتبت لكم في التوراة أن محمدا عبدي ورسولي، وما أعطي عيسى في الإنجيل، فإن أقر جميع خلقي بذلك، وإلا سلطت على المنكرين لفضله وفضل أمته (21) - قوله: «قال وهب بن منبه» :
الأبناوي، الإمام العلامة الإخباري القصصي، أبو عبد الله اليماني، الذماري، الصنعاني، كان على قضاء صنعاء، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحدّث عن جماعة من الصحابة، وحديثه للمسند قليل، وإنما غزارة علمه من صحائف أهل الكتاب، قال العجلي: تابعي ثقة، وكذلك وثقه أبو زرعة والنسائي.
سير أعلام النبلاء [4/ 544] ، طبقات ابن سعد [5/ 543] ، تهذيب الكمال [31/ 140] ، تهذيب التهذيب [11/ 147] ، تذكرة الحفاظ [1/ 95] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 149] .
قوله: «فإذا فيها صفة محمد وأمته» :
رواه بنحوه سليمان بن سلمة الخبائري- وهو ضعيف-، عن سعيد بن موسى- اتهمه ابن حبان-، عن معمر، عن الزهري، عن أنس بنحوه مرفوعا، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة [1/ 305] رقم 696، وانظر التعليق على المتقدم قبله.(1/170)
ملائكتي ولأضربنهم بالصواعق، وكان ذلك نكالي عليهم.
يا موسى إن فاتحة التوراة بصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وإن خاتمة الإنجيل بصفة أصحابه، وإن فاتحة الزبور: محمد رسول الله خير من تظله السماء، وإنه صاحب الملحمة، ونبي الرحمة، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين، ونور العباد، وربيع البلاد، ومعدن الخير، وكهف العلم، ومعدن الحكمة.
واعلم يا موسى أن محمدا عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ملكه بالشام ومولده بمكة، وداره المدينة، وجنده الأنصار، يركب الناقة العضباء، من اتبعه اهتدى، ومن خالفه ضل.
22- ومما فضله الله تعالى به أنه عز وجل نعته في التوراة إلى موسى فقال سبحانه: يا موسى احمدني إذ مننت عليك بالإيمان بأحمد، فوعزتي لو لم تقبل الإيمان بأحمد ما جاورتني في داري، ولا تنعمت في جنتي.
يا موسى جميع المرسلين آمنوا بمحمد وصدّقوه واشتاقوا إليه كذلك من يجيء من المرسلين بعدك.
يا موسى من لم يؤمن بأحمد من جميع المرسلين رددت عليه حسناته، ومنعته حفظ الحكمة، ونزعت عنه نور الهدى، ومحوت اسمه من ديوان الأنبياء.
يا موسى أحبب لأحمد ما تحب لنفسك، وأحبب لأمته ما تحب لأمتك، أجعل لك ولأمتك في شفاعته نصيبا.(1/171)
23- وقال الله تبارك وتعالى: يا موسى أتريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك، ومن وساوس قلبك إلى قلبك، ومن روحك إلى بدنك، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا رب، قال: فأكثر الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وأبلغ جميع بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد لأحمد سلطت عليه الزبانية في الموقف، وجعلت بيني وبينه حجابا لا يراني.
يا موسى بلغ بني إسرائيل أن أحمد بركة ورحمة ونور لمن صدقه- رآه أو لم يره- أحببته أيام حياته، ولم أوحشه في قبره، ولم أخذله في القيامة، ولم أناقشه الحساب في الموقف، ولم تزل قدمه على الصراط.
يا موسى إن أحب الخلق إليّ من لم يكذب أحمد ولم يبغضه.
يا موسى إني آليت على نفسي قبل أن أخلق السماوات والأرض والدنيا والآخرة أنه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه كتبت له براءة من النار قبل أن يموت بعشرين ساعة، وأوصيت ملك الموت بقبض روحه، وأن يكون أرفق به من والدة رحيمة، وأوصيت به منكر ونكيرا إذا دخلا عليه فسألاه بعد موته أن لا يروعانه.
يا موسى قل لبني إسرائيل: لا ينفعكم إيمانكم بالتوراة وموسى وبالإنجيل وعيسى حتى تقروا لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من القبيلة المباركة بني هاشم، وإنه المبعوث إلى الأمة المرحومة، وإنه خطيب من وافى يوم القيامة، وشفيع من لم يكن له وسيلة، وإن الرحمة تنزل في زمانه ودولته، وتنزل البركات، ومولده في أفضل الأيام، ومتوسده عند فراقه الدنيا روضة من رياض الجنة، وإن دينه خير الأديان، على دين المرسلين قبله، وشرائعه أسهل الشرائع، وأتباعه خير أتباع المرسلين، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، وإن شعاره البر والصدق، والعدل والإنصاف، وإن لباسه(1/172)
التقوى، ودار هجرته طيبة- وهي يثرب- وإنّ وزيره الصديق والفاروق، وإنّ حواريه طلحة والزبير، وإني جعلت خليفته أبا بكر الصديق صدّيقا في علم الغيب، صدّيقا في السماء والأرض، وإن عمر بن الخطاب تزف إليه الشهادة، وعثمان بن عفان يمشي شهيدا على وجه الأرض، وستفتح خلافة محمد صلى الله عليه وسلم بأبي بكر، وتختم خلافته بعلي بن أبي طالب.
24- وقال الله تبارك تعالى لموسى بن عمران: يا موسى إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة، يرحم بعضهم بعضا، ورحمتي عليهم واسعة، وعذابي عنهم بعيد باعدة، ونعمائي عليهم باسطة، وذنوبهم مغفورة، وحسناتهم مقبولة، وسعيهم مشكور، ومن أوفى بالعهد مني يا موسى؟
من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدّقه أولئك هم الفائزون، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبه من جميع خلقي أولئك هم الخاسرون، أولئك هم النادمون، أولئك هم الغافلون.
25- ومما فضله الله تعالى به أنه أوحى في الإنجيل إلى عيسى:
يا ابن مريم البكر البتول إني موصيك بسيد المرسلين- وحبيبي منهم- أحمد صاحب الجمل الأحمر، والوجه الأقمر، المشرق الأنور بالنور الظاهر، والقلب الطاهر، سيد الناس، الحي المكرم، فإنه رحمة للعالمين، سيد ولد آدم عندي، ويوم يلقاني أكرم الناس علي، وأقرب المرسلين، النبي العربي الأمي، الديان بديني، والصابر في ذاتي، المجاهد للمشركين بيده، آمرك أن تخبر بني إسرائيل أن يصدقوا به، (25) - قوله: «يا ابن مريم البكر البتول» :
أخرج قريبا من لفظه ومعناه: البيهقي في الدلائل [1/ 378] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 397- 398] .(1/173)
ويؤمنوا به، ويتبعوه وينصروه، يا عيسى ارضه فإن لك الرضا، فقال:
اللهم رضيت.
قال: هو محمد رسولي إلى الناس كافة، أقربهم مني منزلة، وأحضرهم عندي شفاعة، يحمده أهل الأرض، ويستغفر له أهل السماوات، أمين مأمون، طيب مطيب، في خير خلق في آخر الزمان، أخرجته بوحي السماء والأرض، البركة في زمانه، كثير الأزواج، قليل الأولاد، يسكن مكة موضع أساس إبراهيم فامهد لنفسك واكدح لها، وارتد لها ليوم حاجتك.
26- ومكتوب في التوراة: إن الله تبارك وتعالى قال لإبراهيم عليه السّلام:
أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وكثرته وعظّمته جدا جدا، وجعلته لأمة عظيمة.
27- ويقال: إنه مكتوب في زبور داود عليه السّلام: اللهم ابعث إلينا مقيم السنة ليعلّم الناس أنه بشر.
(26) - قوله: «ومكتوب في التوراة» :
ذكر الماوردي رحمه الله في أعلام النبوة [/ 198] أن ذلك في الفصل التاسع من السفر الأول، وأورده أيضا: ابن الجوزي في الوفا [1/ 61] ، وهو في سفر التكوين- الإصحاح [17/ 20] .
قوله: «وجعلته لأمة عظيمة» :
قال الماوردي [/ 198] : ليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد.
(27) - قوله: «إنه مكتوب في زبور داود» :
ذكره الإمام أبو الحسن الماوردي في أعلام النبوة [/ 211] في فصل: -(1/174)
قال أبو سعد رحمه الله: وهذا إخبار عن المسيح عليه السّلام وعن محمد صلى الله عليه وسلم، يريد: ابعث لنا محمدا حتى يعلّم الناس أن المسيح بشر.
28- وروي أن هاجر لما هربت من سارة نزلها ملك فقال لها:
يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك، واخضعي لها فإن الله سيكثر ذريتك، إنك تلدين غلاما وتسميه إسماعيل، لأن الله قد سمع خشوعك، وخضوعك، ويكون يده فوق الجميع، وأيدي الجميع مبسوطة إليه بالخضوع.
وكانت النبوة والرسالة في ولد إسحاق، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم- ومن بشائر داود في الزبور، قال أبو الحسن: وذلك لعلم داود أن قوما سيدّعون في المسيح ما ادعوه، وهذا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
(28) - قوله: «يا هاجر أمة سارة» :
ذكر الماوردي رحمه الله في أعلام النبوة [/ 197] أن ذلك من بشائر موسى عليه السّلام في التوراة، وأورده ابن الجوزي في الوفاء عقب الذي قبله [1/ 61] ، ثم قال: ثم أخبر موسى بمثل ذلك في السفر وزاد شيئا: ... فذكره.
وانظر: الجواب الصحيح لابن تيمية [3/ 304] ، وهداية الحيارى [/ 69] ، والإصحاح [16/ 8- 12] .
قوله: «وكانت النبوة» :
هذا كلام ابن قتيبة، أورده ابن الجوزي في الوفا [1/ 62] بعد ذكر قصة هاجر فقال: قال ابن قتيبة: فتدبر هذا القول فإن فيه دليلا بينا على أن المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لأن إسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق، ولا كانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع، وكيف يكون ذلك والملك-(1/175)
انتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل، فدانت له الجبابرة، وخضعت له الملوك، وانقادت لشريعته الأمم، فصارت يده فوق أيدي الجميع، وأيدي الجميع مبسوطة إليه بالخضوع.
29- ويقال: إن إبراهيم الخليل عليه السّلام قال: يا رب قد أعطيت النبوة والملك لشعب إسحاق، فما أنت صانع لإسماعيل؟ قال: أخلق من ظهر إسماعيل عدد كواكب السماوات ورمل الفلوات، وأبعث من ولد إسماعيل نبيا أرفع ذكره، فلم يدر ما رفع ذكره حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وجاء بالأذان فقرن اسمه باسمه فقال عز ذكره أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.
30- ويروى عن المسيح أيضا أنه قال: الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبّخ العالم على الخطيئة- ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا- والنبوة في ولد إسرائيل والعيص وهما إبنا إسحاق؟ قال: فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الأثر.
(29) - قوله: «ورفعنا لك ذكرك» :
أخرج أبو يعلى في مسنده [2/ 522] رقم 1380، وابن جرير في تفسيره [30/ 235] ، وابن أبي حاتم في تفسيره [10/ 4345] رقم 19393 من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فقال:
إن ربي وربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم، قال:
إذا ذكرت ذكرت معي، صححه ابن حبان كما في الإحسان برقم 3382.
(30) - قوله: «الفارقليط» :
ويقال أيضا: البارقليط، قال الماوردي رحمه الله في أعلام النبوة [/ 212] :
هي في لغتهم لفظ من الحمد، قال: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أحمد وأنا محمود، وأنا محمد.(1/176)
ولكنه بما يسمع به يكلمكم- ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب- يعني: مثل: خروج الدجال، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك-.
31- وقال وهب بن منبه: كان إبراهيم خليل الرحمن، كثير الصلاة والصيام.. وذكر الحديث إلى أن قال: خرج إبراهيم عليه السّلام يوما يرتاد لماشيته الكلأ، فإذا هو برجل في جبل من جبال إيليا يقدس الله ويهلله ويمجده ويسبحه ويكبره، فقصده وسلم عليه، وقال له:
من ربك؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن رب الأرض؟ قال:
الذي في السماء، قال: ألها رب غيره؟ قال: لا، ونظر إلى قبلته، فإذا قبلته قبلة إبراهيم، فقال له إبراهيم: يا عبد الله أي الأيام أشد هولا وأعظم؟ قال: يوم الدين، يوم يضع الله الكرسي للحساب، قوله: «والغيوب» :
ذكره الماوردي في فصل: من بشائر المسيح به في الإنجيل، في نقل يوحنا عنه، وأورد أيضا عن المسيح عليه السّلام قوله للحواريين: أنا ذاهب وسيأتيكم البارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له، وهو شهيد عليّ، وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به.
قال: وفي نقل آخر عنه: إن البارقليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء، إني سائل أن يبعث إليك بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء.
قال: وفي نقل آخر: إن البشير ذاهب والبارقليط بعده يحيي لكم الأسرار ويقيم لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني لأجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل.(1/177)
ثم أمر جهنم في ذلك اليوم فتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مصطفى إلا خر لوجهه صعقا تهمه نفسه غير النبي العربي الأمي صاحب الرداء والإزار، والسيف، والسوط، والعصا والبعير، والحمار والفرش، فقال له إبراهيم: من تعني؟ قال: أعني نبيا بينك وبينه زمان بعيد، ذلك خير الأنبياء والرسل، وخاتم الأنبياء، اسمه: أحمد ومحمد، وفارقليط، يفرق بين الحق والباطل، ومحمود وأمين ويتيم، وصادق، له أسماء كثيرة، لا يضرب بسيفه ولا بعصاه إلا في سبيل الله، به يظهر التوحيد في الأرض، ويكثر ويفشو، أمته الحمادون لله.
32- وقال وهب بن منبه: ذكر الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بأحسن الذكر، وأثنى عليه بأفضل الثناء، فقال: وضّاح الجبين، برّاق الثنايا، يتلألأ لونه تلألؤ الذهب الأحمر، أكحل العينين، كأن جمان الماء حين يتحدر من وجهه اللؤلؤ المنظوم.... بأصل الحكمة، وتعطى أمته فروعها، ويأمر بني إسرائيل بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم آصارهم التي آصروا فيها أنفسهم والأغلال التي كانت عليهم، صلاته رأفة وحكمة وحلم وعلم، يملأ الأرض خيرا، ويعمها نفعا ولا يضرها، ولا يقرع بعصاه ولا بسوطه ولا بسيفه إلا في سبيل الله، اسمه:
أحمد العربي الأمي، الذي مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، يظهر التوحيد في الأرض، والتسبيح والتكبير والتحميد، وبه يكثر ويفشو، أمته الحمادون، الموحدون، خير أمة أخرجت للناس.
(32) - قوله: «بأصل الحكمة» :
قبلها كلمة مطموسة لم أستطع قراءتها.(1/178)
33- وروي عن سهل بن عبد الله أنه قال: لما أراد الله تعالى أن ينفخ في آدم الروح نفخه باسم محمد، وكناه أبا محمد، وليس في الجنة (33) - قوله: «عن سهل بن عبد الله» :
هو التستري، شيخ العارفين، وإمام الزاهدين ترجم له الذهبي في سيره ووصفه بالصوفي الزاهد وقال: له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وقدم راسخ في الطريق.
سير أعلام النبلاء [13/ 330] ، الحلية [10/ 189] ، وفيات الأعيان [2/ 429] ، طبقات الأولياء [/ 222] ، طبقات المفسرين [1/ 210] ، طبقات الصوفية [/ 206] .
قوله: «وليس في الجنة ورقة» :
أخرج البزار في مسنده [3/ 162- 163 كشف الأستار] رقم 2482 من حديث ابن عمر مرفوعا: لما عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبا: محمد رسول الله، في إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف واضطرب فيه، روي عنه من حديث أبي هريرة، أخرجه الحسن ابن عرفة في جزءه، برقم 6، ومن طريقه ابن عدي في الكامل [4/ 1507] ، والخطيب في تاريخه [5/ 445] ، والطبراني في معجمه الأوسط [3/ 60] رقم 2113 ولفظه: لما عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي، محمد رسول الله، وأبو بكر الصديق من خلفي.
ورواه الخطيب أيضا في تاريخه [5/ 445] عن الحسن بن عرفة بإسناد آخر من حديث الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس به، قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن عبد الله بن يوسف: سكت الخطيب عن هذا وهو باطل، ما أدري من يغش فيه فإن هؤلاء ثقات.
قال السيوطي في الخصائص [1/ 19] : وأخرج أبو نعيم في الحلية-(1/179)
ورقة من أوراق الجنة إلا مكتوب عليها اسم محمد، ولا غرست شجرة في الجنة إلا باسم محمد وبه الابتداء.
- عن ابن عباس مرفوعا: ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم أقف على سنده.(1/180)
[8- فصل: في قصّة الفيل وما جرى بين عبد المطّلب وأبرهة الأشرم]
8- فصل:
في قصّة الفيل وما جرى بين عبد المطّلب وأبرهة الأشرم.
قال أبو سعد رحمه الله:
34- ولقد رأى عبد المطلب من نور محمد صلى الله عليه وسلم عجبا عجيبا يوم قدم أبرهة بن الصباح لهدم بيت الله الحرام فبلغ ذلك عبد المطلب فقال:
معاشر قريش لا يصل إلى هدم هذا البيت أحد، لأن لهذا البيت في السماء ربا يحفظه، فجاء أبرهة ونزل بفناء مكة واستاق إبلا وغنما لقريش، واستاق فيما استاق أربعمائة ناقة لعبد المطلب، فلما بلغه ذاك ركب في نفر من قريش فلما صار إلى جبل ثبير استدارت غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبينه كالهلال وردّت شعاعها على بيت الله الحرام مثل السراج إذا وقع على الجدار، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك النور قال: معاشر قريش ارجعوا فقد كفيتم، فو الله ما استدار هذا النور مني قط إلا كان الظفر، ولا وقع على شيء كما وقع على هذا البيت إلا منع قوله: «في قصة الفيل» :
أخرج القصة:
ابن سعد في طبقاته [1/ 90- 91] ، وابن هشام في سيرته [1/ 45- 62] ، وابن جرير في تفسيره [30/ 299- 304] ، والأزرقي في تاريخه [1/ 136- 157] ، وابن حبيب في المنمق [/ 68- 80] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 85، 115- 125] ، وأبو نعيم كذلك [1/ 144- 151] .(1/181)
الضيم، فرجعوا فبلغ ذلك أبرهة بن الصباح فغضب لذلك فبعث إليه رجلا من قومه، يقال له حناطة الحميري- وكان يهزم جيشا وحده- فأقبل يسير حتى دخل مكة، فسأل عن كبير الناس بها فقالوا:
عبد المطلب، فلما دخل نظر إلى وجهه فتلجلج لسانه، وخرّ مغشيا عليه وخار كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خرّ ساجدا لعبد المطلب فقال: أشهد أنك سيد قريش حقا.
ويروى أن أبرهة بعثه ليسأل عن سيد أهل البلد، وقال: قل له:
إن الملك يقول: إني جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم، فلما سأل عن سيد قريش قيل: عبد المطلب، فأخبره بما قال أبرهة فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله الحرام، وإن للبيت ربا يحميه، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّي بينكم وبينه فما عندنا دفع.
فلما أدى الرسالة قام عبد المطلب فركب في نفر من قريش فلما أن توسط العسكر سعى سعيا حتى دخل على الملك وقال: قد جاءكم اليوم سيد قريش حقّا، قال: ويلك كيف علمت ذلك؟ قال: لأني لم أر في الآدميين أجمل منه، فأخذ أبرهة زينته ثم أذن لعبد المطلب حتى دخل عليه فأخذ بكلتا يديه وأجلسه على سرير ملكه، وأقبل الملك على وجه عبد المطلب ثم قال: هل كان في آبائك من كان له مثل هذا النور والجمال؟ فقال عبد المطلب: نعم، كل آبائي كان لهم هذا النور والبهاء، فقال الملك أبرهة: فأنتم قوم قد فاخرتم الملوك وقد حق لك أن تكون سيد قومك.
ويروى أن عبد المطلب لما جاء إلى عسكر أبرهة طلب صديقا له(1/182)
يقال له: ذو نفر، فسأل عنه فإذا هو في الحبس، فوجده محبوسا، فقال له عبد المطلب: يمكنك أن تتشفع إلى الملك؟ فقال ذو نفر: ما غنى رجل أسير بيد الملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشيا، ولكن إن سايس الفيل صديق لي أوصيه بك، قال: حسبي، فأرسل إلى أنيس سايس الفيل وقال: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رؤس الجبال، فجاء إليه واستأذن على الملك، فلما رآه أكرمه، ونزل عن سريره وأجلسه مع نفسه، فقال الترجمان له:
إنه قد أخذ له أربعمائة إبل، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: تسألني أربعمائة إبل وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك؟ فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك.
35- وقيل: إنهم عرضوا ثلث أموال تهامة على أبرهة ليرجع ولا يهدم البيت فأبى، وقام عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك (35) - قوله: «يا رب إن المرء» :
لم يتفق الرواة والنقلة على جميع ألفاظ رجز عبد المطلب، فبعضهم يبدل قوله: «يا رب» ب: اللهمّ، وبعضهم يقول فيه: «حلالك» بدل: «رحالك» ، وزاد السهيلي في الروض بيتا فقال:
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
وذكر بعض من أخرج القصة رجزا وأبياتا لعبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب البيت منها:
يا رب لا أرجو لهم سواكا
-(1/183)
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
ولئن فعلت فإنه أمر تتم به فعالك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، فانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال محزونين.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ الفيلة وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وكان من عزم أبرهة هدم البيت والرجوع إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم أذنه فقال: ابرك محمود فارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه، وخرج نفيل حتى صعد الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، ووجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.
- يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا قراكا
وفي تفسير ابن جرير أيضا أنه قال هذه الأبيات وهو ممسك بحلقة باب الكعبة:
وكنت إذا أتى باغ بسلم ... نرجى أن تكون لنا كذلك
فولّوا لم ينالوا غير خزي ... وكان الحين يهلكهم هنالك
ولم أسمع بأرجس من رجال ... أرادوا العز فانتهكوا حرامك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
قوله: «نفيل بن حبيب» :
الخثعمي، وقال السهيلي في الروض: هو نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر ابن مالك الخثعمي.(1/184)
36- وقيل: إنه لما دخل عبد المطلب على أبرهة ملك الحبشة التفت إلى سايس الفيل- وكان فيلا عظيما، أبيض له نابان مرصعان بأنواع الجواهر والدر، وكان يباهي بذلك الفيل ملوك الأرض، وكان ذلك الفيل لا يسجد للملك أبرهة بن الصباح كما يسجد له سائر الفيلة- فقال الملك لسايس الفيل: أخرجه، فأخرجه وقد زين بكل زينة على وجه الأرض، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب خرّ ساجدا ونادى بلسان الآدميين: السلام عليك أيها النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب، معك العز والشرف، لن تذل ولن تغلب، فلما نظر الملك إلى ذلك وقعت عليه الرعدة وظن أن ذلك سحر، فبعث إلى كل ساحر في مملكته فجمعهم وقال: الويل لكم، حدثوني عن هذا الفيل، لم سجد لعبد المطلب؟ قالوا: إنه لم يسجد له، وإنما سجد لنور يخرج من ظهره في آخر الزمان يقال له: محمد صلى الله عليه وسلم يملك الدنيا ويذل ملوك الأرض ويدين بدين صاحب هذا البيت- إله إبراهيم- وملكه أعظم من ملك أهل الدنيا، فائذن لنا أن نقبل يديه ورجليه، فأذن لهم، فقامت السحرة فقبلوا يدي عبد المطلب ورجليه، وقام الملك وحيدا متواضعا فقبل رأس عبد المطلب، وأمر له بجزيل الجائزة، ورد عليه وعلى قريش ما أخذ منهم، فأرسل الله تعالى عليه وعلى عسكره طيرا أبابيل جاءت من نحو البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس، فرمت القوم بحصى أذن الله عزّ وجلّ أن تأخذه بمناقيرها وأرجلها من قعر جهنم وترمي بها، فكانت الحصى تقع على رأس الرجل وتخرج من دبره، ويصل إلى ظهر فرسه ويخرج من بطنه، ويصل إلى الأرض فلا يزال يخرق الأرضين إلى السابعة، ودمر الله قومه أجمعين.(1/185)
فأصيب بعضهم وخرج بعضهم يهلكون في الطرق، يسألون عن نفيل ابن حبيب ليدلهم على طريق اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من النقمة:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال أيضا:
حمدت الله إذ عاينت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
وكل الناس يسأل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا
وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط منه أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدّة وصديد وقيح حتى سقطت منه كلها، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
قوله: «وقال أيضا» :
أورد بعضهم الأبيات أتم منها، وفيها:
ألا حييت عنا يا ردينا ... وقرّي بالإياب إليك عينا
فلو أبصرتنا والجيش يرمى ... بحسبان رثيت لنا ردينا
ردينا لو رأيت ولا تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وسفي حجارة تسفى علينا
وأمطرنا بلا ماء ولكن ... عذاب نقيمة أردفن حينا
فكل الناس يسأل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا
قوله: «مدّة» :
المدة ما يجتمع في الجرح من الدم الفاسد والقيح والصديد.(1/186)
37- ويقال: إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤي بها من الشجر: الحنظل والحرمل، ويقال: إن حمام اليمامة من نسل ذلك الطير.
38- وقيل: إن الحر الذي بقي بالحجاز من حرارة ذلك.
39- وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسايسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان.
(37) - قوله: «أول ما رؤيت الحصبة والجدري» :
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [10/ 3467] ، وسعيد بن منصور- كما في الدر المنثور [8/ 631]- ومن طريقه البيهقي في الدلائل [1/ 123] ، وابن جرير في تفسيره [30/ 298- 299] ، جميعهم من طرق عن عكرمة قوله، دون ذكر الحصبة، وأخرج ابن إسحاق في السيرة [/ 65] قال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس قال: حدثت أنه أول ما رؤي في أرض العرب: الحصبة، والجدري ومرائر الشجر من العشر والحرمل وأشباه ذلك عام الفيل.
(39) - قوله: «عن عائشة» :
أخرجه ابن إسحاق في السيرة [/ 65] : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة به، ومن طريق ابن إسحاق البيهقي في الدلائل [1/ 125] ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضا [8/ 633] للواقدي، وابن مردويه، وأبي نعيم.(1/187)
[9- فصل: في بشارة سيف بن ذي يزن بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وإخباره عبد المطّلب بأمره]
9- فصل:
في بشارة سيف بن ذي يزن بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وإخباره عبد المطّلب بأمره 40- فلما هلك أبرهة ملك الحبشة، ملك يكسوم، ثم بعد يكسوم أخوه مسروق بن أبرهة فقتله الفرس، وملك سيف بن ذي يزن.
فكان بعد ذلك أن عظّمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عددهم.
فخرجت وفود العرب لتهنئة سيف بن ذي يزن، فأكرمهم وفضل قريشا عليهم وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وكان فيهم عبد المطلب بن هاشم فدخلوا عليه، فدنا عبد المطلب فاستأذن للكلام فقال له: إن كنت ممن تتكلم بين يدي الملوك فتكلم، فابتدأ الكلام فقال:
قوله: «في بشارة سيف بن ذي يزن» :
أخرج هذه البشارة مسندة أصحاب السير والتاريخ، وأوردها معلقة من بعدهم ممن صنف في السير والفضائل والأدب.
هواتف الجنان للخرائطي [/ 188] رقم 20، الملحق بالمنمق لأبي سعيد السكري [/ 538] ، الدلائل لأبي نعيم [1/ 95] رقم 50، أعلام النبوة للماوردي [/ 233- 236] ، تاريخ مكة للأزرقي [1/ 149] ، المنتظم لابن الجوزي [2/ 276] ، دلائل البيهقي [2/ 9] ، تاريخ ابن عساكر [1/ 441] ، الأغاني [16/ 76] ، العقد الفريد [2/ 23] ، البداية والنهاية [2/ 330] .(1/188)
إن الله جل وجلاله أحلّك أيها الملك محلا رفيعا، صعبا منيعا، شامخا باذخا، وأنبتك من منبت من عزّت أرومته، وطابت جرثومته، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، أخرجنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: فأيهم أنت أيها المتكلم؟، فقال: أنا عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف، قال: ابن أختنا؟، قال: نعم.
فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا.....
قوله: «باذخا» :
أي رفيعا، وشرف البذخ: عال.
قوله: «من عزت أرومته» :
الأروم- بفتح الهمزة، وزن أكول-: الأصل، ومنه قول زهير:
لهم في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم
قوله: «لا وفد المرزئة» :
الرزء: المصيبة بفقد الأعزة، وهو من الانتقاص، المعنى: لا وفد التعزية في المصيبة.
قوله: «ابن أختنا» :
إنما قال له ذلك لما قيل: إن سلمى أم عبد المطلب خزرجية من اليمن من قوم سيف بن ذي يزن.
قوله: «ومستناخا سهلا» :
النخ: سوق الإبل وحثها على الإبراك، والمستناخ: المكان الذي تنخ فيه الدواب.(1/189)
وملكا ربحلا، تعطى عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحبا إذا ظعنتم.
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف، قال: وأجريت عليهم الأموال، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه وأخلى مجلسه ثم قال:
يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمرا لو كان غيرك لم أبح به لكني وجدتك معدنه فأطلعتك طلعه وليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ فيه أمره، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبرا جسيما، وخطبا عظيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الممات للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة، فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل المدر زمرا بعد زمر؟، قال: إذا ولد بتهامة، غلام به علامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لأخبرته من شأنه ما ازداد به سرورا.
قوله: «وملكا ربحلا» :
الرّبحل: الرجل الرفيع الشأن الكثير العطاء.
قوله: «أهل المدر» :
يعني: أهل القرى والأمصار.
قوله: «لأخبرته من شأنه» :
كذا في نسخة، وفي أخرى: لأخبرنه من شأنه إياي، وفي أكثر المصادر:
لسألته من بشارته إياي، فكأن في النسخة الثانية تصحيفا.(1/190)
قال الملك: هذا حينه الذي يولد فيه- أو قد ولد- اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وأعداؤه يكيدونه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم الأرض، يعبد الرحمن، ويدحض الشيطان، ويكسر الأوثان، ويخمد النيران، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال له عبد المطلب: أيها الملك عز جدك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارّني بإفصاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح؟
قال الملك سيف بن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب.
قال: فخرّ عبد المطلب ساجدا، فقال الملك: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟
قال: نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن، وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي: آمنة بنت وهب بن عبد مناف ابن زهرة، فجاءت بغلام فسميته محمدا، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه.
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظه، واحذر قوله: «يعز بهم أولياءه» :
في الأصل: «يعز به أولياءه، ويذل به أعداءه» فكأن الضمير فيها يعود للنبي صلى الله عليه وسلم، ويشكل عليه ما بعده قوله: ويضرب بهم الناس، والضمير فيها يعود على الأنصار الذين ذكرهم الملك وأنهم من قومه، وفي جميع المصادر: يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه.(1/191)
عليه من اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تتداخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرئاسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون له الغوائل، وإنهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شك، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصيّر يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أني أقيه من آلافات، وأحذر عليه من العاهات لأوطأت أسنان العرب كعبه، ولأعليت على حداثة سنه أمره، ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل واحد منهم بمائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر إماء، وعشرة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، ثم قال: ائتني بخبره وما يكون من أمره عند رأس الحول، فكان عبد المطلب يقول: أيها الناس لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي شرفه وذكره وفخره، فإذا قيل له: وما ذاك؟ قال: لتعلمن ولو بعد حين.
قوله: «ولأعليت على حداثة سنه أمره» :
كذا في روايتنا، وعند غيرنا: «ولأعلنت» ، ووقع في «ظ» : «ذكره» بدل «أمره» .
قوله: «عند رأس الحول» :
في الروايات قال: فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول عليه الحول.
وانظر تخريجنا للقصة في أول الفصل.(1/192)
[10- فصل: في ذكر من تسمّى في الجاهليّة باسمه رجاء أن تدركه النّبوّة لما سمعوا من بشائر خروجه صلى الله عليه وسلم]
10- فصل: في ذكر من تسمّى في الجاهليّة باسمه رجاء أن تدركه النّبوّة لما سمعوا من بشائر خروجه صلى الله عليه وسلم
41- سئل محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم: كيف سماك أبوك محمدا؟ فقال: أما إني قد سألت عما سألتني عنه، فقال: إني خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن خاينة بن حرقوص، وأسامة بن مالك، نريد ابن جفنة (41) - قوله: «سئل محمد بن عدي» :
الذي سأله هو خليفة بن عبدة المنقري، وحديثه أخرجه أبو نعيم في المعرفة [1/ 178] رقم 663 من طريق الطبراني- قال الحافظ في الإصابة: هو في المعجم الأوسط، ولم يذكره في المعجم الكبير-. اه. ولم أر للعلاء بن الفضل في الأوسط إلا حديثا واحدا ليس حديث الباب.
وقال في الفتح [6/ 642] : روى حديثه ابن سعد، وابن شاهين، وابن السكن وغيرهم من طريق العلاء بن الفضل، عن أبيه، عن جده عبد الملك ابن أبي سوية، عن أبيه، عن أبي سوية، عن أبيه خليفة بن عبدة المنقري- كذا ولعل الصواب: عن أبي سوية خليفة-.
قلت: وقد اختلف في صحبة محمد بن عدي، فأنكرها ابن الأثير، وقال:
لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أقدم من زمانه صلى الله عليه وسلم، وتبعه الذهبي في التجريد فقال:
كان قبل المبعث فلا وجه لذكره، وقد تعقب ابن حجر إنكار ابن الأثير على ابن منده، فقال: لا إنكار عليه لأن سياقه يقتضي أن لمحمد بن عدي صحبة، بخلاف محمد بن سفيان بن مجاشع. اهـ باختصار.(1/193)
الغساني، قال: فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير فيه شجرات وقربه ديراني، فسمع الديراني كلاما فصيحا لا يشبه كلامهم، فقال: إن هذه اللغة ما هي لأهل هذا البلد، قلنا: نعم، نحن قوم من مضر، قال: من أي مضر؟ قال: من خندف، قال: أما إنه سيبعث فيكم وشيكا نبي فسارعوا وخذوا حظكم منه ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، واسمه محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: فلما انصرفنا وصرنا إلى أهلينا ولد لكل رجل منا غلام فسميناه محمدا.
قال أبو سعد رحمه الله: وإنما حملهم على هذه التسمية السبب الذي ذكر، وذلك لما أخبرهم الديراني بالأمر العظيم، تنافسوا فيه إما تبركا وتيمنا، وإما تمنيا أن يكون هو ذلك الرجل لما علموا أن هذا اسم ليس له في العالم سمي، فبادروا إليه تأويلا لأحد الأمرين اللذين ذكرنا، والله أعلم.
قوله: «إما تبركا وتيمنا، وإما تمنيا» :
روى ابن سعد في الطبقات [1/ 169] من حديث علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيّا يبعث من العرب اسمه محمد، فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة.
وأخرج من حديث ابن إسحاق قال: سمي محمد بن خزاعي بن حزابة من بني ذكوان من بني سليم طمعا في النبوة، فأتى أبرهة باليمن فكان معه على دينه حتى مات، فلما وجه قال أخوه قيس بن خزاعي:
فذلكم ذو التاج منا محمد ... ورايته في حومة الموت تخفق
وأخرج من حديث قتادة بن السكن، قال: كان في بني تميم: محمد بن سفيان بن مجاشع- وكان أسقفا- قيل لأبيه: إنه يكون للعرب نبي اسمه-(1/194)
.........
- محمد، فسماه محمدا، ومحمد الجشي في بني سواءة، ومحمد الأسيدي، ومحمد الفقيمي، سموهم طمعا في النبوة.
وقال القاضي عياض في الشفاء [1/ 229- 230] معلقا على ما ورد في معنى تسميته بأحمد ومحمد وما تضمناه من الفضائل، قال: في هذين الاسمين من عجائب خصائصه وبدائع آياته فن آخر، وهو أن الله جل اسمه حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء، فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك.
قال: وكذلك محمد أيضا، لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، قال: والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد ابن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعي السلمي لا سابع لهم.
قال: ويقال: أول من سمّي محمدا: محمد بن سفيان، واليمن تقول: بل محمد بن اليحمد من الأزد، ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدّعي النبوة.
وقال السهيلي في الروض [1/ 182] : لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبقرب زمانه، وأنه يبعث في الحجاز أن يكون ولدا لهم، ذكرهم ابن فورك في كتاب الفصول، وهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر، والآخر: محمد بن حمران بن ربيعة، والثالث: محمد بن أحيحة بن الجلاح، وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه-(1/195)
.........
- محمدا، ففعلوا ذلك.
قال الحافظ في الفتح: سبق السهيلي إلى هذا القول أبو عبد الله بن خالويه في كتاب «ليس» قال: وهو حصر مردود، وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرر في بعضهم ووهم في بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا: أشهرهم محمد بن عدي بن ربيعة- يعني: الذي أورد المصنف حديثه- ثم ذكر الأسماء التي ذكرها ابن سعد في حديث قتادة، قال: فهؤلاء أربعة ليس في السياق ما يشعر بأن فيهم من له صحبة إلا محمد بن عدي.
قال: وقد ذكر عبدان المروزي أن محمد بن أحيحة بن الجلاح أول من تسمى في الجاهلية محمدا، وكأنه تلقى ذلك من قصة تبع لما حاصر المدينة وخرج إليه أحيحة المذكور هو والحبر الذي كان عندهم بيثرب، فأخبره الحبر أن هذا بلد نبي يبعث يسمى محمدا فسمى ابنه محمدا.
وذكر البلاذري منهم: محمد بن عقبة بن أحيحة، فلا أدري أهما واحد نسب مرة إلى جده أم هما اثنان.
ومنهم: محمد بن البراء البكري، ذكره ابن حبيب، وضبط البلاذري أباه فقال:
محمد بن برّ- بتشديد الراء ليس بعدها ألف- ابن طريق بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ولهذا نسبوه أيضا: العتواري، قال: وغفل ابن دحية فعد فيهم محمد بن عتوارة، وهو نسب إلى جده الأعلى.
ومنهم: محمد بن اليحمد الأزدي، ذكره المفجع البصري في كتاب المقعد.
ومنهم: محمد بن خولي الهمداني، ذكره ابن دريد.
ومنهم: محمد حرماز بن مالك اليعمري، ذكره أبو موسى في الذيل.
ومنهم: محمد بن أبي حمران، واسمه: ربيعة بن مالك الجعفي المعروف بالشويعر، ذكره المرزباني، فقال: هو أحد من سمّي محمدا في الجاهلية، وله قصة مع امرىء القيس.(1/196)
.........
- ومنهم: محمد بن خزاعي بن علقمة بن حرابة السلمي، من بني ذكوان، ذكره ابن سعد عن علي بن محمد، عن سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: سمّي محمد بن خزاعي طمعا في النبوة، وذكر الطبري أن أبرهة الحبشي توّجه وأمره أن يغزو بني كنانة، فقتلوه، فكان ذلك من أسباب قصة الفيل، وذكره محمد بن أحمد بن سليمان الهروي في كتاب الدلائل فيمن تسمى محمدا في الجاهلية.
ومنهم: محمد بن عمرو بن مغفل- بضم أوله وسكون المعجمة، وكسر الفاء، ثم لام- وهو والد هبيب- بموحدتين مصغر-، وهو على شرط المذكورين فإن لولده صحبة، ومات هو في الجاهلية.
ومنهم: محمد بن الحارث بن حديج بن حويص، ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب، وذكر له قصة مع عمر، وقال: إنه أحد من سمي في الجاهلية محمدا.
ومنهم: محمد الفقيمي.
ومنهم: محمد الأسيدي، ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك.
قال الحافظ: فعرف بهذا الوجه الرد على الحصر الذي ذكره السهيلي، وكذا الذي ذكره السهيلي- كذا، ولعله: وكذا الذي ذكره ابن خالويه- وكذا الذي ذكره القاضي عياض، وعجب من السهيلي كيف لم يقف على ما ذكره عياض مع كونه كان قبله، وقد تحرر لنا من أسمائهم قدر الذي ذكر القاضي مرتين، بل ثلاث مرار؛ فإنه ذكر في الستة الذين جزم بهم محمد بن مسلمة وهو غلط، فإنه ولد بعد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، ففضل له خمسة، وقد خلص لنا خمسة، والله المستعان.
قال أبو عاصم: كأن الحافظ ابن حجر رحمه الله استفاد هذه الأسماء، واقتبسها من الحافظ مغلطاي فإنه أوردها في الإشارة [/ 62] ، ثم استفاد الحافظ السخاوي ذلك من الحافظ فأوردها في القول البديع، وأوصلها في سبل الهدى إلى ما دون العشرين، والجميع يدورون حولها، والأمر كما قال الحافظ في أول كلامه: فيه تكرار في بعضهم، ووهم في البعض الآخر. والله أعلم.(1/197)
[11- فصل: ذكر حديث سواد بن قارب الأزديّ في سبب إسلامه وقدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم]
11- فصل: ذكر حديث سواد بن قارب الأزديّ في سبب إسلامه وقدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم 42- أخبرنا الشيخ أبو العباس: إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال- فيما قرىء عليه-، أنا أبو الحسن: علي بن قوله: «ذكر حديث سواد بن قارب الأزدي» :
دوسي ويقال: سدوسي، ذكره الجمهور في الصحابة وأوردوا له خبر الباب، قال ابن عبد البر: كان يتكهن في الجاهلية، وكان شاعرا ثم أسلم، وكان عمر رضي الله عنه داعبه يوما فقال: ما فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال:
ما كنا عليه نحن وأنت يا عمر من جهلنا وكفرنا شر من الكهانة، فما لك تعيرني بشيء تبت منه، وأرجو من الله العفو عنه؟!.
انظر عن سواد بن قارب:
الإصابة [4/ 293] ، الاستيعاب [4/ 294] ، أسد الغابة [2/ 484] ، التجريد [1/ 248] ، المعرفة [3/ 1404] .
(42) - قوله: «ابن ميكال» :
الإمام رئيس خراسان، من ذرية كسرى يزدجر بن بهرام جور الفارسي استعمل المقتدر أباه عبد الله على مملكة الأهواز، سمع عبدان الأهوازي، وخصه بكتاب، وسمع ابن خزيمة، وأبا العباس السراج وأملى مجالس، قال الحاكم: عرضت عليه ولايات جليلة فامتنع، توفي سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، وله اثنتان وتسعون.
سير أعلام النبلاء [16/ 156] ، معجم الأدباء [7/ 5] ، الشذرات [3/ 41] ، إنباه الرواة [1/ 199] ، العبر [2/ 327] ، اللباب [3/ 283] ، -(1/198)
سعيد بن عبد الله العسكري، ثنا محمد بن الحسين بن معدان، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي،........
- يتيمة الدهر [4/ 354] ، وفيات الأعيان [4/ 323] ، الوافي بالوفيات [9/ 148] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 362- ص: 290] ، مرآة الجنان [2/ 375] .
قوله: «العسكري» :
الإمام المحدث الرحال، نزل الري، حدث عن ابن المثنى، والزبير بن بكار وطبقتهم، وروى عنه أبو الشيخ وابن مطر، وابن حمدان شيوخ المصنف، قال الذهبي في السير: قال ابن مردويه في تاريخه: كان العسكري من الثقات، يحفظ ويصنف.
سير أعلام النبلاء [14/ 463] ، الشذرات [2/ 246] ، تذكرة الحفاظ [2/ 749] ، تاريخ جرجان [/ 267] ، طبقات الحفاظ [/ 315] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 305 هـ- ص 164] .
قوله: «ثنا محمد بن الحسين بن معدان» :
لم أجد محمد بن الحسين هذا وأخشى أن يكون اسم محمد تصحف من علي، فعلي بن الحسين بن معدان الفسوي من هذه الطبقة يحدث عن ابن راهويه والحسين بن حريث فلا أدري هو هذا أو غيره.
انظر عن علي بن الحسين بن معدان في:
تاريخ بغداد [5/ 104] ، سير أعلام النبلاء [14/ 520] ، العبر [2/ 172] ، الشذرات [2/ 276] .
قوله: «سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي» :
من شيوخ البخاري في الصحيح، وأحد الحفاظ، غير أنه مكثر عن الضعفاء والمجاهيل، فتكلم فيه بسبب ذلك، قال غير واحد: لا بأس به إذا روى عن ثقة، وفي حديثه مناكير إذا روى عن الضعفاء والمجاهيل. -(1/199)
ثنا الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي، ثنا أبو معمر: عباد بن عبد الصمد قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:
أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال: كنت نائما على جبل من جبال السراة فأتاني آت فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب.
قال: فاستويت قاعدا فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وأرجاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صالحوها مثل أنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
- تهذيب الكمال [12/ 26] ، سير أعلام النبلاء [11/ 136] ، تهذيب التهذيب [4/ 181] ، الكاشف [1/ 317] .
قوله: «الحكم بن يعلى بن عطاء» :
هو الرعيني، أحد الضعفاء، ليس له في الكتب الستة شيء، قال غير واحد:
ضعيف الحديث، منكر الحديث، وقال البخاري: عنده عجائب، وأورد حديث الباب في ترجمة سواد ولم يصححه من أجله.
الجرح والتعديل [3/ 130] ، التاريخ الكبير [2/ 342] ، الميزان [2/ 106] ، اللسان [2/ 341] .
قوله: «عباد بن عبد الصمد» :
البصري، نزل أفريقية، سمع أنس بن مالك، ليس له في الكتب الستة شيء، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: ضعيف الحديث، لا أعرف له حديثا صحيحا، وقال البخاري: فيه نظر.
الجرح والتعديل [6/ 82] ، التاريخ الكبير [6/ 41] ، الميزان [3/ 83] .(1/200)
قال: ثم عدت فنمت، فأتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب.
فاستويت قاعدا، فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... ورحلها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادقوها مثل كذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها
قال: فأصبحت فقعدت على بعيري حتى أتيت مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر بها، فأخبرته الخبر وبايعته صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فأخبرته الخبر وبايعته صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه من هذا الوجه من حديث سليمان الدمشقي: البخاري في تاريخه الكبير [4/ 202] الترجمة رقم 2497 بلفظ مختصر، وقال: ولا يصح، الحكم بن يعلى، يعني لما فيه من الضعف.
وأخرجه: الطبراني في معجمه الكبير [7/ 111] رقم 6476، قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 250] : إسناده ضعيف.
وأخرجه أيضا: الحافظ البيهقي في الدلائل [2/ 253] ، وأبو نعيم في المعرفة [3/ 1406] رقم 3553، وابن عدي في الكامل [2/ 628] ، وابن عساكر في تاريخه، والبغوي في الصحابة، كما في الخصائص-(1/201)
43- ويروى أن سواد بن قارب لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ يقول:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد تلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة: أتاك ... رسول الله من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت ... بي الزعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا إله غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مقالتي فرحا شديدا.
- الكبرى للسيوطي [1/ 255] .
قال أبو عاصم: للحديث طرق أخرى، وأصله في صحيح البخاري كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الذي بعده.
(43) - قوله: «ويروى أن سواد بن قارب» :
لحديثه طرق مختلفة، فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير [7/ 109] رقم 6475، وفي الأحاديث الطوال برقم 31، والحاكم في المستدرك [3/ 608] ، وأبو نعيم في المعرفة [3/ 1407] رقم 3554، وفي الدلائل [1/ 111] رقم 62، والبيهقي كذلك في الدلائل [2/ 252] ، وأبو القاسم الأصبهاني في الدلائل برقم 144.
ومن هذا الوجه رواه أبو يعلى الموصلي في معجم الشيوخ [/ 329] ومن طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 252] ، وابن سيد الناس في عيون الأثر [1/ 72] ، والحسن بن سفيان- كما في الإصابة والخصائص للسيوطي [1/ 255] ، جميعهم من حديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاعدا في المسجد ... الحديث بطوله، قال الذهبي في التلخيص: منقطع. -(1/202)
.........
- قلت: والوقاصي متروك، لكن ذكر الحافظ في الفتح أنه معضد بطريق أبي جعفر الآتي.
وله طريق أخرى، فأخرجه أبو نعيم في المعرفة [3/ 1405] رقم 3551، والخرائطي في هواتف الجنان [/ 148] رقم 3، والروياني في مسنده، وابن أبي خيثمة فيما ذكره الحافظ في الإصابة، والسيوطي في الخصائص من طريق سعيد ابن عبيد الله الوصافي، عن أبيه عن أبي جعفر الباقر قال:
دخل سواد بن قارب ... الحديث بطوله.
وأخرجه البيهقي في الدلائل [2/ 249] من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن البراء قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ ... القصة بطولها.
وأخرجه أبو نعيم أيضا في المعرفة برقم 3552 من حديث الحسن بن عمارة، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: دخل سواد بن قارب ...
فذكره باختصار.
ومن هذا الوجه أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده- كما في الخصائص الكبرى للسيوطي [1/ 255] .
وقال السيوطي: وأخرجه ابن شاهين في الصحابة من طريق الفضل بن عيسى القرشي، عن العلاء بن زيد، عن أنس بن مالك.
قال أبو عاصم: وأصل هذا الحديث في صحيح الإمام البخاري، فقال في مناقب الأنصار، باب إسلام عمر بن الخطاب: وحدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: حدثني عمر، أن سالما حدثه: عن عبد الله بن عمر قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال عمر: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، عليّ الرجل، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: -(1/203)
.........
- فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال:
فما أعجب ما جاءتك به جنّيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول:
لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
لم يصرح البخاري بأن الكاهن هو سواد بن قارب، وقد أورده ابن كثير في جزء السيرة من التاريخ [1/ 342] وقال: تفرد به البخاري، وهذا الرجل هو سواد بن قارب الأزدي، ويقال: السدوسي من أهل السراة من جبال البلقاء، له صحبة ووفادة. اه.
وكذا جزم بأنه سواد بن قارب: الحافظ في الفتح، والعيني في العمدة والسيوطي في الخصائص وغيرهم، والله أعلم.
ومما يروى في الباب أيضا ما أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 158] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 246] من حديث ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: إن بني غفار قرّبوا عجلا ليذبحوه على نصب من أنصابهم، فبينا هو موقوف إذ صاح فقال:
يا آل ذريح ... أمر نجيح
صائح يصيح ... بلسان فصيح
يدعو بمكة أن لا إله إلا الله(1/204)
44- وبينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس إذ مر به رجل، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار؟ قال: ومن هذا؟ قالوا:
هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيّه بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فأرسل إليه عمر فقال له: أنت الذي أتاك رئيّك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: أخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان أتاني آت فضربني برجله ... وذكر الحديث.
- قال: فكفوا عنه وذهبوا ينظرون، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث.
قال المعتمر: فسألت عنه الحجاج بن أرطاة فقال: سمعته من مجاهد، وحدثني الحجاج ببعضه.
قال: ورواه أحمد بن حنبل [4/ 75] قال: حدثنا محمد بن بكر البرساني، ثنا عبيد الله بن أبي زياد، قال: حدثني عبد الله بن كثير الداري، عن مجاهد قال: أخبرنا شيخ أدرك الجاهلية ونحن في غزوة- يقال له: ابن عيسى-: كنت أسوق لآل لنا بقرة، قال: فسمعت من جوفها:
يا آل ذريح ... قول فصيح
رجل يصيح ... أن لا إله إلا الله
قال: فقدمنا مكة، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج.
قال البيهقي: وهذا فيما أخبرنا الإمام أبو عثمان قال: أخبرنا أبو محمد الأزدي قال: حدثنا أبو بكر الحفيد، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال:
حدثني أبي ... فذكره.
قال أبو عبد الرحمن عبد الله: هذا حديث غريب بإسناد جيد.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 243] : رجاله ثقات.(1/205)
45- وعن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي أن رجلا مر على مجلس بالمدينة فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنظر إليه عمر فقال: أكاهن أنت؟
فقال: يا أمير المؤمنين قد هدى الله بالإسلام كل جاهل، ورفع بالحق كل باطل، وأقام بالقرآن كل مائل، وأغنى بمحمد صلى الله عليه وسلم كل عائل.
فقال عمر: متى عهدك بها؟ - يعني صاحبته- قال: قبيل الإسلام، أتتني فصرخت يا إسلام، يا إسلام، الحق المبين، والخير الدائم، غير حلم النائم، الله أكبر.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين أنا أحدثك مثل هذا، والله إنا لنسير في دوية ملساء، لا يسمع فيها إلا الصدى، إذ نظرنا فإذا راكب مقبل أسرع من الفرس، حتى كان منا على قدر ما يسمعنا صوته فقال:
يا أحمد يا أحمد، الله أعلى وأمجد، أتاك ما وعدك من الخير يا أحمد، ثم ضرب راحلته حتى أتى من ورائنا.
فقال عمر: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأكرمنا به.
فقال رجل من الأنصار: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين بمثل هذا وأعجب، قال عمر: حدّثه، قال: انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام، حتى إذا كنا بقفرة من الأرض فنزلناها، فبينا نحن كذلك إذ لحقنا راكب، فكنا أربعة، وقد أصابنا سغب شديد، فالتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع (45) - قوله: «وعن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي» :
يروي عن المقبري، عن أبي هريرة، ليس له في الكتب الستة شيء، له ترجمة في التاريخ الكبير والجرح والتعديل.
وحديثه أخرجه الواقدي، ومن طريقه أبو القاسم الأصبهاني في الدلائل برقم 208، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل كما في الخصائص [1/ 259] .(1/206)
قريبا منا، فوثبت إليها فقال الرجل الذي لحقنا: خل سبيلها لا أبا لك، والله لقد رأيتها ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر من ذلك فتخطف بعضنا، فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فيما يهاج بها، فأبيت، فقلت: لا لعمرو الله لا أخليها، فارتحلنا وقد شددتها معي حتى إذا ذهب سدفة من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول:
يا أيها الركب السراع الأربعة ... خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعة ... لا تذبحن الظبية المروّعة
فيها لأيتام صغار منفعة قال: فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام، فقضينا حوائجنا، ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذي كنا فيه هتف هاتف من خلفنا:
إياك لا تعجل وخذها مرفقه ... فإن شر السير سير الحقحقه
قد لاح نجم فأضاء مشرقه ... يخرج من ظلماء نار موثقه
ذاك رسول مفلح من صدقه ... الله أعلى أمره وحققه(1/207)
[12- فصل: ذكر الكاهنة الّتي تعرّضت لعثمان بن عفّان رضي الله عنه]
12- فصل: ذكر الكاهنة الّتي تعرّضت لعثمان بن عفّان رضي الله عنه 46- ويروى عن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان:
خرجنا في عير إلى الشام قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كنا بأفواه الشام- وبها كاهنة- فتعرضتنا فقالت: أتاني صاحبي فوقف علي فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى الدخول، خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق.
(46) - قوله: «ويروى عن عمر بن قتادة» :
أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 108] رقم 58 بإسناد فيه الواقدي، والكلام فيه معروف ومشهور، لكن له شاهد من حديث يزيد بن رومان قال: خرج عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله على أثر الزبير بن العوام فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما بالكرامة من الله فآمنا وصدقا فقال عثمان: يا رسول الله قدمت حديثا من الشام فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا مناديا يناد بنا: أيها النيام هبّوا فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك.
قد علمت أن هذا الشاهد لا يقوي أثر الباب لأن فيه الواقدي أيضا، أخرجه ابن سعد في الطبقات [3/ 55] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [39/ 22] .
لكن له من الشواهد ما يقويه، فأخرج الإمام عبد الله في زوائده على مسند أبيه [3/ 356] من حديث ابن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: إن أول خبر قدم علينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة كان لها تابع، قال: فأتاها في صورة-(1/208)
قال: ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة يدعو إلى الله عز وجل.
- طير فوقع على جذع لهم، فقالت له: ألا تنزل فنخبرك وتخبرنا؟ قال: إنه قد خرج رجل بمكة حرم علينا الزنا، ومنع من الفرار.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 243] : رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله وثقوا.
وأخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 167] قال: أخبرنا علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن علي بن حسين قال: كانت امرأة في بني النجار يقال لها فاطمة بنت النعمان، كان لها تابع من الجن، فكان يأتيها، فأتاها حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فانقض على الحائط، فقالت: ما لك لم تأت كما كنت تأتي؟ قال: قد جاء النبي الذي يحرم الزنا والخمر.
قال ابن سعد أيضا [1/ 167] : أخبرنا علي بن محمد، عن عبد الله بن محمد القرشي من بني أسد بن عبد العزى، عن الزهري قال: كان الوحي يستمع، وكان لامرأة من بني أسد تابع، فأتاها يوما وهو يصيح: جاء أمر لا يطاق، أحمد حرم الزنا، فلما جاء الله بالإسلام منعوا الاستماع.(1/209)
[13- فصل: ذكر إسلام عمرو الهذليّ]
13- فصل: ذكر إسلام عمرو الهذليّ 47- عن عبد الله بن يزيد الهذلي، عن سعيد بن عمرو الهذلي، عن أبيه قال: حضرت مع رجال من قومي صنما ببوانة وقد سقنا إليه الذبائح، فكنت أول من قرب إليه بقرة سمينة، فذبحتها على الصنم، فسمعنا من جوفها العجب العجاب: خرج نبي من الأجناب، يحرم (47) - قوله: «عن سعيد بن عمرو الهذلي» :
لم أر من أفرده بترجمة، فأما أبوه فمذكور في الصحابة، قال الحافظ في الإصابة [7/ 113] : أخرج أبو سعيد- كذا- النيسابوري في شرف المصطفى من طريق عبد الله بن يزيد ... القصة، اه.
وقد أسندها أبو نعيم في ترجمته من المعرفة [4/ 2043] رقم 5130 من طريق حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد به مختصرا.
وأخرجها بطولها ابن سعد في الطبقات [1/ 167- 168] وفي إسناده الواقدي.
وأخرج أيضا من طريقه [1/ 168] قال: حدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال: كنا عند صنمنا سواع، وقد جلبت إليه غنما لي: مائتي شاة قد كان أصابها جرب، فأدنيتها منه أطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن، ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد، قال: قلت قد عبرت والله، فأصرف وجه غنمي منحدرا إلى أهلي، قال: فلقيت رجلا فخبرني بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو القاسم الأصبهاني في الدلائل برقم 202 من طريق الواقدي أيضا قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن مسلم بن حبيب، عن النضر بن سفيان الهذلي، عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقاء-(1/210)
الزنا، ويحرم الذبائح للأصنام، وحرست السماء، ورمينا بالشهب.
قال: فتفرقنا وقدمنا مكة، فسألنا فلم نجد أحدا يخبرنا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لقينا أبا بكر الصديق رضوان الله عليه، فقلنا: يا أبا بكر أخرج أحد بمكة يدعو إلى الله عز وجل يقال له: أحمد؟ قال: وما ذاك؟
فأخبرته الخبر، قال: نعم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعانا إلى الإسلام، فقلنا: حتى ننظر ما يصنع قومنا، ويا ليت أنا أسلمنا يومئذ، فأسلمنا بعد.
- ومعان وعرسنا من الليل، إذا بفارس يقول: أيها النوام هبّوا، فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد، وطردت الجن كل مطرد، قال: ففزعنا ونحن رفقة جرارة، كلهم قد سمع هذا، فرجعنا إلى أهلنا، فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي خرج بينهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد.
قوله: «فأسلمنا بعد» :
قال الحافظ في الإصابة: أسلمت هذيل عند فتح مكة، وقد ذكر الواقدي من وجه آخر- يعني: قصة الباب-: أن رجلا من هذيل يقال له عمرو، قدم مكة بغنم فباعها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام وأخبره بالحق، فقام إليه أبو جهل فقال: انظر إلى ما يقول لك، فإياك أن تركن إلى قوله، قال:
ففارقه الهذلي، قال: ثم إن الهذلي أسلم يوم الفتح، قال الحافظ: فيجوز أن يكون هو المذكور، ويحتمل أن يكون آخر.(1/211)
[14- فصل: ذكر حديث قسّ بن ساعدة]
14- فصل: ذكر حديث قسّ بن ساعدة 48- أخبرنا أبو علي: الحسين بن أحمد بن محمد بن موسى رحمه الله، قوله: «ذكر حديث قس بن ساعدة» :
هو قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر بن إياد بن نزار الإيادي، أوردوه في الصحابة، قال الحافظ في الإصابة: البليغ الخطيب المشهور، ذكره أبو علي بن السكن، وابن شاهين، وعبدان المروزي، وأبو موسى في الصحابة، وصرح ابن السكن بأنه مات قبل البعثة، وذكره أبو حاتم السجستاني في المعمرين وقال: إنه عاش ثلثمائة وثمانين سنة، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكمته، وهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وقال المرزبان: ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة، وكان خطيبا حكيما عاقلا له نباهة وفضل. اه. باختصار.
انظر عن قس بن ساعدة في:
الإصابة [8/ 253] ، التجريد [2/ 15] ، أسد الغابة [4/ 403] .
(48) - قوله: «الحسين بن أحمد» :
هكذا في الأصل، وأظن أن في الاسم تصحيفا ويحتمل أن يكون نسب إلى جدّه؛ يقع في ظني- والله أعلم- أنه: الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن ماسرجسي الحافظ الكبير، والإمام النحرير: أبو علي الماسرجسي، أحد أعلام الرواية والحفظ والدراية، مشهور في تلاميذ السراج، وسمع منه المصنف والحاكم وقال: صنف المسند الكبير في ألف جزء وثلاث مئة جزء- يعني مهذبا معللا- وجمع حديث الزهري جمعا لم يسبقه إليه أحد، فكان يحفظه مثل الماء. توفي أبو علي سنة خمس وستين وثلاث مائة.
سير أعلام النبلاء [16/ 287] ، المنتظم [14/ 244] ، تذكرة الحفاظ [3/ 955] ، النجوم الزاهرة [4/ 111] ، تاريخ ابن عساكر [14/ 292] ، -(1/212)
ثنا أبو العباس: محمد بن إسحاق السرّاج، ثنا محمد بن يحيى الأزدي، عن محمد بن هانئ الطائي، ثنا محمد بن الحجاج اللخمي، ثنا مجالد، - الوافي بالوفيات [13/ 31] ، بغية الطلب لابن العديم [6/ 2738] ، البداية والنهاية [11/ 283] ، تاريخ الإسلام [وفيات 365- ص 337] .
قوله: «ثنا أبو العباس: محمد بن إسحاق السراج» :
الإمام الحافظ الثقة: شيخ الإسلام، محدث خراسان، الثقفي مولاهم، الخراساني، النيسابوري صاحب المسند الكبير على الأبواب، وصاحب التاريخ والمصنفات المفيدة النافعة، روى عنه الشيخان شيئا يسيرا خارج الصحيحين وأبو حاتم الرازي- وهو من شيوخه-.
قال الخطيب: كان من الثقات الأثبات، عني بالحديث، وصنف كتبا كثيرة، وهي معروفة، قال الحافظ الذهبي في السير: بلغ سبعا- أو خمسا- وتسعين سنة، قال أبو إسحاق المزكي عنه: ولدت سنة ثماني عشرة ومئتين، وختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف ختمة، وضحيت عنه اثني عشر ألف أضحية.
سير أعلام النبلاء [14/ 388] ، الجرح والتعديل [7/ 196] ، تاريخ بغداد [1/ 248] ، المنتظم [13/ 252] ، تذكرة الحفاظ [2/ 731] ، الوافي بالوفيات [2/ 187] ، طبقات السبكي [3/ 108] ، طبقات الجزري [2/ 97] ، النجوم الزاهرة [3/ 314] ، مرآة الجنان [2/ 266] ، البداية والنهاية [11/ 153] ، تاريخ الإسلام [وفيات 313- ص 462] .
قوله: «ثنا محمد بن الحجاج اللخمي» :
الواسطي نزيل بغداد، أحد الضعفاء، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بثقة، وكذبه بعضهم، فهو علة إسناد حديث الباب، وقد روي من وجه آخر من غير طريقه كما سيأتي.
الضعفاء الكبير [4/ 44] ، التاريخ الكبير [1/ 64] ، الميزان [3/ 509] ، الجرح والتعديل [7/ 234] ، الكامل لابن عدي [6/ 2155] ، المجروحين [2/ 295] .(1/213)
عن الشعبي، عن ابن عباس: أن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟
قالوا: كلنا نعرفه، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، قال: كأني به على جمل أحمر بعكاظ يقول: أيها الناس اجتمعوا واستمعوا، وعوا:
كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، بحار تموج، وتجارة لن تبور، أقسم قسّ قسما حقّا، لئن كان في الأمر رضى، ليكوننّ سخطا، فإن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم قوله: «عن الشعبي عن ابن عباس» :
أخرجه من طريق اللخمي هذا: البخاري في تاريخه الكبير [1/ 64] بلفظ مختصر، والطبراني في الطوال [/ 57] رقم 22، والبزار في مسنده [3/ 286 كشف الأستار] رقم 2759، وابن عدي في الكامل [6/ 2155- 2156] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 104] ، وقال: يتفرد به محمد بن الحجاج اللخمي، عن مجالد، ومحمد متروك.
وقال البزار: لا نعلمه يروى من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، ومحمد بن الحجاج قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ولما لم نجده عند غيره، لم نجد بدا من إخراجه. اه.
قلت: ليس قوله: (من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه) بمتجه، وسيأتي ذكر طرقه الأخرى في الرواية التالية.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [9/ 419] : محمد بن الحجاج اللخمي كذاب.
ولحديث قس بن ساعدة طرق كثيرة:
فأخرجه الإمام عبد الله في زوائده على زهد أبيه بإسناد مرسل قوي برقم 2072: حدثنا عياش بن محمد مولى بني هاشم، ثنا الوليد بن هشام القحذمي، حدثني خلف بن أعين بنحوه. -(1/214)
عليه، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها يسعى الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر- وأخرجه ابن سعد بلفظ مختصر في الطبقات [1/ 315] من طريق علي بن محمد القرشي عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان ومحمد بن كعب، وعن يزيد بن عياض الليثي، عن الزهري قالوا: وقدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو منكم، هذا رجل من إياد تحنف في الجاهلية فوافى عكاظ والناس مجتمعون فيكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه.
وأخرجه البيهقي في الدلائل [2/ 101] من طريق ابن هبيرة ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس به.
وأخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 103- 104] من وجه آخر عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
ومن خلال هذا التخريج يتبين ضعفها بالنظر إلى كل طريق على حدته، غير أن مجموع طرقها وتعدد مخارجها يشعر بأن للقصة أصلا.
قال البيهقي في الدلائل [2/ 113] : وقد روي من وجه آخر عن الحسن البصري، وروي مختصرا من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة، وإذا روي حديث من أوجه وإن كان بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا. -(1/215)
.........
- وقال الحافظ ابن كثير في جزء السيرة من تاريخه: هذه الطرق كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة.
وقال السيوطي في الخصائص: وقفت عليه من حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه الإمام محمد بن داود الظاهري في كتاب الزهرة له فقال: حدثنا أحمد بن عبيد النحوي، ثنا علي بن محمد المدائني، ثنا محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن سعد ...
قال: وهو أمثل طرق الحديث، فإن ابن أخي الزهري فمن فوقه من رجال الصحيحين، وعلي المدائني ثقة، وأحمد بن عبيد قال فيه ابن عدي:
صدوق له مناكير. اه.
إذا علمت هذا علمت أن قول الحافظ ابن حجر في الإصابة: (طرقها كلها ضعيفة) فيه نظر؛ لما تقدم عن البيهقي، وقد قال السيوطي: لو أن الحافظ وقف على هذه الطريق- يعني طريق الظاهري في الزهد- لحكم للحديث بالحسن خصوصا الطريق الذي في زيادات الزهد لابن حنبل فإنه مرسل قوي. اه.
وقال ابن عراق: فإذا ضم إلى هذه الطريق الموصولة التي ليس فيها واه ولا متهم حكم بحسنه بلا توقف. اه. تنزيه الشريعة [1/ 241] .
وقال السيوطي في الخصائص [1/ 70] : وأخرج أبو نعيم من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس: أن قس بن ساعدة كان يخطب في قومه في سوق عكاظ فقال في خطبته: سيعمكم حق من هذا الوجه- وأشار بيده نحو مكة- قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج، أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش الأبد ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه.
وانظر التعليق على الرواية التالية.(1/216)
49- وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يزيدنا في إيمان قس بن ساعدة؟
(49) - قوله: «وفي رواية» :
أتمها سياقا وأشملها تلك المروية- في حديث الجارود- من طريق علي بن سليمان، عن سليمان بن علي، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس، عند البيهقي في الدلائل [2/ 105] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 428] ، وفيها:
قال ابن عباس: قدم الجارود بن عبد الله- وكان سيدا في قومه، مطاعا عظيما في عشيرته: مطاع الأمر، رفيع القدر، عظيم الخطر، ظاهر الأدب، شامخ الحسب، بديع الجمال، حسن الفعال، ذا منعة ومال- في وفد عبد القيس من ذوي الأخطار والأقدار، والفضل والإحسان، والفصاحة والبرهان، كل رجل منهم كالنخلة السحوق، على ناقة كالفحل الفنيق قد جنبوا الجياد، وأعدوا للجلاد، مجدّين في سيرهم، حازمين في أمرهم، يسيرون ميلا، ويقطعون ميلا فميلا، حتى أناخوا عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الجارود على قومه والمشائخ من بني عمه، فقال: يا قوم، هذا محمد الأغر، سيد العرب، وخير ولد عبد المطلب، فإذا دخلتم عليه، ووقفتم بين يديه، فأحسنوا عليه السلام، وأقلوا عنده الكلام. فقالوا بأجمعهم: أيها الملك الهمام والأسد الضرغام، لن نتكلم إذا حضرت، ولن نجاوز إذا أمرت، فقل ما شئت، فإنا سامعون، واعمل ما شئت، فإنا تابعون. فنهض الجارود، في كل كمي صنديد، قد دوّموا العمائم، وتردوا الصمائم، يجرون أسيافهم ويسحبون أذيالهم، يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون مناقب الأخيار، لا يتكلمون طويلا، ولا يسكتون عيّا؛ إن أمرهم ائتمروا، وإن زجرهم ازدجروا، كأنهم أسد غيل يقدمها ذو لبؤة مهول، حتى مثلوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل القوم المسجد، وأبصرهم أهل المشهد، دلف الجارود أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وحسر لثامه وأحسن سلامه، -(1/217)
فوثب رجل فقال: بينا يا رسول الله نحن في ملاعبنا فإذا أنا بقس ابن ساعدة واقف على عين ماء متزر بشملة، ومرتدي بأخرى، - ثم أنشأ يقول:
يا نبي الهدى أتتك رجال ... قطعت فدفدا وآلا فآلا
وطوت نحوك الصحاصح طرا ... لا تخال الكلال فيك كلالا
كل دهماء يقصر الطرف عنها ... أرقلتها قلاصنا إرقالا
وطوتها الجياد تجمع فيها ... بكماة كأنجم تتلالا
تبتغي دفع بأس يوم عبوس ... أوجل القلب ذكره ثم هالا
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك فرح فرحا شديدا، وقربه وأدناه، ورفع مجلسه وحباه، وأكرمه، وقال: يا جارود، لقد تأخر بك وبقومك الموعد، وطال بكم الأمد، قال: والله يا رسول الله، لقد أخطأ من أخطأك قصده، وعدم رشده، وتلك وايم الله أكبر خيبة، وأعظم حوبة، والرائد لا يكذب أهله، ولا يغش نفسه، لقد جئت بالحق، ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبيّا واختارك للمؤمنين وليّا، لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول، وطول التحية لك والشكر لمن أكرمك وأرسلك، لا أثر بعد عين، ولا شك بعد يقين، مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله.
قال: فآمن الجارود، وآمن من قومه كل سيد، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم سرورا، وابتهج حبورا، وقال: يا جارود، هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسّا؟
قال: كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا من بين قومي كنت أقفو أثره وأطلب خبره:
كان قس سبطا من أسباط العرب، صحيح النسب، فصيحا إذا خطب، ذا شيبة حسنة، عمّر سبعمائة سنة، يتقفر القفار، لا تكنه دار، ولا يقره قرار، يتحسى في تقفره بيض النعام، ويأنس بالوحش والهوام، يلبس المسوح، ويتبع السيّاح على منهاج المسيح، لا يفتر من الرهبانية، وتتبعه الأبدان، -(1/218)
وبيده هراوة وهو يقول: لا وإله السماء، لا يشرب القوي من الوحش قبل الضعيف، بل يشرب الضعيف قبل القوي، ولا يشرب القوي- أدرك رأس الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب وأعبد من تعبد في الحقب، وأيقن بالبعث والحساب وحذر سوء المنقلب والمآب، ووعظ بذكر الموت، وأمر بالعمل قبل الفوت، الحسن الألفاظ، الخاطب بسوق عكاظ، العالم بشرق وغرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، كأني أنظر إليه، والعرب بين يديه، يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله، وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول:
هاج للقلب من جواه أدكا ... ر وليال خلالهن نهار
ونجوم يحثها قمر اللي ... ل وشمس في كل يوم تدار
ضوؤها يطمس العيون ورعا ... د شديد في الخافقين مطار
وغلام وأشمط ورضيع ... كلهم في التراب يوما يزار
وقصور مشيدة حوت الخي ... ر وأخرى خلت فهن قفار
وكثير مما يقصر عنه ... جوسة الناظر الذي لا يحار
والذي قد ذكرت دل على ... الله نفوسا لها هدى واعتبار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل له أورق، وهو يتكلم بكلام موثق، ما أظن أني أحفظه، فهل منكم يا معشر المهاجرين والأنصار من يحفظ لنا منه شيئا؟، فوثب أبو بكر قائما، وقال: يا رسول الله، إني أحفظه، وكنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ حين خطب فأطنب، ورغب ورهب، وحذر وأنذر، فقال في خطبته:
أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا: إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جميع وأشتات، وآيات بعد آيات، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج، وسماء ذات أبراج وأرض-(1/219)
من الطير قبل الضعيف، قال: فرأيت يا رسول الله القوي من الوحش يتأخر حتى يشرب الضعيف، فلما نحى ما حوله هبطت إليه من ذروة- ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟
أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا؟ أقسم قس قسما حقا لا حانثا فيه ولا آثما: إن لله تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيّا قد حان حينه، وأظلكم أوانه، وأدرككم إبانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه، ثم قال: تبّا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية، يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيّد؟ وزخرف ونجد؟ وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال: أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأبعد منكم آمالا، وأطول منكم آجالا؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خالية، عمرتها الذئاب العاوية، كلّا، بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود!! ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر قال: ثم جلس.
فقام رجل من الأنصار بعده كأنه قطعة جبل، ذو هامة عظيمة، وقامة جسيمة، قد دور عمامته، وأرخى ذوائبه، منيف أنوف أحدق، أجش الصوت، فقال: يا سيد المرسلين، وصفوة رب العالمين، لقد رأيت من قسّ عجبا، وشهدت منه مرغبا، فقال: ما الذي رأيته منه وحفظته عنه؟ -(1/220)
الجبل فإذا أنا به واقف يصلي بين قبرين، فلما انفتل من صلاته، قلت:
أنعم صباحك يا قس، ما هذه الصلاة التي لا تعرفها العرب؟، قال: - فقال: خرجت في الجاهلية أطلب بعيرا لي شرد مني، كنت أقفو أثره وأطلب خبره، في نتائف حقائف، ذات دعادع وزعازع، ليس بها للركب مقيل، ولا لغير الجن سبيل، وإذا أنا بموئل مهول في طود عظيم ليس به إلا البوم، وأدركني الليل فولجته مذعورا لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، فبت بليل طويل، كأنه بليل موصول، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول:
يا أيها الراقد في الليل الأحم ... قد بعث الله نبيّا في الحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم ... يجلو دجنات الدياجي والبهم
قال: فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا ولا سمعت له فحصا، فأنشأت أقول:
يا أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بيّن هداك الله في لحن الكلم ... ماذا الذي تدعو إليه يغتنم
قال: فإذا أنا بنحنحة، وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحبور، صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، ذو الوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور، صاحب قول شهادة: أن لا إله إلا الله، فذلك محمد المبعوث إلى الأسود والأبيض، أهل المدر والوبر، ثم أنشأ يقول:
الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبث ... لم يخلنا حينا سدى من بعد عيسى واكترث
أرسل فينا أحمدا خير نبي قد بعث ... صلى عليه الله ما حج له ركب وحث
-(1/221)
أصليها لإله السماء، قلت: وهل للسماء إله سوى اللات والعزى؟ قال:
فانتفض وانتقع لونه قال: إليك عني يا أخا إياد، إن للسماء إلها عظيم- قال: فذهلت عن البعير واكتنفني السرور، ولاح الصبح، واتسع الإيضاح، فتركت الموراء، وأخذت الجبل، فإذا أنا بالفنيق يستنشق النوق، فملكت خطامه، وعلوت سنامه، فمرج طاعة وهززته ساعة، حتى إذا لغب وذل منه ما صعب، وحميت الوسادة، وبردت المزادة، فإذا الزاد قد هش له الفؤاد! تركته فترك، وأذنت له فبرك، في روضة خضرة نضرة عطرة، ذات حوذان وقربان وعنقران وعبيثران وجلي وأقاح وجثجاث وبرر، وشقائق ونهار كأنما قد بات الجو بها مطيرا، وباكرها المزن بكورا، فخلالها شجر، وقرارها نهر، فجعل يرتع أبّا، وأصيد ضبّا، حتى إذا أكلت وأكل! ونهلت ونهل، وعللت وعل- حللت عقاله، وعلوت جلاله، وأوسعت مجاله، فاغتنم الحملة ومر كالنبلة، يسبق الريح، ويقطع عرض الفسيح، حتى أشرف بي على واد وشجر، من شجر عاد مورقة مونقة، قد تهدل أغصانها كأنما بريرها حب فلفل، فدنوت فإذا أنا بقس بن ساعدة في ظل شجرة بيده قضيب من أرك ينكت به الأرض وهو يترنم بشعر، وهو:
يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا بزهو خرق
دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... فهم إذا أنبهوا من نومهم فرقوا
حتى يعود والحال غير حالهم ... خلقا جديدا كما من قبله خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق
قال: فدنوت منه فسلمت عليه فرد السلام، وإذا بعين خرارة، في أرض خوارة، ومسجد بين قبرين، وأسدين عظيمين يلوذان به، ويتمسحان بأثوابه، وإذا أحدهما يسبق صاحبه إلى الماء فتبعه الآخر وطلب الماء، فضربه بالقضيب الذي في يده، وقال: ارجع، ثكلتك أمك، حتى يشرب الذي ورد-(1/222)
الشأن، زخرفها وكوكبها، وبالشمس أشرقها، وبالأرض صميم الأديم الزاخر سطحها، ليس له كيفية، ولا أينية ولا كيموسية ولا كيفوية، أظلم الليل، وأضاء النهار، يسلك بعضهم في بعض كيف يشاء.
فقلت له: لم تجد موضعا تصلي فيه إلا في هذا الموضع؟
قال: ما أجد أحدا يقول لا إله إلا الله إلا صاحبي هذين القبرين، وإنما أنتظر ما أصابهما، ثم ذكر أيامهما وبكى، ثم جعل يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
- قبلك، ثم ورد بعده، فقلت له: ما هذا القبران؟ فقال: هذان قبرا أخوين لي كانا يعبدان الله تعالى، معي في هذا المكان، لا يشركان بالله شيئا، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما، حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما، فتغرغرت عيناه بالدموع، فانكب عليهما وجعل يقول:
خليليّ هبّا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
ألم تريا أني بسمعان مفرد ... وما لي فيه من خليل سواكما
مقيم على قبركما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على ذي لوعة إن بكاكما
أمن طول نوم لا تجيبان داعيا ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما
كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس امرئ فداها ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قسا، وإني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده.
قوله: «ولا كيموسية» :
الكيموس في عبارة الأطباء: الطعام المهضوم في المعدة قبل أن يخرج منها فيصير دما، وهي هنا بمعنى الحاجة إلى الطعام، قاله ابن منظور.(1/223)
ألم تريا أني بنجران مفرد ... ومالي فيه من خليل سواكما
أقيم على قبريكما لست بارحا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على ذي لوعة إن بكاكما
كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس امرىء فداها ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما
ثم قال له: إنه سيعمكم من هذا الوادي- وأشار إلى مكة- رجل أدعج، أحور، أقنى، لا بالطويل الذاهب، ولا بالقصير اللازق، من ولد لؤي بن غالب، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، وإذا استنصركم فانصروه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من أناوله صفحة كفي فأتقدم بين يديه بحكم ربي.
ولقد وصف فيك يا محمد علامات شتى، ما أحفظها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك حسبك، أما إن قس بن ساعدة يبعث يوم القيامة أمة وحده.(1/224)
[15- فصل: في ذكر قصّة يوشع اليهودي]
15- فصل: في ذكر قصّة يوشع اليهودي 50- روى سلمة بن سلامة بن وقش أنه كان في بني عبد الأشهل قوله: «ذكر قصة يوشع اليهودي» :
قصة يهود بني عبد الأشهل أخرجها:
ابن إسحاق في سيرته [/ 84- 85] ، ومن طريقه: الإمام أحمد في مسنده [3/ 467] ، ومن طريق الإمام أحمد: ابن الأثير في الأسد [2/ 429] ، والبخاري في تاريخه الكبير [4/ 68] الترجمة رقم 1986، والحاكم في المستدرك [3/ 417] وصححه على شرط مسلم، والبيهقي في الدلائل [2/ 78] ، وأبو نعيم كذلك [1/ 74] رقم 34، وابن قانع في معجمه [5/ 2072] رقم 588، والطبراني في معجمه الكبير ولم يسق القصة [7/ 47] رقم 6327، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني [4/ 10- 11] رقم 1954، 1955.
قال ابن إسحاق: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 230] : رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع.
وقال الحافظ في الفتح [7/ 393] : صححه ابن حبان من طريق أحمد.
(50) - قوله: «روى سلمة بن سلامة بن وقش» :
هو ابن عبد الأشهل الأشهلي، الأنصاري، صحابي جليل شهد العقبتين الأولى والثانية في قول الجميع، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على اليمامة، توفي سنة أربع وثلاثين وهو ابن سبعين سنة.
سير أعلام النبلاء [2/ 355] ، طبقات ابن سعد [3/ 439] ، التاريخ الكبير-(1/225)
يهودي يسمى: يوشع- لم يكن فيهم غيره يهودي- وكان في صومعة، وكان بنو عبد الأشهل يأتونه فيتحدثون عنده، وكان كثيرا ما يقول: إن بعد الموت بعثا، وجنة ونارا، فيضحكون منه، ويقولون: ما بعد الموت شيء، فيرد ذلك عليهم، فناداهم يوما عند الصبح على الصومعة، فاستنكروه واجتمعوا إليه فقالوا: ما لك؟ قال: هذا كوكب أحمد قد طلع، وهذا كوكب لا يطلع إلا بالنبوة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد، فجعلوا يضحكون منه.
وجعل يقول: يأتي والله مصداق قولنا، وتصديق كتابنا يخبركم، إن بعد الموت جنة ونارا، إنما هم أهل الأوثان.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به من شاء الله وآمنت به بنو عبد الأشهل كلها غيره، ولما أسلمت بنو عبد الأشهل قالوا له: اخرج من دارنا وجوارنا.
فخرج فتحول إلى بني قينقاع وكان أخبثهم وأشدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أظهروا العداوة، ونبذوا العهد قال لهم: أنتم تخرجون بذل وصغار، فتحول من عندهم إلى بني النضير فأقام فيهم، فلما نقضوا العهد تحول إلى بني قريظة، فلما نقض بنو قريظة العهد قال: أنتم تقتلون، فهرب إلى خيبر، فلم يزل مقيما بها حتى سمع بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال: -[4/ 68- 69] ، أسد الغابة [2/ 428] ، الإصابة [4/ 230] ، المعرفة والتاريخ [1/ 334] ، الاستيعاب [4/ 231] ، المعرفة لأبي نعيم [3/ 1337] ، معجم ابن قانع [5/ 2071] ، معجم الطبراني الكبير [7/ 46] ، الآحاد والمثاني [4/ 10] ، تعجيل المنفعة [1/ 600] ، الثقات لابن حبان [3/ 163] ، الجرح والتعديل [4/ 161] .(1/226)
لا مقام لي، هو يفتح هذه، فهرب إلى تيماء، فأقام معهم حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه فمات حين أجلى عمر يهود خيبر وفدك.
51- وروي عنه أنه كان يقول: قد أظل خروج نبي يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزىء به:
ما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.
قال: فخرجت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما قال، فأسمع رجلا يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟! كل يهود يثرب تقول هذا.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا بخروج نبي وظهوره، ولم يبق إلا أحمد، وهذه مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا أخبره أبيّ بهذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أسلم الزبير وذووه من رؤسائه لأسلمت اليهود كلها، لأنهم كانوا تبعا لرؤسائهم.
(51) - قوله: «وروي عنه أنه كان يقول» :
الذي روى ذلك عنه هو أبو أبي سعيد الخدري مالك بن سنان، أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 79] رقم 40 من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: سمعت أبي: مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم- ونحن يومئذ في هدنة من الحرب- فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبي ... القصة.
وأخرج نحوه بمعناه ابن سعد في الطبقات [1/ 159] من طريق الواقدي، حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: كان الزبير بن باطا- وكان أعلم اليهود- ... فذكر نحوه.(1/227)
[16- فصل: ذكر حديث عمرو بن مرّة من قيس بن جهينة]
16- فصل: ذكر حديث عمرو بن مرّة من قيس بن جهينة 52- كان عمرو بن مرة أحد بني غطفان بن قيس بن جهينة، قال:
خرجت حاجّا في الجاهلية في جماعة من قومي، فنمت، فرأيت نورا (52) - قوله: «من قيس بن جهينة» :
ويقال: الأسدي والأزدي، أبو طلحة، ويقال: أبو مريم، صحابي جليل، نزل دمشق، كان إسلامه قديما، وكان معاوية يسميه أسيد، وكان قوالا بالحق.
انظر ترجمته في:
الإصابة [7/ 104] ، أسد الغابة [4/ 269] ، المعرفة لأبي نعيم [4/ 2010] ، تهذيب الكمال [22/ 237] ، تاريخ ابن عساكر [46/ 337] ، طبقات ابن سعد [4/ 347، 7/ 412] ، معجم ابن قانع [10/ 3686] ، الاستيعاب [9/ 4] .
قوله: «خرجت حاجا في الجاهلية» :
القصة بطولها أخرجها الروياني في مسنده- كما في الجامع الكبير للسيوطي [2/ 583]- ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [46/ 344] ، وأبو القاسم الأصبهاني في الدلائل برقم 132- واللفظ له- والأزدي في الضعفاء- كما في اللسان [2/ 432]- جميعا من حديث إسماعيل بن عبد الله بن مسرع بن ياسر عن أبيه، عن جده: أن أباه ياسرا حدّثه عن عمرو بن مرو قال:
خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء لي جبل يثرب وأشعر وجهينة، فسمعت صوتا في النور وهو يقول: -(1/228)
سطح في الكعبة أضاء لي نخل يثرب وأشعر جبل جهينة، فانتبهت فسمعت صوتا يقول:
انقشعت الظلماء ... وسطع الضياء
وبعث خاتم الأنبياء ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن، وسمعت صوتا يقول:
أقبل حق فسطع ... ودمغ باطل فانقمع
-
انقشعت الظلماء ... وسطع الضياء
وبعث خاتم الأنبياء ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن فسمعت صوتا في النور وهو يقول:
ظهر الإسلام ... وكسرت الأصنام
ووصلت الأرحام فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله! ليحدثنّ في هذا الحي من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت! فلما انتهينا إلى بلادنا قيل: إن رجلا يقال له أحمد قد بعث، فخرجت حتى أتيته فأخبرته بما رأيت فقال لي: يا عمرو بن مرة! أنا النبي المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله عزّ وجلّ ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان- شهر من اثني عشر شهرا- من أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن بالله يا عمرو بن مرة! يؤمنك الله من هول جهنم، فقلت:
يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بما جئت به من حلال وحرام، وإن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام، وأنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم وكان أبي سادنه فقمت إليه فكسرته حتى لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: -(1/229)
قال: فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن بمكة حدث في هذا الحي من قريش، وأخبرتهم بما رأيت وما سمعت.
- شهدت بأن الله حق وأنني ... لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... أجوب إليه الوعث بعد الدكادك
لأصحب خير الناس نفسا وولدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك يا عمرو!، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ابعثني إلى قومي لعل الله أن يمنّ عليهم بي كما منّ عليّ بك، فبعثني إليهم فقال: عليك بالرفق، والقول السديد، ولا تك فظا، ولا متكبرا، ولا حسودا.
فأتيت قومي فقلت: يا بني رفاعة! بل يا معشر جهينة! إني رسول رسول الله إليكم، أدعوكم إلى الجنة، وأحذركم من النار، وآمركم بحقن الدماء وصلة الأرحام، وعبادة الله ورفض الأصنام، وحج البيت وصيام شهر رمضان- شهر من اثني عشر شهرا-، من أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، يا معشر جهينة! إن الله- ولله الحمد- جعلكم خيار من أنتم منه، وبغّض إليكم في جاهليتكم ما حبّب إلى غيركم من العرب: كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل على امرأة أبيه، والغزاة في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة، وسارعوا في ذلك يكن لكم فضيلة عند الله.
فأجابوا إلا رجلا منهم، فقال: يا عمرو! أمرّ الله عيشك! أتأمرنا أن نرفض آلهتنا، ونفارق جماعتنا، ونخالف دين آبائنا إلى ما يدعونا إليه هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا، ولا حبّا ولا كرامة، ثم أنشأ يقول:
إن ابن مرة قد أتى بمقالة ... ليست مقالة من يريد صلاحا
إني أرى من قوله وفعاله ... يوما وإن طال الزمان ذباحا
أتسفه الأشياخ ممن قد مضى ... من رام ذاك فلا أصاب فلاحا
-(1/230)
فلما انصرفنا إلى بلادنا جاءنا من يخبرنا أن رجلا من قريش يقال له: أحمد صلى الله عليه وسلم قد بعث، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول:
- فقال عمرو بن مرة: الكاذب مني ومنك أمرّ الله عيشه وأبكم لسانه وأكمه أسنانه، قال عمرو: والله! ما مات حتى سقط فوه، وكان لا يجد طعم الطعام وخرس.
فخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه، حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكتب لهم كتابا، هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب أمان من الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب صادق، ولسان ناطق مع عمرو بن مرة لجهينة بن زيد، إن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع الأودية وظهورها، ترعون نباته، وتشربون ما فيه على أن تقرّوا بالخمس، وتصلّوا صلاة الخمس، وفي التيعة والصريمة شاتان إذا اجتمعتا، وإن فرقتا شاة شاة، ليس على أهل الميرة صدقة، وليس للوارد التيعة، والله يشهد على ما بيننا، ومن حضر من المسلمين بكتاب قيس بن شماس.
فهذا حين يقول عمرو بن مرة:
ألم تر أن الله أظهر دينه ... وبين برهان القرآن لعامر
كتاب من الرحمن نور لجمعنا ... وأحلافنا في كل باد وحاضر
إلى خير من يمشي على الأرض كلها ... وأفضلها عند اعتكال الضرائر
أطعنا رسول الله لما تقطعت ... بطون الأعادي بالظماء الخواطر
فنحن قبيل قدبنى المجد حولنا ... إذا اختليت بالحرب هام الأكابر
بنو الحرب نفريها [ببيض كأنها] ... وميض تلالا في أكف المغاور
ترى حوله الأنصار يحمون سربهم ... بسمر العوالي والصفيح البواتر
* إسماعيل بن عبد الله بن مسرع لم أجد له ترجمة فيما لدي من المصادر، وأما أبوه فسكت عنه الحافظ في اللسان [3/ 357] .
ومسرع بن ياسر اختلف فيه فذكره بعضهم في الصحابة، منهم ابن الأثير، والحافظ في القسم الثاني من الإصابة، وتردد فيه الذهبي فذكره في-(1/231)
شهدت بأن الله حق وأنني ... لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... أجوب إليه القور بعد الدكادك
لآتي خير الناس نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك
- التجريد، وذكره في الميزان، وقال في المغني: مجهول، وعلى هذا ففي هذا الجزء من الإسناد غير واحد لا يعرف حاله.
وعزاه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 244] للطبراني وليس في المطبوع منهن.
وعزاه السيوطي في الخصائص لأبي نعيم وهو أيضا ليس في المطبوع منه.
ورويت قصته بإسناد آخر بلفظ مختصر، أخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 333] في وفد جهينة، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [46/ 343] ، وابن سيد الناس في المنح [/ 203] : أخبرنا هشام بن محمد، أنا خالد بن سعيد، عن رجل من جهينة من بني دهمان عن أبيه، وقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال عمرو بن مرة ... فذكره باختصار.
هشام بن محمد هو الكلبي، أحد الضعفاء، وفي الإسناد مبهم لم يسم ولم يعرف.(1/232)
[17- فصل: ذكر إسلام خفاف بن نضلة]
17- فصل: ذكر إسلام خفاف بن نضلة 53- وروت جمعة بنت ذابل بن الطفيل، عن أبيها ذابل بن طفيل بن عمرو الدوسي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد في مسجده منصرفه من الأباطل، فقدم عليه خفاف بن نضلة بن عمرو الثقفي فأنشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
كم قد تحطمت القلوص بي الدجى ... في مهمه قفر من الفلوات
فل من النوريس ليس بقاعة ... نبت من الأسنات والأزمات
إني أتاني في المنام مخبر ... من جن وجرة في الأمور موات
يدعو إليك لياليا ولياليا ... ثم احزأل وقال: لست بآتي
(53) - قوله: «فقدم عليه خفاف بن نضلة» :
هو ابن عمر بن بهدلة الثقفي، صحابي له وفادة، قال الحافظ في الإصابة:
أورد حديثه ابن مندة مختصرا.
وقال المرزباني في معجم الشعراء: وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشده هذه الأبيات.
قال الحافظ: قلت: وأخرجه أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى. اه.
وعزاه أيضا للمصنف وللبيهقي في الدلائل [2/ 260- 261] : السيوطي في الخصائص [2/ 199- 200] .
وانظر عن خفاف بن نضلة في: الإصابة [3/ 149] ، والمعرفة لأبي نعيم [2/ 986] ، وأسد الغابة [2/ 139] .
قوله: «ثم احزأل» :
تراجع وتثاقل.(1/233)
فركبت ناجية أضر بنفسها ... جمز تخب به على الأكمات
حتى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك فتفرج الكربات
قال: فاستحسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن من البيان كالسحر، وإن من الشعر كالحكم.
قوله: «ناجية» :
الناجية: السريعة، والجمز: العدو.(1/234)
[18- فصل: ذكر قصّة إسلام عبّاس بن مرداس]
18- فصل: ذكر قصّة إسلام عبّاس بن مرداس 54- كان سبب إسلام عباس بن مرداس أنه كان يغبر في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء، عليها راكب وعليه ثياب بيض مثل اللبن فقال لي:
يا عباس بن مرداس، ألم تر أن السماء كفت أحراسها، والحرب قد جرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الدين نزل بالبرّ والتقوى، يوم الإثنين ليلة الثلاثا، مع صاحب الناقة القصوى.
قال العباس بن مرداس: فرجعت مرعوبا، قد راعني ما رأيت وما سمعت، حتى جئت وثنا لنا يدعى: الضّماد- أو يقال: الصّماد- كنا نعبده، ونكلم من جوفه، فكنّست ما حوله، وقمصت، ثم تمسحت به وقبّلته، فإذا صائح يصيح من جوفه:
(54) - قوله: «عباس بن مرداس» :
هو السلمي، كنيته: أبو الهيثم، صحابي من المؤلفة، وممن حسن إسلامه منهم، انظر ترجمته في:
طبقات ابن سعد [4/ 271] ، المعجم لابن قانع [11/ 801] ، أسد الغابة [3/ 168] ، الإصابة [5/ 330] ، المعرفة لأبي نعيم [4/ 2222] ، الوافي بالوفيات [16/ 634] ، تاريخ ابن عساكر [26/ 402] .
قوله: «كان يغبر» :
المغبر: الطالب للشيء، قيل له ذلك لحرصه وعنايته في الطلب كأنه بذلك يثير الغبار من شدة حرصه في الطلب.(1/235)
هلك الضماد وكان يعبد مرة ... قبل الصلاة على النبي محمد
إن الذي جاء بالنبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد
قال: فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة، وأخبرتهم الخبر، فخرجت في ثلاثمائة نفر من قومي من بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلنا المسجد وسلمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولئك القوم من أصحابي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: يا عباس كيف كان سبب إسلامك؟ فقصصت عليه القصة، وحدثته بالحديث، فقال لي:
صدقت يا عباس، وأسلمت أنا والقوم، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي معهم.
قوله: «هلك الضماد» :
زيد في بعض الروايات بيتا قبله وهو:
قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الضماد وفاز أهل المسجد
قوله: «وأسلمت أنا والقوم» :
أخرج قصة إسلامه: الطبراني في مجمع الكبير- كما في مجمع الزوائد [8/ 274]-، وابن قانع في معجم الصحابة برقم 409، ولم يسق المتن، وابن عساكر في تاريخه [26/ 411- 412] ، وابن أبي الدنيا في الهواتف برقم 96، والخرائطي كذلك برقم 8، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [26/ 410- 411] ، جميعهم من حديث عبد الله بن عبد العزيز الزهري- ضعفه الجمهور- عن أخيه محمد بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي، عن العباس به، وعلقه أبو نعيم في المعرفة [4/ 2122] .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 247] : فيه عبد الله بن عبد العزيز الزهري ضعفه الجمهور، وبقية رجاله وثقوا. اه.(1/236)
.........
- قلت: وأخوه أيضا ضعيف.
وله طريقان آخران أخرجهما الحافظ أبو نعيم في الدلائل برقم 66، 67، في الأول عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو متروك، وشيخ شيخه قبيصة بن عمرو لا يعرف، وفي الثاني محمد بن عبد الرحمن البياضي اتهم بالكذب، وعزاه السيوطي في الخصائص أيضا [1/ 267] لابن جرير والمعافى بن زكرياء وابن الطراح في كتاب الشواعر.(1/237)
[19- فصل: ذكر إسلام زمل بن ربيعة]
19- فصل:
ذكر إسلام زمل بن ربيعة 55- كان لبني عذرة بن زيد صنم يقال له: حمام، وكان سادنه رجل يقال له: طارق- من بني هند بن حرام بن عذرة-، فكانوا يذبحون له.
قوله: «زمل بن ربيعة» :
ويقال: زمل بن عمرو بن عنز بن خشاف العذري، يقال له: زميل- مصغرا- له وفادة، وحديثه أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 332] ، ومن طريقه ابن سيد الناس في المنح [/ 109- 110] ، وتمام في فوائده [1/ 82] رقم 167، وابن عساكر في تاريخه [11/ 489- 490، 19/ 77] .
ومن طريق ابن سعد أخرجه: ابن أبي جرادة في بغية الطلب [8/ 3837، 3839] ، وابن عساكر في تاريخه [19/ 77] .
(55) - قوله: «كان لبني عذرة» :
كذا في الأصول، القصة غير مسندة، وقال الحافظ في الإصابة: أخرجه أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى من طريق أبي حاتم السجستاني، عن أبي عبيدة، عن الشرقي لكن قال: عن مدلج العذري، عن أبيه، عن زميل بن ربيعة به. اه. وهو عندنا ليس بمسند ولا بقوله زميل مصغرا، بل الذي قال ذلك هو ابن سعد في الطبقات بالإسناد الذي ذكره الحافظ.
قال أبو عاصم: اجتهد بعض المعاصرين في إبطال القصة لظلمة طرقها وضعف أسانيدها ونحن لا نخالفه في أن طرقها ضعيفة، بل نخالفه فيما يطلبه من صحة الإسناد في كل خبر إذ هو متعذر سيما في القصص والأخبار والسير، وإنما يعول في مثل هذا على الشهرة، لا الإسناد، وقد قال-(1/238)
قال زمل بن ربيعة: فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا من جوفه منطقا يقول:
يا بني هند بن حرام ... ظهر الحق وأوذي حمام
ودفع الشرك بالإسلام قال: ففزعنا لذلك وهالنا، ثم سمعت بعد أيام صوتا من الصنم يقول:
يا طارق يا طارق ... بعث النبي الصادق
جاء بوحي ناطق
صدع صادع بتهامه ... لنا صريه السلامه
لخاذليه الندامه ... هذا الوداع مني إلى القيامه
قال: ثم وقع الصنم لوجهه فتكسر.
قال زمل: فخرجت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال: ذلك كلام الجن المؤمن، فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا، وعقد لزمل لواء، وقال زمل:
إليك رسول الله أعملت نصها ... أكلفها حزنا وقوزا من الرمل
لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا ... وأعقد حبلا من حبالك في حبلي
وأشهد أن الله لا شيء غيره أدين له ... ما أثقلت قدمي نعلي
- أبو حاتم الرازي- وهو الذي تعرف في هذا الفن- وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بصوت سمع من صنم، فهذا إثبات منه لأصل القصة لم ينظر إلى طرق إسنادها وما فيها من الضعف.
قوله: «ما اثقلت قدمي نعلي» :
زاد في رواية: ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر العرب، إني رسول الله إلى الأنام كافة، أدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإني رسوله وعبده، وأن يحجوا-(1/239)
قال: فشهد زمل بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم صفين مع معاوية، وقتل يوم مرج راهط.
- البيت، ويصوموا شهرا من اثني عشرا- وهو شهر رمضان- فمن أجابني فله الجنة نزلا وثوابا، ومن عصاني فله النار منقلبا ومثوى، قال: فأسلمنا، وعقد لنا لواء وكتب لنا كتابا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله رسول الله لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة، إني بعثته إلى قومه كافة، فمن أسلم ففي حزب الله ورسوله ومن أبى فله أمان شهرين.
شهد علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة الأنصاري.
قال الحافظ ابن عساكر: غريب جدّا.
قوله: «فشهد زمل بلواء رسول الله صلى الله عليه وسلم صفين مع معاوية» :
زاد ابن سعد في الطبقات [1/ 332] : ثم شهد به المرج فقتل.
وممن ذكر شهوده صفين أيضا: ابن جرير في تاريخه [5/ 54] وخليفة بن خياط فيما رواه عنه ابن أبي جرادة في بغية الطلب [8/ 3841] ، وابن عساكر في تاريخه [19/ 79] بإسنادهما إليه، والدارقطني في المؤتلف والمختلف [2/ 619] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [19/ 78] ، وابن أبي جرادة في بغية الطلب [8/ 3839] .(1/240)
[20- فصل: ذكر قصّة أكثم بن صيفي]
20- فصل: ذكر قصّة أكثم بن صيفي 56- ويروى عن عبد الملك بن عمير أنه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا:
كنت كبيرنا وقد طعنت في السن، ونخشى عليك في خروجك، قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه، قال: فانتدب رجلين (56) - قوله: «أكثم بن صيفي» :
قال أبو نعيم في المعرفة: وهو ابن عبد العزى بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، من ولد كعب بن عمرو، هكذا نسبه، وذكر هذا النسب ابن الأثير في ترجمة أكثم ابن الجون- أو: ابن أبي الجون- وقال: هكذا نسبه هشام، وتبعهما الحافظ في الإصابة، أما ابن مندة فتبع أبا نعيم لكنه جعل ابن صيفي وابن أبي الجون واحدا.
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: أكثم بن صيفي بن رياح بن الحارث ابن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم التميمي، الحكيم المشهور. اه. اختلف في صحبته ولم يختلف في إدراكه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عند جماعة أنه مات ولما يسلم، منهم ابن عبد البر حيث انتقد على ابن السكن إدخاله في الصحابة فقال: ذكره ابن السكن في الصحابة فلم يصنع شيئا والخبر الذي ذكره- يعني حديث الباب- ليس فيه ما يدل على إسلامه، وتعقبه الحافظ في الإصابة فقال: أخرج حديثه الأموي في المغازي وزاد فيه: أنه قرب له بعيره فركب متوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قال: ويقال: فيه نزلت هذه الآية وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ الآية، قال: فهذا لو صح لكان-(1/241)
فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟
وما أنت؟ وما جئت به؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله ورسوله، قال:
ثم تلا عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، قالوا: ردّد علينا هذا القول، فردّده عليهم حتى حفظاه.
فأتيا أكثم بن صيفي فقالا: أبى أن يرفع في نسبه، فسألناه عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، واسطا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد- حجة على ابن عبد البر في كونه أسلم ويكون على شرطه في إخراج أمثاله في كتابه ممن لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد وجدت له شاهدا ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين عن عمرو بن محمد السعدي، عن عامر الشعبي سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: نزلت في أكثم بن صيفي، قلت: فأين الليثي؟ قال: كان هذا قبل الليثي بزمان، وهي خاصة عامة، قال: وقد قال العسكري في الصحابة في فصل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه: روى أهل الأخبار أنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر قصته.
قال الحافظ: ثم وجدت قصة أكثم هذه التي أشار إليها العسكري في كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني ثم ساقها وقال: وفيها التصريح بإسلامه، والله أعلم. وقال الحافظ الذهبي في التجريد: أدرك الإسلام ولم يسلم، وقد ذكره أبو نعيم في الصحابة فأخطأ، له ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم كثناء قيصر، وانظر ترجمته في:
الإصابة [1/ 95، 180] ، أسد الغابة [1/ 133، 134] ، المعرفة لأبي نعيم [1/ 342] ، تجريد أسماء الصحابة [1/ 27] الترجمة رقم 232، الإنابة لمغلطاي [1/ 82] .(1/242)
حفظناهن، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذنابا، كونوا فيه أولا، ولا تكونوا فيه آخرا، فلم يلبث أن حضرته الوفاة.
قوله: «فلم يلبث أن حضرته الوفاة» :
زاد غيره: فقال: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم فإنه لا يبلى عليهما أصل، ولا يهتصر عليهما فرع، وإياكم ونكاح الحمقاء فإن صحبتها قذر، وإياكم وأعيان الإبل فإن فيها غذاء الصغير، وجبر الكسير، وفكاك الأسير ومهر الكريمة، واعلموا أن سوء حمل الغنى يورث مرحا، وإن سوء حمل الفقر يضع الشرف، وإن العدم عدم العقل لا عدم المال، وإن الوحشة في ذهاب الأعلام، واعلموا أنه لن يهلك امرؤ عرف قدره، واعلموا أن مقتل الرجل بين لحييه، يا قوم لا تكونوا كالواله، ولا تواكلوا الرفد، فإن تواكل الرفد علم للخذلان، وداعية للحرمان، ومن سأل فوق القدر، استحق المنع، واعلموا أن كثير النصح يهبط على كثير الظنة، وإن قول الحق لم يترك لي صديقا.
أخرجه أبو نعيم في المعرفة [1/ 342- 343] من طريق المقدمي، عن علي ابن عبد الملك بن عمير، عن أبيه به، رقم 1065 مرسل.
وكذلك أخرجه ابن السكن- كما في الإصابة-: حدثنا ابن صاعد، حدثنا الحسن بن داود، عن محمد بن المنكدر، عن المقدمي به.
وقال الأموي في المغازي: حدثنا عمي، عن عبد الله بن زياد، حدثني بعض أصحابنا عن عبد الملك بن عمير به، وفيه الزيادة التي أشرنا إليها قريبا، وفيها أنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومات في الطريق.(1/243)
[21- فصل: ذكر قصّة إسلام عبد بن عمرو بن جبلة وعصام بن عامر الكلبي]
21- فصل: ذكر قصّة إسلام عبد بن عمرو بن جبلة وعصام بن عامر الكلبي 57- قال عبد بن عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبي: كان لنا صنم يقال له: عمرة، وكنا نذبح له في كل أيامنا، وكان جميع بني عامر بن عوف يعظمونه إلا من كان من النصارى.
قال: فعترنا عتيرة ذات يوم بقرة، وكان الذي يسدنه رجل من بني عامر بن عوف يقال له: عصام، فسمعنا صوتا من جوف الصنم يقول:
يا عصام يا عصام ... جاء الإسلام وذهبت الأصنام
وحقنت الدما ووصلت الأرحام قال: ففزعت لذلك وقلت: ما هذا؟! قال: فمكثنا أياما ثم عترنا عنده عتيرة أخرى فسمعنا منه صوتا أبين من الأول، وكان عبد بن عمرو ابن جبلة يسمى بكرا، فقال:
(57) - قوله: «قال عبد بن عمرو» :
عبد بن عمرو بن جبلة وعصام بن عامر الكلبي لم أر من ذكرهما في الصحابة سوى الحافظ ابن حجر في الإصابة، وأورد رواية المصنف فقال:
روى أبو سعيد- كذا- النيسابوري في شرف المصطفى ... فذكره باختصار، في ترجمة عصام بن عامر الكلبي، وقال في ترجمة عبد بن عمرو ابن جبلة، يأتي ذكره في عصام، لكن أخرج القصة ابن سعد في الطبقات، ومن طريقه ابن سيد الناس في المدح [/ 180- 181] .(1/244)
يا بكر يا بكر بن جبل ... جاء النبي المرسل
يصدقه المطمعون في المحل ... أرباب يثرب ذات نخل
ويكذبه أهل نجد وتهامة ... وأهل فلج واليمامة
قال عبد بن عمرو: فشخصت أنا وعصام حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بما سمعنا ودعانا إلى الإسلام فأسلمنا، فقال عبد بن عمرو:
أجبت رسول الله إذ جاء بالهدى ... فأصبحت بعد الجحد لله أوجرا
وودعت لذات القداح وقد أرى بها ... سدى عمري واللهو أضررا
فآمنت بالله العلي مكانه ... فأصبحت للأوثان ما عشت منكرا
قوله: «وأهل فلج» :
موضع باليمامة.(1/245)
[22- فصل: ذكر قصّة إسلام جندل بن نضلة]
22- فصل: ذكر قصّة إسلام جندل بن نضلة 58- روى جندل بن نضلة أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله كنت شاعرا راجزا، وكان لي صاحب من الجن فأتاني فدهمني وقال:
هب فقد لاح سراج الدين ... بصادق مهذب أمين
فارحل على ناجية أمون ... تمشي على الصحصح والحزون
قال: فانتبهت مذعورا فقلت: ماذا؟ قال:
وساطح الأرض ... وفارض الفرض
لقد بعث محمد ... في الطول والعرض
نشأ في الحرمات العظام وهاجر إلى طيبة الأمينة قال: فسرت، فإذا أنا بهاتف يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... نحو الرسول لقد وفقت للرشد
(58) - قوله: «روى جندل بن نضلة» :
ويقال: جندلة بن نضلة بن عمر بن بهدلة ذكروه في الصحابة، وقال أبو عمرو ابن عبد البر: حديثه في أعلام النبوة حديث حسن. اه.
وانظر:
الإصابة [2/ 110- 111] ، الاستيعاب [2/ 217] ، أسد الغابة [1/ 365] ، تجريد أسماء الصحابة [1/ 92] الترجمة رقم 864.(1/246)
قال: فإذا هو صاحبي من الجن، فذكر القصة إلى أن قال: فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم.
قوله: «فأسلم» :
قال الحافظ في الإصابة: أخرجه أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى، وأورده أيضا السيوطي في الخصائص [1/ 262- 263] وعزاه للمصنف.(1/247)
[23- فصل: ذكر قصّة مازن أبي حيّان، وسبب إسلامه ووفوده على النّبيّ صلى الله عليه وسلم]
23- فصل: ذكر قصّة مازن أبي حيّان، وسبب إسلامه ووفوده على النّبيّ صلى الله عليه وسلم 59- ذكروا أن مازنا كان بأرض عمان- بقرية تدعى: سنابل- وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له: ناجز.
قال مازن: فعترت ذات يوم عتيرة- وهي الذبيحة- فسمعت صوتا من الصنم يقول:
يا مازن أقبل إليّ أقبل ... تسمع ما لا يجهل
هذا نبي مرسل ... جاء بحق منزل
فآمن به كي تعدل ... عن حر نار تشعل
وقودها بالجندل (59) - قوله: «أن مازنا:
هو مازن بن الغضوبة بن غراب بن بشر الطائي، جد علي بن حرب بن محمد بن علي بن حيان بن مازن بن الغضوبة، مذكور في الصحابة، وضعف ابن حبان ذلك بقوله: يقال: له صحبة، قال ابن عبد البر: خبره عجيب مخرج في أعلام النبوة من حديث ابن الكلبي، عن أبيه، وقال ابن الأثير: خبره في أعلام النبوة من أخبار الكهان، وانظر:
الإصابة [9/ 30] ، أسد الغابة [5/ 6] ، المعرفة لأبي نعيم [5/ 2588] ، تجريد أسماء الصحابة [2/ 40] الترجمة رقم 436، معجم ابن قانع [14/ 5005] ، الثقات [3/ 407] ، الإنابة لمغلطاي [2/ 133] .(1/248)
قال مازن: فقلت: إن هذا والله لعجبا، ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت منها صوتا أبين من الأول وهو يقول:
يا مازن اسمع تسر ... ظهر خير وبطن شر
بعث نبي من مضر ... بدين الله الأكبر
فدع نحيتا من حجر ... تسلم من حر سقر
قال مازن: فقلت: إن هذا لعجبا، وإنه لخير يراد بي.
قال: وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ قال:
قد خرج رجل بتهامة يقول لمن جاءه: أجيبوا داعي الله، يقال له:
أحمد، فقلت: هذا والله نبأ ما سمعت، فثرت إلى الصنم فكسرته أجذاذا، وشددت راحلتي، ورحلت حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرح لي الإسلام، فأسلمت، وأنشأت أقول:
كسرت ناجزا أجذاذا وكان لنا ... ربّا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منا على بال
يا راكبا بلّغن عمرا وإخوته ... إني لما قال ربي ناجز قال
يعني بعمرو: ابن الصلت، وبإخوته: بني خطامة.
قال: فقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك من النساء، وألحّت علينا السّنون، فأذهبت الأموال، واهزلن قوله: «بلغن عمرا» :
يعني ابن الصلت، كذا عند الطبراني، وتصحفت عندنا كلمة ابن الصلت- الآتية- فصارت هكذا: الضب- اسم الحيوان-، وفي دلائل البيهقي: يعني بعمرو وإخوته: بني خطامة.(1/249)
الذراري والرجال، وليس لي ولد، فادع الله يذهب عني ما أجد، ويأتيني بالحياء، ويهب لي ولدا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وآته الحياء، وهب له ولدا.
قال مازن: فأذهب الله عني كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لي حياءا، وأنشأ يقول:
إليك رسول الله حنت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى ... فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم فلا ... رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرؤا باللعب والخمر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
فأصبحت همي في حياء ونيتي ... فلله ما صومي ولله ما حجي
قال مازن: فلما رجعت إلى قومي أنّبوني، وشتموني، وأمروا شاعرهم بهجائي، فقلت: فإن هجوتهم فإنما أهجو نفسي.
قوله: «فأصبحت همي» :
زاد بعضهم قبل هذا بيتا، ونصه:
فبدّلني بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي
قوله: «فإنما أهجو نفسي» :
زاد في رواية: فاعتزلهم إلى ساحل البحر وقال:
وبغضكم عندنا مرمدا فيه ... وبغضكم عندنا يا قومنا لئن
فلا يعطن الدهر إن نشب معايبكم ... وكلكم يبدو عيبا فطن
-(1/250)
.........
- شاعرنا معجم عنكم وشاعركم ... في حربنا مبلغ شتمنا لسن
ما في القلوب عليكم فاعلموا وتمر ... وفي صدوركم البغضاء والإحن
قال: فأتتني منهم أزفلة عظيمة فقالوا: يا ابن عم عبنا عليك أمرا وكرهناه لك، فإن أبيت فشأنك ودينك، فارجع فأقم أمورنا، قال: فكنت القيم بأمورهم، فرجعت معهم ثم هداهم الله بعد إلى الإسلام.
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير [20/ 337] رقم 799، وفي الطوال برقم 62، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 114] رقم 63، والخطابي في الغريب [1/ 447] ، وابن قانع في معجم الصحابة [14/ 5005] رقم 1969 كلاهما بلفظ مختصر، وأبو موسى المديني، ومن طريقه ابن الأثير في الأسد [5/ 6] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 255] ، وابن سيد الناس في المدح [/ 307] .
قال الحافظ في ترجمته من الإصابة: أخرجه- يعني الحديث- الفاكهي في كتاب مكة، وابن السكن، كلهم من طريق هشام بن الكلبي عن أبيه قال:
حدثني عبد الله العماني.
وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 248] : رواه الطبراني من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، وكلاهما متروك.(1/251)
[24- فصل: ذكر قصّة الجعد بن قيس المرادي]
24- فصل: ذكر قصّة الجعد بن قيس المرادي 60- وقال الجعد بن قيس المرادي- وكان قد بلغ مائة سنة- خرجنا أربعة نفر نريد الحج في الجاهلية، فمررنا بواد من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي، وعقلنا رواحلنا، فلما هدأ الليل ونام أصحابي إذا هاتف من بعض أرجاء الوادي يقول:
ألا أيها الراكب المعرس بلغوا ... إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما
محمدا المبعوث منا تحية ... تشيعه من حيث سار ويمما
وقولوا له إنا لدينك شيعة ... بذلك أوصانا المسيح ابن مريما
(60) - قوله: «وقال الجعد بن قيس» :
الشاعر، أحد بني غطيف، ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة [2/ 83] ، ثم أخرج النص معزوا للمصنف هو والسيوطي في الخصائص [1/ 270- 271] ، والنبهاني في جواهر البحار [1/ 192] .(1/252)
[25- فصل: ذكر قصّة إسلام ذباب بن الحارث]
25- فصل: ذكر قصّة إسلام ذباب بن الحارث 61- قال ذباب بن الحارث: كان لسعد العشيرة صنم يقال له:
قراص، يعظمونه، وكان سادنه رجل من أنس الله بن سعد يقال له:
ابن وقشة- وكان له رئي من الجن يخبره بما يكون- (61) - قوله: «قال ذباب بن الحارث» :
هو ابن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ربيعة بن بلال بن أنس الله بن سعد العشيرة المذحجي، قال الحافظ في الإصابة: أغفله ابن منده في الصحابة فاستدركه أبو موسى، قال: روى ابن شاهين من طريق ابن الكلبي، حدثنا الحسن بن كثير، حدثني يحيى بن هانئ بن عروة، عن أبي خيثمة، عن عبد الرحمن بن أبي سبرة قال: حدثني ذباب بن الحارث قال: فذكر القصة.
قال الحافظ: وأخرجه ابن منده في دلائل النبوة له من هذا الوجه، وأغفله في الصحابة، ورواه المعافى في الجليس عن ابن دريد بإسناد آخر قال:
حدثنا السكن بن سعيد، عن عباس بن هشام بن الكلبي، عن أبيه.
وذكره البيهقي في الدلائل معلقا.
وروى ابن سعد عن ابن الكلبي، عن أبيه، عن سلمة بن عبد الله ابن شريك النخعي، عن أبيه قال: كان عبد الله بن ذباب الأنسي مع علي بصفين وكان له غنا. اه.
ومن طريق ابن سعد أخرج القصة ابن سيد الناس في المنح [/ 98] ، وانظر:
الإصابة [3/ 206] ، تجريد أسماء الصحابة [1/ 167] الترجمة رقم 1730، أسد الغابة [2/ 167] .
قوله: «وكان له رئي من الجن» :
الرئي: الصديق منهم، الذي يأتي الإنس بالأخبار، تصحفت في إصابة-(1/253)
فأتاه ذات يوم فأخبره بشيء فنظر إليّ فقال:
يا ذباب يا ذباب ... اسمع العجب العجاب
بعث محمد بالكتاب ... يدعو بمكة ولا يجاب
فقلت: ما هذا؟ فقال: لا أدري، كذا قيل لي، قال: فلم يكن إلا قليل حتى سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم فثرت إلى الصنم فكسرته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فقال ذباب:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت قراصا بدار هوان
شددت عليه شدة فتركته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان
ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعاني
وأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت عنه كلكلي وجران
فمن مبلغ سعد العشيرة أنني شربت ... الذي يتقي بآخر فان
- ابن حجر إلى: رئيس.
قوله: «قراصا» :
قراص، بالقاف في أصلنا، وفي الإصابة بالفاء.(1/254)
[26- فصل: ذكر إسلام رافع بن خداش]
26- فصل: ذكر إسلام رافع بن خداش 62- روي أن جندع بن الصّميل أتاه آت فقال له:
يا جندع بن صميل أسلم تسلم ... وتغنم من حر نار تضرم
فقال: ما الإسلام؟ قال:
البراء من الأصنام ... والإخلاص للملك العلّام
قال: كيف السبيل إليه؟ قال:
إنه قد اقترب ... ظهور ناجم من العرب
كريم النسب ... غير خامل النسب
يطلع من الحرم قال: فأخبر بذلك ابن عمه رافع بن خداش فاصطحبا، فلما وصل جندع إلى نجران مات بها، وأقام رافع بن خداش، فلما بلغه مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء فأسلم.
(62) - قوله: «وأقام رافع بن خداش» :
ذكره الحافظ في الإصابة، وأورد قصة الباب فقال: ذكره أبو سعيد- كذا- النيسابوري في شرف المصطفى، وأخرج بسند ضعيف. وذكر القصة. اه.
وأوردها أيضا السيوطي في الخصائص [1/ 271] وعزاها للمصنف وحده وضعف إسنادها، والظاهر أنه لكونها معلقة غير مسندة، والله أعلم.(1/255)
[27- فصل: ذكر قصّة إسلام أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه]
27- فصل: ذكر قصّة إسلام أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه 63- أخبرنا أبو سعيد: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصير بن عطاء بن واصل القرشي قراءة عليه، ثنا أبو يعقوب: يوسف بن قوله: «ذكر قصة إسلام أبي ذر الغفاري» :
اسمه: جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار الغفاري، أحد السابقين الأولين، من نجباء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان خامس خمسة في الإسلام، ورأسا في الزهد والعلم والعمل، قوالا بالحق، من أهل الصدق والإخلاص، ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، قال الحافظ الذهبي: على حدّة فيه.
انظر أخباره وسيرته في:
طبقات ابن سعد [4/ 219] ، المستدرك للحاكم [3/ 337] ، أسد الغابة [1/ 357، 6/ 99] ، حلية الأولياء [1/ 156] ، الإصابة [11/ 118] ، مجمع الزوائد [9/ 327] ، تاريخ ابن عساكر [66/ 174] ، تهذيب الكمال [33/ 294] ، أنساب الأشراف [4/ 541] ، المعجم الكبير للطبراني [2/ 155] ، كنز العمال [13/ 311] ، سير أعلام النبلاء [2/ 46] ، المعرفة لأبي نعيم [2/ 557] ، الاستيعاب [2/ 169] .
(63) - قوله: «ابن واصل القرشي» :
الرازي، قال عنه الحافظ الذهبي: الشيخ المعمر الزاهد، شيخ الصوفية، مسند الوقت، ونزيل نيسابور، حدث عنه الحاكم، وقال: جاور مكة، وقصد أبا علي الزاهد ليصحبه ... ولم يزل كالريحانة عند مشايخ الصوفية ببلدنا. -(1/256)
عاصم بن عبد الله البزار الرازي، ثنا هدبة بن خالد القرشي، ثنا سليمان ابن المغيرة، ثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال:
قال أبو ذر: خرجنا من قومنا من غفار- وكانوا يحلون الشهر الحرام- فخرجت أنا وأخي أنيس وأمّنا فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومنا فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فأفشى علينا الذي قيل له، فقلت: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدّرته، ولا جماع لك فيما بعد، وقربنا صرمتنا فاحتملنا وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي.
فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخيّر أنيسا بصرمتنا ومثلها معها، قال: - قال الحافظ الذهبي: حديثه مستقيم، ولم أر أحدا تكلم فيه، وسماعه من ابن الضريس ينبغي أن يكون وله ستة أعوام.
سير أعلام النبلاء [16/ 427] ، الوافي بالوفيات [17/ 490] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 382- ص 52] ، النجوم الزاهرة [4/ 163] ، العبر [3/ 21] ، الشذرات [3/ 103] ، تاريخ دمشق [32/ 252] .
قوله: «البزار الرازي» :
ذكره الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام فيمن توفي سنة 298، وقال: ثقة، رحل وسمع هدبة، وابن نمير، وسويد بن سعيد، وعنه: أبو سعيد الرازي، وعلي بن أحمد بن صالح وجماعة.
قوله: «ثنا هدبة بن خالد القرشي» :
أحد الثقات من رجال الشيخين، هو ومن فوقه غير أن عبد الله بن الصامت حديثه عند البخاري في التعاليق وهو ثقة، والحديث عند مسلم كما سيأتي.(1/257)
وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجّه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث عليّ، ثم جاء فقلت: فيم جئت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟
قال: يقولون: شاعر كاهن- وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على حد الشعر فما يلتئم على لسان أحد، إنه مبعوث، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: اكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فأبصرت رجلا منهم فقلت: أين هو الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إليّ فقال: الصابئ؟ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ.
قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، وقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين ما بين يوم وليلة ما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسر عليّ عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إساف ونائلة، قال: فأتيا عليّ في طوافهما، فقلت: أنكحا إحداهما الآخر، فما تناهيا عن قولهما، فأتيا عليّ فقلت: هنا مثل الخشبة- غير أني لا أكني-، فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا؟ فاستقبلهما(1/258)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطات قال: فما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: فما قال لكما؟ قالت: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم.
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر، ثم طاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، قال أبو ذر: فلما قضى صلاته كنت أول من حيّاه بتحية أهل الإسلام، فقال: وعليك ورحمة الله، ثم قال: من أنت؟
قلت: من غفار، وأهوى بيده، فوضع أصابعه على جبهته- فقلت في نفسي: كره أني انتميت إلى غفار-، فذهبت آخذ بيده فقرعني صاحبه- وكان أعلم به مني-، ثم رفع رأسه فقال: متى كنت ههنا؟ قلت:
يا رسول الله كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّر عليّ عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنها مباركة، إنها طعام طعم، قال أبو بكر: يا رسول الله إيذن لي في إطعامه الليلة، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، قال: فانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها.
قال: ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ قال: فأتيت أنيسا فقال:
ما صنعت؟ قلت: قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقتك، قال: فأتينا أمنا فقالت: ما لي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقتك، قال: فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفار فأسلم(1/259)
نصفهم- وكان يؤمهم إيمان بن رخصة، وكان سيدهم- قال: وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فقدم فقالوا: يا رسول الله إخواننا يسلمون على الذي أسلمنا عليه فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.
قوله: «غفار غفر الله لها» :
أهل الحديث يفرقون قصة إسلام أبي ذر على الأبواب، أخرج منها مسلم هذا القدر في صحيحه كما بينته في كتابنا فتح المنان شرح المسند الجامع لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن تحت رقم 2683، 2803.
وأخرجا قصة إسلام أبي ذر أيضا بنحوه من طريق المثنى بن سعيد، عن أبي حمزة، عن ابن عباس، أخرجه البخاري في المناقب، باب قصة زمزم، رقم 3522، وفي مناقب الأنصار، باب إسلام أبي ذر رقم 3861، ومسلم في فضائل الصحابة برقم 1923، 1924.(1/260)
[28- فصل: ذكر قصّة إسلام سلمان الفارسي]
28- فصل: ذكر قصّة إسلام سلمان الفارسي 64- قال ابن عباس: حدثني سلمان- حدثه من فيه- قال:
كنت رجلا مجوسيا من أهل أصبهان، قال: وكان أبي دهقان قرية، قوله: «ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي» :
هو سلمان الخير، وسلمان بن الإسلام، أبو عبد الله سابق الفرس إلى الإسلام، الفارسي الجليل، والصحابي النبيل، سيأتي في باب الفضائل شيء من فضائله المروية، قال الحافظ الذهبي في السير: كان لبيبا من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم.
انظر أخباره وسيرته في:
تاريخ ابن عساكر [21/ 373] ، حلية الأولياء [1/ 185] ، سير أعلام النبلاء [1/ 505] ، مجمع الزوائد [9/ 332] ، كنز العمال [13/ 421] ، طبقات ابن سعد [6/ 16، 7/ 318] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 226] ، تهذيب الكمال [11/ 245] ، أسد الغابة [2/ 417] ، المعرفة لأبي نعيم [3/ 1327] ، تاريخ بغداد [1/ 163] ، الإصابة [4/ 223] ، الاستيعاب [4/ 221] ، التاريخ الكبير [4/ 135] ، مسند الإمام أحمد [5/ 437] .
(64) - قوله: «قال ابن عباس» :
أخرج حديثه عن سلمان: ابن إسحاق في سيرته [/ 87] ومن طريقه الإمام أحمد في مسنده [5/ 441] ، وابن سعد في الطبقات [4/ 75] ، والطبراني في معجمه الكبير [6/ 272] رقم 6065، وأبو نعيم في المعرفة [3/ 1328] رقم 3343، 3351 اختصره، والبيهقي في الدلائل [2/ 92] ، وابن عساكر-(1/261)
وكنت أحب الخلق إليه، فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، قال: وكنت قد اجتهدت في المجوسية، قاطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو اجتهادا في ديني.
قال: وكانت لأبي ضيعة في بعض عمله، وكان يعالج بنيانا له في داره، فدعاني فقال: أي بني، قد شغلني بنياني كما ترى فانطلق إلى ضيعتي هذه ولا تحتبس علي فإنك إن احتبست عليّ شغلتني عن كل ضيعة وكنت أهمّ إليّ مما أنا فيه.
قال: فخرجت فمررت بكنيسة للنصارى وهم يصلون فيها فسمعت صلاتهم فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فو الله ما زلت عندهم قاعدا وأعجبني دينهم وما رأيت من صلاتهم، وأخذوا بقلبي فأحببتهم حبا لم أحبه شيئا قط، فكنت لا أخرج قبل ذلك ولا أدري ما أمر الناس، فقلت: هذا والله خير من ديننا، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، - في تاريخه [21/ 384- 385] قال في مجمع الزوائد [9/ 336] :
رواه أحمد كله والطبراني في الكبير بأسانيد وإسناد الرواية الأولى عندهما رجالها رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، ورجال الرواية الثانية انفرد بها أحمد ورجالها رجال الصحيح غير عمرو بن أبي قرة وهو ثقة، ورواه البزار.
وانظر طرقها وألفاظها الأخرى عند: ابن إسحاق في السيرة [/ 92] ، وابن سعد في الطبقات [4/ 75، 80، 81] ، والحاكم في المستدرك [3/ 599] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 98، 99] ، وابن عساكر في التاريخ [21/ 380، 383، 394] ، والطبراني في الطوال برقم 8، والبزار [3/ 268 كشف الأستار] رقم 2726.
ولمزيد من الطرق والألفاظ انظر خصائص السيوطي [1/ 45- 55] .(1/262)
وتركت حاجة أبي الذي أرسلني إليها، وما رجعت إليه حتى بعث الطلب في أثري، فلم يظفروا بي بعد كثرة طلبهم إياي، ثم لما رأيت من هيئتهم في أمر دينهم سألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فلما أتيت أبي قال: يا بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ألا تحتبس عليّ؟
فقلت: بلى يا أبة، ولكني مررت على كنيسة للنصارى فأعجبني ما رأيت من أمرهم وحسن صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديني، قال:
كلا يا بني، إن ذلك دين لا خير فيه، دينك ودين آبائك خير منه، قال:
قلت: كلا والله، لهذا خير، قال: فأردت أن أذهب من عنده فكبلني ثم حبسني، فأرسلت إلى النصارى فأخبرتهم أني قد رضيت أمرهم، وقلت: إذا قدم ركب عليكم من الشام فأخبروني بهم أذهب معهم، قال:
فقدم عليهم ركب من تجار الشام فأخبروني وأرسلوا إلي، فأرسلت إليهم إذا أرادوا الرجعة فآذنوني، فلما أرادوا الخروج أرسلوا إلي أن الركب منطلقون، قال: فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت حتى جئتهم، وانطلقت معهم، فلما قدمت الشام سألت عن عالمهم فقالوا: صاحب الكنيسة أسقفهم، فدخلت عليه فأخبرته خبري، وقلت: إني أحب أن أكون معك في الكنيسة، أخدمك وأصلي معك وأتعلم منك، فإني قد رغبت في دينك، فقال: أقم.
قال: فكنت في الكنيسة أتفقه في نصرانيته، وكان رجلا سوافا، فاجرا في دينه، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه الأموال اكتنزها لنفسه، فكنت أبغضه لما أرى من فجوره، وقد جمع سبع قلال دنانير ودراهم، ثم إنه مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم:
أتعلمون أن صاحبكم هذا رجل سوء؟ كان يأمركم بالصدقة فإذا جئتموه(1/263)
بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين شيئا، قالوا: فما علامة ذلك؟
قلت: أدلكم على كنزه، قالوا: أنت وذاك، فدللتهم عليه، فأخرجوا قلالا ذهبا وورقا مملوءة، فلما رأوها قالوا: لا والله لا نغيبه أبدا، فصلبوه على شجرة، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، قال:
فجعلوه مكانه، قال سلمان: ما رأيت رجلا أفضل منه في دينه زهادة في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه اجتهادا في العبادة، فأقمت معه، وأحببته حبا ما أعلم أني أحببت شيئا قط مثله، وكنت معه أخدمه وأصلي معه في الكنيسة حتى حضرته الوفاة فقلت له:
يا فلان إني كنت معك، ما أحببت حبك شيئا قط فإلى من توصي بي، وما الذي تأمرني فإني متبع أمرك، ومصدق حديثك، فقال: يا بني ما أعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلا رجلا بالموصل يقال له: فلان، فإني وإياه كنا على أمر واحد في الرأي والدين، فإنه رجل صالح، وستجد عنده بعض ما كنت ترى مني، فأما الناس فقد بدّلوا وأهلكوا فالحق به.
قال: فلما توفي لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري فقال:
أقم، فكنت معه في الكنيسة فوجدته كما قال صاحبي رجلا صالحا، فمكثت معه ما شاء الله، ثم حضرته الوفاة فقلت: يا فلان إن فلانا أوصاني إليك حين حضرته الوفاة، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ فإني متبع أمرك ومصدق حديثك، قال:
يا بني ما أعلم أحدا على أمرنا إلا رجلا بنصيبين يقال له: فلان فالحق به، فلما توفي لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه صاحباه، فكنت معه ما شاء الله،(1/264)
ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان صاحب الموصل، وأوصى بي صاحب الموصل إليك، فإلى من توصي بي بعدك؟ قال: يا بني ما أعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم، فإنك واجد عنده بعض ما تريد، وإن استطعت أن تلحق به فافعل، فلما توفي لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري، فقال: أقم، فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه أصحابه، وصار لي شيء حتى اتخذت بقرات وغنيمة، ثم حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان صاحب الموصل، ثم أوصى بي صاحب الموصل إلى صاحب نصيبين، ثم أوصى بي صاحب نصيبين إليك، فإلى من توصي بي؟ قال: يا بني ما أعلم أصبح في هذه الأرض أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك خروج نبي يخرج في أرض العرب، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، يكون مهاجره حرّة، وقراره إلى أرض به نخل بين حرتين، نعتها كذا وكذا بظهره خاتم النبوة بين كتفيه، إذا رأيته عرفته، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة.
قال: ثم مات، ثم مر بي ركب من كلب فسألتهم عن بلادهم فأخبروني عنها فقلت: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني حتى تقدموا بي وادي القرى، فغدروا بي وباعوني من رجل من اليهود، فأقمت عنده زمانا، ثم ابتاعني من ذلك اليهودي آخر من بني قريظة، ثم خرج بي حتى قدم بي المدينة، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، وأيقنت أنها البلدة التي وصفت، فكنت بها أعمل له في ماله من بني قريظة، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وخفي عليّ أمره وأنا في رقي مشغول به، لم أسمع به حتى قدم المدينة مهاجرا، فنزل بقباء في(1/265)
بني عمرو بن عوف، فو الله إني لفي رأس نخلة أعمل لصاحبي فيها وصاحبي تحتي جالس إذ أقبل ابن عمّ له من يهود فقال: يا فلان قاتل الله بني قيلة، إنهم مقبلون على رجل بقباء، قدم من مكة يزعمون أنه نبي، فو الله ما هو إلا أن قالها فأخذني العرواء، ورجعت حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، وانتفض منه جسدي، حتى ما يكاد شيء يمسك مني شيئا، فنزلت سريعا، فقلت: يا سيدي ما الذي يقول؟ فغضب مما رأى، قال: فرفع يده فضربني بها ضربة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء، سمعت شيئا أحببت أن أعلمه، قال:
أقبل على شأنك، فسكت عنه وأقبلت على عملي، فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه وكلمته، ومعه نفر من أصحابه فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح، وإن معك أصحاب لك، وإنهم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة من طعام يسير فجئتكم به وهو هذا، فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا وأمسك يده، وأبى أن يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة مما وصفه لي فلان، ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئا ثم جئته فسلمت عليه ثم قلت: هذا شيء كان عندي أحببت أن أكرمك به، وهي هدية، أهديتها لك بكرامة وليس بصدقة، فإني رأيتك لا تأكل الصدقة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا وأكل معهم، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان.
قال: ثم رجعت فمكثت ستا ثم جئته وهو ببقيع الغرقد وقد مشى قوله: «العرواء» :
فسرها في رواية بأنها الرعدة.(1/266)
في جنازة وحوله أصحابه وعليه شملتان مرتد بواحدة، ومتزر بأخرى، فسلمت عليه ثم تحولت حتى قمت وراءه لأنظر في ظهره، قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أريد أن أنظر وأستثبته، فقال بردائه فألقاه على ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فانكببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل موضع الخاتم من ظهره وأبكاني، قال: فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه شأني وحديثي، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أن أسمع ذلك أصحابه، قال: ثم إني أسلمت فمكثت مملوكا حتى مضى شأن بدر وشأن أحد وشغلني الرق وما كنت فيه فلم أشهدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب، فسألت صاحبي الكتابة، فلم أزل به حتى كاتبني على أن أحيي له ثلاثمائة نخلة، وبأربعين أوقية ورق، وذلك أربعة آلاف درهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعينوا أخاكم بالنخل، فأعانوني بقدر ما كان عندهم، يعطيني الرجل ثلاثين فما دون ذلك إلى الثلث حتى جمعتها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقّر لها فإذا أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني فأكون أنا أضعها بيدي في تفقيرها.
قال: وأعانني أصحابي، وحفروا ثلاثمائة سربة، وجاء أصحابي كل رجل منهم بما أعانني من الودية، فوضعته ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فخرج فجعلنا نحمل إليه الودية فيضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم يسوي عليها ترابها ويبرك، حتى فرغنا منها ودية ودية، فما سقطت منها قوله: «وحفروا ثلاثمائة سربة» :
السّرب: الحفير تحت الأرض، وتطلق أيضا على القناة الجوفاء التي يدخل منها ماء الحائط، يقال للرجل إذا حفر فأخذ يمينا وشمالا: قد سرب.(1/267)
ودية، علقت، وبقيت علما يستشفى بثمرتها ويرجى بركتها، وبقيت عليّ الدراهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان إذا وسعت يدي فأتني حتى أعينك على ما بقي من كتابتك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بتبر من ذهب كبيضة الديك أصابها في بعض المغازي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل الفارسي المسكين المكاتب؟
ادعوه لي، قال: فدعيت له صلى الله عليه وسلم فأعطاني ذلك بعد ما أدارها على لسانه صلى الله عليه وسلم وقال: أدها عنك بما عليك من المال، فقلت في نفسي متعجبا: وأين تقع هذه مما علي من المال؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى سيؤدي بها عنك، وقد كانت في ذاتها الأولى لا تفي بربع حقهم، فذهبت بها فوفيت منها حقهم تاما.
65- وروي عن سلمان رضي الله عنه قال: صحبت قوما فقلت لهم:
اكفوني الطعام والشراب أكفكم الخدمة، قالوا: نعم، قال: فلما أرادوا أن يأكلوا أتوا على شاة فقتلوها بالضرب، ثم جعلوا بعضها كبابا وبعضها ... ، فامتنعت عن الأكل، فقالوا: كل، فقلت: إني غلام ديراني، وإن أهل ديني لا يأكلون اللحم، فضربوني وكادوا يقتلونني، فقال بعضهم: أمسكوا عنه حتى يأتيكم بشرابكم فإنه لا يشرب، فلما أتوا قالوا: اشرب، فقلت: إني غلام ديراني وإن أهل ديني لا يشربون الخمر، فشدوا عليّ وأرادوا قتلي، فقلت لهم: لا تضربوني ولا تقتلوني فإني مقر لكم بالعبودية، فابتدرني واحد منهم فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي ... الحديث.
66- قال سلمان: وكنت قرأت في الكتب نجوم الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام، فما رأيت شيئا أحسن من نجم تلألأ نورا ولمعانا، له(1/268)
أربعة شعب تتوقد كأنها مصابيح، شعبة منها تتوقد نحو المشرق، وشعبة نحو المغرب، وشعبة إلى الشام، وشعبة إلى اليمن، لا تزداد كل ساعة إلا نورا ولمعانا، وقد غارت الكواكب كلها، فلم أكن أرى في السماء سواه.
قال سلمان: فرجعت مبادرا إلى حائطي فرأيت النخل والرمان والسدر والزيتون وكل الشجر ساجدة لحق محمد صلى الله عليه وسلم حتى مالت الحيطان معها فسجدت، فقلت: أشهد الا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فسمعت قائلا يقول من ورائي: بطل والله سحر كل ساحر، ونكست الكهانة، ومنعت المسترقة، وملئت السماء حرسا، وبعث البشير بالرمح والسيف.(1/269)
[29- فصل: ذكر قصّة أبي عمير بن الهيّبان]
29- فصل: ذكر قصّة أبي عمير بن الهيّبان 67- ويروى أن ابن الهيبان كان يهوديا من يهود الشام، قدم المدينة قبل الإسلام بسنتين فقال من رآه: ما رأينا رجلا لا يصلي الخمس خيرا منه، وكان إذا حبس عنا المطر احتجنا إليه نقول له: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا، قال: لا حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول:
وما نقدم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدّين من شعير عن كل إنسان، فنفعل ذلك فيخرج بنا إلى ظهر وادينا، فو الله ما نبرح حتى تمر السحابة فتمطر علينا، ففعل ذلك بنا مرارا كل ذلك نسقى، فبينا هو بين أظهرنا قوله: «قصة أبي عمير بن الهيبان» :
أخرجها ابن إسحاق في سيرته [/ 85] : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية وأسد بن عبيد- نفر من هذيل-؟ ... وذكر القصة.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجها البيهقي في الدلائل [4/ 31- 32] ، وأبو نعيم كذلك [1/ 81] رقم 42.
وأخرجها ابن السكن في الصحابة من وجه آخر عن ابن إسحاق- فيما ذكره السيوطي في الخصائص-.
قال أبو عاصم: لفظ المصنف هنا هو لفظ حديث ابن سعد في الطبقات [1/ 160- 161] ، أخرجه من طريق الواقدي قال: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أن إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ابن عمهم إنما كان عن حديث ابن الهيبان أبي عمير ... وذكر القصة.(1/270)
إذ حضرته الوفاة فقال: يا معشر يهود، ما الذي ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم يا ابن الهيبان، قال: إنما قدمتها أتوكف خروج نبي قد أطلعكم زمانه، هذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن أدركه فأتبعه، فإن سمعتم به فلا تسبقن إليه، فإنه يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعنكم هذا منه، ثم مات.
فلما كان في الليلة التي صبيحتها فتحت قريظة قال لهم ثعلبة وأسيد ابنا سعية: يا معشر اليهود والله إنه للرجل الذي وصف لنا أبو عمير بن الهيّبان.
قوله: «الذي وصف لنا أبو عمير» :
زاد ابن سعد في الطبقات: فاتقوا الله واتبعوه، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله إنه لهو هو، فنزلوا وأسلموا، وأبى قومهم أن يسلموا.(1/271)
[30- فصل: ذكر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه]
30- فصل: ذكر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه 68- روى أبو أمامة الباهلي يحدث عن عمرو بن عبسة قال: قوله: «ذكر إسلام عمرو بن عبسة» :
هو الصحابي الجليل، وأحد السابقين إلى الإسلام عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة السلمي، أبو نجيح البجلي، روى جبير بن نفير قال:
كان أبو ذر الغفاري وعمرو بن عبسة كلاهما يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسلم قبلي إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وبلال- كلاهما- حتى لا يدري متى أسلم الآخر، رواه الطبراني وصححه الحاكم، وانظر أخباره وسيرته في:
تاريخ ابن عساكر [46/ 249] ، أسد الغابة [4/ 251] ، تهذيب الكمال [22/ 118] ، طبقات ابن سعد [4/ 214] ، مسند الإمام أحمد [4/ 111، 384، 385] ، الاستيعاب [8/ 339] ، الإصابة [7/ 127] ، مستدرك الحاكم [3/ 616] ، سير أعلام النبلاء [2/ 456] ، المعرفة لأبي نعيم [4/ 1982] .
(68) - قوله: «روى أبو أمامة الباهلي» :
أخرج القصة بطولها: مسلم في صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم 832، والإمام أحمد في مسنده [4/ 111، 114، 385] ، وابن سعد في الطبقات [4/ 215، 217] ، وأبو عوانة في مستخرجه [1/ 5، 245] ، والطيالسي في مسنده برقم 1153، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني [3/ 40، 41] رقم 1329، 1330، وأبو نعيم في المعرفة [4/ 1983] رقم 4977، والطحاوي في شرح معاني-(1/272)
رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية، ورأيت أنها آلهة باطلة، يعبدون الحجارة لا تضر ولا تنفع، فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين فقال: يخرج رجل من مكة، ويرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها، ويأتي بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتبعه.
قال: فلم يكن لي هم إلا مكة آتيها وأسأل: هل حدث فيها خبر أو أمر؟ فيقولون: لا، فأنصرف إلى أهلي فأتعرض الركبان خارجين من مكة فأسألهم: هل حدث فيها خبر؟ قالوا: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه، ودعا إلى غيرها.
قلت: هذا صاحبي الذي أريد، فشددت راحلتي برجلها فجئت منزلي الذي كنت فيه فسألت عنه قومه فوجدته مستخفيا.
فانطلقت حتى دخلت عليه فسلمت عليه، فقلت: ما أنت؟ قال: نبي، قلت: وما النبي؟ قال: رسول، قلت: ومن أرسلك؟ قال: الله، قلت: بماذا أرسلك؟ قال: أن نصل الأرحام، ونحقن ... الدماء، ونأمن السبل، ونكسر الأوثان، ونعبد الله لا نشرك به شيئا.
قلت: نعم ما أرسلك به، أشهد أني قد آمنت بك وصدقتك، - الآثار [1/ 37، 152] ، وابن خزيمة في صحيحه [1/ 128- 129] ، والحاكم في المستدرك [1/ 163- 164، 309، 3/ 65- 66، 285، 616، 617، 4/ 148] ، والطبراني في الطوال برقم 11، والبيهقي في الدلائل [2/ 168] من طرق بألفاظ وبعضهم يزيد على بعض ومنهم من يختصر لفظه.
قوله: «رغبت عن آلهة قومي» :
وفي رواية: ألقي في روعي أن عبادة الأوثان باطل.(1/273)
أفأمكث معك أم أمكث في أهلي؟ قال: امكث في أهلك، فإذا سمعت بي خرجت مخرجا فاتبعني.
فلما سمعت به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه، ثم قلت:
يا نبي الله ألا تعرفني؟ قال: نعم، أنت السلمي جئتني بمكة، وقلت لي كذا وكذا، قلت: يا رسول الله: أي الساعات أسمع للدعاء؟ قال: جوف الليل الآخر.(1/274)
[31- فصل: ذكر إسلام كعب الأحبار]
31- فصل: ذكر إسلام كعب الأحبار 69- عن شهر بن حوشب عن كعب الأحبار رضي الله عنه أن إسلامه كان في قدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، قال: كان أبي أعلم الناس بما أنزل الله على موسى بن عمران عليه السّلام، وكان لا يدخر عني شيئا مما كان قوله: «كعب الأحبار» :
هو كعب بن ماتع الحميري اليماني، العلامة الحبر، كان يهوديا، له إدراك لا رؤية ولا صحبة، ثم أسلم زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام متين الديانة من نبلاء العلماء، خبيرا بكتب اليهود، قال الحافظ الذهبي: له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة.
انظر أخباره وسيرته في:
تاريخ ابن عساكر [50/ 151] ، سير أعلام النبلاء [3/ 489] ، تهذيب الكمال [24/ 189] ، تذكرة الحفاظ [1/ 49] ، الإصابة [8/ 334] ، أسد الغابة [4/ 487] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 68] ، طبقات ابن سعد [7/ 445] ، التاريخ الكبير [7/ 223] ، الجرح والتعديل [7/ 161] ، العبر [1/ 35] ، النجوم الزاهرة [1/ 90] ، حلية الأولياء [5/ 364، 6/ 3- 47] ، ثقات ابن حبان [5/ 333] ، الإنابة لمغلطاي [2/ 123] .
(69) - قوله: «أن إسلامه كان في قدوم عمر بن الخطاب الشام» :
أخرج القصة أبو نعيم- كما في الخصائص [1/ 36]-، وأخرجها ابن عساكر في تاريخه [50/ 158- 164] من طريق المسيب أو غيره ومن طرق عن كعب.(1/275)
يعلم، فلما حضره الموت دعاني فقال لي: يا بني إنك قد علمت أني لم أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أني قد حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي مبعوث قد أظل زمانه، وكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن عليك أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه، وقد جعلتها في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تعرض لهما ولا تنظرن فيهما حينك هذا فإن الله إن يرد بك خيرا ويخرج ذلك النبي تتبعه.
قال: ثم إنه مات فدفناه، فلم يكن شيء أحب إليّ من أن يكون المأتم قد انقضى حتى أنظر ما في الورقتين، فإذا فيهما:
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده مكة، ومهاجره بالمدينة، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، يجزيء بالسيئة الحسنة، ويعفو ويصفح، أمته الحمّادون، الذين يحمدون الله على كل حال، تدلل ألسنتهم بالتكبير، ينصر نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم، ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم في صدورهم، وتراحمهم بينهم كتراحم بني الأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم.
قال: فلما قرأت ذلك قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئا هو خير لي من هذا؟
قال: فمكثت بذلك ما شاء الله، ثم بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة، وهو يظهر مرة ويستخفي أخرى، فقلت: هوذا، فلم يزل بذلك حتى قيل لي: قد أتى المدينة، فقلت في نفسي: إني لأرجو أن يكون إياه، فكانت تبلغني وقائعه مرة له ومرة عليه ثم بلغني أنه قد توفي فقلت في نفسي: لعله ليس بالذي كنت أظن، حتى بلغني أن خليفته قد قام مقامه، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي:(1/276)
لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أنهم هم الذين أرجو وأنظر سيرتهم وأعمالهم، فلم أزل أدافع ذلك وأؤخره لأستثبت، حتى قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رأيت وفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دينهم، فو الله إني ذات ليلة فوق سطحي فإذا رجل من المسلمين يتلو قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فلما سمعت هذه الآية خشيت أن لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي، فما كان شيء بأحب إليّ من الصباح، فغدوت على المسلمين.
70- وعن شهر بن حوشب، عن كعب قال: قلت لعمر بالشام عند انصرافه: إنه مكتوب في الكتب أن هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وقوله لا يجاوز فعله، والقريب والبعيد سواء في الحق عنده، أتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متبادرون، فقال عمر: ثكلتك أمك أحق ما تقول؟ فقال: بلى والذي يسمع ما أقول، فقال: الحمد لله الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته التي وسعت كل شيء.
قال: ثم إنه خرج من الشام مقبلا إلى المدينة.
(70) - قوله: «وعن شهر بن حوشب» :
أخرجها ضمن الأول ابن عساكر في تاريخه [50/ 161- 162] ، وسيأتي في باب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وانقلابه في أصلاب آبائه.(1/277)
[32- فصل: ذكر قصّة النّجاشي وإسلامه رحمه الله]
32- فصل: ذكر قصّة النّجاشي وإسلامه رحمه الله 71- قال جعفر بن أبي طالب: يا رسول الله ائذن لي آت أرضا أعبد الله بها لا أخاف أحدا، فأذن له.
فأتى النجاشيّ، فبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية فقبلها ثم سجدوا له وقالوا: إن قوما منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك، فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم، فأمر فأحضروا، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين.
فقال عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد: إنهم لا يشهدون أن عيسى بن الله، ولا يسجدون لك، فلما انتهوا إليه زبرهم من عنده من القسيسين والبرهان أن اسجدوا للملك.
فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، قال: وما ذاك، قال: إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم فينا رسولا، وهو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ الآية، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا قوله: «قصة النجاشي وإسلامه» :
أخرجها من طرق: البيهقي في الدلائل [2/ 285- 294] وأبو نعيم في الدلائل [1/ 243] رقم 193، والطبراني في معجمه الكبير برقم 1478، وفي الأحاديث الطوال برقم 14، 15.
وقد رويت قصة الهجرة أيضا عن ابن مسعود، وأبي موسى، وأم سلمة، قال السيوطي في الخصائص [1/ 374] : بأسانيد موصولة.(1/278)
ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال:
أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في ابن مريم، قال النجاشي لجعفر:
ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، قال: فأخذ النجاشي من الأرض شيئا تافها وقال: ما أخطأ مثل هذه- أو: وزن هذه- وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه لأتيته حتى أخدمه وأحمل نعليه، امكثوا في الأرض ما شئتم، وأمر لهم بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهم.
ثم قال: أيكم أدرس للكتاب الذي أنزل على نبيكم؟ قالوا: جعفر، فقرأ عليه جعفر سورة مريم، فلما سمعها عرف أنه الحق ثم قال: زدنا من هذا الكلام الطيب، ثم قرأ عليه سورة أخرى، وقال: صدقتم، وصدق نبيكم.
فلما رأى ذلك عمرو وعمارة سقط في أيديهم، وألقى الله بينهما العداوة، فمكر عمرو بعمارة وقال: يا عمارة إنك رجل جميل وسيم، فأت امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها فتعيننا على حاجتنا فإنك ترى ما قد وقعنا فيه من أمرنا لعلنا نهلك هذا الرهط، فراسلها عمارة حتى دخل عليها، وانطلق عمرو إلى النجاشي وقال: صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك فاعلم بعلم ذلك، فأرسل النجاشي إلى امرأته فإذا هو عندها فأمر فنفخ في إحليله سحره، ثم ألقي في جزيرة البحر، فجن، فصار وحشيا مع الوحش يرد ويصدر معها زمانا حتى ذكر لعشيرته فركب نفر من قومه السفينة فرصدوه حتى إذا وردوا أوثقوه فوضعوه في السفينة ليخرجوا به فلما فعلوا ذلك مات.(1/279)
72- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري في شأن جعفر وأصحابه، وكتب معه كتابا:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي أصحمة ملك الحبشة سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه، إني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، فإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.
وكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبجر سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام أما بعد:
فقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت حرفا، وإنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به(1/280)
إلينا، وقربنا ابن عمك وأصحابه، وأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك مبايعة ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته 73- ويروى أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد غيره، وكان للنجاشي عم له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فعدت الحبشة على أب النجاشي فقتلوه، وملّكوا أخاه، ومكثوا على ذلك حينا، ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيبا حازما فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالوا: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا نتخوف أن يملكه علينا، ولئن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فمشوا إلى عمه وقالوا له: إما أن تقتل وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فإنا قد خفناه على أنفسنا، قال: ويلكم قتلتم أباه بالأمس، وأنا أقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به إلى السوق فباعوه إلى رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه في السفينة، فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحاب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هم حمقى ليس في ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه خرجوا في (73) - قوله: «ويروى أن أباه» :
القصة أخرجها ابن إسحاق في سيرته [/ 216] ، باب حديث الهجرة الأولى، حسن سياقه الحافظ ابن كثير في تاريخه، ومن طريق ابن إسحاق أخرجها البيهقي في الدلائل [2/ 301] ، وهي في سيرة ابن هشام بطولها [1/ 357- 361] .(1/281)
طلبه حتى أدركوه فأخذوه من التاجر وعقدوا عليه التاج وملكوه، وجاءهم التاجر وقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلم الملك في ذلك، فقالوا: لا نعطيك شيئا، فجاء إلى الملك فجلس بين يديه، قال: أيها الملك ابتعت غلاما من السوق بستمائة درهم، فأخذوا دراهمي وسلموا الغلام إليّ حتى إذا سرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي، فقال لهم النجاشي: لتعطينه دراهمه أو ليسلمن إليه غلامه ليذهب به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه، وكان ذلك أول ما علم من صلابته في دينه وعدله في حكمه.(1/282)
[جامع أبواب ظهوره صلى الله عليه وسلم ومولده الشّريف]
جامع أبواب ظهوره صلى الله عليه وسلم ومولده الشّريف(1/283)
[33- باب ظهور النّبيّ صلى الله عليه وسلم وانقلابه في أصلاب آبائه]
33- باب ظهور النّبيّ صلى الله عليه وسلم وانقلابه في أصلاب آبائه 74- روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حملت في قوله: «وانقلابه» :
كذا في «م» و «ب» ، ووقع في «ظ» بدونها أي: باب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في أصلاب آبائه، فكأن المصنف يشير بالترجمة إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي: تقلبك في أصلاب الأنبياء، من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجك نبيا، روي عنه هذا من طرق بألفاظ يأتي تخريجها، وفي هذا المعنى يقول الحافظ شمس الدين الدمشقي:
تنقل أحمد نورا مبينا ... تلألأ في وجوه الساجدينا
تقلب فيهم قرنا فقرنا ... إلى أن جاء خير المرسلينا
وإذا كان هذا مراد المصنف رحمه الله من الترجمة فالأولى التقيد بلفظ التّنزيل بأن يقال: باب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وتقلبه في أصلاب آبائه، سيما أن الإنقلاب الذي عبر به غير التقلب في القرآن الكريم، قال غير واحد من أهل التفسير: التقلب: التصرف، ومنه قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية، ومنه قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فأما الانقلاب فهو الانصراف، ومنه قوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الآية، وقوله تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، والآيات في البابين كثيرة وهي تشير إلى المعنيين المذكورين كما يعلم ويفهم من كتب التفسير والغريب، والله أعلم.
(74) - قوله: «روى أبو هريرة» :
حديثه عند البخاري في المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 3557، إلا أنه قال: بعثت بدل: حملت.(1/285)
خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه.
75- وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟
(75) - قوله: «وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
السائل هو ميسرة الفجر، صحابي يقال: ليس له إلا حديث الباب.
وفي إسناده اختلاف، رواه عبد الله بن شقيق فاختلف عليه فيه:
* فقال منصور بن سعد عن بديل: عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة به، أخرجه الإمام أحمد في مسنده [5/ 59] ، ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير [20/ 353] رقم 834، والبخاري في تاريخه الكبير [7/ 374] الترجمة 1606، والآجري في الشريعة [/ 421] .
قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: إسناده جيد.
* وتابعه إبراهيم بن طهمان، عن بديل، أخرجه البخاري في تاريخه معلقا [7/ 374] والطبراني في معجمه الكبير [20/ 353] رقم 833، والحاكم في المستدرك [2/ 608- 609] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 84- 85، 2/ 129] ، وابن الأثير في الأسد [5/ 285] ، والآجري في الشريعة [/ 421] .
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في التلخيص.
ورواه خالد الحذاء فاختلف عليه فيه:
* فقال مرة: عن عبد الله بن شقيق، عن رجل- أو: قال رجل- ... لم يذكر ميسرة، وصورته صورة المرسل، أخرجه الإمام أحمد في مسنده [4/ 66] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 148] ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني [5/ 347] رقم 2918.
قال الحافظ في الإصابة: أخرجه البغوي وسنده صحيح، قال: وكذا رواه حماد عن والده، وعن خالد الحذاء كلاهما عن عبد الله بن شقيق.. أخرجه البغوي، وكذا رواه حماد بن سلمة، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت: يا رسول الله.. أخرجه البغوي أيضا. اه. -(1/286)
.........
-* ورواه حماد بن سلمة أيضا عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن أبي الجدعاء قال: قلت يا رسول الله، أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 148] ، فقد سمى المبهم في الرواية ذاتها، ولذلك قال ابن الفرضي:
اسم ميسرة: عبد الله ابن أبي الجدعاء، وميسرة لقب. قال ابن الأثير في الأسد: ويشبه أن يكون كذلك فإن عبد الله بن شقيق يروي عنهما: متى كنت نبيا؟ اه.
* وأخرجه أبو نعيم في الدلائل- فيما ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه إذ ليس في المختصر المطبوع من الدلائل- من طريق محمد بن عمر بن أسلم، عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي، عن شيبان، عن الحسن بن دينار، عن عبد الله بن سفيان- كذا- عن ميسرة به، والحسن بن دينار تكلم فيه.
* نعم، وفي الباب عن العرباض بن سارية، وعتبة بن عبد السلمي، وعن نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي أمامة، وعمر بن الخطاب، وابن أبي مريم الكندي، والشعبي مرسلا، وعن مطرف كذلك، وعن غيرهم.
- أما حديث العرباض بن سارية فأخرجه الإمام أحمد في مسنده [4/ 127، 127] ، وابن أبي حاتم في تفسيره [ق 1/ 388] رقم 1264، وابن سعد في الطبقات [1/ 149] ، والبخاري في تاريخه الصغير [1/ 13] ، وفي الكبير أيضا [6/ 68] ، والطبراني في معجمه الكبير [18/ 252، 253] الأرقام:
629، 630، 631، والآجري في الشريعة [/ 421] ، والطبراني في تفسيره [1/ 556، 28/ 87] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 80، 2/ 130] ، وأبو نعيم كذلك برقم 9، 10، والبغوي في الأنوار [1/ 6] رقم 4، وفي شرح السنة [13/ 207] رقم 3626، وصححه ابن حبان كما في الإحسان برقم 6404 جميعهم من طرق عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى ابن هلال، عن العرباض به. -(1/287)
.........
- خالف أبو بكر بن أبي مريم- أحد الضعفاء- معاوية بن صالح، فأسقط التابعي، وجعله عن سعيد بن سويد، عن العرباض وهذا منكر، أخرجه من هذا الوجه: الإمام أحمد في مسنده [4/ 128] ، وابن أبي عاصم في السنة برقم 409، والبزار في مسنده [3/ 112 كشف الأستار] رقم 2365، والحاكم في المستدرك [2/ 600] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 83] ، والطبراني في تفسيره [1/ 556] ، والآجري في الشريعة [/ 421] .
قال البيهقي عقب إيراده: قصر أبو بكر بإسناده فلم يذكر عبد الأعلى، وقصر بمتنه فجعل الرؤيا بخروج النور منها وحده. اه.
- وأما حديث عتبة بن عبد فخرجناه في مسند الحافظ الدارمي تحت رقم 14، وخرجنا تحته حديث خالد بن معدان عن نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
- وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي، والحاكم في المستدرك [2/ 609] ، والآجري في الشريعة [/ 421] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 130] ، وأبو نعيم كذلك برقم 8 جميعهم من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، وفي رواية: بين خلق آدم ونفخ الروح فيه، قال الترمذي: حسن غريب.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل- فيما ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه إذ ليس في المختصر المطبوع من الدلائل- من حديث الوليد بن مسلم، عن خليد ابن دعلج وسعيد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ قال: كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث.
قال ابن كثير: ثم رواه من طريق هشام بن عمار، عن بقية، عن سعيد ابن نسير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مثله مرفوعا، وقد رواه من طريق سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-(1/288)
.........
- قال ... فذكره. قال ابن كثير: وهذا أثبت وأصح.
- وأما حديث ابن عباس فأخرجه البزار في مسنده [3/ 112 كشف الأستار] رقم 2364، والطبراني في الأوسط [5/ 100] رقم 4187، قيل:
يا رسول الله متى كنت نبيّا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، قال البزار:
لا نعلمه يروي عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، ونصر بن مزاحم لم يكن بالقوي- ولم يكن كذابا- ولكنه يتشيع، ولم نجد هذا الحديث إلا عنده، وقال الهيثمي: فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف، مجمع الزوائد [8/ 223] .
- وأما حديث أبي أمامة: قلت يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال:
دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام، فأخرجه الإمام أحمد في مسنده [5/ 262] ، والطيالسي في مسنده برقم 1140، وابن سعد في الطبقات [1/ 149] ، والطبراني في معجمه الكبير رقم 7729، والبيهقي في الدلائل [1/ 84] .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 222] : رواه أحمد، وإسناده حسن، وله شواهد تقويه.
- وأما حديث عمر: متى جعلت نبيّا؟ قال: وآدم منجدل في الطين، فأخرجه أبو نعيم- فيما ذكره الحافظ السيوطي في الخصائص [1/ 10]- من حديث الصنابحي، عنه، قال السيوطي: مرسل، يريد أنه منقطع بين الصنابحي وعمر.
- وأما حديث أبي مريم الكندي، فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير [22/ 333] رقم 835، وفي مسند الشاميين [2/ 98- 99] رقم 984 أن رجلا قال: أي شيء كان من أمر نبوتك؟ قال: أخذ الله عزّ وجلّ مني الميثاق كما أخذ من النبيين ... الحديث بطوله، قال في مجمع الزوائد [8/ 224] : ورجاله وثقوا. -(1/289)
فقال: وآدم بين الروح والجسد.
- وأما حديث عامر الشعبي فأخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 148] قال:
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: متى استنبئت؟ قال: وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق، وهذا مرسل، وفيه أيضا جابر الجعفي وهو ضعيف.
وأما حديث مطرف أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيّا؟
قال: بين الروح والطين من آدم، فأخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 148] .
قوله: «وآدم بين الروح والجسد» :
قال الحافظ أبو نعيم في الدلائل: ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أوجبه الله له النبوة قبل تمام خلق آدم، قال: ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضائه من بعثته له في آخر الزمان، نقله الحافظ ابن كثير في تاريخه وقال: هذا الكلام يوافق ما ذكرناه ولله الحمد من أنه إخبار عن التنويه بذكره في الملأ الأعلى، وأنه معروف بذلك بينهم بأنه خاتم النبيين وآدم لم ينفخ فيه الروح، لأن علم الله تعالى بذلك سابق قبل خلق السماوات والأرض لا محالة، فلم يبق إلا هذا الذي ذكرناه من الإعلام به في الملأ الأعلى. اه.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى في كتابه «التعظيم والمنة» :
في هذا من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت إلى الناس كافة، لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا، ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد، وأن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبيا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه-(1/290)
.........
- أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولهذا رأى آدم اسمه مكتوبا على العرش:
محمد رسول الله، فلا بد أن يكون ذلك معنى ثابتا في ذلك الوقت، قال:
ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك الوقت وقبله فلا بد من خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاما لأمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى فيحصل لهم الخير بذلك. اه. باختصار.
وقال الشيخ الغزالي في نفخ الروح: وأما قوله عليه السّلام: كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين، فإشارة إلى أنه كان نبيّا في التقدير قبل تمام خلقه آدم، لأنه لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته، ولا يزال يستصفى تدريجيّا إلى أن يبلغ كمال الصفاء فيقبل الروح المحمدي، قال: وأما قوله: أنا أول الأنبياء خلقا، وآخرهم بعثا، فالخلق ههنا هو التقدير دون الإيجاد، فإنه قبل أن تلده أمه لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير ولاحقة في الوجود، وهو معنى قولهم: أول الفكرة آخر العمل، بيانه: أن المهندس المقدر للدار أول ما يتمثل صورته في تقديره هي دار كاملة، وآخر ما يوجد من أثر أعماله هي الدار الكاملة، والدار الكاملة أول الأشياء في حقه تقديرا، وآخر الأشياء وجودا. اه.
وقال الحافظ ابن رجب في اللطائف: المقصود من هذا الحديث: أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مذكورة معروفة قبل أن يخلقه الله تعالى ويخرجه إلى الدار الدنيا حيّا، وأن ذلك كان مكتوبا في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم صلى الله عليهما وسلم، نقله الصالحي في سبل الهدى.
وقال الطيبي في شرح المشكاة: المعنى: كتبت خاتم الأنبياء في الحال الذي آدم عليه السّلام مطروح على الأرض، حاصل في أثناء الخلقة لما يفرغ من تصويره وإجراء الروح فيه. اه. -(1/291)
76- أخبرنا الشريف أبو جعفر الموسايي رضي الله عنه- إمام مكة- وقال الشيخ ابن تيمية في الفتاوى [1/ 149- 150] : محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، فهو أعظم الذرية قدرا وأرفعهم ذكرا، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبيّا حينئذ وآدم بين الروح والجسد، وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق، فيقدر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، قال: وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته، فإنه كون في التقدير الكتابي ليس كونا في الوجود العيني، إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء هذا المعنى مفسرا في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته. اه مختصرا.
(76) - قوله: «أبو جعفر الموسايي» :
قال السمعاني: هو بضم الميم وفتح السين المهملة وفي آخرها الياء المنقوطة من تحتها باثنتين، نسبة إلى موسى الكاظم، ثم قال: هو السيد أبو جعفر محمد بن جعفر بن محمد بن أحمد بن هارون بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلوي الموسائي، قال: ذكرها أبو عبد الله الحاكم في تاريخه وقال: كان أحد الأشراف في عصره في حفظ الأنساب والأخبار وأيام الناس، وكان من المجتهدين في العبادة على ما كان يرجع إليه من المودة الظاهرة ومحبة العلم وأهله، سمعته غير مرة يذكر أنه يدين الله بفقه مالك ابن أنس، سمع بالعراق أبا القاسم البغوي وأبا محمد بن صاعد وطبقتهما، وبالري أبا محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم، وكان كثير الرواية عن أهل بيته الطاهرين، وكان يقول: إنا أهل بيت لا تقية عندنا في ثلاثة أشياء: كثرة الصلاة، وزيارة قبور الموتى، وترك المسح على الخفين.
انظر ترجمته في: الأنساب للسمعاني [5/ 405] ، اللباب في تهذيب الأنساب [3/ 268] .(1/292)
حرسها الله وقاضيها- قال: أنا أبو سعيد: أحمد بن محمد بن زياد، قوله: «أنا أبو سعيد: أحمد بن محمد بن زياد» :
هو ابن بشر بن درهم الإمام المحدث القدوة، الحافظ الصدوق، شيخ الإسلام، وشيخ الحرم أبو سعيد ابن الأعرابي البصري، الصوفي، نزيل مكة، ولد سنة نيف وأربعين ومئتين.
قال الحافظ الذهبي: رحل إلى الأقاليم، وجمع وصنف، وخرج عن مشايخه معجما كبيرا، وتعبد وتأله، وألف في مناقب الصوفية، وحمل السنن عن أبي داود، وكان كبير الشأن، بعيد الصيت، عالي الإسناد وكان شيخ الحرم في وقته سندا وعلما وزهدا وعبادة وتسليكا، وكان ثقة ثبتا، توفي أبو سعيد سنة 340 بمكة، وله أربع وتسعون سنة وأشهر.
انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء [15/ 407] ، المنتظم [14/ 88] ، البداية والنهاية [11/ 226] ، تاريخ ابن عساكر [5/ 353] ، تذكرة الحفاظ [3/ 852] ، طبقات الصوفية [/ 427] ، الحلية [10/ 375] ، الرسالة القشيرية [/ 28] ، طبقات الأولياء [/ 77] ، النجوم الزاهرة [3/ 306] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 340 هـ ص 184] ، الشذرات [3/ 61] ، تقييد ابن نقطة [1/ 189] ، العبر [2/ 59] ، طبقات الشعراني [1/ 137] .
قوله: «ثنا العباس بن عبد الله الترقفي» :
الإمام القدوة، المحدث الحجة أبو محمد الباكسائي- بفتح الباء الموحدة، بعدها ألف ثم كاف مضمومة وسين مهملة مفتوحة، ثم ألف، وقبل الياء ياء أو همزة مهملة- نسبة إلى باكسايا من نواحي بغداد- قال الحافظ الذهبي: أحد الرحالين في السنن، سمع الفريابي وأبا عاصم النبيل، وأبا عبد الرحمن المقرئ وجماعة، وحدّث عنه ابن ماجه، وابن سريج، وإسماعيل الصفّار وآخرون، وله جزء معروف، قال محمد بن مخلد: ما رأيته ضحك ولا تبسم، ووثقه الدارقطني، وقال الخطيب: كان ثقة صالحا عابدا، توفي في آخر سنة سبع وستين. -(1/293)
ثنا العباس بن عبد الله الترقفي [ح] .
(77) - وحدثنا أبو بكر: محمد بن أحمد المحدّث، أنا أبو الحسن:
علي بن محمد بن سختويه العدل،.......
- تهذيب الكمال [14/ 216] ، تهذيب التهذيب [5/ 105] ، سير أعلام النبلاء [13/ 12] ، تاريخ الإسلام [وفيات 267 ص 115] ، تاريخ ابن عساكر [26/ 269] ، المنتظم [12/ 214] .
قوله: «ح» :
ح: ليست في الأصول، والسياق يستوجب إضافتها وإثباتها فيه وهي تعني انتقال السند.
(77) - قوله: «وحدثنا أبو بكر: محمد بن أحمد المحدّث» :
أبو بكر هو: ابن بالويه النيسابوري، ذكره الحافظ الذهبي في السير وقال: كان من كبراء بلده، ارتحل به أبوه فسمع محمد بن يونس الكديمي، وبشير بن موسى، ومحمد بن غالب تمتام، روى عنه الحاكم، وابن منده، وأبو علي الحافظ وعدة، قال الحاكم: سمعته يقول: كتبت عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ثلاثمائة جزء، قال الحاكم: توفي في رجب سنة أربعين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء [15/ 419] ، الوافي بالوفيات [2/ 40] .
قوله: «أنا أبو الحسن: علي بن محمد بن سختويه العدل» :
هو المعروف بعلي بن حمشاذ، قال عنه الحافظ الذهبي: الإمام الثقة الحافظ شيخ نيسابور، وصاحب التصانيف، سمع ببغداد الحارث بن أبي أسامة، وبالري محمد بن منده، وبهمذان إبراهيم بن ديزيل، وبمكة علي بن عبد العزيز، وإسماعيل القاضي، حدّث عنه أبو عبد الله الحاكم، وأبو أحمد الحاكم، وأبو عبد الله ابن منده، قال أبو بكر بن إسحاق: صحبت علي بن حمشاذ في الحضر والسفر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة. وقال عبد الله ولده: ما أعلم أن أبي ترك قيام الليل. -(1/294)
ثنا أحمد بن محمد بن سالم، ثنا العباس بن عبد الله الترقفي، قال:
حدثني الفضل بن جعفر بن عبد الله، قال: حدثني أبو محمد: السري بن عثمان البجلي،........
- انظر: سير أعلام النبلاء [15/ 398] ، المنتظم [14/ 76] ، الشذرات [3/ 53] ، تذكرة الحفاظ [3/ 855] ، العبر [2/ 55] ، مرآة الجنان [2/ 237] ، تاريخ الإسلام [وفيات 238 ص 165] ، البداية والنهاية [11/ 222] ، وهدية العارفين [1/ 679] .
قوله: «ثنا أحمد بن محمد بن سالم» :
أبو حامد النيسابوري، قال الخطيب في تاريخه [5/ 23] : قدم بغداد وحدّث بها عن عبد الله بن الجراح، روى عنه: محمد بن مخلد.
قوله: «حدثني الفضل بن جعفر بن عبد الله» :
هو: ابن الزبرقان الهاشمي، الحافظ الثقة: أبو سهل ابن أبي طالب البغدادي، الواسطي الأصل، مولى آل العباس بن عبد المطلب، وأحد شيوخ الترمذي الثقات، وثقه الخطيب، والذهبي، وابن حجر، توفي سنة 252 هـ.
وانظر: تهذيب الكمال [23/ 192] ، تاريخ بغداد [12/ 364] ، سير أعلام النبلاء [12/ 621] ، الكاشف [2/ 328] ، تهذيب التهذيب [8/ 242] ، الثقات [9/ 7] ، الجرح والتعديل [7/ 60] ، تاريخ الإسلام [وفيات 252 ص 226] .
قوله: «حدثني أبو محمد: السريّ بن عثمان» :
كذا في «ظ» ، وفي «ب» : حدثني أبو محمد السري، عن عثمان البجلي، ولعل الأشبه بالصواب- والله أعلم- ما أثبتناه ولم أعرف أبا محمد، لكن إن قلنا بأن الصواب: ما وقع في «ب» ، فيحتمل أن يكون عثمان هو ابن عمير، الذي أخرج له «د. ت. ق» في السنن، كنيته: أبو اليقظان، فهذا مجمع على ضعفه، والله أعلم بالمراد.(1/295)
عن أبي بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه قوله: «عن أبي بكر بن أبي مريم» :
هو أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، شامي، حديثه عند «د. ت. ق» ينسب إلى جده اختصارا وشهرة، والجمهور على تضعيفه وعدم الاحتجاج بحديثه، ويقتصر من حديثه ما كان للاعتبار، وما كان منه في السير والقصص.
انظر عنه في:
تهذيب الكمال [33/ 108] ، تهذيب التهذيب [12/ 33] ، المجروحين [3/ 146] ، طبقات ابن سعد [7/ 467] ، الكاشف [3/ 275] ، الميزان [6/ 171] ، ضعفاء النسائي [/ 262] ، الديوان [2/ 484] ، التقريب [/ 623] ، المغني في الضعفاء [2/ 774] .
قوله: «عن سعيد بن عمرو الأنصاري» :
المدني، حديثه عن أبيه عن جده عند النسائي، أخرجه له ووثقه.
تهذيب الكمال [11/ 22] ، تهذيب التهذيب [4/ 61] ، الكاشف [1/ 293] ، التقريب [/ 239] ، التاريخ الكبير [3/ 498] ، الجرح والتعديل [4/ 49] ، الكاشف [2/ 59] ، الأنساب [2/ 53] ، تذكرة الحفاظ [2/ 566] ، الوافي بالوفيات [16/ 657] ، الثقات لابن حبان [8/ 513] ، اللباب [1/ 113، 212] ، العبر [1/ 384] ، المعجم المشتمل [/ 149] ، تاريخ بغداد [12/ 143] ، الشذرات [2/ 310] ، تهذيب ابن منظور [11/ 323] ، تاريخ واسط [/ 46] .
قوله: «عن أبيه» :
هو: عمرو بن شرحبيل بن سعيد الأنصاري، المدني، من رجال النسائي، سكت عنه البخاري وابن أبي حاتم، ووثقه ابن حبان. -(1/296)
قال: صحبت كعب الأحبار وهو يريد الإسلام- أو قال: يريد النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فلم أر رجلا لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوصف له من كعب الأحبار، وقد وصف لنا حالاته وأخلاقه.
قال: صحبت كعب الأحبار في بعض الطرق، فكان ليلة يكثر الدخول والخروج، ثم استعبر باكيا، وقال: قبض محمد صلى الله عليه وسلم في هذه- وانظر: تهذيب الكمال [22/ 59] ، التاريخ الكبير [6/ 341] ، الجرح والتعديل [6/ 238] ، الثقات [7/ 225] ، تهذيب التهذيب [8/ 42] ، الكاشف [2/ 286] ، التقريب [/ 422] .
تنبيه: سقط من «ظ» الإسناد الأول وهو ما قبل تحويل السند، فوقع فيها:
حدثنا أبو بكر: محمد بن أحمد مباشرة دون الإسناد الأول.
قوله: «في بعض الطرق» :
وكان عزم على الخروج للقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه [50/ 156- 157] من حديث بقية بن الوليد قال: حدثنا الأوزاعي، ثنا يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب الحبر- وكان يلزمه إبطاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: وبعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب: وخرجت حتى أتيت ذات قرنات فقال لي: أين تأخذ يا كعب؟ فقلت: هذا النبي، فقال: والله لئن كان حيا إنه الآن لتحت التراب، فخرجت فإذا أنا براكب، فقلت: الخبر؟ فقال: مات محمد صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ... ثم ذكر الحديث بطوله.
قوله: «ثم استعبر باكيا» :
العبرة: الدمعة، قيل: هو أن ينهمل الدمع ولا يسمع البكاء، وقيل: هي الدمعة قبل أن تفيض، وقيل: تردد البكاء في الصدر، وعبر عبرا واستعبر:
جرت عبرته وحزن، ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم استعبر فبكى، قال في اللسان: استفعل من العبرة، وهي تحلّب الدمع.(1/297)
الليلة، ولقد رأيت أبواب الجنان فتّحت.
ثم قدم بعد ذلك كعب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: «ثم قدم بعد ذلك كعب» :
اختلف في ذلك كما اختلف في وقت إسلامه متى كان ذلك لاختلاف الروايات، فأخرج ابن عساكر في تاريخه [50/ 157] ، من حديث أبي مسهر عن سعيد بن عبد العزيز قال: أسلم كعب على يدي أبي بكر قال: حدثني غير واحد أن كعبا من اليمن من ذي الكلاع ثم من بني ميتم وكان مسكنه في أرض اليمن فقدم على أبي بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى الشام فمات به، وروى ابن سعد في الطبقات [7/ 445] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [50/ 158] من طريق يزيد ابن هارون وعفان بن مسلم قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس رضي الله عنه لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى أسلمت الآن على عهد عمر رضي الله عنه؟ فقال كعب: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إليّ وقال: اعمل بهذا، وختم سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على ولده ألا أفض الخاتم، فلما كان الآن ورأيت الإسلام يظهر ولم أر بأسا قالت لي نفسي: لعل أباك غيب عنك علما كتمك، فلو قرأته. ففضضت الخاتم فقرأته فوجدت فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فجئت الآن مسلما، فوالى العباس، وروى ابن عساكر في تاريخه من حديث إسحاق بن بشر، ثنا إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع، وعن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قالا: إن كعب الأحبار ذكر بدء ما رزقه الله الإسلام حين أسلم مقدم عمر، وذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كان أبي من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى، وكان لا يدخر عني شيئا مما يعلم، فلما حضره الموت دعاني فقال لي: يا بني، قد علمت أني لم أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني كنت قد حبست عنك ورقتين-(1/298)
.........
- فيهما ذكر نبي يبعث قد أظل زمانه، وكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه، وقد جعلتهما في هذه الكوة التي ترى وطينت عليهما فلا تعرض لهما، ولا تنظرن فيهما حينك هذا، فإن كان الله يريد بك خيرا ويخرج ذلك النبي بعينه فأخرجهما، قال: ثم مات، فلم يكن شيء أحب إليّ من أن ينقضي المأتم حتى أنظر في الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، لا فظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويصفح، أمته الحمّادون الذين يحمدون الله على كل حال، ألسنتهم بالتهليل والتكبير رطبة، وينصر نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم، ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم في صدورهم، وتراحمهم بينهم تراحم الأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، فلما قرأت ذلك قلت في نفسي: وهل علّمني أبي شيئا هو أحب إليّ من هذا، فمكثت بذلك ما شاء الله ثم بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بمكة، فهو يظهر مرة ويستخفي أخرى، فقلت:
هو ذا، فلم يزل بذلك حتى قيل: إنه قد أتى المدينة، فقلت في نفسي:
إني لأرجو أن يكون إياه، فبلغتني وقائعه مرة له ومرة عليه، ثم بلغني أنه قد توفي صلوات الله عليه، فقلت في نفسي: لعله ليس الذي كنت أظن، حتى بلغني أن خليفة قد قام مقامه، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده، فقلت في نفسي: ألا أدخل في هذا الدين، ثم قلت:
حتى أعلم أنه هو الذي أرجو وأنظر سيرتهم وأعمالهم، فلم أزل أرفع ذلك وأؤخره حتى استثبت حين قام علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت وفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء أوقع الله تعالى ذلك في نفسي، وعدت لصفتهم فعلمت أنهم الذين كنت أنتظر، فحدثت-(1/299)
قال: فجعلت أصف ما ذكر لي كعب، فقالوا: إن كعبا لساحر.
فلما سمع مقالتهم، قال: الله أكبر، ما أنا بساحر.
ثم أخرج من مزودة سفطا صغيرا من الدّرّ الأبيض عليه قفل مختوم بختم، ففضّ الخاتم، وفتح القفل، فأخرج منه حريرة خضراء مطوية طيّا شديدا، فقال: هل تدرون ما هذه؟ فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السّلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء- التي هي نور الأرض-، فهبط جبريل مع الملائكة فقبض قبضة من موضع قبره وهي يومئذ بيضاء نقية، فعجنت حتى جعلت كالدرة البيضاء، ثم غمست في كل أنهار الجنة، - نفسي بالدخول في دينهم، فو الله إني لذات ليلة فوق سطح إذا رجل من المسلمين يتلو قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) فلما سمعت هذه الآية خشيت أن لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي، فما كان شيء أحب إليّ من الصباح، فغدوت فسألت عن أمير المؤمنين حتى دخلت عليه، فأخبرته هذا الخبر، وأسلمت وقربني، وأحببت المسلمين وأحبوني ... الحديث.
قوله: «من مزودة» :
المزودة والمزود: وعاء يجعل فيها الزّاد، والمزادة مفعلة من الزاد يتزود فيها الماء.
قوله: «سفطا» :
السّفط: الذي يعبّى فيه الطّيب وما أشبهه من أدوات الزينة.
قوله: «كالدرة البيضاء» :
زيد في رواية: لها شعاع عظيم.(1/300)
وطيف بها في السماوات والأرضين والبحار، فعرفت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم عليه السّلام، فلما خلق الله تعالى آدم عليه السّلام سمع في تخطيط جبهته كنشيش الذّرّ، فقال: ما هذا؟ قال الله تعالى: هذا تسبيح قوله: «قبل أن تعرف آدم عليه السّلام» :
زاد في رواية ابن الجوزي: ثم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم هذا سيد ولدك من الأنبياء والمرسلين، فلما حملت حواء بشيث انتقل عن آدم إلى حواء، وكانت تلد في كل بطن ولدين إلا شيئا، فإنها ولدته وحده كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يزل ينتقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.
أخرجه معلقا في الوفا [1/ 34] ، باب: في ذكر الطينة التي خلق منها محمد صلى الله عليه وسلم وعزا هذا القدر منه إلى المصنف: الشيخ محمد بن يوسف الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد [1/ 68- 69] ، وعزاه القسطلاني في المواهب [1/ 68- 69] ، إلى ابن أبي جمرة في بهجة النفوس، وابن سبع في شفاء الصدور، وذكره أيضا في [1/ 97] ، باختصار وعزاه للمصنف.
قلت: قد ذكرت في المقدمة أن أصحاب التاريخ والسير والشمائل كانوا لا يرون بأسا بنقل مثل هذه الأخبار وروايتها عمن أسلم من علماء أهل الكتاب ممن عرف بالورع في الرواية ولم يدخل على المسلمين من الروايات ما كان كذبا في كتبهم، وقد أثنى جماعة من الصحابة ومن بعدهم على كعب الأحبار، وشهدوا له بمعرفة السقيم من أخبار اليهود والصحيح منها، ومثل أخباره هذه مما لا يتعلق بحلال أو حرام، ومما لا ينافي عقيدة أو يعارض أصلا أو ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتساهل في نقله وروايته ولا يتشدد فيه.
قوله: «كنشيش الذر» :
النشيش: أول أخذ العصير في الغليان، ونش اللحم نشّا ونشيشا سمع له على المقلى أو القدر، والقدر تنش: إذا أخذت تغلي.(1/301)
سيد ولدك، فخذه بعهدي وميثاقي ولا تودعه إلا في الأصلاب الطاهرين.
وكان نور محمد صلى الله عليه وسلم يرى في دائرة غرة جبين آدم عليه السّلام كالشمس في دوران فلكها، أو كالقمر في ديجور ليلة ظلماء، فلم يزل حتى وضعه وبشرت حواء بشيث أبي الأنبياء ورأس المرسلين، فحملت بشيث، فأصبح آدم عليه السّلام والنور مفقود من جبهته، وحواء تزداد كل يوم غناجة وحسنا، وكل الطير والسباع يشيرون إلى حسنها حتى وضعت.
فلما وضعته ضرب بينها وبين إبليس لعنه الله حجاب من النور في غلظ خمسمائة عام، فلم يزل إبليس محبوسا حتى بلغ شيث سبع سنين، وعمود من نور بين السماء والأرض للملائكة فيه مسلك ومنادي البشرى ينادي في كل يوم: أيتها الخضرة اهتزي وابشري لعظم نور محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: فانطلق آدم عليه السّلام آخذا بيد شيث وقال: يا بني إن الله جل جلاله أمرني أن آخذ عليك عهدا، وقال: يا رب إنك أمرتني أن آخذ قوله: «في ديجور ليلة ظلماء» :
الديجور: الظلمة، قال شمر: الديجور التراب، يقال: تراب ديجور أغبر يضرب إلى السواد كلون الرماد، وإذا كثر يبيس النبات فهو الديجور لسواده.
قوله: «تزداد كل يوم غناجة» :
الغنج: حسن الدلّ في الجارية، والغنج في الجارية: تكسر وتدلّل، يقال:
امرأة غنجة أي: حسنة الدلّ، وقيل: الغنج: ملاحة في العينين.
قوله: «وبين إبليس لعنه الله» :
في «ظ» وبين الملعون إبليس عليه لعائن الله تترى.(1/302)
على شيث عهدا فأسألك أن تبعث إليّ ملائكة يكونوا شهودا عليه، فما أتم آدم عليه السّلام الدعوة حتى نزل جبريل عليه السّلام في سبعين ألفا من الملائكة معهم حريرة بيضاء وقلم من أقلام الجنة وكتب بغير مداد بل بنور من أنوار الجنة وشهدت الملائكة وطوى الحرير طيّا، وكسي شيث في ذلك المكان حلتين حمراوين في نور الشمس ورقة الماء ... إلى أن بلغ الأمر إلى أخنوخ وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم فلما أن ولد نظر أبوه إلى النور فقال:
أوصيك بهذا النور فقبل وصيته، حتى بلغ إلى نوح عليه السّلام ثم من نوح إلى سام فلما نظر نوح إلى النور في وجه سام سلّم إليه التابوت، وكان التابوت من درة بيضاء لها بابان مغلقان بسلسلة من الذهب الأحمر وعروتان من الزمرد الأخضر وفيه العهد والديباجة إلى أن بلغ الأمر إلى هود، فلما وضع هود سمع نداء أصوات من كل مكان: هذا من يكسر الله به كل صنم، ويقتل به كل من طغى وكفر، إلى أن بلغ الأمر إلى إبراهيم عليه السّلام، فلما ولد إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ضرب علم من نور في شرقها، وعلم من نور في غربها، وصارت الدنيا كلها نورا، فضرب له عمودان من نور وسط الدنيا حتى لحقا بأعنان السماء بإشراق وحسن، تهتز الملائكة من حسن ذلك العمود، فقالت: ربنا ما هذا؟
فنودي: هذا نور محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: «بأعنان السماء» :
فرق بعض أهل اللغة بين معنى كلمة عنان، وأعنان، قالوا: العنان:
السحاب، والأعنان: النواحي، قال يونس بن حبيب: أعنان كل شيء:
نواحيه، وقال غيره: واحد الأعنان: عنن وعن، وأعنان السماء: صفائحها وما اعترض من أقطارها، وقيل: عنان السماء: ما عنّ لك منها، وأعنان الشجر: أطرافه ونواحيه، وعنان الدار: جانبها، حكاه في اللسان.(1/303)
78- روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن قريشا كانت نورا بين يدي الله عزّ وجلّ قبل أن يخلق آدم بألفي عام، يسبح الله ذلك النور، وتسبح الملائكة بتسبيحه، قال: فلما خلق الله آدم أبقى ذلك النور في صلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأهبطني الله تعالى الأرض في صلب آدم عليه السّلام، فحملني في صلب نوح عليه السّلام في السفينة، ثم قذف بي في النار في صلب إبراهيم عليه السّلام، ولم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى (78) - قوله: «روي عن عبد الله بن عباس» :
بإسناد مجهول لا يعتمد عليه، فأخرجه ابن أبي عمر العدني في مسنده فقال: ثنا عمر بن خالد، قال: حدثني الحلبي: محمد بن عبد الله- كذا في المسندة من المطالب، وإتحاف البوصيري، وإنما هو: محمد أبو عبد الله- عن عبد الله ابن الفرات، عن عثمان، عن الضحاك، عن ابن عباس به.
أورده البوصيري في الإتحاف [9/ 7] رقم 8485- ووقع فيه: عن عثمان بن الضحاك، ولعله من أخطاء الطبع-، والحافظ في المطالب [4/ 177] رقم 4256.
أما عمر بن خالد فشيخ قال عنه أبو حاتم- فيما رواه عنه ابنه في الجرح والتعديل [6/ 106]-: لا أعرفه، ولا أعرف الحلبي- يعني:
شيخه-.
وأما عبد الله بن الفرات، فلم أره في الأسماء فيما لدي من المصادر.
وأما عثمان فهو: ابن داود، ذكره العقيلي في الضعفاء [3/ 201] ممن يروي عن الضحاك، وقال: مجهول بالنقل، وتبعه الذهبي في الميزان.
وأما الضحاك فحاله مشهور، والجمهور على أنه لم يسمع من ابن عباس، وعليه فالإسناد مجهول، وانظر تمام البحث حول أحاديث الباب تحت الأثر الآتي بعده. -(1/304)
الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط.
79- وروى عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري،.....
- وأخرج الشطر الأخير منه أبو نعيم في الدلائل برقم 15 من حديث يزيد بن أبي حكم، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا: لم يلتق أبواي على سفاح، لم يزل الله عزّ وجلّ ينقلني من أصلاب طيبة، إلى أرحام طاهرة صافيا مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما. وفي إسناده من لم أعرفه.
(79) - قوله: «وروى عبد الله بن المبارك» :
سقط هذا الأثر وما بعده إلى قوله: (ومن العاشر محمدا صلى الله عليه وسلم) من نسخة «ظ» .
وعبد الله بن المبارك هو الإمام أحد الأعلام وشيخ الإسلام أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم، المروزي، صاحب المصنفات، اتفق على إمامته وجلالته، له مناقب وفضائل مذكورة في مظان ترجمته، انظرها في:
سير أعلام النبلاء [8/ 378] ، تاريخ بغداد [10/ 152] ، تهذيب الكمال [16/ 5] ، تهذيب التهذيب [5/ 382] ، تذكرة الحفاظ [1/ 174] ، حلية الأولياء [8/ 162] ، وفيات الأعيان [3/ 32] .
قوله: «عن سفيان الثوري» :
هو شيخ الحديث والمحدثين: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أحد الحفاظ المتقنين، حجة باتفاق أهل العلم والحديث، انظر ترجمته في:
سير أعلام النبلاء [7/ 229] ، تاريخ بغداد [9/ 151] ، وفيات الأعيان [2/ 386] ، حلية الأولياء [6/ 356] ، تهذيب الكمال [11/ 154] ، تهذيب التهذيب [4/ 111] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 222] ، تذكرة الحفاظ [1/ 203] .(1/305)
عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جده،.....
قوله: «عن جعفر بن محمد الصادق» :
الهاشمي، العلوي، أحد علماء المدينة وفقهائها، قال أبو حاتم الرازي:
جعفر لا يسأل عن مثله.
سير أعلام النبلاء [6/ 255] ، التاريخ الكبير [2/ 198] ، الجرح والتعديل [2/ 487] ، تهذيب الكمال [5/ 74] ، تهذيب التهذيب [2/ 88] ، تذكرة الحفاظ [1/ 166] .
قوله: «عن أبيه» :
هو الإمام الفقيه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي الهاشمي قال الحافظ الذهبي: أحد من جمع بين العلم والعمل، والسؤدد والشرف، والثقة والرزانة، وكان أهلا للخلافة.
سير أعلام النبلاء [4/ 401] ، تهذيب الكمال [26/ 136] ، تذكرة الحفاظ [1/ 117] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 87] ، تهذيب التهذيب [9/ 350] ، طبقات ابن سعد [5/ 320] .
قوله: «عن جده» :
هو الإمام الجليل، السيد النبيل أمير المؤمنين في العلم والفقه علي بن الحسين بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، السيد الشهير بزين العابدين الهاشمي، العلوي، المدني، أحد الرفعاء والوجهاء أهل الورع، قال الزهري ومالك وغير واحد: لم يكن في زمانه من أهل بيته مثله.
سير أعلام النبلاء [4/ 386] ، طبقات ابن سعد [5/ 211] ، حلية الأولياء [3/ 133] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 343] ، وفيات الأعيان [3/ 266] ، تهذيب الكمال [20/ 382] ، تذكرة الحفاظ [1/ 70] ، تهذيب التهذيب [7/ 304] .(1/306)
عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم قوله: «عن علي بن أبي طالب» :
الخليفة الراشد، والإمام الزاهد، وأول من أسلم من الصبيان، ممن عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد له بالفضائل والمناقب حتى قيل له: لم تثبت في كثرتها وجلالتها لأحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، قتله ابن ملجم- قتله الله- سنة 40 هـ.
قوله: «خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم» :
هذا حديث موقوف بإسناد مبتور لا يمكن الاعتماد على مثله في إثبات صدوره من مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، سيما إذا لم يكن للرأي فيه مجال كما هو الحال في اللفظ هنا، وفي الباب أحاديث منها ما لا يمكن إثباته بحال إذ كان لا زمام لها ولا خطام، ومنها ما لم نقف على إسنادها.
لكني أورد منها ما وقفت عليه ثم أذكر بعدها حديثا هو أحسن شيء فيه، ربما يجعل لحديث الباب أصلا فيصير مع قول من تقدم في تأويله ممكن الإيراد في كتب الفضائل.
- فمن ذلك حديث الباب، وقد بان لك حال إسناده.
- ومنها حديث ابن عباس المتقدم قبله، وقد تقدم الكلام عليه.
- ومنها ما ذكره العجلوني في كشف الخفا [1/ 265] ، قال: روى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟، قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ... الحديث بطوله.
وهذا لم نقف عليه في المطبوع من المصنف للحافظ عبد الرزاق، وبعض الإخوة يزعمون أن له مصنفا آخر لعله فيه، فإن ثبت ذلك فيبقى محلا للنظر حتى يثبت ذلك ونقف على إسناده؛ إذ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما قال ابن عباس- صعب.(1/307)
قبل أن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي والقلم والجنة- والذي يظهر أنه لا يلزم من قوله: روى عبد الرزاق أن يكون في مصنفه- سيما وأن العجلوني لما عزاه لعبد الرزاق لم يذكر أنه في مصنفه-، كما لا يلزم من قول المصنف هنا: روى عبد الله بن المبارك أن يكون في أحد مصنفاته، لكن يتعين عندها سوق الإسناد لمعرفة حاله، فالصحيح المتصل لا يضره عدم وجوده في المصنفات- مع بعد ذلك في الغالب- فتأمل.
نعم ولشيخنا الحافظ أبي الفضل الغماري رسالة في إبطال هذا الحديث بعينه صغيرة الحجم عظيمة النفع.
- ومنها: ما ذكره الصالحي في سبل الهدى والرشاد [1/ 69] ، قال: في كتاب الأحكام للحافظ الناقد أبي الحسن بن القطان: روى علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده مرفوعا: كنت نورا بين يدي ربي عزّ وجلّ قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام.
وهذا أيضا لم نقف على إسناده، وفيه إشكال آخر وهو أن الكتاب المذكور مطبوع ولم أقف عليه فيه مع البحث الشديد، وقد أورده العجلوني في كشف الخفا [1/ 266] ، فعزاه- تبعا لابن مرزوق- لابن القطان في الكتاب المذكور، فإن صح ما قالوه فيبقى محلا للنظر حتى يوقف على إسناده.
- ومنها: ما ذكره الشيخ القسطلاني في المواهب [1/ 66] ، بلفظ قيل- بلا عزو لأحد ولا لكتاب-: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم السلام فغشيهم من نوره ما أنطقهم الله به فقالوا: يا ربنا من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته، فقال الله تعالى: أشهد عليكم؟ قالوا: نعم، فذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ.
- قال أبو عاصم: ولعل أحسن ما في هذا الباب ما رواه الحافظ البيهقي في الدلائل- التي اشترط ألا يخرج فيها الموضوع وما لا أصل له، قال في [5/ 483]-: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد المقرئ- قدم علينا حاجّا-(1/308)
والنار، وقبل أن يخلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب- حدثنا أبو سعيد الخليل بن أحمد القاضي السجزي، أنا أبو العباس محمد ابن إسحاق الثقفي- وهو السراج أحد الأئمة- حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن- من رجال الصحيح- حدثنا حبان بن هلال، ثنا مبارك ابن فضالة، ثنا عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص ابن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله عزّ وجلّ آدم خيّر لآدم بنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض قال: فرآني نورا ساطعا في أسفلهم، فقال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك أحمد صلى الله عليه وسلم هو الأول والآخر، وهو أول شافع ... فهذا حديث إسناد رجاله عن آخرهم ثقات، دونهم في الثقة: المبارك ابن فضالة، وهو صدوق رمي بالتدليس.
فهذا ما وقفت عليه من الأحاديث في هذا الباب.
* ولأهل العلم كلام وتأويلات في معنى النور الإلهي والنور النبوي وأولية خلقه من المناسب نقلها هنا:
قال الشيخ محمد بن يوسف الصالحي في سبل الهدى والرشاد [1/ 69] بعد إيراده للأحاديث المتقدمة: قال ابن القطان- يعني صاحب الأحكام-:
فيجتمع من هذا مع ما في حديث علي: أن النور النبوي جسّم بعد خلقه صلى الله عليه وسلم باثنتي عشر ألف عام وزيد فيه سائر قريش وأنطق بالتسبيح. اه.
وقال العجلوني في كشف الخفا [1/ 266] : قال الشبراملسي: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره- من أن الله تعالى له نور قائم بذاته- لاستحاله عليه تعالى لأن النور لا يقوم إلا بالأجسام، بل المراد: خلق من نور مخلوق له قبل نور محمد، وأضافه الله تعالى لكونه تولى خلقه، قال: ويحتمل أن تكون الإضافة بيانية، أي: خلق نور نبيه من نور هو ذاته تعالى لكن لا بمعنى أنها مادة خلق نور نبيه منها بل بمعنى أنه تعالى تعلقت إرادته بإيجاد نور بلا توسط شيء في وجوده، قال: وهذا أولى الأجوبة، نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ حيث قال: أضافه إلى نفسه-(1/309)
وموسى وعيسى وسليمان وداود، وكل من قال تعالى حيث يقول:
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ الآية، إلى قوله: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم عليهم السلام بأربع مائة ألف سنة وأربعة وعشرين ألف سنة، وخلق معه اثنى عشر حجابا: - تشريفا وإشعارا بأنه خلق عجيب وأن له مناسبة إلى حضرة الربوبية. اه.
ولعل فيما ذكره الراغب في معنى النور غني عن التأويل، فقد قال في مفرداته:
قد سمى الله تعالى نفسه نورا من حيث أنه هو المنور فقال: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قال: فتسميته تعالى بذلك لمبالغة فعله. قال: والنور ضربان:
دنيوي وأخروي، فالدنيوي ضربان: ضرب معقول بعين البصيرة وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل ونور القرآن، ومحسوس بعين البصر، وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالقمرين والنجوم والنيرات، قال: فمن النور الإلهي قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ، وقال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا، وقال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، وقال: نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ الآية، قال: والمحسوس قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً الآية، قال ومن النور الآخروي قوله تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ الآية، فهذا ما جاء في معنى نوره صلى الله عليه وسلم وتأويله.
ولا معارضة فيما ورد في أولية خلق نوره صلى الله عليه وسلم لما روي من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب ... الحديث، ولما روي من حديث ابن عمر مرفوعا: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ... ، لإمكان الجمع بين الأولية في كل شيء بالإضافة إلى جنسه من المخلوقات، أفاده العجلوني في كشف الخفاء، والقسطلاني في المواهب نقلا عن أبي يعلى الهمداني.(1/310)
حجاب القدرة، وحجاب العظمة، وحجاب المنّة، وحجاب الرحمة، وحجاب السعادة، وحجاب الكرامة، وحجاب المنزلة، وحجاب الهداية، وحجاب النبوة، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الشفاعة.
ثم حبس نور محمد صلى الله عليه وسلم في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي حجاب العظمة إحدى عشر ألف سنة وهو يقول: سبحان عالم السر وأخفى، وفي حجاب المنة عشرة آلاف سنة وهو يقول: سبحان الرفيع الأعلى، وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان الرؤوف الكبير، وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو دائم لا يسهو، وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان من هو غني لا يفتقر، وفي حجاب المنزلة ستة آلاف سنة وهو يقول: سبحان العليم الحليم، وفي حجاب الهداية خمسة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ذي العرش العظيم، وفي حجاب النبوة أربعة آلاف سنة وهو يقول: سبحان رب العزة عما يصفون، وفي حجاب الرفعة ثلاثة آلاف سنة وهو يقول: سبحان ذي الملك والملكوت، وفي حجاب الهيبة ألفي سنة وهو يقول: سبحان الله وبحمده، وفي حجاب الشفاعة ألف سنة وهو يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده.
ثم أظهر اسمه على اللوح- وكان اللوح منورا- أربعة آلاف سنة، ثم أظهره على العرش- أي ليعرفه العرش- فكان على ساق العرش مثبتا سبعة آلاف سنة إلى أن وضعه الله في صلب آدم عليه السّلام.
ثم إن الله عزّ وجلّ نقله من صلب آدم إلى صلب نوح، ثم من صلب إلى صلب حتى أخرجه الله من صلب عبد الله بن عبد المطلب.(1/311)
80- وقال بعضهم: خلق الله عزّ وجلّ نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخلق الأشياء بتسعة آلاف سنة، فجعل النور يطوف بالقدرة، فإذا بلغ الموضع الذي أمره بالسجود سجد فبقي في سجوده مائة سنة وهو يقول: سبحان العالم الذي لا يجهل، سبحان الحليم الذي لا يعجل، سبحان الجواد الذي لا يبخل، فلما أراد الباري جل جلاله خلق الأشياء، خلق من نور محمد صلى الله عليه وسلم جوهرا، وخلق من الجوهر ماء عذبا وجعل فيها البركة، وكان يموج ألف سنة لا يستقى، ثم قسم نور محمد صلى الله عليه وسلم بعشرة أجزاء، فخلق من الجزء الأول العرش، ومن الجزء الثاني القلم، ومن الثالث اللوح، ومن الرابع القمر، ومن الخامس الشمس، ومن السادس الكواكب، ومن السابع الملائكة، ومن الثامن نور المؤمن، ومن التاسع الكرسي، ومن العاشر محمدا صلى الله عليه وسلم، ورفع لإبراهيم عليه السّلام فقال: لم أر خليقة أحسن من هذه الخليقة ولا أمة أنور من هذه الأمة ... فمن هذا؟ فنودي: هذا محمد حبيبي لا حبيب لي من خلقي غيره، اخترت ذكره قبل أن أخلق السماوات والأرض وأنا مخرجه من صلبك، فأخبر إبراهيم سارة بتعظيم نوره وبهائه، فلم تزل سارة متوقعة لذلك حتى حملت هاجر بإسماعيل، فلما حملت هاجر اغتمت سارة، فلما وضعت أدركتها الغيرة حتى بشرها الله تعالى بإسحاق على لسان إبراهيم صلوات الله عليه، فلما دنت وفاة إبراهيم عليه السّلام جمع بنيه وهم يومئذ ستة ودعا بتابوت آدم عليه السّلام ففتحه فقال: انظروا إلى هذه التابوت فنظروا فرأوا في التابوت بيوتا بأعداد الأنبياء كلهم، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوتة حمراء فإذا هو قائم فيه يصلي عن يمينه الكهل المطيع- وهو أبو بكر الصديق-، على جبينه مكتوب: هذا أول من يتبعه من أمته من المؤمنين، وعن يساره الفاروق، مكتوب على جبهته: قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة(1/312)
لائم، ومن ورائه ذو النورين آخذا بحجزته، مكتوب على جبهته: يا زين البرية، ومن بين يديه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه شاهرا سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه والمؤيد بالنصر من عند الله عزّ وجلّ، وحوله عمومته والخلفاء والنقباء والكوكبة الخضراء التي حدقت بها سلسلة النضرة، فنظروا فإذا الأنبياء كلهم منقولون في صلب إسحاق عليه السّلام، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه منقول في صلب إسماعيل عليه السّلام، فقال إبراهيم عليه السّلام: بخ بخ، هنيئا لك يا إسماعيل فأنا آخذ عليك عهدا وميثاقا، فلما أخذ عليه العهد لم يزل متمسكا بذلك العهد حتى تزوج بابنة الحارث فواقعها فولدت له قيذار وفيه نور النبي صلى الله عليه وسلم.
فوصّاه إسماعيل عليه السّلام بالنور وسلم إليه التابوت، وقال: لا تضع هذا النور إلا في المطهّرات، فظن قيذار أن المطهرات من ولد إسحاق فتزوج من بنات إسحاق ثمانين امرأة وأقام معهن مائة سنة، فلم يحبلن، فبينا هو ذات يوم راجع من الصيد إذ استقبلته الوحش والطير والسباع من كل مكان فنادته بلسان طلق ذلق: يا قيذار قد مضى عمرك، همتك اللهو، أما آن لك أن تهتم لنور محمد صلى الله عليه وسلم أين تضعه؟ قوله: «فولدت له قيذار» :
بفتح الذال بعدها ألف، وقيل: قيذر، بضمها وإسقاط الألف، وقيل: بل هو قاذر بن إسماعيل، وهو أبو العرب كلها، قيل في معناه: صاحب الإبل لأنه كان صاحب إبل والده إسماعيل، وقيل: معناه الملك إذا قهر وغلب، قال السهيلي في الروض: ذكر من وجه قوي عن نساب العرب أن نسب عدنان يرجع إلى قيذر بن إسماعيل، وأن قيذر كان الملك في زمانه.
قوله: «وقال: لا تضع هذا النور إلا في المطهرات» :
سقطت هذه الجملة من نسخة «ظ» .(1/313)
فرجع قيذار إلى منزله مكروبا، وحلف بإله إبراهيم أنه لا يطعم ولا يشرب حتى يأتيه بيان ما سمع على لسان الطير والسباع، فبينا هو ذات يوم قاعد على فلاة من الأرض بعث الله إليه ملك الهواء في صورة رجل من الآدميين لم ير قيذار أحسن منه خلقا فهبط إليه الملك وسلم وقعد معه وقال: يا قيذار إنك قد ملكت البلاد فلو أنك قربت قربانا لإله إبراهيم عليه السّلام وسألته أن يبين لك من أين لك التزويج كان خيرا لك من التواني، وعرج الملك إلى مكانه، فقام قيذار وكان له جمة وجمال فقرب سبع مائة كبش أقرن من كباش إبراهيم عليه السّلام، كلما ذبح كبشا جاءت نار من الأرض حمراء لا دخان لها في سلاسل بيض فتأخذ ذلك القربان فتصعد به إلى السماء، فلم يزل قيذار يذبح ويقرب حتى ناداه مناد:
حسبك يا قيذار قد استجاب الله دعوتك وقبل قربانك، انطلق إلى شجرة فلان فنم في أصلها وائتمر لما تؤمر في منامك، فرد قيذار الغنم وأقبل حتى أتى تلك الشجرة فنام في أصلها فأتاه آت في المنام فقال: ابتغ لنفسك امرأة من العرب وليكن اسمها الغاضرة، فوثب قيذار مسرورا، فلم يزل يطلبها حتى وقع على ملك الجرهمين وكان من ولد زهير بن عامر من ولد قحطان، وتزوج بها، وحملها من أرضها إلى أرض نفسه حتى حملت منه، فأصبح قيذار والنور من وجهه مفقود ونظر إلى النور الذي في وجه الغاضرة فسرّ بذلك سرورا شديدا، وكان عنده تابوت آدم عليه السّلام، وكان ولد إسحاق يتداعون التابوت، وكانوا يقولون: النبوة صرفت عنكم فليس لكم إلا هذا النور الواحد فأعطنا التابوت، وكان يمتنع عليهم ويقول: إنه وصية أبي فلا أعطيه أحدا من العالمين، قال:
فذهب قيذار ذات يوم ففتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه، فناداه مناد من الهواء: مهلا يا قيذار فليس لك إلى فتح التابوت سبيل، إنك وصي نبي(1/314)
ولا يفتح هذا إلا نبي من النبيين، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله وعظّمه، فلما أن سمع قيذار مقالته أقبل إلى أهله وهي الغاضرة فقال: انظري إن أنت ولدت غلاما فسميه حمل، وأنا أرجو أن يكون غلاما طيبا، قال: وحمل قيذار التابوت على عاتقه وخرج يريد أرض كنعان، وذلك أن يعقوب كان بأرض كنعان، فأقبل يسير، أرض ترفعه وأرض تخفضه حتى قرب من البلاد قال: فصر التابوت صرة فسمعها يعقوب فقال لبنيه: اقسم بالله لقد جاءكم قيذار فقوموا نحوه فاستقبلوه، فقام يعقوب وأولاده جميعا، فلما نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا، وقال: يا قيذار مالي أرى لونك متغيرا ضعيفا؟ أرهقك عدو أو أتيت معصية بعد أبيك إسماعيل؟ فقال: ما رهقني عدو ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهري نور محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك تغير لوني وضعف ركني، قال: إلى بنات إسحاق؟ قال: لا، ولكن إلى عربية جرهمية وهي الغاضرة، قال يعقوب: بخ بخ، شرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن الله ليخرجه إلا في العربيات الطاهرات وأنا أبشرك ببشارة، قال: وما هي؟ قال يعقوب عليه السّلام: اعلم أن الغاضرة ولدت الليلة غلاما، قال: وما أعلمك يا ابن عم وأنت بأرض الشام وهي بأرض الحرم؟ قال: أعلم ذلك لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت ورأيت قد سطع منها نور كالقمر المنير بين السماء والأرض، ورأيت الملائكة ينزلون بالبركات والرحمة، فعلمت أن ذلك لأجل محمد صلى الله عليه وسلم، فسلم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله فوجدها قد ولدت غلاما وسمته حملا وفيه نور محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ترعرع أخذ أبوه وانطلق يريه مكة والمقام وموضع بيت الله الحرام، فلما صار على جبل ثبير تلقاه ملك الموت في صورة رجل من الآدميين فقال: إلى أين يا قيذار؟ قال: انطلق بابني هذا فأريه مكة والمقام وموضع بيت الله(1/315)
الحرام، فقال: وفقك الله ولكن لك عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال:
هلم إليّ فإن بيني وبينك سرّا، قال: فدنا منه قيذار ليساره فقبض ملك الموت روحه من أذنه فخرّ ميتا بين يدي ابنه، فغضب ابنه من ذلك غضبا شديدا وقال: يا عبد الله أقتلت أبي وهو أب العرب كلها؟! قال ملك الموت: انظر إلى أبيك أميت هو أم لا؟ فانكب عليه لينظر ما قصة أبيه، فإذا هو ميت، وعرج ملك الموت إلى السماء فرفع رأسه فلم ير داعيا ولا مجيبا، فعلم أنه ملك الموت عليه السّلام فقعد يبكي، فقيض الله تعالى له أقواما من ولد إسحاق عليه السّلام فغسلوه وحنطوه ودفنوه في جبل ثبير.
فلما نشأ ابنه حمل وولد له معد- وإنما سمي معدا لأنه كان صاحب حروب- وكانت له نصرة على العدو.
قوله: «وهو أب العرب كلها» :
هذه العبارة ليست في «ظ» .
قوله: «وولد له معد» :
يعني من ذريته ومن ولده، لا أنه ولده مباشرة، بينهما قرون وآباء، فحمل من الأسماء التي وردت في سلسلة النسب التي أخرجها بعض أهل السير في سياق ذكرهم الاختلاف في نسب ما وراء عدنان، قال ابن قتيبة في المعارف: ولدت امرأة إسماعيل اثنى عشر بطنا منهم: قيذار ونبت، قال ابن قتيبة: والنساب يختلفون في نسب معد بن عدنان فبعضهم يقول: هو من ولد قيذار، وبعضهم يقول: هو من ولد نبت. اه، وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا هشام ابن محمد قال: سمعت من يقول: كان معد على عهد عيسى بن مريم وهو معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن يقدر بن يقدم بن أمين بن منحر بن صابوح بن الهميسع بن يشجب بن يعرب بن العوام بن نبت بن سلمان بن حمل بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. -(1/316)
ثم ولد له نزار وهو أب العرب كلها، وإنما سمي نزارا لأن أباه لما-* وقد ساق رحمه الله الاختلاف في ذلك بين الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، وإبدال أحدهم بآخر ثم قال: لم أر بينهم اختلافا أن معدا من ولد قيذار بن إسماعيل، وهذا الاختلاف في نسبته تدل على أنه لم يحفظ، وإنما أخذ ذلك من أهل الكتاب وترجموه لهم فاختلفوا فيه، ولو صح ذلك لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به.
* وقال ابن سيد الناس في العيون: الذي رجحه بعض النسابين في نسب عدنان أنه ابن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل ابن قيذار ابن الذبيح إسماعيل ابن الخليل إبراهيم بن تارح- وهو آذر- بن ناحور بن ساروح بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ابن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ- وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم- ابن يارد ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث- وهو هبة الله- بن آدم عليهم أفضل الصلاة والسلام.
* وقال ابن سعد، وابن جرير، وابن عساكر وجمهور أصحاب السير:
لا يختلف النسابون في أن نسب نبينا صلى الله عليه وسلم إلى معد بن عدنان، وإنما يختلفون فيما وراء ذلك، قال ابن سعد: فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معد ابن عدنان ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم.
* وقد اختلف في معد، قال السهيلي في الروض: قال ابن الأنباري: فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن يكون مفعلا من العد، والثاني: أن يكون فعلا من معد في الأرض أي: أفسد، قال: وإن كان ليس في الأسماء ما هو على وزن فعل- بفتح الفاء- إلا مع التضعيف، فإن التضعيف يدخل في الأوزان ما ليس فيها كما قال: شمّر وقشعريرة، ولولا التضعيف ما وجد مثل هذا ونحو ذلك، والثالث: أن يكون من المعدّين وهما موضع عقبي الفارس من الفرس، قال: وأصله على القولين الأخيرين من المعد بسكون العين وهو القوة ومنه اشتقاق المعدة. -(1/317)
رأى نور محمد صلى الله عليه وسلم في وجهه قرّب قربانا، ثم قال: هذا قربان نزر في جنب هذا النور.
ثم ولد له مضر- ما رآه أحد إلا أحبه- وكان يسمع من ظهره أحيانا دوي تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ولد له مدركة، واسمه: عمرو بن إلياس، وإنما سمي مدركا لأنه أدرك في عز وشرف في أيامه.
- الطبقات لابن سعد [1/ 56- 59] ، وتاريخ ابن جرير [2/ 270- 274] ، وتاريخ ابن عساكر [3/ 58- 62] .
قوله: «قربان نزر» :
أي النزر: القليل التافة، والمعنى: أنه استقل ما قدم من قربان بجانب ما رأى من عظيم النعمة، قال السهيلي في الروض [1/ 10] : كان أبوه حين ولد ونظر إلى النور بين عينيه- وهو نور النبوة الذي كان ينتقل في الأصلاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم- فرح فرحا شديدا به، فنحر وأطعم وقال: إن هذا كله نزر لحق هذا المولود، فسمي نزار لذلك، وقال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره، ذكره في الفتح.
قوله: «وكان يسمع من ظهره أحيانا دويّ تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
حكاه السهيلي في الروض [1/ 10] ، لكن ذكر أن ذلك كان يسمع من ظهر إلياس والد مدركة لا مضر، ولعله الأشبه، لأن مضر ولد له إلياس بن مضر، وولد لإلياس مدركة وهو الذي يسمى عمرا- أو عامرا كما سيأتي بيانه- فكأن في تسلسل النسب اختصارا، والله أعلم.
قوله: «واسمه عمرو بن إلياس» :
كذلك سماه ابن سعد في الطبقات [1/ 55] من حديث هشام بن محمد، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 59] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 267] ، قال الحافظ في الفتح: وهو قول الجمهور، وسماه ابن إسحاق-(1/318)
ثم ولد له خزيمة- وخزم نور أبيه.
ثم ولد له كنانة، فإنه لم يزل في كنّ ودعة.
- كما في سيرة ابن هشام [1/ 75] ، ومن طريقه ابن جرير [2/ 267] : عامرا، قال ابن إسحاق: وزعموا أن عامرا وعمروا كانا في إبل لهما يرعيانها فاقتنصا صيدا فقعدا عليها يطبخانها، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل أم تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها، فلما راحا على أبيهما حدثاه بشأنهما فقال لعامر:
أنت مدركة، وقال لعمرو: وأنت طابخة، وخرجت أمهم لما بلغها الخبر وهي مسرعة فقال لها: تخندفين فسميت: خندف، زاد ابن جرير في تاريخه لكن من رواية هشام بن محمد: وانقمع- يعني أخاهم- عميرا في الخباء فلم يخرج فسمي قمعة، قال: والخندفة: ضرب من المشي.
قال: وقال قصي بن كلاب: أمّهتي خندف وإلياس أبي.
قال: وقال إلياس لعمرو ابنه: إنك قد أدركت ما طلبتا.
وقال لعامر: وأنت قد أنضجت ما طبختا.
وقال لعمير: وأنت قد أسأت وانقمعتا.
قوله: «ثم ولد له خزيمة» :
أي لمدركة بن إلياس.
قوله: «وخزم نور أبيه» :
يعني: وبه خزم نور أبيه أي: ثقب وخرق، ويجوز أن يكون بمعنى: صلح، قال السهيلي في الروض: خزيمة: تصغير خزمة واحدة الخزم، ويجوز أن يكون تصغير خزمة، وكلاهما موجود في أسماء الأنصار وغيرهم وهي المرة الواحدة من الخزم وهو شد الشيء وإصلاحه، قال: وقال أبو حنيفة: الخزم مثل الدوم تتخذ من سعفه الحبال، ويصنع من أسافله خلايا للنحل وله ثمر لا يأكله الناس ولكن تألفه الغربان وتستطيبه.(1/319)
ثم ولد له النضر واسمه: قيس، فألبسه الله النضرة في وجهه، وسمي قريشا لأنه غلب الجميع.
قوله: «واسمه قيس» :
كذا في الأصول وهو الصواب، وعلق ناسخ «ب» في الهامش على ذلك فقال: لعله قريش، فإن سياق الكلام يدل عليه، اهـ. وهو كما قال لكن قد اختلف أهل السير فيمن أطلق عليه اسم قريش ابتداء أو لقب بذلك، يأتي بيانه قريبا، وقد ذكر غير واحد من أهل السير ان اسم النضر: قيس، منهم:
ابن سعد، فقال في الطبقات [1/ 55] : أخبرنا هشام بن محمد بن السائب بن بشر الكلبي قال: علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم: هو محمد- الطيب المبارك- ابن عبد الله بن عبد المطلب، واسمه: شيبة الحمد بن هاشم، واسمه: عمرو بن مناف، واسمه: المغيرة بن قصي، واسمه: زيد بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر- وإلى فهر جماع قريش، وما كان فوق فهر فليس يقال له قريش يقال له: كناني-، وهو فهر بن مالك بن النضر، واسمه: قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، واسمه: عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. اه.
وقال ابن جرير في تاريخه [2/ 265] : اسم النضر: قيس، وأمه: برة بنت مر بن أد بن طابخة. اه.
قوله: «وسمي قريشا لأنه غلب الجميع» :
هذا أحد الأقوال في سبب تسمية النضر بذلك، وفيه قول آخر فقيل: لأن النضر بن كنانة خرج يوما على نادي قومه فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر كأنه جمل قريش.
- وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرّش عن خلة الناس وحاجاتهم فيسدها بماله، قالوا: والتقريش: التفتيش، فكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلّغهم فسموا بذلك من فعلهم وقرشهم، فهو أبو قريش، خاصة من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. -(1/320)
81- وسئل ابن عباس رضوان الله عليه: لم سميت قريش قريشا؟
قال: دابة في الأرض تسمى قريشا تعدو على الجميع.
- وقيل: لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب، فقيل لهم: قريش من أجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب:
تقرش بنو النضر أي: تجمعوا.
- وقيل: إنما قيل قريش من أجل أنها تقرشت عن الغارات.
وذكر السهيلي رحمه الله في الروض عن عبد الله بن مصعب قوله: اسم فهر بن مالك: قريش، وإنما فهر لقب، قال: وكذلك قال عثمان بن أبي سليمان في اسم فهر بن مالك أنه قريش، ومثل ذلك عن أبي عبيدة بن عبد الله في اسم فهر ابن مالك أنه قريش، قال: وعن ابن شهاب الزهري: أن اسم فهر بن مالك الذي أسمته أمه: قريش، وإنما نبزته فهرا كما يسمى الصبي: غرارا وشملة وأشباه ذلك. قال: وقد أجمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، والذي أدركته عليه نساب قريش وغيرهم أن ولد فهر بن مالك قريش، وأن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش، وإلى هذا يشير قول الشاعر:
أما قريش فالأصح فهر ... جماعها والأكثرون النضر
- وقيل: سميت قريش قريشا بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد ابن النضر بن كنانة، كان دليل بني النضر في أسفارهم وصاحب ميرتهم، فكانت إذا قدمت عير بني النضر قالت العرب: جاءت عير قريش.
- وقيل: لكثرة تجارتهم، والتقرش: التجارة والاكتساب.
- وقيل: إنما قريش جمّاع النسب ليس بأب ولا أم ولا حاضن ولا حاضنة.
(81) - قوله: «وسئل ابن عباس» :
الذي سأله هو معاوية بن أبي سفيان كما سيأتي.
قوله: «تعدو على الجميع» :
من قوتها، فشبه بنو النضر بن كنانة بها من قوتهم، فهذا ما جاء في سبب تسمية النضر أو بني النضر بذلك.(1/321)
وفيه يقول تبّع:
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا ... تترك فيها لذي الجناحين ريشا
قوله: «وفيه يقول تبع» :
كذا يقول المصنف هنا، وقد أخرجها الحافظ البيهقي في الدلائل [1/ 180- 181] ، قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، ثنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، ثنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي، أن أبا كريب حدثهم، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ريحانة العامري: أن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟
قال: لدابة تكون في البحر، تكون أعظم دوابه يقال لها: القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، قال: فأنشدني في ذلك شيئا فأنشدته شعر الجمحي إذ يقول: ... فذكره.
وقال ابن الجوزي في المنتظم [2/ 227- 228] : أنا يحيى بن الحسن بن البنا، أنا أبو جعفر بن المسلمة، أنا أحمد بن سليمان الطوسي، ثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر ومحمد بن الحسن قالا: أنا علي بن جعفر بن محمد قال: حدثني أبو سعيد المكي عمن حدثه أن عبد الله بن عباس دخل على معاوية- في المطبوع: معونة- وعنده عمرو بن العاص، فقال له عمرو:
إن قريشا تزعم أنك أعلمها، فبم سميت قريش قريشا؟ قال: بأمرين، قال: فأبن لنا، وهل قال أحد فيه شعرا؟ قال: نعم، سميت قريش بدابة في البحر تسمى قريشا، وقد قال المشمرخ- كذا- ابن عمرو الحميري: ... فذكره وزاد بيتا:
تملأ الأرض خيله ورجال ... ينحرون المطي سيرا قميشا(1/322)
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر ... القتل فيهم والخموشا
وفيهم يقول ابن الزبعرى:
كانت قريش بيضة فتفلقت
قوله: «كميشا» :
أي سريعا، وكتب في هامش نسخة «ظ» : «كشيشا صح» وقد جاء كذلك في بعض المصادر وما أثبتناه يوافق ما في بقية النسخ، وأكثر المصادر.
قوله: «والخموشا» :
أي: الخدوش.
قوله: «وفيهم يقول ابن الزبعرى» :
هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس السهمي، أبو سعد القرشي، شاعر قريش في الجاهلية، كان من أشد الناس على المسلمين قبل إسلامه، يهجوهم بشعره، ثم لما مكن الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الأرض ودخل مكة هرب إلى نجران، فقال فيه حسان أبياتا لما بلغته عاد إلى مكة مسلما معتذرا، فحسن إسلامه وصار مادحا للحضرة النبوية.
وقد نسب الأبيات لابن الزبعرى جماعة منهم: ابن سعد في الطبقات [1/ 76] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 59] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 210] ، والمرتضى في أماليه [2/ 269] ، وابن أبي الحديد [3/ 453] ، والعصامي في سمط النجوم [1/ 209] ، والسهيلي في الروض [1/ 161] ، والعيني [4/ 140] ، وابن منظور في لسانه [2/ 589] ، وغيرهم.
ونسبها لمطرود بن كعب الخزاعي: محمد بن حبيب البغدادي في المنمق [/ 12] ، وابتدأ الأبيات من قوله: عمرو العلى، وقال بعده:
كانت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف
-(1/323)
.........
- هبلتك أمك لو نزلت عليهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف
- وكذا نسبها ابن هشام، عن ابن إسحاق [1/ 178] فقال: قال ابن إسحاق:
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي عبد المطلب وبني عبد مناف، فخالفه في بعض الكلمات ولفظه فيها:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا سألت عن آل عبد مناف
هلبتك أمك لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جرم ومن إقراف
الخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يعود فقيرهم كالكاف
المفعمين إذ النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف
والمطعمين إذ الرياح تناوحت ... حتى تغيب الشمس في الرجاف
إما هلكت أبا الفعال فما جرى ... من فوق مثلك عقد ذات نطاف
إلا أبيك أخي المكارم وحده ... والفيض مطلب أبي الأضياف
وجعلها في موضع آخر من سيرته [1/ 136] ، لبعض شعراء قريش أو العرب وتبعه ابن البري في الجوهرة [1/ 27] ، وساق منها:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
- وأما لفظ عبد الملك بن حسين العصامي في سمط النجوم [1/ 209] :
قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف
هلا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضر ومن إلحاف
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصها لعبد مناف
الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف
والملحقين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكاف
والقائلين بكل وعد صادق ... والآمرين برحلة الإيلاف
سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف(1/324)
فالمح خالصها لعبد مناف
الفاعلون فليس يوجد مثلهم ... والقائلون هلم للأضياف
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
فمن كان من نسله فهو قرشي.
82- قال: وهو الذي رأى في منامه في الحجر كأنه خرجت من قوله: «فالمحّ خالصها» :
ومح كل شيء خالصه، والمحة: صفرة البيض.
(82) - قوله: «وهو الذي رأى في منامه» :
هذه الرؤيا أوردها المصنف مختصرة، وقد أخرجها أبو نعيم في الدلائل بطولها [1/ 99] برقم 51 لكن الرائي عنده فيها هو عبد المطلب.
قال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، ثنا سعيد بن عثمان، ثنا علي بن قتيبة الخراساني، ثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده قال:
سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال: بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعليّ مطرف خز وجمتي تضرب منكبي، فلما نظرت إليّ عرفت في وجهي التغير- وأنا يومئذ سيد قومي- فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون، هل رأيت من حدثان الدهر شيئا؟
فقلت: بلى- وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى، ثم يضع يده على أم رأسها يبدأ بحاجته، ولم أفعل لأني كنت كبير قومي-، فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها، أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا ساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلق بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنو منها أخّرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أضلعهم، ويقلع-(1/325)
ظهره شجرة خضراء حتى بلغت أعنان السماء، وإذا أغصانها نور في نور، وإذا بقوم بيض الوجوه، واذا القوم متعلقون بها من لدن ظهري إلى السماء، فلما انتبهت أتيت كهنة قريش فأخبرتهم بذلك، فقالوا: لئن صدقت رؤياك فقد صرف الله إليك العز والكرامة، وقد خصصت بحسب وسؤدد لم يخص بها أحد من العالمين.
فأعطاه الله ذلك، وذلك حين نظر الله إلى الأرض فقال للملائكة:
انظروا من أكرم أهل الأرض اليوم عندي- وأنا أعلم بذلك- فقالت الملائكة: ربنا وسيدنا ما نرى في الأرض أحدا بالوحدانية مخلصا إلا نورا واحدا في ظهر رجل من ولد إسماعيل، قال الله:
فاشهدوا أني قد أكرمته لنطفة حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت نطفة مالك- وإنما سمي مالكا لأنه ملك العرب-، وأوصى مالك ابنه فهرا، وأوصى فهر غالبا، وأوصى غالب لؤيا، وأوصى لؤي كعبا، - أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فمنعني الشاب، فقلت: لمن النصيب؟
فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها، فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، ويدين له الناس، ثم قال لأبي طالب: لعلك تكون هذا المولود، فكان أبو طالب يحدّث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، ويقول: كانت الشجرة- والله أعلم- أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن به؟
فيقول: السبّة والعار!.
قوله: «فكانت نطفة مالك» :
وهو مالك بن النضر بن كنانة.
قوله: «وأوصى مالك ابنه فهرا» :
هو فهر بن مالك الذي قيل إن اسمه قريش، وأن فهرا لقب له، وأن من كان من نسله فهو قرشي لأنه أبو قريش خاصة وجماعها، وإلى ذلك يشير قول-(1/326)
وأوصى كعب مرّة، وأوصى مرّة كلابا فولد له قصي واسمه: زيد ويسمى مجمّعا، وإنما سمي بذلك لأنه جمع أولاد آبائه أقصاهم وأدناهم وأنزلهم مكة وأقطعهم شعابها فسموا قريشا لاجتماعهم-، ولأنه كان يقصي الباطل ويدني الحق، والعرب كانوا يتحاكمون إليه، - هشام بن محمد الكلبي الذي رواه ابن سعد وأوردناه قريبا.
قوله: «وإنما سمي بذلك لأنه جمع أولاد آبائه» :
وإلى ذلك أشار حذافة بن غانم العدوي بقوله لأبي لهب بن عبد المطلب:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمّع الله القبائل من فهر
- أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 71] ، وأورده ابن الجوزي في المنتظم [2/ 221] فقال في أوله:
وزيد أبوكم كان يدعى مجمعا- وأورده ابن هشام في سيرته [1/ 126] فقال في أوله:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا- وزاد السهيلي في الروض [1/ 148] بيتا بعده فقال:
هموا ملأوا البطحاء مجدا وسؤددا ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر
قوله: «والعرب كانوا يتحاكمون إليه» :
قال ابن إسحاق: ولي قصي أمر مكة والبيت، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملّك على قومه وأهل مكة فملّكوه، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينا عليه لا ينبغي تغييره، فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها، ويزعم الناس أن قريش هابوا قطع شجر الحرم في منازلهم فقطعها-(1/327)
ثم ولد له عبد مناف، وكان بيده لواء نزار وقوس إسماعيل وسقاية الحجاج ومفاتيح الأصنام، وإنما سمي عبد مناف لأن أباه قصي قرّبه إلى أهله وكان يعبد صنما يقال له: مناف، فوهبه له وأقامه لخدمته فسمي: - قصي بيده وأعوانه فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش ولا يتشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء حرب قوم من غيرهم إلا في داره يعقده لهم بعض ولده، قال: وكان أمره في قومه من قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره، واتخذ لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ففيها كانت تقضي قريش أمورها، كذا باختصار من سيرة ابن هشام [1/ 124- 125] .
قوله: «ثم ولد له عبد مناف» :
واسمه: المغيرة، وكان يقال له: القمر من جماله وحسنه، فلما هلك قصي ابن كلاب، قام عبد مناف بن قصي على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم ويبيعونها.
قوله: «وكان يعبد صنما يقال له مناف» :
زعم جماعة من أهل السير أن قصيا كان يقول: ولد لي أربعة فسميت اثنين بصنمي، وواحدا بداري، وواحدا بنفسي: عبد مناف، وعبد العزى، وعبد الدار، وعبد قصي.
قوله: «فوهبه له» :
الذي في السير أن أمّه حبّى بنت حليل بن حبشية هي التي دفعته إلى مناف تدينا وتقربا لأنه كان أعظم الأصنام بمكة فغلب ذلك عليه، قال ابن جرير:
وهو كما قيل:
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمحّ خالصة لعبد مناف(1/328)
عبد مناف، ثم ولد له هاشم، وإنما سمي هاشما لأنه أول من هشم الثريد لقومه، وقيل: إنما سمي هاشما لأن أهل مكة أصابهم جدب شديد ومجاعة فهشم لهم الخبز وأطعم الثريد، والهشم:
الكسر الصغار، وكان هاشم جوادا سريّا سخيّا لا يفتر من الأضياف، قوله: «ثم ولد له هاشم» :
كان اسمه عمرا ثم غلب عليه اسم هاشم وفيه قيل:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... كما تقدم.
قوله: «فهشم لهم الخبز وأطعم الثريد» :
تعقب السهيلي في الروض على قول من قال: (أنه سمي هاشما لهشمه الثريد) فقال: المعروف في اللغة أن يقال: ثردت الخبز فهو ثريد ومثرود، فلم يسم ثاردا وسمي هاشما، وكان القياس- كما لا يسمى الثريد هشيما، بل يقال فيه: ثريد ومثرود- أن يقال في اسم الفاعل أيضا كذلك، قال:
فكان سبب التسمية يحتاج إلى زيادة بيان: فذكر أصحاب الأخبار أن هاشما كان يستعين على إطعام الحاج بقريش فيرفدونه بأموالهم ويعينونه، ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشا أمر الرفادة فاحتمل إلى الشام بجميع ماله واشترى به أجمع كعكا ودقيقا، ثم أتى الموسم فهشم ذلك الكعك كله هشما، ودقه دقا، ثم صنع للحجاج طعاما شبه الثريد، فبذلك سمي هاشما، لأن الكعك اليابس لا يثرد وإنما يهشم هشما فبذلك مدح، وذكر أبيات ابن الزبعري.
قوله: «سريا» :
السري: الشريف الرفيع الممدح في قومه بكرمه وأخلاقه.
قال الشاعر:
تلقى السري من الرجال بنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما
أي أشرفهما.(1/329)
وكان يغل عنده ما يكفي جميع الناس من الخبز فيكسره، ويثرده في الجفان ويقدمه إليهم، فكان ذلك أعمل لجماعتهم وأستر عليهم إذ لا يعلم كل واحد منهم قدر ما يأكله صاحبه وصار سنة للعرب فلذلك سمي هاشما.
قوله: «يغل عنده» :
الغلّة: ما يأتي من النتاج من الزرع والثمر ونحوهما، يقال: فلان يغل على عياله، أي: يأتيهم بالغلة، وهو هاهنا الطعام الذي يطعمه الأضياف.
قوله: «فلذلك سمي هاشما» :
وروى ابن سعد [1/ 76- 77] من طريق الكلبي عن ابن عباس قال: كان اسم هاشم عمروا وكان صاحب إيلاف قريش، وإيلاف قريش دأب قريش، وكان أول من سن الرحلتين لقريش، ترحل إحداهما في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشي فيكرمه ويحبوه، ورحلة في الصيف إلى الشام إلى غزة وربما بلغ أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه، فأصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائز على الإبل حتى وافى مكة فهشم ذلك الخبز- يعني:
كسره- وثرده ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة فكان ذلك أول الحياة بعد السنة التي أصابتهم فسمي بذلك هاشما.
قال ابن سعد: وأخبرنا هشام بن محمد قال: فحدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، عن أبيه قال: قال وهب بن عبد قصي في ذلك:
تحمّل هاشم ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض
أتاهم بالغرائر متأقات ... من أرض الشام بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيم ... وشاب الخبز باللحم الغريض
-(1/330)
83- ويقال: إن أول من أطعم الثريد: إبراهيم الخليل عليه السّلام، وأول من هشم الخبز: هاشم، وفيه يقول ابن الزبعرى:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
الخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكاف
وكان الناس في شدة وضير من الزمان، وكان النور على وجهه كالهلال يتوقد شعاعه، لا يمر بشيء إلا سجد له، ولا يراه أحد إلا أقبل نحوه، وبعث إليه قيصر حفيد هرقل ملك الروم، وطلب إليه أن يزوج ابنته منه لما وجد في الإنجيل من قصته، وهو أن النور كان في وجهه ظاهرا فأبى، فأري في المنام: أن تزوج بنت زيد بن عمرو فتزوج بها فولدت له عبد المطلب واسمه: شيبة الحمد، وإنما سمي عبد المطلب لأن جده عبد مناف لما مات خلف ابنه هاشما فقام مقامه في العزّ والشرف في قريش وجمع العرب والسقاية والرفادة، ثم لما مات هاشم-
فظل القوم بين مكللات ... من الشيزا وحائرها يفيض
ويروى: من الشيرى جابرها، قاله ابن حبيب في المنمق.
قوله: «بنت زيد بن عمرو» :
ابن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار، واسمها:
سلمى- صرح باسمها في نسخة «م» -، وكان رآها بالمدينة حين اجتازها في طريقه إلى الشام للتجارة.
قوله: «واسمه شيبة الحمد» :
يقال: سمي بذلك لأنه ولد وفي رأسه شيبة، وقيل له الحمد: لجوده وسماحته.
قوله: «ثم لما مات هاشم» :
بغزة من أرض الشام، وهو أول من مات من ولد عبد مناف، وكان أوصى-(1/331)
وخلف ابنه عبد المطلب- كان صغيرا- فقام أخوه المطلب بن عبد مناف مقام هاشم، وكان أخوال عبد المطلب من أهل المدينة فحملوه إليهم مع أمه، فلما ترعرع وطعن عم عبد المطلب في السن وقارب أجله خرج إلى المدينة يطلب ابن أخيه فوجده مع غلمان يلعبون فدعاه إليه وخلا به رغبة في الخروج إلى مكة ليقيمه مقام أبيه وليحصل له الشرف والعز في قريش- إلى أخيه المطلب أمر الرفادة والسقاية، أخرجه ابن سعد في الطبقات من حديث هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه وقال: فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة إلى اليوم، وروى من حديث شيخه الواقدي قول خالدة بنت هاشم ترثي أباها:
بكر النعي بخير من وطئ الحصى ... ذي المكرمات وذي الفعال الفاضل
بالسيد الغمر السميدع ذي النهى ... ماضي العزيمة غير نكس واغل
زين العشيرة كلها وربيعها ... في المطبقات وفي الزمان الماحل
بأخي المكارم والفواضل والعلى ... عمرو بن عبد مناف غير الباطل
إن المهذب من لؤي كلها ... بالشام بين صفائح وجنادل
فأبكي عليه ما بقيت بعولة ... فلقد رزئت أخا ندي وفواضل
ولقد رزئت فريع فهر كلها ... ورئيسها في كل أمر شامل
قوله: «فحملوه إليهم مع أمه» :
الذي في السير وكتب التاريخ أنه ولد وسط أخواله، وكان جده لأمه قد اشترط على أبيه حين أنكحه إياها ألا تلد إلا عندهم وبينهم، فلما مضى أبوه إلى الشام ومات بغزة تربى بين أخواله فمكث بينهم سبع أو ثمان سنين.
قوله: «خرج إلى المدينة يطلب ابن أخيه» :
وسبب معرفته ما روي أن ثابت بن المنذر أبا حسان بن ثابت الشاعر قدم مكة معتمرا فلقي المطلب وكان له خليلا فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة-(1/332)
دونه ودون ولده، فقبل منه واستكتمه كيلا يمنعه أخواله عن حمله وعهد- فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا، لقد نظرت إليه وهو يناضل فتيانا من أخواله فيدخل مرماتيه جميعا في مثل راحتي هذه ويقول كلما فسق: أنا ابن عمرو العلى، فقال المطلب: لا أمسي حتى أخرج إليه فأقدم به، فقال ثابت: ما أرى سلمى تدفعه إليك ولا أخواله، هم أضن به من ذلك، وما عليك أن تدعه فيكون في أخواله حتى يكون هو الذي يقدم عليك إلى ما ههنا راغبا فيك، فقال المطلب: يا أبا أوس ما كنت لأدعه هناك ويترك مآثر قومه وسطته وشرفه في قومه ما قد علمت، فخرج المطلب فورد المدينة فنزل في ناحية وجعل يسأل عنه حتى وجده يرمي في فتيان من أخواله فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه وكساه حلة يمانية وأنشأ يقول:
عرفت شيبة والنّجّار قد حفلت ... أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
عرفت أجلاده منا وشيمته ... ففاض مني عليه وابل سبل
وذكر القصة بطولها، ويأتي تخريجها.
قوله: «واستكتمه كيلا يمنعه أخواله» :
كذا في رواية، وفي رواية أخرى أنه أخذه بإذنهم فبعد أن رآه وعرفه وعرفت سلمى أمه بقدومه دعته إلى النزول عليهم فقال: شأني أخف من ذلك، ما أريد أن أحل عقدة حتى أقبض ابن أخي وألحقه ببلده وقومه، فقالت: لست بمرسلته معك، وأغلظت له القول، فقال المطلب: لا تفعلي، فإني غير منصرف حتى أخرج به معي، ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف قومنا، والمقام ببلده خير له من المقام هاهنا، وهو ابنك حيث كان، فلما رأت أنه غير مقصر حتى يخرج به استنظرته ثلاثة أيام، وتحول إليهم فنزل عندهم فأقام ثلاثا ثم احتمله وانطلقا جميعا، فأنشأ المطلب يقول:
أبلغ بني النجار إن جئتهم ... أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوما إذا جئتهم ... هووا لقائي وأحبوا حسيسي(1/333)
له على ذلك، فلما وجد خلوة حمله معه إلى مكة فاستقبله الناس وكانوا يطلبونه في كل يوم لا يعلمون إلى أين قصد، فلما نظروا إليه راكبا على البعير وخلفه الصبي وكان أسود اللون، قالوا:
هذا عبد المطلب اشتراه في سفره أو أغار على بعض الأحياء فأخذه، إلى أن أخبرهم بقصته، وأعطاه جميع ما وعده فغلب عليه عبد المطلب لذلك، فلما أدرك عبد المطلب نام يوما في الحجر فانتبه من نومه وقد كسي حلة الجمال والبهاء فبقي متحيرا لا يدري من فعل ذلك به فأخذ أبوه بيده فانطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا: اعلم أن إله السماء قد أذن لهذا الغلام بالتزويج، قوله: «هذا عبد المطلب» :
هذا هو المشهور في سبب تسميته عبد المطلب، وقد قيل: إنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب، وهذا لا يستقيم إلا على قول من يقول أنه توفي بمكة المكرمة، لا بغزة.
قوله: «فغلب عليه عبد المطلب لذلك» :
أخرج القصة بطولها من طرق بألفاظ: ابن سعد في الطبقات [1/ 82- 83] ، وابن هشام في السيرة [1/ 137] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 246- 248] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 205- 207] .
قوله: «فلما أدرك عبد المطلب» :
أي: بلغ مبلغ الرجال.
قوله: «فأخذ أبوه بيده» :
الظاهر أنه عنى المطلب لأن هاشما مات وهو صغير كما تقدم.(1/334)
فزوجه فاطمة بنت عمرو.
قوله: «فزوجه فاطمة بنت عمرو» :
وقع في الأصول: هند بنت عمرو وهو إما خطأ أو تصحيف، أورد القسطلاني في المواهب [1/ 97] ، وعبد الملك بن حسين العصامي في سمط النجوم [1/ 226] القصة عن المصنف بذكر الاسم مصحفا، قال عبد الملك: وذكر الحافظ النيسابوري بسنده عن سعيد بن عمرو الأنصاري عن أبيه، عن كعب الأحبار أن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى عبد المطلب ونام في الحجر فانتبه مكحولا مدهونا فأخذه أبوه هاشم بيده ثم انطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك فقالوا له: اعلم أن إله السماء قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه أبوه قيلة فولدت له الحارث- وهو أكبر أولاده، وبه كان يكنى- ثم ماتت فزوجه بعدها هندا بنت عمر ...
وفي هذا من الخطأ:
1- قوله: فأخذ أبوه هاشم بيده: وقد تقدم أن أباه توفي وهو صغير وتربى في بيت أخواله لكن على رواية المصنف يمكن تأويله- لكونه لم يسم فيها- على أنه أراد المطلب.
2- قوله: فزوجه أبوه قيلة: المشهور أن أم الحارث- أكبر أولاده- اسمها صفية بنت جنيد بن حجر بن ذباب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة، نعم في زوجات عبد المطلب نتيلة بنت جناب لكنها ليست بأم الحارث بن عبد المطلب كما سيأتي.
3- قوله: هند بنت عمرو: كذلك لم أر فيما لدي من كتب السير والمراجع من ذكر هندا أو قيلة في زوجات عبد المطلب، ولا شك أنه أراد: فاطمة بنت عمرو بنت عائذ أم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شارح المواهب [1/ 82] : الظاهر أنه تحريف، والصواب: فاطمة بنت عمرو، ثم ذكر زوجات عبد المطلب.(1/335)
وحضرت المطلب الوفاة فدعا بعبد المطلب فقال: يا بني اجمع لي بني النضر: عبد قيسها وعبد شمسها ومخزومها وفهرها، ولؤيها، وغالبها، وهاشمها، وعبد المطلب يومئذ غلام ابن خمس وعشرين سنة أطول قريش باعا وأشدهم قوة، تفوح منه ريح كريح المسك، ونور محمد صلى الله عليه وسلم يسطع في دائرة غرة جبينه، فلما نظر المطلب إلى ذلك قال: معاشر قريش إنكم مخ ولد إسماعيل عليه السّلام، وأنتم الذين اختاركم الله لنفسه، فجعلكم سكان حرمه، وسدنة بيته، وأنا اليوم رئيسكم وسيدكم، وهذا لواء نزار، وقوس إسماعيل، وسقاية الحاج، ومفاتيح الأصنام، قد سلمتها إلى ابني هذا عبد المطلب فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا، قال: فوثبت قريش فقبلت رأس عبد المطلب ونثروا عليه الدراهم والدنانير وقالوا: قد سمعنا وأطعنا، وكان لواء نزار وقوس إسماعيل عليه السّلام في يده وكانت قريش بعد ذلك إذا أصابتهم قحط وشدة يأخذون بيد عبد المطلب فيخرجونه إلى ثبير فيتقربون به إلى الله عزّ وجلّ ويسألونه أن يسقيهم بنور محمد صلى الله عليه وسلم فيسقيهم الله جل جلاله به.
قوله: «وحضرت المطلب الوفاة» :
في الأصول: هاشما ولعله من سبق القلم فقد تقدم أن هاشما مات بأرض الشام وابنه صغير عند أهله بالمدينة.(1/336)
[34- فصل: في زواج عبد المطّلب بن عبد مناف وولادة عبد الله أبي المصطفى صلى الله عليه وسلم]
34- فصل: في زواج عبد المطّلب بن عبد مناف وولادة عبد الله أبي المصطفى صلى الله عليه وسلم 84- ورجع عبد المطلب إلى مكة، فتزوج بها، فولد له ابنه الحارث، وتزوج أم أبي لهب، فولدت له أبا لهب، واسمه: عبد العزى، وماتت، فتزوج بعدها نتيلة بنت جناب، فولد له منها: العباس بن (84) - قوله: «فولد له ابنه الحارث» :
في الأصول: «فتزوج بها ابنة الحارث فولدت له أبا لهب» وليس في زوجات عبد المطلب من هي ابنة للحارث غير أن أكبر أبناء عبد المطلب الحارث وبه كان يكنى فلعل في الكلام سقط أو تصحيف، وأم الحارث هي: صفية بنت جنيد- أو: جندب- بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.
- وأما أم أبي لهب فهي: لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حبشية ابن سلول بن كعب بن عمرو من خزاعة.
قوله: «نتيلة» :
بالتصغير وهي بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة ابن عامر وهو الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط ابن ربيعة بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن معد بن عدنان.
- ووقع في الأصول: «سعد بن عتاب» ، وفي أخرى: «بنت غياث» بدل «نتيلة بنت جناب» ، ولعله تصحيف.(1/337)
عبد المطلب أبو الخلفاء، وصفية بنت عبد المطلب، ثم تزوج بعدها أم حمزة، فولدت له حمزة.
85- وروي أن عبد المطلب نام في الحجر، فرأى كأنه خرج منه سلسلة بيضاء لها أربعة أطراف: طرف قد بلغ مشارق الأرض، وطرف مغاربها، وطرف لحق بأعنان السماء، ثم رجع حتى صار كشجرة خضراء، وإذا بشيخين بهيين قد وقفا، قال: فقلت لأحدهما: من أنت؟
فقال: لا تعرفني؟ أنا نوح رسول رب العالمين، قال عبد المطلب:
فسألت السحرة والكهنة، فقالوا: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض.
ثم قال: رأيت في المنام أن تزوج بفاطمة بنت عمرو، فتزوجها وأمهرها مائة ناقة حمراء، ومائة رطل من الذهب الأحمر، فولدت له قوله: «وصفية بنت عبد المطلب» :
المشهور أن صفية شقيقة حمزة كما سيأتي عند المصنف نفسه، فأما أشقاء العباس من نتيلة: ضرار بن عبد المطلب مات أيام أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عقب له، وقثم بن عبد المطلب لا عقب له.
قوله: «بعدها أم حمزة» :
واسمها: هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، والأشقاء منها سوى حمزة: المقوّم بن عبد المطلب، وحجلا واسمه: المغيرة، وصفية بنت عبد المطلب أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت إلى المدينة ودفنت بالبقيع.
(85) - قوله: «فسألت السحرة والكهنة» :
اختصر المصنف لفظ الرواية، وأخرجها أبو نعيم في الدلائل، وقد أوردناها بطولها تحت رقم: 82.(1/338)
أبا طالب وأميمة وبرّة وعبد الله وهو أصغر أولاد عبد المطلب، فلم يبق أحد من أحبار الشام إلا علم بمولده وذلك أنه كانت عندهم جبّة من صوف بيضاء، وكانت الجبة مغموسة في دم يحيى بن زكرياء صلوات الله عليهم، وكانوا يجدون في الكتب عندهم: إذا رأيتم الجبة البيضاء والدم يقطر فاعلموا أنه قد ولد عبد الله بن عبد المطلب، فعلم أحبار الشام بهذه الصفة، فعدوا الأيام والشهور، فلما أن صار مترعرعا، قدم عليه أحبار الشام ليقتلوه، فصرف الله كيدهم عنه فرجعوا إلى البلاد، فكانوا بعد ذلك كل من يقدم من الشام يسألونه، فيقولوا: تركنا عبد الله نورا يتلألأ.
86- وكان عبد الله يقول: كنت إذا خرجت إلى البطحاء يخرج من ظهري نوران: أحدهما يأخذ شرق الأرض، والآخر غربها، ثم يستديران في ظهري كأسرع من طرفة العين، قال أبوه: سيخرج من ظهرك أكرم العالمين.
87- وقدم عليه بعد ذلك سبعون حبرا من أحبار الشام فتحالفوا على ألا يرجعوا أو يقتلوا عبد الله بن عبد المطلب، فجاءوا ومعهم سبعون سيفا شاهرة مسمومة فجعلوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، حتى نزلوا بفناء مكة، فلما كان يوما من الأيام خرج عبد الله إلى صيده وحيدا، وأصابوا منه الخلوة، فأحدقوا به ليقتلوه، فلما نظر إلى ذلك وهب بن عبد مناف الزهري- وهو أبو آمنة جد النبي صلى الله عليه وسلم- أدركته الحميّة، وقال: سبعون رجلا يحدقون برجل واحد من أهل مكة يريدون قتله؟، لأنصرنّه على هؤلاء اليهود، فالتفت نحو الهواء فنظر إلى رجال لا يشبهون رجال الدنيا ينزلون من السماء، ومالوا على الأحبار فقطعوهم وهزموهم، فلما نظر وهب إلى ذلك رجع مبادرا إلى أهله فأخبرها بما رأى من عبد الله فقال: انطلقي إلى عبد المطلب فاعرضي(1/339)
عليه ابنتك قبل أن يسبقنا إليه أحد غيرنا، فامتثلت ما أمرها به، فقال عبد المطلب: لقد عرضت عليّ امرأة لا يصلح لا بني غيرها، فزوجها إياه، وابتنى بها.
88- وقيل: إن آمنة بنت وهب كانت في حجر عمها وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوج عبد الله: آمنة بنت وهب، فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج عبد المطلب: بهالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة- وهي أم حمزة وصفية- في مجلس واحد، وكان وهب يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا، وآمنة يومئذ أفضل امرأة من قريش نسبا وموضعا، فقالت قريش حين تزوج عبد الله آمنة: فلج عبد الله على أبيه.
(88) - قوله: «فلج عبد الله على أبيه» :
أي ظهر وظفر بما طلب، وسيأتي تخريج القصة.(1/340)
[35- فصل: في قصّة زواج عبد الله بن عبد المطّلب من آمنة بنت وهب، وقصّة حملها بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وولادته]
35- فصل: في قصّة زواج عبد الله بن عبد المطّلب من آمنة بنت وهب، وقصّة حملها بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وولادته 89- أخبرنا أبو عبد الله: عبد الوهاب بن الحسن بن علي بن داود ابن سليمان بن خلف المصري بمصر، قال: حدثنا أبو محمد: عبد الله بن جعفر بن الورد، قال: حدثنا عبد الرحيم بن عبد الله بن البرقي، قال: (89) - قوله: «أخبرنا أبو عبد الله: عبد الوهاب» :
لم أقف له على ترجمة فيما لدي من المصادر.
قوله: «حدثنا أبو محمد: عبد الله بن جعفر بن الورد» :
ابن زنجويه البغدادي، ثم المصري، راوي السيرة عن ابن البرقي الآتي، وأحد مشايخ ابن منده وابن النحاس الثقات، توفي سنة إحدى وخمسين وثلاث مائة.
سير أعلام النبلاء [16/ 39] ، العبر [2/ 292] ، الشذرات [3/ 102] ، تاريخ الإسلام [السنة المذكورة- ص 57] ، الوافي بالوفيات [17/ 106] .
قوله: «حدثنا عبد الرحيم بن عبد الله بن البرقي» :
الإمام الحافظ، راوي سيرة ابن هشام: أبو سعيد الزهري مولاهم، المصري، قال الحافظ الذهبي: كان صدوقا من أهل العلم، توفي سنة ست وثمانين ومئتين.
وله أخوان حدثا أيضا عن عبد الملك بالمغازي والسير: محمد بن عبد الله ابن عبد الرحيم بن البرقي فمن رجال أبي داود والنسائي، وهو صاحب كتاب الضعفاء، مات كهلا قبل أوان الرواية سنة تسع وأربعين ومئتين، -(1/341)
حدثنا عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي- والثاني: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن البرقي، وصفه الذهبي بالمحدث الحافظ الصادق قال: له كتاب في معرفة الصحابة وأنسابهم وكان من أئمة الأثر، رفسته دابته فمات منها في شهر رمضان سنة سبعين ومئتين.
سير أعلام النبلاء [13/ 48] ، العبر [2/ 77] ، الشذرات [2/ 363] .
قوله: «حدثنا عبد الملك بن هشام» :
العلامة الحافظ الإخباري النحوي أبو محمد الذهلي، نزيل مصر، ومهذب السيرة لابن إسحاق، وكان علامة أهل مصر بالعربية والشعر والأدب، وله مصنفات في أنساب حمير وملوكها، توفي سنة ثمان عشر ومئتين.
الوافي بالوفيات [6/ 26] ، سير أعلام النبلاء [10/ 428] ، البداية والنهاية [10/ 281] ، وفيات الأعيان [3/ 177] ، مقدمة الروض الأنف [1/ 7] ، حسن المحاضرة [1/ 531] ، طبقات ابن قاضي شهبة [2/ 111] ، إنباه الرواة [2/ 211] ، بغية الوعاة [2/ 115] .
قوله: «حدثنا زياد بن عبد الله البكائي» :
الكوفي، أحد أصحاب ابن إسحاق، ومن أثبتهم فيه، يقال: لأنه أملي عليه مرتين، قال صالح جزرة: من أثبت الناس في المغازي، باع داره وخرج يدور مع ابن إسحاق، قال الإمام أحمد: لا بأس به، وقال أبو زرعة:
صدوق، وضعفه غير واحد، أخرج له البخاري مقرونا، وروى له مسلم والترمذي وابن ماجه.
تهذيب الكمال [9/ 485] ، تهذيب التهذيب [3/ 323] ، الكاشف [1/ 260] ، التقريب [/ 220] ، الخلاصة [/ 125] ، سير أعلام النبلاء [9/ 5] ، الميزان [2/ 281] ، المجروحين [1/ 307] .(1/342)
عن محمد بن إسحاق قال: لما فدي عبد الله بن عبد المطلب من الذبح بمائة من الإبل ونحرت عنه انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به على امرأة من بني أسد وهي عند الكعبة فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل قوله: «عن محمد بن إسحاق» :
هو في سيرته [/ 42] ، ومن طريقه ابن هشام [1/ 155] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 102] .
قوله: «فمر به على امرأة من بني أسد» :
هكذ في رواية لابن إسحاق، وفي أخرى له عن أبيه إسحاق بن يسار أن المرأة كانت لعبد الله مع آمنة وأنه دخل عليها وقد أصابه أثر من طين فدعاها إلى نفسه فأبطأت عنه، فلما غسل ما به من أثر الطين دعته فأبى للذي صنعت به أول مرة وعمد إلى آمنة فأصابها فحملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن إسحاق في السير [/ 44] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [1/ 105] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 244] ، وابن عساكر كذلك [3/ 407] ، وبهذه القصة يرى الحافظ البيهقي إمكان الجمع بين الروايات الأخرى ويزول ما بها من إشكال، وفي رواية ابن مطعم: أنها قتيلة بنت نوفل، أخت ورقة، وأنها توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يتزوج آمنة، فودّت لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه أن يكون ذلك منها فعرضت نفسها عليه، قال الحافظ ابن كثير: ليتزوجها في الأظهر، فامتنع عليها، قال: فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها تعرض لها فقالت: لا حاجة لي فيك، وتأسفت على ما فاتها من ذلك، وأنشدت في ذلك شعرا فصيحا بليغا، قال: وهذه الصيانة لعبد الله ليست له وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ، وإلى هذه الرواية مال المصنف رحمه الله في تعيين المتعرضة كما سيأتي.(1/343)
التي نحرت عنه وقع عليّ الآن، قال: أنا مع أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به ابنة وهب بن عبد مناف وهي يومئذ أفضل امرأة من قريش نسبا، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: ما لك لا تعرضين عليّ اليوم ما عرضت عليّ بالأمس؟ قالت له: فارقك النور الذي كان معك أمس، فليس لي بك اليوم حاجة.
- حديث أخت ورقة أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 95- 96] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 201] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 406] .
- وقيل: إن المرأة التي عرضت نفسها من خثعم وكانت تأتي مواسم الحج، معها أدم تطوف بها كأنها تبيعها، وإنما كانت تبحث عن كفؤ لها لأنها كانت ذات جمال، فلما رأت عبد الله أعجبها وقالت: إني والله ما أطوف بهذه الأدم وما لي إلى ثمنها حاجة وإنما أتوسم الرجل هل أجد كفؤا، فإن كانت لك إليّ حاجة ... القصة.
أخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 97] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 107] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 403- 404] .
- ويقال: إنها المرأة المذكورة في حديث عبد الرحمن بن عوف الآتي، وهي التي ذكرها اليهودي الذي ينزل عليه عبد المطلب في رحلته إلى اليمن حين توسم في عبد الله، وقال له: هل لك في شاعة؟ ونخلص إلى أن القصة يمكن حل إشكالها إذا ثبتت، ولها طرق أخرى عند ابن سعد في الطبقات [1/ 95- 97] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 102- 109] ، وأبي نعيم في الدلائل [1/ 130- 133] رقم 72، 73، 74، 75، وابن عساكر في تاريخه [3/ 403- 407] .(1/344)
90- قال: وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل- وكان قرأ واتبع الكتب- أنه كائن في هذه الأمة نبي، فولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
91- وروي عن أم سلمة: أن عبد الله بن عبد المطلب كان في بناء له فخرج وعليه أثر الطين والغبار، فمر بامرأة يهودية كاهنة من خثعم، فرأت نور النبوة في وجهه فقالت له: هل لك أن تواقعني وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال عبد الله بن عبد المطلب: حتى أغسل ما عليّ وأخرج إليك، فدخل على آمنة فواقعها ثم اغتسل وخرج إلى الخثعمية فقال لها:
هل لك في الذي قلت؟ قالت: يا فتى ما صنعت بعدي؟ قال: زوّجني أبي آمنة، فأقمت عندها ثلاثا، قالت: لا حاجة لي بذلك، فقال:
ولم لا؟ قالت: لأنك ذهبت من عندي وبين عينيك نور، ورجعت إليّ وقد أفرغت في آمنة ذلك النور.
92- وعن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد المطلب خرج إلى اليمن فلقيه رجل من اليهود له علم فنظر إلى عبد المطلب فقال: أرني منك (90) - قوله: «وقد كانت تسمع من أخيها» :
اتبع المصنف طريقة الجمع بين الروايات كما يظهر لأن رواية ابن إسحاق ليس فيها ما يدل على أن المتعرضة لعبد الله هي أخت ورقة إنما ذلك في رواية أخرى كما تقدم، وهذا المسلك سلكه الحافظ البيهقي في الدلائل، وابن كثير في تاريخه وغيرهما، وهو الأولى.
قوله: «وكان قرأ واتبع الكتب» :
في «ظ» : وكان قد وجد في الكتب.
(92) - قوله: «عن عبد الرحمن بن عوف» :
كذا في الأصل، وفي المطبوع من تاريخ ابن عساكر [3/ 418] بإسناده إلى-(1/345)
شيئين، فقال عبد المطلب: أريك ما لم يكن عورة، قال: ما أريد العورة، أريد أن أنظر إلى أنفك وكفيك، قال: انظر، قال له: ابسط كفيك فبسطهما، فقال: أما في كفيك فملك، وأما أنفك فإن فيه النبوة، ولا يتم ذلك إلا ببني زهرة، فهل من شاعة؟ قال: لا، قال: فتزوج في بني زهرة.
- المحاملي: أنا عبد الله بن شبيب، حدثني أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: وجدت في كتاب أبي، عن أبيه عن عبد الرحمن بن حميد بن [عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه حميد بن عبد الرحمن بن] عوف أن عبد المطلب ... القصة، قال محققه: ما بين المعكوفتين سقط من الأصل، واستدرك من مطبوعة ابن عساكر قسم السيرة [1/ 338] .
وأخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 86] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 204] ، والحاكم في المستدرك [2/ 601] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [1/ 106] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 129] رقم 71، وابن عساكر في تاريخه [1/ 418] ، جميعهم من حديث المسور بن مخرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: قال أبي عبد المطلب:
خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء والصيف فنزلت على رجل من اليهود يقرأ الزبور فقال: يا عبد المطلب إيذن لي فأنظر في بعض جسدك، فقلت:
انظر ما لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر الأخرى، فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا وفي الأخرى النبوة، وأرى ذلك في بني زهرة فكيف ذلك؟ قال فقلت: لا أدري، قال: هل لك من شاعة؟ قال قلت: وما الشاعة؟ قال: زوجة، قلت: أما اليوم فلا، قال: إذا قدمت فتزوج فيهم، فرجع عبد المطلب إلى مكة فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف فولدت له حمزة وصفية، وتزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش حين تزوج عبد الله آمنة:
فلج عبد الله على أبيه.(1/346)
فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهيب، وتزوج عبد الله آمنة بنت وهب، فقالت قريش: فلج عبد الله على أبيه.
فلما ابتنى بها عبد الله بن عبد المطلب مرض نساء قريش، ومات منهن مائتا امرأة أسفا على عبد الله بن عبد المطلب، فأعطى الله آمنة من النور والعفاف والبهاء ما كانت تدعى سيدة قومها، وبقي عبد الله على ذلك ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه، حتى أذن الله تعالى له أن ينتقل، فانتقل عشية عرفة وليلة الجمعة، فأمر الله عزّ وجلّ خازن الجنة بأن يفتح أبواب الجنان للنور المكنون، فاستقر عند آمنة، فأصبحت يومئذ أصنام الدنيا كلها منكوسة، وأصبح عرض إبليس عدو الله منكوسا أربعين يوما، فأفلت إبليس هاربا أسود محترقا حتى أتى جبل أبي قبيس فصاح صيحة ورنّ رنّة، فاجتمع إليه الشياطين من كل ناحية فقالوا: يا سيد القوم ما الذي دهاك؟ فقال إبليس: ويلكم أهلكتنا هذه المرأة، قالوا: قوله: «فصاح صيحة ورنّ رنّة» :
أخرج أبو الشيخ في العظمة [/ 428] رقم 1134 بإسناد صحيح عن مجاهد قال: رن إبليس أربعا: حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وبعث على فترة من الرسل، وحين أنزلت: الحمد لله رب العالمين، وأخرجه أبو نعيم أيضا في الحلية [3/ 299] ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضا [1/ 17] لوكيع في تفسيره، وابن الأنباري في المصاحف، وقال الشيخ محمد بن يوسف الشامي في سبل الهدى والرشاد 1/ 350:
روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال إبليس لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا، فقال له جنوده: لو ذهبت إليه فخبلته، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الله جبريل فركضه برجله ركضة فوقع بعدن، وسيورده المصنف.(1/347)
وما القصة؟ قال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث بالسيف القاطع الذي لا حياة بعده، يغير الأديان، ويبطل اللات والعزى، ولا نأتي موضعا من مواضع الدنيا إلا وجدنا ذكر الوحدانية علانية، وهذه أمته لعنني ربي من أجلها، وجعلني شيطانا رجيما، يظهرون الوحدانية.
قالوا: طب نفسا فإن الله خلق ذرية آدم على سبعة أطباق، وكانوا أشد من هؤلاء وأكثر أموالا وأولادا، فاستوفينا منهم، ولا بد لنا من أن نستوفي من الطبق السابع.
قال إبليس: فكيف تقدرون عليهم وفيهم الخصال الجميلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.
فقالت العفاريت: نأتي العالم من علمه، والجاهل من جهله، وصاحب الدنيا من قبل الدنيا، والزاهد من زهده، وصاحب الرياء من ريائه.
فقال إبليس: إنهم يعتصمون بالله وحده!.
قالت العفاريت: فإن اعتصموا بالله وحده أدخلنا فيما بينهم الأهواء الضالة والبخل والظلم، فإنهم يهلكون لا محالة.
فضحك إبليس، وقال: الآن أقررتم عيني، وطيبتم نفسي.
قال: وكانت قريش في جدوبة، فلما كانت السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم أخصبت، فسميت سنة الفتح، واخضرت لهم الأرض، وحملت لهم الأشجار، وعبد المطلب يومئذ في الأحياء، يخرج كل يوم متوشحا يطوف بالبيت، وكان ينظر إلى جمال شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه.(1/348)
93- قال ابن عباس: فكان من دلالة حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك السنة وقالت: حمل بمحمد صلى الله عليه وسلم وربّ الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير من سرر ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، والملك أخرس لا ينطق يومه ذلك، وفرت وحش المغرب إلى وحش المشرق بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشر بعضهم بعضا وقال: أبشروا فقد آن لأبي القاسم صلى الله عليه وسلم أن يخرج.
94- وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كمّلا، لا تشكو وجعا ولا ضعفا ولا ريحا، ولم يعرض لأمه ما يعرض للنساء.
(93) - قوله: «قال ابن عباس» :
رواه أبو نعيم في الدلائل- وليس في المطبوع منه- فقال: حدثنا سليمان ابن أحمد، حدثنا حفص بن عمرو بن الصباح، ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، أنا أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، قال: قال ابن عباس: فذكره.
أورده الحافظ ابن كثير في السير فقال: أورد الحافظ أبو نعيم ههنا- يعني في مولده- حديثا غريبا مطولا بالمولد أحببنا أن نسوقه ليكون الختام نظير الافتتاح.
قوله: «أهل البحار بشّر بعضهم بعضا» :
زاد أبو نعيم في روايته: وفي شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السماوات: أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا.(1/349)
95- قالت آمنة: ما شعرت أني حملت بمحمد صلى الله عليه وسلم لأني لم أجد (95) - قوله: «ما شعرت أني حملت» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 98] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 242] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 77] من حديث شيخه الواقدي قال: حدثني علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبيه، عن عمته بنحوه وزاد: قالت: فكان ذلك مما يقن عندي الحمل ...
الحديث.
وأخرج أيضا من طريق الواقدي قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: قالت آمنة: لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته.
وأخرجه ابن إسحاق في السيرة مقطوعا [/ 45] ، وعنه ابن هشام في سيرته [1/ 157- 158] ، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه البيهقي في الدلائل [1/ 111] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 82] ، وقد أسنده نعيم في الدلائل [1/ 136] فقال: حدثنا عمر بن محمد، ثنا إبراهيم بن السندي، ثنا النضر ابن سلمة، ثنا أبو غزية محمد بن موسى الأنصاري، عن أبي عثمان سعيد ابن زيد الأنصاري، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: رأت آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم في منامها فقيل لها: إنك قد حملت بخير البرية وسيد العالمين فإذا ولدته فسميه أحمد ومحمدا وعلقي عليه هذه، قال: فانتبهت وعند رأسها صحيفة من ذهب مكتوب فيها:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد
عن السبيل عاند ... على الفساد جاهد
من نافث أو عاقد ... وكل خلق مارد
يأخذ بالمراصد ... في طرق الموارد
ومن وجه آخر أخرجه ابن سعيد في الطبقات [1/ 98] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 243] .(1/350)
ما تجد الحبلى إلا أني أنكرت رفع حيضتي.
* قال الأستاذ أبو سعد صاحب الكتاب سلمه الله: ربما يرتفع الحيض ثم يعود، وهذه مسألة خلافية بين أهل الحجاز والكوفة-.
96- قالت آمنة: أتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال:
هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري، فقال: إنك حملت سيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه أحمد.
97- قال أبو سعد: وحدثناه به في موضع آخر فقال: ثم سميه محمدا.
قالت: فذكرت ذلك للنساء فقلن لي: تعلقي حديدا في عنقك وعضدك، قالت: فعلقت فلم يزل عليّ إلا أياما حتى قطع، فكنت لا أعلقه، فلما كان قبل ولادتها بثلاث أتاها آت وقال: سميه أحمد.
وهلك أبوه وهو في بطن أمه.
قوله: «وهذه مسألة خلافية» :
بيّنّآ مذاهب الفقهاء واختلافهم في الحبلى هل تحيض أم لا؟ في شرحنا لمسند الحافظ أبي محمد الدارمي كتاب الحيض والاستحاضة، باب الحبلى إذا رأت الدم.
(96) - قوله: «قالت آمنة: أتاني آت» :
تكرر النص في نسخة «ظ» بلفظ: وذكر أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ذكرت أنها أنبئت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لها: إنك حملت سيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وانظر الأثر الآتي برقم 100.(1/351)
98- قال الواقدي: ما تعبد الله والنبي صلى الله عليه وسلم ابن سبعة أشهر، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ ابن خمس وعشرين سنة.
99- وقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا بقي نبيك صلى الله عليه وسلم هذا يتيما، فقال الله عزّ وجلّ: أنا له ولي وحافظ ومعين.
وفتح الله لمولده أبواب السماء وجنانه.
100- وكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر من (98) - قوله: «ابن سبعة أشهر» :
يعني حملا، قال الوافدي: وهذا أثبت الأقاويل والرواية في وفاة عبد الله بن عبد المطلب وسنه عندنا، أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 99- 100] قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا، ويقال: سبعة أشهر، قال ابن سعد: والأول أثبت، أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل، قال ابن كثير: وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.
(99) - قوله: «وقالت الملائكة» :
يعني: بلسان الحال.
(100) - قوله: «أتاني آت» :
هذا الحديث أخرجه بطوله الحافظ أبو نعيم في الدلائل [1/ 610- 613] :
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا حفص بن عمرو بن الصباح (في المطبوع من الدلائل: عمرو بن محمد بن الصباح) ثنا يحيى بن عبد الله، ثنا أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، قال ابن عباس ...
فذكره، رقم 555، وفي أوله: فكان من دلالات حمل النبي صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها ولم يبق كاهنة من قريش ولا قبيلة من قبائل-(1/352)
حملي ستة أشهر فوكزني في المنام برجله وقال: يا آمنة إنك قد حملت خير العالمين طرّا فإذا ولدته فسميه محمدا واكتمي شأنك.
- العرب إلا حجبت عن صاحبتها وانتزع علم الكهنة، ولم يكن سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا والملك مخرسا لا ينطق يومه ذلك، ومرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك البحار يبشر بعضها بعضا، في كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السماء:
أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا، فكانت تحدث عن نفسها وتقول: ... والباقي سواء إلى قوله: ومفاتيح النبوة.
أورده ابن كثير في جزء الشمائل من تاريخه إلى قوله: ومفاتيح النبوة، أما السيوطي فأورده في الخصائص بطوله، وقال بعد أن عزاه لأبي نعيم: فيه نكارة شديدة، ولم أورد في كتابي أشد نكارة منه ومن الذي قبله والذي بعده، ولم تكن نفسي لتطيب بإيرادها لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك.
وقال ابن كثير: هكذا أورده أبو نعيم وسكت عنه وهو غريب جدّا.
قوله: «فإذا ولدته فسميه محمدا» :
أخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 98] ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 243] ، من حديث شيخه الواقدي، قال: حدثني قيس مولى عبد الواحد، عن سالم، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمرت آمنة وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه أحمد.
وأخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 98] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [1/ 243] ، وابن إسحاق في السيرة [1/ 157- 158- ابن هشام] ، ومن طريق ابن إسحاق: البيهقي في الدلائل [1/ 111] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 82] وهذا لفظ البيهقي عن ابن إسحاق: قال: كانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت بمحمد صلى الله عليه وسلم فقيل لها:
إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
-(1/353)
قال: فكانت تحدث: أنه لم يعلم بي أحد من قومي ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه قال: فسمعت وجبة عظيمة، فهالني ذلك، وذلك يوم الاثنين، فرأيت كأن جناح طير قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وما كنت أجد، ثم كنت ألتفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها وشربتها فأضاء مني نور غالب عالي، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف فأحدقت بي من كل جانب فقلت: واغوثاه من أين علمن هؤلاء؟ فاشتد بي الأمر، وكنت أسمع وجبة كل ساعة أعظم، وإذا أنا بتاج أبيض قد مدّ بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول: خذوا عن أعين الناس، قال: فرأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة ويترشح من عرق كالجمان أطيب من ريح المسك، وأنا أقول: يا ليت عبد المطلب قد دخل عليّ، وعبد المطلب- زاد ابن هشام: ثم سميه محمدا.
وزاد غيرهما في الأبيات:
وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد
عن السبيل عاند ... على الفساد جاهد
من نافث أو عاقد ... وكل خلق مارد
يأخذ بالمراصد ... في طرق الموارد
يرود غير رائد ... فإنه عبد الحميد الماجد
حتى أراه قد أتى المشاهد
أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 136- 137] من وجه آخر.
قوله: «فسمعت وجبة عظيمة» :
الوجبة: السقوط مع الهدّة ويقال: صوت الشيء إذا سقط حتى يسمع له كالهدّة.(1/354)
كان نائيا، وقالت: رأيت قطعة طير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من الياقوت، فكشف عن بصري وأبصرت من ساعتي مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت أعلاما منصوبة، علم بالمشرق وعلم بالمغرب، وعلم على ظهر الكعبة، وأخذني المخاض فكأني مستندة إلى أركان النساء وكثرن عليّ حتى كأن الأيدي معي في البيت ولا أرى شيئا، فولدت محمدا صلى الله عليه وسلم فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه فإذا أنا به ساجدا قد رفع أصبعه إلى السماء كالمتضرع المبتهل.
101- وقيل: قالت آمنة: لما ولدت محمدا صلى الله عليه وسلم وفصل عني خرج معه نور أضاءت له قصور الشام، حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى وأسواقها.
(101) - قوله: «أضاءت له قصور الشام» :
هذا الحديث أدخله المصنف في حديث ابن عباس وليس منه، كما يتبين من مصادر التخريج وهو كالجملة المعترضة، لذلك رقمت عليه برقم مغاير وسيرجع المصنف إلى حديث ابن عباس عقب قوله:
رواه أبو جعفر محمد بن علي مباشرة، وقد روي من طرق بألفاظ مطولا ومختصرا، عن جماعة من الصحابة فأخرجه من حديث العرباض بن سارية: الإمام أحمد في المسند [4/ 127- 128] ، والبخاري في تاريخه الكبير [6/ 68] ، والطبراني في معجمه الكبير [18/ رقم 629، 630، 631] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 80، 2/ 130] ، والطبري في تفسيره [28/ 87] ، وأبو نعيم في الدلائل بلفظ مختصر [1/ 48، 50] رقم 9، 10، والآجري في الشريعة [/ 421] ، وابن أبي عاصم [1/ 48، 50] رقم 9، 10. -(1/355)
102- وذلك يوم الاثنين لعشر خلون من شهر ربيع الأول، وكان قدوم أصحاب الفيل للنصف من المحرم، فبين الفيل وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس وخمسون ليلة.
رواه أبو جعفر محمد بن علي.
- وأخرجه الآجري في الشريعة [/ 421] ، وابن أبي عاصم في السنة برقم 409، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 600] ، وأقره الذهبي، وصححه أيضا ابن حبان كما في الإحسان برقم 6404.
فإذا تبين أن إسناد هذا الحديث صحيح عن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتعبير عند ذلك ب «قيل» غير جيد، والله أعلم.
وقد روي من حديث عتبة بن عبد السلمي، وهذا قد خرجناه في شرحنا لمسند الحافظ أبي محمد الدارمي تحت رقم 14- فتح المنان-، وروي أيضا من حديث أبي أمامة الباهلي، أخرجه الإمام أحمد في المسند [5/ 262] ، والطيالسي كذلك برقم 1140، وابن سعد في الطبقات [1/ 102] . والطبراني في معجمه الكبير [8/ رقم 7729] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 84] وعن ابن عباس، أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 102] ، ومن حديث أبي العجفاء السلمي، أخرجه ابن سعد في الطبقات، ورواه جماعة من التابعين مرسلا، وفي أحاديث الصحابة غنى وكفاية.
(102) - قوله: «رواه أبو جعفر محمد بن علي» :
تقدم قريبا، أخرج حديثه ابن سعد في الطبقات [1/ 100- 101] بإسناد ضعيف جدّا يعتنى بمثله في التاريخ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 75] وزاد: وكان بين الفيل والفجار عشرون سنة، وكان بين بنيان الكعبة والفجار خمس عشرة سنة، فبنيت الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثون سنة.(1/356)
103- ومما فضله الله تعالى به أنه صلى الله عليه وسلم حين وقع من بطن أمه آمنة سطع نور أضاء ما بين الشام إلى اليمن ووقع على أربع رافعا رأسه إلى السماء، يشير بإصبعه.
(103) - قوله: «حين وقع من بطن أمه» :
ذكر المصنف هذه الفضيلة، وكذا الآتية: في باب ما فضل به النبي صلى الله عليه وسلم ورأيت تحويله إلى هنا لتعلقه به.
قوله: «يشير بإصبعه» :
كالموحد أو المسبح، أخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 101- 102] من حديث موسى بن عبيدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، ومن حديث أم بكر بنت المسور، عن أبيها، ومن حديث زياد بن حشرج عن أبي وجزة، وابن أبي نجيح عن مجاهد، ومن حديث عطاء عن ابن عباس- دخل حديث بعضهم في بعض- أن آمنة بنت وهب قالت:
لقد علقت به- تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء، قال: وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه رافعا رأسه إلى السماء، وخرج معه نور أضاءت لها قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى. في إسناده الواقدي.
قال ابن سعد: وأخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه وضعته تحت برمة فانفلقت عنه، قالت: فنظرت إليه فإذا هو قد شق بصره ينظر إلى السماء. مرسل برجال الصحيح، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل برقم 80 من وجه آخر.
قال ابن سعد: أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، أخبرنا همام بن يحيى، -(1/357)
104- ومما فضله الله تعالى به أنه صلى الله عليه وسلم كان يناغي القمر في رضاعه.
- عن إسحاق بن عبد الله أن أم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج مني نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا، ولدته كما يولد السخل ما به قذر، ووقع على الأرض وهو جالس على الأرض بيده.
قال ابن سعد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي عن حسان بن عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد وقع على كفيه وركبتيه شاخصا بصره إلى السماء. مرسل قوي.
وفي الوفاء لابن الجوزي عن أبي الحسين بن البراء قال: قالت آمنة:
وجدته جاثيا على ركبتيه ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجدا، وقال الحافظ في الفتح: وفي سير الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد، وذكر ابن سبع في الخصائص: أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة، وأن أول كلام تكلم به أن قال: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، - الجزء الأخير منه مخرج في حديث ابن عباس في قصة رضاعه صلى الله عليه وسلم-.
(104) - قوله: «أنه كان يناغي القمر» :
قال السيوطي في الخصائص [1/ 133] : أخرج البيهقي والصابوني في المائتين والخطيب وابن عساكر في تاريخهما عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال، قال: إني كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش، قال البيهقي: تفرد به أحمد بن إبراهيم الجيلي وهو مجهول، وقال الصابوني: هذا حديث غريب الإسناد والمتن، حسن في المعجزات.(1/358)
105- قالت آمنة: ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت تنزل من السماء حتى غشيتني، فغيب عن وجهي، وسمعت مناديا ينادي وهو يقول: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شرق الأرض وغربها، وأدخلوه البحار تعرفه باسمه وصفته ونعته وصورته، وليعلموا أنه إنما سمي الماحي لئلا يبقى جزء من المشرك إلا محي به في زمنه، ثم تجلت عنه في أسرع من طرفة عين، وإذا أنا به مدرجا في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن، وتحته حريرة خضراء قد قبض على ثلاث مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قبض محمد صلى الله عليه وسلم على مفاتيح النصرة، ومفاتيح الفتح، ومفاتيح النبوة، ثم أقبلت سحابة أخرى أعظم من الأولى وأنور، أسمع منها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال حتى غشيته، فغيب عن وجهي أطول وأكثر من المرة الأولى، فسمعت مناديا ينادي ويقول: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم المشرق والمغرب، وعلى مواليد النبيين واعرضوه على روحاني أمته من الجن والأنس والطير والسباع، واعطوه من اللون: صفاء آدم، ورقّة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وجمال يوسف، وبشرى يعقوب، وصوت داود، وصبر أيوب، وزهد يحيى، وكرم عيسى صلوات الله وسلامه عليهم، واغمروه في كل أخلاق النبيين، ثم تجلت عنه في أسرع من طرفة العين، فإذا أنا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيّا شديدا، وإذا منادي يقول: بخ بخ قبض محمد صلى الله عليه وسلم على الدنيا كلها، لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته طائعا بإذن الله.
(105) - قوله: «مفاتيح الفتح» :
في المطبوع من دلائل أبي نعيم: مفاتيح الريح.(1/359)
106- قالت آمنة: فبينا أنا أتعجب إذا أنا بثلاث نفر ظننت أن الشمس تطلع من خلال وجوههم، في يد أحدهم إبريق فضة، وفي داخل ذلك الإبريق ريح كريح المسك، وفي يد الثاني: طست من زمرد خضراء عليها أربع نواحي كل ناحية لؤلؤة بيضاء، وإذا قائل يقول: هذه الدنيا شرقها وغربها وبرها وبحرها فاقبض يا حبيب الله على ما شئت، فسمعت قائلا يقول: قبض على الكعبة ورب الكعبة، إن الله جل جلاله جعلها قبلة له، ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية طيّا شديدا فنشرها، فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه إذا نظروا إليه، فغسله بذلك الماء من الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ختما واحدا، ولفّه بالحرير، واستدار عليه بالخيط- وهو خيط من المسك الإذفر- ثم أدخله بين أجنحته ساعة.
107- قال ابن عباس: كان ذلك رضوان خازن الجنة.
قالت: قال في أذنه كلاما كثيرا لم أفهمه، وقبّل بين عينيه، وقال:
أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا وقد أعطيت، فأنت أكثرهم علما، وأشجعهم قلبا، معك مفاتيح النصر، وألبست الخوف والرعب، لا يسمع أحد بذكرك إلا وجل فؤاده، وخاف قلبه.
قالت: ثم رأيت رجلا أقبل يخرقهم حتى وضع فاه على فيه فجعل يزقه كما تزق الحمامة فرخها، وكنت أنظر إلى ابني يشير (106) - قوله: «قالت آمنة» :
ذكر هذا الجزء من الحديث إلى قوله: وخاف قلبه: السيوطي في الخصائص [1/ 123] وعزاه للحافظ أبي زكرياء يحيى بن عائذ في مولده، ونقل عن ابن دحية في التنوير قوله: هذا حديث غريب.(1/360)
بإصبعه ويقول: زدني زدني، فزقه ساعة وقال: أبشر يا حبيبي فما بقي لنبي حلم إلا وقد أعطيت، ثم احتمله فغيّبه عني، فجزع فؤادي وذهل قلبي، ويح قريش، الويل لها، أنا في ولادتي وليلتي أرى ما أرى، ويصنع بولدي ما يصنع ولا يقربني أحد من قومي؟! إن هذا العجب العجيب.
قالت: فبينا أنا كذلك إذا أنا به قد رده عليّ كالبدر، ريحه يسطع كالمسك وهو يقول: خذيه، فقد طافوا به المشرق والمغرب وعلى مواليد النبيين أجمعين، والساعة كان عند أبيه آدم عليه السّلام فضمه إليه وقبل بين عينيه وقال: أبشر حبيبي؛ فإنك سيد ولدي من الأولين والآخرين، فناولنيه ومضى، وجعل يلتفت إليه ويقول: أبشر يا عز الدنيا وشرف الآخرة، فقد استمسكت بالعروة الوثقى، فمن قال بمقالتك وشهد بشهادتك حشر يوم القيامة تحت لوائك وفي زمرتك، فناولنيه ومضى، ولم أره بعد تلك المرة.
108- قال عبد المطلب: كنت تلك الليلة في الكعبة أرم منه شيئا، فلما انتصف الليل إذا أنا بالبيت الحرام قد استمال بجوانبه الأربع، وخر ساجدا في مقام إبراهيم، ثم استوى البيت قائما أسمع منه تكبيرا عجيبا ينادي: الله أكبر الله أكبر، رب محمد المصطفى، الآن قد طهرني به ربي من أنجاس المشركين، ورجسات الجاهلية، ثم انقضت الأصنام كما ينقض الثوب، فكأني أنظر إلى الصنم الأعظم هبل وقد انكب في الحجر على وجهه، وسمعت مناديا ينادي: ألا إن آمنة قد ولدت محمدا صلى الله عليه وسلم وقد انكشفت عنها سحايب الرحمة، هذا طست الفردوس قد أنزل ليغسل فيه الثانية.(1/361)
قال عبد المطلب: فلما رأيت البيت وفعله، والأصنام وفعلها، ذهبت من الدنيا حتى لا أدري ما أقول، وجعلت أحسر عن عيني وأقول: إني لنائم، ثم قلت: إني ليقظان، ثم انطلقت إلى بطحاء مكة فخرجت من باب بني شيبة، فإذا أنا بالصفا يتطاول والمروة ترتج ومنادي ينادي من كل جانب: يا سيد قريش ما لك كالخائف الوجل، أمطلوب أنت؟ فلا أجيب جوابا إنما كان همي منزل آمنة لأنظر إلى ابنها محمد صلى الله عليه وسلم.
قال عبد المطلب: فإذا أنا بطير الأرض محشورة إليها، وإذا بجبال مكة مشرفة عليها، وإذا أنا بسحابة بيضاء بإزاء حجرتها، فلما رأيت ذلك ذهبت من الدنيا وتحيرت حتى لا أدري ما أقول، وجعلت أحسر عن عيني ثم أقول: إني لنائم، ثم أقول: كلا إني ليقظان، وما يمكنني أن أدنو من الباب من شدة فيحان المسك، ولمعان النور فتحاملت على نفسي الجهد الجهيد مني حتى دنوت من الباب، فاطلعت فإذا أنا بآمنة قد أغلقت الباب على نفسها ليس بها أثر النفاس والولادة.
قال: فدققت الباب دقّا عنيفا فأجابتني بصوت خفي فقلت: ويح نفسي عجلي وافتحي الباب لا تنشق مرارتي، ففتحت الباب مبادرة، فأول شيء وقع بصري على وجهها على موضع نور محمد صلى الله عليه وسلم، فلم أر أثر النور فضربت يدي على لحيتي لأشقها، فقلت: واغوثاه يا آمنة أنائم أنا أم يقظان؟ قالت: بل يقظان، ما لك كالخائف الوجل، أمطلوب أنت؟ قلت: لا ولكنني منذ ليلتي هذه وأنا في كل ذعر وخوف، ما لي لا أرى النور الذي كنت أراه بين عينيك؟ قالت: بلى والله(1/362)
لقد وضعته أتم الوضع وأهونه وأيسره، وهذه الطير الذي نزل بإزاء حجرتي لفي منازعتي، تسألني منذ وضعته أن أدفعه إليها تحمله إلى عشاشها، وهذه السحابة تسألني كذلك.
قال عبد المطلب: فهلمّيه حتى أنظر إليه، قالت: حيل بينك وبينه أن تراه يومك هذا، قال: ولم ذاك؟ قالت: لأنه أتاني آت ساعة ولدته كأنه قضيب فضة أو كالنخلة الباسقة قال: يا آمنة انظري أن لا تخرجي هذا الغلام إلى خلق من ولد آدم حتى يأتي عليه من يوم ولدته ثلاثة أيام، فسل عبد المطلب سيفه فقال: لتخرجنه أو لأقتلنك، قالت: شأنك وإياه، قال: وأين هو؟ قالت: في ذلك البيت مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن وتحته حريرة خضراء.
قال عبد المطلب: فلما هممت أن أفتح الباب برز إليّ من داخل البيت رجل لم أر من الرجال أهول منه منظرا، شاهرا سيفه بيده فحمل عليّ وقال: إلى أين ثكلتك أمك؟ قال قلت: أدخل البيت، قال:
وما تصنع؟ قال قلت: أنظر إلى ابني محمد، قال: ارجع وراءك، فلا سبيل لأحد من ولد آدم إلى رؤيته أو تنقضي عنه زيارة الملائكة، فارتعد عبد المطلب وألقى السيف من يده وخرج مبادرا ليخبر قريشا بذلك، فأخذ الله على لسانه فلم ينطق بهذه الكلمة سبعة أيام ولياليها.
109- قال مجاهد: سألت ابن عباس قلت: تنازعت الطير والسحاب في رضاعه؟ قال: نعم، وجميع الخلق: الجن والإنس، وذلك أنه لما رد على آمنة نادى منادي الرحمن من بقاع الأرض وأطباق السماوات: معاشر الخلائق هذا محمد بن عبد الله طوبى لثدي أرضعته، وطوبى لأيد كفلته، بل طوبى لبيت يسكنه.(1/363)
قالت الطير: نحن أحق برضاعه، فضجت السحاب إلى الله عزّ وجلّ: نحن المسخرات من السماء والأرض نحمله إلى براري الدنيا وزواياها، ونعرف كل شجرة طيبة فنطعمه الثمر منها، وكل عين باردة نسقيه منها، ونغذوه بماء المزن من تحت العرش حولين كاملين.
فنوديت كلها: أن كفوا عن رضاع محمد صلى الله عليه وسلم فقد أجرى الله ذلك على أيدي الإنس.
فأجرى الله ذلك لحليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.(1/364)
[36- باب: في ذكر رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم]
36- باب: في ذكر رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم 110- أخبرنا أبو الوفاء: تمام بن عبد الله الصقلي مولى جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير بمصر قال: أخبرنا أبو إسحاق: إبراهيم بن (110) - قوله: «الصقلي» :
نسبة إلى جزيرة من جزر بحر المغرب، قريبة من القيروان، وفي تاريخ علماء الأندلس: تمام بن عبد الله بن تمام الطليطلي، ولا أدري هو شيخ صاحبنا أم لا ذلك أنهم لم يذكروا ولاءه لجعفر بن الفضل في ترجمته وكنوه: أبا تمام وأبا غالب لكن لا يمنع من أن يكنى أيضا: أبا الوفاء، والاحتمال وارد، فطبقته طبقة شيوخ المصنف، وطليطلة بلدة بالأندلس من المغرب، وقد ذكره أيضا الذهبي في تاريخ الإسلام في وفيات سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وقال: حج وسمع من ابن الأعرابي وجماعة ومن أبي الحسن بن أبي عياش، كتب عنه جماعة. اه.
وانظر: تاريخ الإسلام ص 61 من الطبقة المذكورة، وتاريخ علماء الأندلس [1/ 98] ، والوافي بالوفيات [10/ 397] .
قوله: «الوزير بمصر» :
وزر لكافور، وكان أبوه قد وزر للمقتدر عام مصرعه، ووزر عم أبيه للمقتدر غير مرة.
ولد ببغداد سنة ثلاث وثلاثمائة، وحدث عن أبي حامد الحضرمي، وأبي بكر الخرائطي، وأبي يعلى الأبلي، ومحمد بن سعيد الحمصي، وحدث عنه الدارقطني، وعبد الغني بن سعيد المصري وغيرهما.
قال الخطيب: كان يملي الحديث بمصر، وقال السلفي: كان ابن حنزابة من-(1/365)
علي بن أحمد البصري المعروف بالحنائي قال: أخبرنا أبو مسلم- الحفاظ الثقات المتبجحين بصحبة أصحاب الحديث مع جلالة ورياسة، يروي ويملي بمصر في حال وزارته ولا يختار على العلم وصحبة أهله شيئا، توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. اه.
قلت: روى عنه المصنف مباشرة كما سيأتي في فصل ابتداء الدعوة وعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على قومه. انظر:
سير أعلام النبلاء [16/ 484] ، تاريخ بغداد [7/ 234] ، وفيات الأعيان [1/ 346] ، الوافي بالوفيات [11/ 118] ، فوات الوفيات [1/ 292] ، تذكرة الحفاظ [3/ 1022] ، معجم الأدباء [7/ 163] ، البداية والنهاية [11/ 329] ، النجوم الزاهرة [4/ 203] .
قوله: «المعروف بالحنائي» :
بكسر الحاء المهملة، وفتح النون المشددة ثم همزة مكسورة بعد الألف يقال: إن هذه النسبة لبيع الحناء الذي يخضب به، وقد ذكره السمعاني في هذه النسبة فقال: إبراهيم بن علي الحنائي: حدث عن أبي مسلم الكجي، وسمع أبا علي الصفار، وأبا عمرو بن السمّاك، وأبا بكر النجاد وغيرهم، قال: روى عنه الخطيب وأثنى عليه فقال: كان ثقة مأمونا زاهدا ملازما لبيته، توفي في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة (يعني بعد المصنف بخمس أو ست سنين تقريبا) وقد بلغ خمسا وثلاثين سنة.
قوله: «أخبرنا أبو مسلم» :
هو الكجّي، الإمام الحافظ المعمر شيخ المحدثين في عصره صاحب السنن، سمع أبا عاصم النبيل، ومسلم بن إبراهيم، وسليمان بن داود الهاشمي وخلق سواهم، وحدث عنه: أبو بكر الشافعي، وأبو القاسم الطبراني، والآجري، وأبو بكر القطيعي، وثقه الدارقطني، وقال الذهبي:
كان سريا نبيلا عالما بالحديث وطرقه، عالي الإسناد، عنده عدة أحاديث-(1/366)
إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: أخبرنا أبو عمرو: نصر بن زياد بن عبد الله قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن الجهم بن أبي الجهم- ثلاثية السند، قدم بغداد وازدحم عليه الناس ... مات ببغداد سنة اثنتين وتسعين ومئتين فنقل إلى البصرة، ودفن بها وقد قارب المائة، رحمه الله، انظر:
تاريخ بغداد [6/ 120] ، سير أعلام النبلاء [13/ 423] ، المنتظم [6/ 50] ، تذكرة الحفاظ [2/ 620] ، البداية والنهاية [11/ 99] ، الوافي بالوفيات [6/ 29] ، طبقات المفسرين [2/ 11] .
قوله: «أبو عمرو: نصر بن زياد بن عبد الله» :
لم أجده فيما لدي من المصادر، وقد توبع.
قوله: «أخبرنا محمد بن إسحاق» :
ابن يسار الإمام، علامة السيرة، حافظ التاريخ والمغازي والأخبار، أبو عبد الله القرشي المطلبي مولاهم، المدني، رأى أنس بن مالك، وروى عن جماعة من التابعين، وهو عمدة في التاريخ والسير ممن لا يستغنى عن حديثه الحسن إذا صرح بالسماع والتحديث، قال الحافظ الذهبي: الذي عندي في حاله أن له ارتفاعا بحسبه لا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا، وانظر:
التاريخ الكبير [1/ 40] ، الجرح والتعديل [7/ 191] ، تاريخ بغداد [1/ 214] ، مقدمة عيون الأثر [1/ 7] ، سير أعلام النبلاء [7/ 33] ، طبقات ابن سعد [7/ 321] ، تهذيب الكمال [24/ 405] ، تهذيب التهذيب [9/ 34] ، الكاشف [3/ 18] ، وفيات الأعيان [4/ 276] ، الوافي بالوفيات [2/ 188] ، الميزان [4/ 388] ، التقريب [/ 467] .(1/367)
مولى الحارث بن حاطب، عن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، قوله: «مولى الحارث بن حاطب» :
ويقال: مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب فكان يقال له: مولى الحارث بن حاطب، ذكره البخاري وابن أبي حاتم وسكتا عنه، ووثقه ابن حبان.
التاريخ الكبير [2/ 229] ، إكمال الحسيني [/ 71] ، تعجيل المنفعة [/ 35] ، الجرح والتعديل [2/ 521] ، الثقات [4/ 113] .
قال أبو عاصم: لا أدري سمع الجهم هذا الحديث من عبد الله أو لا، فقد وقع في رواية البيهقي: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر، فيحتمل أنه لم يسمعه ويحتمل أنه سمعه بعد وحفظ عنه من الوجهين، والله أعلم.
قوله: «عن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين» :
هو الصحابي الجليل: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي، أبو جعفر المدني، الجواد بن الجواد، أول مولود في الإسلام وكان يسمى بحر الجود لسخائه وكرمه يقال: لم يكن في الإسلام والمسلمين أسخى منه، أمه أسماء بنت عميس وهي التي دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن استشهد أبوه فقال: يا أسماء ألا أبشرك؟ قالت: بلى بأبي أنت وأمي قال:
فإن الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة.
قلت: لا يدرى سمع عبد الله بن جعفر هذا الحديث من حليمة رضي الله عنها أم لا؟ ولا يضر ذلك لصحبته صلى الله عليه وسلم، غير أنه وقع في بعض طرقه قوله:
حدثت عن حليمة، وانظر ترجمته في:
تهذيب الأسماء واللغات [1/ 262] ، أسد الغابة [3/ 198] ، سير أعلام النبلاء [3/ 456] ، العقد الثمين [5/ 20] ، تهذيب التهذيب [5/ 149] ، الإصابة [6/ 38] ، الاستيعاب [6/ 133] ، تهذيب تاريخ دمشق [7/ 328] ، تاريخ دمشق [27/ 248] ، تهذيب الكمال [14/ 367] .(1/368)
عن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، من بني سعد بن بكر بن هوازن- قال أبو عمرو: هي أم نبي الله التي أرضعته وفصلته- قالت: أصابتنا سنة شهباء، لم يبق لنا شيء، فخرجنا في نسوة من بني سعد بن بكر إلى قوله: «من بني سعد بن بكر بن هوازن» :
واسم أبي ذؤيب: عبد الله بن الحارث، لم يخالف في هذا إلا الكلبي فقال:
اسمه: الحارث بن عبد الله، وقد نسبت كذلك في رواية البيهقي في الدلائل، وهي أم النبي صلى الله عليه وسلم ومرضعته، حظيت بالسعادة في الدارين ببركته صلى الله عليه وسلم فهنيئا لها رضي الله عنها وأرضاها، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته يقوم لها ويبسط لها رداءه.
انظر ترجمتها في:
الإصابة [12/ 200] ، الاستيعاب [12/ 261] ، أسد الغابة [7/ 67] .
قوله: «أصابتنا سنة شهباء» :
أورد المصنف رحمه الله حديث عبد الله بن جعفر ولم يتقيد بلفظه إذ أدخل في حديثه حديث ابن عباس الطويل وكأنه أراد بذلك الجمع بين ألفاظ قصة رضاعه ونشأته عند أمه حليمة السعدية رضي الله عنها، ولفظ قصة الباب التي أوردها أقرب ما يكون للفظ حديث ابن عباس، وأنا أخرج الطريقين تتميما للفائدة.
- فأما حديث عبد الله بن جعفر فأخرجه ابن إسحاق في السيرة [/ 48] ، ومن طريقه ابن هشام في السيرة [1/ 162] ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده [13/ 93] رقم 7163، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 88] ، والطبراني في معجمه الكبير [24/ 212] رقم 545، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل برقم 94، والبيهقي في الدلائل [1/ 132] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 158] ، وصححه ابن حبان- كما في الإحسان- برقم 6335.
قال ابن كثير بعد إيراده في تاريخه: هذا الحديث قد روي من طرق، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل المغازي والسير. -(1/369)
مكة، لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من سببها أن الله عزّ وجلّ أجدب البلاد، وأقحط الزمان حتى دخل ضرر ذلك على عامة الناس.
فكانت حليمة تحدث نفسها وتقول: كان الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة شديدة، وجهد جهيد، وكنا نحن أهل بيت أشد الناس كلهم فقدا وجهدا، وكنت امرأة طوافة أطوف في البراري والجبال أطلب النبات والحشائش- حشائش الأرض- وكنت أصيب مثل- وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 220] : رواه الطبراني وأبو يعلى ورجالهما ثقات.
- وأما حديث ابن عباس فأورده البيهقي في الدلائل بطوله [1/ 139- 145] وقال قبل إيراده: قد روى محمد بن زكرياء الغلابي بإسناده عن ابن عباس عن حليمة هذه القصة بزيادات كثيرة، وهي لي مسموعة، إلا أن محمد بن زكرياء هذا متهم بالوضع فالاقتصار على ما هو معروف عند أهل المغازي أولى، لكنه رحمه الله لم يلبث أن رجع فقال: ثم استخرت الله تعالى في إيرادها فوقعت الخيرة على إلحاقه بما تقدمه من نقل أهل المغازي لشهرته بين المذكورين.
قال أبو عاصم: وهذا هو الحق في هذا الباب، سيما وأن محمد بن زكرياء هذا ضعف من الجمهور، وجعله ابن حبان في منزلة من يعتبر به إذا روى عن ثقة، وهذا يعني أنه لم يبلغ بضعفه حد الاتهام بالوضع أو الكذب، ثم إنه لا نقاش بعد ما ترتب على الاستخارة- الحاصلة من مثل البيهقي الإمام- من انشراح الصدر في إيراد حديثه.
حديث ابن عباس أخرجه أيضا: ابن عساكر في تاريخه من طريق البيهقي [3/ 473- 479] ، ثم قال: هذا حديث غريب جدّا، وفيه ألفاظ ركيكة لا تشبه الصواب، ويعقوب بن جعفر غير مشهور في الرواية، والمحفوظ-(1/370)
ما تصيب أخواتي اللواتي خرجن معي وأقل منهن، وكنت أقنع وأحمد ربي على الجهد والبلاء، فخرجت يوما إلى بطحاء مكة فجعلت لا آمر بشيء من الحشائش والنبات إلا استطال إليّ فرحا، وأقمت بذلك أياما، ثم ولدتّ مولودا في بعض الليالي، ولم أكن ذقت شيئا منذ سبعة أيام، فكنت ألتوي كما تلتوي الحية من شدة الجهد والجوع، فلا أدري أنا في السماء أم في الأرض، فبينا أنا ذات ليلة راقدة أتاني آت في المنام فحملني فقذف بي في نهر فيه ماء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وأذكى ريحا من الزعفران، وألين من الزبد، فقال: أكثري من شرب هذا الماء يكثر لبنك وخيرك، قالت: فشربت، ثم قال: ازدادي، فازددت، ثم قال: أروي، فرويت، ثم قال: أتعرفينني؟ قلت: لا، قال: أنا الحمد الذي كنت تحمدين ربك في سرائك وضرائك، وعلى أمورك وحالاتك، انطلقي إلى بطحاء مكة فإن لك فيها رزقا واسعا فستأتين بالنور الساطع، والهلال البدري، واكتمي شأنك ما استطعت، ثم ضرب بيده على صدري وقال: اذهبي أحل الله لك الرزق، وأجرى لك اللبن.
- من حديث حليمة ما تقدم من قبل من رواية عبد الله بن جعفر.
قلت: هذه قصة تناقلتها العرب والأجيال بعضها عن بعض لا عن لفظ نبوي يستدعي مراعاة ألفاظها والعناية في روايتها كما وردت، ولذلك دخلت الركاكة في بعض سياقها، ولا يوجب ذلك طرحها ورفضها فتأمل.
وروى القصة أيضا ابن سعد في الطبقات [1/ 110- 113] من طرق، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 269] .
وقصة رضاعه صلى الله عليه وسلم أيضا مذكورة في حديث شداد بن أوس الطويل، يأتي تخريجه في باب عصمة الله نبيه صلى الله عليه وسلم.(1/371)
قالت: فانتبهت من المنام وأنا أجمل نساء بني سعد قاطبة، لا أطيق أن أنقل ثديي كأنهما الجرة- كالجرة العظيمة- يتسبسب ويشخب منها لبن يقطر كما يقطر الروايا، وإن الناس من بني سعد حولي لفي ضيق وإنما كنا نرى البطون لازقة بالظهور، والألوان متغيرة، وكنا نسمع من كل دار أنينا كأنين المرضى من شدة الجهد والجوع، لا يكاد يجري الدمع إذا بكت العيون من شدة اليبوسة وضيق الزمان، لا نرى في الجبال الراسيات شيئا قائما، ولا على وجه الأرض شجرا زاهرا.
قالت: وكادت العرب أن تهلك هزلا وضرا، واجتمع النساء حولي يتعجبن مني ويقلن: يا بنت أبي ذؤيب إن لك شأنا وقصة، أصبحت اليوم تتشبهين ببنات الملوك، ولقد فارقتنا بالأمس وبك ما بك من تغير اللون وضيق العيش! قالت: فكنت لا أجيب جوابا، ولا أنطق وذلك أني أمرت في المنام، فكتمت شأني.
ثم صعدنا يوما إلى بطحاء مكة نطلب النبات كعادتنا فسمعنا مناديا ينادي: ألا إن الله تبارك وتعالى حرّم في هذه السنة على نساء الشرق والغرب والجن والإنس يلدن في هذه السنة بناتا لأجل مولود يولد في قريش، هو شمس النهار، وقمر الليل، وطوبى لثدي أرضعته، ألا فبادرن يا نساء بني سعد.
فلما سمع النساء ذلك انحدرن جميعا من ذروة الجبل، وجعلن يخبرن أزواجهن بما سمعن، وعزم النساء الخروج إلى مكة، فخرجن- وكانوا في جهد جهيد- وخرجت أنا على أتان لي معنا، فأسمع لها في جوفها خضخضة قد بدت عظامها من سوء حالها، وصاحبي معي، قالت: فجعل النساء يجددن في السير، ويقول صاحبي: ألا ترين النساء قد سبقننا؟(1/372)
قالت: فكنت أجدّ وأسوق الأتان فتمشي على المجهود منها كأنها تنزع يديها ورجليها من الوحل من شدة الضعف، قالت: فجعلت لا أمر بشيء إلا استطال علي فرحا ونادتني الأشياء من كل مكان: هنيئا هنيئا لك يا حليمة، قالت: فكنت لا أقدر أمر وحدي لما أسمع من النداء والعجائب حولي، فبينا أنا كذلك إذ برز إليّ من الشعب بين الجبلين رجل كالنخلة الباسقة وبيده حربة يلوح لمعانها من النور، فرفع يده اليمنى فضرب بطن الحمار ضربة ونادى: مرّي يا حليمة بكل سلاماتك، فقد أنزل الله بشارتك، مري فقد أمرني الرحمن أن أدفع عنك اليوم كل شيطان مريد وجبار عنيد، قالت: فقلت لصاحبي: يا فلان أترى وتسمع ما أسمع؟ فيقول: لا، ما لك كالخائفة الوجلة؟ قالت: فقلت:
أخاف أن لا ألحق من قومي أحدا.
فجعلت أسير حتى نزلنا جميعا متوافين كلنا فرسخين من مكة، فلما أصبحت دخلت مكة وقد سبقني كل نساء بني سعد إلى كل رضيع بمكة، فكدت أنقلب خاوية، فقلت لصاحبي: أنت رجل وأنا امرأة فادخل واسأل عن أعظم الناس نذرا وخطرا، قالت: فرجع عليّ فقال:
بنو مخزوم، قالت: قلت: ليس كذا، سل سؤالا أشفى من هذا، سل من أعظم الناس كلهم قدرا وخطرا، قالت: فرجع إليّ فقال: عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، قالت: فأقعدت صاحبي في الرحل، ودخلت مكة فأصبت نساء قومي وقد سبقنني إلى كل رضيع في قريش.
قالت: فندمت أشد الندامة على دخول مكة وقلت في نفسي:
لو أني أقمت في منزل من منازل بني سعد لكان أحسن لحالتي، وآيست عندها، فجعلت أدخل بيتا وأخرج من الآخر فإذا نساء قومي قد سبقنني(1/373)
إلى كل رضيع في قريش، فبينا أنا كذلك إذا أنا بعبد المطلب وجمّته تضرب منكبيه ينادي بأعلى صوته: معاشر الرضع هل فيكن واحدة؟
قالت: فقصدت قصده، فقلت: أنعم صباحا أيها الملك المنادي، قال:
فمن أنت؟ قلت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قلت:
حليمة، فضحك عبد المطلب وزجر وقال: بلغ، بخ بخ سعد وحلم هاتان خلتان فيهما غنى الدهر، وعز الأبد، ويحك يا حليمة إن عندي غلاما صغيرا يتيما يقال له: محمد، وإني قد عرضته على جميع نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه وقلن: إنه يتيم وما عند اليتيم من خير، وإنما نلتمس كرامة الآباء، فهل لك أن ترضعيه لعلك تسعدين به؟ قالت قلت: حتى أستأمر صاحبي فتعلق بي وقال: بالله لترجعين لا كارهة، قالت: قلت:
والله لأرجعن لا كارهة.
قالت: فانطلقت إلى صاحبي فأخبرته بذلك، فكأن الله قذف في قلبه فرحا وقال: ويحك خذيه، فإن فاتك محمد لن تفلحي أبد الآبدين ودهر الداهرين، قلت: فأردت والله أن لا أرجع وذلك أنه كان معي ابن أخت لي فقال لي: يا خالة أترجع نساء بني سعد بالرضاع والكرم من الآباء وترجعين أنت بيتيم في قريش، فإن أخذتيه لا تزدادي على نفسك إلا جهدا وضرا، فأردت أن لا أرجع، فأخذتني الحمية وعصبية الجاهلية، فقلت: ترجع نساء قومي بالرضاع وأرجع خائبة، والله لآخذنه وإن كان يتيما، فهذا عبد المطلب جده لم أر في الآدميين أجمل منه جمالا، وإن رؤياي التي رأيتها في المنام وتصديقها في اليقظة لا يذهب قوله: «بلغ» :
أي: المنى والمراد، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.(1/374)
أبدا باطلا، قالت: فرجعت إليه وهو قاعد فقلت: هلمّ الصّبيّ، فتهلّل وجهه فرحا، وقال: يا حليمة وقد نشطت لأخذه؟ قالت قلت: نعم، فانطلق بين يدي يهرول ويجرّ حلّته حتى أدخلني في بيت فيه آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت: وإذا هي امرأة هلالية بدرية، كأن الكوكب الدرّي معصوب بأسارير جبهتها، قالت: أهلا وسهلا بك يا حليمة، ثم أخذت بيدي وأدخلتني إلى بيت فيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أنا به مدرجا في ثوب من صوف أبيض أشد بياضا من اللبن يفوح من نسج ذلك الصوف الذي عليه ريح كريح المسك الإذفر، وتحته حريرة خضراء، وهو راقد حلاوة القفا يغط في النوم، قالت: فلما نظرت إليه أشفقت عليه لحسنه وجماله أن أوقظه من نومه، فدنوت منه رويدا، فوضعت يدي على صدره، فتبسم ضاحكا وفتح عينيه ينظر بهما إليّ فخرج من العينين نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فبادرت فغطيت وجهه بردائي لكيلا ترى أمه ذلك، وقبّلت بين عينيه، واحتملته صلى الله عليه وسلم وأعطيته ثديي الأيمن فشرب، قالت: فحولته إلى الأيسر فأبى أن يشرب.
111- قال ابن عباس: إنما أبى لأن الله عزّ وجلّ ألهمه بالعدل في رضاعه، وعلم أن له فيه شريكا فناصفه عدلا.
(111) - قوله: «قال ابن عباس» :
لم أقف عليه مسندا ولا رأيت أحدا عزاه لابن عباس، وفي مواهب القسطلاني [1/ 152] : قال بعض أهل العلم: فذكره. -(1/375)
قالت حليمة: فكان ثديي الأيمن لمحمد صلى الله عليه وسلم والأيسر لابني ضمرة، وكان ابني لا يشرب أبدا حتى ينظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قد شرب، فحملته فأتيت به صاحبي فلما أن نظر إليه خر ساجدا وقال: أبشري يا حليمة فما رجع خلق إلى البلاد أغنى منا، قالت: فدعتني أمه، وقالت:
انظري فدتك نفسي أن لا تخرجي أبدا من بطحاء مكة حتى تعلميني، فإن لي وصايا أوصيك بها، قالت حليمة: فبات عندي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال، فلما كان في الليلة الثالثة انتبهت في بعض الليل لأقضي حاجة وأصلح شيئا من شأني فإذا برجل عليه ثياب خضر يتألق نورا قاعدا عند رأسه يقبل بين عينيه، قالت: فنبهت صاحبي رويدا رويدا وقلت: انظر إلى العجب العجيب، قال: اسكتي واكتمي شأنك، فمنذ ليلة مولد هذا الغلام قد أصبحت أحبار الدنيا قياما على أقدامها لا يهنأ لها عيش النهار ولا نوم الليل، وما رجع أحد من البلاد أغنى منا.
قالت: فلما كان في اليوم الثالث ودع الناس بعضهم بعضا، وودعت آمنة ثم ركبت أتاني، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، قالت:
فكنت أنظر إلى الأتان تسجد ثلاث سجدات نحو الكعبة وترفع رأسها إلى السماء، ثم مرّت حتى سبقت دواب القوم ورحالهم، فكان النساء يتعجبن مني وينادينني من ورائي: يا بنت أبي ذؤيب أليست هذه أتانك التي ركبتها وأنت جائية معنا من البلاد فكانت تخفضك طورا وترفعك- وقال السهيلي في الروض [1/ 187] : ذكر غير ابن إسحاق في حديث الرضاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل إلا على ثدي واحد، وتعرض عليه الآخر فيأباه، كأنه قد أشعر أن معه شريكا في لبنها، فكان مفطورا على العدل، مجبولا على جميل المشاركة والفضل.(1/376)
أخرى؟ فأقول: بلى، إنها لهي، فتعجبن مني وقلن: والله إنّ لها لشأنا عظيما.
قالت: فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: إي والله إن لي لشأنا ثم شأنا، أنعشني الله بعد موتي، ورد عليّ سمني بعد هزالي، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة عني، أتدرون من عليّ؟
عليّ خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وخير جبلّة الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين.
قالت: ومرّت حتى سبقت دوابهم ورحالهم، فلم أكن أنزل منزلا من منازل بني سعد إلا أنبت الله فيه عشبا وخيرا كثيرا، فلما صار محمد صلى الله عليه وسلم عندي ثمّر الله لي المواشي والأغنام، فكانت غنمي تروح وتغدو وتدر وتضع وتحلب، لا تضع لأحد من قومي مثلي.
فجمعت بنو سعد رعاتها وقالوا: ثكلتكم أمهاتكم، ما بال أغنام بنت أبي ذؤيب تروح وتغدوا، وتدر وتحلب، ولا تضع لأحد من بني سعد مثله؟!، اسرحوا كلكم وارعوا في مراعي حليمة، وحيث تسرح أغنامها وتحل.
قالت: وكانت رعاة قومي يرعون في مرعى غنمي، فثمر الله لهم المواشي والأولاد والأموال، فما زلنا نعرف البركات مذ كان النبي صلى الله عليه وسلم عندنا وفي بيتنا، وألقى الله محبته على كل من رآه من الناس، فلم يكن يتمالك فرحا، وأكثر الله لي الخير حتى كنا نفيض على قومنا، وكانوا يعيشون في أكنافنا.
فلما كان عند قرب ما تكلم به سمعت منه كلاما عجيبا ينادي:
الله أكبر الله أكبر، الحمد لله رب العالمين، قالت: فكنت معه في(1/377)
الرضاع في كل دعة وسرور، ما غسلت له بولا قط، طهارة ونظافة، إنما كان له في كل يوم وقت واحد يتوضأ فيه ولا يعود إلا في وقته من الغد، واجتنبت زوجي جهدي وهو في الرضاع.
فلما ترعرع كان يخرج إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم، فقال لي يوما من الأيام: ما لي لا أرى إخوتي بالنهار؟ قالت: قلت: فدتك نفسي يرعون غنما لنا، فيروحون من ليل إلى ليل، فأسبل عينيه وبكى، وقال:
يا أماه فما أصنع إذا ها هنا وحدي؟ ابعثي بي غدا معهم، قالت: قلت:
وتحب ذلك؟ قال: نعم، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهنته وكحلته وقمصته وعمدت إلى جذعة يمانية فعلقتها في عنقه حرزا من العين، وأخذ عصا وخرج مع إخوته، وكان يخرج مسرورا ويرجع مبرورا، فلما كان يوما من الأيام خرجوا يرعون بهما لنا حول بيوتنا، فلما انتصف النهار إذا أنا بابني ضمرة يعدو، قد علاه العرق ورشح الجبين باكيا ينادي: يا أماه، يا أباه أدركا أخي محمدا، فما أراكما تلحقانه إلا ميتا.
قالت قلت: وما قصته؟ قال: بينا نحن قيام نترامى بيننا بالجلّة، ونلعب إذ أتاه رجل فاختطفه من أواسطنا وعلا به على ذروة من الجبل، قوله: «وعمدت إلى جذعة» :
بالذال المعجمة ويقال: بالدال المهملة، وفي اللسان: قال أبو الهيثم:
الذي عندنا في ذلك أن الجدع والجذع واحد، وهو حبس من تحبسه على سوء، وفي رواية: وعمدت إلى خرزة جزع يمانية.
قوله: «بالجلة» :
بالجيم وتشديد اللام، وعاء يتخذ من الخوص، يوضع فيه الثمر، وقيل:
المراد هنا البعر.(1/378)
فنحن نراه حتى شق من صدره إلى عانته، ولا أدري ما فعل به، وما أظنكما تلحقانه أبدا إلا مقتولا.
قالت: فأقبلت أنا وأبوه- تعني زوجها- نسعى سعيا، فإذا أنا به قاعدا على ذروة الجبل متربعا شاخصا بعينيه نحو السماء يبتسم ويضحك، فانكببت عليه، وقبلت بين عينيه، وقلت: فدتك نفسي ما الذي دهاك؟ قال: خيرا يا أماه، بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي نتقاذف بيننا بالجلّة إذ أتاني رهط ثلاثة في يد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الثاني طست من زمرد خضر ملىء ثلجا فأخذوني من بين أصحابي وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعا لطيفا ثم شق من صدري إلى عانتي، وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسّا ولا ألما، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها.
وقام الثاني فقال للأول: تنحّ فقد أنجزت ما أمرك الله، فدنا مني فأدخل يده في جوفي، فانتزع قلبي وشقه باثنين فأخرج منه نكتة سوداء ملتوية بالدم فدمي به وقال: هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله، ثم حشاه بشيء كان معه، ورده مكانه، ثم ختمه بخاتم من نور، فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي.
فقام الثالث إليهما فقال: تنحيا فقد أنجزتما ما أمر الله عزّ وجلّ به، قوله: «حتى شق من صدره» :
وقع في «ظ» : حتى شق بطنه من صدره إلى عانته، وانظر تخريج أحاديث شرح صدره الشريف صلى الله عليه وسلم في كتابنا فتح المنان عند التعليق على الحديث رقم 14.(1/379)
ثم دنا الثالث مني فأمرّ يده على ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم الشق، وأنا أنظر إليه، ثم قال: زنوه بعشرة من أمته، فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بمائة، فوزنوني فرجحتهم، فقال:
زنوه بألف فوزنوني فرجحتهم، قال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بها.
ثم أخذ بيدي فأنهضني من الأرض إنهاضا لطيفا، وانكبّوا عليّ وقبّلوا رأسي وما بين عيني وقالوا: يا حبيباه لا ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرّت عيناك، وتركوني قاعدا في مكاني هذا، ثم جعلوا يطيرون طيرا حتى دخلوا خلال السماء، وأنا أنظر إليهم، فلو شئت لأريتك موضع دخولهم.
قالت: فاحتملته فأتيت به منزلا من منازل بني سعد، فقال الناس:
اذهبي به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: ما بي شيء مما تذكرون، وإني أري نفسي سليمة وفؤادي صحيحا، بحمد الله، فقال الناس: أصابه لمم أو طائف من الجن، قالت: فغلبوني على رأيي حتى انطلقت به إلى الكاهن فقصصت عليه القصة، فقال: دعيني أسمع من الغلام أمره، فإن الغلام أبصر بأمره منكم، تكلّم يا غلام.
قالت حليمة: فقصّ محمد صلى الله عليه وسلم قصته من أولها إلى آخرها، فوثب على قدميه وضمّه إلى صدره، ونادى بأعلى صوته: يا للعرب من شر قد قوله: «لرجح بها» :
انظر تخريجنا لبعض ما جاء من الأحاديث في هذا المعنى في كتابنا فتح المنان شرح المسند الجامع لأبي محمد: عبد الله بن عبد الرحمن، تحت رقم: 14، 15.(1/380)
اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفّهنّ أحلامكم، وليكذبنّ أديانكم، وليدعونّكم إلى ربّ تعرفونه، ودين تنكرونه.
قالت: فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت: لأنت أعته وأجنّ من ابني، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا لا نقتل محمدا صلى الله عليه وسلم.
فاحتملته فأتيت به منزلي فما علمنا منزلا من منازل بني سعد إلا وقد شممنا منه ريح المسك الإذفر، وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان فيغيبان في ثيابه ولا يظهران، فقال الناس:
ردّيه على عبد المطلب واخرجي من أمانتك، قالت: فعزمت على ذلك، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يردّ إليك النّور والزّين والبهاء والكمال، فقد أمنت من أن تجدبين أو تخربين أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
قالت: فركبت أتاني وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، وأقبلت أسير حتى أتيت إلى الباب الأعظم- من أبواب مكة- وعليه جماعة مجتمعون، فوضعته لأقضي حاجتي وأصلح ثيابي، فسمعت هدّة شديدة، فالتفتّ فلم أره، فقلت: معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: أيّ صبيّ؟ قالت قلت:
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضّر الله به وجهي، وأغنى عيلتي، وأشبع جوعتي، ربّيته حتى أدركت فيه سروري وأملي، فأتيت به لأردّه، وأخرج من أمانتي فاختلس من يدي قبل أن تمسّ قدمه الأرض، واللات والعزّى لئن لم أره لأرمينّ نفسي من شاهق الجبل، ولأتقطّعنّ إربا إربا.(1/381)
قال الناس: إنا لنراك عاييا، من أين كان معك محمد؟ قالت قلت:
الساعة، كان بين أيديكم، قالوا: ما رأينا شيئا، فلما آيسوني وضعت يدي على أمّ رأسي وقلت: وا محمداه، وا ولداه، فأبكيت الناس الأبكار لبكائي، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقة، فإذا أنا بشيخ كالفاني متوكئ على عصا قال: ما لك أيتها السعدية تبكين وتضجّين؟.
قلت: فقدت ابني محمدا صلى الله عليه وسلم، قال: لا تبكين، أنا أدلك على من يعلم علمه وإن شاء الله أن يرده فعل، قالت: قلت: فدتك نفسي، ومن هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل هو العالم بمكانه، فادخلي واطلبي إليه، فإن شاء أن يردّه ردّه، قالت: فزبرت الشيخ وقلت: ثكلتك أمك، كأنك لم تر ما نزل باللّات والعزّى في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنك لتهذين ولا تدرين ما تقولين، أنا أدخل عليه فأسأله أن يرده عليك.
قالت حليمة: فدخل وأنا أنظر فطاف بهبل أسبوعا، وقبل رأسه ونادى: يا سيداه، لم تزل منّتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أنّ ابنها قد ضلّ فردّه إن شئت، وأخرج هذه الوحشة من بطحاء مكة، قالت:
فانكبّ هبل على وجهه وتساقطت الأصنام بعضها على بعض، ونطقت وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، إنما هلاكنا على يد محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا، ولركبتيه ارتعادا، وقد ألقى عكازته من قوله: «إنا لنراك عاييا» :
كذا في «ب» وفي «ظ» : عايية، وفي المطبوع من دلائل البيهقي: إنا لنراك غائبة عن الركبان ما معك محمد. وعاييا من العي، عييت فلانا أعياه: أي جهلته ورجل عياياء: عيي بالأمور، والأعيية: ما عاييت به، كذا في اللسان باختصار.
قوله: «بالبكاء حرقة» :
زاد البيهقي في روايته: لي.(1/382)
يده وهو يبكي ويقول: يا حليمة إن لابنك ربا لا يضيّعه فاطلبيه على مهل.
قالت: فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي، فقصدت قصده، فلما نظر إليّ قال: أسعد نزل بك أم نحس؟ قالت قلت: بل النحس الأكبر، ففهمها مني وقال: لعل ابنك ضلّ منك؟ قالت قلت: نعم، فظن أن بعض قريش اغتالوه فقتلوه، فسلّ عبد المطلب سيف- وكان لا يثبت له أحد من شدة غضبه- فنادى بأعلى صوته: يا غالب، يا غالب- وكانت دعوتهم في الجاهلية- فأجابته قريش بأجمعها وقالوا: ما قصتك؟ قال:
فقدت ابني محمدا، قالت قريش: اركب نركب معك، فإن تسنمت جبلا تسنمنا معك، وإن خضت بحرا خضنا معك.
قال: فركب وركبت قريش، وآلى أن لا يأكل الخبز ولا يمس رأسه غسلا ولا طيبا حتى يظفر بمحمد صلى الله عليه وسلم أو يقتل ألفا من العرب، ومائة من قريش، فأخذ على أعلى مكة، وانحدر على أسفلها، فلما أن لم ير شيئا، ترك الناس واتشح بثوب، وارتدى بآخر وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعا ثم أنشأ يقول:
يا رب ردّ ولدي محمدا ... اردده عليّ واتخذ عندي يدا
يا رب إنّ محمدا لم يوجدا ... فاجعل قوى كلامهم مبددّا
فسمعنا مناديا ينادي من جو السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربّا لا يخذله ولا يضيعه، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف قوله: «يا غالب يا غالب» :
كذا في رواية المصنف، وعند البيهقي في الدلائل: يا يسيل.
قوله: «قوى كلامهم» :
في «ظ» قومي كلهم، وعند البيهقي: فجميع قومي كلهم متردد.
وقصة ضياعه صلى الله عليه وسلم يرويها بعضهم منفصلة عن قصة رضاعه، أشار إليها-(1/383)
ومن لنا به، وأين هو؟، قال: بوادي تهامة، عند شجر السمر.
فأقبل عبد المطلب راكبا ومتسلحا، فلما صار ببعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران، وتقدم أبو مسعود الثقفي فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب الشجرة وهو يجذب الأغصان ويعبث بالورق، فدنا منه فقال: من أنت يا غلام؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إليك عني يا أخا ثقيف، قال: فبقي متعجبا من حداثة سنه وسرعة جوابه فقال له الثقفي:
من أنت يا غلام؟ قال: أنا ابن سيد العرب كلها، أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: فرجع أبو مسعود الثقفي فبشر عبد المطلب وقريشا حتى دنوا من النبي صلى الله عليه وسلم فدنا عبد المطلب فقال: يا غلام من أنت؟ فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى جده قال: أنا ابن ابنك ومن نسلك، فقال: يا غلام انسب لي نفسك، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم نسبه- وسيجيء بعد إن شاء الله-.
قال: وكان صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ست وثمانين شهرا.
فاحتمله عبد المطلب على مقدم راحلته حتى أتى به الكعبة وطاف به حولها ويقول:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
- البخاري في تاريخه من وجه آخر [3/ 454] الترجمة 1513، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل [7/ 173] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 112] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 20] ، والحاكم في المستدرك [2/ 603- 604] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 99] .
قوله: «ورقة بن نوفل» :
ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي، الأسدي، ابن عم خديجة بنت خويلد بن أسد، وأحد من عاش الفترة وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة، وستأتي أخباره رحمه الله.(1/384)
فقال له عبد المطلب: فدتك نفسي وأنا جدك، ثم حمله على قربوس سرجه، وردّه إلى مكة فاطمأنت قريش بعد ذلك.
قالت: فلما اطمأن الناس جهزني عبد المطلب بأحسن الجهاز، وصرفني فانصرفت إلى منزلي وأنا بكل خير من الدنيا، لا أحسن أن أصف كثرة خيري، وصار محمد صلى الله عليه وسلم عند جده.
112- وروي عن حليمة قالت: وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يابسة في وقت رضاعه، فتعلق النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الشجرة، فاخضرت الشجرة لمسّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
قوله: «ثم حمله على قربوس سرجه» :
سقطت هذه الجملة من «ب» . وفي «ظ» بعد رجز عبد المطلب: فبينا هم كذلك إذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق. وكأنه سطر زائد ربما نتج عن الوهم النظري الذي يحصل للناسخ أثناء النقل، ليس في النسخ الأخرى.
- والقربوس: حنو السرج، وللسرج قربوسان، فالمقدم: فيه العضدان وهم رجلا السرج، ويقال لهما: حنواه، والآخر فيه رجلا المؤخرة، وما قدام القربوسين من فضلة دفة السرج يقال له: الدّرواسنج.(1/385)
[37- باب تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور أمارات النبوّة فيه]
37- باب: تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور أمارات النبوّة فيه 113- وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ردّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين- وقيل: ابن أربع سنين- إلى أمه آمنة فكان معها إلى أن بلغ ست سنين، ثم خرجت به آمنة إلى أخواله بني النجار بالمدينة ومعه أم أيمن فنزلت به في دار النابغة- رجل من بني عدي بن النجار- فأقامت به شهرا.
114- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت في مقامه ذلك، فلما نظر إلى أطم بني عدي بن النجار عرفها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نظرت إلى رجل من اليهود يختلف إليّ وينظر إليّ ثم ينصرف عني، فلقيني يوما خاليا فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد، ونظر إلى ظهري فأسمعه (113) - قوله: «وروي عن ابن عباس» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 116] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 271] ، ورواه ابن إسحاق في سيرته [/ 65] ، ومن طريقه ابن هشام في سيرته [1/ 168] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 165] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 188] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 81] من حديث ابن حزم.
(114) - قوله: «وقال النبي صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 116] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 271] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 163] رقم 99.(1/386)
يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فأخبرهم الخبر فأخبروا أمي، فخافت عليّ فخرجنا من المدينة.
فلما كان بالأبواء- منزل بين المسجدين- توفيت آمنة، فرجعت به أم أيمن على البعير.
115- وكانت أم أيمن تحدث وتقول: أتاني رجلان من اليهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا: أخرجي لنا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه مليا حتى إنهما لينظران إلى سرّته ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون لهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم.
قالت أم أيمن: فوعيت ذلك كله من كلامهما.
ثم رجعت به أم أيمن على البعير.
116- وكانت أم أيمن تحضنه، فورث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمه أم أيمن: جارية وخمسة جمال أوارك وقطيع غنم، فلما تزوج أعتقها.
117- وكان عبد المطلب يرق عليه أكثر ما يرق....
(115) - قوله: «وكانت أم أيمن» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 116] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 272] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 163] رقم 99.
(116) - قوله: «وخمسة جمال أوارك» :
الإبل الأوارك: هي التي تربى بين شجر الأراك، وقيل: هي المقيمات في الحمض، فإذا كان البعير يأكل الأراك، قيل: آرك، وعند العرب: أطيب الألبان ألبان الأوارك.
(117) - قوله: «وكان عبد المطلب يرق عليه» :
يعني بعد وفاة أمه صلى الله عليه وسلم آمنة.(1/387)
على أولاده.
118- وقيل: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر أمه سنتين.
قوله: «على أولاده» :
زاد ابن سعد في الطبقات [1/ 118] : فكان يقربه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك:
دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا.
ومن طريق ابن سعد أخرجه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 274] .
وعن أم أيمن أنها قالت: كنت أحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفلت عنه يوما فلم أدر إلّا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول: يا بركة، قلت: لبيك، قال:
أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري، قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلي عن ابني يا أم أيمن فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم، وكان لا يأكل طعاما إلّا قال: علي بابني، فيؤتى به إليه.
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 118] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 274] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 100] .
(118) - قوله: «في حجر أمه سنتين» :
يعني بعد أن ردته حليمة السعدية، فتكون أمه قد توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أربع سنين وهو قول ابن حبان في الثقات [1/ 41] .
وأخرجها ابن عساكر في تاريخه من طريق الزبير بن بكار [3/ 78] ، وأشار إليه ابن الجوزي في التلقيح [/ 13] .
والمشهور في السير أنها ماتت وهو ابن ستة كما في سيرة ابن إسحاق، وأخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 116] ، وحكى البلاذري في أنساب الأشراف [1/ 94] أنه الثبت.(1/388)
119- وقيل: إنها لما وضعته ماتت فاسترضع له جده حليمة بنت أبي ذؤيب وكان في حجرها سنتين ثم ردته، فكان في حجر جده سنتين، ثم مات جده فكفله أبو طالب حتى أتى عليه خمس وعشرون سنة.
120- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أتذكر موت عبد المطلب؟
قال: نعم، وأنا ابن ثمان سنين.
121- وتوفي عبد المطلب وهو ابن عشر ومائة سنة، وقيل: ابن اثنتين وثمانين سنة.
122- وقيل: لما حضر عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له: يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد صلى الله عليه وسلم ووجدي به، انظر كيف تحفظني فيه، قال أبو طالب: يا أبة لا توصني بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه ابني وابن أخي.
قوله: «ثم مات جده» :
الأكثر على أنه مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، روى ذلك أو أشار إليه أهل السير والتاريخ والدلائل، منهم: ابن إسحاق في سيرته [/ 68] ، ومن طريقه ابن هشام [1/ 69] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 188] .
وأخرجه ابن سعد في الطبقات من وجه آخر [1/ 119] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 282] ، وصححه من وجه آخر أيضا عن الزبير بن بكار، أخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 78] .
(120) - قوله: «وأنا ابن ثمان سنين» :
أخرجه والذي بعده ابن سعد في الطبقات [1/ 119] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 282] .
(122) - قوله: «انظر كيف تحفظني فيه» :
أشار ابن إسحاق في سيرته إلى بعض وصيته [/ 69] وأورد-(1/389)
.........
- أبياتا لعبد المطلب أنشدها أبا طالب حين أوصاه بمحمد صلى الله عليه وسلم قال فيها:
أوصيت من كنيته بطالب ... عبد مناف وهو ذو تجارب
بابن الذي قد غاب غير آيب ... بابن أخ والنسوة الحبايب
بابن الحبيب أقرب الأقارب ... فقال لي كشبه المعاتب
لا توصني إن كنت بالمعاتب ... بثابت الحق على واجب
محمد ذو العرف والذوائب ... قلبي إليه مقبل واثب
فلست بالآيس غير الراغب ... بأن يحق الله قول الراهب
فيه وأن يفضل آل غالب ... إني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكاتب ... هذا الذي يقتاد كالجنائب
من حل بالأبطح والأخاشب ... أيضا ومن ثاب إلى المثاوب
من ساكن للحرم أو مجانب
وقال عبد المطلب أيضا في وصيته:
أوصيك يا عبد مناف بعدي ... بموحد بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد ... فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد ... حتى إذا خفت مداد الوعد
أوصيت أرجى أهلنا للتوقد ... بابن الذي غيبته في اللحد
بالكره مني ثم لا بالعمد ... فقال لي والقول ذو مرد
ما ابن أخي ما عشت في معد ... إلّا كأذى ولدي في الود
عندي أرى ذلك باب الرشد ... بل أحمد قد يرتجى للرشد
وكل أمر في الأمور ود ... قد عملت علام أهل العهد
إن ابني سيد أهل نجد ... يعلو على ذي البدن الأشد
وأخرج الوصية من طريق ابن إسحاق: البيهقي في الدلائل [2/ 21- 23] .(1/390)
123- فلما توفي عبد المطلب ضم أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يتيما في حجر عمه أبي طالب وكان يكون معه، فكان يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله.
124- وكان أبو طالب لا مال له، له قطعة من الإبل تكون بعرنة فيبدو إليها فيكون فيها، ويؤتى بلبنها إذا كان حاضرا بمكة، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، فإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يشبعهم أو يغديهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، فإن كان لبنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد.
(124) - قوله: «بعرنة» :
هو مسيل الوادي الواقع في مدخل عرفات مما يلي مكة.
قوله: «لم يشبعوا» :
أخرج ابن عساكر في تاريخه [3/ 84] بإسناده إلى الحسن بن عرفة، أنا علي ابن ثابت، عن طلحة بن عمرو قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول:
سمعت ابن عباس يقول: كان أبو طالب يقرب إلى الصبيان بصحفتهم أول البكرة فيجلسون وينتهبون ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ولا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة، فكأنه لما رأى بركته في الطعام جعله يأكل معهم بعد، ولذلك كان يقول له عمه حين رآهم يشبعون معه ويفضل من طعامهم: إنك لمبارك.
أخرج أثر الباب: ابن سعد في الطبقات [1/ 119] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 283] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 86] ، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل معلقا [1/ 164] .(1/391)
125- وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجر أبي طالب بعد جده، فيصبح بنو أبي طالب غمصا، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا صقيلا.
(125) - قوله: «بنو أبي طالب» :
في الأصل: ولد عبد المطلب.
قوله: «غمصا» :
الغمص المادة التي تقطعها العين وتجمعها في زوايا الأجفان، فإذا جفت فيها فهي الغمص، فأما أول أمرها رطبة فتسمى الرمص.
قوله: «صقيلا» :
وفي رواية: كحيلا.
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 168، 120] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 283] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 84] .(1/392)
[38- باب ذكر حلف المطيّبين من قريش وشهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول]
38- باب: ذكر حلف المطيّبين من قريش وشهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول 126- حدثنا أبو الوليد: حسان بن محمد بن أحمد بن هارون بن حسان إمام عصره في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، أنا أبو جعفر: بقوله: «وشهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول» :
وكان في ذي القعدة قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بعشرين سنة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الحلفين واحد، وإنما أطلق على حلف المطيبين حلف الفضول لأن الذين قاموا به من جرهم اسم كل واحد منهم: الفضل، وسيأتي الكلام عليه. انظر عن الحلفين في:
سيرة ابن هشام [1/ 134] ، المنمق [332- وما بعده- 344] ، طبقات ابن سعد [1/ 128] ، دلائل البيهقي [2/ 38] ، البداية والنهاية- قسم السيرة النبوية [1/ 257] ، الروض الأنف [1/ 155] ، السنن الكبرى [6/ 367] ، مروج المسعودي [2/ 293] .
(126) - قوله: «إمام عصره» :
قال الحافظ الذهبي في سيره: الإمام الأوحد، الحافظ المفتي، شيخ خراسان، الشافعي العابد، سمع ابن خزيمة، والحسن بن سفيان، وتفقه بأبي العباس بن سريج، وهو صاحب وجه في المذهب، قال الحاكم:
صنف المستخرج على صحيح مسلم، والأحكام على مذهب الإمام الشافعي، وهو إمام الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم. وانظر أخباره في:
المنتظم [14/ 128] ، سير أعلام النبلاء [15/ 493] ، العبر [2/ 281] ، -(1/393)
محمد بن صالح بن ذريح العكبري، ثنا جعفر بن حميد، ثنا شريك- تذكرة الحفاظ [3/ 895] ، طبقات السبكي [3/ 226] ، البداية والنهاية [11/ 236] ، شذرات الذهب [3/ 92] ، مرآة الجنان [2/ 343] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 349- ص 417] .
قوله: «ابن ذريح العكبري» :
البغدادي، الإمام المتقن الحافظ، كان صاحب حديث ورحلة، قاله الحافظ الذهبي في السير وزاد: وثقوه، واحتجوا به.
انظر: سير أعلام النبلاء [14/ 259] ، تاريخ بغداد [5/ 361] ، الأنساب [4/ 222] ، العبر [2/ 134] ، طبقات القراء لابن الجزري [2/ 155] ، الشذرات [2/ 438] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 307- ص 218] ، المنتظم [وفيات 306، 13/ 187] .
قوله: «ثنا جعفر بن حميد» :
القرشي- ويقال: العبسي- الحافظ الثقة، أبو محمد الكوفي، من رجال مسلم.
تهذيب الكمال [5/ 20] ، تهذيب التهذيب [2/ 75] ، الكاشف [1/ 128] ، إكمال مغلطاي [3/ 205] ، الجمع بين رجال الصحيحين [1/ 71] ، التقريب [/ 140] الترجمة رقم 934.
قوله: «ثنا شريك» :
هو ابن عبد الله النخعي، القاضي الحافظ: أبو عبد الله، أحد الأعلام من أهل العلم والصدق، توقف أهل الحديث فيما انفرد به، وحديثه صالح في الشواهد والاعتبار والمتابعات كما هي طريقة مسلم، وقد أخرج له البخاري في التعاليق. انظر:
تهذيب الكمال [12/ 462] ، تهذيب التهذيب [4/ 293] ، وفيات الأعيان [2/ 464] ، تاريخ بغداد [9/ 279] ، الميزان [2/ 460] ، تذكرة الحفاظ-(1/394)
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلّا شدة وجدة.
قال أبو سعد رحمه الله:
المطيبون: بنو عبد مناف بن قصي بن كلاب، وهم: هاشم، والمطلب، وعبد شمس- وهم لعاتكة- ونوفل أخوهم لأبيهم، سموا المطيبين لأن امرأة من بني عبد مناف أخرجت إليهم جفنة مملوءة طيبا، فوضعت عند الكعبة، فغمسوا أيديهم فيها، وتعاهدوا وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم أن يأخذوا ما في يد بني عبد الدار بن قصي مما جعل له قصي من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية، واتبعهم بنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تميم، وبنو الحارث بن فهر، فالجميع-[1/ 232] ، سير أعلام النبلاء [8/ 200] ، أخبار القضاة [1/ 149] ، التقريب [/ 266] الترجمة رقم 2787، الكاشف [2/ 9] .
قوله: «عن سماك» :
هو ابن حرب البكري، الإمام التابعي الحافظ: أبو المغيرة الذهلي، الكوفي، من رجال مسلم، ونسخته عن عكرمة ليست من شرط الصحيح، تجنبها الشيخان لما فيها من الاضطراب، تكلم فيه بعضهم لكونه كان يلقن فيتلقن، وهو لا بأس به.
انظر: تهذيب الكمال [12/ 115] ، تهذيب التهذيب [4/ 204] ، سير أعلام النبلآء [5/ 245] ، الكاشف [1/ 321] ، الميزان [2/ 423] ، التقريب [/ 255] والترجمة رقم 2624.
قوله: «كل حلف كان في الجاهلية» :
خرجناه في كتاب السير من مسند الحافظ أبي محمد: عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، باب: لا حلف في الإسلام، تحت رقم 2685.(1/395)
خمس قبائل، فسموا المطيبين، وكان رئيسهم: عبد شمس وقصي.
وانضم إلى بني عبد الدار بن قصي: بنو مخزوم، وبنو عدي، وبنو جمح، وبنو سهم، خسم قبائل، فتحالفوا على المعاونة فسموا: الأحلاف.
ثم عزموا على القتال، فلما أجمعوا عليه تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وتبقى الحجابة واللواء لبني عبد الدار، فما زالوا على ذلك حتى جاء الإسلام.
قال: فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان سفارا، قلما يقيم بمكة، وكان مقلّا من المال، ذا ولد كثير، وكان هاشم موسرا، فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل حرمه، وإنه يأتيكم هذا الموسم زوّار الله عزّ وجلّ، وحجاج بيته شعثا غبرا من كل بلد، فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا ما تصنعوا به طعاما لهم أيامهم هذه التي لا بدّ لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان لي مال يسع ذلك ما كلفتكموه، فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم فيصنع لهم طعامهم حتى يصدروا.
127- وهاشم أول من سنّ الرحلتين إلى الشام والعراق، ثم تزوج بالمدينة سلمى بنت زيد بن عمرو من بني النجار، فولد له شيبة، وتركه عندها ثم مات، فقام عبد المطلب أخوه مقامه.
قوله: «فولي السقاية والرفادة» :
العبارة في سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق [1/ 135- 136] .(1/396)
[39- فصل: في حلف الفضول]
39- فصل: في حلف الفضول 128- فأما حلف الفضول: فإن رجلا من بني زبيد قدم معتمرا مكة ومعه تجار له، فاشتراها أهل العاص بن وائل السهمي، فماطله، وبقي الزبيدي فجعل لا يقدر عليه، فجاء بني سهم يستعديهم على صاحبهم، فأغلظوا له، فعرف أنه لا سبيل له إلى ماله، فطاف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل، فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت مجالسها، فصرخ بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الأهل والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا آل فهر وبني الحجر والحجر
هل مخفر لبني سهم بحضرتهم ... معاوني أو ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما نزل من الجبل أعظمت قريش الذي فعل، فتكلموا فيه، فقال المطيبون: لئن قمنا في هذا لتضيقن على الأحلاف، وقالت الأحلاف: والله لئن قمنا حتى يفوتنا المطيبون، تعالوا نكنّ فضولا لا حلفا دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي، وصنع لهم طعاما كثيرا، فكانت هاشم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وهو ابن خمس وعشرين (128) - قوله: «وهو ابن خمس وعشرين» :
كذا يقول المصنف، وأكثر أهل السير والتاريخ على أنه كان ابن عشرين سنة، وكان الحلف قبل المبعث بعشرين سنة.(1/397)
سنة، والمطلب بن عبد مناف، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فهؤلاء حلف الفضول من المطيبين، وسقط من حلف المطيبين:
عبد شمس، ونوفل بن الحارث، فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلّا كانوا معه يأخذوا له حقه، وعمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت، فغسلت فيه أركانه، وأتوا به فشربوا ثم تفرقوا.
وكان أول من دعا إليه: الزبير بن عبد المطلب والذي مشى فيه:
فضل وفضال وفضيل وفضالة، فلذلك سموا حلفاء الفضول.
129- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت حلفا في دار ابن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت: هاشما وزهرة وتيما.
130- قال إبراهيم بن سعد: حدثني يزيد بن الهاد أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتيك بن أبي سفيان قوله: «الزبير بن عبد المطلب» :
ويقول هو في ذلك:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نهجر كل عار
(129) - قوله: «لقد شهدت حلفا» :
يأتي تخريجه عند التعليق على الحديث الآتي برقم 132.
(130) - قوله: «قال إبراهيم بن سعد» :
أخرج حديثه ابن إسحاق في السيرة [1/ 135 ابن هشام] .(1/398)
- وهو يومئذ أمير المؤمنين، أمره عليها عمه معاوية ابن أبي سفيان- منازعة، ينازعه في مال بينهما بذي المروة، فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أقسم بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير- وهو عند الوليد حين قال الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو لنموتن جميعا، وبلغ المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين حقه حتى رضي.
131- ذكر الشافعي أن بني عبد الأسد بن عبد العزى هم من المطيبين، وقال بعضهم: من حلفاء الفضول.
132- وقال الزهري في روايته عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: شهدت حلف المطيبين، وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم.
(131) - قوله: «ذكر الشافعي» :
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [6/ 366] .
(132) - قوله: «وقال الزهري في روايته» :
أخرجها الإمام أحمد في مسنده [1/ 190، 193] ، وأبو يعلى في مسنده [2/ 156، 157] رقم 844، 845، 846، والبزار في مسنده [2/ 387- كشف الأستار] رقم 1914، والبيهقي في السنن الكبرى [6/ 366] ، في الدلائل [2/ 37- 38] ، جميعهم من طرق عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف به مرفوعا: وفيه تسمية-(1/399)
.........
- الحلف بحلف المطيبين، صححه ابن حبان- كما في الموارد- برقم 2062، والحاكم في المستدرك [2/ 219- 220] وأقره الذهبي في التلخيص، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 172] : رجاله رجال الصحيح.
رواه الواقدي- وهو في الحديث متروك- عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن عبد الرحمن بن أزهر، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم وأني أغدر به: هاشم، وزهرة، وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بلّ بحر صوفه، ولو دعيت به لأجبت، وهو حلف الفضول.
وأخرجه ابن إسحاق في السيرة [1/ 134] ، من طريقه البيهقي في السنن الكبرى [6/ 367] من حديث محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، عن طلحة ابن عبد الله به.
وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [6/ 366] ، في الدلائل [2/ 38] ، صححه ابن حبان- كما في الموارد- برقم 2063، وفيه أيضا تسمية الحلف بحلف المطيبين وقد فسر ابن قتيبة ما وقع في الحديثين من تسميته بالمطيبين، مع عدم إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الحلف بقوله: أحسبه أراد: حلف الفضول، للحديث الآخر، ولأن المطيبين هم الذين عقدوا حلف الفضول، قال: وأي فضل يكون في مثل التحالف الأول، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم، ولكنه أراد: حلف الفضول، ذكره الحافظ البيهقي في السنن الكبرى، أما الحافظ محمد بن نصر المروزي فجعل الغلط والوهم من الراوي معللا ذلك بعدم إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الحلف باتفاق أهل المعرفة بالسير وأخبار الناس.(1/400)
133- وقال شمر: سمعت ابن الأعرابي يقول:
المطيبون هم خمس قبائل: عبد مناف كلها، وزهرة، وأسد بن العزى، وتيم، والحارث بن فهر.
قال: والأحلاف خمس قبائل: عبد الدار، وجمح، وعدي بن كعب، وسهم، ومخزوم.
سموا بذلك لأن بني عبد مناف لما أرادوا أخذ ما في يدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت بنو عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فوضعوها لأحلافهم عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم فسموا المطيبين.
(133) - قوله: «وقال شمر» :
هو ابن حمدويه العالم النحوي، إمام الغريب وراويته: أبو عمرو الهروي، الشاعر الأديب، أخذ الفن عن ابن الأعرابي، والأصمعي، والفراء والطبقة. انظر عنه في:
بغية الوعاة [2/ 4] ، نزهة الألباب [1/ 151] ، إنباه الرواة [2/ 77- وانظر الفهرس] ، معجم الأدباء [11/ 274] .
قوله: «سمعت ابن الأعرابي» :
إمام اللغة، النسابة: محمد بن زياد الهاشمي مولاهم، أخذ عن الكسائي، والقاسم بن معن، قال الحافظ الذهبي: كان صاحب سنّة واتباع.
سير أعلام النبلاء [10/ 687] ، تاريخ بغداد [5/ 282] ، معجم الأدباء [18/ 189] ، وفيات الأعيان [4/ 306] ، بغية الوعاة [1/ 105] ، إنباه الرواة [3/ 129] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 295] ، تهذيب اللغة [1/ 20] .(1/401)
134- وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفا آخر مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فسموا: الأحلاف.
135- وقال غير ابن الأعرابي: حلف المطيبين وحلف الفضول واحد، وسمي ذلك الحلف حلف الفضول لأنه قام به رجال من جرهم، كل واحد منهم الفضل، وهم الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة، قال: والفضول جمع فضل، كما يقال: سعد وسعود.
(135) - قوله: «وقال غير ابن الأعرابي» :
يريد ابن قتيبة، نقل عنه ذلك الحافظ البيهقي في السنن الكبرى، وغلط فيه وقال: حلف المطيبين كان قديما، قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بزمان. اه.
لكن يشكل على هذا ما تقدم في حديث ابن عوف، وأبي هريرة من تسميته صلى الله عليه وسلم الحلف بحلف المطيبين لما أشرنا قريبا عند التخريج، ولذلك قال الحافظ البيهقي عقب إيراده للحديثين في الدلائل: زعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.
قوله: «كما يقال سعد وسعود» :
حكاه الحافظ البيهقي في السنن الكبرى [6/ 367] عن ابن قتيبة وزاد: وزيد وزيود.(1/402)
[40- فصل: في ذكر ما جرى في رحلته صلى الله عليه وسلم مع عمّه إلى الشّام من الإرهاصات]
40- فصل: في ذكر ما جرى في رحلته صلى الله عليه وسلم مع عمّه إلى الشّام من الإرهاصات 136- قال: وكانت خزاعة وقريش في ذلك الزمان يختلفون إلى الشام في تجاراتهم ومن الشام إلى مكة، فتهيأ لأبي طالب السفر معهم، فركب راحلته، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بزمام ناقة عمه ثم قال: يا عم، إلى من تخلفني بعدك؟ لا أمّ لي ولا أب، فرق له أبو طالب وقال: لا أخلّفك ورائي، واحتمل النبي صلى الله عليه وسلم وجعله على مقدم راحلته وساروا حتى كانوا بواد من الشام نزلوا تحت شجرة، وكان في الوادي دير، وفي الدير راهب يقال له: بحيرا، وكان يشرف في اليوم ثلاث مرات على سطح له (136) - قوله: «يقال له: بحيرا» :
أخرج قصة بحيرا: ابن إسحاق في سيرته [/ 73] ، ومن طريقه ابن هشام [1/ 180] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 26- 29] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 277] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 292] .
وأخرجها بإسناد صحيح وسياق غريب عن أبي موسى الأشعري: ابن أبي شيبة في المصنف [11/ 479] رقم 11782، وفي [14/ 286] رقم 18390، والترمذي في المناقب من الجامع، باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 3620 وقال: حسن غريب، والحاكم في المستدرك [2/ 615] وصححه، وابن حبان في الثقات [1/ 43] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 278] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 24] ، وأبو نعيم كذلك [1/ 109] رقم 109، من طرق بألفاظ، وبعضهم يزيد فيه قصة أبي بكر ومولاه بلال، وهي التي أنكرها جماعة من-(1/403)
ينظر الجائي والذاهب، قال: فأبصر أقواما قد نزلوا تحت الشجرة وإذا غمامة قد أظلت الشجرة وما حولها، قال الراهب: والله لا تظل هذه الغمامة إلّا على رأس نبي من الأنبياء، ثم دعا غلامه فقال: اذهب إلى هذه العير من أهل مكة فقل لهم: يقول لكم بحيرا الراهب: يا أهل مكة، قد علمتم حبي لكم، وإنه لا يمر بي رجل منكم إلّا أحسنت قراه، وأنا أحب أن تأتوني جميعا ولا يتخلف منكم أحد، فأتاهم الغلام فبلغ إليهم قوله: فأقبلوا جميعا، وخلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ رحالهم وأجيرا لهم معه.
قال: ففتح الراهب لهم بابا صغيرا يدخل الرجل بعد الرجل، فلما صاروا في الدير أشرف الراهب فإذا هو بالغمامة على حالها، فقال:
يا قوم هل خلفتم أحدا؟ قالوا: نعم، أجيرا لنا ويتيما، قال: فابعثوا إلى أجيركم ويتيمكم، قال: فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم والغمامة على رأسه في الهواء تسير معه تظله حتى دخل الدير فبقيت الغمامة تظل الدير وما حوله، قال: - الحفاظ، وأخرجها بعضهم، وفي أوله أن الراهب بحيرا قال لهم وهو آخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ... القصة بطولها.
قال الحافظ البيهقي: قال أبو العباس: سمعت العباس يقول: ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد، وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين هذا من قراد.
قال البيهقي: وإنما أراد بإسناده هذا موصولا، فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة.
وقال ابن سيد الناس عقب إيراده: ليس في إسناد هذا الحديث إلّا من خرج له في الصحيح، ومع ذلك في متنه نكارة. -(1/404)
فقدّم إليهم طعاما فأكلوا وشربوا، ثم قال لهم بحيرا الراهب: ما يكون هذا الغلام منكم يا أهل مكة؟ قالوا: ابن هذا الشيخ- يعنون أبا طالب-، فقال بحيرا: والله ما ينبغي لأبوي هذا الغلام أن يكونا في الأحياء، أصدقوني أو أصدقكم خبره.
قال أبو طالب: يا بحيرا، هذا ابن أخي، وهو يتيم في حجري، قال: صدقت يا شيخ وسأخبرك: إن هذا نبي من الأنبياء، وهذا خاتم النبوة بين كتفيه.
قال: فخرجوا حتى أتوا الشام فقضوا أوطارهم، ثم رجعوا قافلين إلى مكة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب ما شاء الله أن يقيم.
137- قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يلعب مع الغلمان حتى بلغ مواضع بني مدلج، فرآه قوم من بني مدلج فدعوه فنظروا إلى قدميه- وقال مغلطاي في الإشارة: فيه وهمان الأول: بايعوه على أي شيء؟
الثاني: أبو بكر لم يكن حاضرا، ولا كان في حال من يملك، ولا ملك بلالا إلّا بعد ذلك بنحو ثلاثين عاما.
وقال الحافظ في الإصابة: الحديث رجاله ثقات، وليس فيه ما ينكر إلّا هذه اللفظة (يعني: ذكر أبي بكر فيه وبلال) فتحمل على أنها مدرجة فيه، مقتطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته.
وأخرج قصة بحيرا الراهب أيضا من طرق أخرى: ابن سعد في الطبقات [1/ 120، 153 مرتين من طريقين] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 168] .
(137) - قوله: «فرآه قوم من بني مدلج» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 118] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [2/ 274] ، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 165] .(1/405)
وإلى أثره، فخرجوا في أثره فصادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا منكم؟ قال: ابني، قالوا: احتفظ به فإنا لم نر قط قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه.
قال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء في هذا، فكان أبو طالب يحتفظ به.(1/406)
[41- فصل: ذكر ابتداء قصّته صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها وإسلامها ورغبتها فيه]
41- فصل: ذكر ابتداء قصّته صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها وإسلامها ورغبتها فيه 138- قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه ما شاء الله أن يقيم، ثم إن أبا طالب قال له ذات يوم: يا بني، إني أريد أذكر لك أمرا، وإني منك محتشم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تكلم بما شئت يا عم وأنا مطيع لك، قال: قد علمت أن أبويك ماتا ولم يتركا مالا ولا خيرا، وقد كنت أحب أن يكون لي مال فأزوجك وتقرّ عيني بك قبل فراقي للدنيا، وليس إلى ذلك سبيل، وهذه خديجة بنت خويلد تستأجر الأجراء ويجري الله لهم على يديها خيرا كثيرا، ولها على أيديهم خيرا، فهل لك أن أذهب بك إليها فلعلها تستأجرك، وترزق رزقا فأزوجك وتقر عيني بك قبل الفراق؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لك سامع مطيع يا عم، افعل ما أحببت، قال:
فانطلقا إلى خديجة فقرعا عليها الباب، فدنا غلامها من الباب فقال له أبو طالب: أخبر خديجة أني بالباب، قالت: أدخلوه عليّ، فأدخلوه (138) - قوله: «وليس إلى ذلك سبيل» :
وفي رواية ابن سعد في الطبقات [1/ 155- 156] ، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل [1/ 172] : وأنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألمت علينا سنون منكرة، ليس لنا مادة ولا تجارة.
قوله: «أنا لك سامع مطيع» :
في «ظ» : أنا لك تابع مطيع.(1/407)
عليها وهي على السرير وسبعون جارية يروّحنها فقالت: يا عم، ما لك، وما بدا لك؟، قال: جئت إليك لأطلب من فضلك الذي فضلك الله به، قالت: نعم وكرامة، فقال: هذا محمد بن عبد الله الأمين ابن أخي، أتيتك به لتؤاجريه بما شئت ليصل إليه من فضل نعمتك فقد تستأجرين الأجراء ويجري الله لهم على يديك خيرا، ومحمّد صلى الله عليه وسلم أحق بذلك من غيره، قالت: نعم وكرامة أنا أجعل لكل أجير في سفره بكرة ولمحمّد صلى الله عليه وسلم ابن عمي بكرتين، ثم قالت: يا محمد، أتخرج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، ونعمى عين وكرامة.
قال: فدعت غلاما لها يسمى ميسرة فقالت: يا ميسرة، إني أريد أن أبعث معك ابن عمي محمدا، فانظر أن لا تعصي له أمرا، ولا تخالف له رأيا، فقال: نعم وكرامة، فخرج أبو طالب من عندها وترك عندها محمّد صلى الله عليه وسلم.
139- قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وميسرة إلى الشام ومعه تجارات قوله: «أنا أجعل لكل أجير في سفره بكرة» :
وفي رواية ابن عقيل عند ابن سعد في الطبقات [1/ 130] : أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي قد بلغني أن خديجة استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك أن نكلمها؟ قال: ما أحببت! فخرج إليها فقال: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع أبكار، قال: فقالت خديجة:
لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟.
والبكرة: أنثى الإبل، ويقال للفتي من الإبل: بكر.
(139) - قوله: «فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وميسرة إلى الشام» :
أورد القصة الصالحي في سبل الهدى [2/ 159] وعزاها للمصنف، -(1/408)
كثيرة، فلما خرجوا من المنزل عادت الغمامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت فوق رأسه تظله حتى انتهوا إلى باب بحيرا الراهب فنظر بحيرا إلى الغمامة ففزع فقال: من أنتم؟ قال: أنا ميسرة غلام خديجة بنت خويلد، قال: ما جاء بكم؟ قال: معنا تجارة نريد الشام، فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم سرّا من وقاص وميسرة وقبل رأسه وقدميه، وقال في نفسه: آمنت بك، وأشهد أنك الذي ذكرك الله في التوراة، ثم قال:
يا محمد، قد عرفت فيك العلامات كلها ما خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفيك، فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله ويقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى ابن مريم عليه السلام، فإنه قال:
لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلّا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي المدني صاحب الحوض والشفاعة، صاحب لواء الحمد- وقد أخرجها من طرق بأسانيد وألفاظ مطولة ومختصرة: ابن اسحاق في سيرته [/ 81] ، ومن طريقه: ابن هشام في سيرته [1/ 187- 188] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 280] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 66] ، وأخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 129] ، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل [1/ 172] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 313] .
قوله: «صاحب لواء الحمد» :
يعني: يوم القيامة بقرينة ما تقدم، ذكره القاضي في الشفاء، فأما تسميته صلى الله عليه وسلم بصاحب اللواء- بلا إضافة- فهذا في الدنيا لأنه محمول على اللواء الذي كان يعقده صلى الله عليه وسلم للحرب، فهو كناية عن القتال وكذا إن قيل: صاحب الراية، وفي جامع الترمذي من حديث ابن عباس رضي رسول الله عنهما: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.(1/409)
صاحب القضيب والناقة، صاحب التاج والهراوة، قارع باب الجنة، صاحب قول لا إله إلّا الله، ثم قال: يا غلام، احفظ على هذا من اليهود فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا.
قال: ثم مضوا حتى انتهوا إلى الشام، فباعوا متاعهم، وربح ميسرة ربحا لم يربح مثله قط، ثم رجعا قافلين إلى مكة، فقال ميسرة: يا محمد- قوله: «صاحب القضيب» :
يعني: السيف، قاله القاضي عياض في الشفاء وقال: وقع مفسرا به في الإنجيل حيث قال تعالى فيه: معه قضيب من حديد يقاتل به، قال: ويحتمل أن يراد به القضيب الممشوق الذي كان معه وأخذه من بعده الخلفاء.
قوله: «والناقة» :
ويقال له أيضا: صاحب النجيب، والنجيب: الجمل، وقد سمّي صلى الله عليه وسلم في الكتب الأولى بصاحب الجمل، أخرجه البيهقي في الدلائل عن مقاتل بن حيان فيما أوصى الله إلى عيسى بن مريم، وقد سمي عيسى عليه السلام براكب الحمار؛ ولذا قال النجاشي في كتاب إسلامه للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وقد قيل: خص بذلك مع ركوبه للفرس والبغل والحمار لأنه هاجر عليه، أو لاختصاص العرب به.
قوله: «صاحب التاج» :
ذكره القاضي عياض وقال: المراد: العمامة؛ إذ لم تكن حينئذ إلّا للعرب، قال: والعمائم تيجان العرب، قال السيوطي: وقد ورد في الإنجيل.
قوله: «والهراوة» :
بكسر الهاء وهي العصا التي كان يمشي بها وتغرز بين يديه ليصلي إليها، قال القاضي عياض: المراد: العصا التي يذود بها الناس عنه، وضعف النووي هذا التوجيه وقال: المراد وصفه صلى الله عليه وسلم بما يعرفه الناس ويعلم أهل الكتاب أنه المبشر به في كتبهم فلا وجه لتفسيره بأمر يكون في الآخرة، فالصواب ما تقدم.(1/410)
إنا أتجرنا لخديجة أربعين سنة ما رأيت ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك، فهل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي رزقها الله على يديك لعلها تزيدك بكرة على بكرتيك، قال: فركب النبي صلى الله عليه وسلم قعودا أحمر.
140- وكانت خديجة إذا أصابها الحر كانت تحمل حتى تصعد علّية لها فوق البيت، واستندت إلى سريرها، يروحها كل يوم سبعون جارية بالذوائب، فكانت لا تمشي على الأرض، ولكنها تحمل على السرير، فلما صعدت فوق البيت فإذا هي بمحمّد صلى الله عليه وسلم قد أقبل على ناقة لها، على رأسه قبة من ياقوت أحمر، وعن يمينه ملك شاهر سيفا، وعلى يساره ملك شاهر سيفا، وفوقه غمامة تسير معه تظله، وإذا الطيور حوله يحفونه بأجنحتهم ويروحونه، فنظرت خديجة ولم تعلم أنه محمّد صلى الله عليه وسلم فقالت: اللهم إليّ وإلى داري، حتى أقبل نحو دارها فوثبت من السرير مسرعة إلى الباب، فإذا هو محمّد صلى الله عليه وسلم قد نزل عن ناقته وأناخها، فلما نظرت إليه خديجة قالت في نفسها: ليس هذا الذي رأيت، وأنكرت ذلك، فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالذي ربحا فقالت له خديجة: يا محمد، وأين ميسرة قال: خلفته بالبادية وسيقدم عن قريب، قالت له: عجل إليه وقل له: عجل إلينا بالإقبال- وإنما أرادت بذلك أن تعلم أهو الذي رأت أو غيره-، فركب النبي صلى الله عليه وسلم وضرب بطن الناقة وخرج، وصعدت خديجة واستيقنت أنه أجيرها محمّد صلى الله عليه وسلم، فمضى محمّد صلى الله عليه وسلم وتفكرت خديجة في أمره، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ميسرة.
(140) - قوله: «حتى تصعد علّية» :
أشار إلى هذا وإلى ما رأته: ابن سعد في الطبقات [1/ 156- 157] ، والزبير بن بكار فيما انتخب عليه من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم [/ 24] .(1/411)
فأقبلوا جميعا حتى قدموا مكة، فخلت خديجة بميسرة فقالت:
أصدقني قصة محمّد صلى الله عليه وسلم قليلها وكثيرها، فقال: يا سيدتي، أخبرني بحيرا الراهب أن محمّدا صلى الله عليه وسلم نبي من الأنبياء، وقال لي: احتفظ عليه من اليهود فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، فقالت خديجة: اكتم عليّ هذا الحديث يا ميسرة، واذهب فأنت حر، وأولادك أحرار، ولك عشرة الآف درهم من مالي، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عمك أبي طالب وقل له: عجل علينا أنت بالغداة.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب وأخبره بذلك، ففزع أبو طالب من ذلك وقال: يا بني، ما تريد منا؟ إني أخشى أن تردك إلينا، فكان الليلة أجمع يلتوي على فراشه من الهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا عم يرزقني الله وهو خير الرازقين، أبشر يا عم ولا تهتم لرزقي، فلما أصبح خرج إليها، ودخل عليها فقالت: من وراء الستر:
يا أبا طالب، ادخل على عمي عمرو بن أسد فكلمه أن يزوجني من ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب: يا خديجة، لا تستهزئي بي، لو كانت أمة لك ما زوجت من ابن أخي، قالت: بل الله صنعه، ادخل على عمي.
- قوله: «ادخل على عمي عمرو بن أسد» :
في الأصول: عمرو بن نوفل، ولعله تصحيف أو من سبق القلم لما سيأتي، ولو ثبت لم يكن عمرو بن نوفل عم خديجة بل يكون حينئذ ابن عمها لأنه أخو ورقة إن ثبت.
أورد القصة الصالحي في سبل الهدى [2/ 164] مختصرة، وعزاها للمصنف، وقد رويت قصة زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم من طرق بألفاظ، في بعضها أن الذي زوّجها هو أبوها خويلد بن أسد بعد أن سقته الخمر، -(1/412)
فقام أبو طالب مع عشرة من صناديد قريش فدخلوا على عم خديجة وهو سكران طيب النفس فسلموا عليه ورد عليهم السلام فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
مرحبا بك يا محمد، واللات والعزى لقد كنت أحبك، ولقد ازددت عندي حبا، وما كنت تسألني حاجة إلّا قضيتها، ثم رحب بالقوم، فقال أبو طالب: إني أتيتك لأسلم عليك، وتزوج خديجة ابنة أخيك من ابن أخي محمّد صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب يرغب في ذلك، قال: نعم، اشهدوا يا معشر قريش أني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على مهر كذا، فاشهدوا- والخاطب كان أبو طالب- فقال:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل عليه السلام، وجعل مسكننا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا حكاما على الناس أجمعين، ثم إن ابن أخي هذا لا يوزن برجل إلّا رجح عليه، وإن له- أخرج القصة ابن إسحاق في سيرته [/ 82]- لكن تصحف اسم أبي خديجة إلى: أسد بن أسد-، وابن سعد في الطبقات [1/ 132] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 280- 281] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 71] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 118- 119] ، وابن حبان في الثقات [1/ 46] ، والزبير بن بكار فيما انتخبه أبو الحسين محمد ابن أحمد [/ 26- 28] ، قال ابن سعد في الطبقات [1/ 132] ، قال محمد بن عمر: هذا كله عندنا غلط ووهم، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، عن محمد بن عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، وعن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، وعن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: إن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أباها مات قبل الفجار.(1/413)
لخطبا جليلا، ونبأ عظيما، فإن كان مقلّا من المال فإن المال رزق حائل وحظ زائل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق من مالي حكمكم، عاجله وآجله، والسلام علينا وعليكم.
فأمرت خديجة رضي الله عنها جواريها أن يرقصن بالدفوف، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة يمانية فأخذها وألقاها على عم خديجة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج فأخذت خديجة رضي الله عنها بطرف ردائه وقالت: أين تريد يا محمد؟ قال: إلى منزل عمي، قالت: قل مع أهلك ودع عمك ينحر بكرة، ويطعم الناس، قال: ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال مع خديجة رضي الله عنها.
- ومن طريق ابن سعد أخرجه ابن جرير في تاريخه [2/ 282] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 315] ، وابن سيد الناس في تاريخه [1/ 119] .
قال البيهقي بعد روايته القصة: قال الموصلي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها، قال: وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا عبد الله ابن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان قال: وفيما كتبت عن إبراهيم بن المنذر قال: حدثني المؤملي عمر بن أبي بكر قال: حدثني غير واحد: أن عمرو بن أسد زوّج خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث.
قوله: «وزرع إسماعيل» :
زاد ابن الجوزي في التلقيح: وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه.
قوله: «فإن المال رزق حائل» :
وعند ابن الجوزي: فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، أخرجها في تلقيح فهوم أهل الأثر معلقة [/ 14] .(1/414)
قال: فأقر الله عينه وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الهموم.
قال: فأفاق الشيخ من سكره فقال: ما هذا الذي أسمع؟ قالوا:
هذا الذي صنعت، قال: ما الذي صنعت؟ قالوا: زوجت خديجة بنت خويلد، قال: ممن؟ قالوا: من محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوج بنت أخي من يتيم أبي طالب الفقير؟! قالوا: قد زوجته، وقبلت منه حلة، قال: فقام ودخل عليها يريد شتمها فقالت: يا عم هل تنقم من محمد صلى الله عليه وسلم حسبا ونسبا؟ قال: لا، ولكنه معدم لا مال له، قالت: فإن يكن محمد صلى الله عليه وسلم معدما فإن عندي ما يسعني ويسعه ويسعك، قال: أفرضيت بمحمد صلى الله عليه وسلم بعلا؟ قالت: نعم، فرضي الشيخ وطابت نفسه.
141- ويقال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في الجاهلية، فإذا هن بيهودي في ذلك العيد فقال: ويحكن يا معشر نساء قريش ويحكن، إنه ليوشك أن يبعث فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون له أرض يطأها فلتفعل، فحصبنه، وطردنه، ووقر ذلك القول في قلب خديجة رضي الله عنها.
(141) - قوله: «فأيتكن استطاعت أن تكون له أرض» :
أخرج الزبير بن بكار في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الليث: أن خديجة رضي الله عنها استأجرته بسقب يدفعه إليه غلامها ميسرة إذا رجع من سفره، فرأى ميسرة من يمنه وخلقه والبركة في سفره، والزيادة في الربح ما اشتد به حبه إياه، فقدم وهو يهتف به، فسبق إلى خديجة فأخبرها خبر ما أصاب من الظفر والربح، وما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأرنيه، فلما أقبلت العير أشار لها إليه، وإذا سحابة تظله، وتسير معه، فأمرت له بسقب آخر، وعلقه قلبها لما أراد الله بها من السعادة. -(1/415)
142- وفي رواية أخرى قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استأجرته خديجة، وبعثته مع ميسرة إلى الشام، وكان إذا دنا قدومه من مكة جلست خديجة في شرفة لها فترى من يطلع من عقبة المدينة، وكان يوم صائف، وهي تنتظر ميسرة، إذ طلع رجل من عقبة المدينة والسماء ليس فيها سحاب إلّا بقدر ذلك الذي يظل الرجل، فلما رأت طلوعه، ورأت على رأسه السحابة قالت: إن كان ما يقوله اليهودي حق فما ذلك الرجل إلّا هذا، لأني لا أرى في السماء سحابا إلّا قدر ما يظل هذا الرجل، - وأخرج من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: استأجرته إلى الشام، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدما الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة صومعة قريبا من راهب، فاطلع الراهب إلى ميسرة وقال: من نزل تحت الشجرة؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، قال: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلّا نبي، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الظهيرة واشتد الحر لم يزل ملكان يظلانه من الشمس، فلما قدم ميسرة على خديجة أخبرها بقول الراهب، وما رأى من الملكين، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا ابن عم إني قد رغبت فيك.
قال هشام بن عروة، عن أبيه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمومته فذكر لهم ما قالت له خديجة، فخرج معه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على عمها عمرو بن أسد، فزوجه، فولدت له قبل أن ينزل عليه الوحي ولده كلهم:
القاسم، والطاهر، والطيب، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة.
قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن عبد السلام بن عبد الله، عن معروف بن خربوذ قال: قال عمار بن ياسر: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، كنت صديقا له في الجاهلية، فأقبلت معه وهو ابن بضع وعشرين سنة، فمررنا بين الصفا والمروة، فإذا خديجة وأختها هالة تبيعان أدما بالحزورة، فنظرت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يستضاء به-(1/416)
فرمقته بعينها حتى انتهى إليها فإذا هو محمّد صلى الله عليه وسلم- وكان بعث ميسرة أمامه ليبشر خديجة بما أصابوا في سفرهم من المنفعة-، فلما أن دخل عليها سألته ثم قالت له: ألا تتزوج؟ قال: من أين لي الزوج؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنت أم قريش، وأنا يتيم قريش، قالت: اخطبني إلى أبي- وكانت تبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ليبعث به إلى أبيها حتى يرغب فيه فيزوجه-.
- في الليلة الظلماء، وينظر إليه الناظر حتى يسأم، قال عمار: فلحقتني هالة فقالت: يا عمار، أما لصديقك هذا حاجة في خديجة؟ قال: فلم يكن حاجتها المال، إنما كان حاجتها الصلاح، فقلت: والله ما أدري! قالت:
فأخبره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: واضعها وعدها يوما نأتيها فيه، قال: ففعلت، فلما كان ذلك اليوم سقت عمها عمرو بن أسد حتى سكر، ثم دهنته بدهن أصفر، وطرحت عليه بردة حبرة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وتزوجها ثم انصرفوا، فلما أفاق الشيخ قال: ما هذه النقيعة- يعني البقرة- وما هذا البرد، وما هذا الدهن؟ قالوا: هذه نقيعة وبرد أهداه لك ختنك، قال: ومن ختني!؟ قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فصاح وخرج يشتد حتى أتى باب الكعبة، فقال: يا معشر قريش إن خديجة وهالة غلبتاني على نفسي، وزعمتا أني زوجت رجلا لا أعرفه، فكيف يكون هذا؟ فخلا به بنو هاشم فقالوا له: لا تكلم بهذا، فنحن نشهد أنك زوجته، فقال: ابعثوا إليه حتى أنظر إليه، فو الله ما أعرفه! فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فكسبيل ذاك، وإن ولم أكن زوجته فأشهدكم أني قد زوجته.
قال: فكان عمار يقول: هذا تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، ويغضب إذا قيل: استأجرته وأرسلته.
أخرجه البيهقي في الدلائل [2/ 71] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 188] .(1/417)
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: اخطبني على خديجة، قال: يا ابن الأخ، إني أخاف ألا يفعلوا، فلقي أباها فذكر له ذلك فقال: حتى أنظر، فلما لقي خديجة أبوها ذكر لها حديث شيخ من قريش له مال قد ماتت امرأته وقال لها: إن ذلك الشيخ يخطبك، قالت: شيخ قد فني شبابه، وساء خلقه يدل عليّ بماله؟ لا حاجة لي فيه، فذكر لها غلاما سفيها من قريش قد أورثه أبوه مالا فقالت: حديث السن، سفيه العقل يدل عليّ بماله؟ لا حاجة لي فيه، فذكر لها محمّدا صلى الله عليه وسلم فقالت: أوسط قريش حسنا، وأحسنهم وجها، وأفصحهم لسانا، أعود عليه بمالي فيكون عطف يميني، فخشي أبوها إن لم يزوجها أنها تزوج نفسها، فبعث إليه وزوجها منه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه وسلّم تسليما كثيرا.(1/418)
[42- فصل: في ابتداء الوحي، كيف كان؟]
42- فصل: في ابتداء الوحي، كيف كان؟
143- قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها حتى أتى عليه من مولده أربعون سنة.
144- قال: فخرج عليه الصلاة والسلام ذات يوم إلى جياد الأصغر، فهتف به جبريل عليه السلام ولم يبد له، فغشي عليه، فاحتمله ناس (143) - قوله: «حتى أتى عليه من مولده أربعون سنة» :
أخرج البخاري في مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المناقب أيضا، والترمذي فيه أيضا من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين ... الحديث، وعند البخاري في المناقب من حديث أنس قال: بعثه الله على رأس أربعين سنة ... الحديث.
(144) - قوله: «إلى جياد الأصغر» :
كذا عندنا بحذف الألف لغة في: أجياد، يقال: أصل اشتقاقها من الخيل ويجمع على أجياد، وجياد وأجاويد، قال الأصمعي: هو الموضع الذي كانت به الخيل التي سخرها الله لإسماعيل عليه السلام، وهو بمكة مما يلي الصفا، يقال: وهو موضع خروج الدابة، التي ذكر الله في كتابه في قوله:
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ، وهما أجيادان، صغير وكبير، محلّتان، وربما قيل لهما: أجيادين اسما واحدا بالياء في جميع أحواله، وللأعشى ميمون بن قيس في ذكر أجياد:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب من ماء زمزم
ولا جعل الرحمن بيتك في العلا ... بأجياد غربي الصفا والمحرم(1/419)
من قريش، فأتوا به إلى باب خديجة رضي الله عنها وقالوا:
دونك يا خديجة، قد تزوجت مجنونا، فوثبت خديجة من السرير فضمته إلى صدرها، ووضعت رأسه على حجرها وقبلت بين عينيه وقالت: بل تزوجت نبيا، رسولا مرسلا، قال: فلما أفاق قالت:
بأبي أنت وأمي جعلني الله فداك، ما الذي أصابك؟ وهل رأيت شيئا أنكرته؟ قال: ما أصابني إلّا خير، إلّا أني سمعت صوتا أفزعني، ففرحت خديجة واستبشرت ثم قالت: إذا كان من الغد اقعد في الموضع الذي كنت فيه بالأمس فإن يك ملكا سيرجع إليك، وإن يك من الشيطان فليس براجع.
قال: فلما كان يوم الأحد خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى جياد الأصغر قال: فهتف به جبريل عليه السلام ولم يبد له، قال: فغشى عليه وحملوه، وفرحت قريش بذلك، وقالوا: إن زوج خديجة يتخبطه الشيطان، وقالوا لها مثل القول الأول، وردّت عليهم مثل الرد الأول، وعملت خديجة رضي الله عنها به مثل عملها الأول، فلما أفاق سألته:
بأبي أنت وأمي هل رأيت اليوم شيئا؟! وقصّ عليها القصة، ففرحت خديجة، وقالت له: إذا كان من الغد فارجع إلى الموضع، فانتهى إلى مكانه فبدا له جبريل عليه السلام في أحسن صورة، وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقريك السلام ويقول: أنت رسولي إلى الثقلين:
الجن والإنس، أن تدعوهم إلى قول لا إله إلّا الله، ثم قال: ألا تعرفني؟
قال: لا، قال: أنا جبريل، وأنت محمد النبي صلى الله عليك ولا نبي بعدك، فضرب رجله في الأرض فأنبع عينا من ماء وأمره أن يتوضأ، وقام جبريل عليه السلام يصلي، وأمره أن يتوضأ ليصلي معه،(1/420)
فعلمه الوضوء والصلاة، وعلمه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلى آخرها،....
قوله: «فعلمه الوضوء والصلاة» :
أخرجه ابن إسحاق في سيرته بنحوه [/ 136] ومن طريقه: ابن هشام في سيرته [1/ 244] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 160] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 177] ، قال: هذا الحديث ذكره ابن إسحاق مقطوعا.
وقد وصله الحارث بن أبي أسامة: حدثنا الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: حدثني أبي زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل عليه السلام فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، قال ابن كثير في البداية والنهاية [3/ 24] :
صلاة جبريل هذه غير صلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فريضتها ليلة الإسراء.
وأخرجه الحافظ البيهقي في الدلائل أطول منه فأدخل قصة ابتداء الوحي، وإخبار السيدة خديجة رضي الله عنها، وذهابها إلى ورقة، ثم أدخل قصة ورقة وسفره إلى الشام، قال البيهقي في الدلائل [2/ 145- 146] : أخبرنا بذلك أبو الحسين بن الفضل، ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا عمرو بن خالد وحسان بن عبد الله قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، قال: وذكر القصة بأجمعها شيخنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي جعفر البغدادي، عن أبي علاثة: محمد بن عمرو بن خالد، عن أبيه، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة إلّا أنه لم يذكر من شعر ورقة إلّا البيتين الأولين ...
قوله: «إلى آخرها» :
يريد: إلى آخر ما نزل منها، لأنه لا اختلاف في أن السورة لم تنزل كلها جملة واحدة، بل إلى قوله: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) .(1/421)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتم بجبريل، وعرج جبريل عليه السلام إلى السماء.
145- وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من جياد الأصغر لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلّا وهو ينادي: السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة، - قوله: «وعرج جبريل عليه السلام إلى السماء» :
قصة ابتداء الوحي ولقيا النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بأجياد أخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 194] ، ذكر نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عكرمة، عن ابن عباس، بإسناد فيه الواقدي وابن أبي حبيبة وهما ضعيفان عند الجمهور، والمشهور أن القصة وقعت بغار حراء، والله أعلم.
(145) - قوله: «إلا وهو ينادي: السلام عليك يا رسول الله» :
هذا ثابت في صحيح مسلم، فقد أخرج هو والإمام أحمد وابن أبي شيبة من حديث سماك عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن، بسطنا تخريجه في فتح المنان شرح وتحقيق المسند الجامع لأبي محمد الدارمي رحمه الله، وأخرج الدارمي أيضا- برقم 22 فتح المنان- والترمذي في المناقب من حديث علي بن أبي طالب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا معه في بعض نواحيها فمررنا بين الجبال والشجر فلم نمر بشجرة ولا جبل إلّا قال: السلام عليك يا رسول الله، انظر تخريجه في شرحنا لمسند أبي محمد الدارمي، وأخرج ابن سيد الناس في سيرته [1/ 167] ، من طريق الدولابي عن محمد بن عايذ، ثنا محمد بن شعيب، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدا على رأس خمس سنين من بنيان الكعبة، وكان أول شيء أراه إياه من النبوة رؤيا في النوم ... الحديث، إلى أن قال:
فلما قضى إليه الذي أمر به انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم منقلبا إلى أهله لا يأتي على حجر ولا شجر إلّا سلم عليه: سلام عليك يا رسول الله-(1/422)
فأخبرها بالكرامة التي أكرمه الله بها- من الرسالة والنبوة- فغشي عليها من الفرح، فنضح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء حتى أفاقت، وآمنت بالله ورسوله، وشهدت شهادة الحق، وكان يسمى محمد الأمين.
- فرجع إلى بيته وهو موقن قد فاز فوزا عظيما، قال الحافظ البيهقي في الدلائل: أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان قد وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات، وما كان من تسليم الشجر والحجر عليه.
وأخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 157] من حديث برة بنت أبي تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتا، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأدوية، فلا يمر بحجر ولا شجرة إلّا قالت: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا.
قال ابن سيد الناس في سيرته [1/ 175] : يحتمل أن يكون هذا التسليم حقيقة فيكون الله أنطقه بذلك؛ كما خلق الحنين في الجذع، ويحتمل أن يكون مضافا إلى ملائكة يسكنون هناك، من باب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، فيكون من مجاز الحذف، وعلى كلا التقديرين هو علم ظاهر من أعلام النبوة.
قوله: «وشهدت شهادة الحق» :
زيد في نسخة «م» : تلك الحرة السيدة الجليلة الشريفة السعيدة رضي الله عنها.
قوله: «وكان يسمى: محمد الأمين» :
هذه العبارة من «ظ» فقط.
وتسميته صلى الله عليه وسلم بالأمين مشهور من قبل أن يبعث، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده [3/ 425] من حديث مجاهد عن مولاه- يعني السائب- أنه كان فيمن يبني في الجاهلية، قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: نحن نضعه، فقالوا: اجعلوا بينكم حكما، قالوا: أول رجل يطلع من الفج، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين ... الحديث.(1/423)
146- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي مع خديجة إذ أتاهما علي بن أبي طالب فقال: يا محمد ما هذا الدين الذي أظهرت؟ قال: هذا دين الله الذي ارتضاه لنفسه، لا يقبل الله من أنبيائه ورسله غيره، فقال علي:
أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنك رسول الله، ودخل في الإسلام.
147- قال: فأتاهم أبو طالب وهم يصلون فقال: ما هذا الذي أظهرته يا محمد؟ قال: هذا دين الله الذي ارتضاه لنفسه، لا يقبل الله من أنبيائه ورسله غيره، فإن دخلت معي فيه وإلا فاكتم عليّ، فقال أبو طالب لعلي: ألا ترى إلى محمد ما يقول؟ قال: يا أبة إن محمّدا صلى الله عليه وسلم لصادق فيما يقول، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، قال أبو طالب: أقيما على ما أنتما عليه، فلن ينالكما أحد بسوء.
(146) - قوله: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
سقطت هذه الجملة إلى قوله: وأعز نبيّه صلى الله عليه وسلم من النسختين «ب» و «م» .
(147) - قوله: «فلن ينالكما أحد بسوء» :
وفي رواية: أنه قال لعلي ابنه: أما إنه لم يدعك إلّا إلى خير فالزمه.
أخرج القصة من طرق بألفاظ: ابن إسحاق في سيرته [/ 137] ، ومن طريقه ابن هشام [1/ 246- 247] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 181] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 161] .
وأخرجها من طرق ابن الجوزي في المنتظم [2/ 359] .
وأخرج البيهقي في الدلائل [2/ 163] من طريق يعقوب بن سفيان، ثنا محرز بن سلمة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي: إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي بن أبي طالب، وأن أبا بكر أول من-(1/424)
وتتابع المسلمون، وأظهر الله عزّ وجلّ دينه، وأعزّ نبيّه صلى الله عليه وسلم.
148- ثم حبّب إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة، فكان يأتي حراء، وفي بعض الأخبار أنه يأتي ثبيرا ليصعد عليه فكلمه الجبل فقال: لا تصعد إليّ فإن- أظهر الإسلام وأن عليا كان يكتم الإسلام فرقا من أبيه حتى لقيه أبو طالب فقال: أسلمت؟ قال: نعم، قال: وآزر ابن عمك وانصره.
قال: أسلم علي قبل أبي بكر.
(148) - قوله: «فكان يأتي حراء» :
زاد ابن إسحاق: في كل عام شهرا من من السنة ينسك فيه، وكان من نسك في الجاهلية من قريش يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف مجاورته وقضاه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، حتى إذا كان الشهر الآخر الذي أراد الله عزّ وجلّ ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها- فذلك في شهر رمضان- فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يخرج لجواره وخرج معه بأهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله عزّ وجلّ فيها برسالته ورحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله تعالى ... القصة بطولها أخرجها في السير له [/ 120- 122] : حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي- وكان واعية- عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله عزّ وجلّ كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلّا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلّا الشجر وما حوله من الحجارة وهي تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجها ابن هشام في سيرته [1/ 236- 237] ، غير أنه قال: قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان قال: قال عبيد ... فذكر القصة، ومن طريق ابن إسحاق الأول أخرجها البيهقي في الدلائل [2/ 146- 148] ، ومن طريق ابن إسحاق الثاني أخرج القصة ابن جرير في تاريخه [2/ 300- 302] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 170- 172] .(1/425)
فيّ عقارب وحيّات، فرجع إلى حراء فقال حراء: اصعد إليّ فليس فيّ حيّات ولا عقارب، فصعد عليه، واتخذ فيه غارا ينتابه أهل الحرم، فكان يصعد إليه وكان صلى الله عليه وسلم لا يمر بشجر ولا حجر إلّا ويقول له: السلام عليك يا محمد، ثم جاءه جبريل عليه السلام في شهر رمضان بنمط ديباج، فيه كتاب فقال: اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، فضمني إلى نفسه، ثم أرسلني- وكدت أن أموت- فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فضمني ثانيا حتى قلت: إنه الموت، فقال: اقرأ، فخشيت أن أقول لا أقرأ أن يعود إلى مثل فعله، فقلت: ما أقرأ؟ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) ، وفي بعض الأخبار: كنت نائما فأقرأني في نومي فاستيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاب.
149- وقال صلى الله عليه وسلم: لم يكن أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، فقلت: إن الأبعد- يعني نفسه- مجنون، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي فأموت فأستريح، فخرجت أريد ذلك فلما توسطت الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، فوقفت، ثم قال:
يا محمد، فإذا أنا بجبريل عليه السلام قد سد ما بين الخافقين وبقيت حتى جاءني طلب خديجة.
فرجعت إلى خديجة، وقلت: إن الأبعد- يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، قالت: أعيذك بالله يا أبا القاسم، إنك لتقري الضيف، وتصدق الحديث، وتصل الرحم، وإني لأرجو أن يكون هذا ناموسا (149) - قوله: «لم يكن أحد أبغض إليّ من شاعر» :
يأتي تخريجه في باب عصمة الله نبيه صلى الله عليه وسلم تحت رقم: 171.(1/426)
مما كان لموسى، وأن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل- وكان قد قرأ الكتب- فأخبرته بما أخبرها به صلى الله عليه وسلم فقال ورقة: قدوس، قدوس، فإن كنت صدقتني لقد جاءه الناموس الأكبر- يعني: جبريل عليه السلام-، وإنه لنبي هذه الأمة، ولئن أنا أدركت زمانه لأنصرن الله فيه، ثم قبل بين عينيه.
150- وقد صحت الرواية عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني إلى نفسه اثنتين حتى قلت: إنه الموت، ثم أخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال:
زملوني زملوني حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر (150) - قوله: «وقد صحت الرواية» :
سقط من هنا إلى قوله: فحمي الوحي وتتابع من «ب» و «م» واستدركناها من «ظ» .
والحديث بطوله عند الشيخين، أخرجه البخاري مطولا ومختصرا في غير موضع من صحيحه وهو بطوله في أوله، باب (بدون ترجمة) ، برقم 3.
وأخرجه مسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم 252 (160) .(1/427)
وقال: لقد خشيت على نفسي، قالت خديجة: كلا، والله ما يحزنك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة- وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي-، قالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله عزّ وجلّ على موسى عليه السلام يا ليتني فيها جذعة، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
- قوله: «ثم لم ينشب ورقة» :
أي لم يلبث، قال الحافظ في الفتح: أصل النشوب: التعلق، والمعنى:
أي لم يتعلق بشيء من الأمور إلى أن توفي.
قوله: «وفتر الوحي» :
زاد معمر عن الزهري عند البخاري في التعبير باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة: حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس شواهق الجبال فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. -(1/428)
قال: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) ، فحمي الوحي وتتابع.
- قال الحافظ في الفتح: هذه من زيادات معمر على رواية عقيل ويونس عن ابن شهاب، وصنيع المؤلف يوهم أنه داخل في رواية عقيل، وقد جرى على ذلك الحميدي في جمعه فساق الحديث إلى قوله: وفتر الوحي ثم قال: انتهى حديث عقيل المفرد عن ابن شهاب، وزاد عنه البخاري في حديثه المقترن بمعمر عن الزهري هذه الزيادة، قال: والذي عندي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر. اه. ودلل على ذلك بعدة طرق عن الزهري ليس فيها زيادة معمر، فالله أعلم، وانظر ما نقله عن العلماء في مدة الفترة واختلافهم في ذلك، وقد رجح رحمه الله فيما ورد في معنى الفترة أنه إنما يقصد بها عدم نزول جبريل عليه السلام شيء من القرآن لا أنه لا يأتيه أو تركه بالكلية بدليل ما في زيادة معمر: أنه صلى الله عليه وسلم إذا طالت عليه الفترة فأوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقّا، والله أعلم.
قوله: «فحمي الوحي وتتابع» :
أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، أذكر منها اختصار روايته له عقب المتقدم في أول صحيحه، باب (بدون ترجمة) فقال: قال ابن شهاب:
وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال- وهو يحدث عن فترة الوحي- فقال في حديثه: بينا أنا أمشي ...
فذكره، رقم 4.
وأخرجه مسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم 255 (161) وما بعده.(1/429)
151- ويقال: إن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاك صاحبك فأخبرني، فجاءه جبريل فقال: قد جاءني خديجة، قالت خديجة:
قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام فجلس على فخذها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فحوّلته إلى فخذها اليمنى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم، ثم رفعت خمارها وكشفت عن رأسها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا، قالت: ابشر يا ابن عم فإنه ملك وليس بشيطان.
(151) - قوله: «ويقال: إن خديجة» :
أخرجه ابن إسحاق في سيرته [/ 133] : حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن خديجة ... فذكره، ثم قال: فحدثت عبد الله بن الحسن هذا الحديث فقال: قد سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلّا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه ابن هشام في سيرته [1/ 238] ، ومن طريقه ابن سيد الناس في سيرته [1/ 172] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 302- 303] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 151- 152] .
قلت: وصله الحارث بن محمد الفهري- قال أبو زرعة: ثقة- حدثني إسماعيل ابن أبي حكيم، قال: حدثني عمر بن عبد العزيز، قال:
حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: حدثتني أم سلمة عن خديجة، قالت: فذكره ... أخرجه الطبراني في الأوسط [6/ 135- 136 مجمع البحرين] رقم 3497.
قال الطبراني عقبه: لم يروه عن عمر إلّا إسماعيل، ولا عنه إلّا الحارث، تفرد به يحيى، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 256] : إسناده حسن.
وأخرجه كذلك أبو نعيم في الدلائل [1/ 216- 217] رقم 164.(1/430)
152- ثم أنزل عليه في شهر رمضان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) ، وقيل: أول آية نزلت في شهر رمضان: قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الآية.
153- وقال عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
154- ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسببه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال صلى الله عليه وسلم: أجيب غدا، فرجعت إليه من الغد فلم يجبها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت المرأة: ما أرى شيطانك إلّا قد قلاك، (152) - قوله: «ثم أنزل عليه في شهر رمضان» :
يعني بمكة، قال ابن إسحاق في سيرته [/ 130] : فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان بقول الله تبارك وتعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الآية، وقال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) إلى آخر السورة، الحديث.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه ابن هشام في سيرته [1/ 239- 240] .
(153) - قوله: «أمرت أن أبشر خديجة» :
الحديث في الصحيحين من طرق، أخرجه البخاري في العمرة، باب متى يحل المعتمر، رقم 1792، وفي مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها 3816، 3817، 3819، 3820، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها رقم 2433، 2435.
(154) - قوله: «أجيب غدا» :
لم أر أحدا ذكر أن هذا كان سبب نزول هذه السورة وإن كان الأمر يحتمله ببعد وتكلف، لكن أخرج الحاكم في المستدرك [2/ 527] من حديث زيد بن-(1/431)
فقال صلى الله عليه وسلم: قد قلاني ربي، فجاءه جبريل عليه السلام بسورة: وَالضُّحى إلى قوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) ، أي ما أبغضك منذ أن أحبّك فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) ؛ لمّا ذكر مننه عليه.....
- أرقم قال: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) إلى قوله: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) ، قال: فقيل لامرأة أبي لهب: إن محمدا قد هجاك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ فقالت: يا محمد على ما تهجوني؟! فقال: إني والله ما هجوتك، إلّا لله، قال: فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد؟ ثم انطلقت، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه فأتته فقالت: يا محمد ما أرى صاحبك إلّا قد ودعك وقلاك؛ فأنزل الله عزّ وجلّ: وَالضُّحى (1) ، ذكر الحاكم علته وهو أن إسرائيل رواه عن أبي إسحاق، عن يزيد بن زيد بدل زيد ابن أرقم، مرسل.
والقصة في سبب النزول مخرجة في الصحيحين، أخرجها البخاري في غير موضع وهذا لفظه في قيام الليل- من حديث جندب بن سفيان البجلي قال:
احتبس جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه؛ فنزلت: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) ، ولفظه في التفسير اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ... الحديث، انظر الأرقام: 1124، 1125، 4950، 4951، 4983.
وأخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، رقم 1797 (114، 115) .
قوله: «ما أبغضك منذ أن أحبك» :
ذكر هذا التفسير هكذا مقطوعا: ابن إسحاق في سيرته [/ 135] ، ومن طريقه ابن هشام في سيرته [1/ 241- 243] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 306] .(1/432)
طالبه بالشكر فقال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) ، يعني:
لا تكن جبارا ولا متكبرا على الضعفاء من عبادي، ووَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ، حدّث بما جاءك من نعمي؛ فكان صلى الله عليه وسلم يسرّ إلى من يأمنه بالوحي.
155- فافترض عليه الصلاة، وجاءه جبريل عليه السلام بأعلى مكة وعلمه، فانفجرت من الوادي عين حتى توضأ جبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منه الطهارة.
- قوله: «فكان يسر إلى من يأمنه» :
يعني: ويطمئن إليه من أهله بالوحي وأمر النبوة، وقال ابن إسحاق في تفسير هذه الآية: فحدث أي: بما جاءك من الله من كرامته ونعمته من النبوة، اذكر وادع إليها، يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة.
(155) - قوله: «فافترض عليه الصلاة» :
نقلنا قريبا قول ابن كثير أن هذه الصلاة غير الصلاة التي علم فيها جبريل عليه السلام أوقات الصلوات الخمس أولها وآخرها، وأن تلك كانت بعد فرضيتها ليلة الإسراء.
وهذا الشطر من السياق روي ضمن قصة السيدة خديجة مع ابن عمها ورقة حين حكت له شأن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي في الدلائل [2/ 145] عقب إيرادها: وقد ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة هذه القصة وزاد فيها: ففتح جبريل عليه السلام عينا من ماء فتوضأ ومحمّد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه: وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ثم نضح فرجه، وسجد سجدتين مواجهة البيت، ففعل محمد كما رأى جبريل يفعل. اه.(1/433)
156- ثم آمن به علي رضي الله عنه، فضم صلى الله عليه وسلم عليّا إلى نفسه، وضم العباس جعفرا إلى نفسه، وبقي عقيل لأبي طالب وذلك أنه كانت سنة شدة وأبو طالب ذو عيال.
157- وكان علي رضي الله عنه يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خفية من أبي طالب فعثر عليهما يوما أبو طالب وهما يصليان فقال لهما أبو طالب:
ما هذا الذي أرى؟ قال: يا عم هذا دين الله ودين ملائكته ودين أبينا إبراهيم ورسله (صلوات الله عليهم أجمعين) وبهذا بعثت، وأنت (156) - قوله: «وذلك أنه كانت سنة شدة» :
قال ابن إسحاق في سيرته: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب رضي الله عنه مما صنع إليه وأراد به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه وكان أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه حتى نخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقال له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
ومن طريق ابن إسحاق أخرجها ابن هشام في سيرته [1/ 246] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 313] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 162] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 180] . -(1/434)
يا عم أحق من بذلت له النصيحة، فقال: إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي.
158- وعن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش البيت انفرد الرجال: رجلين رجلين يحملون الحجارة، وانفردت النساء، قال: فانفردت أنا ومحمّد صلى الله عليه وسلم نحمل الحجارة، فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونحمل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، قال: فبينا هو يمشي إذ وقع، قال: فجئت أسعى وهو شاخص ببصره إلى السماء، فقلت: يا ابن أخي ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي- قوله: «إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي» :
زاد ابن إسحاق: وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت، وذكروا- يعني أهل العلم- أنه قال لعلي: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت بما جاء به، وصليت معه الله واتبعته، قال: فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلّا إلى خير فالزمه.
أخرجه من طريق ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: ابن هشام في سيرته [1/ 246- 247] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 313] ، وابن سيد الناس في سيرته [1/ 181- 182] ، أوله: ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب متخفيا من عمه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان ... الحديث.
(158) - قوله: «وانفردت النساء» :
زاد ابن إسحاق: ينقلن الشّيد وهي المادة التي يطلى بها الحائط، الجص وغيره. -(1/435)
عريانا، قال: فكتمها حتى أظهر الله تعالى نبوته.
- قوله: «فكتمها» :
يعني: العباس كما بينتها الروايات الأخرى بزيادة: مخافة أن يقولوا:
مجنون، أخرجها ابن إسحاق في سيرته [/ 79] .
وأخرجها البزار في مسنده [2/ 41 كشف الأستار] رقم 1158، 1159، وقال: لا نعلمه عن العباس إلّا بهذا الإسناد، وعمرو بن أبي قيس مستقيم الحديث، روى عنه جماعة من أهل العلم.
وأخرجه الطبراني في الكبير [3/ 290 مجمع الزوائد] ، قال الهيثمي: فيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري والطيالسي، وضعفه جماعة.
وأخرجها أبو نعيم في الدلائل [1/ 189] رقم 134، وفي المعرفة [5/ 2121] رقم 5328، البيهقي في الدلائل [2/ 32- 33] .
قال الحافظ في الفتح بعد عزوه [4/ 184] : كلهم من حديث سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس حدثني العباس، وتابع سماكا: الحكم بن أبان، عن عكرمة. اه.
قلت: وتابع عكرمة: عطاء بن أبي رباح، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده برقم 2669، وأصله في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله فأخرجه البخاري في غير موضع من صحيحه بألفاظ: في الصلاة، باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، رقم 364، وفي الحج باب فضل مكة وبنيانها، رقم 1582، وفي مناقب الأنصار، باب بنيان الكعبة، رقم 3829، وأخرجه مسلم في الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة رقم 340 (76، 77) ، وهذا لفظه فيه: عن عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة، ففعل، فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قام فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره ... زاد البخاري: فما رؤي بعد ذلك عريانا صلى الله عليه وسلم.(1/436)
159- وعن ابن عباس قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفضل، وكان العباس يناول الماء من وراء الستر، وقال العباس: ما منعني أن أغسله إلّا أنا كنا صبيانا نحمل الحجارة إلى المسجد- يعني لبناء الكعبة- ننزع أزرنا ونضعها على أكتافنا، ونضع الحجارة، فبينا نحن كذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع صلى الله عليه وسلم، وسقط الحجر وأنا قائم، فقلت: يا ابن أخي قم فإني لا أرى بك بأسا، ولا أرى الحجر ضرّك، فنظر إلى السماء، ثم نظر إليّ فقال: اشدد عليّ، فإني قد نهيت أن أتعرى بعد هذا اليوم، قال العباس: فهذا أول ما رأيت منه.
160- وقيل: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلها إذا انكشفت عورته، فنودي: يا محمد عورتك، فذلك أول ما نودي، والله أعلم.
(159) - قوله: «وعن ابن عباس» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [2/ 279] بلفظ مختصر من طريق شيخه الواقدي قال: حدثني هشام بن عمارة، عن أبي الحويرث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: غسل النبيّ صلى الله عليه وسلم علي والفضل وأمروا العباس أن يحضر عند غسله فأبى فقال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستتر، وأخرج أيضا من طريقه قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي والفضل بن العباس- وكان يقلبه وكان رجلا أيدا- وكان العباس بالباب فقال: لم يمنعني أن أحضر غسله إلّا أني كنت أراه يستحيي أن أراه حاسرا.
(160) - قوله: «وقيل» :
لو عبر بلفظ: وروي، لكان أحسن، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده [5/ 454، 455] من حديث عبد الرزاق: ثنا معمر، عن عبد الله بن-(1/437)
161- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ممن ينقل الحجارة وهو يومئذ غلام، قال: فأخذ أبو طالب إزاره، وذهب لينقل الحجارة، فغشي عليه، فقيل لأبي طالب:
أدرك ابنك، قد غشي عليه، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم من غشيته سأله أبو طالب عن غشيته فقال: أتاني آت عليه ثياب بيض فقال لي: استتر، قال ابن عباس:
وكان ذلك أول شيء رأى من النبوة حين قيل له: استتر، فما رؤيت عورته من يومها.
- عثمان بن خيثم، عن أبي الطفيل قال: لما بني البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم، فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي:
لا تكشف عورتك، فألقى الحجر ولبس ثوبه، وفي السياق الثاني:
فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه فيرى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك.
وأخرجه الطبراني في الكبير أطول منه [8/ 257 مجمع الزوائد] ، قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح قال: وفي رواية: فذلك أول ما نودي. اه.
وأخرجه الحاكم في المستدرك [4/ 179] ، قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(161) - قوله: «فقال لي: استتر» :
وفي رواية أبي نعيم: استتر استتر، كررها، أخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 157] ، وابن عدي في الكامل [7/ 2487] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 190] رقم 135، وصححها الحاكم في المستدرك [4/ 179] ، جميعهم من طريق النضر بن عبد الرحمن الخزاز- أحد الضعفاء- قال ابن عدي:
هو مع ضعفه يكتب حديثه. -(1/438)
162- وقال صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن.
163- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خرجت لخديجة بنت خويلد إلى جرش كدى- وكذا سفرة- كل سفرة منها بقلوص.
164- وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بحديث فقيل له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك قد رعيت الغنم؟ قال: أجل، وهل من نبي إلّا قد رعاها، وأنا كنت أرعى لأهلي بالقراريط.
- وأخرج ابن إسحاق في سيرته [/ 78- 79] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 30- 31] ، قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يذكر من حفظ الله عزّ وجلّ إياه: إني لمع غلمان هم أسناني، قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها نلعب بها، إذ لكمني لاكم لكمة شديدة، ثم قال: اشدد عليك إزارك.
(162) - قوله: «إني لأعرف حجرا» :
تقدم الكلام عليه تحت رقم 35، ويريد المصنف بإيراده الإشارة إلى أول ما ابتدأ به صلى الله عليه وسلم من النبوة.
(163) - قوله: «بقلوص» :
القلوص: ابنة المخاض، وقيل: كل أنثى من الإبل حين تركب، سميت قلوصا لطول قوائمها ولم تجسم بعد أو تثني، فإذا أثنت فهي ناقة.
والحديث أخرجه البيهقي في الدلائل [1/ 65- 66] بإسناده إلى الربيع بن بدر- ضعفه الجمهور- عن أبي الزبير، عن الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص.
(164) - قوله: «وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما» :
الحديث الذي حدثه ذكره جابر بن عبد الله في روايته قال: كنا مع-(1/439)
165- وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد رأيت قائد الفيل وسايسه.
166- قال: وكان بين الفيل وبين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أربعون سنة.
- رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ونحن نجني الكباث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عليكم بالأسود منه، قال: فقلنا: يا رسول الله كأنك رعيت الغنم؟ ...
الحديث أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم، رقم 3406، وفي الأطعمة، باب الكباث، وهو ورق الأراك، رقم 5453، وأخرجه مسلم في الأطعمة، باب فضيلة الأسود من الكباث، رقم 2050.
ويحتمل أن يكون الحديث الذي حدثه صلى الله عليه وسلم ما ذكره أبو هريرة في روايته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم، فقال أصحابه:
وأنت ... ؟ الحديث.
والظاهر أن المصنف أراد هذا لأن ذكر القراريط جاء في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في الإجازة، باب رعي الغنم على قراريط، رقم 2262، ومالك في الموطأ [2/ 971] ، وابن ماجه في الإجارات، باب الصناعات، رقم 2149.
(165) - قوله: «وقالت عائشة» :
رجع المصنف إلى قول عائشة المتقدم في ذكر قصة الفيل ليبين السن الذي بعث فيه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم تخريجه.
(166) - قوله: «وكان بين الفيل وبين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم» :
قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل أخرجه يعقوب ابن سفيان في المعرفة والتاريخ [3/ 251] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 74] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 79] .(1/440)
167- وقيل لقباث بن أشيم الكناني: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله.
(167) - قوله: «وقيل لقباث بن أشيم الكناني» :
صحابي، كان يوم بدر مشركا فيما رواه ابن سعد في الطبقات، ثم أسلم بعدها، وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك أميرا، وطال عمره حتى أدركه عبد الملك بن مروان.
أسد الغابة [4/ 189] ، الإصابة [8/ 129] ، تاريخ الإسلام [وفيات 61- 80- ص 207] ، تاريخ ابن عساكر [49/ 223] ، تجريد أسماء الصحابة [2/ 101] ، طبقات ابن سعد [7/ 411] ، المعرفة لأبي نعيم [4/ 2357] ، تاريخ خليفة [/ 52] ، طبقاته [/ 30] ، الاستيعاب [9/ 200] ، تهذيب الكمال [23/ 466] .
قوله: «ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل» :
روي هذا عن ابن عباس بإسناد صحيح، أخرجه من طرق عنه: ابن سعد في الطبقات [1/ 101] ، والحاكم في المستدرك [2/ 603] ، ومن طريقه البيهقي [1/ 75] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 71] ، ومن طرق أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس [2/ 290- 292] .
قال خليفة بن خياط: المجمع عليه أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وقال ابن جرير في تاريخه: وهذا مما لا خلاف فيه، وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة:
في ذكر مولده صلى الله عليه وسلم: اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين في شهر ربيع الأول عام الفيل، وقال الإمام النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء [1/ 23، 22] : نقل إبراهيم بن المنذر وخليفة بن خياط الإجماع عليه.
قوله: «محيلا» :
أي: متغيرا ومتحللا، زاد الترمذي: بعده بعام، ورأيت أمية بن عبد شمس-(1/441)
.........
- شيخا كبيرا يقوده عبده أبو عمر، فقال ابنه: يا قباث أنت أعلم وما تقول، أخرجه الترمذي في جامعه، باب ما جاء في ميلاد رسول الله من حديث قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، قال: وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم أحد بني عمرو بن ليث: أنت أكبر أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ... الحديث، رقم 3619، والبيهقي في الدلائل [1/ 76- 77] ، وأبو نعيم في المعرفة [4/ 2358] .
ورواه بعضهم مقتصرا على طرفه الأول وهو حديث قيس بن مخرمة، أخرجه ابن إسحاق في سيرته [/ 48] ، ومن طريقه الإمام أحمد في المسند [4/ 215] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 101] ، وابن هشام في السيرة [1/ 159] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 76] ، وأبو نعيم كذلك [1/ 144] رقم 85، وابن عساكر في تاريخه [3/ 73] .
ورواه بعضهم من وجه آخر، والسائل فيه لقباث: عبد الملك بن مروان، أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه [/ 52] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 143] رقم 84، والبيهقي كذلك [1/ 77- 78] ، وابن عساكر في تاريخه [49/ 227 مرتين] .
ورواه بعضهم من وجه آخر، والسائل فيه لقباث: مروان بن الحكم، أخرجه أبو نعيم في المعرفة [4/ 2358] ، وابن عساكر في تاريخه [49/ 229] .
تنبيه: سقطت من «م» و «ب» من قوله: (وقالت عائشة) إلى قوله: (أعقله) إلّا من «ظ» .(1/442)
[43- باب: في ذكر عصمة الله نبيّه صلى الله عليه وسلم من التّديّن بغير الحقّ وحراسته قبل المبعث وبعده من مردة الشّياطين والإنس أن ينالوه بسوء]
43- باب: في ذكر عصمة الله نبيّه صلى الله عليه وسلم من التّديّن بغير الحقّ وحراسته قبل المبعث وبعده من مردة الشّياطين والإنس أن ينالوه بسوء 168- أخبرنا الشريف أبو محمد: عبد الله بن يحيى بن طاهر بن يحيى الحسيني بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: حدثنا محمد بن الحسن بن نصر، قال: حدثنا أبو عبد الله: الزبير بن بكار، قال: حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة، عن أبيها، عن جدها مولة بن حمل، قال: أتى عامر بن الطفيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا عامر أسلم، قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، ثم قال: يا عامر أسلم، قال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر؟ قال: لا، قال: فولى هو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمّ اكفني عامرا واهد قومه، فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة يقال لها: سلولية، فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدّة في حلقه، فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكرة وموت في بيت سلولية، فلم يزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا.
(168) - قوله: «أخبرنا الشريف أبو محمد» :
يأتي حديثه بإسناده ومتنه في أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم في فصل: ذكر ما ظهر من الآيات والدلائل فيمن دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه المصنف أيضا معلقا من وجه آخر عن عروة بن الزبير، ويأتي تخريجهما هناك.(1/443)
169- عن الضحاك بن مزاحم، عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنا قط؟ قال: لا.
قيل: فهل شربت خمرا قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذي هم فيه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان.
170- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (169) - قوله: «عن الضحاك بن مزاحم» :
الهلالي، الإمام صاحب التفسير، وأحد أوعية العلم، يقال: لم يلق ابن عباس، قال الحافظ الذهبي: صدوق في نفسه وليس بالمجود لحديثه، وله باع كبير في التفسير والقصص، توفي سنة ست ومائة.
سير أعلام النبلاء [4/ 598] ، تهذيب الكمال [13/ 291] ، تهذيب التهذيب [4/ 397] ، الكاشف [2/ 33] ، الميزان [3/ 39] ، التاريخ الكبير [4/ 332] ، طبقات ابن سعد [6/ 300، 7/ 369] .
قوله: «عن النزال بن سبرة» :
الهلالي، العامري الكوفي، عداده في ثقات التابعين، من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن مسعود، وثقه الجمهور.
طبقات ابن سعد [6/ 84] ، التاريخ الكبير [8/ 117] ، ثقات العجلي [2/ 312] ، تهذيب الكمال [29/ 334] ، تهذيب التهذيب [10/ 378] ، الكاشف [3/ 176] ، التقريب [/ 560] .
قوله: «وما زلت أعرف أن الذي هم فيه كفر» :
أخرجه ابن عساكر في تاريخه [2/ 87 تهذيب ابن منظور] ، وأبو نعيم في الدلائل [كما في الخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 221] ، إذ ليس في المختصر المطبوع منه. -(1/444)
ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمّون به إلّا ليلتين، كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلينا، فقلت لصاحبي: انظر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلّا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته بالذي رأيت.
ثم قلت له ليلة أخرى: انظر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعته تلك الليلة، فسألت فقيل: فلان نكح فلانه، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فو الله ما أيقظني إلّا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئا؛ ثم أخبرته بالخبر، فو الله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عزّ وجلّ بنبوّته.
- قوله: «حتى أكرمني الله عزّ وجلّ بنبوته» :
أخرجه ابن إسحاق في سيرته [/ 79- 80] ، ومن طريقه البخاري في تاريخه معلقا [1/ 130] ، والبزار في مسنده [3/ 129 كشف الأستار] ، رقم 2403 بلفظ مختصر، والبيهقي في الدلائل [2/ 34] ، وصححه ابن حبان كما في الإحسان برقم 6272، والحاكم في المستدرك [4/ 245] ، ووافقه الذهبي في التلخيص، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 226] : رواه البزار ورجاله ثقات، وقال السيوطي في الخصائص [1/ 219] : قال ابن حجر:
إسناده حسن متصل، ورجاله ثقات.
قال أبو عاصم: كأن الحافظ ابن كثير تردد في ثبوته لما في السياق من الغرابة فقال في تاريخه [4/ 228] : هذا حديث غريب جدّا، وقد يكون عن علي-(1/445)
171- وقال صلى الله عليه وسلم: فلما نشأت بغض إليّ الأوثان، وبغض إليّ الشعر.
- نفسه، ويكون قوله في آخره: حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته مقحما، قال:
وشيخ ابن اسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات وزعم بعضهم أنه في رجال الصحيح، قال شيخنا- يعني: الحافظ المزي-: ولم أقف على ذلك، فانظر إلى هذا الإمام وما تكنه نفسه من التعظيم لمقام هذا النبي الذي أكرمه الله منذ صغره بحماية خاصة ورعاية تامة حتى من مجرد الهم بالشيء المباح، حتى حمله ذلك أن يوجه الحديث فيجعله من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن نفسه، إن هذا لمن تمام حسن الأدب وصحة الاعتقاد، رحمه الله.
(171) - قوله: «وقال صلى الله عليه وسلم» :
يعني: في حديث شداد بن أوس الطويل، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير [9/ 18 إتحاف الخيرة، رقم 8501، المطالب العالية 4/ 171، رقم 4254] ، الآجري في الشريعة [/ 431] ، أبو نعيم في الدلائل- فيما ذكره السيوطي في المناهل برقم 162 إذ ليس في المختصر المطبوع منه.
وهذا لفظ حديث أبي يعلى:
قال أبو يعلى: وثنا يحيى بن عمر بن النعمان السامي، ثنا محمد بن يعلى الكوفي، ثنا عمر بن صبح، عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل من بني عامر وهو سيد قومه وكبيرهم ومكرمهم يتوكأ على عصا فقام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ونسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جده فقال: يا ابن عبد المطلب إني نبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس أرسلك بما أرسل إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنك تفوت بعظيم، إنما كان الأنبياء والملوك في بيتين من بني إسرائيل بيت نبوة وبيت ملك، ولا أنت من هؤلاء ولا هؤلاء إنما أنت من العرب ممن يعبد الحجارة والأوثان فما لك والنبوة؟ ولكن لكل أمر حقيقة فأتني بحقيقة قولك وبدء شأنك، قال: -(1/446)
.........
- فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته ثم قال: يا أخا بني عامر إن للحديث الذي تسأل عنه نبأ ومجلسا فاجلس، فثنى رجليه وبرك كما يبرك البعير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أخا بني عامر إن حقيقة قولي وبدو شأني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى ابن مريم وإني كنت بكرا لأمي وإنها حملتني كأثقل ما تحمل النساء حتى جعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد، وإن أمي رأت في المنام أن الذي في بطنها نور قالت: فجعلت أتبع بصري النور فجعل النور يسبق بصري حتى أضاء لي مشارق الأرض ومغاربها، ثم إنها ولدتني، فلما نشأت بغضت إليّ الأوثان وبغض إليّ الشعر، واسترضع بي في بني جشم بن بكر فبينما أنا ذات يوم في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان إذا أنا برهط ثلاث معهم طست من ذهب ملآن نور وثلج، فأخذوني من بين أصحابي وانطلق أصحابي هربا حتى إذا انتهوا إلى شفير الوادي أقبلوا على الرهط فقالوا: ما لكم ولهذا الغلام؟ إنه غلام ليس منا وهو من بني سيد قريش، وهو مسترضع فينا، من غلام يتيم ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله، ولكن إن كنتم فاعلين فاختاروا منا أينا شئتم فليأتكم فاقتلوه مكانه ودعوا هذا الغلام، فلم يجيبوهم فلما رأوا الصبيان أن القوم لا يجيبونهم انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنوهم بهم ويستصرخونهم على القوم، فعمد إليّ أحدهم فأضجعني إلى الأرض إضجاعا لطيفا ثم شق ما بين صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر فلم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطني فغسله بذلك الثلج فأنعم غسله ثم أعادها في مكانها، ثم قام الثاني فقال لصاحبه: تنح، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر فصدعه فأخرج منه مضغة سوداء رمى بها ثم قال بيده يمنة منه كأنه يتناول شيئا ثم إذا بالخاتم في يده من نور النبوة والحكمة تخطف أبصار الناظرين دونه فختم قلبي فامتلأ نورا وحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا، ثم قام الثالث فنحى صاحبيه فأمرّ يده بين ثديي-(1/447)
.........
- ومنتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال الأول الذي شق بطني: زنوه بعشرة من أمته، فوزنوني فرجحتهم، ثم قال: زنوه بمائة من أمته، فوزنوني فرجحتهم، ثم قال: زنوه بألف من أمته، فوزنوني فرجحتهم، قال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته جميعا لرجح بهم، ثم قاموا إليّ فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عينك، قال: فبينما نحن كذلك إذ أقبل الحي بحذافيرهم، وإذا ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول: يا ضعيفاه، فأكبوا عليّ يقبلوني ويقولون: يا حبذا أنت من ضعيف، ثم قالت: يا وحيداه، قال:
فأكبوا عليّ وضموني إلى صدورهم وقالوا: يا حبذا أنت من وحيد، ما أنت بوحيد، إن الله معك وملائكته والمؤمنون من أهل الأرض، ثم قالت:
يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، فأكبوا عليّ وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وقالوا: يا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله، لو تعلم ماذا يراد بك من الخير، قال: فوصلوا إلى شفير الوادي فلما بصرت بي ظئري قالت: يا بني ألا أراك حيا بعد؟ فجاءت حتى أكبت عليّ فضمتني إلى صدرها، فو الذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها وإن يديى لفي يد بعضهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، فجاء بعض الحي فقال: هذا الغلام أصابه لمم أو طائف من الجن فانطلقوا به إلى الكاهن ينظر إليه ويداويه، فقلت له ولهم: ما هذا؟
ليس بي شيء مما تذكرون، أرى نفسي سليمة ونوابي صحيحا وليس بي قلبة، فقال أبي- وهو زوج ظئري-: ألا ترون ابني كلامه كلام صحيح إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس، فاتفق القوم على أن يذهبوا بي إلى الكاهن فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه فقصوا عليه قصتي فقال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره، فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره، -(1/448)
.........
- فلما سمع مقالتي ضمني إلى صدره ونادى بأعلى صوته: يا للعرب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فو اللات والعزى لئن تركتموه ليبدلن دينكم وليسفهن أحلامكم وأحلام آبائكم وليخالفن أمركم وليأتين بدين لم تسمعوا بمثله، قال: فانتزعني ظئري من يده قال: لأنت أعته منه وأجن، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، ثم احتملوني وردوني إلى أهلي فأصبحت مغموما مما فعل بي وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه شراك، فذلك حقيقة قولي وبدو شأني.
فقال العامري: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن أمرك حق فأنبئني بأشياء أسألك عنها قال: سل عنك- وكان يقول للسائلين قبل ذلك: سل عما بدا بك، فقال يومئذ للعامري: سل عنك، لأنها لغة بني عامر فكلمه بما يعرف-، فقال العامري: أخبرني يا ابن عبد المطلب ماذا يزيد في الشر؟ قال:
التمادي، قال: فهل ينفع البر بعد الفجور؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، التوبة تغسل الحوبة، وإن الحسنات يذهبن السيئات وإذا ذكر العبد ربه في الرخاء أعانه عند البلاء، قال العامري: كيف ذلك يا ابن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك بأن الله يقول: لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له خوفين إن هو آمن بي في الدنيا يوم أجمع عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق.
فقال العامري: يا ابن عبد المطلب إلى ما تدعو؟ قال: إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تخلع الأنداد وتكفر باللات والعزى وتقر بما جاء من الله من كتاب ورسول وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن وتصوم شهرا من السنة وتؤدي زكاة مالك فيطهرك الله به ويطيب لك مالك وتقر بالبعث بعد الموت وبالجنة والنار، قال: يا ابن عبد المطلب، فإن أنا فعلت هذا فما لي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وذلك جزاء من تزكى. -(1/449)
172- وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل- قال: يا ابن عبد المطلب هل مع هذا من الدنيا شيء فإنه يعجبنا الوطأة في العيش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، النصر والتمكين في البلاد، قال: فأجاب العامري وأناب.
قال الحافظ البوصيري عقب إيراده: هذا إسناد ضعيف لضعف عمر بن صبح والراوي عن محمد بن يعلى الكوفي.
(172) - قوله: «وعن هشام بن عروة» :
ابن الزبير بن العوام الأسدي، الزبيري، القرشي، الإمام الحافظ الثبت، أحد مشايخ الإسلام، وحفاظ السنة، ممن اتفق على إمامته وحفظه وإتقانه، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة ست وأربعين ومائة.
سير أعلام النبلاء [6/ 34] ، تهذيب الكمال [30/ 232] ، تهذيب التهذيب [11/ 44] ، الكاشف [3/ 197] .
قوله: «عن أبيه» :
هو عروة بن الزبير- حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية- ابن العوام الأسدي، عداده في التابعين من فقهاء المدينة السبعة وعلمائها، وهو ابن أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أسماء، لازمها حتى استفرغ ما لديها من العلم والحديث، روي عنه أنه قال: ما ماتت حتى تركتها قبل ذلك بثلاث سنين، له مناقب وفضائل مذكورة في المطولات.
سير أعلام النبلاء [4/ 421] ، تهذيب الكمال [20/ 11] ، تهذيب التهذيب [7/ 163] ، الكاشف [2/ 229] .
قوله: «زيد بن عمرو بن نفيل» :
والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين، وابن عم عمر بن الخطاب، كان ممن جانب أهل الجاهلية أعمالهم، فخلع الأوثان، وجانب الشرك وطلب-(1/450)
يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئا.............
- الدين والتوحيد منتظرا بعثته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي شيء من فضائله في بابه إن شاء الله تعالى.
قوله: «يعيب أكل ما ذبح لغير الله» :
هذه منقبة من مناقب زيد بن عمرو، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده لمجانبته أعمال أهل الجاهلية التي حفظ الله بها نبيه قبل لقيه زيد، فقد بغض إليه سبحانه بما خصه من الرعاية والحماية الأوثان والشعر، وحبب إليه الخلاء توفيقا وإلهاما، لم يكن لزيد في ذلك أثر، عصمه خليله صلى الله عليه وسلم من أن يهم بشيء من المباحات مما كان يهم به أقرانه أهل سنه، لا بل وفقه لأعمال قررها الشرع فيما بعد حتى رؤي يوم عرفة واقفا بها كما جاء في الصحيحين.
قال أبو عاصم: فإذا كان الأمر كذلك فالذي يقتضيه الحال أن لا يغذيه مولاه طعاما إلّا ما كان على شاكلة ذلك ولا بد، لينتظم له معنى الكمال في نشأة الروح والجسد، ومعنى التمام في الحماية الإلهية إذ كان غير خاف تأثير المطعم والمشرب على شفافية الروح الصالحة وصفائها واتصالها بخالقها، ولذلك كان اعتقادنا اعتقاد أهل السنة في ذلك أنه سبحانه لم يطعمه إلّا ما كان ذاته طاهرا ومخرجه طيبا وذكاته حلالا قبل أن يرى زيدا وغيره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فما ذقت شيئا» :
مثل هذا التعبير قول الراوي في حديث الصحيحين: فما رؤي عريانا بعد ذلك مع أنه لم يكن يرى كذلك قبل ذلك، وهذا معروف في اللسان العربي تقول: لم أدخل بيت فلان منذ أن علمت أنه يفعل كذا وكذا، فلا يعني بالضرورة أنك دخلته قبل ذلك، ولكن يعني أنك اجتنبت كليا نية دخوله بعد علمك بما علمت عنه، فإن قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك من زيد، -(1/451)
ذبح على النصب حتى أكرمني الله عزّ وجلّ بما أكرمني به من رسالته.
- فلماذا لم يكن منه صلى الله عليه وسلم بدلا من زيد؟ والجواب أنّ هذا كلام لا معنى له، فإنه سبحانه لم يزل كريما، خزائنه ملآى، يكرم من شاء بما شاء، وقد أكرم سبحانه صحابة نبيه في حضرته عزّ وجلّ بأمور صارت شريعة لمن بعدهم، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أكرم بموافقات كثيرة، فلا يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بها منه في الوقت الذي لم يكن هو صلى الله عليه وسلم غافلا عنها، فكان يفرح بظهورها منهم تواضعا منه صلى الله عليه وسلم، ولعلمه أن الله سبحانه إنما أكرمهم بذلك بسببه ومن أجله، إذ هو صلى الله عليه وسلم كالوالد والشيخ يفرح بنبوغ ولده وتلميذه، فلا يتعد الأمر كونه في مناقب زيد وعمر وغيرهما ممن جعل الله على أيديهم مثل ذلك، فتأمل.
قوله: «ذبح على النصب» :
النصب: الأحجار الكبيرة المتخذة في زمن الجاهلية للعبادة، كان أهل الجاهلية ينصبونها حول الكعبة لكن كان منها ما هو من جملة الأصنام المعبودة، ومنها الأحجار المسماة باسم بعضها تتخذ للذبح عليها، ومنها ما هو آلة محضة ليست إلّا من الآت الجزارة ومن هنا دخلت الشبهة على أحجار الجزارة، إذ ليس كل آلات الجزارة للذبح مسماة، كما أن ليس كل الأحجار (الأنصاب) معبودة.
نعم وللبحث تتمة تأتي.
والحديث أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 188] ، رقم 131 بإسناد فيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، ضعيف بمرة، قال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابعه عليها الثقات، وأحاديثه غير محفوظة، وقال أبو حاتم:
متروك الحديث، وزعم ابن حبان أنه يروي الموضوعات عن الثقات، وعزاه في الكنز [12/ 79] برقم 34080 للديلمي.
قلت: روي حديثه من غير وجه، فسيأتي من حديث ابن عمر، ومن حديث-(1/452)
173- وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقيت زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح- وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي- قال: فقدّمت إليه سفرة فيها لحم، - زيد بن حارثة، ومن حديث عروة مرسلا، ومن حديث سعيد بن زيد، يأتي تخريجها إن شاء الله تعالى.
(173) - قوله: «وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب» :
العدوي، القرشي، الإمام مفتي المدينة وعالمها، كان أبوه يقبّل رأسه وبين عينيه ويقول: شيخ يقبل شيخا، ذكره ابن المبارك في فقهاء المدنية السبعة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم، قال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه.
سير أعلام النبلاء [4/ 457] ، تهذيب الكمال [10/ 145] ، الكاشف [1/ 271] ، تهذيب التهذيب [3/ 378] .
قوله: «بأسفل بلدح» :
بموحدة مفتوحة، بعدها لام ساكنة، ثم مهملة مفتوحة وآخره مهملة: اسم واد أو مكان في طريق التنعيم.
قوله: «وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي» :
ذكر ابن الجوزي هذه القصة في المنتظم في حوادث سنة خمس وثلاثين، وهي السنة التي بنيت فيها الكعبة، والسنة التي ولدت فيها السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ابن خمس وثلاثين.
قوله: «فقدّمت إليه سفرة فيها لحم» :
بالبناء للمجهول، هكذا وقع في رواية البخاري في المناقب، وعنده في الذبائح: فقدّم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، قال الحافظ في الفتح: وقع للأكثر: فقدّم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللكشميهني: فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، وجمع ابن المنير بين هذا الاختلاف بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقدمها لزيد فقال زيد مخاطبا أولئك القوم ما قال.(1/453)
فأبى أن يأكل منها شيئا ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلّا ما ذكر اسم الله عليه.
قوله: «مما تذبحون على أنصابكم» :
لوجود الشبهة التي أشرنا إليها في الحديث قبله، قال الحافظ في الفتح في تعليل أوجه امتناع زيد عن الأكل: أو كان امتناع زيد منها حسما للمادة. اهـ.
وهذا الوجه هو الراجح عندي؛ إذ كان أكله صلى الله عليه وسلم مما يذبح على النصب غير منتظم عند من يثبت له الرعاية الإلهية التي خصه الله بها منذ صغره ويعتقدها، فالأمة مجتمعة على أنه صلى الله عليه وسلم قد بغضت إليه الأوثان منذ نشأته، فكيف يتصور ذبحه لها وعلى أسمائها؟ هذا لا يكون.
وللبحث تتمة تأتي في الحديث بعده، وقد ذكرنا شيئا في الحديث قبله، وبالله التوفيق والسداد.
حديث الباب أخرجه الإمام البخاري في المناقب، باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل، رقم 3826، وفي الذبائح والصيد، باب ما ذبح على النصب والأصنام، رقم 5499، والإمام أحمد في المسند [2/ 68- 69، 89، 127] الأرقام 5369، 5631، 6110، والطبراني في معجمه الكبير [12/ 297- 298] رقم 13169، والبيهقي في الدلائل [2/ 121، 122] ، وإبراهيم الحربي في الغريب [2/ 790] ، وابن سعد في الطبقات [3/ 380] ، وابن عساكر في تاريخه [19/ 507- 508، 508] ، زاد في الطريق الأول: وكان زيد يصلي إلى الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك فيه: يبعث أمة وحده يوم القيامة، جميعهم من حديث موسى بن عقبة، عن سالم به.
فائدة: فإن قيل: أورد المصنف أحاديث زيد بن عمرو وهي تعد في مناقبه، فما الشاهد فيها مما نحن بصدده؟ والجواب من أوجه:
الأول: أن المصنف رحمه الله وطأ لذلك بما سينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زيد بن عمرو في الآخرة من أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده، وفي إخباره من دلائل النبوة ما لا يخفى.(1/454)
174- وعن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة قال: - الثاني: أن قصة لقيه بزيد كانت يوم مقدمه من الشام وقد أخبروه رهبانها بقرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم- كما جاء في بعض الروايات- أنه رجع ينتظر ظهور هذا النبي، وأنه إن ظهر في حياته فسيؤمن به ويتبعه.
الثالث: أن حماية الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعايته له تنوعت منذ نشأته، فتارة تكون منه سبحانه مباشرة كما في حديث علي بن أبي طالب المتقدم حين ذهب للسمر في مكة، فضرب الله على أذنه النوم، وتارة يكون بواسطة الملك كما حصل في تنبيهه بلبس الإزار وعدم التعري عند بناء الكعبة، وتارة يكون بإلقاء ذلك في نفسه تقربا إلى الله كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنه حبب إليه الخلاء، وتارة يكون على يد أناس من أهل قومه كما هو الحال هنا مع زيد بن عمرو، والله أعلم.
(174) - قوله: «وعن أسامة بن زيد» :
ابن حارثة بن شراحيل- أو شرحبيل- الحب ابن الحب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه، أحب الناس إليه، ربّاه النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحبّه كثيرا حتى قال صلى الله عليه وسلم:
من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة، وأمّره صلى الله عليه وسلم على جيش وعمره إذ ذاك ثماني عشرة سنة.
سير أعلام النبلاء [2/ 496] ، الإصابة [1/ 45] ، أسد الغابة [1/ 79] ، الاستيعاب [1/ 143] .
قوله: «عن أبيه زيد بن حارثة» :
ابن شراحيل- أو شرحبيل- ابن كعب، الصحابي الجليل المسمى في سورة الأحزاب، سيد الموالي وأسبقهم إلى الإسلام وأحبهم إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله لزيد: يا زيد أنت مولاي ومني وإليّ وأحب القوم إلي، هنيئا له رضي الله عنه وأرضاه.
سير أعلام النبلاء [1/ 220] ، الإصابة [3/ 47] ، أسد الغابة [2/ 281] ، الاستيعاب [3/ 47] .(1/455)
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب فذبحنا له شاة قوله: «إلى نصب من الأنصاب» :
هذا منكر، إنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للرعي، ففي رواية البخاري في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بأسفل بلدح، وهنا أنه لقيه بأعلى الوادي، وفي مرسل عروة الآتي: أتاني وأنا أرعى ومعي لحم مطبوخ.
قال أبو عاصم: وأصل هذا الحديث يعاني من نكارة شديدة في متنه، رواية البخاري المتقدمة قبله شاهدة على ذلك، وما روي عن زيد بن حارثة من أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه برسالته ناطقة باضطراب هذا الحديث، وما سيأتي من لوم عماته له وقولهن: ما تصنع من اجتناب آلهتنا؟ أما تريد أن تحضر عيدا لقومك ولا تكثر لهم جمعا..
الحديث يؤيد ذلك، وقد أثبت الحافظان: الذهبي في قسم السيرة من التاريخ، وابن كثير كذلك على عصمة الله له منذ صغره ونشأته من أعمال الجاهلية حتى شبّ فألهمه عز وجل في شبابه صلى الله عليه وسلم مجانبتهم، وبغض إليه الأوثان والشعر، وحتى وفقه سبحانه لأن يقف بعرفات دون قومه، وقد ثبت ذلك في الصحيحين من حديث جبير بن مطعم، فأما الحافظ الذهبي فقال في سير الأعلام [1/ 222] معلقا على حديث الباب: في إسناده محمد- يعني ابن عمرو بن علقمة- لا يحتج به، وفي بعضه نكارة بينة، وقال الحافظ ابن كثير في معرض إنكاره على متن هذا الحديث: قال البيهقي:
زاد غيره عن محمد بن عمرو في هذا الحديث قال زيد: فو الذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه؛ وهذه الزيادة الأخيرة وردت عندنا، وكذا عند بعض من أخرجه، والضمير فيها يعود على زيد بن حارثة، فهذا اضطراب آخر.
قال ابن كثير في معرض إنكاره أيضا: وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرا حين سأله باللات والعزى: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما، قال: وقد فسر البيهقي قول جبير في حديثه رأيته بعرفات وهو على-(1/456)
فأنضجناها، قال: فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل بأعلى الوادي في يوم حار- دين قومه، قال البيهقي: معنى قوله على دين قومه: ما بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليه السلام، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.
نعم، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يتصور بعده أنه صلى الله عليه وسلم خرج لنصب من الأنصاب أو أنه ذبح له وعلى اسمه؟! سبحانك هذا بهتان عظيم، وقد بقيت أياما ضائق الصدر مضطرب النفس بسبب وقوفي على قول بعض المشتغلين بالتحقيق، فرأيته يقول بتحسينه، ويتعقب الذهبي لكونه وافق الحاكم في المستدرك بأنه على شرط مسلم وتناقض في السير فأنكره، وما درى هذا المسكين معنى موافقته مرة وإنكاره أخرى، وما ذلك إلّا لقصر باعه في فن المصطلح، فأما موافقته هناك على الإسناد وكونه على شرط مسلم فهو صحيح لا غبار عليه، ولا يعارض ذلك قوله هنا: في متنه نكارة بينة، إذ الحكم هنا منصب على الإسناد لا المتن، وكم من الأحاديث رجالها رجال الصحيح وفي متونها مخالفة ظاهرة، ولهذا فرّع أهل المصطلح الشاذ والمنكر فتأمل، ولولا خوف الإطالة لبذلت لك ما يوضح هذا المعنى الذي محله كتب المصطلح، ثم ما الفائدة من إثباته وفي متنه ما يخدش الرعاية الإلهية والتربية الربانية التي نعتقد أن خليله ومولاه خصه بها.
هذا ما كتبته في أول تعليقي على هذا الحديث حتى أوقفني الله على مزيد من ذلك للحافظ إبراهيم الحربي والذهبي وإليك ما جاء عنهما في هذا الحديث.
قال الحافظ إبراهيم الحربي في الغريب [2/ 791] : قوله: ذبحنا له شاة:
لذلك وجهان: إما أن يكون زيد فعله من غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضاه إلّا أنه كان معه فنسب ذلك إليه، لأن زيدا لم يكن معه من العصمة والتوفيق ما كان الله أعطاه نبيّه صلى الله عليه وسلم ومنعه مما لا يحل من أمر الجاهلية، قال: وكيف يجوز ذلك وهو قد منع زيدا في حديثه هذا بعينه أن يمس صنما، وما مسه النبي صلى الله عليه وسلم قبل نبوته ولا بعد، فهو ينهى زيدا عن مسه ويرضى أن يذبح له؟! هذا محال. -(1/457)
من أيام مكة، فلما التقينا حيّا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية:
- قال: والوجه الثاني: أن يكون ذبح لزاده في خروجه فاتفق ذلك عند صنم كانوا يذبحون عنده، فكان الذبح منهم للصنم، والذبح منه لله تعالى، إلّا أن الموضع جمع بين الذبحتين، فأما ظاهر ما جاء به الحديث فمعاذ الله.
قال: فأما حديث ابن عمر وسعيد بن زيد (يعني: المتقدمين) فليس فيهما بيان أنه صلى الله عليه وسلم ذبح أو أمر بذلك، ولعل زيدا ظن أن ذلك اللحم مما كانت قريش تذبحه لأنصابها، فامتنع لذلك، ولم يكن الأمر كما ظن، فإن كان ذلك فعل فبغير أمره ولا رضاه، قال: والفقهاء من الصحابة والتابعين مختلفون فيما ذبح لصنم أو كنيسة، فرخص فيه قوم إذا كانت الذكاة وقعت موقعها، ولم يلتفتوا إلى ما أضمره الذابح، فرخص أبو الدرداء، وأبو العرباض، وعبادة وجماعة من التابعين، وكرهه ابن عمر وعائشة وجماعة من التابعين، قال: وكراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوب وأحسن من غير طعن على من رخص ولا مخطّئه.
وقال الحافظ الذهبي معلقا على الوجه الثاني الذي ذكره الحربي: قلت:
هذا حسن فإنما الأعمال بالنية، أما زيد فأخذ الظاهر، وكان الباطن لله، وربما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن الإفصاح خوف الشر فإنما مع علمنا بكراهيته للأوثان، نعلم أيضا أنه ما كان قبل النبوة مجاهرا بذمها بين قريش ولا معلنا بمقتها قبل المبعث، ثم أورد رواية إبراهيم الحربي من طريق المسعودي عن نفيل بن هشام، عن أبيه عن جده قال: مر زيد برسول الله صلى الله عليه وسلم وبابن حارثة وهما يأكلان في سفرة فدعواه فقال: إني لا آكل مما ذبح على النصب، قال: وما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلا مما ذبح على النصب.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله ورضي عنه: فهذا اللفظ مليح يفسر ما قبله، قال: وما زال المصطفى محفوظا محروسا قبل الوحي وبعده، ولو احتمل جواز ذلك، قال: فبالضرورة ندري أنه كان يأكل من ذبائح قريش قبل الوحي وكان ذلك على الإباحة، وإنما توصف ذبائحهم بالتحريم بعد نزول-(1/458)
أنعم صباحا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما لي أراك يا ابن عمرو قد شققت عصا قومك؟ قال: إن ذلك من غير نائرة كانت مني فيهم، ولكني وجدتهم يشركون بالله، وكرهت أن أشرك بالله، وأردت دين إبراهيم عليه السلام، فأتيت أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ليس هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار أيلة، فقلت: ليس هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار الشام، فقال رجل منهم:
إنك لتسأل عن دين ما نعلم أن أحدا من أهل الأرض يعبد الله به إلّا شيخا بالجزيرة، فأتيته فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل بيت الشوك والقرظ من أهل حرم الله، فقال لي: ارجع، فقد أطلع الله تبارك وتعالى نجم نبي قد خرج- أو هو خارج- فاتبعه فإنه يعبد الله بالدين الذي تسأل- الآية، كما أن الخمرة كانت على الإباحة إلى أن نزل تحريمها بالمدينة بعد يوم أحد.
قال: والذي لا ريب فيه أنه كان معصوما قبل الوحي وبعده وقبل التشريع من جميع الرذائل وأعمال الجاهلية والسفه وكشف العورة فلم يكن يطوف عريانا ولا كان يقف يوم عرفة مع قومه بمزدلفة، بل كان يقف بعرفة، وبكل حال لو بدا منه شيء من ذلك لما كان عليه تبعة لأنه كان لا يعرف، قال:
ولكن رتبة الكمال تأبى وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم تسليما [سير أعلام النبلاء 1/ 129- 135] .
وقال الحافظ في الفتح معلقا على قول زيد: مما تذبحون على أنصابكم: قال القاضي عياض في عصمة الأنبياء قبل النبوة: إنها كالممتنع، لأن النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح، فعلى هذا فالنواهي إذا لم تكن موجودة فهي معتبرة في حقه، قال الحافظ: فإن فرعنا على هذا فالجواب عن قوله: ذبحنا شاة على بعض الأنصاب يعني: الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، -(1/459)
عنه، قال: فقدمت فو الله ما أحسن شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فهل لك في الطعام؟ قال: نعم، فوضع الشاة بين يديه، فقال: لأي شيء ذبحت يا محمد؟ قال: لنصب من الأنصاب، قال: ما كنت لآكل شيئا ذبح لغير الله، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لوجهه ذلك فلم يلبث إلّا يسيرا حتى أتته النبوة.
قال زيد: وانطلق صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وبفناء الكعبة صنمان، يقال لأحدهما: أساف، وللآخر: نائلة والناس يتمسحون بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمسهما، فقال: لأمسّنهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه؟ فو الله ما مسستهما حتى أنزل عليه الكتاب.
- وإنما هي من آلات الجزار التي يذبح عليها، لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه ومنها ما لا يعبد بل يكون من آلات الذبح فيذبح الذابح عليه لا للصنم، أو كان امتناع زيد منها حسما للمادة، الفتح [7/ 178] .
والحديث أخرجه النسائي في المناقب من السنن الكبرى [5/ 54] رقم 8188، وهو في جزء ابن بشار برقم (1) ، ومن طريق ابن بشار أخرجه أبو يعلى في مسنده [13/ 170- 172] . رقم 7212، ومن طريق أبي يعلى ابن عساكر في تاريخه [19/ 343] .
وأخرجه إبراهيم الحربي في الغريب بلفظ مختصر [2/ 790] ، والطبراني في معجمه الكبير [5/ 86- 88، 88] الأرقام 4663، 4664، 4665، والبزار في مسنده [3/ 283، كشف الأستار، رقم 2755] ، والحاكم في المستدرك [3/ 216- 217] ، وابن الجوزي في المنتظم [2/ 329] ، وابن عساكر في تاريخه [19/ 345- 346، 508، 509] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 124- 126] .(1/460)
175- قال: وذكر زيد بن عمرو بن نفيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يبعث يوم القيامة أمة وحده.
176- وقد روي عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن قالت: كان ببوانة صنما تعظمه قريش، يحلقون رؤوسهم عنده، وتنسك له النسائك ويعكفون عنده يوما إلى الليل، وذلك يوم في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه، حتى رأيت أبا طالب غضب، وكانت عماته غضبن يومئذ أشد (175) - قوله: «يبعث يوم القيامة أمة وحده» :
يأتي تخريجه في فضائله إن شاء الله تعالى.
(176) - قوله: «كان ببوانة» :
بوانه: هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر، قريب منها ماء المجاز وماء القصيبة، وفيها يقول ابن ضرار:
نظرت وسهب من بوانة دوننا ... وأفيح من روض الرباب عميق
قال ياقوت في معجم البلدان: وهذا يريك أنه جبل.
وقد ورد ذكره في الحديث، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده [3/ 419] من حديث كردم بن سفيان أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر نذره في الجاهلية- في غير رواية أحمد: خمسين شاة على بوانة- فقال له النبي: للوثن أو النصب؟ قال: لا، ولكن لله تبارك وتعالى، قال: فأوف لله تبارك وتعالى مما جعلت له، انحر على بوانة وأوف بنذرك.
قوله: «رأيت أبا طالب غضب» :
زاد في رواية ابن سعد: عليه، وكذلك عند قوله: وكانت عماته غضبن، زاد فيها: عليه، أخرجه في الطبقات [1/ 158] من طريق شيخه الواقدي، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله ابن العباس، عن عكرمة، به، ومن طريق ابن سعد أخرجه ابن-(1/461)
الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ما تريد أن تحضر عيدا لقومك، ولا تكثر لهم جمعا.
فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا فقال له عماته: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟
قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد، يا محمد لا تمسه.
قالت: فما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نبّىء.
177- وروى عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيته يومي والغد فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال: يا فتى لقد شققت علي، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك.
- الجوزي في المنتظم [2/ 284] ، حوادث سنة ثمان من مولده.
تابعه أبو معاوية المساحقي، عن أبي بكر، أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 186- 187] رقم 129.
قلت: ابن أبي سبرة رماه بعضهم بالوضع.
(177) - قوله: «منذ ثلاث انتظرك» :
أخرجه أبو داود في الأدب، باب: في العدة، رقم 4996، وابن سعد في الطبقات [7/ 59] ، والبيهقي في السنن الكبرى [10/ 198] ، والخرائطي في مكارم الأخلاق برقم 177، وابن عساكر في تاريخه [4/ 52] ، وأبو نعيم في المعرفة [3/ 1625] رقم 4090، وابن الأثير في الأسد [3/ 217] .(1/462)
178- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مع أصحابه مشوا أمامه وتركوا ظهره للملائكة.
179- وعن أبي ذر الغفاري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام إلّا ونحن حوله من مخافة الغوائل، حتى نزلت آية العصمة: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الآية.
(178) - قوله: «وتركوا ظهره للملائكة» :
أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3/ 302، 332، 397، 398] ، والدارمي كذلك رقم 47- فتح المنان، وابن ماجه في مقدمة السنن، باب من كره أن يوطأ عقبه، رقم 246، والبغوي في الأنوار [1/ 353] رقم 464، والطحاوي في مشكل الآثار، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم [/ 99] من حديث الأسود ابن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله، به، صححه ابن حبان برقم 6312- إحسان، والحاكم في المستدرك [2/ 411، 4/ 281] ، ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(179) - قوله: «وعن أبي ذر الغفاري» :
هو جندب بن جنادة، أحد السابقين الأولين، وسيد الزهاد والمتصوفين، ومن نجباء أصحابه صلى الله عليه وسلم.
يقال: كان خامس خمسة في الإسلام، كان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، له مناقب وفضائل مذكورة في المطولات ويأتي شيء منها في الفضائل.
قوله: «مخافة الغوائل» :
أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 198- 199] رقم 151 بإسناد فيه حبان بن علي العنزي، وغالب بن عبيد وهما ضعيفان، لكن يشهد له الحديث بعد الآتي.(1/463)
180- وروى عمار بن ياسر قال: كنت أرعى غنيمة أهلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرعى غنيمة أهله في الجاهلية، فقلت: يا محمد هل لك في فج، فإني تركتها روضة تزف؟ قال: نعم، فتواعدنا أن نعدو إليها، فجئتها وقد سبقني محمّد صلى الله عليه وسلم وهو قائم يذود غنمه عن الروضة، فقلت:
ما منعك أن تدعها ترعى في الروضة؟ فقال: إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك.
181- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس حتى (180) - قوله: «فكرهت أن أرعى قبلك» :
يعني: لما كان من الموعد بينهما، وقد جبل صلى الله عليه وسلم منذ بدء نشأته على الأخلاق الرفيعة المحمودة صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث أن عمار بن ياسر كان صديق النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وفي كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بن بكار ما يشير إلى ذلك، فأخرج فيه [/ 27] في قصة زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة من حديث محمد بن الحسن، عن عبد السلام بن عبد الله، عن معروف بن خربوذ قال: قال عمار بن ياسر:
أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، كنت صديقا له في الجاهلية، فأقبلت معه وهو ابن بضع وعشرين سنة.. القصة.
والحديث أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [4/ 11] رقم 2305 من حديث الهيثم بن عدي- إخباري متروك الحديث بابة الواقدي- عن أبي اليقظان بن أبي عبيد- لا يعرف- عن لؤلؤة مولاة عمار، عنه به.
(181) - قوله: «وعن عائشة رضي الله عنها» :
أخرج حديثها الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة المائدة، رقم 3046 وقال: هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس.. ولم يذكروا فيه:
عن عائشة. -(1/464)
نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبّة وقال: يا أيها الناس ارجعوا فقد عصمني الله.
182- وعن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان أبو طالب يرسل معه برجال من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ
- وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير [4/ 1173] رقم 6615، وابن جرير في تفسيره [6/ 308] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 171] ، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 313] ، قال الذهبي: صحيح.
قلت: قال الواحدي في أسباب النزول [/ 150] ، قالت عائشة رضي الله عنها: سهر النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال:
ألا رجل صالح يحرسنا الليلة؟ فقالت: بينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال: سعد وحذيفة، جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه، ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم، وقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله.
هكذا ربط الواحدي بين المتن الأول والثاني، وهذا بهذا السياق عن عائشة منكر، أخرجه مسلم في فضائل الصحابة برقم 2410، إلى قوله: غطيطه ليس فيه ذكر حذيفة ولا الشطر الأخير منه.
(182) - قوله: «وعن عكرمة، عن ابن عباس» :
أخرجه الواحدي في أسباب النزول [/ 151] ، وابن عدي في الكامل [7/ 2488] ، والطبراني في معجمه الكبير [11/ 256- 257] رقم 11663، جميعهم من طريق الحماني، عن النضر بن عبد الرحمن، به، قال ابن عدي:
وهذه الأحاديث عن أبي يحيى- يعني الحماني- عن النضر كلها غير محفوظة ومع ضعفه يكتب حديثه.(1/465)
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الآية، فأراد عمه أن يرسل معه فقال: يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس.
183- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: لما نزلت:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ الآية، أقبلت أروى أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا (183) - قوله: «وفي يدها فهر» :
الفهر: الحجر بمقدار ملء الكف، ويقال: هو الحجر مطلقا.
والحديث أخرجه الحميدي في مسنده برقم 323، وأبو يعلى في مسنده [1/ 54] رقم 53، وابن أبي حاتم في تفسير سورة تبت [10/ 3472] رقم 19522، والبيهقي في الدلائل [2/ 195- 196، 196] ، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 361] ، وقال الذهبي: صحيح.
وذكر الحافظ السيوطي في الدر المنثور [5/ 295] أن ابن أبي حاتم صححه، وعزاه أيضا لابن مردويه، وأبي نعيم في الدلائل.
قلت: في الإسناد تدرس جد محمد بن مسلم بن تدرس الراوي عن أسماء وقع عند الجميع ابن تدرس وهو يحتمل، لأن الوليد يروي عن ابن شهاب والطبقة، لكن قال الهيثمي في مجمع الزوائد [6/ 16- 17] : فيه تدرس جد أبي الزبير ولم أعرفه. اه، وتصحف في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم إلى: ابن بردوس.
وفي الباب عن أبي هريرة، وعن ابن عباس، وأبي بكر الصديق، وزيد بن أرقم.
حديث أبي هريرة يأتي في إثر هذا.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو يعلى في مسنده [1/ 33- 34، 4/ 246] رقم 25، 2358، والبزار في مسنده [3/ 83، 84 كشف الأستار] رقم 2294، 2295- ومن طريقه ابن بشكوال في غوامض الأسماء-(1/466)
- ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المجلس، ومعه أبو بكر- فلما رآها قال:
يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لن تراني، وقرأ قرآنا اعتصم به وقال: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) ، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا، ورب هذا البيت ما هجاك.
184- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا كيف-[1/ 190] رقم 47-، وأبو نعيم في الدلائل برقم 141، وصححه ابن حبان- كما في الإحسان برقم 6511-.
وقال البزار: وهذا أحسن الإسناد، ويدخل في مسند أبي بكر، وقال الدارقطني في أطراف الغرائب [3/ 174] رقم 2348: غريب من حديث عطاء، عنه، تفرد به عبد السلام بن حرب، عنه، وعنه أبو أحمد الزبيري، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [7/ 144] : فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وحسنه الحافظ في الفتح [8/ 738] .
وأما حديث أبي بكر فكما قال البزار أنه يدخل في مسنده يعني لا من مسند أسماء، وقد عزاه السيوطي في الدر المنثور [5/ 296] ، لابن مردويه من حديث أبي بكر.
وأما حديث زيد بن أرقم فأخرجه الحاكم في المستدرك [2/ 526] ، ذكر فيه علة، فأخرجه من وجه آخر فذكر بدل زيد بن أرقم يزيد بن زيد.
(184) - قوله: «وعن أبي هريرة» :
أخرجه البخاري في المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده [2/ 244، 340] ، والنسائي في الطلاق، باب الإبانة والإفصاح بالكلمة، رقم 3438، والبيهقي في السنن الكبرى [8/ 252] ، وفي الدلائل [1/ 152] وغيرهم.(1/467)
يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمّد، صلى الله عليه وسلم.
185- وعن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجدّا بمكة، فجاء إبليس فأراد أن يطأ على عنقه فنفحه جبريل عليه السّلام نفحة بجناحه فوقع إلى الأردن.
186- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما أنا أصلي البارحة (185) - قوله: «فوقع إلى الأردن» :
أخرجه الطبراني في الأوسط [3/ 404] رقم 2868، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 190- 191] رقم 136، كلاهما من حديث عثمان بن مطر- أحد الضعفاء- عن ثابت، عنه به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 229] : فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف.
(186) - قوله: «بينما أنا أصلي البارحة» :
هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره، فرقه البخاري على الأبواب، أكتفي بإيراد لفظه في الصلاة، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن عفريتا من الجن تفلّت عليّ البارحة- أو كلمة نحوها- ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي الآية، وأخرجه مسلم في الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة رقم 541.
وأخرجه مسلم في حديث أبي الدرداء أيضا وفيه: ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة، رقم 542، لكن ليس في لفظه أن ذلك كان في البارحة، بل ظاهر السياق أن ذلك كان وهو معهم في المسجد يؤمهم، فكأن المصنف جمع في روايته بين اللفظين.(1/468)
إذ جاءني الشيطان ليفتنني عن صلاتي فأخذته ورعبته، فذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته، ولولا ذلك لأصبح مربوطا إلى سارية من سواري المسجد يلعب به ولدان أهل المدينة ينظرون إليه.
187- وعن جعفر بن سليمان الضّبعي، عن أبي التياح قال:
سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش- وكان شيخا كبيرا- فقال:
(187) - قوله: «وعن جعفر بن سليمان الضبعي» :
نزيلهم، كان ينزل في بني ضبيعة فنسب إليهم، وصفه الحافظ الذهبي بالمحدث العالم الزاهد، وقال: محدث الشيعة، وكان من عبادهم وعلمائهم، أخرج له الجماعة سوى البخاري.
تهذيب الكمال [5/ 43] ، تهذيب التهذيب [2/ 81] ، الكاشف [1/ 129] ، التقريب [/ 140] ، سير أعلام النبلاء [8/ 197] .
قوله: «عن أبي التياح» :
البصري، اسمه: يزيد بن حميد الضبعي، وصفه الحافظ الذهبي في سيره بالإمام الحجة، وكان من الأئمة أهل العبادة والصلاح، حديثه عند الجماعة.
تهذيب الكمال [32/ 109] ، تذهيب التهذيب [11/ 280] ، الكاشف [3/ 241] ، التقريب [/ 600] ، سير أعلام النبلاء [5/ 251] .
قوله: «سأل رجل» :
السائل: هو أبو التياح نفسه، تارة يصرح بذلك، وتارة يبهم نفسه.
قوله: «عبد الرحمن بن خنبش» :
- بمعجمة، ثم نون، وبعد الموحدة شين معجمة- التميمي، جاء في بعض الروايات أنه أدرك الجاهلية، والأكثر على إثبات الصحبة له.
الإصابة [6/ 275] ، أسد الغابة [3/ 433] ، الاستيعاب [6/ 42] ، التجريد [1/ 346] .(1/469)
يا ابن خنبش كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال: تحدرت عليه الشياطين من الجبال والأودية يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم شيطان معه شعلة نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع منهم، فجاءه جبريل عليه السّلام فقال: قل، قال: ما أقول؟ قال قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر كل طارق إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن.
قال: فطفئت نار الشياطين، وهزمهم الله عزّ وجلّ.
188- وروي عن بعض الصحابة أنه قال: جاء عفريت من الجن بشعلة من نار ليقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، فأتاه جبريل فقال:
- قوله: «إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» :
أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3/ 419، 443] ، ومن طريقه أبو نعيم في المعرفة [4/ 1837] رقم 4637، وابن الأثير في الأسد [3/ 443] .
وأخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة [1/ 287] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [7/ 95] ، وأخرجه البخاري في تاريخه [5/ 248- 249] الترجمة رقم 810 تعليقا، وابن أبي شيبة في المصنف [7/ 419، 10/ 364] رقم 3653، 9671، وأبو يعلى الموصلي في مسنده [12/ 237] رقم 6844، والدارقطني في المؤتلف [2/ 696- 697] ، وأبو نعيم في المعرفة [4/ 1836- 1837] رقم 4636، وفي الدلائل [1/ 191] رقم 137.
(188) - قوله: «وروي عن بعض الصحابة» :
هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، الصحابي، الحبر، والنجباء أهل بدر، أحد السابقين الأولين، والعلماء العاملين، شهد بدرا، وهاجر الهجرتين، ومناقبه غزيرة. -(1/470)
يا محمد أما إنك لو قلت: أعوذ بكلمات الله التامات كلها التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، انكب لوجهه، وطفئت شعلته، فقالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكب لوجهه وطفئت شعلته.
189- وروي أنه صلى الله عليه وسلم دعا بخفيه ليلبسهما، فلبس أحدهما، إذ جاء- سير أعلام النبلاء [1/ 461] ، أسد الغابة [3/ 384] ، الإصابة [6/ 214] ، الاستيعاب [7/ 20] .
قوله: «جاء عفريت من الجن» :
أخرجه أبو نعيم في الدلائل [1/ 192] رقم 138، والطبراني في الصغير- فيما ذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [10/ 127- 128] ، قال: فيه من لم أعرفه.
قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» :
في رواية الطبراني وأبي نعيم: أعوذ بوجه الله الكريم وكلماته ...
الحديث، اختصر المصنف الدعاء وهو بنحو ما قبله.
وفي الباب أيضا عن خالد بن الوليد، وعن مكحول مرسلا.
حديث خالد بن الوليد روي بأسانيد وطرق، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [7/ 418] رقم 3651، [10/ 363] رقم 9669، والحافظ عبد الرزاق في المصنف [11/ 35] رقم 19831، والطبراني في الأوسط [6/ 197] رقم 5411، والبيهقي في الدلائل [7/ 96] .
وأما حديث مكحول فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [10/ 362] رقم 9667، [14/ 501- 502] رقم 18784.
(189) - قوله: «حتى ينفضهما» :
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير [8/ 161] ، قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: فيه من لا يعرف، وقال الهيثمي فيما نقله عنه الزبيدي في الإتحاف [6/ 423] : صحيح إن شاء الله. -(1/471)
غراب فاحتمل الآخر فرماه، فخرجت منه حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما.
- قلت: في إسناده محمد بن عوف الحمصي- ثقة- ثنا سعيد بن روح، ومحمد ابن عوف هذا يروي عن الربيع بن روح فلا أدري أهو أخوه أو تصحف، لم أر من ذكره، وبقية رجاله موثقون.
وله طريق أخرى ضعيفة فأخرج أبو نعيم في الدلائل برقم 150، والخرائطي في مكارم الأخلاق [2/ 956] رقم 1077 من حديث عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته ثم توضأ ولبس أحد خفيه فجاء طائر أخضر فأخذ الخف الآخر فارتفع به، ثم ألقاه فخرج منه أسود سالخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه كرامة أكرمني الله عزّ وجلّ بها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهمّ إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، ومن شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع. في الإسناد حبان بن علي، وسعد بن طريف الإسكافي وهما ضعيفان.(1/472)
[44- فصل: في حراسة الله عزّ وجلّ السّماء، ومنعه الجانّ ومردة الشّياطين من استراق السّمع عند بعثته صلى الله عليه وسلم]
44- فصل: في حراسة الله عزّ وجلّ السّماء، ومنعه الجانّ ومردة الشّياطين من استراق السّمع عند بعثته صلى الله عليه وسلم 190- روي: أن الجن لم تكن تمنع من مقاعدها، فلما بعث (190) - قوله: «روي: أن الجن لم تكن تمنع من مقاعدها» :
أخرج الإمام أحمد في مسنده [1/ 323] ، والترمذي في التفسير برقم 3324، والنسائي في التفسير أيضا من السنن الكبرى [6/ 500] رقم 11626، من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت الجن تصعد إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقّا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس- ولم تكن النجوم ترمى قبل ذلك- فقال لهم إبليس:
ما هذا إلّا لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض، صححه الترمذي وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة، وابن جرير، وغيرهم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 167] من حديث عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما بعث محمّد صلى الله عليه وسلم دحر الجن، ورموا بالكواكب، وكانوا قبل ذلك يستمعون، لكل قبيلة من الجن مقعد يستمعون فيه ... الحديث.
وأخرجه أبو نعيم في الدلائل والبيهقي وابن جرير، وغيرهم. وأخرج أبو نعيم من طريق الواقدي، عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى بن مريم حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بها ... الحديث، ذكره السيوطي في الدر المنثور والخصائص. -(1/473)
النبي صلى الله عليه وسلم منعت عن مقاعدها، وحرست السماء بالشهب، وأن النجوم لم تكن ترمى بها في أول الدهر، إلى أن ولد النبي صلى الله عليه وسلم فرمي بها حين بعث.
- قوله: «لم تكن ترمى بها في أول الدهر» :
الأصل فيه قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) الآية، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) الآية، وقوله تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ الآية، وقوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) الآية.
أخرج الشيخان من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين فقالوا:
ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قال:
ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) الآية، وأنزل الله عزّ وجلّ على نبيّه صلى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ الآية، وإنما أوحي إليه قول الجن لفظ البخاري في التفسير من الصحيح، باب سورة: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ.
نهاية الجزء الأول من كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم في ترتيبنا، ويليه إن شاء الله الجزء الثاني، وأوله جامع أبواب نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين.(1/474)
فهرس موضوعات المجلد الأول
الموضوع/ الصفحة قسم الدراسة كلمة المحقق الشارح 5
الفصل الأول: في ترجمة المؤلف صاحب شرف المصطفى 9
الفصل الثاني: ذيل للترجمة المتقدمة، وفيه ما وقف عليه المحقق من الأوهام في اسم المصنف وكنيته وتسمية كتابه 22
الفصل الثالث: في أهمية موضوع الكتاب وسبب تأليفه 27
الفصل الرابع: في أن تعظيمه صلى الله عليه وسلم وإظهار شرفه واعتقاد أفضليته من أصول الدين 29
الفصل الخامس: كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتناول المصنف لموضوعه، ومن روى عنه أو اقتبس منه أو أشار إليه 33
الفصل السادس: وصف حال كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصوله الخطية، وعملنا في التحقيق 45
نماذج من النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق 51
الفصل السابع: في تراجم الرواة المذكورين في سند الكتاب 67
الفصل الثامن: في تراجم بعض من سمع الكتاب ودوّن سماعه في أصله 73
الفصل التاسع: في ذكر سند المحقق إلى أبي القاسم القشيري راوي الكتاب، وسنده إلى عمر بن يوسف صاحب الأصل والسماع 79(1/475)
النص محقّقا مقدمة المؤلف 85
جامع أبواب بشائره صلى الله عليه وسلم باب: في شأن من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بألف سنة 93
فصل: ذكر حديث نمرود، وسبب هلاكه 109
فصل: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة الغساني حين أتى مكة 113
فصل: في ذكر حديث سطيح بن ربيعة في رؤيا الموبذان وخمود النيران ليلة مولده صلى الله عليه وسلم 121
فصل: في ذكر حديث آخر لسطيح وشق 128
فصل: ذكر ما ظهر في بني إسرائيل من أمارات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم 137
فصل: في ما جاء في الكتب المتقدمة من التنويه بشرفه صلى الله عليه وسلم والتعريف بفضله 158
فصل: في قصة الفيل وما جرى بين عبد المطلب وأبرهة الأشرم 181
فصل: في بشارة سيف بن ذي يزن بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخباره عبد المطلب بأمره 188
فصل: في ذكر من تسمى في الجاهلية باسمه رجاء أن تدركه النبوة 193
فصل: ذكر حديث سواد بن قارب الأزدي في سبب إسلامه وقدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم 198
فصل: ذكر الكاهنة التي تعرضت لعثمان بن عفان 208
فصل: ذكر إسلام عمرو الهذلي 210
فصل: ذكر حديث قس بن ساعدة 212
فصل: في ذكر قصة يوشع اليهودي 225
فصل: ذكر حديث عمرو بن مرة بن قيس بن جهينة 228
فصل: ذكر إسلام خفاف بن نضلة 233
فصل: ذكر قصة إسلام عباس بن مرداس 235(1/476)
فصل: ذكر إسلام زمل بن ربيعة 238
فصل: ذكر قصة أكثم بن صيفي 241
فصل: ذكر قصة إسلام عبد بن عمرو بن جبلة وعصام بن عامر الكلبي 244
فصل: ذكر قصة إسلام جندل بن نضلة 246
فصل: ذكر قصة مازن بن أبي حيان وسبب إسلامه ووفوده على النبي صلى الله عليه وسلم 248
فصل: ذكر قصة الجعد بن قيس المرادي 252
فصل: ذكر قصة إسلام ذباب بن الحارث 253
فصل: ذكر إسلام رافع بن خداش 255
فصل: ذكر قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه 256
فصل: ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه 261
فصل: ذكر قصة أبي عمير بن الهيبان 270
فصل: ذكر إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه 272
فصل: ذكر إسلام كعب الأحبار 275
فصل: ذكر قصة النجاشي وإسلامه رحمه الله تعالى 278
جامع أبواب ظهوره صلى الله عليه وسلم ومولده الشريف باب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وانقلابه في أصلاب آبائه 285
فصل: في زواج عبد المطلب بن عبد مناف وولادة عبد الله أبي المصطفى صلى الله عليه وسلم 337
فصل: في قصة زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب، وقصة حملها بالمصطفى صلى الله عليه وسلم 341
باب: في ذكر رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم 365
باب تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور أمارات النبوة فيه 386
باب ذكر حلف المطيبين من قريش 393
فصل: في حلف الفضول 397
فصل: في ذكر ما جرى في رحلته صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام 403(1/477)
فصل: ذكر ابتداء قصته صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها وإسلامها 407
فصل: في ابتداء الوحي، كيف كان؟ 419
باب: في ذكر عصمة الله نبيه صلى الله عليه وسلم من التدين بغير الحق 443
فصل: في حراسة الله السماء ومنعه الجان ومردة الشياطين من استراق السمع 473(1/478)
الجزء الثاني
[جامع أبواب نسبه الشّريف صلى الله عليه وسلم وما جاء في طهارة أصله وكرامة محتده صلى الله عليه وسلم]
جامع أبواب نسبه الشّريف صلى الله عليه وسلم وما جاء في طهارة أصله وكرامة محتده صلى الله عليه وسلم(2/5)
[45- باب نسب النّبيّ صلى الله عليه وسلم]
45- باب نسب النّبيّ صلى الله عليه وسلم 191- حدثنا الحاكم أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ رضي الله عنه قال: أخبرني أبو جعفر: محمد بن صالح بن هانىء،.........
(191) - قوله: «حدثنا الحاكم» :
ترجم له الحافظ الذهبي في كتبه فأثنى عليه كثيرا، فكان مما قاله: الإمام الحافظ، الناقد العلامة، شيخ المحدثين: أبو عبد الله بن البيّع الضبي، الطهماني، النيسابوري، الشافعي، صاحب التصانيف.
مولده في يوم الإثنين، ثالث شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة بنيسابور، كان ممن طلب هذا الشأن في صغره بعناية والده وخاله، فلحق الأسانيد العالية بخراسان والعراق وما وراء النهر، وسمع من نحو ألفي شيخ، فصنف وخرّج، وجرح وعدل، وصحح وعلل، وكان من بحور العلم على تشيع قليل فيه، انظر أخباره وسيرته في:
الوافي بالوفيات [3/ 320] ، تاريخ بغداد [5/ 473] ، وفيات الأعيان [4/ 280] ، سير أعلام النبلاء [17/ 162] ، تذكرة الحفاظ [3/ 1039] ، غاية النهاية لابن الجزري [2/ 184] ، طبقات السبكي [4/ 155] ، المنتظم [15/ 109] ، النجوم الزاهرة [4/ 238] ، العبر [3/ 91] ، البداية والنهاية [11/ 355] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 405- ص 122] ، طبقات ابن قاضي شهبة [1/ 197] ، طبقات الإسنوي [1/ 405] ، الميزان [3/ 608] ، لسان الميزان [5/ 232] .
قوله: «أخبرني أبو جعفر» :
مذكور فيمن روى عن ابن عبيدة الآتي، وذكره السهمي فيمن روى عن-(2/7)
ثنا أبو بكر: أحمد بن محمد بن عبيدة، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا عقبة بن مكرم، ثنا محمد بن زياد، ...
- عبد المؤمن بن عيسى، من تاريخ جرجان، ولم أر من أفرده بترجمة.
قوله: «أحمد بن محمد بن عبيدة» :
النيسابوري، الإمام الحافظ الرحالة أبو بكر الشعراني المستملي، وثقه الخطيب في تاريخه، والذهبي في سيره ووصفه بالإمام الحافظ الرحالة.
تاريخ بغداد [5/ 55] ، سير أعلام النبلاء [14/ 410] ، تاريخ ابن عساكر [5/ 403] .
قوله: «محمد بن إسماعيل الأحمسي» :
كنيته: أبو جعفر السراج، كوفي ثقة من رجال الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
تهذيب الكمال [24/ 477] ، تهذيب التهذيب [9/ 50] ، الكاشف [3/ 19] ، التقريب [/ 468] .
قوله: «ثنا عقبة بن مكرم» :
الضبي، كوفي لا بأس به، ذكره أصحاب التهذيب للتمييز.
تهذيب الكمال [20/ 226] ، تهذيب التهذيب [7/ 223] ، التقريب [/ 395] .
قوله: «ثنا محمد بن زياد» :
الطحان، كوفي من رجال الترمذي، حمل عليه الإمام أحمد وقال: ما كان أجرأه؛ يقول: حدثنا ميمون بن مهران!! وكذبه، وضعفه الجمهور.
تهذيب الكمال [25/ 222] ، تهذيب التهذيب [9/ 150] ، الكاشف [3/ 39] ، التقريب [/ 479] ، الميزان [4/ 472] .(2/8)
عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس أنه قال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن يامين بن يشجب بن تيرح بن صابوح بن الهميسع بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح بن ناحور ...
قوله: «عن ميمون بن مهران» :
الجزري، أصله من الكوفة، ثم نزل الرقة، وهو أحد الفقهاء الثقات، والعلماء العباد، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، حديثه عند الجماعة سوى البخاري.
تهذيب الكمال [29/ 210] ، سير أعلام النبلاء [5/ 71] ، حلية الأولياء [4/ 82] ، تذكرة الحفاظ [1/ 98] ، تهذيب التهذيب [10/ 349] ، التقريب [/ 556] .
قوله: «هو محمد بن عبد الله» :
أخرج نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم من طرق بتقديم وتأخير في الآباء واختلاف في الضبط، وبالحذف والزيادة جماعة، منهم: ابن سعد في الطبقات [1/ 54- 59] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 47- 65] ، وابن جرير في تاريخه [2/ 272- 276] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 177- 183] .
وأخرجه البخاري في تاريخه الكبير [1/ 5] بإسناده إلى ابن إسحاق، ومن طريق البخاري أخرجه البيهقي في الدلائل [1/ 180] ، في الشعب [2/ 137] رقم 1389.
قوله: «ابن يشجب بن تيرح» :
ليست في «ب» ، وفيها أيضا: يرد، بدل: نبت، وفي بعض المصادر:
تيرح، بدل: تارح، يقال: هو آزر.(2/9)
ابن ساروع بن أرغوا بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن أخنوخ- وهو إدريس- بن مهلاييل بن يارد ...
قوله: «ساروع» :
اختلف ضبطها في المصادر، فجاءت بغير تقييد أو ضبط هكذا: ساروغ وساروح وشاروخ.
قوله: «ابن أرغوا» :
أو: راغو وأرغو أيضا، ومعناه: قاسم، قاله مغلطاي في الإشارة.
قوله: «ابن فالخ» :
بالخاء أو الغين المعجمتين.
قوله: «ابن عابر» :
أو عيبر وهو هود عليه الصلاة والسلام.
قوله: «ابن شالخ» :
ومعناه: الرسول أو الوكيل، قاله مغلطاي في الإشارة.
قوله: «أرفخشذ» :
معناه: المصباح المضيء.
قوله: «ابن نوح» :
حكى مغلطاي في الإشارة أن اسمه عبد الغفار.
قوله: «ابن لمك» :
وقيل: لمكان، حكاه مغلطاي، وعند ابن حبان في مقدمة الثقات: ملكان.
قوله: «ابن مهلاييل» :
معناه: الممدّح.
قوله: «ابن يارد» :
أو يرد- كما في «ب» وبعض المصادر الأخرى، وحكى مغلطاي في الإشارة أيضا: الرّايد، قال: ومعناه: الضابط.(2/10)
ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السّلام.
192- عن جبير بن مطعم، عن أبي بكر الصديق قال: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب- واسم عبد المطلب: شيبة- ابن هاشم: وسمي هاشما لأنه أول من هشم الثريد لقومه قريش بمكة، وإنما سمي عمرو العلى بن عبد مناف بن قصي- وكان يدعى مجمّعا- وله يقول الشاعر:
أبوه قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر
وهو: قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة- واسمه: عامر- ابن خندف، وهو:
إلياس بن مضر- وإنما خندف أم غلبت على نسب ولدها-، وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن يولع بن سالف بن عابر بن منين بن الصاح بن العوام بن أمين بن يشجب بن نبت بن حمل بن قيذار، وهو ابن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن آزر- واسمه بالسريانية: قوله: «ابن قينان» :
ومعناه: المستوي، قاله مغلطاي في الإشارة.
قوله: «بن أنوش» :
أو: يافش، ومعناه: الصادق.
قوله: «بن شيث» :
ويقال: شات، ومعناه: هبة الله أو: عطية الله. قاله مغلطاي.
(192) - قوله: «ابن أدد» :
ليس بين المصادر اتفاق فيما بعده لا في الضبط ولا في الترتيب ولا في العدد.(2/11)
تارح- ابن ناحور بن ساروعوا بن أرغوا، وهو بالعربية: هود بن فالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن المتوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم صلى الله عليهم أجمعين.
193- وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب إلى إبراهيم عليه السّلام ثم قال:
كذب النسابون، ولم يذكر ما بعد إبراهيم من النسب، فثبت من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو:
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم صلاة الله عليهم أجمعين.
(193) - قوله: «ولم يذكر ما بعد إبراهيم» :
أخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 56] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 59- 60] من حديث الكلبي- ضعيف- عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك وقال: كذب النسابون، قال الله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً، قال ابن عباس: ولو شاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه.
ويحسن هنا إيراد قصيدة الإمام أبي العباس عبد الله بن محمد الناشي المعروف بابن شرشير التي نظم فيها نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم، إذ تعتبر من أحسن ما نظم في الباب، حتى قال الحافظ ابن كثير في تاريخه يمدحه: -(2/12)
.........
- هذه القصيدة تدل على فضيلته وبراعته، وفصاحته وبلاغته، وعلمه وفهمه، وحفظه وحسن لفظه، وإطلاعه واضطلاعه، واقتداره على نظم هذا النسب الشريف في سلك شعره وغوصه على هذه المعاني التي هي جواهر نفيسة من قاموس بحره، فرحمه الله وأثابه وأحسن مصيره وإيابه.
مدحت رسول الله أبغي بمدحه ... وفور حظوظي من كريم المآرب
مدحت امرءا فاق المديح موحدا ... بأوصافه عن مبعد أو مقارب
نبيّا تسامى في المشارق نوره ... فلاحت هواديه لأهل المغارب
أتتنا به الأنباء قبل مجيئه ... وشاعت به الأخبار في كل جانب
وأصبحت الكهان تهتف باسمه ... وتنفي به رجم الظنون الكواذب
وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت ... إلى الله فيه من مقال الأكاذب
وقالت لأهل الكفر قولا مبينا ... أتاكم نبي من لؤي بن غالب
ورام استراق السمع جن فزيلت ... مقاعدهم منها رجوم الكواكب
هدانا إلى ما نكن نهتدي له ... لطول العمى من واضحات المذاهب
وجاء بآيات تبين أنها ... دلائل جبار مثيب معاقب
فمنها انشقاق البدر حين تعممت ... شعوب الضيا منه رؤس الأخاشب
ومنها نبوع الماء بين بنانه ... وقد عدم الرواد قرب المشارب
فروى به جمّا غفيرا وأسهلت ... بأعناقه طوعا أكف المذانب
وبئر طغت بالماء من مس سهمه ... ومن قبل لم تسمح بمذقة شارب
وضرع مراه فاستدر ولم تكن ... به درة تصغي إلى كف حالب
ونطق فصيح من ذراع مبينة ... لكيد عدو العداوة ناصب
وإخباره بالأمر من قبل كونه ... وعند بواديه بما في العواقب
ومن تلكم الآيات وحي أتى به ... قريب المآتي مستجم العجائب
تقاصرت الأفكار عنه فلم يطع ... بليغا ولم يخطر على قلب خاطب
حوى كل علم واحتوى كل حكمة ... وفات مرام المستمر الموارب
-(2/13)
.........
- أتانا به لا عن روية مرتيء ... ولا صحف مستمل ولا رصف كاتب
يواتيه طورا في إجابة سائل ... وإفتاء مستفت ووعظ مخاطب
وإتيان برهان وفرض شرائع ... وقص أحاديث ونص مآرب
وتصريف أمثال وتثبيت حجة ... وتعريف ذي جحد وتوقيف كاذب
وفي مجمع النادي وفي حومة الوغى ... وعند حدوث المعضلات الغرائب
فيأتي على ما شئت من طرقاته ... قويم المعاني مستدر الضرائب
يصدق منه البعض بعضا كأنما ... يلاحظ معناه بعين المراقب
وعجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما ... وصفناه معلوم بطول التجارب
تأبّى بعبد الله أكرم والد ... تبلج منه عن كريم المناسب
وشيبة ذي الحمد الذي فخرت به ... قريش على أهل العلى والمناصب
ومن كان يستسقى الغمام بوجهه ... ويصدر عن آرائه في النوائب
وهاشم الباني مشيد افتخاره ... بعز المساعي وامتهان المواهب
وعبد مناف وهو علم قومه ... اشتطاط الأماني واحتكام الرغائب
وإن قصيا من كريم غراسه ... لفي منهل لم يدن من كف قاضب
به جمع الله القبائل بعد ما ... تقسمها نهب الأكف السوالب
وحل كلاب من ذرى المجد معقلا ... تقاصر عنه كل دان وغائب
ومرة لم يحلل مريرة عزمه ... سفاه سفيه أو محوبة حائب
وكعب علا عن طالب المجد كعبه ... فنال بأدنى السعي أعلى المراتب
وألوى لؤي بالعداة فطوعت ... له همم الشم الأنوف الأغالب
وفي غالب بأس أبي اليأس دونهم ... يدافع عنهم كل قرن مغالب
وكانت لفهر في قريش خطابة ... يعوذ بها عند اشتجار المخاطب
وما زال منهم مالك خير مالك ... وأكرم مصحوب وأكرم صاحب
وللنضر طول يقصر الطرف دونه ... بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب
لعمري لقد أبدى كنانة بعده ... محاسن تأبى أن تطوع لغالب-(2/14)
.........
- ومن قبله أبقى خزيمة بعده ... تليد تراث عن حميد الأقارب
ومدركة لم يدرك الناس مثله ... أعف وأعلى عن دني المكاسب
وإلياس كان إلياس منه مقارنا ... لأعدائه قبل اعتداد الكتائب
وفي مضر يستجمع الفخر كله ... إذا اعتركت يوما زحوف المقانب
وحل نزار من رئاسة قومه ... محلا تسامى عن عيون الرواقب
وكان معد عدة لوليه ... إذا خاف من كيد العدو المحارب
وما زال عدنان إذا عد فضله ... توحد فيه عن قرين وصاحب
وأد تأدى الفضل منه بغاية ... وإرث حواه عن قروم أشايب
وفي أدد حلم تزين بالحجا ... إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب
وما زال يستعلي هميسع بالعلى ... ويبلغ آمال البعيد المراغب
ونبت بنته دوخة العز وابتنى ... معاقله في مشمخر الأهاضب
وحيزت لقيذار سماحة حاتم ... وحكمة لقمان وهمة حاجب
هم نسل إسماعيل صادق وعده ... فما بعده في الفخر مسعى لذاهب
وكان خليل الله أكرم من عنت ... له الأرض من ماش عليها وراكب
وتارح ما زالت له أريحيّة ... تبين منه عن حميد الضرائب
وناحور نحار العدى حفظت له ... مآثر لما يحصها عد حاسب
وأشرع في الهيجاء ضيغم غابة ... يقد الطلى بالمرهفات القواضب
وأرغو فناب في الحروب محكم ... ضنين على نفس المشيح المغالب
وما فالغ في فضله تلو مقامه ... ولا عابر من دونه في المراتب
وشالخ وأرفخشذ وسام سمت بهم ... سجايا حمتهم كل زار وعائب
وما زال نوح عند ذي العرش فاضلا ... يعدده في المصطفين الأطايب
ولمك أبوه كان في الروع رائعا ... جريئا على نفس الكمي المضارب
ومن قبل لمك لم يزل متوشلخ ... يذود العدى بالذائدات الشوازب
وكانت لإدريس النبي منازل ... من الله لم تقرن بهمة راغب-(2/15)
.........
- ويارد بحر عند أهل سراته ... أبي الخزايا مستدق المآرب
وكانت لمهلاييل فيهم فضائل ... مهذبة من فاحشات المثالب
وقينان من قبل اقتنى مجد قومه ... وفات بشأو الفضل وخد الركائب
وكان أنوش ناش للمجد نفسه ... ونزهها عن مرديات المطالب
وما زال شيث بالفضائل فاضلا ... شريفا بريئا من ذميم المعايب
وكلهم من نور آدم أقبسوا ... وعن عوده أجنوا ثمار المناقب
وكان رسول الله أكرم منجب ... جرى في ظهور الطيبين المناجب
مقابلة آباؤه، أمهاته ... مبرأة من فاضحات المثالب
عليه سلام الله في كل شارق ... ألاح لنا ضوءا وفي كل غارب
* وممن نظم نسبه الشريف أيضا الإمام أبو عبد الله بن أبي الخصال في قصيدة سماها: معراج المناقب، ومنهاج الحسب الثاقب في ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ومناقب أصحابه، أورد منها هنا ما يختص بالنسب الشريف، يقول أولها:
إليك فهمي والفؤاد بيثرب ... وإن عاقني عن مطلع الوحي مغربي
أعلّل بالآمال نفسا أغرها ... بتقديم غاياتي وتأخير مذهبي
وديني على الأيام زورة أحمد ... فهل ينقضي ديني ويقرب مطلبي
وهل أردنّ فضل الرسول بطيبة ... فيا برد أحشائي ويا طيب مشربي
وهل فضلت من مركب العمر فضلة ... تبلغني أم لا بلاغ لمركب؟
ألا ليت زادي شربة من مياهها ... وهل مثلها ريا لغلة مذنب؟
ويا ليتني فيها إلى الله صائر ... وقلبي عن الإيمان غير مقلب
وإن امرء وارى البقيع عظامه ... لفي زمرة تلقى بسهل ومرحب
وفي ذمة من خير من وطىء الثرى ... ومن يعتقله حبله لا يعذب
وما لي لا أشري الجنان بعزمة ... يهون عليها كل طام وسبسب
وماذا الذي يثني عناني وإنني ... لجواب آفاق كثير التقلب-(2/16)
.........
- أفقر؟ ففي كفيّ لله نعمة ... وبين؟ فقد فارقت قبل بني أبي
وقد مرنت نفسي على البعد وانطوت ... على مثل حد السمهري المدرب
وكم غربة في غير حق قطعتها ... فهلا لذات الله كان تغربي!
وكم فاز دوني بالذي رمت فائز ... وأخطأني ما ناله من تغرب
أراه وأهوى فعلة البر قاعدا ... فيا قعدي البر قسم وتلبب
أماني قد أفنى الشباب انتظارها ... وكيف بما أعيى الشباب لأشيب
وقد كنت أسري في الظلام بأدهم ... فها أنا أغدو في الصباح بأشهب
فمن لي وأنى لي بريح تحطني ... إلى ذروة البيت الرفيع المطنب
إلى الهاشمي الأبطحي محمد ... إلى خاتم الرسل المكين المقرب
إلى صفوة الله الأمين لوحيه ... أبي القاسم الهادي إلى خير مشعب
إلى ابن الذبيحين الذي صيغ مجده ... ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب
إلى المنتقى من عهد آدم في الذرى ... يردد في سر الصريح المهذب
إلى من تولى الله تطهير بيته ... وعصمته من كل عيص مؤشب
فجاء بريء العرض من كل وصمة ... فما شئت من أم حصان ومن أب
كروض الربا كالشمس في رونق الضحى ... كناشىء ماء المزن قبل التصوب
عليه من الرحمن عين كلاءة ... تجنبه إلمام كل مجنب
إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة ... فما أعرضت إلّا لأمر مغيبب
وما عبرت إلّا على مسلك الهدى ... ولا عثرت إلّا على كل طيب
فمن مثل عبد الله خير لداته ... وآمنة في خير ضنء ومنصب
إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة ... كأسد الشري من كل أشوس أغلب
ولا خال إلّا دون سعد بن مالك ... ولو كان في عليا معد ويعرب
ومن ذا له جد كشيبة ذي الندى ... وساقي الحجيج بين شرق ومغرب
له سؤدد البطحاء غير مدافع ... وحومة ما بين الصفا والمحصب
أبو الحارث السامي إلى كل ذروة ... يقصر عن إدراكها كل كوكب-(2/17)
.........
- به وبما في برده من أمانة ... حمى الله ذاك البيت من كل مرهب
وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم ... فيا لهم من عارض غير خلب
وفيما رآه شيبة الحمد آية ... تلوح لعين الناظر المتعجب
وفي ضربه عنه القداح مروعا ... ومن يرم بين العين والأنف يرهب
وما زال يرمي والسهام تصيبه ... إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب
وكانوا أناسا كلما أمهم أذى ... تكشف عن صنع من الله معجب
وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا ... وإن أصبحوا في منزل غير مخصب
وعمرو المعالي هاشم وثريده ... بمكة يدعو كل أغبر مجدب
بمثنى جفان كالجواب منيخة ... ملئن عبيطات السنام المرعب
هو السيد المتبوع والقمر الذي ... على صفحته في الرضا ماء مذهب
بنى الله للإسلام عزا بصهره ... إلى منتهى الأحياء من آل يثرب
وعبد مناف دوحة الشرف الذي ... تفرع منها كل أروع محرب
مطاع قريش والكفيل بعزها ... ومانعها من كل ضيم ومنهب
وزيد ومن زيد؟ قصي مجمع ... سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب
به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت ... تراث أبيها دون كل مذبذب
وأصبح حكم الله في آل بيته ... فهم حوله من سادنين وحجب
وما أسلمته عن تراخ خزاعة ... ولكن كما عض الهناء بأجرب
ولاذت قريش من كلاب بن مرة ... بجذل حكاك أو بعذق مرحب
ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة ... وفي السلم نفس الصرخدي المذوب
وكعب عقيد الجود والحكم والنهى ... وذو الحكم الغر المبشر بالنبي
خطيب لؤي واللواء بكفه ... لخطبة ناد أو لخطة مقنب
وأول من سمى العروبة جمعة ... وصدر أما بعد، يلحي ويطبي
وأرخ آل الله دهرا بموته ... سنين سدى يتعبن كف المحسب
وأضحى لؤي غالبا كل ماجد ... ومن غالب يمينه للمجد يغلب-(2/18)
.........
- وفهر أبو الأحياء جامع شملها ... وكاسبها من فخره خير مكسب
تقرش فامتازت قريش بفضله ... وسد فسدوا خلة المتأوب
وغادره اسما في الكتاب منزلا ... يمر به في آية كل معرب
ومالك المربي على كل مالك ... فتى النضر حابته السيادة بل حبي
هو الليث في الهيجاء والغيث في الندى ... وبدر الدياجي حين يسري ويحتبي
تردى بفضفاض على المجد نسجه ... وليس عليه، فليجر ويسحب
وللنضر يا للنضر من كل مشهد ... هو الشمس صعّد في سناها وصوّب
وأعرض بحر من كنانة زاخر ... يساق إلى أمواجه كل مذنب
وخير حكما في الصهيل أو الرغا ... أو البيت أو عزّ على الدهر مصحب
فلم يقتصر واختار كلّا فحازه ... إلى غاية العز المديد المعقب
له البيت محجوجا وعز مخلد ... وأجرد يعبوب إلى جنب أصهب
وخزم آناف العتاة خزيمة ... فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب
عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم ... لكل قضاعي كريم معصب
ومدركة ذو اليمن والنجح عامر ... وخير مسمى في العلا وملقب
تراءى مطلا إذ تقمع صنوه ... ففاز بقدح ظافر لم يخيب
لأم الجبال الشم والقطر والحصى ... لخندف إن تستركب الأرض تركب
وإلياس مأوى الناس في كل أزمة ... ومهربهم في كل خوف ومرهب
وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة ... وأضحوا بلا هاد ولا متحوب
وجاءهم بالركن بعد هلاكه ... وقد كان في صدع من الأرض أنكب
وما هو إلا معجز لنبوة ... وبشرى وعقبى للبشير المعقب
وحج وأهدى البدن أو مشعر ... لها وفروض الحج لم تترتب
وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها ... له إن تلح في ناظر العين تكتب
إلى قنص تنميه سوداء، نبته ... كلا طرفيه من معد لمنسب
وفي مضر تاه الكلام وأقبلت ... مآثر سدت كل وجه ومذهب-(2/19)
.........
- وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها ... بأكثر منها في العديد وأثقب
هنالك آتى الله من شاء فضله ... وقيل لهذا سر وللآخر اركب
وكانا شقيقي نبعة فنفاوتا ... لعلم وحكم ما له من معقب
وما منهما إلا حنيف ومسلم ... على نهج إسماعيل غير منكب
وقد سلم الأفعى بنجران حكمه ... إليهم ولم ينظر إلى متعقب
رأى فطنا أبدت له عن نجاره ... وكان لنبع فاستحال لأثأب
وتلك علامات النبوة كلها ... تشير إلى منظورها المترقب
وقال رسول الله مهما اختلفتم ... ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب
ففي مضر جرثومة الحق فاعمدوا ... إلى مضر تلفوه لم يتنقب
وما سيد إلا نزار يفوته ... ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب
قريع معد والذي سد نقده ... متى يأتهم شعب من الدهر يرأب
أبو أبحر الدنيا وأطوادها التي ... بها ثبتت طرا فلم تتقلب
ولم يكفه حتى أعانت معانة ... بكل عتيق جرهمي مهذب
وجاء معد والسماء شموسها ... وأقمارها في ذيله المتسحب
وبين يديه الأنجم الزهر بثها ... على الأرض حتى لا مساغ لأجنبي
وقدما تحفى الله من بختنصر ... به والورى من هالك ومعذب
وجنبه أرض البوار وحازه ... إلى معقل من حرزه متأشب
وحل بأرمينية تحت حفظه ... لدى ملك عن جانبيه مذبب
فلما تجلى الروع أسرى بعبده ... إلى حرم أمن لأبنائه اجتبي
وقد كان رد الله عنهم كليمه ... ليالي يدعو دعوة المتغضب
وجاء بنو يعقوب يشكون منهم ... ينادونه هذا قتيل وذا سبي
فقال له: لا تدع موسى عليهم ... فمنهم نبي أصطفيه وأجتبي
أحبهم فيه رضا وأحبه ... كذلك من أحببه يكرم ويحبب
وأغفر إن يستغفروني ذنوبهم ... ومهما دعا داع أجبه وأقرب-(2/20)
.........
- فقال إذن فاجعلهم رب أمتي ... فمن ترضه يا رب يرض ويرغب
فقال هم في آخر الدهر صفوتي ... يقضون أعدائي ويستنصرون بي
دعائم إيمان وأركان سؤدد ... مضت بعلاها مهدد بنت جلحب
ومصعد عدنان إلى جذم آدم ... بأبين من قصد الصباح وألحب
ونهي رسول الله صد وجوهها ... وكان لنا في نظمها شد ملهب
وإلا فأد بن الهميسع ماثل ... ونبت بن قيدار سلالة أشجب
وواجه أعراق الثرى كل من ترى ... وأسمع إسماعيل دعوة مكثب
وقام خليل الله يتلوه آزر ... أغر صباحي لأدهم غيهب
إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقي ... وللداع ثم القاسم الشامخ الأب
ويعبر ينميه إلى المجد شالخ ... إلى الرافد الوهاب برك وطيب
لسام أبي الساميين طرا سما بهم ... لنوح للمكان العلي لمثوب
لإدريس ثم الرائد بن مهلهل ... لقينن ثم الطاهر المتطيب
إلى هبة الرحمن شيث بن آدم ... أبي البشر الأعلى لطين لأثلب
فمنه خلقنا ثم فيه معادنا ... ومنه إلى عدن فسدد وقارب(2/21)
[46- فصل: في شرف أصله صلى الله عليه وسلم وكرامة محتده]
46- فصل: في شرف أصله صلى الله عليه وسلم وكرامة محتده 194- روى واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.
195- وروى عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(194) - قوله: «روى واثلة بن الأسقع» :
أخرج حديثه مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 2276، والإمام أحمد في المسند [4/ 107] ، وابن أبي شيبة في المصنف [11/ 478] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 20] ، والبخاري في تاريخه الكبير [1/ 4] ، والترمذي في المناقب، باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 3605، 3606، والطبراني في معجمه الكبير [22/ 67] رقم 161، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد [2/ 751] رقم 1400، والبيهقي في الشعب [2/ 139] رقم 1391، والخطيب في تاريخه [13/ 64] ، والبغوي في شرح السنة [13/ 194] ، والجوزجاني في الأباطيل [1/ 170] ، وابن حبان في صحيحه- كما في الإحسان- الأرقام 6242، 6333، 6475.
(195) - قوله: «وروى عطاء، عن ابن عباس» :
عزاه المتقي في الكنز [12/ 46] رقم 33928 للديلمي.
وفي الباب عن عائشة، ومحمد بن علي مرسلا.
أما حديث عائشة، فسيأتي بعد حديث.(2/22)
إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: يا محمد إن الله أمرني أن آتي مشارق الأرض ومغاربها، برها وبحرها، سهلها وجبلها، فآتيه بخير أهل الدنيا، فأتيتها فوجدت خيرها قريشا، ثم أمرني أن آتيه بخير قريش، فوجدت خير قريش بني هاشم، وما كنت يا محمد في صف من الناس إلّا كانوا خيار الناس.
196- وروى عمرو بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: إنا لقعود بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب حتى قام على القوم فقال: ما بال أقوال تبلغني عن أقوام؟ إن الله تبارك وتعالى خلق السماوات سبعا، فاختار العليا منها فأسكنها من شاء من خلقه، - وأما حديث محمد بن علي، فأخرجه الحكيم الترمذي في النوادر [1/ 96] مرفوعا: أتاني جبريل عليه السّلام فقال: يا محمد إن الله بعثني فطفت شرق الأرض وغربها، وسهلها وجبلها، فلم أجد حيا خيرا من العرب، ثم أمرني فطفت في العرب فلم أجد حيا خيرا من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر فلم أجد حيا خيرا من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة فلم أجد حيا خيرا من قريش، ثم أمرني فطفت في قريش فلم أجد حيا خيرا من بني هاشم، ثم أمرني أن أختار من أنفسهم فلم أجد فيهم نفسا خيرا من نفسك» .
(196) - قوله: «ما بال أقوال تبلغني» :
اختصر المصنف لفظ الحديث وفيه: إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرت به امرأة فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان:
مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب ...
الحديث.
أخرجه ابن أبي حاتم في العلل [2/ 367] ، والعقيلي في الضعفاء [4/ 388] ، وابن عدي في الكامل [2/ 665، 6/ 2206] ، ومن طريقه-(2/23)
ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم.
197- وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاءني جبريل عليه السّلام فقال:
يا محمد قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم.
- البيهقي في الشعب [2/ 229] رقم 1606، والحاكم في المستدرك [4/ 73] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [1/ 171، 172] ، وفي الشعب [2/ 139] رقم 1393.
في إسناده محمد بن ذكوان، من رجال ابن ماجه، ضعفه الجمهور، قال ابن أبي حاتم: منكر، وجعل العقيلي الحمل عليه مع أنه قد توبع، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: غريب.
(197) - قوله: «جاءني جبريل» :
أخرجه الطبراني في الأوسط [7/ 155] رقم 6281، والبيهقي في الدلائل [1/ 176] ، وابن عساكر في تاريخه، والشجري في أماليه [1/ 156] ، جميعهم من حديث موسى بن عبيدة الربذي- وهو ضعيف-: ثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل عليه السّلام: ... فذكره.
قال البيهقي عقبه: هذه الأحاديث وإن كان في روايتها من لا تصح به، فبعضها يؤكد بعضا، ومعنى جميعها يرجع لحديث واثلة بن الأسقع، وأبي هريرة. اه. يعني المخرجين في الصحيح.(2/24)
198- وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس فخطبهم فقال: إن الله عزّ وجلّ نظر إلى أهل الأرض فاختار منها قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار.
199- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لما خلق الخلق (198) - قوله: «خرج إلى الناس فخطبهم» :
هو من ألفاظ حديث ابن عمر المتقدم.
(199) - قوله: «إن الله لما خلق الخلق» :
روى هذا الحديث يزيد بن أبي زياد فاختلف عليه فيه:
1- فقيل: عنه، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس- وبلّغه بعض ما يقول الناس- قال: فصعد المنبر فقال:
من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله، فقال: أنا محمد بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ... الحديث، أخرجه الإمام أحمد في مسنده [1/ 210] ، والترمذي في الدعوات من جامعه، برقم 3532- وقال:
حسن-، والبيهقي في الدلائل [1/ 169، 169- 170] .
2- وقيل: عنه، عن عبد الله بن الحارث، عن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما نالوا منه وقالوا: إن مثل محمد كمثل نخلة نبتت في كناس، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إن الله تعالى خلق خلقه فجعلهم فريقين ... الحديث، أخرجه البيهقي في الدلائل [1/ 168] .
قال الحافظ البيهقي: كذا قال: عن ربيعة بن الحارث، وقال غيره: عن المطلب بن ربيعة، وابن ربيعة إنما هو: عبد المطلب بن ربيعة، له صحبة.
3- وقيل: عنه، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس قال: قلت:
يا رسول الله، إن قريشا إذا التقوا لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك غضبا شديدا-(2/25)
جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم لما جعلهم- ثم قال: والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله، فقلت: يا رسول الله إن قريشا جلسوا تذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ يوم خلق الخلق ... الحديث. أخرجه الإمام أحمد في المسند [1/ 207 مرتين] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 167- 168] .
* وهكذا رواه محمد بن كعب القرظي، عن العباس قال: كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ما بال أقوام يتحدثون فإذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني، أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل العباس بن عبد المطلب، رقم 140.
قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات، إلّا أنه قيل: رواية محمد بن كعب، عن العباس مرسلة.
4- وقيل: عنه، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة، قال: دخل العباس أو: أتى ناس من الأنصار.. فذكر نحو المتقدم، أخرجه الإمام أحمد [1/ 207 مرتين، 207- 208، 4/ 165 مرتين، 165- 166] .
وفي الباب عن ابن عباس من رواية الأعمش، عن عباية بن ربعي- من غلاة الشيعة منكر الحديث- عن ابن عباس مرفوعا: إن الله عزّ وجلّ قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسما وذلك قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، وَأَصْحابُ الشِّمالِ، فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا، وذلك قوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله تعالى:
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، -(2/26)
قبائل جعلني في خيرهم قبيلة، ثم لما جعلهم بيوتا جعلني من خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا.
- وأنا أتقى ولد آدم، وأكرمهم على الله ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا وذلك قوله عزّ وجلّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب.
قال ابن كثير في تاريخه: فيه غرابة ونكارة.(2/27)
[47- باب جدّات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأجداده لأمّه]
47- باب جدّات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأجداده لأمّه.
200- حدثنا الحاكم أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ رضي الله عنه، ثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب، ثنا أبو أسامة الحلبي، ثنا الحجاج بن أبي منيع، ...
(200) - قوله: «محمد بن يعقوب» :
هو الأصم، الإمام، مسند عصره، حجة زمانه، رحلة الوقت ومحدثه:
أبو العباس، الأموي مولاهم، النيسابوري، السناني، المعقلي، له ترجمة جيدة في الكتب، وما ذكره أحد إلّا عظم من شأنه وأثنى عليه خيرا، انظر ذلك في:
سير أعلام النبلاء [15/ 452] ، الوافي بالوفيات [5/ 223] ، المنتظم [14/ 112] ، تاريخ ابن عساكر [56/ 287] ، البداية والنهاية [11/ 232] ، غاية النهاية [2/ 283] .
قوله: «حدثنا أبو أسامة الحلبي» :
هو عبد الله بن محمد بن أبي أسامة، ذكره بعضهم في ترجمة حجاج الآتي، ولم أر من أفرده بترجمة.
قوله: «ثنا حجاج بن أبي منيع» :
من رجال البخاري في التعاليق، اسم أبي منيع: يوسف بن عبيد الله بن أبي زياد، روى عن جده عبيد الله بن أبي زياد، عن الزهري نسخة كبيرة قال عنها محمد بن يحيى الذهلي، نظرت فيها فوجدتها صحاحا.(2/28)
ثنا جدي، عن الزهري قال: أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ولدته: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
- تهذيب الكمال [5/ 459] ، تهذيب التهذيب [2/ 182] ، طبقات ابن سعد [7/ 474] ، تاريخ ابن عساكر [12/ 202] ، التقريب [/ 153] .
قوله: «ثنا جدي» :
هو عبيد الله بن أبي زياد الرصافي من أصحاب الزهري، لا يعرف له راو غير حفيده حجاج، لكن وثقه الدارقطني، وابن حبان، وقال ابن حجر:
صدوق.
تهذيب الكمال [19/ 39] ، طبقات ابن سعد [7/ 474] ، الميزان [3/ 405] ، تهذيب التهذيب [7/ 13] ، التقريب [/ 371] .
قوله: «عن الزهري» :
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، الإمام الفقيه الحافظ الجليل الثبت الكبير: أبو بكر القرشي، أحد رؤوس الفقه والحفظ، ممن أجمع على إمامته وجلاله وإجلاله والاحتجاج بخبره.
سير أعلام النبلاء [5/ 326] ، تهذيب الكمال [9/ 395] ، طبقات ابن سعد [2/ 388] ، الحلية [3/ 360] ، وفيات الأعيان [4/ 177] ، تذكرة الحفاظ [1/ 108] .
قوله: «أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ولدته» :
أخرجه من طريق الحجاج: البيهقي في الدلائل [1/ 183] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 96- 97] ، انظر عن ذلك في:
المعارف لابن قتيبة [/ 131] ، طبقات ابن سعد [1/ 59- 60] ، سيرة ابن هشام [1/ 156] ، تاريخ ابن عساكر [3/ 95- 113] ، دلائل البيهقي [1/ 183] ، تاريخ ابن جرير [2/ 243] .(2/29)
201- وأمها: برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن مرة، وأمها: أم سفيان بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، وأمها: بّرة بنت عوف بن عبيد بن عويج من بني عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وأمها: قلابة بنت الحارث بن صعصعة من بني عائذ بن لحيان بن هذيل، وأمها: بنت مالك بن غنم من بني لحيان بن هذيل.
202- وجدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم وهب بن عبد مناف اسمها عمرة بنت وجز بن غالب- وهو أبو كبشة من خزاعة- وهي وأم الحارث بن عبد المطلب ابنتا خالة.
(201) - قوله: «ابن قصي بن مرة» :
كذا قال أبو أسامة في نسب برّة عن حجاج، وخالفه يعقوب بن سفيان فقال: برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة، أخرجه الحافظ البيهقي في الدلائل [1/ 183] ، وهذا هو الصواب وسيذكره المصنف بعد لكنه عبر عن ذلك بلفظ قيل، وليس بجيد.
قوله: «أم سفيان بنت أسد» :
وقال الكلبي: أم حبيبة بنت أسد، أخرجه ابن سعد في الطبقات، وابن عساكر في تاريخه.
قوله: «بنت مالك بن غنم» :
لم يسمها حجاج في روايته، وسماها الزبير بن بكار وغيره فقال: أميمة بنت مالك، انظر: تاريخ ابن عساكر [3/ 98] .
(202) - قوله: «عمرة بنت وجز» :
قال البيهقي في الدلائل [1/ 183] : كنيته: أبو كبشة، كان سيدا في قومه خزاعة، وهو أول من عبد الشعرى وخالف دين قومه، فلما خالف النبي صلى الله عليه وسلم-(2/30)
203- وتوفيت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء بين مكة والمدينة، ودفنت بمكة.
- دين قريش وجاء بالحنيفية شبهوه بأبي كبشة جده من قبل أمه ونسبوه إليه فقالوا: ابن أبي كبشة.
وقال الكلبي: أم وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيلة، ويقال: هند بنت أبي قيلة وهو وجز بن غالب من خزاعة، أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 59] ، ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ [3/ 100] .
(203) - قوله: «ودفنت بمكة» :
لا خلاف بين أهل العلم بالسير والتاريخ أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم توفيت بالأبواء، ثم اختلفوا بعد ذلك في مكان قبرها اختلافا لم يضعف المشهور والمعتمد منه في أنه بالأبواء أيضا، هذا هو قول الجمهور، وبقيت بعض الروايات اجتهد من اجتهد في توجيهها للجمع بينها، فلم يستبعد أن تكون حملت بعد موتها حتى دفنت بمكة، واستشهد ابن الجوزي في الوفاء [1/ 119] ، وفي المنتظم [2/ 273] بما رواه بإسناده إلى ابن البراء قال:
حدثني الحسين بن جابر- وكان من المجاورين بمكة- أنه رفع إلى المأمون أن السيل يدخل قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع معروف هناك فأمر المأمون بإحكامه، قال ابن البراء: وقد وصف لي وأنا بمكة موضعه، ويشهد له حديث ابن مسعود الذي سنأتي عليه إن شاء الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما إلى المقابر فاتبعناه حتى جلس إلى قبر منها ... الحديث، رجال إسناده ثقات، وفي حديث آخر إسناده قوي نأتي على تخريجه إن شاء الله من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى جذم قبر فجلس إليه وجلس الناس حوله ... الحديث، قال ابن سعد في الطبقات بعد إيراده: هذا غلط، ليس قبرها بمكة، قبرها بالأبواء، اهـ. وهو قول الجمهور، فيحمل ما جاء في حديث ابن مسعود وبريدة وغيرهما أن ذلك كان في مسيره إلى مكة لا في مكة، والله أعلم، وانظر التعليق التالي.(2/31)
204- وأهل مكة يزعمون أن قبر آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابر أهل مكة في الشعب المعروف بشعب أبي دب، وكان أبو دب رجلا من سواءة بن عامر فعرف به.
205- ومن الناس من يقول: قبرها في دار رابعة بالمعلاة بثنية (204) - قوله: «وأهل مكة يزعمون» :
قاله ابن جريج عن عثمان بن صفوان، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [3/ 573] رقم 6715، والفاكهي في أخبار مكة [4/ 53] كذا، وقال الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 210] : وقد زعم بعض المكيين: ... وذكره، وأورده الفاكهي أيضا في [4/ 56] عن بعض المكيين، قال البلاذري في الأنساب [1/ 95] : وذلك غير ثبت.
قوله: «بشعب أبي دب» :
أي: الذي بالحجون، مقبرة أهل مكة اليوم، ويسمى اليوم بدحلة الجن، وتمتد من الحجون- الذي يعرف اليوم ببرحة الرشيدي- إلى شعب الصفي- صفي السباب-، وفي الشعب اللاصق بثنية المدنيين- ريع الحجون اليوم وهو الذي فيه قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. وانظر:
أخبار مكة للفاكهي [4/ 54] ، تاريخ مكة لأبي الوليد [2/ 209] .
قوله: «من سواءة بن عامر» :
ابن صعصعة، انظر عنه في:
تاريخ مكة لأبي الوليد [2/ 209، 210] ، أخبار مكة للفاكهي [4/ 140] .
(205) - قوله: «في دار رابعة» :
ومنهم من يقول: رائعة، وموقعه اليوم ما بين شعب علي وشعب عامر، انظر: تاريخ الأزرقي [2/ 210] ، تاريخ الفاكهي [4/ 56] .(2/32)
إذاخر، عند حائط خرمان.
قال أبو سعد رحمه الله:
206- وقيل: أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بنت كلاب بن مرة، وزهرة: امرأة نسب إليها ولدها، أقيمت في التذكير مقام الأب.
قوله: «عند حائط خرمان» :
المقبرة المعروفة بالخرمانية مقبرة آل عبد الله بن خالد بن أسيد، وآل سفيان بن عبد الأسد، قال أبو الوليد الأزرقي: فكان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشامة، ثم حول الناس جميعا قبورهم في الشعب الأيسر لما جاء من الرواية فيه، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الشعب، ونعم المقبرة، ففيه اليوم قبور أهل مكة إلّا آل عبد الله بن خالد بن أسيد، وآل سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فهم يدفنون في المقبرة العليا بحائط خرمان.
(206) - قوله: «أقيمت في التذكير مقام الأب» :
كذا قال ابن قتيبة في المعارف [/ 70، 131] وزاد: ولا أعرف اسم الأب، وهم أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اه. فكأن المصنف تبعه هنا وفارقه في الموضع الآخر، وليس بجيد؛ لأنه بهذا يجعل أم عبد مناف تارة زهرة وتارة عاتكة بنت الأوقص كما سيأتي، أما ابن قتيبة فإنه جعل عاتكة أما لوهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه، وزهرة أما لعبد مناف أبي وهب، وقد أنكر السهيلي في الروض [1/ 133] أن يكون زهرة اسم امرأة، قال: وإنما هو اسم جدهم كما قال ابن إسحاق، اه. وهو قول جمهور أهل السير، وقال الكلبي:
أم عبد مناف بن زهرة: جمل بنت مالك بن فصية بن سعد بن خزاعة.
أخرجه ابن سعد وابن عساكر.(2/33)
207- وأم آمنة: برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار.
208- وأم برّة: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة.
209- وأم جدته أم حبيب- وهي جدة جدته-: برة أيضا، بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي.
210- وأم برة بنت عوف: قلابة بنت الحارث بن لحيان بن هذيل.
211- وأم قلابة جدة جدة جدته هي: هند بنت يربوع من ثقيف.
212- أما جدته صلى الله عليه وسلم أم أبيه عبد الله فهي: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
213- وأم عبد المطلب: سلمى بنت عمرو من بني النجار، وأمها منهم، وكذلك أم أمها، وكانت سلمى قبل أن يتزوجها هاشم تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرو بن أحيحة، فهو أخو عبد المطلب لأمه.
(211) - قوله: «هند بنت يربوع» :
كذا قال ابن قتيبة في المعارف [/ 131] ، قد روى المصنف عن الزهري أنها بنت مالك بن غنم، وخرجنا الرواية قريبا، وقال الزبير بن بكار: أمها دبة بنت الحارث بن تميم.
(213) - قوله: «فهو أخو عبد المطلب لأمه» :
النص في معارف ابن قتيبة [/ 130] ، انظر أيضا: طبقات ابن سعد [1/ 62- 63] ، دلائل البيهقي [5/ 136] ، تاريخ ابن عساكر [3/ 108- 113] ، النص الآتي برقم 228.(2/34)
214- وأم قصي بن كلاب- أخي زهرة بن كلاب- فاطمة بنت سعد، من أزد السراة.
215- وأم كلاب: نعيم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة.
216- وأم مرة: وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر.
217- وأم كعب: سلمى بنت محارب بن فهر.
218- وأم لؤي: وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة.
219- وأم غالب: سلمى بنت سعد بن هذيل.
220- وأم فهر: جندلة بنت الحارث الجرهمي.
220- وأم مالك: هند بنت عدوان بن عمرو، من قيس غيلان.
221- وأم النضر: برة بنت مر أخت تميم بن مر، وكانت تحت أبيه كنانة، فخلف عليها بعد أبيه، فتميم أخوال قريش، لأن قريشا من النضر تقرشت.
222- حدثنا أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا محمد بن محمد بن عبيد الله الجرجاني، ...
(221) - قوله: «من النضر تقرشت» :
انظر المعارف لابن قتيبة [/ 130] .
(222) - قوله: «الجرجاني» :
لقبه: بصلة، وكنيته: أبو عبد الله، وقيل: أبو الحسن، الإمام الرحالة، المحدث الحجة، أثنى عليه الحاكم وغيره. انظر ترجمته في:
سير أعلام النبلاء [16/ 271] ، تاريخ جرجان للسهمي [/ 423] الترجمة-(2/35)
ثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا قتيبة، ثنا أبو عوانة عن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض مغازيه: أنا ابن العواتك.
- 745، أخبار أصبهان لأبي نعيم [2/ 292] ، تاريخ الإسلام [وفيات 351- 380، ص 132، 468] ، تذكرة الحفاظ [3/ 984] ، طبقات الحفاظ:
[/ 390] ، تبصير المنتبه [4/ 1422] .
قوله: «محمد بن إسحاق بن إبراهيم» :
السرّاج، الإمام الحافظ الثقة شيخ الإسلام، ومحدث خراسان: أبو العباس الثقفي مولاهم، الخراساني، النيسابوري، من مشايخ البخاري ومسلم، رويا عنه خارج الصحيح، قال الخطيب: كان من الثقات الأثبات، عني بالحديث وصنف كتبا كثيرة وهي معروفة.
انظر ترجمته في:
الوافي بالوفيات [2/ 187] ، الجرح والتعديل [7/ 196] ، سير أعلام النبلاء [14/ 388] ، تذكرة الحفاظ [2/ 731] ، طبقات السبكي [3/ 108] ، تاريخ بغداد [1/ 248] ، المنتظم [13/ 252] .
قوله: «ثنا قتيبة» :
هو ابن سعيد، وأبو عوانة، اسمه: الوضاح بن عبد الله اليشكري، وقتادة هو: ابن دعامة السدوسي، ثلاثتهم من رجال التهذيب، أحاديثهم مخرجة في الصحيحين.
قوله: «أنا ابن العواتك» :
الحديث من مراسيل قتادة.
تابعه عن الحاكم: البيهقي، أخرجه في الدلائل [5/ 136] .
وأخرجه كذلك مرسلا: سعيد بن منصور في سننه [2/ 302] رقم 2840، وابن عساكر في تاريخه [3/ 107] . -(2/36)
.........
وقد روي من وجه آخر من حديث سيابة بن عاصم، رواه هشيم بن بشير، فاختلف عليه فيه:
* فقال سعيد بن منصور في سننه [2/ 302] رقم 2841: عنه، عن يحيى بن سعيد بن عمرو القرشي ثنا سيابة به.
وتابعه عن هشيم: لوين بن محمد- في إحدى الروايات عنه-، أخرجه العسكري في تصحيفات المحدثين [2/ 1071] ، والبغوي فيما ذكره الحافظ في ترجمة سيابة من الإصابة.
* ورواه البغوي- فيما ذكره الحافظ في ترجمة سيابة من الإصابة من طريق لوين هذا، وقال عن لوين: لا أدري لعل بينهما رجلا.
* ورواه الدارقطني في المؤتلف [3/ 1375] أيضا من طريق لوين فقلب الاسم فيها وقال: عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن رجل، عن سيابة، والخطأ فيه من لوين.
* ورواه جماعة عن هشيم فقالوا: عنه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد قال: حدثني سيابة به، منهم:
1- سليمان بن داود أبو الربيع العتكي- حجة- حديثه عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني [3/ 95] رقم 1413، وفي الجهاد له برقم 255.
2- محمد بن الصباح- من الحفاظ الثقات- وأخرجه أبو نعيم في المعرفة [3/ 1444] رقم 3664، والبيهقي في الدلائل [5/ 136] ، وأبو زرعة الرازي كما في العلل لابن أبي حاتم [1/ 321- 322] .
3- عمرو بن عون الواسطي- أحد الأثبات- وحديثه عند الطبراني في الكبير [7/ 201] رقم 6724.
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل [1/ 321- 322] : سألت أبي- يعني: عن هذا الحديث- فقال: قال بعض أصحاب هشيم، عن هشيم، أنا يحيى بن عمرو بن سعيد بن العاص، أنا سيابة بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، -(2/37)
223- قال قتيبة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث جدات من سليم اسمهن عاتكة، فكان إذا افتخر قال: أنا ابن العواتك.
قال أبو سعد رحمه الله:
224- فأما عاتكة بنت هلال بن فالج فهي أم عبد مناف أبي وهب بن زهرة.
225- وأما عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، من بني سليم فأم هاشم بن عبد مناف.
226- وأما عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال فهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم.
227- وأما جدته صلى الله عليه وسلم أم أبيه عبد الله: فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
- قال أبي: وهذا أشبه، بدليل أن سيابة ليس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عاصم: لم يتضح لي وجه العلاقة بين ترجيح الرواية وبين عدم ثبوت الصحبة لسيابة، فلو قال قائل: قول محمد بن الصباح ومن وافقه هي الصحيحة، لم يكن في ذلك إثبات الصحبة لسيابة، ولذلك قال البخاري في تاريخه: مرسل، ثم ذكر الروايتين عن هشيم، والاختلاف فيه منه، والمتن حسن إن شاء الله.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 219] : رجاله رجال الصحيح.
(226) - قوله: «فهي أم وهب أبي آمنة» :
زاد ابن عساكر في تاريخه [3/ 107] : فالأولى منهن عمة الوسطى، والوسطى عمة الأخرى.(2/38)
228- وأم عبد المطلب: سلمى بنت عمرو، من بني النجار، وأمها منهم، وكذلك أم أمها، وكانت سلمى قبل أن يتزوجها هاشم تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرو بن أحيحة، فهو أخو عبد المطلب لأمه.
(228) - قوله: «وأمها منهم» :
وهي صخرة بنت عبد بن عمران بن مخزوم.
قوله: «وكذلك أم أمها» :
وهي: تخمر بنت عبد بن قصي.
قوله: «فهو أخو عبد المطلب لأمه» :
تقدم هذا النص برقم 213.(2/39)
[48- باب ذكر أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم]
48- باب ذكر أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم 229- أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، أنا أبو عمرو الخفاف، أنا محمد بن رافع، ثنا شبابة، قال: حدثني ورقاء، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على (229) - قوله: «أنا أبو عمرو الخفاف» :
هو أحمد بن محمد بن عمرو النيسابوري، ذكره الحافظ السمعاني في الأنساب وقال: كان من الحفاظ، روى عن أبي زرعة، وأبي بكر الإسماعيلي، وابن عدي، روى عنه عبد الله بن عدي الحافظ، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد المؤذن المقري، توفي في شوال سنة إحدى وأربعمائة.
انظر: الأنساب باب الخاء والفاء [الخفاف] .
قوله: «أنا محمد بن رافع» :
القشيري مولاهم، الإمام العابد، الثقة الزاهد، أبو عبد الله النيسابوري، أحد خيار عباد الله، أثنى عليه الناس، وحديثه عند الجماعة سوى ابن ماجه.
قوله: «ثنا شبابة» :
هو ابن سوار المدائني، وورقاء هو: ابن عمر اليشكري، وأبو الزناد اسمه:
عبد الله بن ذكوان، والأعرج صاحب أبي هريرة اسمه: عبد الرحمن بن هرمز، جميعهم من رجال الصحيحين.
قوله: «بعث رسول الله عمر بن الخطاب» :
اختصر المصنف الرواية، وأخرجها بسياق أطول: البخاري في الزكاة، باب-(2/40)
الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد ابن الوليد، والعباس بن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما العباس فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عليّ ومثلها، ثم قال: أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه.
قال أبو سعد:
230- كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أعمام وهم أولاد عبد المطلب:
الحارث، والزبير، والعباس، وحمزة، وأبو طالب- واسمه: عبد مناف-، والغيداق- واسمه: حجل-، وضرار، والمقوّم، وأبو لهب- واسمه: عبد العزى-، ولم يعقب منهم إلّا أربعة وهم: الحارث، والعباس، وأبو طالب، وأبو لهب.
231- فأما الحارث فهو أكبر أولاد عبد المطلب وبه كان يكنى، وشهد معه حفر زمزم وولده: أبو سفيان، والمغيرة، ونوفل، وأروى، وربيعة، وعبد شمس.
232- فأما أبو سفيان بن الحارث فأسلم عام الفتح وشهد يوم الحنين، ولم يعقب.
233- وقال صلى الله عليه وسلم: أبو سفيان سيد فتيان أهل الجنة.
- قول الله تعالى: وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، من طريق شعيب، عن أبي الزناد، رقم 1468، وأخرجه مسلم في الزكاة، باب:
تقديم الزكاة ومنعها، من طريق علي بن حفص، عن ورقاء به، رقم 983.
(233) - قوله: «أبو سفيان سيد فتيان أهل الجنة» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [4/ 53] ، الحاكم في المستدرك [3/ 255] بإسناد على شرط الصحيح من حديث عروة مرسلا.
وقد كان أبو سفيان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية، -(2/41)
234- وأما نوفل بن الحارث فكان أسن من حمزة والعباس، وكان مع العباس ببدر أخرجا مكرهين وأسرا، وفداه العباس وهاجر وأسلم يوم الخندق، وله عقب.
235- وأما عبد شمس فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وعقبه بالشام.
236- وأما ربيعة فكانت له صحبة، وعقبه بالبصرة.
237- وأما العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فكان يكنى أبا الفضل، وكانت له السقاية وزمزم، دفعهما إليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وأخذ البيعة يوم العقبة للنبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار، أسر يوم بدر، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح بالأبواء، فكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة، ومات بالمدينة في أيام عثمان، وقد كف بصره، وهو ابن تسع وثمانين سنة، ومولده قبل الفيل بثلاث سنين، وصلى عليه عثمان، وأدخله قبره ابنه- ثم بدت منه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بعث فهجاه وقاتل مع قريش ضده، فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فلما أسلم عفا عنه وأحبه وكان يقول: أبو سفيان أخي وخير أهلي، وقد أعقبني الله من حمزة أبا سفيان ألا إن الله ورسوله قد رضيا عن أبي سفيان فارضوا عنه.
(235) - قوله: «فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [4/ 49] ، الطبراني- فيما ذكره الحافظ في ترجمته من الإصابة-.
قال ابن سعد: خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فمات بالصفراء، فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه ودفنه وقال: سعيد أدركته السعادة.
قوله: «وعقبه بالشام» :
كذا في الأصول، ولم يختلف أهل التاريخ والسير أنه لا عقب له ولا نسل.(2/42)
عبد الله، وكان له من الولد تسعة ذكور وثلاث إناث، منهم: عبد الله، وعبيد الله، والفضل، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن، وأم حبيب.
238- وأمهم: لبابة، أم الفضل، بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وتمام، وكثير، والحارث، وآمنة، وصفية لأمهات الأولاد.
239- فأما الفضل- وكان أكبر ولده وبه كان يكنى- فمات بالشام في طاعون عمواس، وقتل معبد بأفريقية.
240- وأما عبد الله بن العباس- وكان يكنى: أبا العباس- بلغ اثنين وسبعين سنة، ومات بالطائف في فتنة ابن الزبير، وقد كف بصره، وصلى عليه ابن الحنفية سنة ثمان وستين، وكان يصفر لحيته، وكان له من الولد: علي، وعباس، ومحمد، والفضل، وعبد الرحمن، وعبيد الله، ولبابة- أمهم: زرعة بنت مشرح، كندية-، وأسماء لأم ولد.
241- والذي أعقب منهم: علي بن عبد الله، وكان من أعبد الناس وأجملهم، وأكثرهم صلاة، يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، يكنى أبا محمد، مات بالسراة، سنة سبع عشرة ومائة وهو ابن ثمانين سنة، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان الوليد ضربه سبع مائة سوط بسبب سليط، وكان له من الولد أحد عشر ذكرا وثلاث إناث، منهم: محمد بن علي بينهما أربعة عشر سنة، وكان يخضب بالسواد، ومحمد بالحمرة، ومات سنة اثنتين وعشرين ومائة وله ستون سنة، وهو أبو الخلفاء، وأمه:
العالية بنت عبيد الله بن العباس، وأمها: عائشة بنت عبد المدان الحارثي.
(240) - قوله: «ثمان وستين» :
في الأصول: ثمان وثمانين.(2/43)
ومنهم: داود، وعيسى، وسليمان، وصالح لأم واحدة تسمى سعدى، وإسماعيل، وعبد الصمد لأم ولد، ويعقوب لأم ولد، وعبد الله وعبيد الله من أم أبيها بنت عبد الله بن جعفر، وأمها: ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلي.
ومنهم: أمينة ولبابة وأم عيسى لأمهات أولاد شتى.
242- وأما أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فاسمه: عبد مناف، وولده:
علي، وجعفر، وعقيل، وطالب، وأم هانيء- واسمها: فاختة- وجمانة، أمهم: فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر أسن من علي بعشر سنين، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، توفي أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين وأربعة أشهر.
243- وأما أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم فاسمه: عبد العزى، يكنى أبا عتبة، وكان أحول، وقيل له: أبو لهب لجماله، وهو سارق غزال الكعبة، وكان من ذهب، وولده عتبة، وعتيبة، ومعتب، وبنات، وأمهم:
أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وعمة معاوية حمالة الحطب.(2/44)
[49- باب ذكر عمّات رسول الله صلى الله عليه وسلم]
49- باب ذكر عمّات رسول الله صلى الله عليه وسلم 244- أخبرنا أبو عبد الله: محمد بن عبد الله، ثنا أبو العباس:
محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: لما حضرت عبد المطلب الوفاة قال لبناته: (244) - قوله: «ثنا أحمد بن عبد الجبار» :
العطاردي، المحدث الصدوق، أبو عمر التميمي، الكوفي، روى عن يونس بن بكير مغازي ابن إسحاق، واعتمده البيهقي في تصانيفه، وتكلم فيه بعضهم بلا حجة.
أثنى عليه الخطيب، وقال الدارقطني: لا بأس به، قد أثنى عليه أبو كريب، وقال الذهبي في السير: لم يوجد منه الكذب، ولا تفرد بشيء، ومما يقوي أنه صدوق في الرواية: أنه روى أوراقا من المغازي بنزول عن أبيه، عن يونس، وانظر:
الجرح والتعديل [2/ 62] ، تاريخ بغداد [4/ 262] ، تهذيب الكمال [1/ 378] ، تهذيب التهذيب [1/ 44] ، الوافي بالوفيات [7/ 15] ، تذكرة الحفاظ [2/ 582] ، سير أعلام النبلاء [13/ 55] ، التقريب [/ 81] .
قوله: «ثنا يونس بن بكير» :
الشيباني، الحافظ الثقة أبو بكر الجمال، الكوفي، علق له البخاري في صحيحه، وأخرج له مسلم، قال في التقريب: صدوق يخطىء.
قوله: «عن محمد بن إسحاق» :
النص في سيرته [/ 67- 68] ، وقد أورد أبياتا لكل واحدة منهن ترثي عبد المطلب أعرضت عن ذكرها خوف الإطالة.(2/45)
ابكين عليّ حتى أسمع- وكن ست نسوة- وهن: أميمة، وأم حكيم، وبرة، وعاتكة، وصفية، وأروى، فهن بنات عبد المطلب لأمهات شتى.
245- أما عاتكة فكانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي.
وكانت أميمة عند جحش بن زياد الأسدي.
وكانت البيضاء عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
246- وكانت برة عند عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذي كانت أم سلمة عنده قبل أن تكون عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم خلف عليها أبو رهم بن عبد العزى بن عامر بن لؤي، فولدت له أبا سبرة بن أبي رهم.
247- وكانت أروى عند عمير بن عبد العزى بن قصي.
وكانت صفية عند الحارث بن حرب بن أمية، ثم خلف عليها العوام بن خويلد فولدت له الزبير، ولم يسلم منهن غيرها، وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
248- وقيل: أسلم من العمات ثلاثة: صفية، وأروى، وعاتكة.(2/46)
[50- باب ذكر أخواله وخالاته وإخوته وأخواته صلى الله عليه وسلم من الرّضاعة]
50- باب ذكر أخواله وخالاته وإخوته وأخواته صلى الله عليه وسلم من الرّضاعة 249- حدثنا الحاكم أبو عبد الله، ثنا أبو بكر: محمد بن عبد الله الحفيد، ثنا محمد بن زكرياء الغلّابي، ...
(249) - قوله: «ثنا أبو بكر: محمد بن عبد الله الحفيد» :
ذكره الحافظ السمعاني في الأنساب فأطال النفس في ترجمته فكان مما قال:
كان محدث أصحاب الرأي في عصره، كثير الرحلة والسماع والطلب، عرف بالحفيد لأنه ابن بنت العباس بن حمزة الواعظ من نيسابور، سمع أبا عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وسمع أخبار الغلابي عن آخرها، سمع منه الحاكم وذكره في التاريخ وقال: كان محدث أصحاب الرأي، كثير الرحلة والسماع لولا مجون كان فيه، وقد أكثرنا عنه، وكان يحضر المجالس، ويكتب آماليهم بخطه، توفي بهراة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
الأنساب [2/ 240] .
قوله: «ثنا محمد بن زكرياء الغلّابي» :
بصري، كنيته: أبو بكر، ولقبه: زكرويه، شيعي، اتهمه الدارقطني بالوضع، وقال ابن حبان: يعتبر بحديثه إذا روى عن الثقات لأن في روايته عن المجاهيل بعض المناكير.
الأنساب [4/ 321] ، سير أعلام النبلاء [13/ 534 بدون ترجمة] ، الشذرات [2/ 206] ، العبر [2/ 86] ، تذكرة الحفاظ [2/ 639 في آخر ترجمة الآبار] ، المغني [2/ 581] ، الثقات [9/ 154] .(2/47)
ثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس قال:
حدثني أبي، عن أبيه سليمان، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس قال:
كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم، قالت: سمعته يقول كلاما عجيبا، سمعته يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا ... وذكر الحديث، وفيه ذكر إخوته وأخواته.
250- قال: أما أخواله وخالاته فلم يكن لأمه آمنة بنت وهب أخ ولا أخت فيكون خالا له أو خالة، إلّا أن بني زهرة يقولون: نحن أخواله؛ لأن آمنة منهم، ولم يكن لأبويه عبد الله وآمنة ولد غيره صلى الله عليه وسلم فلم قوله: «ثنا يعقوب بن جعفر» :
لم أقف على ترجمة له، ولا وجدت لأبيه ترجمة مفردة لكنه مذكور في ترجمة سليمان بن علي.
قوله: «عن أبيه سليمان» :
الهاشمي، المدني، البصري، عم المنصور، من رجال النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في السنن، وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر: مقبول.
تهذيب الكمال [12/ 44] ، تهذيب التهذيب [4/ 185] ، الكاشف [1/ 318] ، التقريب [/ 253] الترجمة رقم: 2596.
قوله: «علي بن عبد الله بن عباس» :
تابعي من الثقات العباد أهل الفضل، أخرج له الجماعة سوى البخاري.
تهذيب الكمال [21/ 35] ، تهذيب التهذيب [7/ 312] ، الكاشف [2/ 252] ، التقريب [/ 403] الترجمة رقم: 4761.(2/48)
يكن له أخ ولا أخت من النسب.
251- وكان له صلى الله عليه وسلم خالة من الرضاعة يقال لها سلمى، وهي أخت حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب.
252- فأما إخوته من الرضاعة: فعبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وأبوهم: الحارث بن عبد العزى بن سعد بن بكر بن هوازن، وأمهم: حليمة بنت أبي ذؤيب، فهما أخوا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
253- وقال صلى الله عليه وسلم: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت (251) - قوله: «سلمى» :
بنت أبي ذؤيب ذكروها في الصحابة، قال ابن الأثير: يقال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه، وقال: مرحبا يا أمي، ذكرها جعفر المستغفري في الصحابة، أخرجها أبو موسى، ونحوه للحافظ ابن حجر في الإصابة.
(252) - قوله: «وأنيسة بنت الحارث» :
ذكرها ابن هشام في سيرته [1/ 161] ، وأهملها ابن قتيبة ومن ألف في الصحابة، وذكروا جدامة أو جذامة أو حذافة، وقيل: خزامة، وأهملها المصنف، والثلاثة ذكرهم ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق، وأبو نعيم في الدلائل.
(253) - قوله: «أنا أفصح العرب» :
لم يسنده المصنف، ولا ابن قتيبة في المعارف [/ 132] ، ولا أسنده ابن إسحاق في سيرته- كما في البداية [2/ 277]- وهؤلاء من أهل الرواية، وهكذا وجدته عند ابن عساكر في تهذيب ابن منظور [2/ 205] .
وقال ابن سعد في الطبقات [1/ 113] : أخبرنا محمد بن عمر- يعني الواقدي، وهو ضعيف جدّا في الحديث-، أخبرنا زكرياء بن يحيى بن يزيد السعدي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أعربكم، أنا من قريش، -(2/49)
في بني سعد بن بكر.
لبث فيهم صلى الله عليه وسلم خمس سنين، ثم رد صلى الله عليه وسلم إلى أمه.
- ولساني لسان بني سعد ابن بكر، مرسل، وإسناده ضعيف.
وفي الباب عن عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: إن لغة إسماعيل قد درست فجاءني بها جبريل عليه السّلام فحفظتها، أخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 4] مسندا وقال:
هذا حديث غريب له علة عجيبة؛ رواه علي بن خشرم المروزي، عن علي بن الحسين بن واقد: بلغني أن عمر، اه. يعني أنه منقطع، وقد ساقه من غير طريق علي بن خشرم مسندا ولا يثبت، والله أعلم.
وعن أبي سعيد الخدري أيضا ولفظه: أنا أعرب العرب، ولدت في بني سعد بن بكر، فأنّى يأتيني اللحن؟.
قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد ضعيف.
قال: وأخرج أبو الحسن الضحاك في الشمائل، وابن الجوزي في الوفاء بإسناد ضعيف من حديث بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفصح العرب، وكان يتكلم بكلام لا يدرون ما هو حتى يخبرهم.
قلت: من شواهده الصحيحة: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ... الحديث.(2/50)
[51- باب ذكر أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره]
51- باب ذكر أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره 254- حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا أبو الحسن: علي بن محمد بن سختويه العدل قال: أخبرني عبيد بن عبد الواحد بن شريك وأحمد بن إبراهيم بن ملحان قالا: حدثنا عمرو بن خالد، ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن (254) - قوله: «عبيد بن عبد الواحد بن شريك» :
البزّار، الحافظ الرحالة، الصدوق: أبو محمد البغدادي، أثنى عليه أصحابه، وقال الدارقطني: صدوق، ووصفه الذهبي بالمحدث المفيد. انظر: سير أعلام النبلاء [13/ 385] ، تاريخ الإسلام [وفيات 290- ص 219] ، تاريخ بغداد [11/ 99] ، تاريخ دمشق [38/ 208] ، تاريخ جرجان [/ 512، 520] ، لسان الميزان [4/ 120] .
قوله: «وأحمد بن إبراهيم بن ملحان» :
البلخي، الإمام الحافظ المتقن أبو عبد الله البغدادي صاحب يحيى بن بكير، وأحد الحفاظ الأعلام، وثقه الدارقطني.
انظر: تاريخ بغداد [4/ 11] ، سير أعلام النبلاء [13/ 533- 534] ، معجم الطبراني الصغير [1/ 44]
قوله: «حدثنا عمرو بن خالد» :
هو ابن فروخ الجزري، الإمام الحافظ الثبت: أبو الحسن الحرّاني، التميمي نزيل مصر، وأحد رجال البخاري في الصحيح.
قوله: «ثنا ابن لهيعة» :
هو: عبد الله الحافظ المعروف ممن يعتبر به إذا لم يبين السماع، فأما إذا-(2/51)
أبي حبيب وعقيل عن ابن شهاب، عن أنس قال: لما ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك أبا إبراهيم.
قال أبو سعد رحمه الله:
255- ولد له صلى الله عليه وسلم ثلاث بنين- وقيل: أربعة بنين- من خديجة وأربع بنات.
فالبنون: القاسم- وبه كان يكنى- وعبد الله وهو الطيب، والطاهر، وإبراهيم.
والبنات: فاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وكلهم من خديجة إلّا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم ولدوا في الجاهلية إلّا فاطمة وإبراهيم فإنهما ولدا في الإسلام.
256- فأما القاسم والطيب فماتا بمكة بعد سبع ليال، وأما إبراهيم فولد بالمدينة بعد ثمان سنين من الهجرة، ومات بها وله سنة وستة أشهر وثمانية أيام، وقبره بالبقيع.
257- وأما زينب فتزوجها أبو العاص بن الربيع واسمه القاسم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وأمه هالة بنت خويلد، فهو ابن خالتها، تزوجها وهو مشرك فقالت له قريش: طلقها فنزوجك بنت سعيد بن العاص، فأبى أبو العاص، وأتت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، ثم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقدم أبو العاص المدينة بعد أربع سنين- بين فهو ثقة، وقد بين سماعه لحديث الباب عند البزار، وبقية رجال السند على شرط الصحيحين، فالحديث حسن إن شاء الله.
أخرجه البزار في مسنده [2/ 189 كشف الاستار] رقم 1492 من طريق عثمان بن صالح، ثنا ابن لهيعة به- وقال: لا نعلم رواه عن الزهري، عن أنس إلّا عقيل-، والحاكم في المستدرك [2/ 604] وسكت عنه هو والذهبي.(2/52)
فأسلم وحسن إسلامه، ثم ماتت بالمدينة لسبع سنين من الهجرة، ولها منه بنت اسمها أمامة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها في صلاته، وتزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد فاطمة، فكان علي ختنه على ابنته وابنة ابنته.
258- ثم تزوج أبو العاص بنت سعيد بن العاص.
259- ثم زوّجت أمامة بعد علي المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فولدت له يحيى ولم يعقب.
260- وأما رقية فتزوجها عتبة بن أبي لهب وهو ابن عمتها، وطلقها قبل أن يدخل بها، ولحقها منه أذى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمّ سلط على عتبة كلبا من كلابك، فتناوله الأسد من بين أصحابه، وكانوا قد اجتهدوا في حفظه وحراسته، ثم تزوجها عثمان بالمدينة فولدت له عبد الله، ومات صغيرا، نقره الديك في عينه فمرض، وماتت بعده بسنة وعشرة أشهر وعشرين يوما من الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر.
261- وأما أم كلثوم فتزوجها عتيبة بن أبي لهب فأمره أبوه فطلقها، ثم تزوجها عثمان بعد رقية، وتوفيت لثمان سنين وشهر وعشرة أيام من الهجرة.
262- وأما فاطمة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد سنة من مقدمه المدينة، وابتنى بها بعد سنة أخرى، وماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة يوم، وولدت له: الحسن، والحسين، ومحسنا، وأم كلثوم الكبرى، وزينب الكبرى.
(260) - قوله: «اللهمّ سلط على عتبة» :
يأتي فيمن دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم من باب: أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.(2/53)
[52- باب ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن وصفاته]
52- باب ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن وصفاته قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ الآية.
قوله: «ذكر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن وصفاته» :
يعني على سبيل الإشارة والبيان لا الحصر؛ فإنه لم يورد إلّا النذر اليسير، وجلّ- إن لم نقل كل- ما في القرآن نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف، قال بعضهم: وكذلك الأمر في الأسماء التي وردت في الأحاديث أنها مشتقة من صفات قامت به أوجبت له صلى الله عليه وسلم المدح والكمال، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين: كالصادق والمصدوق والرؤوف الرحيم ...
إلى أمثال ذلك، قال: ولهذا قال من قال من الناس: إن لله ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، قال: ومقصوده الأوصاف، اه.
وقال ابن عساكر رحمه الله: إذا شقت أسماؤه من صفاته كثرت جدّا، وقال الإمام النواوي رحمه الله في تهذيبه: فإطلاقهم على هذه الصفات أسماء مجاز.
وقد أفرده بالتصنيف جماعة، منهم: أبو الخطاب ابن دحية، ذكر فيه ما ورد منها في القرآن والأخبار وضبط ألفاظها وشرح معانيها وأنهاها إلى ثلاثمائة، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: غالب الأسماء التي ذكرها وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد منها على سبيل التسمية. اه.
وممن أفرده بالتصنيف: السيوطي في الرياض الأنيقة، قال في مقدمة كتابه:
والذي وقفنا عليه من أسمائه ثلاثمائة وبضع وأربعون، قال: وهي أقسام:
الأول: ما ورد في القرآن بصريح الاسم.
-(2/54)
وقال عزّ من قائل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ الآية، وقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الآية.
263- فسمّاه عبدا فقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ الآية.
وقال عزّ وجلّ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ الآية.
- الثاني: ما ورد فيه بصيغة الفعل.
الثالث: ما ورد في الحديث والكتب القديمة.
ثم أورد في كل قسم ما يخصه من ذلك، وقد رتب الأسماء في كتابه مبتدءا بحرف الألف منتهيا بحرف الياء، ثم أردفه بفصل ذكر فيه ما يحفظ له صلى الله عليه وسلم من الكنى.
واعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وعلو مقامه، ولذلك كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، سيما إذا أريد معها المشتقة من صفاته عز وجل، ولذلك قال بعضهم: قول من قال: إن لله ألف اسم، لم يعظمه؛ فأسماؤه السنية وصفاته العلية وكلماته التامة أجلّ وأكبر من أن تنفد.
قال ابن العربي في العارضة: إن الله خطط النبي صلى الله عليه وسلم بخططه، وعدد له أسماءه، والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه ... ، قال: وأسماؤه صلى الله عليه وسلم لم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر بصيغة الأسماء البينة، فوعيت منها جملة الحاضر الآن: سبعة وستون اسما ... اه.
وقال ابن القيم رحمه الله في الزاد: وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل كمحمد وأحمد، والعاقب والحاشر، والمقفي، ونبي الملحمة.
والثاني: ما يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله فهو مختص بكماله دون أصله كرسول الله ونبيه وعبده ونبي الرحمة والشاهد والمبشر والنذير ونبي التوبة.(2/55)
264- وسمّاه نذيرا مبينا فقال: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) الآية.
265- وسمّاه أحمد في قوله عزّ وجلّ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ الآية.
266- وسمّاه محمدا فقال: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ الآية.
267- وسمّاه رحمة فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) الآية.
268- وسمّاه مصطفى فقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الآية.
269- وسمّاه رؤوفا رحيما فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ (128) (268) - قوله: «وسماه مصطفى» :
الاصطفاء: الاختيار من الصفوة، وهي الخلاصة، ومنه قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ، وقال تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ، قال السيوطي عند ذكر اسم المصطفى: هو من أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، قال: روى مسلم حديث: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ... الحديث، وفيه: واصطفاني من بني هاشم، اه. ولم يستدل على ذلك من القرآن.
(269) - قوله: «وسماه رؤوفا رحيما» :
قال القاضي عياض رحمه الله في الشفاء: اعلم أن الله تعالى خص كثيرا من الأنبياء بكرامة خلعها عليهم من أسمائه، كتسمية إسحاق وإسماعيل بعليم وحليم، وإبراهيم بحليم، ونوحا بشكور، وفضل محمّد صلى الله عليه وسلم بأن حلاه منها في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه بعدة كثيرة اجتمع لنا منها نحو ثلاثين اسما..-(2/56)
حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) الآية.
270- وسمّاه صدقا فقال: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ الآية.
271- وسمّاه نبيّا فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الآية.
272- وسمّاه رسولا فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية.
273- وسمّاه كريما فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) الآية.
- وذكرها، وزاد عليها السيوطي في الرياض مثلها، ولعل ما يصفو منها النصف.
(270) - قوله: «وسماه صدقا» :
ذكره السيوطي في الرياض وقال: ذكره بعضهم أخذا من قوله تعالى ...
وذكر الآية.
(273) - قوله: «وسماه كريما» :
ذكره غير واحد في أسمائه صلى الله عليه وسلم مستدلا بهذه الآية، قال الماوردي في النكت والعيون، في الموضع الأول من قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ- أعني التي في الحاقة-[6/ 86] : فيه قولان: أحدهما جبريل، قاله الكلبي ومقاتل، والثاني رسول الله، قال ابن قتيبة: وليس القرآن من قول الرسول، إنما هو من قول الله، وإبلاغ الرسول، فاكتفى بفحوى الكلام عن ذكره.
وقال في الموضع الثاني- وهي التي في التكوير [6/ 218]-: في الرسول الكريم قولان: أحدهما جبريل، قاله الحسن وقتادة والضحاك، الثاني:
النبي، قاله ابن عيسى، قال: فإن كان المراد جبريل فمعناه: قول رسول الله كريم عن رب العالمين.
قال السيوطي: وهو من أسماء الله تعالى، ومعناه: المتفضل، وقيل:
الغفور، وقيل: العلي، وقيل: الكثير الخير، قال: قال القاضي عياض:
والمعاني صحيحة في حقه صلى الله عليه وسلم.(2/57)
274- وسمّاه نورا فقال: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ الآية.
275- وسمّاه نعمة فقال: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها الآية.
276- وسمّاه عبد الله فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) الآية.
وسمّاه بأسامي في آية واحدة فقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) الآية.
(274) - قوله: «وسماه نورا» :
ذكره السيوطي في الرياض وأورد فيه الآية التي أوردها المصنف وقال: قال جماعة: النور هنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وفي نكت الماوردي [2/ 22] : في النور تأويلان: أحدهما: محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو قول الزجاج، الثاني: القرآن، وهو قول بعض المتأخرين.
(275) - قوله: «وسماه نعمة» :
أخرج ابن جرير في تفسيره [14/ 157] عن السدي في قوله تعالى:
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ... الآية، قال: محمّد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: عرفوا نبوته ثم جحدوها وكذبوه.
وذكر السيوطي في الرياض الأنيقة عن عمرو بن عطاء في هذه الآية أنهم كفار قريش، ومحمد نعمة الله.
وقال في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار في هذه الآية قال: هم قريش، ومحمد النعمة.
ولم أره في تفسيره كذلك.(2/58)
277- وسمّاه رجلا فقال: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) الآية.
278- وسمّاه إنسانا فقال: يس (1) الآية.
279- وسمّاه مذكّرا فقال: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ الآية.
(277) - قوله: «وسماه رجلا» :
يعني في تفسير ابن عباس أنها رجل بالنبطية أو السريانية، أخرجه من طرق بأسانيد: ابن جرير في تفسيره [16/ 135- 136] ، وابن أبي حاتم [7/ 2415] ، والحارث في مسنده [2/ 726 بغية الباحث] رقم 718، والطبراني في معجمه الكبير [11/ 441] رقم 12249، وابن عساكر في تاريخه [3/ 30] .
وعزاه في الدر المنثور أيضا: لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن مردويه، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة وقتادة والحسن والضحاك نحو قول ابن عباس.
وأخرج الحاكم في المستدرك [2/ 378] عن ابن عباس في قوله تعالى:
طه (1) ، قال: هو كقولك: يا محمد بلسان الحبشي، صحح إسناده، وقال الذهبي: صحيح.
(278) - قوله: «وسماه إنسانا» :
يعني في تفسير ابن عباس، أخرجه من طرق بأسانيد: ابن أبي حاتم [10/ 3188] ، وابن جرير [22/ 148] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 159] ، هو مروي أيضا عن الحسن وعكرمة والضحاك، قال السيوطي: أخرج حديثهم عبد بن حميد، وأخرج البيهقي في الدلائل [1/ 158] ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 30] عن محمد ابن الحنفية في قوله تعالى:
يس قال: محمد، وأخرج ابن جرير [22/ 149] عن قتادة: قسم كما تسمعون إنه لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وروي عن كعب الأحبار، عزاه السيوطي لابن مردويه.(2/59)
280- والهادي.
281- والذكر.
282- والشافع.
(280) - قوله: «والهادي» :
لم يذكر الآية التي تدل عليه، قال السيوطي في الرياض: ذكره جماعة أخذا من قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) ، وهو من أسمائه تعالى، والهداية تطلق على خلق الاهتداء وذلك من وصفه تعالى خاصة وهو المنفي في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية، وتطلق على البيان والدلالة بلطف، وهذه يتصف بها الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم، ويطلق أيضا على الدعاء، وفيه: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ، أي: داع.
(281) - قوله: «والذكر» :
أيضا لم يذكر الآية التي تدل عليه، وقد أخرج ابن جرير في تفسيره [28/ 152] عن السدي في قوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً الآية، قال:
الذكر: القرآن، والرسول: محمّد صلى الله عليه وسلم، قال ابن جرير: وقال آخرون:
الذكر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال السيوطي في الرياض في اسمه الذكر: ذكره العزفي وابن دحية، وقالا:
لأنه شريف في نفسه مشرف غيره، يجز عنه به فاجتمعت له وجوه الذكر الثلاثة.
(282) - قوله: «والشافع» :
ثبوته في الأحاديث أصرح منه في القرآن صلى الله عليه وسلم.(2/60)
[53- باب ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم الّتي وردت بها الأخبار]
53- باب ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم الّتي وردت بها الأخبار 283- أخبرنا أبو عبد الله: الحسين بن أحمد بن محمد الصفّار الهروي رحمه الله- قدم علينا حاجّا سنة تسع وخمسين وثلاث مائة- قال: ثنا محمد بن محمد بن عمار قال: ...
(283) - قوله: «الصفّار الهروي» :
الشماخي، صاحب المستخرج على صحيح مسلم، وصفه الذهبي في السير بالمحدث، الحافظ الجوال المصنف، وقال: سمع ابن أبي حاتم وأبا جعفر الطحاوي، وأبا العباس بن عقدة وطبقتهم، روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال مثل ما قال المصنف هنا: قدم علينا سنة تسع وخمسين وثلاث مائة، وزاد: كذاب، لا يشتغل به، كتبنا عنه العجائب، ثم اجتمعت بابن أبي ذهل فأفحش القول فيه، وقال لي: دخلنا معا بغداد وقد مات البغوي، وهو ذا يحدث عنه ولا يحتشمني، ثم قال الحاكم:
يحتمل أنه سمع من البغوي وما علم ابن أبي ذهل فإنه قال: دخلنا وهو في آخر علته.
وقال البرقاني: كتبت عنه الكثير، ثم بان لي أنه ليس بحجة، وضعفه ابن أبي ذهل، توفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.
سير أعلام النبلاء [16/ 360] ، الوافي بالوفيات [12/ 261] ، تاريخ ابن عساكر [14/ 24] ، الأنساب [3/ 453] ، اللباب [2/ 207] ، تاريخ بغداد [8/ 8- 9] ، الميزان [1/ 51] .
قوله: «ثنا محمد بن محمد بن عمار» :
أبو الفضل الهروي الحافظ، ذكره الخطيب في تاريخه، وقال: قدم بغداد-(2/61)
ثنا أبو إسحاق: إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي قال: حدثنا جعفر بن عون، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، ...
- وحدث بها عن أبي يحيى: زكرياء بن داود الخفاف النيسابوري، وابن أبي علي المصري.
تاريخ بغداد [3/ 216] .
قوله: «الوكيعي» :
الإمام الفقيه، كان ضريرا، لم يكن ببغداد في زمانه أعلم بالفرائض منه، وثقه الدارقطني، وأثنى عليه عبد الله ابن الإمام أحمد.
تاريخ بغداد [6/ 5] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 289- ص 99- 100] ، أخبار القضاة لوكيع [1/ 212، 3/ 76] ، معجم الطبراني الصغير [1/ 80] .
قوله: «حدثنا جعفر بن عون» :
المخزومي أحد الحفاظ الثقات، من رجال الستة.
تهذيب الكمال [5/ 70] ، تهذيب التهذيب [2/ 86] ، الكاشف [1/ 130] ، التقريب [/ 141] .
قوله: «عن مسعر» :
هو ابن كدام الهلالي، الحافظ الثبت أبو سلمة الكوفي، اتفق على جلالته، وحديثه في الكتب الستة.
تهذيب الكمال [27/ 461] ، تهذيب التهذيب [10/ 103] ، الكاشف [3/ 121] ، التقريب [/ 528] .
قوله: «عن عمرو بن مرة» :
الجملي، الإمام العابد، الثقة الصالح: أبو عبد الله المرادي، الكوفي، الأعمى، حديثه في الكتب الستة.
تهذيب الكمال [22/ 232] ، تهذيب التهذيب [8/ 89] ، الكاشف [2/ 295] ، التقريب [/ 426] .(2/62)
عن أبي عبيدة، عن أبي موسى قال: سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأسماء منها ما حفظناه فقال: أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّي، ونبي الرحمة، والملحمة.
قوله: «عن أبي عبيدة» :
هو ابن عبد الله بن مسعود الكوفي يقال: لا يسمى، وقيل: اسمه عامر وهو بكنيته أشهر، أيضا حديثه في الكتب الستة، وهو من الثقات، لم يسمع من أبيه شيئا، فضعف حديثه عنه جاء من جهة الانقطاع لا من جهة ضعفه.
تهذيب الكمال [14/ 61] ، تهذيب التهذيب [5/ 65] ، الكاشف [2/ 51] ، التقريب [/ 656] .
قوله: «عن أبي موسى» :
هو الأشعري، الصحابي الجليل: عبد الله بن قيس أحد أمراء أمير المؤمنين عمر ثم عثمان، وأحد الحكمين بصفين.
الإصابة [6/ 194] ، سير أعلام النبلاء [2/ 380] ، أسد الغابة [3/ 367] .
قوله: «المقفي» :
بالياء أو الألف الممدودة، المتبع للأنبياء، أو الذي تتبعه الأمة.
قوله: «ونبي الرحمة» :
في رواية مسلم: نبي التوبة ونبي الرحمة، وفي رواية أخرى: نبي التوبة ونبي الملحمة.
أخرج الحديث من طرق عن عمرو: الإمام أحمد في مسنده [4/ 395، 404، 407] ، وابن أبي شيبة في المصنف [11/ 457] رقم 11739، ومسلم في الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم 2355، وأبو يعلى في مسنده [13/ 218] رقم 7244، وابن حبان في صحيحه- كما في الإحسان برقم 6314، والحاكم في المستدرك [2/ 604] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 156] ، وأبو نعيم في الحلية [5/ 99- 100] ، والطبراني في معجمه الصغير برقم 217، -(2/63)
قال المؤلف أبو سعد عبد الملك رحمه الله:
284- هو محمد، وأحمد، والحاشر، والماحي، والعاقب، والخاتم، ونبي الملحمة، ...
- وابن عساكر في تاريخه [3/ 26، 27] .
(284) - قوله: «والحاشر والماحي والعاقب» :
هي في حديث جبير بن مطعم عند الشيخين، وخرجناه في مسند أبي محمد الدارمي تحت رقم 2941- فتح المنان.
قوله: «والخاتم» :
هو في معنى العاقب الوارد في حديث جبير، فسّر العاقب فيه بالذي ليس بعده نبي، وفي رواية: ليس بعده أحد، وورد تفسير العاقب بالخاتم أيضا في رواية محمد بن ميسرة عن الزهري لحديث جبير بن مطعم عند البيهقي في الدلائل [1/ 14، 123] وفيه: وأنا العاقب، - يعني: الخاتم-، وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين: مثلي ومثل الأنبياء ... الحديث، وفيه:
وأنا خاتم النبيين، وأصرح من ذلك حديث الضحاك عن ابن عباس:
أنا أحمد، ومحمد، والحاشر، والمقفي والخاتم، أخرجه الطبراني في الصغير برقم 156، ومن طريقه الخطيب في تاريخه [5/ 99] ، وابن عساكر كذلك [3/ 29، 30] .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل برقم 20، وابن عساكر في تاريخه [3/ 28] ، وابن عدي في الكامل [3/ 1273] من حديث أبي الطفيل مرفوعا: إن لي عند ربي عشرة أسماء- قال أبو الطفيل حفظت منها ثمانية-: محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والعاقب، والحاشر، والماحي، قال أبو يحيى: وزعم سيف أن أبا جعفر قال له: إن الاسمين الباقيين:
طه ويس.
قلت: سيف بن وهب ضعفه الجمهور.(2/64)
والمتوكل، والغيث، والمقفي.
285- وفي كتب إبراهيم: مومود، وفي كتب الروم:
التلقيط.
قوله: «والمتوكل» :
يعني: المعتصم بالله المتعلق بربه في كل حال، الذي يكل إلى ربه كل أمره من غير جزع ولا خوف، المنخلع من الحول والقوة تذللا لربه.
والمتوكل اسمه في التوراة كما ورد في الحديث الصحيح الذي خرجناه في مسند أبي محمد الدارمي من حديث عبد الله بن سلام: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل ... الحديث، بسطنا تخريجه في فتح المنان حديث رقم 6.
قوله: «والغيث» :
الذي أغاث الله به البلاد والعباد، قال السيوطي في الرياض: ذكره ابن خالويه، وقال ابن دحية: سمي به لأنه كان أجود بالخير من الريج المرسلة، ولقد استسقى فأمطر الخير بالمطر الجود العام.
(285) - قوله: «مومود» :
هو اسمه في الزبور، ومعناه: محمود، قاله القاضي عياض والعزفي وابن دحية، قال السيوطي في الرياض: وفي حديث منقطع عن ابن عباس أن اسمه في السماء: محمود، نقله أبو حفص الموصلي في وسيلة المتعبدين.
قوله: «التلقيط» :
أورده السيوطي في الرياض الأنيقة وقال: ذكره ابن خالويه وابن دحية وقال: لأنه من أهل مكة وبها ولد، ومكة من تهامة، وتهامة ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، سميت بذلك لتغير هوائها، يقال: تهم الدهن إذا تغير.(2/65)
286- وفي مزمور: إن الله عزّ وجلّ أظهر من صهيون- أي: مكة- إكليلا محمودا فسماه: الإكليل المحمود.
287- وقال المسيح عليه السّلام: سيأتيكم روحا فارقليطا- يعني:
محمدا صلى الله عليه وسلم-.
288- وفي بعض الصحف المنزلة: اسمه أحيد- يعني: أحيد به عن النار-.
(286) - قوله: «وفي مزمور» :
من كتب النبي داود عليه السّلام، قال الماوردي في أعلام النبوة في فصل: ومن بشائر داود في الزبور: إن الله أظهر ... وذكره.
قوله: «صهيون» :
كذا في نسختين، وكذا في رياض السيوطي، وفي نسخة «ظ» صهيور، وفي أعلام الماوردي: صيفون، وفسره بأنه العرب، قال: والإكليل: النبوة، ومحمود هو: محمّد صلى الله عليه وسلم.
(287) - قوله: «وقال المسيح عليه السّلام» :
انظر الأثرين المتقدمين في باب التنويه بشرفه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة برقم 30، 27.
قوله: «روحا فارقليطا» :
ويقال أيضا: بارقليط، قال الماوردي في الأعلام: البارقليط بلغتهم لفظ من الحمد، وفي غرائب التفسير للكرماني معناه: ليس بمذموم، قال السيوطي في الرياض: ذكره العزفي وابن دحية، وقد روي عن ابن عباس أنه من أسمائه في الكتب المتقدمة، قال أبو نعيم: قيده ثعلب بالفاء، وقال: معناه الذي يفرق بين الحق والباطل، وقيده أبو عبيد البكري بالباء غير صافية، وقال: البارقليط روح الحق.
(288) - قوله: «أحيد» :
هو اسمه في التوراة، فأخرج ابن عدي في الكامل [1/ 331] ، ومن طريق-(2/66)
289- واسمه في السريانية: سرخطيلس، وبالعبرانية: موذموذ، وفي الإنجيل: مارينوليط، وفي الزبور: حاط حاط، وبالرومية:
محصياد، وفي صحف إبراهيم: طاب طاب- يعني: طيب طيب-، - ابن عساكر في تاريخه [3/ 31- 32] من حديث ابن عباس مرفوعا: سيد بنى دارا واتخذ مأدبة، وبعث داعيا، فالسيد: الجبار، والمأدبة: القرآن، والدار: الجنة، والداعي: أنا، فأنا اسمي في القرآن محمد، وفي الإنجيل:
أحمد، وفي التوراة: أحيد، وإنما سميت أحيد لأني أحيد عن أمتي نار جهنم، فأحبّوا العرب بكل قلوبكم.
قال السيوطي في الرياض: ضبطه شيخنا الشمّني بضم الهمزة، وسكون الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية وكسرها، وفي آخره دال مهملة.
(289) - قوله: «موذموذ» :
أورده السيوطي والذي قبله في الرياض وذكر هذا بالأوجه: ماذماذ، وموذموذ، وميذميذ، ثم قال: ذكره القاضي عياض وقال: هو اسمه في الكتب السالفة، ومعناه: طيب طيب، قال: وضبطه شيخنا الشمني بفتح الميم وألف غير مهموزة وذال معجمة.
قال: والثاني ذكره العزفي وقال: هو اسمه في صحف إبراهيم، وذكر الثالث وقال: هو اسمه في التوراة.
قوله: «مارينوليط» :
أغفله السيوطي فلم يذكره في الرياض، وكذا اسمه بالرومية: محصياد، وذكر بدله منجمنّا، وقال: ذكره في الشفاء، وقال: هو اسمه بالسريانية، وقال ابن إسحاق: هو اسمه في الإنجيل، ومعناه بالسريانية: محمد.
قوله: «حاط حاط» :
قال السيوطي في الرياض: ذكره العزفي وقال: هو اسمه في الزبور.(2/67)
واسمه في التوراة: مرحوما، وفي الزبور: فارق- يعني: فرق بين الحق والباطل-، وفي الإنجيل: أخرانا- يعني: آخر الأنبياء-، وفي السماوات: محمود، وفي صحف شيث: آخر ماح ماح- يعني: صحيح الإسلام-.
قوله: «أخرانا» :
كذا عندنا بالنون قبل الألف الأخيرة، وذكره السيوطي في الرياض بالياء التحتية قبل الألف أخرايا، وقال: هو اسمه في الإنجيل ومعناه: آخر الأنبياء، ثم ذكر: قدمايا وقال فيه: هو اسمه في التوراة أيضا، ثم أورد حديث ابن أبي شيبة في المصنف [14/ 97] عن كعب قال: أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فيفتح له: محمّد صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ علينا آية من التوراة:
أخرايا قدمايا، يعني: الآخرون الأولون.
قوله: «وفي السماوات محمود» :
تقدم ذكر ذلك في اسمه: مومود.
قوله: «آخر ماح» :
أورده السيوطي في الرياض وقال: ذكره العزفي وقال: هو اسمه في صحف شيث، ومعناه: صحيح الإسلام كما قال المصنف هنا.(2/68)
[54- فصل: فيما خصّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأسماء والكنى والألقاب]
54- فصل:
فيما خصّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأسماء والكنى والألقاب 290- روي أن الله بعث مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، منهم ثلاث مائة وثلاثة عشر مرسلا، والرسول لا يكون إلّا نبيا، والنبي يكون ولا رسالة.
وقد ذكر الله عزّ وجلّ أنبياءه عليهم السلام، فلم يقسم لأحد منهم اسما مشتقا من أسمائه تعالى، وشق له صلى الله عليه وسلم من الحميد والمحمود: محمّدا صلى الله عليه وسلم وقد مدحه بذلك عمه أبو طالب فقال:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
فبين كرامته صلى الله عليه وسلم، فالله محمود، وهو محمّد صلى الله عليه وسلم، يقال: حمدت الرجل: إذا أكثرت الثناء عليه، وهو محمد، فالرأس من الحيوان بمنزلة الميم من محمد، واليدان بمنزلة الحاء من محمد، والبطن بمنزلة الميم من محمد، والرجلان بمنزلة الدال.
(290) - قوله: «وشق له صلى الله عليه وسلم من الحميد» :
قال القاضي عياض رحمه الله: ومن أسمائه تعالى: الحميد، ومعناه:
المحمود؛ لأنه حمد نفسه وحمده عباده، ويكون أيضا بمعنى الحامد لنفسه ولأعمال الطاعات، وسمي النبي صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمد، محمد بمعنى:
محمود، وكذا وقع اسمه في زبر داود، وأحمد بمعنى: أكبر من حمد وأجل من حمد، قال: وقد أشار إلى نحو هذا حسان بقوله ... فذكر البيت.(2/69)
291- وسمّي صلى الله عليه وسلم أحمد لأن الأنبياء كلهم حامدون والنبي صلى الله عليه وسلم أحمد منهم أي: أفضل منهم في الثناء عليه صلى الله عليه وسلم.
292- وكني صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم لأنه يقسم الجنة يوم القيامة بين الخلق.
293- ومن صفاته صلى الله عليه وسلم في الكتب: راكب الجمل وآكل الذراع، وقابل الهدية، ومحرّم الميتة، وخاتم النبوة، وحامل الهراوة.
294- ويقال: إن كنيته صلى الله عليه وسلم في التوراة: أبو الأرامل، واسمه:
صاحب الملحمة، وفي التوراة: إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب (292) - قوله: «لأنه يقسم الجنة يوم القيامة» :
أي منازلها بشفاعته صلى الله عليه وسلم، كما يعلم من أقسام شفاعته صلى الله عليه وسلم أنه يبلغ أقواما منازلهم لم تبلغها أعمالهم، وفي الصحيحين من حديث معاوية: إنما أنا قاسم والله يعطي، وفي رواية: إنما أنا قاسم ويعطي الله.
(293) - قوله: «راكب الجمل» :
أورده السيوطي في الرياض وقال: ذكره ابن دحية، وقال: ورد في كتاب النبوة شعيا وهو ذو الكفل أنه قال: قيل لي: قم نظارا فانظر ماذا ترى فأخبر عنه، فقلت: أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل فنزل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها، قال: فراكب الحمار: عيسى، وراكب الجمل: محمد، لأن ملك بابل إنما ذهب بنبوته وبسيفه على يد أصحابه كما وعدهم به.
قلت: ولهذا قال النجاشي لما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به: أشهد أن بشارة موسى راكب الحمار كبشارة عيسى راكب الجمل، وقد ورد في باب التنوية بشرفه في الكتب المتقدمة بعض هذه الصفات.(2/70)
البعير، فسماه راكب البعير، وسماه في كتب شعيا: نور الأمم، وفي كتابه أيضا: هو نور الله الذي لا يطفأ، وهو ركن المتواضعين، صلى الله عليه وسلم.
295- وقد روي في بعض الأخبار: إن لي عند الله عشرة أسماء:
أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي- الذي يمحو الله بي الكفر-، وأنا العاقب- الذي ليس بعدي نبي-، وأنا الحاشر- يحشر الله العباد على قدمي-، وأنا رسول الرحمة، ورسول التوبة، والمقفّي، ورسول الملأ، قفيت النبيين جميعا، وأنا قثم- والقثم: الكامل الجامع-.
296- وقال صلى الله عليه وسلم: أنا الأول والآخر، والظاهر والباطن، وقيل: إن هذه تحية الملائكة له ليلة المعراج فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال:
ما هذه التحية؟ فقال جبريل عليه السّلام: أنت أول في النبوة، وآخر في البعثة.
(294) - قوله: «ركن المتواضعين» :
أورده السيوطي في الرياض الأنيقة، وذكر أنه وقع في كتاب شعيا كما ذكر المصنف هنا.
(295) - قوله: «وقد روي في بعض الأخبار» :
خرجناه قريبا عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم الخاتم.
قوله: «وأنا قثم» :
فيه عن يونس بن حلبس، خرجناه في مسند أبي محمد الدارمي تحت رقم 56- فتح المنان-، وقيل في معناه أيضا: الجامع للخير.
(296) - قوله: «أنا الأول والآخر» :
لم أقف عليه مسندا بهذا اللفظ، وسيأتي حديث الإسراء الذي أشار إليه المصنف في باب المعاريج، ويأتي تخريجه، وبعضهم استدل عليهما بأحاديث فيها معنى الوصفين، وقد أثار إطلاق هذه الأسماء عليه صلى الله عليه وسلم حفيظة بعض الحمقى بزعم اختصاص ذلك بالرب الخالق جلّ وعلا وغفلوا عما ورد في-(2/71)
297- وقيل في تفسير اسم محمّد صلى الله عليه وسلم: أن الميم الأولى ميم المعرفة، أعطاه الله معرفة بعلم الأولين والآخرين.
- كتابه العزيز في حق الإنسان العادي: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً، وقوله سبحانه في حق إسماعيل عليه السّلام: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) ، وأمثاله في القرآن كثير، وقد قال ابن تيمية في التدمرية وغيرها: وليس الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير. اه.
فأما الأول والآخر فمستفاد من قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الآية، ومن أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة منها: حديث أنس: إني لأول من تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وحديثه أيضا: أنا أول شفيع، وحديثه أيضا: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، وحديث جابر:
أنا أول شافع وأول مشفع، خرجناها في فتح المنان شرح مسند أبي محمد الدارمي، كتاب فضائل سيد الأولين والآخرين، وعند البزار برقم: 55 (كشف الأستار) ، والبيهقي في الدلائل [2/ 402- 403] في حديث أبي هريرة الطويل في قصة الإسراء، وفيه: جعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا، ومن حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة:
كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، أخرجه أبو نعيم في الدلائل برقم 3، والبغوي في تفسيره [5/ 232] وغيرهما، ورواه ابن سعد في الطبقات عن قتادة مرسلا، فهو الأول والآخر من هذه الحيثيات.
وقد ذكر الاسمين القاضي عياض في الشفاء مع جملة من أسمائه صلى الله عليه وسلم التي حلّا بها نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأوردهما السيوطي في الرياض- أعني اسمه صلى الله عليه وسلم الأول والآخر- وقال: ذكرها جماعة، ثم ذكر الأحاديث التي أوردتها وغيرها مستشهدا بها.
فأما الظاهر والباطن، فحكى السيوطي في الرياض النضرة ذكر ابن دحية لهما، قال ابن دحية في اسمه الظاهر: رواه كعب الأحبار، وأورد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ الآية، -(2/72)
وأما الحاء فإن الله عزّ وجلّ أحيا المسلمين على يديه من الكفر بالإسلام حيث قال تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ الآية.
والميم الثانية: ميم الملك، أعطاه الله مملكة لم يعط أحدا مثل ذلك، وذلك أن جمع اسمه مع اسم الله في المشرق والمغرب.
وأما الدال: فهو الدليل لجميع الخلائق إلى الفردوس.
298- وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجها.
299- وروت خليلة بنت الخليل قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني امرأة لا يعيش لي ولد فما تأمرني؟ قال: اجعلي لله على نفسك أن تسميه محمدا فإنه يعيش، ففعلت، فعاش، فما بالبحرين أهل بيت أكثر منهم.
- قال: والظهور: العلو والغلبة. اه. يعني: وقد كان ذلك له صلى الله عليه وسلم.
(298) - قوله: «إذا سميتم الولد محمدا» :
أخرجه الخطيب في تاريخه [3/ 90- 91] بإسناد ضعيف وفيه من لم أعرفه.
(299) - قوله: «خليلة بنت الخليل» :
لم أعرفها، ولا رأيت أحدا ذكرها في الصحابة، ولا وقفت على حديثها مسندا، ولها عند المصنف أثران آخران في أعلام النبوة.(2/73)
[55- فصل: ولقبه صلى الله عليه وسلم الذّبيح]
55- فصل:
ولقبه صلى الله عليه وسلم الذّبيح 300- لقوله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن الذبيحين- يعني: إسماعيل وعبد الله-.
301- قال الصنابحي: حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم عليه السّلام، فقال بعض القوم:
إسماعيل الذبيح، وقال بعضهم: إسحاق.
فقال معاوية: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله خلفت البلاد وهي يابس، والماء عابس، (301) - قوله: «وقال الصنابحي» :
هو عبد الرحمن بن عسيلة المرادي، وصنابح بطن من مراد، من اليمن، كان الصنابحي رحل إلى النبي ليسلم فقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجحفة، ثم نزل الشام، ومات بدمشق.
تهذيب الكمال [17/ 282] ، طبقات ابن سعد [7/ 443، 592] ، سير أعلام النبلاء [3/ 505] ، مسند الإمام أحمد [4/ 384] ، تهذيب التهذيب [6/ 208] ، الكاشف [2/ 157] ، التقريب، الترجمة رقم 3952.
قوله: «فقال معاوية» :
أخرج حديثه ابن جرير في تفسيره [22/ 85] ، وسكت عنه الحاكم في المستدرك بعد إخراجه له [2/ 554] ، ووهّى إسناده الذهبي في التلخيص، وقال الحافظ في الفتح: [12/ 395] : رويناه في الخلعيات، ونقله عبد الله بن أحمد عن أبيه، وابن أبي حاتم، وأطنب ابن القيم في الهدي في الاستدلال لتقويته.(2/74)
هلك العيال، وضاع المال، فعد علي بما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه.
فقيل: وما الذبيحان؟
قال: إن عبد المطلب نذر أن ينحر بعض ولده، فخرج السهم على عبد الله، فأراد ذبحه، فمنعه أخواله من بني مخزوم، ففداه بمائة ناقة، فقال: هو الذبيح، وإسماعيل عليه السّلام الثاني.
302- فأما إسماعيل فقصته معروفة، وذلك أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم في منامه أن يذبح له ابنه إسماعيل إذا فرغ من نسكه ورمى جمرة العقبة، قال تعالى: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الآية، فلما رمى حمله إلى قريب منها وأضجعه على وجهه كيلا يلحقه رأفة الوالد لولده إذا وقعت عينه في عينه، وأخذ المدية بيده ووضعها على حلقه امتثالا لأمر ربه، ورضي الغلام واستسلم ببذل مهجته، وبكت الملائكة لما شهدت، وتحزنت لما عاينت، وسبحت الطيور في الجو وتضرعت، وبقيت الشياطين من استسلامهما متعجبة.
فلما علم الله صدقهما، وحسن طاعتهما، ناداه: أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) .
303- فجعل صلى الله عليه وسلم لنا الهدايا والضحايا من النعم بدلا من القربان بالأولاد.
304- والثاني: عبد الله، وقصته أن عبد المطلب أري في المنام أن يذبحه.(2/75)
305- وقيل: إنه نذر: إن ولد له عشرة من البنين أن يذبح العاشر، فلما ولد له عشرة كان العاشر عبد الله، فهمّ أن يقتله فزجر عن ذلك، فقال: إني قد نذرت ذلك، فقال أخوال عبد الله: نحن لا نرضى بذلك، وذلك أن أمه كانت سوى أمهات سائر بنيه، وقالوا: ما بالنا يقتل ابن أختنا دون غيره؟ قال: إني نذرت أن أقتل العاشر، فاتفقت آراؤهم أن يخرجوا إلى الشام فيسألوا بعض الكهنة، فقيل: إنهم خرجوا فأشار عليهم الكاهن أن يقدم قربانا، ويضرب عليهم القداح، فقدم عشرة من الإبل، وضرب بالقداح فخرجت على ابنه، فلم يزل يزيد في الإبل عشرا عشرا حتى بلغت مائة، فخرجت القداح على الإبل فكبروا واستبشروا- والقداح: هي القرعة- فنحرها عند الكعبة، وصارت هي الأصل في الديات، لا يجاوز ولا ينقص عنها، فسمي عبد الله: الذبيح.(2/76)
[56- فصل: ذكر قصّة حفر عبد المطّلب بن هاشم بئر زمزم]
56- فصل:
ذكر قصّة حفر عبد المطّلب بن هاشم بئر زمزم 306- لما كان زمن الفيل خرجت قريش فارة من الفيل، وعبد المطلب غلام شاب فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العز من غيره، قال: فجلس عند البيت وجلت عنه قريش وهو يقول:
لا همّ إن المرء يمنع رحله ... فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ... وضلالهم عدوا محالك
قال: فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، حتى ولد له أكبر بنيه: الحارث، فأتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم، فاستيقظ فقال: اللهمّ بيّن لي، فأتي في المنام مرة أخرى فقيل له: احفر تكتم بين الفرث والدم في مبحث (306) - قوله: «لما كان زمن الفيل» :
نقلنا هذا الفصل من باب فضل مكة للمناسبة القوية هنا، والقصة مسندة عن المصنف بإسناده إلى أبي الوليد في تاريخه [2/ 42] وهو بإسناده عن معمر، عن الزهري، وهي في مغازيه [/ 37- 43] ، وفي سياق الزهري في مغازيه قصة أبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ووفاته وولادة النبي صلى الله عليه وسلم إلى حين نشأته صلى الله عليه وسلم وزواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها.
ومن طريق الزهري أخرجها بطولها الحافظ البيهقي في الدلائل [1/ 85- 91] .
قوله: «احفر تكتم» :
أثبتها محقق تاريخ أبي الوليد: احفر زمزم، قال: وفي الأصل: احفر تكتم، وفاته أن تكتم من أسماء زمزم.(2/77)
الغراب في قرية النمل، مستقبله الأنصاب الحمر، فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمّي له من الآيات، فنحرت بقرة بالحزورة فانفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم، فجزرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث، فبحث عن قرية النمل، فقام عبد المطلب فحفر هنالك، فجاءته قريش فقالت لعبد المطلب: ما هذا الصنيع، إنا لم نكن نزنك بالجهل، لم تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها.
فطفق هو وابنه الحارث وليس له ولد يومئذ غيره، فسفه عليهما يومئذ ناس من قريش، فنازعوهما، وقاتلوهما، وتناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من عتق نسبه، وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ.
حتى إذا أمكن الحفر واشتد عليه الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، فما زال يحفر حتى بلغ الماء، فطفق هو وابنه ينزعان الماء، وجعلا حوضا يمليانها ليشرب منه الحاج، فحسده قوم من قريش، فكسروا حوضه فأصلحه، فكسروه مرارا فساءه ذلك، فدعا ربه، فأري في المنام أن قيل له:
قل: اللهمّ إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي للشارب حلّ وبل، قوله: «فما زال يحفر» :
لفظ أبي الوليد: ثم حفر حتى أدرك سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت، فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالوا: يا عبد المطلب أجزنا مما وجدت، فقال: هذه السيوف لبيت الله الحرام.(2/78)
فلم يفسدوا بعد ذلك حوضه، ورمي كل من حسده بشيء في بدنه.
ثم تزوج عبد المطلب النساء، فولد له عشرة رهط، فقال: اللهمّ إني كنت نذرت لك ذبح أحدهم، فإني أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت، فأقرع بينهم، فصارت القرعة على عبد الله- وكان أحب أولاده إليه-.
قوله: «فلم يفسدوا بعد ذلك حوضه» :
لفظ أبي الوليد: فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش إلّا رمي في جسده بداء، حتى تركوا حوضه وسقايته.
قوله: «وكان أحب أولاده إليه» :
تمام الرواية عند أبي الوليد: فقال عبد المطلب: اللهمّ أهو أحب إليك أم مائة من الإبل؟ ثم أقرع بينه وبين المائة، فكانت القرعة على المائة من الإبل، فنحرها عبد المطلب.
وأخرجها الزهري- كما تقدم- في مغازيه فأطال سياقها حتى ضمنها قصة أبي النبي صلى الله عليه وسلم وزواجه من آمنة بنت وهب، وولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ونشأته إلى زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة.(2/79)
[57- فصل: ذكر رواية أخرى لرؤيا عبد المطّلب في أمر زمزم]
57- فصل:
ذكر رواية أخرى لرؤيا عبد المطّلب في أمر زمزم 307- وفي بعض الأخبار: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة، قال قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني فرجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر برّة، قال قلت:
وما برّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، عند قرية النمل.
قال: فلما بان له شأنها، ودلّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ليس له يومئذ غيره، فحفر فلما بدا لعبد المطلب الماء كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر إسماعيل وإن لنا فيها حقّا، (307) - قوله: «وفي بعض الأخبار» :
القصة مسندة عن المصنف من طريق أبي الوليد كما بيناه في الحديث المتقدم قبله، أخرجها أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 44] : حدثني محمد بن يحيى، عن الثقة عنده، عن محمد بن إسحاق، وهي في سيرته [1/ 142- 145، ابن هشام] ، ومن طريق ابن إسحاق أخرجها البيهقي في الدلائل [1/ 93] ، وأخرجها ابن سعد في الطبقات [1/ 83 وما بعدها] .
قوله: «فلما بدا لعبد المطلب الماء» :
كذا عندنا، وفي الرواية: الطّيّ، وهي الحجارة التي طوى بها البئر.(2/80)
فأشركنا فيها معك، فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، قالوا: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد- وكانت بالشام-.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، واستسقوا ممن معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم.
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلّا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل واحد منكم لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا. قالوا: سمعنا ما أردت.
قال: فقام كل رجل منهم يحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا.
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز لا نبتغي لأنفسنا حيلة، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.
قال: فارتحلوا، حتى إذا فرغوا- ومن معهم من قريش ينظرون إليهم وما هم فاعلون-، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب،(2/81)
وكبّر أصحابه، ثم نزل، فشرب وشربوا، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا.
قال: فشربوا واستقوا، فقالت القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا.
قال: فرجع ورجعوا معه ولم يمضوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبين زمزم.(2/82)
[58- فصل: ذكر رواية أخرى أيضا في ذلك]
58- فصل:
ذكر رواية أخرى أيضا في ذلك 308- عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتي عبد المطلب حين أمر بحفر زمزم فقيل له: ادع بالماء الرواء غير الكدر، فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال: أتعلمون أني قد أمرت أن أحفر زمزم؟ قالوا: فهل بيّن لك أين هي؟ قال: لا، قالوا:
فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يكن حقّا من الله بيّن لك، وإن يكن من الشيطان لم يرجع إليك، فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام، فأري، فقيل له: احفر زمزم، إن حفرتها لم تذم، وهي تراث أبيك الأعظم، فلما قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قال قيل: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب.
قال: وكان عبد المطلب نذر لله عزّ وجلّ حين أمر بحفر زمزم لئن (308) - قوله: «عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» :
أخرجها ابن إسحاق [1/ 145- 147 وما بعده ابن هشام] ، ومن طريقه أبو الوليد في تاريخ مكة [2/ 46 وما بعده] ، وعنه المصنف كما بيناه قريبا، لكنه اختصر اللفظ فلم يورده بطوله.
قوله: «وهي تراث أبيك الأعظم» :
زاد ابن هشام عن ابن إسحاق، في رواية أخرى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام حافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم.(2/83)
تم له ذلك، وتتام له عشرة من الولد ليذبحن أحدهم، فلما تم له زمزم، وولد له عشرة من الذكور أقرع بين أولاده، فخرجت القرعة على عبد الله أب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه ليذبحه، فقامت إليه أخوال عبد الله وعظماء قريش فقالوا: والله لا تذبحه، فإنك إن تفعل ذلك تكن سنة علينا في العرب، وقالت قريش: إن بالحجاز عرّافة لها تابع فسلها، فإن أمرتك بذبحه فاذبحه، فجاءوا إلى المدينة، وسألوا المرأة فقالت: حتى يأتيني تابعي، فلما كان الغد غدوا عليها، فقالت: نعم، جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل، قالت: فارجعوا إلى بلادكم، وقربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح وعلى صاحبكم، فإن خرجت على الإبل فانحروها، وإن خرجت على صاحبكم فزيدوا في الإبل.
فلما رجعوا إلى بلادهم فعلوا، فكانت تخرج القرعة على عبد الله، فقالت قريش: يا عبد المطلب زد ربك حتى يرضى، فلم يزل يزيد عشرا عشرا حتى تم المائة، فخرجت القداح على الإبل فنحرت.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا ابن الذبيحين.(2/84)
[59- باب: في ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقه ونعته وحليته]
59- باب:
في ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقه ونعته وحليته 309- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر، قال: حدثنا الحباب بن محمد بن الحباب التستري، قال: حدثنا عثمان بن حفص، ...
(309) - قوله: «ابن مطر» :
الإمام القدوة شيخ العدالة، العالم محدث نيسابور: أبو عمرو المزكي النيسابوري، سمع المستملي أبا عمرو، ومحمد بن يحيى المروزي، وإبراهيم بن علي الذهلي وجماعة سواهم.
قال الحافظ الذهبي في سيره: كان ذا حفظ وإتقان، حدث عنه من القدماء أبو العباس ابن عقدة، قال الحاكم: وأعجب من ذلك: حدثنا محمد بن صالح بن هانيء، ثنا أبو الحسن الشافعي، ثنا أبو عمرو بن مطر- وقد ماتا قبله بدهر-، قال: وهو الذي انتقى الفوائد على أبي العباس الأصم فأحيا الله علم الأصم بتلك الفوائد، فإن الأصم أفسد أصوله واعتمد على كتاب ابن مطر.. قال الحاكم: وقلّ ما رأيت أصبر على الفقر من أبي عمرو ...
سير أعلام النبلاء [16/ 162] ، المنتظم [14/ 208] ، العبر [2/ 316] ، البداية والنهاية [11/ 271] ، النجوم الزاهرة [4/ 62] ، الشذرات [3/ 135] ، تاريخ الإسلام [وفيات 360 ص 140] .
قلت: شيخه الحباب بن محمد بن الحباب لم أجده فيما لدي من المصادر.
قوله: «عثمان بن حفص» :
لعله التومني، قال ابن حبان في الثقات [8/ 455] : من أهل الأهواز يروي-(2/85)
قال: حدثنا نوح بن قيس، عن خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي: أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ...
- عن أبي عاصم، وأهل البصرة، حدثنا عنه أهل الأهواز فلعله هو، لأن ابن حبان في طبقة شيوخ المصنف، والله أعلم.
قوله: «حدثنا نوح بن قيس» :
هو ابن رياح الأزدي، أبو روح الحداني- أو: الطاحي- البصري، من رجال الجماعة سوى البخاري، وهو شيعي لا بأس به، قال الحافظ الذهبي: صالح الحال، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق رمي بالتشيع.
تهذيب الكمال [30/ 53] ، تهذيب التهذيب [10/ 432] ، الكاشف [3/ 186] ، التقريب [/ 567] ، الميزان [5/ 404] .
قوله: «عن خالد بن خالد التميمي» :
هكذا هو منسوب في الإسناد، قال الحسيني في الإكمال: لم أعرفه، فتعقبه ابن حجر في التعجيل بقوله: قلت: هو خالد بن قيس أخو نوح بن قيس الأزدي البصري، وليس في شيوخ نوح بن قيس أحد اسمه خالد إلّا أخوه، ولا في الرواة عن يوسف بن مازن من اسمه خالد إلّا خالد الحذاء، لكنه لم يذكر في شيوخ نوح بن قيس. اه. هكذا قال فالله أعلم، وخالد بن قيس أخرج له الجماعة سوى البخاري، وثقه الذهبي في الكاشف، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق يغرب، انظر عن خالد بن خالد في:
الإكمال [/ 116] ، التعجيل [/ 77] .
وانظر عن خالد بن قيس في:
تهذيب الكمال [8/ 153] ، تهذيب التهذيب [3/ 97] ، الكاشف [1/ 207] ، التقريب [/ 190] .
قوله: «عن يوسف بن مازن الراسبي» :
بصري، ذكره البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما، قال ابن معين:
مشهور، وذكره ابن حبان في الثقات. -(2/86)
يا أمير المؤمنين انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم وصفه لنا، قال: كان صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولا، وفوق الرّبعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، ...
- قلت: هو من شرط الحسيني في الإكمال، وابن حجر في التعجيل، غير أن الحافظ المزي جمع بينه وبين يوسف بن سعد في ترجمة واحدة، وقد فرق البخاري وابن أبي حاتم بينهما، قال الحافظ ابن حجر في تهذيبه:
لا يلزم من اشتراكهما في الرواية عن القاسم بن الفضل وفي كونهما بصريين أن يكونا واحدا. اه. فهذا يعني أنه يميل للتفرقة بينهما تبعا للبخاري وابن أبي حاتم، فكان الأولى أن يفرده في التعجيل! انظر عن يوسف بن مازن في:
التاريخ الكبير [8/ 374] ، الجرح والتعديل [9/ 230] .
وانظر عن يوسف بن سعد في:
التاريخ الكبير [8/ 373] ، الجرح والتعديل [9/ 223] ، تهذيب الكمال [32/ 426] ، تهذيب التهذيب [11/ 363] ، الكاشف [3/ 261] .
قوله: «إذا جاء مع القوم غمرهم» :
بحسنه وبهائه، فلا ينظر إذا كان بين القوم ولا يلتفت إلّا إليه، وقيل:
بل معناه لم يكن أحد يماشيه ممن ينسب إلى الطول إلّا طاله، قال بعضهم:
هي مزية خص بها تلويحا بأنه لم يكن أحد عند ربه أفضل منه لا صورة ولا معنى.
قلت: المعنى الأول أوجه، والطول لا معنى له إن لم يصاحبه بهاء وجمال ووجاهة تجذب نظر الناظر وقلبه، هذا مع اشتمال المعنى الأول للثاني، والمعنيان لا يتضادان بل هما مؤيدان بالرواية، ففي رواية لأبي هريرة يصفه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الكفين ضخم القدمين، حسن الوجه لم أر مثله قبله ولا بعده، ما مشى مع أحد إلّا طاله ... الحديث، أخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 272] من حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عتبة، عنه، ويؤيد المعنى الأول رواية أبي الطفيل: رأيت-(2/87)
أبيض شديد الوضح، ضخم الهامة، أغر أبلج، أهدب الأشفار، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى يتقلع كأنما ينحدر في صبب، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ، لم أر قبله ولا بعده مثله بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم.
- رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى شدة بياض وجهه وشدة سواد شعره، وإن من الرجال لأطول منه، ومنهم من هو أقصر منه، ويمشي ويمشون خلفه ... الحديث، أخرجه ابن سعد في طبقاته وعلته جابر الجعفي، اتفق على ضعفه، والله أعلم.
قوله: «شديد الوضح» :
فسرته رواية غيره بالبياض المشرب حمرة.
قوله: «أغر أبلج» :
الأغر: البياض الذي يكون في الوجه، قال بعضهم: إذا قلت أغر فلا بد من زيادة في الوصف إذ الأغر ليس بضرب واحد بل هو جنس جامع لأنواع، ومن ثم عقبه بقوله: أبلج، قال الجوهري: البلجة: نقاوة ما بين الحاجبين، وقيل: حسن الوجه مع بياضه.
قوله: «أهدب الأشفار» :
الأشفار: حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر وهي الهدب، وفسرها البيهقي بطولها فقال: طويل الأشفار.
قوله: «شثن الكفين والقدمين» :
أي أنهما تميلان إلى الغلظ.
قوله: «لم أر قبله ولا بعده مثله» :
تابعه عن نوح بن قيس:
1- نصر بن علي، أخرجه عبد الله في زوائده على المسند [1/ 151] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 260] .
2- سعيد بن منصور، أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 411] ، ويعقوب بن-(2/88)
قال أبو سعد رحمه الله: وليس في الأحاديث في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أكمل وأتم وأحسن من حديث هند بن أبي هالة.
وكان هند خال الحسن بن علي رضي الله عنه، وكان أبو هالة زوج خديجة قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهند ابنها منه، وكان هند وصافا عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
310- قال الحسن بن علي: فأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به:
- سفيان في العرفة ضمن الجزء الفقود، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [1/ 216، 252]
* خالفهم المقدمي، عن نوح، فقال: عنه، عن خالد، عن يوسف، عن رجل، عن علي، أخرجه عبد الله في زوائده [1/ 151] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [3/ 261] .
قلت: الوجهان محفوظان، والحديث حسن عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وسيأتي نحوه عنه من غير هذا الوجه.
قوله: «هند بن أبي هالة» :
أمه خديجة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أبي هالة، اختلف في اسمه، فقيل: اسمه النباش بن زرارة حليف بني عبد الدار، وقيل: هند بن زرارة بن النباش، وقيل: مالك بن النباش، وقيل: زرارة بن النباش، فأما هند فقيل:
شهد بدرا، وقيل: أول مشاهده أحد، ثم قتل مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم الجمل.
أسد الغابة [5/ 417] ، الإصابة [10/ 161] ، المعرفة لأبي نعيم [5/ 2751] .
(310) - قوله: «فخما مفخما» :
جميلا مهيبا، مع تمام كل ما في الوجه من غير ضخامة ولا نقصان.(2/89)
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، قوله: «أقصر من المشذب» :
المشذب: المفرط في الطول ولا عرض له، وأصله: النخلة إذا جردت عن سعفها كانت أفحش في الطول، بمعنى أن طوله متناسب ومتناسق مع عرضه.
قوله: «عظيم الهامة» :
أي: تمام الرأس في تدويره.
قوله: «رجل الشعر» :
أي: بين القطط والسبط.
قوله: «إن انفرقت عقيصته» :
العقيصة: الشعر المجموع في القفا، والمعنى أنه كان لا يفرق شعره إلّا أن يتفرق، فكان يترك كل شيء في منبته، لكن قال ابن قتيبة: كان هذا أول الإسلام ثم فرق شعره بعد
قوله: «أزهر اللون» :
يريد أبيض اللون مشرقه، أو الأبيض المشرب حمرة كما ورد في حديث غيره.
قوله: «أزج الحواجب» :
الزجج: طول الحاجبين وسبوغهما إلى مؤخر العينين.
قوله: «في غير قرن» :
القرن: أن يطول الحاجبان حتى يلتقي طرفاهما، والمعنى: إن حاجبيه طويلة سابغة غير مقترنة- أي: غير ملتصقة- في وسط أعلى الأنف، بل هو أبلج، والبلج: بياض بين الحاجبين.(2/90)
بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، ...
قوله: يدره الغضب» :
أي: إذا غضب امتلأ العرق دما فيرتفع ويظهر.
قوله: «أقنى العرنين» :
العرنين: الأنف، والقنا: طول في الأنف مع دقة أرنبته.
قوله: «أشم» :
الدقيق الأنف، والشمم: ارتفاع القصبة وحسنها، يريد أن القنا الذي فيه ليس بمفرط.
قوله: «سهل الخدين» :
أي ليس فيهما نتوء وارتفاع، وقيل: يريد أسيل الخدين.
ووقع بعدها في «ظ» بزيادة: أشهل العينين، أدعج، وهذه الزيادة ليست ثابتة في غيرها، ولا جاءت في المصادر التي أخرجت الحديث، لذلك لم أثبتها، وقد فسرت الشهلة في غير هذا الحديث بالحمرة في سواد العين، أو بالسواد غير الخالص، وفسرت الدعجة بأنها شدة سواد العين، وشدة بياض بياضها، وقيل: شدة سوادها مع سعتها.
قوله: «ضليع الفم» :
أي: عظيمه، كانت العرب تستحسن الواسع وتحمده، وتذم صغير الفم.
قوله: «أشنب» :
الشنب في الأسنان: تحدد أطرافها.
قوله: «مفلج الأسنان» :
متفرقة بعضها عن بعض.(2/91)
دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عار الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين، وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، ...
قوله: «دقيق المسربة» :
المسربة: الشعر ما بين اللبة الي السرة، والجيد: العنق، والدمية: الصورة شبهها في بياضها بالفضة.
قوله: «معتدل الخلق» :
أي: كل شيء يناسب ما يليه في الحسن والتمام، ينسجم معه في الجمال.
قوله: «بادنا» :
متماسك اللحم غير مسترخ.
قوله: «ضخم الكراديس» :
الأعضاء، وقيل: الكراديس: رؤوس العظام، مثل الركبتين والمرفقين.
قوله: أنور المتجرد:
المتجرد: ما تستره الثياب من البدن فيتجرد عنها لسبب، يريد: شدة بياض تلك الأعضاء.
قوله: «طويل الزندين» :
الزند من الذراع ما انحسر عنه اللحم، وللزند رأسان: الكوع، والكرسوع، فالكرسوع: رأس الزند الذي يلي الخنصر، والكوع رأس الزند الذي يلي الإبهام.
قوله: «سائل الأطراف» :
يريد الأصابع، وأنها طوال ليست بمنعقدة ولا متغضنة.(2/92)
خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقي بالسلام.
قوله: «خمصان الأخمصين» :
الإخمص في القدم من تحتها: ما ارتفع عن الأرض في وسطها، أراد أن ذلك منه مرتفع، وأنه ليس بأزج وهو الذي يستوي باطن قدمه حتى يمس جميعه الأرض.
قوله: «مسيح القدمين» :
يعني: أنه ممسوح ظاهر القدمين، فالماء إذا صب عليها مرّ عليها مرا سريعا لاستوائهما وانملاسهما.
قوله: «زال قلعا» :
حكى أبو عبيد الهروي أنه رأى بخط الأزهري: بفتح القاف والكاف وكسر اللام، قاله ابن الأثير وقال: المعنى فيه: أنه يزول قالعا لرجله من الأرض وأنه صلى الله عليه وسلم لا يخط الأرض برجليه.
قوله: «يخطو تكفؤا» :
أي: يميد في مشيته.
قوله: «يمشي هونا» :
في رفق غير مختال.
قوله: «ذريع المشية» :
أي: سريعها، فمع كون مشيه في رفق إلّا أنه فيه سريع غير بطيء، حتى لكأنه ينحدر من صبب، والصبب: الانحدار.
قوله: «يسوق أصحابه» :
يقدمهم بين يديه، فيمشي وراءهم.(2/93)
قال الحسن: قلت: صف لي منطقه صلى الله عليه وسلم.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا، ليس بالجافي ولا المهين، يعظّم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا، غير أنه لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه، لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء إذا تعرض الحق لشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى قوله: «ويختمه بأشداقه» :
أي أنه كان في شدقيه صلى الله عليه وسلم رحب.
قوله: «دمثا» :
سهل الأخلاق لينا في تعامله.
قوله: «ليس بالجافي ولا المهين» :
يريد أنه لا يجفو الناس ولا يهينهم، وبعضهم يقول: ولا المهين: بفتح الميم، قال الحافظ البيهقي: فإن كانت الرواية كذلك فإنه أراد: ليس بالفظ الغليظ الجافي ولا الحقير الضعيف.
قوله: «يعظم النعمة وإن دقت» :
لا يستصغر شيئا أوتيه ولا يستحقره وإن كان صغيرا.
قوله: «لم يكن يذم ذواقا» :
يريد أنه لم يكن يصف الطعام بطيب ولا فساد، إن أعجبه أكله وشكر، وإن لم يعجبه تركه من غير ذم مراعاة لشعور الآخرين واحتراما للمنعم ونعمته.(2/94)
باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئا.
311- قال الحسين: فسألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان دخوله صلى الله عليه وسلم لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله عزّ وجلّ، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزء جزأه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم شيئا.
وكان من سيرته صلى الله عليه وسلم في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم: ذو الحاجة، ومنهم: ذو الحاجتين، ومنهم: ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة عن قوله: «أعرض وأشاح» :
عدل بوجهه تعبيرا عن عدم رضاه.
(311) - قوله: «فيرد ذلك بالخاصة على العامة» :
يعني: أن الخاصة تصل إليه وتحضر مجلسه فتستفيد، ثم يخرجون من عنده فيردون ذلك إلى العامة.
قوله: «يدخلون روادا» :
جمع رائد، وهو الذي يبعثه قومه في طلب الكلأ، وهو ههنا طالب النفع الحريص عليه، فضرب لهم مثلا لما يلتمسون عنده من العلم والنفع في دينهم ودنياهم.(2/95)
مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلّا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، ولا يفترقون إلّا عن ذواق، ويخرجون أدلة على الخير فقهاء.
قال: فسألته عن مخرجه صلى الله عليه وسلم: كيف يصنع فيه؟.
فقال: على الخبير سقطت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلّا مما يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
قوله: «ولا يفترقون إلّا عن ذواق» :
أصله عندهم في الطعم، وضربه هنا مثلا لما ينالون عنده من الخير.
قوله: «ويخرجون أدلة على الخير» :
جمع دليل، أي يدلون الناس عليه وينبؤنهم به.
قوله: «ويحذر الناس» :
إن قيل: بفتح الياء التحتية والذال المعجمة والتخفيف؛ يكون ما بعده تفسيرا، وإن قيل: بضم الياء وتشديد الذال وكسرها؛ فهو بمعنى يحذر بعضهم من بعض.(2/96)
قال: فسألته عن مجلسه صلى الله عليه وسلم: كيف كان يصنع فيه؟
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلّا عن ذكر الله، ولا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرده إلّا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، متعادلين، يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
قال: فسألته عن سيرته صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه، ولا يحب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث:
: قوله: «لا تؤبن فيه الحرم» :
لا تقترف ولا تنتهك فيه.
قوله: «ولا تثنى فلتاته» :
أي: لا يتحدث بهفوة أو زلة إن كانت في مجلسه من بعض القوم، يقال:
ثنوت الحديث فأنا أثنوه إذا أذعته، والفلتات جمع فلتة وهي الزلة والسقطة.
قوله: «ولا مزاح» :
في نسخة: ولا مداح.(2/97)
المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلّا فيما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده انصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلّا من مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.
قال: فسألته: كيف كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: كان سكوته على أربع: الحلم والحذر، والتقدير والتفكر، فأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، كان لا يغضبه شيء ولا يستفزه أحد، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليقتدى به، وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة.
قوله: «لا يقبل الثناء إلّا من مكافىء» :
يريد أنه كان إذا ابتدىء بمدح كره ذلك، وكان إذا اصطنع معروفا فأثنى به عليه مثن قبل ثناءه وشكره.
قوله: «أخذه بالحسنى» :
وفي «ب» بالحسن، وباللفظين جاءت الرواية.
والحديث أخرجه الترمذي في الشمائل رقم 7، 321، 336، وابن سعد في الطبقات [1/ 422] ، ويعقوب بن سفيان في المعرفة- ضمن الجزء المفقود-، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [1/ 214، 286] ، والآجري في-(2/98)
312-[قال] : وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغّط، ...
- الشريعة [/ 471] ، وابن أبي عمر في مسنده كما في مختصر إتحاف المهرة رقم 7080، والبغوي في الأنوار [1/ 343] رقم 457، وفي شرح السنة [13/ 270] ، وأبو نعيم في الدلائل رقم 565، وفي المعرفة [5/ 2751] رقم 6553، وابن الأثير في الأسد [1/ 31، 5/ 419] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 337، 343، 347] ، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم [/ 21] ، والطبراني في معجمه الكبير [22/ 155] ، وفي الأحاديث الطوال [19] ، وابن قتيبة في الغريب [1/ 488] ، وأخرج الحاكم إسناده دون متنه في المستدرك [3/ 640] .
قال أبو عاصم: وهذا الحديث لم يروه إلا جميع بن عمير العجلي، رواه عنه سفيان بن وكيع ومالك بن إسماعيل، وسعيد بن حماد الأنصاري، وثقه ابن حبان، وقال العجلي في الثقات: لا بأس به، يكتب حديثه وليس بالقوي، وقال الآجري عن أبي داود: أخشى أن يكون كذابا، وقال الذهبي في المغني: فسقه أبو نعيم، وقال ابن حجر في التقريب: ضعيف رافضي.
وله علة أخرى وهي جهالة شيخه وشيخ شيخه.
وروي من طريق آل البيت عند ابن عدي في الكامل [7/ 2594] ، البيهقي في الدلائل بإسناد فيه نظر، قال ابن عساكر حديث غريب، وقد روي من حديث ابن عباس عن هند وهو أيضا غريب.
قلت: قبول الناس له وإيرادهم له في الكتب مع وجود الشواهد لألفاظه جعله في حكم الثابت عن راويه وهو هند بن أبي هالة، فقد قال ابن عبد البر: كان فصيحا بليغا وصف النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن وأتقن.
(312) - قوله: «ليس بالطويل الممغط» :
يريد: ليس بالبائن الطويل، كما جاء في الحديث الآخر، وفي رواية: ليس بالذاهب طولا.(2/99)
ولا القصير المتردد، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرب، أدعج العينين أهدب الأشفار، ...
قوله: «ولا القصير المتردد» :
الذي تردد خلقه بعضه على بعض، بل هو مجتمع الخلق، ربعة بين الرجلين.
قوله: «بالجعد القطط ولا بالسبط» :
القطط: الشديد الجعودة مثل أشعار الحبش، والسبط: الذي ليس فيه تكسر.
قوله: «كان جعدا رجلا» :
أي بين القطط والسبط.
قوله: «ولم يكن بالمطهم» :
البادن الكثير اللحم مسترخيه.
قوله: «ولا المكلثم» :
المدور الوجه، ولكنه مسنون، يريد: أنه لم يكن شديد تدوير الوجه، بل فيه تدوير قليل.
قوله: «أبيض مشرب» :
وفي الحديث الآخر: مشرب الحمرة.
قوله: «أدعج العينين» :
شديد سواد حدقة العينين.
قوله: «أهدب الأشفار» :
تقدم بيان معناها، وقد قيل هنا أيضا: طويل شعر العين.(2/100)
جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه.
يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «جليل المشاش» :
عظيم رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين.
قوله: «الكتد» :
الكاهل- مجتمع الكتفين- وما يليه من جسده.
قوله: «يقول ناعته» :
إسناده منقطع، أخرجه الترمذي في المناقب، باب ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق عيسى بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب، عن علي به، رقم 3638 وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب، ليس إسناده بمتصل.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 411] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 269] ، ومن طريق الترمذي ابن الأثير في الأسد [1/ 31] .
وأخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 261] ، وأبو الشيخ باختصار في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم [/ 50] ، والبغوي في الأنوار [1/ 285] رقم 363.
تابعه زيد بن علي بن الحسين بن علي جد أبيه علي بن أبي طالب، وهذا أيضا منقطع؛ زيد لم يدرك علي بن أبي طالب، أخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 262] .(2/101)
313- وقال أبو حمزة: أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس قواما، وأحسن الناس وجها، وأطيب الناس ريحا، وألين الناس كفا، ما شممت رائحة قط مسكا ولا عنبرا أطيب رائحة منه، ولا مسست خزّا ولا حريرا ألين من كفه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(313) - قوله: «ألين من كفه صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه ابن عساكر في تاريخه بإسناد حسن [3/ 278] وتمامه عنده: وكان ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا الجعد ولا السبط، إذا مشى- أظنه قال: - تكفأ، أخرجه بإسناده لمولى عبد الأعلى أنا معتمر، عن حميد، عن أنس به.
وألفاظه ثابتة عن أنس، أخرج الشيخان منه من قوله: (ما شممت رائحة قط) إلى قوله (ألين من كفه) .
وأخرج الشيخان منه أيضا قصة خروجه صلى الله عليه وسلم على الفرس حين فزع أهل المدينة، وفي أوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، وأجود الناس صلى الله عليه وسلم، وهذا الشطر بعينه من هذا الحديث أخرجه ابن عساكر [4/ 30] فقال فيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وجها وأجودهم كفا وأسمحهم، وقال: لن تراعوا ... الحديث.(2/102)
[60- فصل: ذكر الآية في وجهه الشّريف وعقله المنيف صلى الله عليه وسلم]
60- فصل:
ذكر الآية في وجهه الشّريف وعقله المنيف صلى الله عليه وسلم 314- روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تخيط ثوبا في وقت السحر، فضلّت الإبرة وطفىء السراج، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فأضاء البيت، ووجدت عائشة الإبرة بضوئه، فضحكت، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل لمن لا يراني يوم القيامة، قالت عائشة: ومن لا يراك يا رسول الله؟
قال: البخيل، قالت: ومن البخيل؟ قال: الذي لا يصلي عليّ إذا سمع اسمي.
(314) - قوله: «روي أن عائشة رضي الله عنها» :
عزاه للمصنف في كتابه هذا: الحافظ السخاوي في القول البديع [/ 147- 148] ، وعلقه تبعا للمصنف: أبو حفص الموصلي في الوسيلة [5- ق 2/ 8] ، وأسنده ابن عساكر في تاريخه [3/ 310] من حديث ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، وصالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة قالت: استعرت من حفصة بنت رواحة إبرة كنت أخيط بها ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فسقطت مني الإبرة، فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبينت الإبرة من شعاع نور وجهه فضحكت فقال: يا حميراء لم ضحكت؟ قلت: كيت وكيت، فنادى بأعلى صوته: يا عائشة الويل ثم الويل- ثلاثا- لمن حرم النظر إلى هذا الوجه، ما من مؤمن وكافر إلّا ويشتهي أن ينظر إلى وجهي.
وأخرج الخطيب في تاريخه [13/ 252، 252- 253] ، ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال [28/ 319] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 308، 309] ، وأبو نعيم في الدلائل، والديلمي في مسنده كما في الخصائص [1/ 167] ، من طريق محمد بن إسماعيل البخاري قال: أنا عمرو بن محمد بن جعفر، -(2/103)
قال أبو سعد رحمه الله: لم يظهر لنا تمام حسنه صلى الله عليه وسلم لأنه لو ظهر لما طاقت أعيننا رؤيته، وكذلك لم يظهر لنا تمام عقله لأن قلوبنا لا تحتمل ذلك.
- أنا أبو عبيد: معمر بن المثنى قال: حدثني هشام بن عروة قال: حدثني أبي، قال: حدثتني عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقعد يخصف نعلا وأنا قاعدة أغزل، فرفعت بصري إليه فإذا سالفته ذات عرق، وهو يتولد في عيني نورا، فبهت، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تنظرين يا عائشة؟ قد بهت، فقلت: والله ما أنظر إلى شيء من وجهك إلّا تولد في عيني نورا، وقالت: أما والله لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره من غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما قال أبو كبير؟
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
قالت: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليّ فقبّل ما بين عيني وقال: جزاك الله خيرا يا عائشة، فما أعلم أني سررت بشيء كسروري بكلامك.
قال ابن عساكر: قال أبو العباس- يعني: البالوي-: سألني أبو علي صالح بن محمد البغدادي عن حديث أبي عبيدة معمر بن المثنى هذا، وقال الصابوني الذي مضى: أن أحدثه، وقالا: فحدثته به، فقال: لو سمعت هذا- وقال الصابوني: بهذا- عن غير أبيك، عن محمد- زاد ابن سرور: ابن إسماعيل البخاري- لأنكرته أشد الإنكار؛ لأني لم أعلم قط أن أبا عبيدة حدث عن هشام بن عروة شيئا، لكنه حسن عندي حين صار مخرجه عن محمد بن إسماعيل.
قلت: تابعه داود بن سليمان بن خزيمة، عن معمر بن المثنى، أخرجه ابن عساكر [3/ 307] .
وعده الحافظ المزي في تهذيبه من غرائب ما حدث به معمر بن المثنى.(2/104)
315- وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إني أتكلم على قدر عقولكم.
(315) - قوله: «إني أتكلم على قدر عقولكم» :
لم أقف عليه هكذا، لكن قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أخرج الحسن بن سفيان في مسنده من حديث أبي معشر، عن عكرمة، عن ابن عباس رفعه: أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم. قال: وأبو معشر ضعيف، وتبعه الحافظ في الفتح وقال: ورواه أبو الحسن التميمي من الحنابلة في كتاب العقل له بسنده عن ابن عباس بلفظ: بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم.
قال أبو عاصم: شاهد الحديث في الكتاب والسنة، فأما في الكتاب ففي قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ الآية، ويدخل فيها التنزل في الإسلوب الخطابي لئلا يكذبوا بما جاءهم بسبب عدم طاقة عقولهم وضعفها عن إدراك الحقائق، قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ الآية، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! أخرجه البخاري في صحيحه، وأخرج مسلم من حديث ابن مسعود قوله: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان فتنة لبعضهم.
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قوله: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين من العلم، أحدهما بثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.(2/105)
[61- فصل: ذكر الآية في عينه وقلبه وصفة نومه صلى الله عليه وسلم]
61- فصل:
ذكر الآية في عينه وقلبه وصفة نومه صلى الله عليه وسلم 316- كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه.
317- وكان صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلبي ينتظر الوحي.
318- وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام نفخ نفخا، ...
(316) - قوله: «تنام عيناه ولا ينام قلبه» :
أخرجاه من حديث عائشة في وصف صلاة الليل، وفيه: قلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني ولا ينام قلبي.
وأخرجاه من حديث أنس في قصة المعراج، وفيه: حتى جاءوا ليلة أخرى فيما يرى قلبه والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ... الحديث.
وأخرجه البخاري من حديث جابر الطويل في الاعتصام، وعلقه في المناقب، باب رقم 24: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه.
(317) - قوله: «إن قلبي ينتظر الوحي» :
لم أجده هكذا لكن معناه صحيح، لاتصاله صلى الله عليه وسلم بربه في يقظته ومنامه وقد كان من فعل صحابته صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا لا يوقظونه إذا كان نائما، يقول عمران بن حصين في قصة فوات صلاة الصبح المخرجة في الصحيحين:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث أو يحدث له في نومه ... الحديث.
(318) - قوله: «إذا نام نفخ نفخا» :
أخرج الشيخان من حديث ابن عباس في قصة نومه عند خالته ميمونة-(2/106)
ولا يغط غطيطا.
319- وكان صلى الله عليه وسلم كثير الرؤيا، ولا يرى في منامه إلّا الخير.
- ووصفه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، وفيه: وكان إذا نام نفخ ... الحديث، فأما حديث ابن مسعود الطويل في خروجه إلى بطحاء مكة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم توسد فخذه، وكان إذا نام نفخ في النوم نفخا، فقد بسطنا تخريجه والكلام عليه في فتح المنان شرح المسند الجامع تحت رقم 13.
قوله: «ولا يغط غطيطا» :
لا ينافي ما جاء في بعض ألفاظ حديث ابن عباس المشار إليه وحديث غيره في التعبير بالغطيط بدل النفخ؛ لأنه إذا أطلق في حقه صلى الله عليه وسلم إنما يراد به النفخ الذي هو صوت النفس الخارج من الأنف الدال على الاستغراق، فأما التعبير بالغطيط لغير النائم فقد يراد به غير هذا المعنى، كما جاء في حديث يعلى بن أمية عند البخاري وفيه: وددت أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي، فقال عمر: تعال، أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط- أحسبه قال: كغطيط البكر- ... الحديث، فهذا لا يراد به النفخ؛ لأن غطيط البكر هو النخر، يقال: غط البعير إذا هدر في الشقشقة- نخر أي:
أتى بصوت خياشيمه-، ونحوه الصوت الخارج من الحلق الذي يقال له:
الشخير، يدلك على هذا أنه لم يجمع اللفظان قط في رواية وصف نومه صلى الله عليه وسلم فبان أن المعنى الثاني للغطيط غير مراد، تأمل هذا فإن نبيّنا صلى الله عليه وسلم محفوظ بحفظه تعالى عن كل معنى منفر صلى الله عليه وسلم.
(319) - قوله: «كثير الرؤيا» :
لاتصال ذلك بالوحي وأمر النبوة، ففي الصحيحين من حديث عائشة: أول ما بدىء برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة يراها في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ... الحديث.(2/107)
320- وجاءت الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم:
هو نائم، وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان.
321- وقالت عائشة رضي الله عنها قلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي.
(320) - قوله: «وجاءت الملائكة» :
في رواية ابن مسعود: أتاني رجال كأنهم الجمال، وفي رواية: كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي.
قوله: «والقلب يقظان» :
وتمامه: فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، قال: فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا:
مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار: الجنة، والداعي:
محمّد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمّدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس.
أخرجه البخاري في الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بجوامع الكلم، رقم 7273.
وانظر تخريجنا لحديث ابن مسعود بنحوه في المسند الجامع لأبي محمد الدارمي، تحت رقم 13- فتح المنان.
(321) - قوله: «تنام قبل أن توتر» :
أخرجاه في الصحيحين من حديثها.(2/108)
[62- فصل: ذكر الآية في خاتمه الشّريف صلى الله عليه وسلم وما جاء في صفته]
62- فصل:
ذكر الآية في خاتمه الشّريف صلى الله عليه وسلم وما جاء في صفته 322- روي أن الخاتم الذي كان بين كتفيه صلى الله عليه وسلم مثل البيضة ...
(322) - قوله: «مثل البيضة» :
أخرج الشيخان عن السائب بن يزيد في حديث له ... وفيه قال: ثم قمت خلف ظهره صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة.
وأخرج مسلم في الفضائل من صحيحه، باب إثبات خاتم النبوة وصفته، والإمام هيثم في مسنده [5/ 90، 95] ، والترمذي في الشمائل برقم 16، والبيهقي في الدلائل [1/ 262] ، جميعهم من حديث جابر بن سمرة قال:
رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام.
وأخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي موسى قال: خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده [5/ 77، 340، 341] ، والترمذي في الشمائل برقم 19، وابن سعد في الطبقات [1/ 425] ، والحاكم في المستدرك وصححه [2/ 606] ، وأبو يعلى في مسنده [12/ 240] ، رقم 6846، والطبراني في معجمه الكبير [17/ 27] رقم 44، وابن حبان في صحيحه- كما في الإحسان برقم 6300-، جميعهم من حديث أبي زيد:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا زيد ادن مني فامسح ظهري، قال: فمسحت ظهره فوقعت أصابعي على الخاتم، قلت: وما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات عند كتفه، وأخرج الإمام أحمد في مسنده [6/ 329] ، والترمذي في الشمائل برقم 17، وهو عند ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في الدلائل من حديث أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى(2/109)
.........
- مثل السلعة بين كتفيه، وفي رواية: مثل التفاحة، وفي أخرى: مثل بيضة الحمامة.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده [5/ 82، 83] ، ومسلم في الفضائل برقم 2346، والترمذي في الشمائل برقم 22، والنسائي في اليوم والليلة برقم 265، 424، 422، والبيهقي في الدلائل [1/ 263] ، وابن سعد في الطبقات [1/ 327] ، والحميدي في مسنده برقم 867، جميعهم من حديث عبد الله بن سرجس في حديث له قال: ثم درت خلفه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى، جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل.
قال أبو عاصم: هذا حاصل ما ورد من الأحاديث في صفة الخاتم، وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: سلمان الفارسي، وقد أوردنا حديثه بطوله في قصة إسلامه، وعلي بن أبي طالب حديثه عند الترمذي في الشمائل، والبيهقي، وأبو سعيد الخدري حديثه عند البخاري في التاريخ، والبيهقي في الدلائل، والترمذي في الشمائل، وعن التنوخي رسول هرقل حديثه عند الإمام أحمد، والبيهقي في الدلائل، وعن عباد بن عمرو حديثه عند الطبراني، وأبي نعيم في المعرفة، وعن عائشة عند ابن أبي خيثمة في التاريخ، وعن ابن عمر عند ابن عساكر، والحاكم في تاريخ نيسابور وغيرهم، وهؤلاء لا يخرج وصفهم عما أوردناه.
نعم، وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث جابر بن عبد الله قال:
أردفني النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فجعلت فمي على خاتم النبوة، فجعل ينفح عليّ مسكا.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه والحاكم في تاريخ نيسابور من حديث ابن عمر قال: كان خاتم النبوة على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم مثل البندقة من لحم، مكتوب فيها باللحم: محمد رسول الله.
وأخرج أبو نعيم عن سلمان قال: بين كتفيه بيضة كبيضة الحمامة، عليها-(2/110)
مكتوب عليه: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، توجه حيث شئت فإنك منصور.
- مكتوب باطنها: الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، وظاهرها: توجه حيث شئت فإنك المنصور.
قال القرطبي في المفهم: دلت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل قدر بيضة حمامة، وإذا كبر جمع اليد، اه. من الخصائص. انظر:
تهذيب ابن منظور [2/ 163- 164] ، خصائص السيوطي [1/ 147- 151] .
قوله: «فإنك منصور» :
عزاه السيوطي في الخصائص لأبي نعيم- وليس في المطبوع منه- من حديث سلمان الفارسي.(2/111)
[63- فصل: ذكر الآية في بوله وغائطه صلى الله عليه وسلم]
63- فصل:
ذكر الآية في بوله وغائطه صلى الله عليه وسلم 323- عن أم أيمن قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة في جانب البيت فبال فيها، ثم قمت من الليل وأنا عطشى فأتيت الفخار (323) - قوله: «عن أم أيمن» :
روى حديثها:
1- الوليد بن عبد الرحمن، أخرجه أبو يعلى في مسنده- كما في إتحاف الخيرة للحافظ البوصيري [9/ 119] رقم 8681، وابن السكن- كما في الإصابة [13/ 179]-.
(2) - نبيح العنزي، أخرج حديثه الدارقطني في الغرائب والأفراد [5/ 388] رقم 5822، والطبراني في معجمه الكبير [25/ 89- 90] رقم 230، والحاكم في المستدرك [4/ 63- 64] ، وأبو نعيم في الدلائل برقم 365.
قال الدارقطني: تفرد به أبو مالك النخعي، عن الأسود، عن نبيح. اه.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [8/ 27] : أبو مالك النخعي ضعيف.
(3) - وله طريق أخرى، فأخرج أبو داود في الطهارة من سننه برقم 24، ومن طريقه البغوي في شرح السنة برقم 194، والنسائي في الطهارة برقم 28، والطبراني في معجمه الكبير [14/ رقم 477] ، والبيهقي في السنن الكبرى [1/ 99، 7/ 67] ، جميعهم من حديث ابن جريج قال: أخبرتني حكيمة بنت أميمة عن أمها أميمة بنت رقيقة قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت السرير، صححه ابن حبان برقم 1426- إحسان، والحاكم في المستدرك [1/ 167] ، وأقره الذهبي في التلخيص، وحسنه النووي وابن حجر وغيرهما. -(2/112)
فشربت ما فيها، فلما أصبح ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: أما إنك لن تشتكي بطنك بعد يومك هذا.
324- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إنك تدخل الخلاء فإذا خرجت دخلت على إثرك فلا أرى شيئا، إلّا أني أجد رائحة المسك؟
- وأخرجه بعضهم أتم منه، منهم: أبو نعيم في المعرفة [6/ 3263] رقم 7517، وابن عبد البر في الاستيعاب [12/ 223] ، كلاهما من حديث حجاج بن محمد راوي حديث ابن جريج عند أبي داود والنسائي، وهذا لفظ أبي نعيم: قالت أميمة: فأراده صلى الله عليه وسلم- تعني القدح- فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها بركة- كانت تخدم أم حبيبة جاءت بها من أرض الحبشة- أين البول الذي كان في القدح؟ قالت: شربته، قال: لقد احتظرت بحظار من نار.
* خالفهم عبد الرزاق، فقال عن ابن جريج: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول ... الحديث، ولما قالت: شربته قال: صحة يا أم يوسف، وكانت تكنى أم يوسف، فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه.
قال ابن دحية: هذه قضية أخرى غير قضية أم أيمن، وبركة أم يوسف غير بركة أم أيمن، اه. من الخصائص للسيوطي، وعزاه أيضا للحسن بن سفيان في مسنده.
(324) - قوله: «وعن عائشة رضي الله عنها» :
روى حديثها عنها:
(1) - عروة بن الزبير، أخرجه الدارقطني في الأفراد [5/ 501] رقم 6201، وقال: غريب من حديث هشام، تفرد به محمد بن حسان الأموي، عن عبدة بن سليمان، ولم نكتبه إلّا عن شيخنا أبي جعفر محمد بن سليمان النعماني وكان من الثقات، اه. -(2/113)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا معاشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح أهل الجنة، فما خرج منها شيء ابتلعته الأرض.
- وقال السيوطي في الخصائص [1/ 176] : هذا الطريق أقوى طرق هذا الحديث، قال ابن دحية في الخصائص بعد إيراده: هذا سند ثابت، محمد بن حسان بغدادي ثقة صالح، وعبدة من رجال الشيخين.
قلت: تابعه الحسين بن علوان، عن هشام، أخرجه البيهقي في الدلائل وقال: هذا الحديث من موضوعات الحسين بن علوان، فتعقبه السيوطي في الخصائص [1/ 175] بقوله: قلت: كلا، ليس كما قال فإن الحديث له طريق آخر، ثم ساق طرقه.
(2) - أم سعد، أخرج حديثها ابن سعد في الطبقات [1/ 171] ذكر علامات النبوة بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرنا الفضل بن إسماعيل بن أبان الوراق، أخبرنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، عن محمد بن زاذان، عن أم سعد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله تأتي الخلاء فلا يرى منك شيء من الأذى؟ فقال: أو ما علمت يا عائشة أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء؟ ومن هذا الوجه أخرجه أيضا أبو نعيم في الدلائل برقم 364، وفي الإسناد محمد بن زاذان ضعفه غير واحد.
(3) - ليلى مولاة عائشة، أخرج حديثها الحاكم في المستدرك [4/ 72] بإسناد منقطع من طريق إبراهيم بن سعد: ثنا المنهال بن عبيد الله عمن ذكره عن ليلى مولاة عائشة، عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته فدخلت فلم أر شيئا ووجدت ريح المسك فقلت: يا رسول الله إني لم أر شيئا!! قال: إن الأرض أمرت أن تكفته منا معاشر الأنبياء. -(2/114)
.........
- قلت: رواه أبو نعيم- كما في الخصائص [1/ 176]- من وجه آخر من طريق شهاب بن معمر العوفي: ثنا عبد الكريم الخزاز، ثنا أبو عبد الله المديني، عن ليلى مولاة عائشة قالت: قلت يا رسول الله إنك تدخل الخلاء فإذا خرجت دخلت في إثرك فما أرى شيئا إلّا أني أجد ريح المسك! قال:
إنا معشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح أهل الجنة، فما خرج منها من شيء ابتلعته الأرض. عبد الكريم الخزاز ذكره الذهبي في الميزان ونقل عن الأزدي قوله فيه: واهي الحديث.
وروي أيضا من أوجه أخرى ضعيفة.
(4) - فأخرج الحكيم في النوادر- كما في الخصائص [1/ 177] ، من طريق عبد الرحمن بن قيس الزعفراني- أحد الضعفاء، واتهم بالكذب-، عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد، عن ذكوان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر، ولا أثر قضاء حاجة، مرسل مع شدة ضعفه من هذا الوجه.
وأخرج الخطيب في الرواة عن مالك- كما في الخصائص [2/ 187] ، من حديث جابر بن عبد الله قال: رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشياء لو لم يأت بالقرآن لآمنت به، تصحرنا في جبانة تنقطع الطرق دونها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء ورأى نخلتين متفرقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر اذهب إليهما فقل لهما اجتمعا، فاجتمعتا حتى كأنهما أصل واحد، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادرته بالماء وقلت: لعل الله أن يطلعني على ما خرج من جوفه فآكله، فرأيت الأرض بيضاء، فقلت: يا رسول الله أما كنت توضأت؟
قال: بلى، ولكنا معشر النبيين أمرت الأرض أن تواري ما يخرج منا من الغائط والبول ... الحديث، هذا ثابت من حديث جابر من غير طريق مالك، وقد خرجنا القصص الثلاث التي رواها جابر في مسند الحافظ أبي محمد الدارمي دون هذا الشطر.(2/115)
[64- فصل: ذكر الآية في عرقه، وما جاء في طيب ريحه صلى الله عليه وسلم]
64- فصل:
ذكر الآية في عرقه، وما جاء في طيب ريحه صلى الله عليه وسلم 325- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم خصال: كان لا يمر في طريق إلّا عرف أنه مر فيه من طيب عرقه، ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلّا سجد له.
326- وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في الطريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك، وقالوا: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق.
327- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فأخذ يمسح خدودهم، (325) - قوله: «من طيب عرقه» :
ويروى أيضا: من طيب عرفه، خرجناه في المسند الجامع للحافظ أبي محمد الدارمي، باب: في حسن النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 70- فتح المنان.
(326) - «وعن أنس بن مالك» :
أخرج حديثه أبو يعلى الموصلي في مسنده [5/ 443] رقم 3125، والبزار في مسنده [3/ 160 كشف الأستار] رقم 2478، والطبراني في معجمه الكبير [3/ 361] رقم 2772، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم [/ 102] ، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل برقم 362.
وأخرج ابن سعد في الطبقات [1/ 398] من حديث يزيد الرقاشي- ضعيف- عن أنس قال: كنا نعرف خروج النبي صلى الله عليه وسلم بريح الطيب.(2/116)
فمسح خدي فوجدت ليده بردا كأنما أخرجها من جؤنة عطار.
328- وقال صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر.
329- وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام عرق، فتأتي أم سليم بقطنة فتلتقط عرقه فتخلط به مسكا في قارورة لها، ثم تجعله للشفاء.
قوله: «كأنما أخرجها من جؤنة عطار» :
أخرجه مسلم في الفضائل، باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 2329، والطبراني في معجمه الكبير [2/ 253] رقم 1944.
وأخرج الشيخان من حديث أنس قال: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شممت ريحا قط- أو عرفا قط- أطيب من ريح- أو عرف- النبي صلى الله عليه وسلم، لفظ البخاري في المناقب، وأخرج فيه أيضا من حديث أبي جحيفة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة، كان يمر من ورائها المرأة، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك.
(328) - قوله: «فليشم الورد الأحمر» :
في الباب عن جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وعائشة بأسانيد موضوعة باطلة، في إيرادها إطالة لا معنى لها ولا فائدة إذ هي مبسوطة في موضوعات ابن الجوزي ولآلىء السيوطي، وقد قال الإمام النووي: لا يصح، وقال الحافظ ابن حجر: موضوع، ومن قبلهما ابن عساكر، حكاه القسطلاني في المواهب، فلا نتشاغل بتخريجها.
(329) - قوله: «وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام عرق» :
اختلف الحفاظ هل هو من مسند أنس أو من مسند أم سليم، فأخرجه البخاري في الاستئذان، باب من زار قوما فقال عندهم، من حديث ثمامة، عن أنس أن أم سليم، رقم: 6281. -(2/117)
330- وفي رواية أخرى: أنه كان صلى الله عليه وسلم يأتي بيت أم سليم فيقيل عندها، وكان صلى الله عليه وسلم كثير العرق إذا نام، فكانت أم سليم تأخذ من عرقه فتجعله في مسك.
331- ودخل صلى الله عليه وسلم بيتها ذات يوم فرأى فيه قربة معلقه فيها ماء، فهوى إليها ففتح فاها ثم شرب، فلما خرج أخذت أم سليم الشفرة فقطعت فم القربة ثم لفتها في خرقة، وقالت: هذه مأثرة لكم تدخرونها.
- وأخرجه مسلم في الفضائل، باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به، من حديث ثابت، وإسحاق بن عبد الله، كلاهما عن أنس، رقم: 2331 (83، 84) .
وأخرجه مسلم من حديث أبي قلابة، عن أنس، عن أم سليم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها ... الحديث رقم: 2332.
قوله: «ثم تجعله للشفاء» :
وذهب أنس إلى أبعد من ذلك فأوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك المسك، قال ثمامة: فجعل في حنوطه، أخرجه البخاري.
(331) - قوله: «ودخل بيتها» :
يعني: بيت أم سليم، خرّجناه في فتح المنان شرح مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن، وذكرنا نكت تخريجه تحت رقم: 2263.
قوله: «فقطعت فم القربة» :
سقطت كلمة «فم» من النسخ، قال الإمام النووي رحمه الله: قطعها لفم القربة فعلته لوجهين: أحدهما: أن تصون موضعا أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يبتذل ويمسه كل أحد، والثاني: أن تحفظه للتبرك به والاستشفاء، اه.
وكلا الوجهين أشار إليهما المصنف.
وفي الباب عن أم كبشة، خرّجناه تحت الأول في كتابنا المشار إليه.(2/118)
[65- فصل: ذكر الآية في شعره الشّريف صلى الله عليه وسلم]
65- فصل:
ذكر الآية في شعره الشّريف صلى الله عليه وسلم 332- عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فاستبق الناس إلى شعره صلى الله عليه وسلم، فسبقتهم إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة، فجعلتها في مقدم القلنسوة، فما توجهت بها في وجهة إلّا فتح لي.
(332) - قوله: «إلا فتح لي» :
أخرجه سعيد بن منصور- كما في الفتح [8/ 102] ، والخصائص الكبرى [1/ 170] .
ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه ابن سعد في الطبقات- وهو ضمن الجزء الساقط من المطبوع-، ومن طريق ابن سعد أخرجه ابن عساكر في تاريخه [16/ 246] ، وابن العديم في بغية الطلب [7/ 3149] .
ومن طريق سعيد بن منصور أيضا أخرجه الطبراني في معجمه الكبير [4/ 122] رقم 3804، ومن طريق الطبراني أخرجه أبو نعيم في الدلائل برقم 367.
ومن طريق ابن منصور أيضا أخرجه الحاكم في المستدرك [3/ 299] ، ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في الدلائل [6/ 249] ، ومن طريق البيهقي أخرجه ابن عساكر في تاريخه [16/ 246] ، وهذا لفظه: أن خالد بن الوليد فقد قلنسوته يوم اليرموك، فقال: اطلبوها، فلم يجدوها، ثم طلبوها فإذا هي قلنسوة خليقة، فقال خالد: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه-(2/119)
.........
- فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالا وهي معي إلّا رزقت النصر، سكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: منقطع، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [9/ 349] : رجاله رجال الصحيح، وجعفر سمع من جماعة من الصحابة فلا أدري سمع من خالد أم لا.
تابعه سريج بن يونس، عن هشيم، أخرجه أبو يعلى في مسنده [13/ 138- 139] رقم 7183، ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن الأثير في الأسد [2/ 111] ، وابن عساكر في تاريخه [16/ 246- 247] .
ورواه ابن سعد من وجه آخر فقال: أخبرنا يحيى بن حماد، ثنا أبو عوانة، عن عاصم بن كليب قال: سمعت شيخين في المسجد ممن سمع خالد بن الوليد قال أحدهما لصاحبه: أتذكر ما لقينا يوم الكمة بسباطة الحيرة؟ قال:
نعم، ما لقينا يوما قط أشد منه، وقعت كمة خالد بن الوليد فقال:
التمسوها، وغضب، فوجدناها، فوضعها على رأسه ثم اعتذر إلينا فقال:
لا تلوموني، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم حين حلق رأسه انتهبنا شعره فوقعت ناصيته بيدي فجعلتها ناصية في هذه الخرقة، فإنما شق عليّ حين وقعت.
ومن طريق ابن سعد أخرجه ابن عساكر في تاريخه [16/ 247] ، وابن العديم في بغية الطلب [7/ 3149] .
وأخرج ابن عساكر [16/ 247] من طريق الخرائطي: أنا علي بن حرب، أنا ابن وهب، عن ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث قال:
أخبرني الثقة: أن الناس يوم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدروا شعره، فابتدرهم خالد بن الوليد إلى ناصيته صلى الله عليه وسلم فجعلها في قلنسوته.(2/120)
[66- فصل: في ابتداء الدّعوة وعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على قومه، وما لقي في ذلك من الشّدّة]
66- فصل:
في ابتداء الدّعوة وعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على قومه، وما لقي في ذلك من الشّدّة 333- أخبرنا أبو الفضل: جعفر بن الفضل بن حنزابه المصري، وزير كافور بمكة في المسجد الحرام بحذاء الكعبة قال: أخبرنا علي بن محمد بن الجهم بمدينة السلام قال: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: ...
(333) - قوله: «أخبرنا أبو الفضل» :
تقدمت ترجمته في باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم، روى عنه المصنف هناك بواسطة مولاه أبي الوفاء تمام بن عبد الله.
قوله: «علي بن محمد بن الجهم» :
لم أقف على ترجمة له فيما لدي من المصادر.
قوله: «أحمد بن منصور الرمادي» :
أبو بكر البغدادي الحافظ، أحد ثقات رجال ابن ماجه، توفي سنة خمس وستين ومائتين.
تهذيب الكمال [1/ 492] ، تهذيب التهذيب [1/ 72] ، الكاشف [1/ 28] ، التقريب [/ 85] ، الخلاصة [/ 13] ، سير أعلام النبلاء [12/ 389] .
قوله: «حدثنا عبد الرزاق» :
هو ابن همام الصنعاني، الإمام الحافظ الثبت صاحب المصنف، أبو بكر الحميري مولاهم، عالم أهل اليمن، وأثبت أصحاب معمر، حديثه في الكتب الستة، يقال: عمي في آخر عمره فتغير حفظه شيئا. -(2/121)
أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، ...
- سير أعلام النبلاء [9/ 563] ، تهذيب الكمال [18/ 52] ، تهذيب التهذيب [6/ 278] ، الكاشف [2/ 171] ، الخلاصة [/ 238] ، التقريب [/ 354] .
قوله: «أخبرنا معمر» :
هو ابن راشد البصري، الإمام شيخ الإسلام الحافظ أبو عروة الأزدي، اليمني نزيلها، أحد الأثبات، قال الحافظ الذهبي: كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف، وحديثه في دواوين الإسلام، توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة.
تهذيب الكمال [28/ 303] ، تهذيب التهذيب [10/ 218] ، الكاشف [3/ 145] ، سير أعلام النبلاء [7/ 5] ، الخلاصة [/ 384] ، التقريب [/ 541] ، طبقات ابن سعد [5/ 546] ، تذكرة الحفاظ [1/ 190] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 107] ، ثقات ابن حبان [7/ 484] .
قوله: «عن ابن خثيم» :
هو عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري، الإمام الحافظ الثقة: أبو عثمان القاري، المكي، علق له البخاري في صحيحه، وأخرج له الباقون، توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
تهذيب الكمال [15/ 279] ، تهذيب التهذيب [5/ 275] ، الكاشف [2/ 96] ، التقريب [/ 313] ، الخلاصة [/ 206] .
قوله: «عن أبي الزبير» :
المكي، الإمام الحافظ الصدوق، محمد بن مسلم بن تدرس القرشي، الأسدي مولى حكيم بن حزام، يعد في التابعين، كان عطاء بن أبي رباح مع جلالته يقدمه إلى مجلس جابر بن عبد الله ليحفظ لهم حديثه، عيب عليه التدليس، فأما إذا صرح بالتحديث فلا يرتاب فيه، روى له البخاري مقرونا بغيره، والباقون، توفي سنة ثمان وعشرين ومائة. -(2/122)
عن جابر بن عبد الله قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يعرض نفسه على الناس بعكاظ ومكة وفي الموسم يقول: من ينصرني؟ من يؤويني؟
حتى أبلغ رسالة ربي عزّ وجلّ وله الجنة.
- تهذيب الكمال [26/ 402] ، سير أعلام النبلاء [5/ 380] ، تهذيب التهذيب [9/ 390] .
قوله: «عن جابر بن عبد الله» :
هو ابن عمرو بن حرام الأنصاري، السلمي، الصحابي ابن الصحابي غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، أصابته من النبي صلى الله عليه وسلم دعوة مباركة فاز بها بخيري الدنيا والآخرة، توفي بالمدينة بعد السبعين.
الإصابة [2/ 45] ، الاستيعاب [2/ 109] ، أسد الغابة [1/ 307] ، سير أعلام النبلاء [3/ 189] .
قوله: «بعكاظ» :
زاد في رواية: ومجنّة، وهما سوقان مشهوران لأهل مكة والعرب، قال الواقدي: عكاظ بين نخلة والطائف، ومجنة بمر الظهران، وذو المجاز خلف عرفة، هذه أسواق قريش والعرب، ولم يكن فيها أعظم من عكاظ، كانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال، ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى ذي المجاز فتقيم فيه إلى أيام الحج.
قوله: «وفي الموسم» :
زاد في رواية: بمنى.
قوله: «وله الجنة» :
اختصره المصنف، وتمامه: فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مصر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذوو رحمه فيقولون: -(2/123)
.........
- احذر فتى قريش لا يفتننك! يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله عزّ وجلّ له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله عزّ وجلّ وائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا فقلنا:
حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده فقلنا: يا رسول الله! على ما نبايعك؟
فقال: بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.
قال: فقمنا نبايعه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب! إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف؛ فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله؛ وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله عزّ وجلّ، فقلنا: أمط يدك يا أسعد بن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة.
وإسناده على شرط الصحيح، وقد صرح أبو الزبير بالتحديث عند البيهقي في الدلائل. -(2/124)
.........
-* تابعه عن عبد الرزاق:
(1) - الإمام أحمد بن حنبل أخرجه في المسند [3/ 322- 323] .
(2) - الحسين بن مهدي، أخرجه البزار في مسنده [2/ 307 كشف الأستار] رقم 1756.
(3) - إسحاق بن راهويه، أخرجه ابن حبان- كما في الإحسان برقم 6274-.
* وتابع معمرا عن ابن خثيم:
1- يحيى بن سليم، أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3/ 339] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 443] ، وتصحف في المطبوع إلى: يحيى بن سليمان، وصححه الحاكم [2/ 624] ، ووافقه الذهبي، وابن حبان- كما في الإحسان برقم 7012.
2- يوسف بن خالد، أخرجه البزار في مسنده في الموضع المشار إليه.
3- داود العطار، أخرجه البيهقي في الدلائل [2/ 442] .
* وتابع أبا الزبير، عن جابر: سالم ابن أبي الجعد، أخرجه الدارمي في مسنده- برقم 3619 فتح المنان-، والإمام أحمد كذلك [3/ 390] ، ابن أبي شيبة في المصنف [14/ 310] رقم 18431، والبخاري في خلق أفعال العباد [/ 131] ، ومن طريقه الترمذي في فضائل القرآن من الجامع برقم 2925 وقال: غريب صحيح، وأبو داود في السنة، باب: في القرآن، رقم 4734، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات [/ 243] ، وابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية رقم 201، وابن بطة في الإبانة الكبرى [1/ 3- الرد على الجهمية/ 230] ، رقم 7، وعثمان بن سعيد في الرد على الجهمية [/ 135] ، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد [/ 554، 555] ، وأبو نعيم في الدلائل [1/ 291] رقم 217، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 613] وأقره الذهبي في التلخيص.(2/125)
334- وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني رحمة للعالمين، وهدى للعالمين، وأن أكسر المعازف والأصنام وأمر الجاهلية، وأقسم ربي عزّ وجلّ: لا يشرب عبد الخمر في الدنيا ثم لا يتوب إلى الله منها إلا سقاه الله من طينة الخبال.
335- وروى عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومي شدة، وأشد ما لقيت منهم يوم عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أشعر إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلت، وإذا جبريل فناداني فقال: إن الله سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره (334) - قوله: «وروى أبو أمامة الباهلي» :
اسمه صدي بن عجلان، أخرج حديثه الإمام أحمد في المسند [5/ 257، 268] ، الطيالسي في مسنده برقم 1134، الطبراني في معجمه الكبير [8/ 232، 233] رقم 7803، 7804، جميعهم من حديث علي بن يزيد الألهاني- أحد الضعفاء- عن القاسم عنه.
وهذا لفظ الإمام أحمد: إن الله بعثني رحمة للعالمين، وهدى للعالمين، وأمرني ربي عزّ وجلّ بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصلب وأمر الجاهلية، وحلف ربي عزّ وجلّ بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته من الصديد مثلها يوم القيامة مغفورا له أو معذبا، ولا يسقيها صبيا صغيرا ضعيفا مسلما إلا سقيته من الصديد مثلها مغفورا له أو معذبا، ولا يتركها من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة، ولا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا تجارة فيهن، وثمنهن حرام- يعني:
الضاربات-.(2/126)
بما شئت فيهم، فسلم عليّ وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعثني الله إليك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا.
336- عن عبد الله بن عباس قال: حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر- وكان مقدما في كل الخير، وكان رجلا نسابة- فسلم فردوا عليه السلام فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة، قال: أمن هامتها، أو من لهازمها؟
فقالوا: بل من هامتها العظمى، قال: وأي هامتها العظمى؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال: لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا:
لا، قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قوله: «ولا يشرك به شيئا» :
أخرجه الشيخان، فأخرجه البخاري في بدء الخلق برقم 3231، وفي التوحيد برقم 7389، مسلم في الجهاد والسير برقم 1420.
(336) - قوله: «فمنكم عوف» :
قال الخطيب: هو عوف بن محلّم بن ذهل.
قوله: «لا حر بوادي عوف» :
لشرف عوف وعزه، وإن الناس كانوا له كالعبيد والخول. قاله الخطيب.
قوله: «فمنكم بسطام بن قيس» :
زاد في رواية أبي نعيم: ابن مسعود.(2/127)
قال: فمنكم جسّاس بن مرة حامي الذّمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال:
فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال: فلستم ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر؟.
قال: فقام إليه غلام من بني شيبان حين بعّل وجهه يقال له: دغفل، فقال:
إنّ على سائلنا أن نسله ... والعبء لا تعرفه أو تجهله
يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكذبك شيئا، فممن الرجل؟
فقال أبو بكر: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ، أهل الشرف والرياسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة، فقال الفتى: أمكنت والله منها الرامي من سوء الثغرة، أمنكم قصي الذي جمع قوله: «فمنكم جساس بن مرة» :
زاد في رواية أبي نعيم: ابن ذهل.
قوله: «فمنكم الحوفزان» :
زاد في رواية أبي نعيم: ابن شريك.
قوله: «صاحب العمامة الفردة» :
سمي بذلك لأنه كان إذا ركب لم يعتم معه غيره، قاله الخطيب.
قوله: «أهل الشرف والرياسة» :
زاد في رواية: وأزمة العرب وهداتها.
قوله: «أمنكم قصي» :
اختلف لفظ وسياق أبي نعيم هنا قليلا إذ فيها: أفمنكم قصي بن كلاب-(2/128)
القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمّعا؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد: عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال:
لا، قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الندوة أنت؟
قال: لا، قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: فاجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام الناقة راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام:
- الذي قتل بمكة المتغلبين عليها، وأجلى بقيتهم، وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار، ونزّل قريشا منازلها، فسمته العرب بذلك مجمعا، وفيه يقول الشاعر لبني عبد مناف:
أليس أبوكم يدعى مجمعا به ... جمع الله القبائل من فهر؟
قال: لا، قال الغلام: أفمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا، وأبو الغطاريف السادة؟ قال: لا، قال: أفمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه، وأهل مكة مسنتون عجاف، وفيه يقول الشاعر:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
سنوا إليه الرحلتين كلاهما ... عند الشتاء ورحلة الأصياف
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصها لعبد مناف
الرائشين وليس يعرف رائش ... والقائلين هلم للأضياف
والضاربين الكبش يبرق بيضة ... والمانعين البيض بالأسياف
لله درك لو نزلت بدارهم ... منعوك من ذل ومن إقراف؟
قال: لا، قال: أفمنكم عبد المطلب: شيبة الحمد، وصاحب بئر مكة، مطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلاة الذي كأن وجهه القمر يتلألأ في الليل المظلم؟ ... الحديث.(2/129)
صادف در السيل درا يدفعه ... يهضبه حينا وحينا يصدعه
أما والله لو ثبتّ لأخبرتك أنك من زمعات قريش، وأما أنا فدغفل.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علي: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة! قال: أجل أبا حسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانىء ابن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم جمالا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم مجلسا.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال المفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جهد، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، قوله: «عليهم السكينة والوقار» :
زاد في رواية: وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات.
قوله: «هؤلاء غرر الناس» :
وفي رواية أبي نعيم: ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم.(2/130)
ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد بلغكم أنه رسول الله، ألا هو ذا، فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذاك، فإلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر رضي الله عنه يظله بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تؤوني وتنصروني فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد.
فقال مفروق بن عمرو: وإلى ما تدعونا يا أخا قريش؟ فو الله ما سمعت كلاما أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآية، إلى قوله تعالى: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، فقال مفروق: وإلى ما تدعونا أيضا يا أخا قريش، فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض؟.
قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فقال مفروق بن عمرو: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك- وكأنه أحب أن يشرك في الكلام هانىء بن قبيصة- فقال: وهذا هانىء بن قبيصة، شيخنا وصاحب ديننا.
قوله: «أن تؤوني وتنصروني» :
زاد في رواية: حتى أؤدي عن الله ما أمرني به.
قوله: «ما هذا من كلام أهل الأرض» :
زاد في رواية: ولو كان من كلامهم لعرفناه.(2/131)
فقال هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، إني أرى أنّ تركنا ديننا واتّباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر أنه زلل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر.
وكأنه أحب أن يشرك المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه: جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيرين: اليمامة، والسماءة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذان الصيران؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي قوله: «اليمامة، والسماءة» :
السماءة من أعمال زبيد اليمن، ويقال أيضا لجبل مقري باليمن: سماءة، وفي البداية لابن كثير: السماوة، وهو الذي يدل عليه السياق، إذ هي ماء لكلب، ويقال أيضا: لبادية بين الكوفة والشام، والله أعلم.
قوله: «ما هذان الصيران؟» :
في رواية أبي نعيم: فقال: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى.
وفي النهاية: الصير: الماء الذي يحضره الناس.(2/132)
مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟.
فقال النعمان بن شريك: اللهمّ فلك ذلك، قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً.
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يدي أبي بكر وهو يقول:
يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية؟ ما أشرفها، بها يدفع الله عزّ وجلّ بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم.
قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سرّ بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم.
قوله: «ومعرفته بأنسابهم» :
عزاه الحافظ ابن حجر للحاكم- ولعله في تاريخه- وأخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 427] : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر:
محمد بن عبد الله بن أحمد العماني، ثنا محمد بن زكرياء الغلابي، ثنا شعيب بن واقد، ثنا أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس به.
قال البيهقي: محمد بن زكرياء الغلابي متروك.
قلت: روي من غير طريقه كما سيأتي. -(2/133)
337- روى جابر بن عبد الله قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، إن مدحنا زين، وإن شتمنا شين، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وشتمه شين، فماذا تريدون؟.
قالوا: نحن ناس من بني تميم، جئناك بشاعرنا وخطيبنا، لنشاعرك ولنفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا.
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك، قال: فقام وقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدة، وأكثرهم مالا، وأكثرهم سلاحا، فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول أحسن من قولنا، وبفعال أحسن من فعالنا.
- تابعه عن الغلابي: الطبراني سليمان بن أحمد، أخرجه أبو نعيم في الدلائل برقم 214.
وتابع شعيب بن واقد عن أبان بن عبد الله: محمد بن بشر اليماني، أخرجه البيهقي في الدلائل [2/ 422] ، من طريقه ابن عساكر في التاريخ [17/ 293] ، أبو نعيم في الدلائل برقم 214.
وتابع أبان بن عبد الله، عن أبان بن تغلب: أبان بن عثمان الأحمر، رواه الخطيب البغدادي، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [17/ 296] .
وما أظن أن هذه متابعة، فقد قال الحافظ ابن عساكر عقب إخراجه لحديث البيهقي: رواه غيره فقال: أبان بن عثمان الأحمر، يعني: لا أبان بن عبد الله البجلي، وقد قال البيهقي أيضا عقب إخراجه للحديث: وقد روي أيضا بإسناد آخر مجهول عن أبان بن تغلب، ثم ساق طريق الخطيب.(2/134)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: قم فأجبه، قال: فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها، وأعظم الناس أحلاما فأجابوه، فالحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله، وعزا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا ماله ونفسه، ومن أباها قاتلناه، وكان رغمه في الله علينا هينا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال: فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، قال: فقام فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الرّبع
ونطعم الناس عند القحط كلهم ... من السديف إذا لم يؤنس القزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان، فانطلق إليه، فقال:
وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفا!، قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فأجابه، وتكلم شاعرهم فأرسل إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجيبه، قوله: «من السديف» :
أي: شحم السنام.
قوله: «إذا لم يؤنس القزع» :
القزع: قطع السحاب.(2/135)
فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا هذا العود- والعود: الجمل الكبير-، قال: فجاء حسان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه، فقال: يا رسول الله مره فليسمعني، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمعه ما قلت. فأسمعه، فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كإيزاغ المخاض مشاشة ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أحدا يوم استقلت شعابه ... فضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى ... إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟
ونضرب هام الدارعين وننتهي ... إلى حسب من جذم غسان قاهر؟
فلولا حياء الله قلنا تكرما ... على الناس بالخيفين: هل من منافر؟
فأحياؤنا من خير من وطىء الحصى ... وأمواتنا من خير أهل المقابر
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله يا محمد قد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وإني قد قلت شعرا فاسمعه، فقال: هات، فقال:
قوله: «كإيزاغ المخاض» :
الإيزاغ: إخراج البول دفعة دفعة، يقال: أوزغت الناقة ببولها إذا قطعته دفعا دفعا، وأراد بالمشاش هنا: النوق الحوامل.
قوله: «الصوادر» :
تروى بالصاد والسين: يقال: سدر البعير إذا تحيّر من شدة الحر.
قوله: «الليوث الخوادر» :
يقال: أسد خادر أي: مقيم في عرينه، وخدر الأسد حدورا إذا أقام فيه.(2/136)
أتيناك كي ما يعرف الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند ذكر المكارم
فإنا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهائم
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان قم فأجبه، قال: فقام حسان:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد كنت ظننت أن الناس قد نسوه عنك.
قال: فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من قول حسان إذ يقول:
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
قال: ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من المجد والعلى ... ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت مالت أكفّنا ... على رؤوسكم بالمرهفات الصوارم
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء، إني والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أرفع صوتا وأحسن قولا، قوله: «هبلتم» :
أي فقدتم، وهلكتم.(2/137)
وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع صوتا وأحسن شعرا، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يضرك ما كان قبل هذا.
قوله: «لا يضرك ما كان قبل هذا» :
أخرج القصة بطولها: أبو نعيم في المعرفة [1/ 336] رقم 1056، والروياني في مسنده- كما في الكنز [10/ 613- 617] رقم 30316 وهو ضمن الجزء الساقط من الأصول، ومن طريق الروياني أخرجه ابن عساكر في تاريخه [9/ 185] .
وأخرجه ابن منده في الصحابة، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [9/ 187] .
قال ابن منده: هذا حديث غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه، تفرد به المعلى بن عبد الرحمن الأنصاري.
قلت: المعلى هذا هو الواسطي، من رجال ابن ماجه، اتهم بالكذب والوضع، ورمي بالرفض، لكن قد روي حديثه من وجه آخر أفضل منه وفي اللفظ اختصار، فأخرجه الإمام أحمد في المسند [3/ 488، 6/ 393] ، والطبراني في معجمه الكبير [1/ 277] رقم 878، ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني [2/ 388] رقم 1178، جميعهم من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس: أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجاب فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذلكم الله.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [7/ 108] : أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع، وإلا فهو مرسل كإسناد أحمد الآخر.(2/138)
[67- باب: في معاريج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطّيّبين]
67- باب:
في معاريج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطّيّبين قال الله عزّ وجلّ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ الآية.
قوله عزّ وجلّ: أَسْرى بِعَبْدِهِ يعني: أدلج.
قوله: «في معاريج النبي صلى الله عليه وسلم» :
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: اختلف السلف في الإسراء والمعراج هل وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده الشريف صلى الله عليه وسلم وروحه، وذلك لاختلاف الأخبار الواردة؟ قال: فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، قال:
ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل، نعم جاء في بعض الأخبار ما يخالف بعض ذلك، فجنح لأجل ذلك بعض أهل العلم منهم، إلى أن ذلك كله وقع مرتين، مرة في المنام توطئة وتمهيدا، ومرة ثانية في اليقظة، كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء الملك بالوحي، قال: وقد ذكر ابن ميسرة التابعي الكبير وغيره أن ذلك وقع في المنام، وأنهم جمعوا بينه وبين حديث عائشة بأن ذلك وقع مرتين، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري، وحكاه عن طائفة، وأبو نصر بن القشيري، ومن قبلهم أبو سعيد- كذا- في شرف المصطفى حيث قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاريج، منها ما كان في اليقظة، ومنها ما كان في المنام، اه.(2/139)
338- وقال عزّت قدرته: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ، قالوا: بمحمد إذا رجع من السماء.
قال أبو سعد رحمه الله ورضي عنه: اختلف الناس في معراج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: كان رؤيا، وقال بعضهم: كان حقيقة، وترتيب الأخبار أن يقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاريج، منها: ما كان حقيقة، ومنها: ما كان رؤيا، على ما روي في الخبر.
339- أخبرنا أبو سعيد: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الصوفي، الرازي، ثنا يوسف بن عاصم، ...
(338) - قوله: «بمحمد إذا رجع من السماء» :
لم أعرف قائله.
(339) - قوله: «الصوفي، الرازي» :
قال الحافظ الذهبي في السير: الشيخ المعمر، الزاهد، شيخ الصوفية، مسند الوقت، نزيل نيسابور، عمّر دهرا، حدث عنه الحاكم وأبو نعيم وشيخ الإسلام إسماعيل الصابوني، قال الحاكم: جاور بمكة وقد دخلت عليه في أول سنة إحدى وثمانين لما بلغني خروجه إلى مرو، ولم يزل كالريحانة عند مشايخ الصوفية ببلدنا، قال الحافظ الذهبي: حديثه مستقيم، ولم أر أحدا تكلم فيه، وسماعه من ابن الضريس يقتضي أن يكون وله ستة أعوام.
انظر: سير أعلام النبلاء [16/ 427] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 382- ص 52] ، الوافي بالوفيات [17/ 490] ، النجوم الزاهرة [4/ 163] ، العبر [3/ 21] ، دول الإسلام [1/ 233] ، الشذرات [3/ 226] ، وسماه فيها:
سعيد بن عبد الله!.
قوله: «ثنا يوسف بن عاصم» :
هو الحافظ الثقة، الإمام الرحالة، أبو يعقوب الرازي، سمع ابن نمير، -(2/140)
ثنا هدبة بن خالد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: بينا أنا في الحطيم- وربما قال: في الحجر- مضطجعا، إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه- قال: فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى سرته-.
فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءا إيمانا وحكمة، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم-، يقع خطوه عند أقصى طرفه.
قال: فحملت عليه، فانطلق بي جبريل عليه السّلام حتى أتى بي السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم- صلوات الله وسلامه عليه-، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام وقال: مرحبا بالإبن الصالح، والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، فقيل: من- وسويد بن سعيد وطبقة هدبة بن خالد، توفي سنة ثمان وتسعين.
سير أعلام النبلاء [13/ 560 بدون ترجمة مفردة] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 298- ص 326- 327] .
قوله: «ثنا هدبة بن خالد» :
القيسي، الإمام العابد الثقة: أبو خالد البصري، هو ومن فوقه من رجال الصحيحين، والحديث عندهما كما سيأتي.(2/141)
هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى- وهما ابنا خالة- فقال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، قال: فسلمت فردّا، وقالا: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، قال: ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فردّ عليّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قلت: من هذا؟ قال: هارون، فسلّم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم صعد بي حتى أتى بي السماء السادسة، فاستفتح، فقيل:
من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل:(2/142)
أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما جاوزت بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
قال: ثم صعد بي حتى أتى بي السماء السابعة، فاستفتح، فقيل:
من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل:
أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السّلام، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، قال: وإذا أربعة أنهار:
نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال:
أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.
قال: ثم رفع لي البيت المعمور.
340- قال قتادة: فحدثنا الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون فيه.
ثم رجع إلى حديث أنس بن مالك: قال: ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك.(2/143)
قال: ثم فرضت عليّ الصلاة: خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى عليه السّلام، فقال: بم أمرت؟ فقلت: بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بأربعين صلاة كل يوم، قال:
إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، فإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال:
بم أمرت؟ قلت: أمرت بثلاثين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة، فإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال:
بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشرين صلاة، قال: إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت:
أمرت بعشر صلوات، قال: إن أمتك لا تستطيع عشر صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم، قال: فإن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم.
وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة،(2/144)
فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت، فإذا مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.
341- أخبرنا أبو عبد الله: عبد الوهاب بن الحسن بن علي بن داود بن خلف المصري بها، ثنا أبو محمد: عبد الله بن جعفر بن الورد، ثنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، ثنا عبد الملك بن هشام، ثنا زياد بن عبد الله البكائي، ثنا محمد بن إسحاق: أن أم هانىء بنت أبي طالب قوله: «وخففت عن عبادي» :
أخرجاه في الصحيحين، أخرجه البخاري بطوله من حديث هدبة، في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم 3207، وفي أحاديث الأنبياء، باب وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ الآية، رقم 3430، وفي مناقب الأنصار، باب المعراج، رقم 3887، وأخرجه مسلم في الإيمان، من طرق، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، 164 (264) .
(341) - قوله: «أخبرنا أبو عبد الله» :
تقدم هذا السند إلى ابن إسحاق برقم: 89.
قوله: «ثنا محمد بن إسحاق» :
أخرجه ابن هشام في سيرته [1/ 402] ، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانىء، ووصله ابن جرير في تفسيره [15/ 2- 3] من طريق محمد بن حميد، ثنا سلمة، ثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن السائب- متروك متهم-، عن أبي صالح باذام عن أم هانىء.
وتابعه يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي صالح، أخرجه أبو يعلى-(2/145)
كانت تقول: ما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم ... وذكر حديث المسرى بطوله.
- كما في إتحاف البوصيري [9/ 59- 61] رقم 8543، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه.
وأخرجه الطبراني [24/ 432- 434] رقم 1059 من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور، عن عكرمة، عن أم هانىء.
وهذا لفظ ابن هشام، عن ابن إسحاق: كانت أم هانىء تحدث في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي، نام عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: يا أم هانىء لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين، ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه، فتكشّف عن بطنه كأنه قبطية منطوية، فقلت له:
يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك، قال: والله لأحدثنهموه، قالت: فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أخبرهم، فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط، قال: آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فندّلهم بعير، فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوب من البيضاء، ثنية التنعيم، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء، قالت: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل- كما وصف لهم-، وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه، ولم يجدوا فيه-(2/146)
342- حدثنا أبو عمرو: محمد بن جعفر بن محمد بن مطر، ثنا أبو الحسين: سهل بن يحيى الصوفي، ثنا محمد بن يونس بن موسى الكديمي، قال: حدثني أبي: يونس بن موسى، ثنا الحسن بن حماد، - ماء، وسألوا الآخرين وهم بمكة، فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه، حتى أخذناه.
(342) - قوله: «حدثنا أبو عمرو» :
تقدم، وشيخه أبو الحسين لم أقف له على ترجمة فيما لدي من المصادر.
قوله: «ثنا محمد بن يونس الكديمي» :
البصري، قال عنه الحافظ الذهبي في السير: الشيخ الإمام، الحافظ الكبير، القرشي، السامي، البصري، الضعيف، تكلم فيه الناس، فكذبه بعضهم، واتهمه آخرون بالوضع، فعد بذلك من المتروكين، انظر عنه في:
تهذيب الكمال [27/ 66] ، تهذيب التهذيب [9/ 475] ، التقريب [/ 515] الترجمة رقم 6419، الميزان [5/ 199] ، المغني في الضعفاء [2/ 646] ، الديوان [2/ 348] ، الوافي بالوفيات [5/ 291] ، تذكرة الحفاظ [2/ 618] ، سير أعلام النبلاء [13/ 302] ، تاريخ بغداد [3/ 435] ، الجرح والتعديل [8/ 122] ، الضعفاء والمجروحين [2/ 312] .
قوله: «يونس بن موسى» :
مذكور في شيوخ الكديمي، وفي الرواة عن الحسن بن حماد الآتي، ولم أر من أفرده بترجمة.
قوله: «الحسن بن حماد» :
هو ابن يعلى البجلي، ذكره أصحاب التهذيب للتمييز بينه وبين غيره ممن يسمى بالحسن بن حماد. انظر:
تهذيب الكمال [6/ 37، 9/ 517] ، تهذيب التهذيب [2/ 238] ، التقريب [/ 160] الترجمة رقم 1232.(2/147)
عن زياد بن المنذر النهدي، ثنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه قال: لما بدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الآذان أتاه جبريل عليه السّلام بدابة يقال لها: البراق، فذهب ليركبها فاستصعبت، فقال صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ائتني بدابة ألين من هذه، فأتاه بدابة يقال لها:
برقة، فركبها، فاستصعبت عليه فقال لها جبريل عليه السّلام: اسكني برقة فما ركبك أحد أكرم على الله منه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فركبتها حتى انتهت بي إلى الحجاب، فخرج ملك من وراء الحجاب، قال: فقلت: يا جبريل من هذا الملك؟
قال: والذي بعثك بالحق ما رأيت هذا الملك قبل ساعتي هذه، قوله: «عن زياد بن المنذر النهدي» :
من رجال الترمذي المضعفين، كنيته: أبو الجارود الأعمى، بالغ بعضهم في الحط عليه فكذبه واتهمه، وقال ابن عدي: من المعدودين من أهل الكوفة المغالين، اه. يعني: في التشيع والرفض.
انظر عنه: تهذيب الكمال [9/ 517] ، إكمال مغلطاي [5/ 122] ، الكامل لابن عدي [3/ 1046] ، الميزان [2/ 283] ، المغني في الضعفاء [1/ 244] ، الديوان [1/ 309] ، المجروحين لابن حبان [1/ 306] ، تناقض فذكره في الثقات أيضا [6/ 326] ، تهذيب التهذيب [3/ 332] ، التقريب [/ 221] الترجمة رقم 2101.
قوله: «فقال: يا جبريل ائتني بدابة» :
الجملة إلى قوله: يقال لها: برقة، لعلها مما ينكر على الكديمي، أخرج الرواية البزار في مسنده [1/ 178 كشف الأستار] رقم 352 من طريق عثمان ابن مخلد الواسطي، عن زياد بن المنذر فلم يذكرها، وأعلّها الهيثمي في مجمع الزوائد [1/ 329] بزياد بن المنذر.(2/148)
فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي؛ أنا أكبر أنا أكبر، فقال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله، فنودي من وراء الحجاب: أنا والله لا إله إلا أنا، قال الملك: أشهد أن محمدا رسول الله، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أرسلت محمدا رسولا، فقال الملك: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فنودي من وراء الحجاب: صدق عبدي، ودعا إليّ عبادي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيومئذ أكمل الله لي الشرف على الأولين والآخرين.
343- وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أسري بي من المسجد الحرام. فمرة قال: كنت في الحجر، وروي مرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: كنت في بيت أم هانىء، فأسري بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
قوله: «ودعا إلي عبادي» :
في رواية البزار: ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه فأم أهل السماء، فيهم: آدم ونوح.
قوله: «على الأولين والآخرين» :
في رواية البزار: على أهل السماوات والأرض.
43 3- قوله: «فمرة قال» :
يريد المصنف- والله أعلم- أن كل ذلك صحيح لا تعارض فيه وإن كان الظاهر من ألفاظه أنه كذلك، ففي الرواية الأولى لأنس بن مالك عن صعصعة: بينا أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر-، وفي رواية أم هانىء: أنه ما أسري به إلا وهو في بيتها، وفي رواية أنس، عن أبي ذر عند الشيخين: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، وفي بعض الروايات الأخرى: أن الإسراء كان من شعب أبي طالب، قال الحافظ في الفتح: والجمع بين هذه-(2/149)
344- وقوله تعالى: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ الآية، يعني: من الماء والشجر.
345- قال ابن عباس رضي الله عنه: تخرج المياه من صخرة بيت المقدس.
- الأقوال: أنه نام في بيت أم هانىء- وبيتها عند شعب أبي طالب- ففرج سقف بيته وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد فأركبه البراق، قال: ويؤيد هذا الجمع مرسل الحسن عند ابن إسحاق، وفيه: أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق.
45 3- قوله: «قال ابن عباس» :
لم أقف عليه، لكن قال القاضي ابن العربي في القبس [3/ 1076] في تأويل قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ الآية: اختلف الناس في تأويل هذه الآية على أربعة أقوال، وفي الرابع منها قال: وقيل إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس، وهي من عجائب الله في أرضه، فإنها صخرة تسعى في وسط المسجد الأقصى مثل الضرب، وقد انقطعت من كل جهة، لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، قال: وفي أعلاها من جهة الجوف قدم النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته، ومن الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذ مالت به، ومن تحتها الغار الذي انفصلت منه من كل جهة، وعليه باب يفتح للناس للصلاة والاعتكاف والدعاء، قال: تهيبتها مرة أن أدخل تحتها لأني كنت أقول: أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب، ثم رأيت الظلمة والمجاهرين بالمعاصي يدخلونها ثم يخرجون عنها سالمين فهممت بدخولها، ثم قلت: ولعلهم أمهلوا وأعاجل، فتوقفت مرة، ثم عزم عليّ فدخلت فرأيت العجب العجاب، نمشي في حواشيها من كل جهة فنراها منفصلة عن الأرض، لا يتصل بها من الأرض شيء، وبعض الجهات أبعد انفصالا من بعض.(2/150)
346- وكان رسول الله سأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا قال: بينا أنا نائم في بيتي طاهرا أتاني جبريل وميكائيل عليهم السّلام فقالا: انطلق إلى ما سألت ربك، فانطلقا بي إلى ما بين المقام وزمزم.
347- وفي رواية: فألصقاني على قفاي، ثم شقا بطني، ومعهما طست من ذهب- فيه تغسل بطون الأنبياء قبلي- فكان جبريل يختلف بالماء من زمزم في الطست، وكان ميكائيل يغسل جوفي، (346) - قوله: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 213] من طريق شيخه الواقدي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة وغيره من رجاله، وزاد بعد قوله هنا ما بين المقام وزمزم: فأتي بالمعراج فإذا هو أحسن شيء فعرجا به إلى السماوات، سماء سماء، فلقي فيها الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، وأري الجنة والنار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما انتهيت إلى السماء السابعة لم أسمع إلا صريف الأقلام، وفرضت عليه الصلوات الخمس، ونزل جبريل عليه السّلام، فصلى برسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات في مواقيتها.
(347) - قوله: «فألصقاني على قفاي» :
أدخل المصنف لفظ هذه الرواية في التي قبلها، وقد لوحظ فعله هذا في كثير من الروايات التي لم يسندها، يدخل ألفاظ بعضها في بعض، ويحسن عند التحقيق فصلها ليتسنى عزو كل حديث لرواته ومصادر تخريجه.
قوله: «فكان جبريل يختلف بالماء من زمزم» :
أخرج الشيخان من حديث يونس، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال:
كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج عن صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من-(2/151)
فقال جبريل لميكائيل: شق قلبه، فشق قلبي، فأخرج علقة سوداء فألقاها، ثم ذر عليه من ذرور كان معه، ثم قال لبطني هكذا، فالتأم، وقد ملىء حكمة وإيمانا.
- ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ... وذكر حديث المعراج وفرض الصلاة الطويل، لفظ البخاري في الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، رقم 349.
وأخرج ابن حاتم في تفسيره [7/ 2309] رقم 13184- واللفظ له- وابن جرير كذلك [15/ 6، 11] ، والبزار في مسنده [1/ 38 كشف الأستار] رقم 55، وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل [2/ 397- 403] ، وابن مردويه- كما في الخصائص [1/ 427]-، جميعهم من حديث أبي العالية، عن أبي هريرة في حديث الإسراء الطويل قال: جاء جبريل عليه السّلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل، فقال جبريل لميكائيل عليهم السّلام: ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره، فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس- لفظ ابن جرير: طسات- من ماء زمزم فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غل وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما وختم بين كتفيه بخاتم النبوة.. الحديث بطوله.
قال في مجمع الزوائد [1/ 67، 72] : رجاله موثقون، إلا أن الربيع بن أنس قال: عن أبي العالية أو غيره فتابعيّه مجهول.
قوله: «ثم ذر عليه من ذرور كان معه» :
هذا الشطر- أو: اللفظ- مذكور في حديث أبي كعب، عن أبي هريرة، أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند [5/ 139] ، ومن طريقه ابن عساكر [3/ 463- 464] ، وأبو نعيم في الدلائل- واللفظ له- برقم 166 وفيه: ثم شقا بطني، فكان جبريل يختلف بالماء في طست-(2/152)
348- وفي رواية: قال- يعني جبريل-: يا محمد قم، فقمت، فأخذ بيدي، فأخرجني من باب المسجد، فإذا أنا بدابة بين الصفا والمروة، وجهها كوجه الإنسان، وآذانها كآذان الفيلة، وعرفها كعرف الفرس، وقوائمها كقوائم البعير، وذنبها كذنب البقر، فوق الحمار ودون البغل، ورأسها من ياقوت أحمر، وصدرها درة بيضاء، وهي البراق التي كان يركبها الأنبياء عليهم السّلام قبلي، رحل عليها من رحال الجنة، فقال لي:
يا محمد اركب، فوضعت يدي عليه فاستصعب عليّ إذ لم يكن له عهد بالركوب في فترة أربع مائة سنة، فقال له جبريل عليه السّلام: مهلا يا براق! - من ذهب، وكان ميكائيل يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فشق قلبي، فقال: أخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذه، ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة في قلبه، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذر عليه ... الحديث، وأوله صريح في أن ذلك كان وهو ابن عشر سنين، قال أبو نعيم: تفرد معاذ بن محمد بذكر السن الذي شق فيه.
ومذكور أيضا- أعني: الذرور المشار إليه- في حديث يونس بن ميسرة عند أبي نعيم، كما في الخصائص [1/ 161] وفيه: أتاني ملك بطست من ذهب فشق بطني، فاستخرج حشوة جوفي فغسلها، ثم ذر عليه ذرورا ...
الحديث، وفي حديث عتبة بن عبد السلمى أن هذا الذر هو السكينة، خرجناه في مسند الحافظ أبي محمد الدارمي، تحت رقم 14.
(348) - قوله: «إذ لم يكن له عهد بالركوب» :
عزا الحافظ في الفتح [7/ 247] هذه الرواية لابن إسحاق في المبتدأ من رواية وثيمة في ذكر الإسراء فذكر منها: فاستصعبت البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد بركوبهم، ولم تكن ركبت في الفترة.(2/153)
أما تستحي؟ والله ما ركبك أحد منذ كنت أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فارتعش البراق حتى لصق بالأرض، فركبته حتى انتهى بي إلى بيت المقدس، ودخلت من باب المسجد، فإذا أنا بكل نبي بعثه الله سبحانه قبل عيسى، فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر.
قال: وكانت الملائكة تحييني زمرة زمرة، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء إخوانك، قلت: ما تحيتهم لي؟ قال: لأنك أول من تنشق عنه الأرض وعن أمتك قبل سائر الأمم، وأنت الآخر- أي: آخر الأنبياء- وبك يحشر الحشر وبأمتك، وأول من يدخل الجنة أنت وأمتك.
قوله: «فارتعش البراق» :
أيضا ذكر هذا اللفظ الحافظ في الفتح وعزاه لابن إسحاق في المبتدأ من رواية وثيمة في قصة الإسراء، وقد تقدم أن المصنف أدخل في السياق عدة روايات.
قوله: «فقالوا: السلام عليك يا أول» :
أدخل المصنف في السياق رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، حيث ورد هذا في روايته عن أنس في حديثه الطويل في قصة المعراج وفيه: فقال جبريل: سر يا محمد، قال: فسار ما شاء الله أن يسير فلقيه خلق من الخلق فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد السلام يا محمد، فرد السلام ... وفي آخره: وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السّلام، أخرجها ابن جرير في تفسيره [15/ 6] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 361- 363] .(2/154)
349- وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ثلاثة نفر أقبلوا نحوي، فقال الأول: هو.. هو؟ قال الأوسط: نعم، قال الثالث: خذوا سيد القوم- وكانوا أشراف الملائكة ... الحديث.
350- وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: لما كنت في مسيري انتهيت إلى ربوة فلسطين، فإذا أنا بامرأة كأن وجهها في كل زينة من الثياب عليها عقد من لؤلؤ، قد نظم من صدرها إلى ما يلي تراقيها، واقفة وسط الطريق، قالت: يا محمد، يا محمد على رسلك أسألك، فنظرت إليها ولم أقف، فقال جبريل: أتدري من هذه؟ قلت: لا، قال:
هذه الدنيا تزينت لك، فلو وقفت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
قال: فلما مضيت ساعة إذا مناد ينادي عن يميني: يا محمد (349) - قوله: «رأيت ثلاثة نفر» :
هو طرف من حديث كثير بن خنيس، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بينما أنا مضطجع في المسجد ليلة نائما، إذ رأيت ثلاثة نفر أقبلوا نحوي، فقال الأول: هو.. هو؟ قال الأوسط: نعم، قال الآخر: خذوا سيد القوم، فرجعوا عني، ثم رأيتهم الليلة الثانية، فقال الأول: هو.. هو؟ فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم، فرجعوا عني، حتى إذا كانت الليلة الثالثة رأيتهم، فقال الأول: هو.. هو؟ قال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم، حتى جاءوا بي زمزم فاستلقوني على ظهري، ثم غسلوا حشوة بطني، ثم قال بعضهم لبعض: انقوا، ثم أتى بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا فأفرغ في جوفي، ثم عرج بي إلى السماء ... الحديث بطوله في قصة المعراج.
قال السيوطي في الدر المنثور [5/ 189] : أخرجه ابن مردويه.(2/155)
يا محمد، فلم أقف له، فقال جبريل عليه السّلام: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا داعي اليهود، فلو وقفت عليه لاختارت أمتك اليهودية.
قال: ثم مضيت فإذا مناد ينادي عن يساري: يا محمد يا محمد، فلم ألتفت إليه، فقال جبريل: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا داعي النصارى، فلو وقفت عليه لتنصرت أمتك.
ثم انطلق بي إلى آدم عليه السّلام، فإذا هو كهيئته يوم خلقه الله، قد وكل بأرواح بني آدم تعرض عليه، وعن يمينه باب تخرج منه روح طيبة، وعن شماله باب تخرج روح خبيثة، فإذا نظر إلى الباب عن يمينه ضحك واستبشر وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب، اجعلوا كتابه في عليين.
قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا رأى من يدخله من ذريته ضحك، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا رأى من يدخله من ذريته بكى.
قوله: «قلت: من هذا يا جبريل؟» :
أدخل المصنف هذا الشطر وليس في حديث أبي سعيد، إنما هو في حديث أنس، عن أبي ذر عند الشيخين، الذي أشرنا إليه قريبا وفيه: فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والإبن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى ... الحديث.(2/156)
قال: ثم أتيت فرأيت خلقا كثيرا رجالا ونساءا، لكل واحد منهم مشفران كمشفري البعير، وموكل بهم الرجال يجاء بصخر من نار فيقذف في أفواههم حتى يخرج من أسفلهم، ولهم خوار، قلت: من هؤلاء؟
قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما.
قال: ثم أتيت على قوم بين أيديهم لحم مشرّح لم ير الناس لحما أطيب منه، وبين أيديهم جيف لم ير الناس جيفا أنتن ريحا منه وهم يأكلون منها، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة يقوم أحدهم من عند امرأته الحلال، فيأتي المرأة الخبيثة، وكذلك المرأة، تقوم من عند الزوج.
351- وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: فلما انتهيت إلى المسجد نزل عليّ قوله: «ثم أتيت فرأيت خلقا كثيرا» :
رجع المصنف إلى حديث أبي سعيد.
قوله: «هؤلاء الزناة» :
وفي لفظ آخر لحديث أبي سعيد هذا عند البيهقي وابن عساكر: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام.
حديث أبي سعيد الخدري في قصة المعراج بطوله أخرجه ابن جرير في تفسيره [15/ 11 وما بعده، 14] ، والبيهقي في الدلائل [2/ 390] ، ومن طريقه ابن عساكر [3/ 509 وما بعده] .
(351) - قوله: «وفي رواية» :
ليست في حديث أبي سعيد المساق هنا، وفي أكثر الروايات المشهورة أن الذي عرض عليه هو اللبن والخمر، وفي بعضها اللبن والعسل كما في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم.(2/157)
ملكان بأربعة أقداح لبن وعسل وخمر وماء، قال: فأخذت اللبن فشربته- وكنت رجلا أحب اللبن- فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، رشد فرشدت أمته، ولو شرب الخمر لغوى فغوت أمته، ولو شرب العسل لسفه وسفهت أمته، ولو شرب الماء لغرقت أمته، وحرم الخمر.
قال: وأنا مع جبريل، لا يفوتني ولا أفوته، فثقب جبريل عليه السّلام بإصبعه الإسطوانة، ثم ذكر أسماء الملائكة الذين كانوا على المعراج.
352- وفي بعض الروايات: وإذا أنا برجال فيها- يعني: النار- يعذبون، حتى إذا احترقوا رضخت رؤوسهم بالصخر، ثم أعيدوا فيها، وإذا فيها ناس يعذبون، حتى إذا احترقوا نكسوا على رؤوسهم، فقلت:
سبحان الله، من هؤلاء يا جبريل؟.
قال: أما الذين أخرجوا فرضخت رؤوسهم بالصخر فإنهم أهل الكتاب غيّروا وبدلوا، وأما الذين نكسوا على رؤوسهم فهم المراءون.
- قال الحافظ في الفتح [7/ 248] بعد أن أورد ألفاظ الروايات في الآنية التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم قال: أما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر ومجموعها أربعة آنية فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها صلى الله عليه وسلم تخرج من أصل سدرة المنتهى:
يخرج أصلها من أنهار: من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء، اهـ. باختصار.(2/158)
353- وفي رواية: ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، نساء معلقات بأيديهن وأرجلهن، منكسات، ولهن خوار وصراخ، قلت:
يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء اللواتي يزنين ويقتلن أولادهن، ويجعلن لأزواجهن ذرية من غير أصلابهم.
قال: ثم صعد بي إلى جبل حتى شق عليّ، فلما أفضيت إلى أعلاه رأيت أرضا واسعة، وإذا نساء مستلقيات على أقفيتهن، وإذا حيات كأعناق البخت تشق ثديهن، قلت: من هؤلاء؟ قال: اللواتي يرغبن بألبانهن أولادهن التماس السمن.
354- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على من أدخل على قوم من ليس منهم، فأكلوا طعامهم، واطلعوا على عوراتهم.
355- وروي في بعض الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: فأتيت على قوم (353) - قوله: «وفي رواية» :
ليست في حديث أبي سعيد الخدري.
(354) - قوله: «اشتد غضب الله» :
أخرجه البزار في مسنده [2/ 141 كشف الأستار] رقم 1386، وابن عدي في الكامل [1/ 229] ، من حديث إبراهيم بن يزيد المكي- ضعيف الحديث- عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: اشتد غضب الله على امرأة ألحقت بقوم نسبا ليس منهم يشركهم في أموالهم، ويطلع على عوراتهم، لفظ ابن عدي.
(355) - قوله: «وروي في بعض الأخبار» :
هو شطر من حديث أبي هريرة الطويل وقد خرجناه قريبا.(2/159)
يزرعون ويحصدون في اليوم، كلما حصدوا عاد كما كان، قلت:
يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة سبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
قال: وأتيت قوما ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتّر عنهم من ذلك شيء، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة.
قال: ثم أتيت على قوم، على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم، قلت: من هؤلاء؟
قال: الذي لا يؤدون الصدقات.
قال: ثم أتيت على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يريد أن يزيد عليها، قلت: يا جبريل من هذا؟
قال: هذا الرجل من أمتك عنده أمانة لا يستطيع أداءها، ويريد أن يزيد عليها.
قال: ثم أتيت على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، كلما قرضت ردت لا يفتر عنهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
قال: ثم أتيت على حجر صغير خرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع، قلت: من هذا؟ قال جبريل عليه السّلام: هو الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها يريد أن يردها فلا يستطيع.(2/160)
356- وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم إذ جاءني ملك فقال: قم، فقمت، قال: امض أمامك، فإذا أنا برجلين: رجل نائم، ورجل قائم يجيء بحجر فيضرب رأس النائم فيشدخ رأسه فيعود رأسه كما كان، ويجيء آخر فيضرب رأسه فيشدخه.
ثم قال لي: امض أمامك، فمضيت، فإذا أنا برجلين: رجل جالس، والآخر قائم في يده كلاليب من حديد فيلقي في شدقيه كلوبا فيمده حتى يبلغ كاهله فينزعه، ثم يفعل بالجانب الآخر كذلك، فقلت:
سبحان الله.
فقال لي: امض أمامك، فرأيت مثل التنور، وإذا فيه لغط وأصوات، فانطلقنا، فإذا رجال ونساء عراة، وإذا بنار تأتيهم من أسفلهم.
قال: ومضيت فإذا أنا بنهر من دم، وإذا فيه رجل يصيح في النهر، وإذا على شاطىء النهر رجل قد جمع الحجارة، وأحماها حتى تركها مثل الجمر، فكلما دنا منه ألقمه، وأذاقه من تلك الحجارة، فقلت:
سبحان الله.
ثم قال لي: امض، فمضيت ساعة، فإذا أنا بروضة ملئت أطفالا، وإذا وسطهم شيخ ما يكاد يرى رأسه طولا، فقلت: سبحان الله ما هذا؟
قال: امض أمامك.
قال: فمضيت فإذا أنا بشجرة لو اجتمع الخلق كلهم لأظلتهم، وفي الشجرة رجلان: واحد يجمع الحطب، والآخر يوقد النار، قلت:
ما هذا؟ قال: انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور، وإذا بين(2/161)
ظهراني الروضة رجل طويل قائم لا يكاد يرى رأسه من طوله، وإذا حول الرجل من أكبر الولدان ما رأيت قط أحسن منهم، فقلت: ما هذا؟ قال:
انطلق.
فانطلقنا، فانتهيت إلى درجة عظيمة لم أر درجة أعظم منها قط، فارتفعت منها ساعة، فإذا عليها مدينة مبنية بلبن من ذهب، ولبن من فضة، فأتينا باب المدينة واستفتحنا، ففتح لنا، فتلقانا رجال كأحسن ما رأيت، وآخرون كأقبح ما رأيت، فقال لهم: اذهبوا، فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فإذا هم قد ذهب ذلك التشوه عنهم، فصاروا في أحسن صورة، فقلت: سبحان الله ما هذا؟
قال: امض.
فمضيت ساعة، وإذا أنا بمدينة أخرى أضوأ منها وأوسع، وفي وسط المدينة نهر ماء أشد بياضا من اللبن، وفيه رجال يشتدون إلى هذه المدينة وأهلها، فيضعونهم في ذلك النهر، فيخرجون بيضا نقية، قلت:
سبحان الله.
قال: هل تدري أين مآبك؟ قلت: مآبي عند الله، قال:
صدقت، انظر إلى السماء، فنظرت فإذا أنا براية، قلت: ما لك، بارك الله فيكما ذراني أدخل؟! قالوا: أما الآن فلا، وأنت داخله.
قال: فأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر من شدقه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة في مثل التنور، فهم الزناة والزواني.(2/162)
وأما الرجل الذي يصيح في النهر ويلقم الحجارة، فهو آكل الربا.
وأما الرجل الذي عند النار، فهو خازن جهنم.
وأما الطويل الذي في الروضة، فإبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام.
وأما الولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة.
وأما المدينة، فهي الدنيا، فيها أناس خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا فتاب الله عليهم.
وأما الرجلان تحت الشجرة، فهما ملكان يحميان لأعداء الله إلى يوم القيامة.
وأما نهر الدم، فصاحب الربا.
وأما الذي يشدخ رأسه بالحجارة، فالرجل يتعلم القرآن ثم ينام عنه لا يقرأ منه شيئا، كلما رقد في القبر أو قظوه.
قال أبو سعد: معناه: ينام عن الصلاة المكتوبة.
357- وفي بعض الروايات: وإذا أنا بدار من فضة، بفنائها رجل جالس فقال: مرحبا برجل وعدنا الله أن نراه فلم نره إلا الليلة، فقلت: بربك من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، قلت: لمن هذه الدار؟ قال: لداود النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلتها، فإذا هي في السعة ثلاثة عشر فرسخا في ثلاثة عشر فرسخ عرضها وطولها، وإذا ببيت من زبرجد وياقوت ولؤلؤ، قال: فلما رأى جبريل عليه السّلام عجبي بها، قال: يا نبي الرحمة أليس حسبك أن يعطيك ربك مثل هذه الدار؟ قال: قلت: بلى، إني إلى ربي لمن الراغبين.(2/163)
قال: فمشينا حتى أتيناها، فإذا بفنائها رجل جالس فقال:
مرحبا بنبي وعدنا الله أن نراه فلم نره إلا الليلة، قال: فقلت: بربك من أنت؟ قال: أنا داود، قلت: لمن هذه الدار؟ قال: لخليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، قال: فدخلناها، فإذا أصوات صبيان، قلت:
يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذراري المؤمنين، يكفلهم إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليه.(2/164)
[68- فصل: في وصفه صلى الله عليه وسلم النّار]
68- فصل:
في وصفه صلى الله عليه وسلم النّار 358- وقال صلى الله عليه وسلم: وسمعت صوتا هائلا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا صوت النار تقول: رب ائتني بأهلي، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري وحميمي، وغساقي، وزقومي، وبعد قعري، واشتد حري، فائتني بما وعدتني، فقيل: لك كل مسود ومسودة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب.
359- قال أبو هريرة: «أوقدت النار ألف سنة فابيضت، ثم أوقدت ألف سنة فاحمرت، ثم أوقدت ألف سنة فاسودت، فهي سوداء مظلمة.
(358) - قوله: «ما هذا يا جبريل؟» :
هو طرف من حديث أبي هريرة في قصة المعراج، وقد خرجناه قريبا.
(359) - قوله: «قال أبو هريرة» :
أخرجه موقوفا عليه: ابن المبارك في الزهد برقم 88، ومن طريقه الترمذي في صفة جهنم برقم 2591، وقال: هذا أصح- يعني من المرفوع-، ومن طريق الترمذي: أبو محمد المقدسي في ذكر النار برقم 56، والبيهقي في البعث والنشور برقم 556، عن شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عنه.
* وخالفه يحيى بن بكير، عن شريك فرفعه، أخرجه الترمذي برقم 2591 وقال: لا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى، عن شريك- كذا في نسخة-.
وأخرجه أيضا: ابن ماجه في الزهد، باب صفة النار، رقم 4320، وابن أبي الدنيا في صفة النار برقم 156، والبيهقي في البعث والنشور برقم 555، وأبو محمد المقدسي في ذكر النار برقم 56. -(2/165)
360- وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها، وكل شيء فيها أسود.
361- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ويح أهل النار، أخبرني جبريل أن الله تعالى خلق النار من ظلمة، أعلاها من نحاس، -* ورواه الحكم بن ظهير- ضعّف- عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قوله، أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار برقم 24.
* وخالفهما علقمة، رواه عن عاصم، عن أبي صالح، عن كعب قوله ولفظه: سجرت النار ألف سنة حتى ابيضت، ثم سجرت ألف سنة حتى أحمرت، ثم سجرت ألف سنة حتى اسودت، أخرجه البيهقي في البعث والنشور برقم 554 وقال: هذا أصح.
* وأخرج مالك في الموطأ من حديث عمه أبي سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أترونها حمراء كنار كم هذه، لهي أسود من القار، والقار: الزيت.
* خالفه الدراوردي، عن أبي سهيل فرفعه: أخرجه البيهقي في البعث والنشور برقم 551.
وقد روي حديث أبي هريرة، من وجه آخر فرواه الكديمي- وهو ضعيف جدا-: ثنا سهل بن حماد، ثنا المبارك بن فضالة، ثنا ثابت، عن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، فقال: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ... الحديث، أخرجه البيهقي في الشعب [1/ 489] رقم 799، وفي البعث والنشور برقم 557، ورجاله كلهم ثقات، ليس له علة سوى الكديمي، وكفى به علة.
(361) - قوله: «يا ويح أهل النار» :
لم أقف عليه باللفظ الوارد هنا فيما لدي من المصادر، ولجزئه الأخير شاهد يأتي في الذي بعده، فأما الشطر الأول منه فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [2/ 210] ، والطبراني في معجمه الكبير [7/ 92- 93] ، وابن أبي الدنيا في صفة النار برقم: 1، وغيرهم من حديث ابن أبي ليلى: -(2/166)
ثم جعلها طبقات سبعا، ثم ناداها: اسجري، فسجرت ألف عام، حتى توقد الهواء، فطلب إلى ربه أن يعفيه، فطرحها إلى أسفل سافلين، ثم جعل فوقها البحار والأرضين، ثم قال: تغيّظي، فقال: يا رب على من؟ قال: على من كفر وجحد أوليائي، فنادته: بعزتك لأطحنهم طحنا، ثم زفرت، فارتفع لها حر في الهواء- أو قال: في السماء- فخلق الله تعالى منها النجوم، فجعلها رجوما للشياطين.
قال: فكل ما كان في الشتاء فهو زمهرير، وكل ما كان في الصيف فهو سموم، فمن مرض في الشتاء فهو منها ويكون تمحيصا لذنوب المؤمنين، ومن مرض في الصيف يكون منها، ويكون تطهيرا لذنوب المؤمنين.
362- وروي: أن النار اشتكت إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فشدة الحر من نفسها.
363- وروي: أن أهل النار إذا نادوا: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ يخلى عنهم أربعين عاما ثم يجيبهم: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، قالوا: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها
- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النار في صلاة غير مكتوبة فقال: أعوذ بالله من النار، وويل لأهل النار.
(362) - قوله: «وروي أن النار اشتكت إلى ربها» :
أخرجاه في الصحيحين كما بيناه في الرقاق من مسند الحافظ أبي محمد الدارمي، باب: في نفس جهنم، تحت رقم 3013- فتح المنان.
(363) - قوله: «يخلى عنهم أربعين عاما» :
أخرجه نعيم بن حماد في زوائده على زهد ابن المبارك برقم 319، وابن أبي شيبة في المصنف [13/ 152- 153] رقم 15969، وابن أبي حاتم-(2/167)
فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) ، قال: فيخلى عنهم مثل مدة الدنيا ثم يجيبهم:
اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، قال: فو الله ما نبس القوم بعد ذلك بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق.
- في التفسير [8/ 2509] رقم 14047، والبغوي في شرح السنة [15/ 254- 255] ، والبيهقي في البعث والنشور برقم 648، جميعهم من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو ... قوله، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 395، 4/ 598] ، وأقره الذهبي في التلخيص.
* ورواه معمر، عن قتادة قوله، أخرجه ابن جرير في تفسيره [18/ 59- 60] ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضا: لابن المنذر، وعبد بن حميد، والطبراني، وعبد الله بن أحمد في زوائده على الزهد، وهذا لفظ البغوي في شرح السنة:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ، قال: هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك، ثم يدعون ربهم، فيقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ. رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) ، قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق.(2/168)
[69- فصل: فيما ورد في وصف المعراج]
69- فصل:
فيما ورد في وصف المعراج 364- قال صلى الله عليه وسلم: ثم جئت إلى بيت المقدس، فصليت بالملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أخذ جبريل بيدي حتى انطلق بي إلى المعراج، أصله في قبة بيت المقدس، ورأسه ملتزق بالسماء، أحد عموديه ياقوتة حمراء، والآخر من زمردة خضراء، مفاتيحه ذهب وفضة مكلل بالدر والياقوت، لم ينظر الناظرون إلى شيء أحسن منه، فاحتملني على جناحه، ثم انطلق بي إلى السماء.
365- قيل: إن المعراج أنزل من جنة الفردوس منضودا باللؤلؤ، وما من مؤمن إلا ويحمل إليه عند موته المعراج، أما ترون كيف يتبع بصره روحه، والمعراج أحسن شيء خلقه الله وهو من ياقوت أحمر وأصفر وذهب ولؤلؤ وفضة وزمرد، عن يمينه أربعمائة ملك، وعن يساره (365) - قوله: «أنزل من جنة الفردوس» :
ذكر هذا الحافظ في الفتح [7/ 248] ، والقسطلاني في المنح المحمدية [3/ 53] نقلا عن المصنف.
قوله: «وما من مؤمن إلا يحمل عليه» :
روي هذا الشطر في سياق حديث أبي سعيد الخدري المتقدم تخريجه، وفيه: ثم دخلت أنا وجبريل عليه السّلام بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، ما رأيتم الميت حين شق بصره طامحا إلى السماء؟
فإنما يشق بصره طامحا إلى السماء عجبا بالمعراج ... الحديث. -(2/169)
أربعمائة ملك، ومن أمامه ألف ملك، ومن خلفه ألف ملك، لكل ملك جناحان أخضران، ويعرج ملك متوج من نور، معه خمس مائة ملك، وجوههم كالقمر، يقولون: مرحبا مرحبا يا محمد، ثم إنّ جبريل عليه السّلام نادى ميكائيل، ونادى ميكائيل ميخائيل، ونادى ميخائيل سمحائيل، ونادى سمحائيل كلكائيل، وكلكائيل نادى عصدياليل خليفة زوفيائيل.
وقالوا: قد جاء الخير، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أقبل، وقد أرسل إليه، فجاء بالمعراج، فما من درجة إلا وعليها زمرة من الملائكة، لهم زجل وتسبيح.
حتى بلغت الخامسة عشر فإذا عليها إسماعيل، معه سبعون ألف ملك، وهو ملك السماء الدنيا، وعلى السادسة عشر ربيائيل معه ألف ألف ملك من الملائكة.
حتى بلغت الرابعة والعشرين فإذا فيها رفلاليل- الملك المتوج- يده اليمنى تحت السماء الدنيا، والآخرة فوق السماء الدنيا، بين كل إصبعين من أصابعه سبعون ألف ملك متوجون، أجنحتهم من لؤلؤ.
وفي الدرجة الخامسة والعشرين ملك يقال له: إسماعياليل، معه سيف ألف ملك يقع من أفواههم الدر والياقوت إذا سبحوا، ويتناثر اللؤلؤ من أفواههم عند تسبيحهم، طول اللؤلؤ الواحد: ثمانون ميلا في ثمانين ميلا، وملائكة موكلين بها يلتقطونها فيلقونها إلى شاطىء نهر الشرقي.
- قال الحافظ في الفتح: وقع في رواية ابن إسحاق: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج فلم أر قط شيئا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا حضر ... الحديث.(2/170)
[70- فصل: في أسماء السّماوات السّبع ومن فيهنّ من الأنبياء]
70- فصل:
في أسماء السّماوات السّبع ومن فيهنّ من الأنبياء 366- عن وهب بن منبه: عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: اسم سماء الدنيا: رقيع، وقال لها الرب: كوني زمردة قوله: «ومن فيهنّ من الأنبياء» :
قال الحافظ في الفتح: استشكل بعضهم رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض. وأجيب: بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا له وتكريما، قال: ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم، عن أنس وفيه: وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ... فافهم، اه.
(366) - قوله: «اسم سماء الدنيا: رقيع» :
كذا في روايتنا، وهو موافق لقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أخرجه أبو الشيخ في العظمة بإسناد جيد برقم 566 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عنه، وقد أخرج أبو الشيخ أيضا حديث وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان، فسماها برقيعا بزيادة الموحدة في أوله، والأول- وهو ما ورد عندنا- أصح، فقد قال ابن منظور: الرقيع: اسم للسماء الدنيا لأن الكواكب رقعتها، سميت بذلك لأنها مرقوعة بالنجوم، وقيل: لأنها رقعت بالأنوار التي فيها، اه. فلعل الصواب بدون الموحدة، والله أعلم.
قال أبو عاصم محققه: حديث وهب هذا فرقه المصنف رحمه الله بين ألفاظ روايات الإسراء والمعراج، أدخل ألفاظ بعضها في بعض فتعسر بذلك تخريج روايات الإسراء لأنها مروية بدون حديث سلمان، وقد رأيت جمع ألفاظ حديث سلمان وما أدخل المصنف فيه من أحاديث الإسراء وإفرادها بترجمة-(2/171)
خضراء، فكانت، وكان تسبيح أهلها: سبحان ذي الملك والملكوت، فمن قالها كان له مثل ثوابهم.
- اعتناء بما ورد فيه، وليتيسر معه عزو ألفاظ الروايات الأخرى الواردة في الإسراء لرواتها من الصحابة وغيرهم.
وأنا أسوق إليك حديث وهب بن منبه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان بطوله كما في كتاب العظمة لأبي الشيخ برقم 909:
قال أبو الشيخ: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا ابن البراء، حدثنا عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب، عن أبي عثمان النهدي قال: قلنا لسلمان رضي الله عنه: حدثنا عما فوقنا من خلق السماوات والأرض وما فيهن من العجائب؟ فقال سلمان رضي الله عنه: خلق الله عزّ وجلّ السماوات السبع وسماهن بأسمائهن، أسكن كل سماء صنفا من الملائكة يعبدونه، وأوحى في كل سماء أمرها، فسمى سماء الدنيا «برقيعا» - كذا- فقال لها: كوني زمردة خضراء؛ فكانت.
وسمى السماء الثانية «أرقلون» وقال لها: كوني فضة بيضاء؛ فكانت، وجعل فيها ملائكة قياما مذ خلقهم الله عزّ وجلّ.
وسمى السماء الثالثة «قيدوم» وقال لها: كوني ياقوتة حمراء؛ فكانت، ثم طبقها ملائكة ركوعا لا تختلف مناكبهم صفوفا، قد لصق هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء واحدا، لو قطرت عليهم قطرة من ماء ما يجد منفذا.
وسمى السماء الرابعة «ما عونا» وقال لها: كوني درة بيضاء فكانت؛ ثم طبقها ملائكة سجودا على مثل الملائكة الركوع.
وسمى السماء الخامسة «ريعا» وقال لها: كوني ذهبة حمراء؛ فكانت، ثم طبقها ملائكة بطحهم على بطونهم وجوههم، وأرجلهم في أقصى السماء من مؤخرها، ورؤوسهم في أدنى السماء من مقدمها، وهم البكّاؤون يبكون من مخافة الله عزّ وجلّ، فسماهم الملائكة النواحين.
وسمى السماء السادسة «دقنا» وقال لها: كوني ياقوتة صفراء؛ فكانت، -(2/172)
367- وفي حديث نصر بن محمد المقريء: وبين السماء والأرض بحر يسمى القاصبة، فيه من كل شيء في بحر الدنيا، حتى هذه الضفادع التي تقع في المطر من ذلك البحر.
368- روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاستفتح جبريل الباب، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قال: أو قد بعث محمد؟ - ثم طبقها ملائكة سجودا ترعد مفاصلهم، وتهتز رؤوسهم، لهم أصوات عالية يسبحون الله تعالى بها ويقدسونه، لو قاموا على أرجلهم لنفذت أرجلهم تخوم الأرض السابعة السفلى، ولبلغت رؤوسهم السماء السابعة العليا، سيقومون على أرجلهم يوم القيامة، بين يدي رب العالمين تبارك وتعالى.
وسمى السماء السابعة العليا «عربيا» ، وقال لها: كوني نورا؛ فكانت نورا على نور يتلألأ، ثم طبقها ملائكة قياما على رجل واحدة تعظيما لله عزّ وجلّ لقربهم منه، وشفقتهم من عذابه، قد خرقت أرجلهم الأرض السابعة السفلى، واستقرت أقدامهم على قدر مسيرة خمسمائة عام، فهي تحت الأرض السابعة كأنها الرايات البيض، تجري تحتها ريح هفافة عاتية تحمل الرايات، ورؤوسهم تحت العرش من غير أن تبلغ العرش، وهم يقولون: لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العرش، سبحان ذي الجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة والسلطان والنور، سبحان أبد الآبدين، ثم يستغفرون للمؤمنين والمؤمنات، ثم يعودون في التسبيح والتحميد، فهم على هذا مذ خلقوا إلى قيام الساعة، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) .
(368) - قوله: «روى أبو سعيد الخدري» :
تقدم تخريجه.(2/173)
قال: نعم، قال: ففتح لنا باب سماء الدنيا، فإذا ملك يقال له:
إسماعيل، وبين يديه سبعون ألف ملك موكلون بباب السماء، قال:
فصلوا على محمد، قال: فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، لم يتغير منه شيء ... وذكر الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا يقول خيرا، ويدعو لي بخير.
قال: ثم عرج بي إلى السماء الثانية، يقال: هي من نحاس، ليست بصنف نحاس الدنيا، واسمها بيتا.
369- عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء الثانية: أرقلون، وقال لها الله عزّ وجلّ: كوني فضة بيضاء؛ فكانت، واسم خازنها: رقياليل، وتسبيح أهلها: سبحان ذي العزة والجبروت؛ من قالها كان له مثل ثوابهم.
فاستفتح جبريل عليه السّلام فقيل له: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء.
370- وفي حديث آخر: فإذا أنا برجل ومعه نفر من قومه، وقد فضل عليهم بالحسن كما فضل القمر على الكواكب ليلة البدر، فقلت:
يا جبريل من هذا؟ قال: هذا يوسف الصديق وأتباعه من أمته، فصلوا على محمد واستغفروا له.
371- وعن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: (370) - قوله: «وفي حديث آخر» :
يريد حديث أبي سعيد الخدري، وقد مضى تخريجه قريبا.(2/174)
اسم السماء الثالثة: قيدون، وقال لها الرب عزّ وجلّ: كوني ياقوتة حمراء؛ فكانت، واسم خازنها: كوكياليل، وتسبيح أهلها: سبحان الحي الذي لا يموت، من قالها كان له مثل ثوابهم.
372- وفي رواية قال: فاستفتح جبريل فقيل له: ومن معك؟ قال:
محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ...
مثل ما قال في الخبر الأول.
373- وقيل: إن يوسف عليه السّلام في السماء الثالثة، وعيسى ويحيى عليهم السّلام في السماء الثانية، قال صلى الله عليه وسلم: لما بلغت السماء الثالثة إذا أنا برجلين جالسين على منبرين من ياقوت، أحدهما قريب الشبه من صاحبه، وهما ضرب واحد، ومعهما من اتبعهما من قومهما، فقلت: يا جبريل من هذان؟ قال: هذان ابنا الخالة: عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكرياء.
(373) - قوله: «وقيل: إن يوسف عليه السّلام في السماء الثالثة» :
قال الحافظ ابن حجر معلقا على روايات أصحاب أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: توافقت رواية قتادة مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم:
أن في السماء الأولى: آدم، وفي الثانية: يحيى وعيسى، وفي الثالثة:
يوسف، وفي الرابعة: إدريس، وفي الخامسة: هارون، وفي السادسة:
موسى، وفي السابعة: إبراهيم، وخالفهم في ذلك الزهري عن أنس:
أن إدريس في الثالثة، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة، قال: وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضا كما صرح به الزهري، قال: ورواية من ضبط أولى، سيما مع اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال: هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة، ووافقهم أبو سعيد، إلا أن في روايته: يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة، قال: والأول أثبت.(2/175)
374- وقيل: شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيسى ابن مريم بعروة بن مسعود الثقفي.
375- وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مررت بعيسى ابن مريم وهو شاب طويل، مرجّل تعلوه حمرة، قال صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي إلى السماء الرابعة.
376- وعن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء الرابعة: الماعون، قال لها الرب عزّ وجلّ: كوني درة بيضاء؛ فكانت، واسم خازنها مومزياليل، وتسبيح أهلها: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، من قالها كان له مثل ثوابهم.
377- وفي رواية قال: فاستفتح جبريل عليه السّلام الباب، فقيل: من هذا معك؟ قال: هذا رسول الله، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا:
حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، فإذا أنا برجل، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك إدريس رفعه الله مكانا عليا.
378- روى أبو سعيد الخدري قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بإدريس في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، الذي وعدنا (374) - قوله: «بعروة بن مسعود الثقفي» :
جاء ذلك- في حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة- عند مسلم في الإيمان برقم 278
(375) - قوله: «تعلوه حمرة» :
في رواية ابن المسيب عن أبي هريرة، عند الشيخين: ولقيت عيسى فنعته ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس- يعني: حمام-.(2/176)
أن نراه فلم نره إلا الليلة، قال: وإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ، ولأم موسى بن عمران النبي سبعون قصرا من زمرد خضراء، ولآسية بنت مزاحم سبعون قصرا من ياقوت، ولفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تسعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ، أبوابها وأسرتها من عرق واحد.
379- وفي رواية قال: فلما عرج بالمعراج إلى السماء الخامسة وهي من ياقوت أخضر واسمها سفحى.
380- وقال وهب بن منبه: اسم السماء الخامسة: ريعا.
قال لها الرب عزّ وجلّ: كوني ذهبة حمراء؛ فكانت، واسم خازنها من الملائكة سقطياليل، وتسبيح أهلها: سبحان من جمع بين الثلج والنار، من قالها مرة كان له مثل أجورهم.
قال صلى الله عليه وسلم: فاستفتح جبريل الباب ففتح له، وقيل ما تقدم، قال: وإذا هو بكهل لم ير كهلا قط أجمل منه، عظيم العينين، تضرب لحينه قريبا من سرته، تكاد أن تكون شمطة، وسواده نصفين، وحوله قوم جلوس يقص عليهم.
381- روى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو أكثر من مررت به تبعا من قومه، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هارون بن عمران المحبّب في قومه- وفي حديث يونس بن بكير: وهؤلاء بنو إسرائيل حوله (381) - قوله: «هارون بن عمران المحبب في قومه» :
لم يذكر المصنف وصف النبي صلى الله عليه وسلم له كما ورد في حديث أبي سعيد وفيها:
فإذا بهارون، ونصف لحيته بيضاء، ونصفها سوداء، تكاد لحيته تضرب سرته من طولها، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه هذا-(2/177)
يقص عليهم-، قال: فسلمنا عليه فقال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة، قال: فصلوا على محمد واستغفروا له.
382- وفي حديث نصر قال: ثم انتهينا إلى السماء السادسة.
عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء السادسة دقيا، وقال لها الرب عزّ وجلّ: كوني ياقوتة صفراء فكانت، واسم خازنها: روحياليل، وتسبيح أهلها: سبحان القدوس رب كل شيء وخالق كل شيء، من قالها مرة كان له مثل ثوابهم.
383- وفي رواية: فاستفتح جبريل الباب، ففتح له، وقيل له مثل ما قد سبق ذكره، واستقبلتهما الملائكة بالترحيب والتسليم والبشر الحسن.
384- وفي حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم: إذا أنا برجل أدم، سبط الشعر، كأنه من رجال أزد شنوءة، كثير الشعر غليظه، لو لبس قميصا- أو: قميصه- كاد شعره ينفذ من غلظه، ومعه تبع من قومه، فقلت:
يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران ... وذكر الحديث.
385- عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: اسم السماء السابعة عريبا، وقال لها الرب عزّ وجلّ: كوني نورا؛ فكانت نورا على نور يتلألأ، وتسبيح أهلها: سبحان خالق النور، من قالها كان له مثل ثوابهم، قال وهب: يضاعف لهم ثواب أهل كل سماء على من تحتهم سبعة أضعاف.
- هارون بن عمران ... الحديث، وكذلك ذكر أبو العالية عن أبي هريرة أن هارون في السماء الخامسة، وقد تقدم تخريج الحديثين.(2/178)
386- وفي رواية: قال: فاستفتح جبريل، قيل له: ومن معك؟ قال:
محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ، ونعم المجيء جاء، قال: فدخلت، فإذا نهران عظيمان خراران، قلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: سقيا أهل الدنيا.
387- وفي رواية أخرى: قال: ثم رأيت رفياليل خليفة رضوانياليل معه الحور العين، قال: فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السّلام، فقال جبريل لرفياليل: استأذن لهن رضوان ينظر إليهن محمد، فنظرت إليهن، فكن ينادينني: يا محمد عليك السلام، نحن الناعمات فلا نبؤس، ونحن المقيمات فلا نظعن، ونحن الراضيات فلا نسخط، ونحن الخالدات فلا نموت، ونحن الكاسيات فلا نعرى، بلغ أمتك عنا السلام.
388- وفي حديث آخر: ثم انطلق بي إلى السماء السابعة، واسمها سعواء، فإذا هي من نور، واسم خازنها: نورياليل.
(388) - قوله: «واسمها سعواء» :
كذا في «ب» ، وفي «م» : شمعواء.(2/179)
[71- فصل: في ذكر ما رآه صلى الله عليه وسلم من عجائب المخلوقات ليلة الإسراء]
71- فصل:
في ذكر ما رآه صلى الله عليه وسلم من عجائب المخلوقات ليلة الإسراء 389- وعن الضحاك وعكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (389) - قوله: «وعن الضحاك وعكرمة، عن ابن عباس» :
هذا الحديث مع طول سياقه هنا إلا أنه مختصر لم يورده المصنف بتمامه، وأورد طرفا منه ابن حبان في المجروحين في ترجمة ميسرة بن عبد ربه الفارسي [3/ 11- 12] فقال: روى عن عمر بن سليمان الدمشقي، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس مرفوعا.. وذكره، واتهم ميسرة به فقال: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويضع المعضلات عن الثقات في الحث على الخير، والزجر عن الشر، لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار.
وأورده السيوطي في اللآلي بتمامه [1/ 63- 81] ثم قال: موضوع، والمتهم به ميسرة، كذاب وضاع، وكذا قال ابن عياش، والذهبي في الميزان، وابن حجر في اللسان.
وقد أخرجه بطوله ابن مردويه في التفسير، وأورد أسانيده ثم قال: كتب الذهبي بخطه عليه في الحاشية أنه موضوع، والطريق الثاني يدل على أن الآفة من غير ميسرة.
وقد قال الذهبي في الميزان في ترجمة عمر بن سليمان: أتى عن الضحاك بحديث الإسراء بلفظ موضوع، وتبعه ابن حجر في اللسان مع ذكرهما في ترجمة ميسرة أنه المتهم به، لكنهما تبعا هناك ابن حبان، والأشبه ما ذكراه هنا أن الآفة من عمر بن سليمان، والله أعلم. -(2/180)
قال: لما أسري بي إلى السماء، رأيت العجائب من عباد الله ومن خلقه، ومن ذلك أني رأيت في السماء الدنيا ديكا له زغب أخضر ورأس أبيض، وبياض رأسه كأشد بياضا رأيته قط، وزغبه تحت رأسه كأشد خضرة رأيتها قط، وإذا رجلاه في تخوم الأرض السابعة السفلى، ورأسه عند عرش الرحمن، ثان غرته تحت العرش له جناحان في منكبيه، إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب، فإذا كان بعض الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح لله عزّ وجلّ، يقول: سبحان الملك القدوس، سبحان الكبير المتعال، لا إله إلا الله الحي القيوم، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ، فإذا سكن ذلك الديك الذي في السماء سكنت الديكة في الأرض، وإذا كان في بعض الليل نشر جناحيه فجاوزا المشرق والمغرب، وخفق بهما وصرخ بالتسبيح لله يقول: سبحان الله العلي العظيم، سبحان الله العزيز القهار، سبحان رب العرش الرفيع، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض بمثل قوله وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ، فإذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الأرض، ثم إذا هاج بنحو فعله في السماء هاجت الديكة في الأرض فجاوبته تسبيحا لله بنحو قوله.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقا إليه أن أراه ثانية.
قال صلى الله عليه وسلم: ثم مررت بخلق عجيب، إذا ملك من الملائكة نصف جسده مما يلي رأسه نار، والنصف الآخر ثلج، وما بينهما رتق، فلا- قلت: رويت بعض ألفاظه من أوجه عند أبي الشيخ في العظمة، لم أتشاغل بتخريجها إذ صار مخرجه معروفا بهذا السياق.(2/181)
النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفىء النار، وهو قائم ينادي: سبحان ربي الذي كف بردة هذا الثلج فلا يطفىء حر هذه النار، سبحان ربي الذي كف حر هذه النار فلا تذيب هذا الثلج، اللهمّ مؤلفا بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا ملك من الملائكة، وكله الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، وهو من أنصح الملائكة لأهل الأرض من المؤمنين، يدعوا لهم بما تسمع، وهذا قوله منذ خلق.
قال صلى الله عليه وسلم: ثم مررت بملك آخر جالس على كرسي له، وإذا جميع الدنيا وما فيها بين ركبتيه، بيده لوح من نور مكتوب، ينظر فيه ولا يلتفت عنه يمينا وشمالا، مقبل عليه، عليه هيئة الحزين، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، يقبض الأرواح، وهو من أشد الملائكة عملا، قلت: يا جبريل فكل من مات من ذوي الأرواح فهو يقبض روحه؟! قال: نعم، ويراهم أينما كانوا، ويشهدهم بنفسه.
قلت: كفى بالموت طامة، قال جبريل عليه السّلام: ما بعد الموت أطم وأعظم، قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال: منكر ونكير، يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في القبر ويترك وحيدا.
قلت: يا جبريل أرينيهما، قال: لا تفعل يا محمد، فإني أرهب أن تفزع منهما أو تهال أشد الهول، فلم يرهما أحد من ولد آدم إلا بعد الموت، ولا يراهما أحد من البشر إلا مات فزعا منهما، وهما أعظم شأنا مما تظن، قلت: يا جبريل صفهما لي، قال: نعم، من غير أن أذكر طولهما فإن ذلك منهما أفظع، غير أن أصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كصياصي البقر، يكسحان الأرض بأشفارهما،(2/182)
ويحفران الأرض بأظفارهما، مع كل واحد منهما عمود لو اجتمع جميع من في الأرض لما حرّكوه، فيأتيان الإنسان في قبره فيسلكان روحه في جسده بإذن الله تبارك وتعالى، ويقعدانه في قبره، وينتهرانه انتهارة يتقعقع منها عظامه، وتزول أعضاؤه من مفاصله، فيخر مغشيا عليه.
قلت: يا جبريل شوقتني إلى الموت، فأرني ملك الموت أكلمه، فأدناني منه فسلمت عليه فقال له جبريل: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العرب رسولا نبيا، فرحب بي، وحباني، وأنعم بشاشتي، وأحسن بشارتي ثم قال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك، فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، قلت له: فما هذا اللوح في يديك مكتوبا؟ قال: فيه آجال الخلائق.
قلت له: ألا تخبرني عمن قبضت روحه في الدهور الخالية، قال:
تلك الآجال في ألواح أخر قد علمت عليها، وكذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه علمت عليها، قال قلت: كيف تقدر على قبض أرواح جميع من في الأرض، أهل بلادها وبحورها، وما بين مشارقها ومغاربها؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي، وجميع الخلق بين عيني، ويداي تبلغان المشرق والمغرب؟ فإذا نفد أجل عبد من عباد الله عرفوا أنه مقبوض، وعدا عليه أصحابي يعالجون نزع روحه، فإذا بلغوا بروحه الحلقوم علمت ذلك ولم يخف علي شيء من أمره، ومددت إليه فانتزعت روحه من جسده وإليّ قبضه، وقبض ذوي الأرواح من عباد الله، قال: فأبكاني حديثه.
قال: ثم استقبلني ملك من الملائكة لم يضحك في وجهي، فقلت:(2/183)
يا جبريل ما له لم يضحك في وجهي؟ قال: أما إنه لم يضحك في وجه أحد قبلك، ولا يضحك في وجه أحد بعدك، ولو ضحك في وجه أحد لضحك في وجهك، هذا مالك صاحب النار، لم يضحك ولم يبتسم، ولم يزل كالحا عابسا مغضبا، وإنما شدة غضبه لأهل النار لغضب الرحمن عليهم.
قلت: يا جبريل ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال: بلى، ثم قال جبريل: يا مالك، أر محمدا النار، فكشف لي غطاءها، فإذا هي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها، ولها زفير وشهيق، تكاد تميز من الغيظ ما رأيت أغلظ منها ولا أنتن، وإذا فيها من العذاب والخزي والهوان لأهلها ما لا تقوم له الحجارة والحديد فارتفعت حتى ظننت أنها ستأخذني، فقلت: يا جبريل مره فليردها، فقال جبريل: يا مالك ردها إلى مكانها التي خرجت منه.
قال: ثم جاوزناهم من سماء إلى سماء حتى بلغنا بقوة الله السماء السادسة، فإذا خلق كثير فوق وصف الواصفين، يموج بعضهم في قوله: «لم يضحك في وجهي» :
روي هذا أيضا في حق ميكائيل عليه السّلام، فأخرج الإمام أحمد في المسند [3/ 224] ، وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني، وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين كما في تخريج الإحياء [4/ 157] ، جميعهم من حديث ثابت: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السّلام: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قط؟
قال: ما ضحك منذ خلقت النار، جوّده الحافظ العراقي وقال: رواه البيهقي في الشعب في حق جبريل عليه السّلام، وقد ورد في حق إسرافيل أيضا، قال: ورواه ابن شاهين في السنة من حديث ثابت مرسلا.(2/184)
بعض، وإذا كل ملك منهم ممتلىء ما بين رأسه إلى رجليه: وجوها وأجنحة ونورا ليس منها وجه ولا رأس ولا عين ولا يد ولا رجل ولا فم ولا أذن ولا جناح ولا عضو إلا يسبح الله ويحمده، ويذكره من آلائه وثنائه بكلام لا يذكره العضو الآخر، بنغمة الأصوات لا تشبه نغمته ولا صوته صوت الآخر، رافعين أصواتهم بالبكاء من خشية الله والتحميد له في عبادته، لو سمع أهل الأرض صوت ملك منهم لماتوا كلهم فزعا من شدة هوله، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: سبحان الله العظيم شأنه، هؤلاء الكروبيون، لم يفتروا من عبادتهم لله وتسبيحهم له منذ خلقوا، ولم ينظروا إلى ما تحتهم من السماوات والأرضين خشوعا في دينهم، وخوفا من ربهم، فأقبلت عليهم بالتسليم، فجعلوا يردون إيماء برؤوسهم لا يسلمون ولا ينظرون إليّ من الخشوع، فلما رأى جبريل عليه السّلام ذلك قال: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله صلى الله عليه وسلم إلى العرب، وهو خاتم النبيين، وسيد البشر، أو لا تكلمونه؟ فلما سمعوا قول جبريل عليه السّلام وذكر محمد صلى الله عليه وسلم بما ذكر أقبلوا عليّ بالتحية والتسليم، وأحسنوا بشارتي، وأكرموني وبشروني وأمروني بالخير، ثم أقبلوا على عبادتهم مثل ما كانوا، فأطلت المكث عندهم، والنظر إليهم لعظم خلقهم، وفضل عبادتهم.
قال: ثم جاوزناهم إلى السماء السابعة، فأبصرت فيها ملائكة وخلقا من خلق ربي لم يؤذن لي أن أحدثكم ولا أن أصفهم لكم، لولا أن الله عزّ وجلّ أعطاني عند ذلك مثل قوة جميع الأرض وزادني من عنده ما هو أعلم به، ومنّ عليّ بالثبات وحدّ بصري لرؤية نورهم، ولولا ذلك ما استطعت النظر إليهم إلا بحول الله وقوته، قلت: سبحان الله(2/185)
العظيم الذي خلق في بريته مثل هؤلاء، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟
فأخبرني من هم، وقص عليّ من شأنهم العجب العجيب، ولم يؤذن لي أن أخبركم.
390- وفي رواية أخرى قال: ثم استقبلني صفوف من الملائكة عدد القطر والمطر وعدد الثرى والمدر وعدد الليل والنهار، صفوفا لا يعرف بعضهم بعضا من الخوف من الله، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ملائكة خلقوا للعبادة منذ خلقت السماوات والأرض، لم ينظر بعضهم إلى بعض، ولا يعرف بعضهم بعضا من خشية الله قياما يسبحونه ويقدسونه لا يفترون حتى ينفخ في الصور.
391- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافة الله، ما منهم ملك يقطر دمعة من عينه إلا وقع منها ملك قائم يصلي، وإن منهم ملائكة سجودا، ومنهم ركوع منذ خلقهم الله، لم يرفعوا رؤوسهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
قال: ثم رأيت شملاليل الملك الكبير، في رأسه تاج من اللؤلؤ والياقوت، واللؤلؤة منها تضيق عنها الدنيا، والياقوتة منها تدخل فيها (391) - قوله: «إن لله ملائكة» :
أخرجه أبو الشيخ في العظمة برقم 517، ومحمد بن نصر في الصلاة برقم 260، والبيهقي في الشعب [1/ 521] رقم 914، والخطيب في تاريخه [12/ 207] ، ومن طريقه ابن عساكر [40/ 61] ، جميعهم من حديث عباد بن منصور- صالح الحديث- عن عدي بن أرطاة، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/186)
الدنيا، حتى بلغت درجة وقعت في الهول وأرعدت فرائصي، فقلت:
يا جبريل ضمني إليك.
فاستقبلني هشماليل، ورأسه في ظل العرش وقدماه في سجين، وهي الصخرة التي فوقها الأرضون، تحتها- كليكان وهو قابض على السلسلة التي من ذهب، وهي في عنق السمكة التي الأرضون عليها، وهي سمكة حرشفها من ياقوت، وذيلها من زمرد أخضر، في عنقها طوق من زمرد أخضر مفضض بالدر والياقوت، وفي عنقها سلسلة، فهي بيد الملك، وهو قائم عند ساق العرش، معه عشرون ألف ألف ملك، متوجون باللؤلؤ، عليها ريش كريش النبل، قد نظم بالمرجان، تحت كل ريشة لسان يسبحون بألوان التسبيح.
قال: ثم بلغت، فرأيت ملائكة تسبيحهم: سبحان ربي الأعلى، ورأسهم صاحب هاروت وماروت، وقومه مكللون بالنور، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا محمد بن عبد الله، قال: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم، فاستأذن بالسلام عليّ فسلّم عليّ.
قال: ثم رأيت الريح لها سبعة أرؤس، لكل رأس ثمانون لسانا موكل بكل لسان أربعون ألف ملك متوجون، عليهم صحائف النور، فسلموا عليّ ورحبوا بي.
392- وقيل: لما بلغ المعراج خمسا وخمسين درجة إذا هم بالملائكة سجودا في الهواء منذ خلق الله السماوات والأرض، رؤوسهم تحت أجنحتهم لم ينظر أحدهم إلى شيء من جسده قط من الخوف من خشية الله تعالى ولا إلى صاحبه، يسبحون لا يفترون، ويبكون،(2/187)
لا يدركون أين تذهب دموعهم، وهم أشد الملائكة عبادة، يدعون الأولين، فهم كذلك حتى يميتهم الله ثم يحييهم.
قال: ثم انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له: الحفظة، وعليه ملك يقال له: إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت كل ملك اثنا عشر ألف ملك، قال: فاستفتح جبريل الباب فقال له إسماعيل: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم بلغت، فأقبل رضوانياليل خازن الجنة مع ملائكة الحجب ألف ألف ملك، وجوههم كالقمر ليلة البدر، خضر الثياب، المسك يفوح منهم، متوجون بتيجان النور، مناطقهم صفائح الزمرد، على كل ملك تاج ستون ذراعا مكلل باللؤلؤ فيضيء لؤلؤة واحدة منها مسيرة خمسمائة عام، فقلت: ما أحسن هؤلاء الملائكة، فقال جبريل عليه السّلام: والذي بعثك بالحق إن أمتك إذا اتقوا وسلموا من الدنيا وكانوا في الجنة كانوا أحسن منهم، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا شديدا، حتى رؤي الفرح في وجهه، فقال: يا جبريل بشرتني فطابت نفسي، فقال جبريل عليه السّلام: يا محمد أبشر، فإن الله سيعطيك من الكرامة حتى ترضى.
قال: ثم عرج بي حتى رأيت ذهبا صامتا عليه كواكب اللؤلؤ تحت كل لؤلؤة خمسون ملكا، كل ينادي: مرحبا بك وأهلا، ويقول:
لا إله إلا الله، الكافي عبدة الأصنام، الموحّد الرحيم، قال: يا جبريل قوله: «الكافي عبدة الأصنام» :
في م: الكاسي، ومعنى الكافي عبدة الأصنام، أي: الذي يرزقهم كفايتهم من الطعام والشراب والكساء في الدنيا.(2/188)
من هؤلاء؟ قال جبريل عليه السّلام: هؤلاء عبّاد السماء.
قال: ثم استقبلني سمياليل الملك فقال: مرحبا بالعبد الصالح والنبي الصالح الذي أضاءت له الأرض والسماء، الكريم على الله، سيد السادة، اليوم تكرم وتعطى، اليوم سرورك، فقلت: يا جبريل من هذا؟
فقال: ملك يسمى رأس الهدى، معه مائة ألف ملك لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة.
قال: ثم رأيت ملائكة عدد المطر، وجوههم كالليل، عليهم أردية كالنور شعاعهم بين السماء والأرض، فقال جبريل عليه السّلام: ارفع رأسك وسلم عليهم، فرفعت رأسي فسلمت.
قال صلى الله عليه وسلم: ثم رأيت مقياليل الملك عن يمينه ألف ألف ملك، وعن يساره ألف ألف ملك، وخلفه ألف ألف ملك، قد لبسوا تيجانا من نور، وهم يقرءون آية الكرسي، فقال جبريل: خلق هؤلاء الملائكة من قطرة من نور العرش.
قال: ثم شممت ريح الرحمة من سدرة المنتهى، ومعها ملائكة التوبة مكللون على نور العرش.
ثم أقبل خازن جنة النعيم صاعدياليل وخليفته رفياليل، مع كل واحد منهما ألف ألف من الملائكة رافعين أجنحتهم، ورؤوسهم، يشيرون إليّ بالأصابع، يقولون: لقد أكرم الله هذا الآدمي، مرحبا بك يا جبريل وبمن معك.
قال: ثم رأيت ملكا يقال له عمصياليل، رأس ملائكة السماء السابعة، ومعه اثنان وثلاثون ألف ملك، على كل ملك تاج، تسعون(2/189)
ذراعا من ذراع جبريل عليه السّلام، في كل تاج أربعمائة لؤلؤة، اللؤلؤة الواحدة تسع فيها الدنيا.
393- وقيل: لما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى باب السماء الدنيا وفتح له اجتاز بملك من الملائكة متكئا، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه ولم يقم له، فأوحى الله إليه: أيها الملك سلّم عليك حبيبي ونبيي فأجبت وأنت متكىء، فوعزتي وجلالي لتقومن ولتسلمن عليه ثم لا تقعدن إلى يوم القيامة.(2/190)
[72- فصل: في ما ورد في وصف جبريل عليه السّلام]
72- فصل:
في ما ورد في وصف جبريل عليه السّلام 394- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان جبريل عليه السّلام يأتيني كما يأتي الرجل صاحبه، في ثياب بيض مكفوفة باللؤلؤ والياقوت، رأسه كالحبك، وشعره كالمرجان، ولونه كالثلج، أجلى الجبهة، براق الثنايا، عليه وشاحان من در منظوم، وجناحاه أخضران، ورجلاه مغموستان في الخضرة، وصورته التي صوّر عليها تملأ ما بين الأفقين.
(394) - قوله: «وعن ابن عباس» :
روي من وجه مرسل بإسناد جيد من حديث أبي المغيرة: ثنا صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد قال: لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فأوحى الله عزّ وجلّ إلى عبده ما أوحى قال: فلما أحسّ جبريل بدنو الرب تبارك وتعالى خر ساجدا، فلم يزل يسبحه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم قضى الله عزّ وجلّ إلى عبده ما قضى، ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الذي خلق عليه، منظوم أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت، فخيل إلى أن ما بين عينيه قد سد الأفق وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صور مختلفة، وأكثر ما كنت أراه على صورة دحية الكلبي، وكنت لا أراه قبل ذلك إلا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال.
أخرجه أبو الشيخ في العظمة برقم 358، ومن طريقه أبو نعيم في الدلائل برقم 170.(2/191)
395- وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أشتهي أن أراك في صورتك يا روح الله، فتحول له فيها.
396- وفي حديث آخر: أن جبريل عليه السّلام أذّن- وكان مكتوبا على جبين جبريل عليه السّلام سطران يلمعان: لا إله إلا الله محمد رسول الله- ثم أقام ميكائيل في السماء الرابعة، ثم قام ملك فعانقني، فقلت: يا جبريل ما أكثر عجائب ربي، قال: ما رأيت إلا في ساعة من الليل.
397- وفي بعض الأخبار: أنه صلى الله عليه وسلم صعد وأتى من مكة إلى الضراح الذي في السماء السابعة قبال الكعبة، حرمته في السماء كحرمة مكة في الأرض.
(395) - قوله: «وفي رواية» :
أخرج أبو الشيخ في العظمة برقم 348 من طريق موسى بن عبيدة- ضعيف الحديث- عن سلمة بن أبي الأشعث- ولا يعرف- عن أبي صالح، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السّلام:
وددت أني رأيتك في صورتك، قال: وتحب ذاك؟ قال: نعم، قال:
موعدك كذا من الليلة بقيع الغرقد، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم موعده فنشر جناحا من أجنحته فسد أفق السماء حتى ما يرى من السماء شيء.
قال أبو عاصم: وهذا مع ضعف إسناده شاهده في الصحيحين من حديثها أيضا حين سألها مسروق عن قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، قالت:
جبريل عليه السّلام كان يأتيه في صورة الرجل، وأنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته.
(397) - قوله: «وأتى من مكة إلى الضراح» :
يأتي تخريجه في فصل: ذكر تاريخ البيت، تحت رقم: 428.(2/192)
398- وروي: أن جبريل يغتسل في نهر في الجنة، كل غداة، فينتفض، فتقطر منه سبعون ألف قطرة، فيخلق الله من كل قطرة ملكا فيغمرون ذلك الضراح فيطوف كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور، فلا تنتهي النوبة إليهم إلى يوم القيامة.
(398) - قوله: «وروي أن جبريل يغتسل في نهر الجنة» :
أخرج أبو الشيخ في العظمة برقم 319 من حديث زياد بن المنذر- أحد المتروكين كما تقدم- عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
إن في الجنة لنهرا ما يدخله جبريل عليه السّلام من دخلة فيخرج فينتفض إلا خلق الله عزّ وجلّ من كل قطرة تقطر منه ملكا.
وأخرج أيضا برقم 331 من حديث ضمرة، عن العلاء بن هارون- لين الحديث- قوله: إن لجبريل في كل يوم اغتماسة في الكوثر، ثم ينتفض فكل قطرة يخلق منها ملك.(2/193)
[73- فصل: فيما ورد في وصف البراق وسبب استصعابه]
73- فصل:
فيما ورد في وصف البراق وسبب استصعابه 399- وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: وأخذ جبريل عليه السّلام بضبعي وأخرجني من الباب، وعلى الباب: ميكائيل، وإسرافيل، ومعهما البراق، وهي بيضاء مضطربة الأذنين، لها جناحان تحضر بهما، وخدها كخد الفرس، ووجهها كوجه الإنسان، وعرفها من اللؤلؤ، منسوجة بالمرجان، وعقبها من ياقوت أحمر مزبرج بالنور، وآذانها من زمرد أخضر، عيناها كالزهوة، وأظلافها كأظلاف البقر من زمرد أخضر مرصع بالياقوت والمرجان، بطنها كالفضة وصدرها كالذهب، يداها تقعان إلى أدنى الوادي إذا بسطتها، لونها كالبرق يلوح بين السماء، خطوها منتهى بصرها، زمامها زمام من لؤلؤ مكلل بالجوهر الأخضر، مزمومة بسلسلة من ذهب، عليها راحلة الديباج.
قال: فاستصعبت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها جبريل عليه السّلام:
أما تستحين؟ أتصعبين على محمد صلى الله عليه وسلم؟ والله ما ركبك عبد قط أكرم على الله منه، فاستحيت، وفاضت عرقا.
ووضع جبريل عليه السّلام يده على عرفها فسمعت خشخشة اللؤلؤ حين مسح عرفها، قال: فكان الذي يمسك بركابها جبريل، والذي يمسك (399) - قوله: «فكان الذي يمسك بركابها جبريل» :
أورد الحافظ في الفتح [7/ 247] هذا الشطر إلى قوله: ميكائيل، وعزاه للمصنف في كتابه هذا.(2/194)
بزمامها ميكائيل، والذي يسوي عليه ثيابه إسرافيل.
400- وروي أن البراق قال لجبريل عليه السّلام: إن محمدا قد مس الصفراء، فلهذا استصعبت، فقال جبريل عليه السّلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مسست الصفراء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مررت يوما بالصفا، فرأيت الصفراء، فمسست رأسه وقلت: من يعبد هذا الشقي؟.
(400) - قوله: «وروي أن البراق قال لجبريل» :
قال الحافظ في الفتح [7/ 247] : ومن الأخبار الواهية ما ورد من أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرا: إنه مس الصفراء اليوم، وأن الصفراء صنم من ذهب كان عند الكعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فقال: تبا لمن يعبدك من دون الله، وأنه صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك، وكسره يوم فتح مكة.
قلت: ومثله ما أخرجه ابن أبي شيبة- كما في المطالب [4/ 179- 180] رقم 4262 من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: دخل جبريل المسجد الحرام فطفق ينقلب فبصر بالنبي صلى الله عليه وسلم نائما في ظل الكعبة فأيقظه، فقام وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب، فانطلق به نحو باب بني شيبة، فتلقاهما ميكائيل فقال جبريل لميكائيل: ما منعك أن تصافح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أجد من يده ريح النحاس- وكأن جبريل أنكر ذلك- فقال: أفعلت ذلك؟ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم نسي ثم ذكر فقال: صدق أخي، مررت أول من أمس على إساف ونائلة فوضعت يدي على أحدهما فقلت: إن قوما رضوا بكما إلها مع الله قوم سوء.
فهذا منكر يعارضه نهيه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة حين طافا بالكعبة عن مس الصنم، وقد تقدم في أول الكتاب، ومثل هذه الأخبار لا ينبغي نقلها وتشويه المصنفات بها.(2/195)
[74- فصل: فيما رآه صلى الله عليه وسلم في نومه وحيا من الله عزّ وجلّ]
74- فصل:
فيما رآه صلى الله عليه وسلم في نومه وحيا من الله عزّ وجلّ 401- عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: لقد رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرده عنه.
(401) - قوله: «عن عبد الرحمن بن سمرة» :
هو ابن حبيب بن عبد شمس العبشمي، القرشي، من مسلمة الفتح.
أخرج حديثه الطبراني- كما في مجمع الزوائد [7/ 179- 180]- وهو في الأحاديث الطوال له برقم 39-، والخرائطي في مكارم الأخلاق برقم 49، وأبو نعيم في أخبار أصبهان [2/ 332] ، كلاهما بلفظ مختصر، والحكيم الترمذي في النوادر [1/ 328] ، وابن الجوزي في العلل [2/ 208- 210] رقم 1165، 1166، والأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم 1655، والشجري في أماليه [1/ 298] .
وقد أعل العراقي في تخريج الإحياء إسناد الطبراني، وتبعه الهيثمي بعبد الرحمن بن خالد المخزومي، ضعفه البخاري وأبو حاتم، زاد الهيثمي:
وفي الإسناد الآخر- يعني للطبراني- سليمان بن أحمد الواسطي قال:
وكلاهما ضعيف.
أما ابن الجوزي فأعل الإسناد الأول بأبي جبلة واسمه هلال، وبأنه مجهول، وبالفرج بن فضالة، وأعل الإسناد الثاني بعلي بن زيد.
قال أبو عاصم: حديث الباب الضعف فيه غير قوي، لا بل إن بعضهم حسنه، وصححه بشواهده؛ قال ابن القيم في الوابل الصيب: رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب: الترغيب في الخصال المنجية، والترهيب من الخلال-(2/196)
ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم.
ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما أتى حوضا منع منه، فجاءه صيامه في رمضان فسقاه.
ورأيت رجلا من أمتي ومعي النبيون حلقا حلقا، كلما دنا إلى حلقة منع منها، فجاء اغتساله من الجنابة فأقعده إلى جنبي.
ورأيت رجلا من أمتي عن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن بين يديه ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحير في الظلمات، فجاءه حجه وعمرته فأخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور.
ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءت صلته للرحم فقالت: كلموه، فكلمه المؤمنون وصافحوه، فصار معهم.
ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاء أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم.
- المردية، وبنى كتابه عليه وجعله شرحا له، وقال: هذا حديث حسن جدا، رواه عن سعيد بن المسيب: عمرو بن آزر، وعلي بن زيد بن جدعان، وهلال أبو جبلة، قال: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يعظم شأن هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه، وقال ابن القيم قبل إيراده: هو حديث عظيم، شريف القدر، ينبغي لكل مسلم أن يحفظه، نذكره بطوله لعموم فائدته، وحاجة الخلق إليه. اه. ونقل المجد في الصلاة والبشر عن الديلمي في كتابه: أصول مذاهب العرفاء ما ملخصه: أن هذا الحديث صحيح لا شك فيه ولا ريب، وأنه حصل العلم القطعي له بصحته، وأن من تكلم فيه أو تناوله بالضعف فهو كاذب غالط، اه.(2/197)
ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه، بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله.
ورأيت رجلا من أمتي قد وضعت صحيفته على شماله، فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه.
ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار، فجاءت دموعه من خوف الله وبكاؤه من خشية الله تعالى فاستخرجاه منها.
ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في يوم ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته، ومضى على الصراط.
ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا، ويجثو أحيانا، ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته عليّ فأخذت بيده، فأقامته على قدميه، ومضى على الصراط.
ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى باب الجنة، فأقفلت الأبواب كلها دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ففتحت له الأبواب، فدخل الجنة.(2/198)
[75- باب ما جاء في فضل مكّة]
75- باب ما جاء في فضل مكّة قال الله تعالى:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ الآية.
وقال تعالى:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.
وقال تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وقال تعالى:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
وقال تعالى:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
قوله: «باب ما جاء في فضل مكة» :
أورد المصنف الآيات غير مرتبة، فرتبناها حسب ترتيبها في السورة، وبحسب ترتيب السورة في القرآن.(2/199)
وقال تعالى:
فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
وقال تعالى:
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً الآية.
وقال تعالى:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ الآية.
وقال تعالى:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.
وقال تعالى:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ الآية.
وقال تعالى:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ الآية.
وقال تعالى:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً الآية.
وقال تعالى:
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا الآية.(2/200)
402- حدثنا أبو الفضل: جعفر بن الفضل بن الوزير بمكة حرسها الله، أنا إبراهيم بن محمد بمدينة السلام، ثنا أبو كريب:
محمد بن العلاء، ثنا أبو مصعب، ...
(402) - قوله: «أنا إبراهيم بن محمد» :
هو ابن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو إسحاق العمري، الكوفي، كان أحد الشهود والوجوه، وبلغ سنا عالية، ثم تكلم فيه بالكوفة وبغداد، قال الحافظ الذهبي في تاريخه: ولم يترك، انظر:
تاريخ بغداد [6/ 158] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 318- ص 601] .
قوله: «ثنا أبو كريب: محمد بن العلاء» :
الهمداني، الكوفي، أحد الحفاظ الأثبات، من شيوخ أصحاب الكتب الستة، انظر عنه في:
سير أعلام النبلاء [11/ 394] ، تهذيب الكمال [26/ 243] ، تهذيب التهذيب [9/ 342] ، الكاشف [3/ 77] ، التقريب [/ 500] ، الترجمة رقم 6204، المعجم المشتمل، الترجمة رقم 931، طبقات ابن سعد [6/ 414] .
قوله: «ثنا أبو مصعب» :
هو الزهري، الإمام الحافظ الثقة، أحد أولاد الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، فهو: أحمد بن أبي بكر: القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي، الزهري، أحد أصحاب مالك، وراوي الموطأ عنه، تولى قضاء المدينة حتى وفاته، قال الزبير بن بكار: مات يوم مات وهو فقيه أهل المدينة غير مدافع، انظر عنه في:
سير أعلام النبلاء [8/ 58] ، تهذيب الكمال [1/ 278] ، الثقات لابن حبان-(2/201)
عن مالك، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهمّ إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها.
403- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين أخرجوه من مكة، -[8/ 21] ، أخبار القضاة لوكيع [1/ 258] ، تذكرة الحفاظ [2/ 482] ، إكمال مغلطاي [1/ 28] ، الديباج لابن فرحون [1/ 140] ، تهذيب التهذيب [1/ 17] ، الكاشف [1/ 14] ، التقريب [/ 78] الترجمة رقم 17، التعديل والتجريح للباجي [1/ 334] .
قوله: «عن مالك» :
هو ابن أنس الإمام العلم المشهور الذي قال عنه إمامنا الشافعي:
إذا ذكر العلماء فمالك النجم، صاحب المذهب، وصاحب الموطأ، الذي قاله عنه إمامنا الشافعي: ما أعلم بعد كتاب الله أصح منه، انظر عن مالك:
سير أعلام النبلاء [8/ 43] ، ترتيب المدارك [1/ 102] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 75] ، وفيات الأعيان [4/ 135] ، تذكرة الحفاظ [1/ 207] ، حلية الأولياء [6/ 316] ، ثقات ابن حبان [7/ 459] ، تهذيب الكمال [27/ 91] ، تهذيب التهذيب [10/ 5] ، الكاشف [3/ 99] ، مرآة الجنان [1/ 373] ، غاية النهاية [2/ 35] ، النجوم الزاهرة [2/ 96] ، الديباج المذهب [1/ 55] .
قوله: «هذا جبل يحبنا ونحبه» :
أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك: أخرجه البخاري في الجهاد، باب فضل الخدمة في الغزو، رقم 2889، وفي أحاديث الأنبياء، برقم 3367، وفي المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه، رقم 4084، وفي الاعتصام، باب إثم من دعا إلى ضلالة، رقم 7333، وأخرجه مسلم من طرق في-(2/202)
وقف على الحزورة وقال: إني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت- أو قال: ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت-.
404- وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: خير بلدة على وجه الأرض وأحبها إلى الله مكة.
405- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأرض دحيت من مكة، وأول من- المناسك، باب فضل المدينة، رقم 1365 (462) .
قوله: «إني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله» :
بسطنا تخريجه في كتاب السير من مسند الحافظ أبي محمد الدارمي، باب: في إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، [9/ 200] رقم 2669- فتح المنان، وهو من رواية عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري، وإسناده على شرط الشيخين كما بيناه.
(404) - قوله: «في حديث آخر» :
مروي عن الحسن البصري مرسلا في رسالته الطويلة المشهورة لرجل من أهل مكة، أخرجها بطولها الفاكهي في تاريخه [2/ 288] رقم 1545، وسيورد المصنف بعضها.
(405) - قوله: «إن الأرض دحيت من مكة» :
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [1/ 76] رقم 317، أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 133- 134] ، ابن جرير فيه أيضا [1/ 199] ، ابن عساكر في تاريخه- كما في الدر المنثور [1/ 113] ، جميعهم من حديث عطاء بن السائب، عن ابن سابط مرفوعا: دحيت الأرض من مكة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله:
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الآية، وكان النبي إذا هلك قومه ونجا والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا، فإن قبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بين زمزم والركن والمقام، لفظ ابن جرير، رواه-(2/203)
طاف بالبيت الملائكة، وما من نبي هرب من قومه إلا هرب إلى الله بمكة، فعبد الله فيها حتى مات.
وقال صلى الله عليه وسلم: وإن قبر نوح، وهود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل فيما بين زمزم والمقام.
406- قال ابن عباس رضي الله عنه: الكعبة قبلة المسجد الحرام، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض.
- ابن خثيم، عن ابن سابط، عن عبد الله بن ضمرة، قوله، يأتي تخريجه في فصل: ذكر تاريخ البيت-.
وأخرج العطاردي في مغازي ابن إسحاق [/ 95] من طريق جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قوله: وضع الحرم قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دحيت الأرض.
رواه الفاكهي في أخبار مكة [2/ 270] رقم: 1503 من طريق علي بن عابس، عن منصور فجعله من قول مجاهد.
(406) - قوله: «قال ابن عباس» :
صورته هنا صورة الموقوف، وقد أخرجه ابن الأعرابي في معجمه برقم 126، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى [2/ 9- 10] من حديث عمر بن حفص المكي- من ولد عبد الدار-: ثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي.
قال البيهقي: تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف لا يحتج به، وروي بإسناد آخر ضعيف عن عبد الله بن حبشي كذلك مرفوعا، ولا يحتج بمثله.
وأخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 19] من وجه آخر عن ابن عجلان، عن ابن أبي حسين قوله.(2/204)
[76- فصل: ذكر بعض أسماء مكّة حرسها الله وزادها شرفا]
76- فصل:
ذكر بعض أسماء مكّة حرسها الله وزادها شرفا 407- يقال: سميت مكة لما بين الجبلين، وبكة ما بين الجبلين؛ لأنها تبك بعضهم بعضا في الطواف، ويقال: مكة ذو طوى، وهي مكة، وبكة، وأم رحم، وأم القرى، والباسّة تبسهم أي: تخرجهم إخراجا إذا ظلموا، وهو أول بيت وضع للناس، وأول مسجد بني للمؤمنين، وأول من بنى إبراهيم عليه السّلام.
(407) - قوله: «وهي مكة وبكة» :
انظر ما جاء في أسمائها في: تاريخ الأزرقي [1/ 279- 282] ، تاريخ الفاكهي [2/ 280] ، العقد الثمين [1/ 37] ، إعلام الزركشي [/ 78] ، شفاء الغرام [1/ 126] ، القرى للمحب الطبري [/ 650] .
قوله: «وأم رحم» :
بالراء لأن الناس يتراحمون فيها ويتواصلون، وسميت أيضا بأم زحم:
بالزاي من ازدحام الناس فيها.(2/205)
[77- فصل: في ذكر حدود الحرم وكيف حرّم]
77- فصل:
في ذكر حدود الحرم وكيف حرّم 408- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع الخزاعي، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق الخزاعي، ثنا أبو الوليد قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، (408) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
هو في تاريخ مكة له [2/ 127] ، علقه الفاكهي في أخبار مكة [5/ 225] رقم 192، وأخرجه ابن سعد في الطبقات ضمن قصة الفتح [2/ 137] .
قوله: «حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى» :
الأسلمي مولاهم، أبو إسحاق المدني، أحد العلماء الضعفاء، من شيوخ إمامنا الشافعي، وكان حسن الرأي، لا يتهمه بالكذب في الحديث، وضعفه الجمهور، واتهموه بالقدر، انظر عنه في:
تهذيب الكمال [1/ 184] ، إكمال مغلطاي [1/ 284] ، تهذيب التهذيب [1/ 137] ، الكاشف [1/ 46] ، ديوان الضعفاء [1/ 57] ، المغني في الضعفاء [1/ 23] ، التاريخ الكبير [1/ 323] ، الجرح والتعديل [2/ 125] ، الكامل في الضعفاء [1/ 219] ، المجروحين [1/ 105] ، الميزان [1/ 57] ، ضعفاء العقيلي [1/ 62] .
قوله: «عن أبي الطفيل» :
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر أصحابه صلى الله عليه وسلم موتا: عامر بن واثلة الكناني، حجازي من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال الحافظ الذهبي: -(2/206)
عن ابن عباس قال: أول من نصب أنصاب الحرم: إبراهيم عليه السّلام، يريه ذلك- خاتم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع يستلم الركن بمحجنه، ثم يقبل المحجن، انظر عنه في:
مسند الإمام أحمد [5/ 453] ، سير أعلام النبلاء [3/ 467] ، طبقات ابن سعد [5/ 457، 6/ 64] ، تاريخ بغداد [1/ 198] ، تاريخ ابن عساكر [26/ 113] ، أسد الغابة [3/ 145، 6/ 179] ، العقد الثمين [5/ 87] ، تهذيب الكمال [14/ 79] ، تهذيب التهذيب [5/ 71] ، التاريخ الكبير [6/ 446] ، الجرح والتعديل [6/ 328] ، مرآة الجنان [11/ 207] ، البداية والنهاية [9/ 190] ، النجوم الزاهرة [1/ 243] ، ثقات ابن حبان [3/ 291] ، الوافي بالوفيات [16/ 584] .
قوله: «عن ابن عباس» :
هكذا يقول ابن أبي يحيى، وهو ضعيف كما تقدم، وقد خالفه ابن جريج فقال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن محمد بن الأسود أنه أخبره أن إبراهيم أول من نصب الأنصاب.. الخبر، أخرجه أبو الوليد الأزرقي [2/ 128] ، والحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 25] رقم 8864، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 275] رقم 1516، والجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور [1/ 297]-.
وأخرج الأزرقي في تاريخه [2/ 128] ، وعبد الرزاق في المصنف [5/ 25] رقم 8862 من حديث ابن جريج قال: كنت أسمع من أبي يزعم أن إبراهيم أول من نصب أنصاب الحرم.
وأخرج أبو الوليد من حديث موسى بن عقبة أنه قال: عدت قريش على أنصاب الحرم فنزعتها، فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فجاء جبريل عليه السّلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتد عليك أن نزعت قريش أنصاب الحرم؟
قال: نعم، قال: أما إنهم سيعيدونها، قال: فرأى رجل من هذه القبيلة من قريش ومن هذه القبيلة حتى رأى ذلك عدة من قبائل قريش قائلا يقول: -(2/207)
جبريل عليه السّلام، فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد ما رث منها.
- حرم كان أعزكم الله به، ومنعكم، فنزعتم أنصابه! الآن تخطفكم العرب، فأصبحوا يتحدثون بذلك في مجالسهم، فأعادوها، فجاء جبريل عليه السّلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قد أعادوها، قال: أفأصابوا يا جبريل؟ قال:
ما وضعوا منها نصبا إلا بيد ملك.
وأخرج أبو الوليد من طريق الواقدي، عن إسحاق بن حازم، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن إبراهيم عليه السّلام نصب أنصاب الحرم يريه جبريل عليه السّلام، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عام الفتح تميم بن أسد الخزاعي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبعث أربعة من قريش كانوا يبتدئون في بواديها فجددوا أنصاب الحرم، منهم مخرمة بن نوفل، وأبو هود سعيد بن يربوع المخزومي، وحويطب بن عبد العزى، وأزهر بن وأزهر بن عبد عوف الزهري.
وأخرج أيضا من حديث الواقدي قال: حدثني خالد بن إلياس، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: لما ولي عثمان بن عفان بعث على الحج عبد الرحمن بن عوف وأمره أن يجدد أنصاب الحرم، فبعث عبد الرحمن نفرا من قريش منهم حويطب بن عبد العزى، وعبد الرحمن بن أزهر، وكان سعيد بن يربوع قد ذهب بصره في آخر خلافة عمر، وذهب بصر مخرمة بن نوفل في خلافة عثمان، فكانوا يجددون أنصاب الحرم في كل سنة، فلما ولي معاوية كتب إلى والي مكة فأمره بتجديدها.
قال: فلما بعث عمر بن الخطاب النفر الذين بعثهم في تجديد أنصاب الحرم، أمرهم أن ينظروا إلى كل واد يصب في الحرم فنصبوا عليه وأعلموه وجعلوه حرما، وإلى كل واد يصب في الحل فجعلوه حلا. -(2/208)
409- وقيل: لما خاف آدم عليه السّلام على نفسه من الشيطان استعاذ بالله سبحانه، فأرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب فوقفوا حواليها، فحرم الله عزّ وجلّ الحرم من حيث كانت الملائكة وقفت.
410- وعن وهب بن منبه قال: إن آدم عليه السّلام اشتد بكاؤه وحزنه لما كان من عظم مصيبته، حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه وتبكي لبكائه، فعزاه الله عزّ وجلّ بخيمة من خيام الجنة، ووضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة، وفيها ثلاث قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، والركن يومئذ نجم من نجومه، فكان ضوء ذلك النور ينتهي إلى مواضع الحرم، فلما صار آدم عليه السّلام إلى مكة حرسه الله، وحرس له تلك الخيمة بالملائكة، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه ويذودون عنه سكان الأرض- وسكانها يومئذ الجن- قال أبو الوليد: فكل واد في الحرم فهو يسيل في الحل ولا يسيل من الحل في الحرم إلا من موضع واحد عند التنعيم عند بيوت غفار.
(409) - قوله: «وقيل: لما خاف» :
أخرجه الأزرقي في تاريخه [2/ 127] من حديث عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم، عن أبيه قال: سمعت بعض أهل العلم يقول: ... فذكره.
(410) - قوله: «وعن وهب بن منبه» :
أخرجه بطوله الأزرقي في تاريخه [2/ 127] ، وابن المنذر- كما في الدر المنثور [1/ 311]-، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 276- 277] رقم 1517 بلفظ مختصر.
وأخرجه من وجه آخر بنحوه ومعناه البيهقي في الشعب [3/ 435] رقم 3989.(2/209)
والشياطين- فلا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة لأنه من نظر إلى شيء منها وجبت له، والأرض يومئذ نقية طاهرة طيبة لم تنجس، ولم يسفك فيها الدماء ولم يعمل فيها بالخطايا، فلذلك جعلها الله يومئذ مستقرا لملائكته، وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
فلم تزل تلك الخيمة مكانها حتى قبض الله عزّ وجلّ آدم، ثم رفعها إليه.
411- وروي: أن آدم عليه السّلام لما فرغ من المناسك جاء جبريل عليه السّلام بياقوتة من الجنة فحلق بها رأس آدم عليه السّلام، قال: فطار شعر آدم عليه السّلام حتى بلغ طرف الحرم وجال حولها، فجعل ذلك المقدار حرما.(2/210)
[78- فصل: في ذكر عظم الذّنب في حرم الله وحمل السّلاح فيه]
78- فصل:
في ذكر عظم الذّنب في حرم الله وحمل السّلاح فيه 412- عن علي بن الحسين عليه السّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ستة لعنهم الله والملائكة والناس أجمعين: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله ويعز من أذله الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي في حرم الله.
(412) - قوله: «عن علي بن الحسين» :
هو ابن الإمام علي بن أبي طالب، الإمام الورع: أبو عبد الله وأبو محمد زين العابدين الهاشمي، العلوي، المدني، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه، وقال مالك: لم يكن في أهل البيت أفضل منه، انظر عنه في:
سير أعلام النبلاء [4/ 386] ، طبقات ابن سعد [5/ 211] ، تاريخ ابن عساكر [41/ 360] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 343] ، غاية النهاية [1/ 534] ، النجوم الزاهرة [1/ 229] ، تذكرة الحفاظ [1/ 70] ، وفيات الأعيان [3/ 266] ، التاريخ الكبير [6/ 266] ، تهذيب الكمال [20/ 382] ، تهذيب التهذيب [7/ 268] ، حلية الأولياء [3/ 133] ، البداية والنهاية [9/ 103] .
قوله: «ستة لعنهم الله» :
روى هذا الحديث عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب فاختلف عليه فيه:
1- رواه سفيان الثوري عنه، عن علي بن الحسين هكذا مرسلا، أخرجه الترمذي تعليقا عقب حديثه عن عمرة، عن عائشة رقم 2154، والطحاوي في المشكل [4/ 367] ، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 264] رقم 1485. -(2/211)
.........
- 2- وتابعه حفص بن غياث أيضا، علقه الترمذي في الموضع المشار إليه.
ورواه ابن عيينة عنه فلم يسمه وقال: عن رجل، عن علي بن الحسين به مرسلا، أخرجه الفاكهي [2/ 264] رقم 1486.
ورواه عبد الله بن محمد بن يوسف الفريابي، عن أبيه، عن الثوري، فأسنده وقال: عن أبيه، عن جده، أخرجه الحاكم في المستدرك [2/ 525] .
3- وقال ابن أبي الموال مرة عنه: عن ابن موهب: عن عمرة، عن عائشة به، أخرجه الترمذي في القدر، برقم 2154، وابن أبي عاصم في السنة برقم 44، 337، والطبراني في الأوسط [2/ 398] رقم 1688، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 125] ، والطحاوي في المشكل [4/ 366] ، والبيهقي في الشعب [3/ 443] رقم 4011، وصححه ابن حبان- كما في الإحسان- برقم 5749، والحاكم في المستدرك [2/ 525] .
4- وقال ابن أبي الموال مرة عنه: عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، أخرجه أبو نعيم في المعرفة [2/ 670] رقم 1800، والطحاوي في المشكل [4/ 366] ، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 264] رقم 1484، والحاكم في المستدرك [1/ 36، 4/ 90] .
وأعله الذهبي بإسحاق بن محمد الفروي شيخ البخاري مع أنه قد تابعه قتيبة بن سعيد عند الطبراني والحاكم وأبي نعيم أيضا، لذلك قال الحاكم:
لا أعرف له علة، وقال في موضع آخر: صحيح على شرط البخاري فقد احتج بابن أبي الموال.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [7/ 205] : رجاله ثقات، وقد صححه ابن حبان، وذكر حديث عائشة أيضا في [1/ 176] ، وعزاه لمعجمه الكبير وقال: فيه عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، ثم ذكر الاختلاف في الاحتجاج به وقول أهل الحديث فيه، ثم قال: وبقية رجاله رجال الصحيح.(2/212)
413- وعن عطية العوفي قال: سألت مولى لعبد الله بن عمر عن موت عبد الله بن عمر، قال: كان أصابه رجل بزجة في رجله، فأتاه الحجاج يعوده فقال: لو أعلم من الذي أصابك لضربت عنقه، فقال:
أنت أصبتني، قال: كيف؟ قال: يوم أدخلت حرم الله عزّ وجلّ السلاح.
(413) - قوله: «وعن عطية العوفي» :
هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي، الإمام التابعي المشهور: أبو الحسن الجدلي، القيسي، الكوفي، أحد الذين يروى لهم في الفضائل والترغيب والترهيب، وكان يعد في الشيعة من أهل الكوفة، وله أحاديث صالحة وافق فيها الثقات، انظر عنه في:
سير أعلام النبلاء [5/ 325] ، تهذيب الكمال [20/ 145] ، طبقات ابن سعد [6/ 304] ، تهذيب التهذيب [7/ 200] ، الكاشف [2/ 235] ، المجروحين [2/ 176] ، الميزان [3/ 476] ، الجرج والتعديل [6/ 382] ، التاريخ الكبير [7/ 8] ، المغني في الضعفاء [2/ 436] ، الديوان [2/ 159] ، الكامل لابن عدي [5/ 2007] ، التقريب [/ 393] الترجمة رقم 4616.
قوله: «سألت مولى لعبد الله بن عمر» :
الأثر لم ينفرد به عطية فقد رواه أبو بكر الأثرم قال: قيل لأحمد بن حنبل:
حديث ابن عمر حين أصابه الزجّ ممن سمعته؟ قال: سمعته من المحاربي، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير قال: أصاب ابن عمر الزج، فدخل عليه الحجاج يعوده، فقال ابن عمر: أنت قتلتني، حملت السلاح في حرم الله، قال: قلت لمحمد بن سوقة: سمعته من سعيد بن جبير؟ قال: نعم، أخرجه أبو العرب التميمي في المحن [/ 203] ، وانظر طرقه الأخرى في: طبقات ابن سعد [4/ 186، 187] ، وتاريخ ابن عساكر [31/ 195، 196] ، والمعرفة لأبي نعيم [3/ 1712] رقم 4311.(2/213)
414- وقيل: لما قتل الحجاج ابن الزبير صعد المنبر فقال: إن ابن الزبير أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، وغيّر كتاب الله، قال فقال ابن عمر: كذبت، فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: لولا أمير المؤمنين لفعلت وفعلت، قال: فمر رجل من أهل الشام بحربة فأرسلها على رجله، قال: فمر به الحجاج فقال: من فعل بك يا أبا عبد الرحمن؟
قال: أنت، قال: لا والله، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن الله عزّ وجلّ لم يحل هذا الحرم لأحد قبلي وإنما أحل لي نصف نهار، وأنت أظهرت فيه السلاح.
(414) - قوله: «وقيل: لما قتل الحجاج» :
انظر المواضع المشار إليها في التعليق المتقدم وفيها القصة بألفاظ.(2/214)
[79- فصل: ما جاء في إخراج جبريل زمزم لأمّ إسماعيل عليه السّلام]
79- فصل:
ما جاء في إخراج جبريل زمزم لأمّ إسماعيل عليه السّلام 415 أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا أبو الحسن: محمد بن نافع الخزاعي، ثنا أبو محمد:
إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع، ثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، ثنا مسلم بن خالد، ...
(415) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
هو في تاريخ مكة له [2/ 39] ، هو في صحيح الإمام البخاري بطوله، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: يزفون النسلان في المشي، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن جريج ومعمر وإبراهيم بن نافع ثلاثتهم عن كثير بن كثير بطوله، الأرقام 3363، 3364، 3365.
وأخرجه أيضا من حديث معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير به، رقم 3364 ووجوده في صحيح الإمام البخاري يغني عن الإطالة في تخريجه.
قوله: «ثنا مسلم بن خالد» :
الزنجي، الإمام فقيه مكة، الفقيه العابد: أبو خالد المخزومي مولاهم، المكي، تفقه بابن جريج، وبه تفقه إمامنا الشافعي، وأخذ عنه قراءة ابن كثير المكي، اختلف في الاحتجاج بحديثه وهو لا بأس به إن شاء الله، قال الذهبي في السير: بعض النقاد يرقى حديثه إلى درجة الحسن، انظر عنه في:
تهذيب الكمال [27/ 508] ، طبقات ابن سعد [5/ 499] ، سير أعلام النبلاء [8/ 176] ، العقد الثمين [7/ 187] ، تذكرة الحفاظ [1/ 255] ، الميزان [4/ 102] ، التاريخ الكبير [7/ 260] ، الجرح والتعديل [8/ 183] ، -(2/215)
عن ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، ثنا ابن عباس أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم وبين سارة امرأة إبراهيم ما كان أقبل إبراهيم نبي الله صلوات الله وسلامه عليه بأم إسماعيل وإسماعيل وهو صغير يرضعها، حتى قدم بها مكة، ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منه وتدر على ابنها وليس معها زاد، فعمد بها إلى دوحة فوق- تهذيب التهذيب [10/ 115] ، ثقات ابن حبان [7/ 448] ، الكامل لابن عدي [6/ 2310] ، الكاشف [3/ 123] ، التقريب [/ 529] الترجمة رقم 6625.
قوله: «عن ابن جريج» :
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الإمام شيخ الحرم أبو خالد وأبو الوليد القرشي، الأموي- مولى أمية بن خالد-، المكي، أول من دون العلم بمكة، لازم عطاء بن أبي رباح فأكثر عنه وجود، وكان أحد الأئمة الأعلام، انظر عنه في:
تاريخ بغداد [10/ 400] ، تهذيب الكمال [18/ 338] ، التاريخ الكبير [5/ 422] ، الجرح والتعديل [5/ 356] ، تذكرة الحفاظ [1/ 169] ، سير أعلام النبلاء [6/ 325] ، وفيات الأعيان [3/ 163] ، العقد الثمين [5/ 508] ، الميزان [2/ 659] ، طبقات المفسرين [1/ 352] ، العبر [1/ 213] ، الكاشف [2/ 185] ، تهذيب التهذيب [6/ 357] .
قوله: «عن كثير بن كثير» :
هو ابن المطلب بن وداعة السهمي، القرشي، المكي، أحد الثقات.
تهذيب الكمال [24/ 151] ، ثقات ابن حبان [7/ 349] ، تهذيب التهذيب [8/ 381] ، الكاشف [3/ 6] ، التاريخ الكبير [7/ 211] ، الجرح والتعديل [7/ 156] ، التقريب [/ 460] ، الترجمة رقم 5625، تاريخ يحيى برواية الدوري [2/ 494] .(2/216)
زمزم في أعلى المسجد، فوضعهما تحتها، ثم توجه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه راجعا على دابته، فنادته أم إسماعيل وقالت: إلى من تتركني وولدي؟ قال: إلى الله عزّ وجلّ، فقالت: قد رضيت بالله، فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها، وعلقت شنها تشرب منها وترضع ابنها، حتى فني ماء شنها فانقطع درها، فجاع ابنها فاشتد جوعه حتى خشيت أن يموت، فقالت أم إسماعيل: لو تغيبت عنه حتى يموت ولا أرى موته، فعمدت إلى الصفا رجاء أن ترى أحدا بالوادي، ثم نظرت إلى المروة فقالت:
لو مشيت بين هذين الجبلين، فتعللت: حتى يموت الصبي ولا أراه، فمشت- ثلاث مرات أو أربع-، ثم رجعت فرأته كما تركته، فعادت إلى الصفا، ومشت إلى المروة حتى كمل سبع مرات.
قوله: «في أعلى المسجد» :
زاد أبو الوليد في تاريخه: يشير لنا بين البئر وبيت الصفة.
قوله: «راجعا على دابته» :
لفظ أبي الوليد: خارجا على دابته، فتبعت أم إسماعيل أثره حتى وافى إبراهيم بكدا.
قوله: «فاشتد جوعه» :
زاد أبو الوليد: حتى نظرت إليه أمه يتشحط فخشيت أم إسماعيل أن يموت فأحزنها ذلك.
قوله: «ثلاث مرات أو أربع» :
زاد أبو الوليد: ولا تجيز ببطن الوادي في ذلك.
قوله: «فرأته كما تركته» :
زاد أبو الوليد: فوجدته ينشع كما تركته، فأحزنها.(2/217)
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هذا كان ابتداء السعي بين الصفا والمروة.
فرجعت تطالع ابنها، فوجدته كما تركته، فسمعت صوتا- ولم يكن معها أحد غيرها- فقالت: أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير، فخرج لها جبريل عليه السّلام، فاتبعته حتى ضرب برجله مكان البئر فظهر ماء زمزم، فحاضته أم إسماعيل بتراب ترده خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنها.
قال ابن عباس: قال أبو القاسم عليه السّلام: لو تركته أم إسماعيل كان عينا معينا يجري.
قال: فجاءت أم إسماعيل بشنها، فاستقت وشربت، ودرّت على ابنها، وجاء الطير طلبا للماء، فبينا هي كذلك، إذ مر ركب من جرهم قافلين من الشام، فرأوا الطير على الماء، فأرسلوا رجلين حتى أتيا أم إسماعيل، فكلماها، ثم رجعا إلى ركبهما فأخبراهم بالماء وبأم إسماعيل، فرجع الركب كلهم حتى حيّوها، فردت عليهم، وقالوا:
لمن هذا الماء؟ قالت: لي، قالوا: أتأذنين لنا أن نسكن معك عليه؟ قوله: «فظهر ماء زمزم» :
كذا في الأصول، وفي رواية أبي الوليد [2/ 40] : فظهر ماء فوق الأرض، وجملة فحاضته عنده من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «قال: فجاءت أم إسماعيل» :
القائل: هو ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: «قالت: نعم» :
زاد أبو الوليد: قال ابن عباس: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ألفى ذلك أم إسماعيل وقد أحبت الأنس.(2/218)
قالت: نعم، فبعثوا إلى أهليهم، فقدموا، فسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العرش، ومكثوا ما شاء الله.
ثم إن جرهم استخفّوا بحرمة البيت، وارتكبوا العظائم من الذنب، فنضب ماء زمزم، وانقطع حتى عمي مكانه.
قوله: «ثم إن جرهم استخفوا» :
اختصر المصنف رواية أبي الوليد، وتمام لفظه بعد قوله: ومكثوا ما شاء الله:
فلما استخفت جرهم بالحرم وتهاونت بحرمة البيت وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها سرّا وعلانية وارتكبوا مع ذلك أمورا عظاما: نضب ماء زمزم وانقطع، فلم يزل موضعه يدرس ويتقادم وتمر عليه السيول عصرا بعد عصر حتى غبّي مكانه، وقد كان عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي قد وعظ جرهما في ارتكابهم الظلم في الحرم واستخفافهم بأمر البيت وخوفهم النقم وقال لهم: إن مكة بلد لا تقر ظالما، فالله الله قبل أن يأتيكم من يخرجكم منها خروج ذل وصغار، فتتمنوا أن تتركوا تطوفون بالبيت فلا تقدروا على ذلك، فلما لم يزدجروا ولم يعوا وعظه عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب وأسياف قلعية كانت أيضا في الكعبة فحفر لذلك كله بليل في موضع زمزم ودفنه سرّا منهم حين خافهم عليه، فسلط الله عليهم خزاعة فأخرجتهم من الحرم ووليت عليهم الكعبة والحكم بمكة ما شاء الله أن تليه، وموضع زمزم في ذلك لا يعرف؛ لتقادم الزمان، حتى بوأه الله تعالى لعبد المطلب بن هاشم لما أراد الله من ذلك فخصه به من بين قريش.
تنبيه: ذكر المصنف هنا قصة حفر عبد المطلب زمزم ورؤياه التي رآها في ذلك، نقلناها إلى أبواب نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم للمناسبة، واتباعا لعمل أهل السير والدلائل.(2/219)
[80- فصل: ذكر ما جاء في فضل مائها وهو ماء زمزم]
80- فصل:
ذكر ما جاء في فضل مائها وهو ماء زمزم 416- روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ماء زمزم لما شرب له.
417- وعن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق.
(416) - قوله: «روى جابر بن عبد الله» :
أخرج حديثه الإمام أحمد في المسند [3/ 372، 375] ، وابن أبي شيبة في المصنف [7/ 453] رقم 3775، وابن ماجه في المناسك، باب الشرب من زمزم، رقم 3062، والطبراني في الأوسط [1/ 469] رقم 853، والفاكهي في أخبار مكة برقم 1076، والأزرقي في تاريخ مكة [2/ 52] ، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 148، 202] ، والعقيلي في الضعفاء [2/ 303] ، وابن عدي في الكامل [4/ 1455] ، والخطيب في تاريخه [3/ 179] ، وأبو نعيم في أخبار أصبهان [2/ 37] ، جميعهم من حديث عبد الله بن المؤمل- مداره عليه، وهو ضعيف، يعتبر بروايته-، عن أبي الزبير، عن جابر به، وللحافظ ابن حجر رسالة نافعة شافية كافية في تحسين هذا الحديث وبيان طرقه وشواهده أتى فيها بما لا مزيد عليه فليراجعها من شاء.
(417) - قوله: «التضلع من ماء زمزم» :
أخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 52] وفي إسناده الواقدي، لكن له شاهد قوي، بل صححه بعضهم عن ابن عباس أنه سأل رجلا: من أين جئت؟ قال: من زمزم، قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ينبغي؟
قال: إذا شربت فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع-(2/220)
.........
- منها، فإذا فرغت فاحمد الله عزّ وجلّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم.
رواه عثمان بن الأسود فاختلف عليه فيه:
1- فقال ابن المبارك عنه: عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر- وهو القرشي، الجمحي، لم يضعف، بل سكت عنه البخاري، ووثقه ابن حبان، وقال الذهبي في الميزان: صدوق-، عن ابن عباس، أخرجه البخاري في الأوسط [2/ 163] ، في الكبير [1/ 158] .
* وتابع ابن المبارك:
(أ) عبيد الله بن موسى، أخرجه البخاري في تاريخه الكبير [1/ 158] ، ابن ماجه في المناسك، باب الشرب من زمزم، رقم 3061.
(ب) مكي بن إبراهيم، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [5/ 147] .
قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات.
2- وخالفهم الثوري- والإمام أحمد يقدمه عند المخالفة-، فقال عن عثمان:
عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، به، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 112- 113] رقم 9111، ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير [11/ 124] رقم 11246.
* وتابع الثوري عن عثمان:
(أ) عبد الرحمن بن بوذويه، أخرجه البخاري في تاريخه الكبير [1/ 158] .
(ب) الفضل بن موسى، أخرج حديثه البخاري في تاريخه الكبير [1/ 158] ، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 28] رقم 1079، لكن روي عنه بتسمية شيخ عثمان: ابن أبي مليكة الفقيه الثقة، وروي عنه بتسميته:
عبد الرحمن بن أبي مليكة وهذا ضعيف.
(ج) إسماعيل بن زكرياء، أخرجه البخاري في تاريخه [1/ 158] ، والدارقطني [2/ 288] ، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 147] من طريق-(2/221)
.........
- الحاكم وهو في مستدركه [1/ 472] ، لكنه في المستدرك بإسقاط شيخ عثمان، فصارت صورته صورة المنقطع فرهن الحاكم صحته بسماع عثمان، فرد الذهبي بقوله: ما لحقه، فيحتمل أنه عند الحاكم من الوجهين كما يظهر من رواية البيهقي، عن الحاكم الموصولة.
3- ورواه عبد المجيد بن أبي راود، عن عثمان، عن مجاهد، عن ابن عباس به، وفيه قصة، أخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 57] ، سأسوق لفظه بعد التخريج.
فإن قلنا بإسقاط رواية الفضل بن موسى للاضطراب فيها، فيبقى رواية ابن المبارك ومن تابعه، وقد صححها البوصيري.
وفي الطرف الآخر رواية الثوري ومن تابعه- وهو: إسماعيل بن زكرياء، وعبد الرحمن بن بوذويه-، وهي الأقوى في الصحة من حيث رجال الإسناد، والله أعلم بالصواب، وقد أخرج شطره الأخير أيضا: أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 52] ، من حديث رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده.
فأما رواية ابن أبي روّاد، فأخرجها أبو الوليد [2/ 57] : عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة زمزم فأمر بدلو فنزعت له من البئر، فوضعها على شفة البئر، ثم وضع يده من تحت عراقي الدلو ثم قال: بسم الله، ثم كرع فيها فأطال، ثم أطال، فرفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم عاد فقال: بسم الله، ثم كرع فيها فأطال- وهو دون الأول- ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم كرع فيها فقال:
بسم الله، فأطال- وهو دون الثاني- ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: علامة ما بيننا وبين المنافقين لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا.
الشطر الأخير منه أخرجه أيضا أبو الوليد [2/ 52] ، من حديث رجل من الأنصار عن أبيه، عن جده.(2/222)
418- وقال ابن عباس: صلّوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل:
وما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.
419- وروي عن وهب بن منبه أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله: برّة، وشراب الأبرار، طعام طعم وشفاء سقم، وكان وهب يكثر شرب زمزم ويقول: والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء، وأحدثت له شفاء.
(418) - قوله: «صلوا في مصلى الأخيار» :
أخرجه أبو الوليد الأزرقي [2/ 52- 53] ، من حديث عنبسة بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الله، عن عطاء، عنه به، وسيأتي ضمن رسالة الحسن البصري.
(419) - قوله: «وروي عن وهب بن منبه» :
أخرج حديثه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 117- 118] رقم 9121، والأزرقي في تاريخ مكة [2/ 49- 50]- واللفظ له-، وسعيد بن منصور كما في الدر المنثور وغيره.
قال الأزرقي عن ابن خثيم: قدم علينا وهب بن منبه، فاشتكى، فجئنا نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم، قال فقلنا: لو استعذبت فإن هذا ماء فيه غلظ؟ قال: ما أريد أن أشرب غيره حتى أخرج منها، والذي نفس ابن وهب بيده إنها لفي كتاب الله زمزم، لا تنزف ولا تذم، وإنها لفي كتاب الله برّة، شراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله مضنونة، وإنها لفي كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم، والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء.(2/223)
420- وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
خير واديين: وادي مكة، وواد بالهند هبط به آدم عليه السّلام، وشر واديين:
وادي الأحقاف، وواد بحضر موت، وخير بئر: بئر زمزم، وشر بئر: بئر برهوت الذي يجمع فيه أرواح الكفار.
421- وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من زمزم فتوضأ ثم قال: انزعوا يا بني عبد المطلب، فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم.
422- وعن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تريد به شفاء شفاك الله، وإن شربته لظمأ أرواك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، (420) - قوله: «وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» :
أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 116] رقم 9118، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 50] ، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 43] رقم 1110، وإسناده قوي.
قوله: «بئر برهوت» :
زاد يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنه في هذا الحديث:
بئر ماؤها بالنهار أسود كأنه القيح، تأوي إليه الهوام.
(421) - قوله: «انزعوا يا بني عبد المطلب» :
هو طرف من حديثه الطويل صلى الله عليه وسلم في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، يأتي تخريجه فيه.
(422) - قوله: «وعن مجاهد» :
هو ابن جبر، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المخزومي مولاهم، المكي، صحب ابن عباس فأكثر عنه وأطاب، وعنه أخذ القرآن فجوده، والتفسير والفقه، وكان من أعلام أهل الحرم، انظر عنه في:
تاريخ ابن عساكر [57/ 17] ، تهذيب الكمال [27/ 228] ، سير أعلام-(2/224)
وهي هزمة جبريل عليه السّلام بعقبه، وسقيا الله إسماعيل عليه السّلام.
قال: والهزمة: الغمزة بالعقب في الأرض، قال: ماء زمزم شقت من الهزمة.
423- وعن طاوس قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفيضوا نهارا، - النبلاء [4/ 449] ، العقد الثمين [7/ 132] ، طبقات ابن سعد [5/ 446] ، حلية الأولياء [3/ 279] ، تذكرة الحفاظ [1/ 86] ، التاريخ الكبير [7/ 411] ، الثقات لابن حبان [5/ 419] ، تهذيب التهذيب [10/ 38] ، الكاشف [3/ 106] ، الجرح والتعديل [8/ 319] ، المعرفة والتاريخ [1/ 711] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 83] ، البداية والنهاية [9/ 224] ، غاية النهاية [2/ 41] ، معرفة القراء الكبار [1/ 66] ، طبقات المفسرين [2/ 305] .
قوله: «وسقيا إسماعيل عليه السّلام» :
أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 118] رقم 9124، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 50] ، كلاهما من حديث ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عنه به.
وعزاه في الدر المنثور أيضا [4/ 153] : لسعيد بن منصور والحكيم الترمذي في النوادر.
خالفه محمد بن حبيب- قال ابن القطان: كان صدوقا- فأسنده إلى ابن عباس ورفعه، أخرجه الدارقطني [2/ 289] ، وقال الحاكم في المستدرك [1/ 473] : صحيح الإسناد إن سلم من محمد بن حبيب.
(423) - قوله: «وعن طاوس» :
هو ابن كيسان اليماني، الإمام الفقيه القدوة: أبو عبد الرحمن الجندي، الفارسي، الحافظ التابعي الجليل، أدرك جماعة من الصحابة، يعد في كبار-(2/225)
وأفاض في نسائه ليلا، وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت على ناقته، ثم جاء زمزم وقال:
ناولوني، فنوول دلوا فشرب منها، ثم مضمض، ثم مجّ في الدلو، ثم أمر بما في الدلو فأفرغ في البئر.
424- وعن الضحاك بن مزاحم قال: إن الله تبارك وتعالى يرفع المياه العذاب قبل يوم القيامة غير زمزم، وتغور المياه غير زمزم، وتلقي الأرض ما في بطنها من ذهب وفضة، فيأتي الرجل بالجراب فيه الذهب والفضة فيقول: من يقبل هذا مني؟ فيقول: لو أتيتني به أمس لقبلته.
- أصحاب ابن عباس، وكان من أهل العبادة والزهد والورع، انظر عنه في:
حلية الأولياء [4/ 3] ، طبقات ابن سعد [5/ 537] ، التاريخ الكبير [4/ 365] ، المعرفة والتاريخ [1/ 705] ، تهذيب الكمال [13/ 357] ، الجرح والتعديل [4/ 500] ، وفيات الأعيان [2/ 509] ، غاية النهاية [1/ 341] ، سير أعلام النبلاء [5/ 38] ، تذكرة الحفاظ [1/ 90] ، النجوم الزاهرة [1/ 260] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 251] ، تهذيب التهذيب [5/ 8] ، الكاشف [2/ 37] ، طبقات الفقهاء للشيرازي [/ 73] .
قوله: «فأفرغ في البئر» :
هو مسند عن المصنف، بإسناده إلى أبي الوليد الأزرقي، أخرجه هكذا مرسلا في تاريخ مكة [2/ 55، 55، 56، 57] وزاد: ثم قال صلى الله عليه وسلم: لولا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم.
وأخرجه أيضا عن ابن جريج، عمن سمع طاوسا أطول منه وفيه قصة.
(424) - قوله: «وعن الضحاك بن مزاحم» :
أخرج قوله أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 59] ، فهو مسند عن المصنف كالذي قبله، وأخرجه أيضا الفاكهي في أخبار مكة [2/ 67] رقم 1165، كلاهما من حديث مقاتل بن حيان، عنه.(2/226)
425- وعن كعب أنه قال لزمزم: إنا نجد: مضنونة، ضنّ بها لكم، وأول من سقي ماؤها إسماعيل عليه السّلام، طعام طعم وشفاء سقم.
426- وعن الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب بالحمى والصداع، وأن الاطلاع فيها يجلو البصر، وأنه سيأتي عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات.
قال أبو سعيد: يقال: إن ماء زمزم تطاول على المياه فقمع بماء أبي قبيس، فإذا ظهر ماء أبي قبيس على زمزم كثرت ملوحته، وإذا ظهر ماء زمزم كثرت عذوبته.
(425) - قوله: «وعن كعب» :
أخرج قوله الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 115] رقم 9116، وأبو الوليد في تاريخ مكة [2/ 50، 53] ، والفاكهي في أخبار مكة [2/ 33] رقم 1088.
(426) - قوله: «بلغني أن التضلع من ماء زمزم» :
أخرجه أبو الوليد في تاريخ مكة [2/ 54] ، من طريق مقاتل بن حيان، عنه.(2/227)
[81- فصل: ذكر ما كان عليه ذرع البيت حتّى صار إلى ما هو عليه اليوم من خارج وداخل]
81- فصل:
ذكر ما كان عليه ذرع البيت حتّى صار إلى ما هو عليه اليوم من خارج وداخل 427- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله سنة ستة وسبعين وثلاثمائة، ثنا محمد بن نافع بن محمد الخزاعي بمكة في المسجد الحرام، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، ثنا أبو الوليد: محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، قال:
كان إبراهيم خليل الرحمن بنى الكعبة، فجعل طولها في السماء تسعة أذرع، وطولها في الأرض: ثلاثين ذراعا، وعرضها في الأرض:
اثنين وعشرين ذراعا، وكان غير مسقف على عهد إبراهيم عليه السّلام، ثم بنته قريش في الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام، فزادت في طولها في السماء تسعة أذرع أخرى، فكانت في السماء ثمانية عشر ذراعا، وسقفوها، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرا تركوها في الحجر، واستقصرت دون قواعد إبراهيم عليه السّلام، فجعلوها ربضا في بطن الكعبة، فبنوا عليها حين قصرت بهم النفقة، وحجزوا الحجر على بقية البيت لئلا يطوف الطائف من ورائه.
(427) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
هو في تاريخه [1/ 288- 289] .(2/228)
ولم يزل على ذلك حتى كان زمن عبد الله بن الزبير، فهدم الكعبة وردها إلى قواعد إبراهيم، وزاد في طولها في السماء تسعة أذرع أخرى على بناء قريش، فصارت في السماء سبعة وعشرين ذراعا، وأوطأ بابها في الأرض، وفتح في ظهرها بابا آخر مقابل هذا الباب.
فكانت على ذلك حتى قتل ابن الزبير وظهر الحجاج، وأخذ مكة، ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان يأمره أن يهدم ما كان ابن الزبير زاد من الحجر في الكعبة، ففعل، وردها إلى قواعد قريش التي استقصرت في بطن البيت، وكبسها بما فضل من حجارتها، وسد بابها الذي في ظهرها، ورفع بابها هذا الذي في وجهها والذي هي عليه اليوم من الذرع.(2/229)
[82- فصل: ذكر تاريخ البيت وفضل ما حوله وما جاء في الحجر الأسود والرّكن والمقام والحجر]
82- فصل:
ذكر تاريخ البيت وفضل ما حوله وما جاء في الحجر الأسود والرّكن والمقام والحجر 428- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان البيت قبل هبوط آدم عليه السّلام ياقوتة من يواقيت الجنة، وكان له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي، وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة، البيت المعمور الذي في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة.
(428) - قوله: «عن ابن عباس» :
أخرج حديثه بطوله الجندي في فضائل مكة: حدثنا عبد الله بن أبي غسان اليماني، ثنا أبو همام، ثنا محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عباس به.
ومن طريق الجندي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس [3/ 272] رقم 4815، إلى قوله: وفيه قناديل من الجنة، وابن الجوزي في المثير [1/ 350] رقم 203.
قوله: «البيت المعمور الذي في السماء» :
روي هذا الشطر من أوجه كثيرة، منها: ما أخرجه الإمام أحمد في المسند [3/ 153] ، والنسائي في التفسير من السنن الكبرى [6/ 470] رقم 11530، وابن جرير في تفسيره [27/ 17] ، والبيهقي في الشعب [3/ 438] رقم 3993، جميعهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس به، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 468] . -(2/230)
429- وروي: أن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة- وهو مثل الفلك من شدة رعدته- أنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم عليه السّلام فضمه إليه استئناسا، ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر، ثم أنزل على آدم العصا، ثم قال:
يا آدم تخط، فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هناك ما شاء الله، - وأخرج الطبراني في معجمه الكبير [11/ 417] رقم 12185، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخه [1/ 49] من حديث كريب، والبيهقي في الشعب [3/ 439] رقم 3997، من حديث عكرمة، كلاهما عن ابن عباس- وهذا لفظه-: إن في السماء السابعة بيتا يقال له: الضّراح، وهو فوق البيت العتيق من حياله، حرمته في السماء كحرمة هذا في الأرض، يلجه في كل ليلة سبعون ألف ملك يصلون فيه، لا يعودون إليه أبدا غير تلك الليلة.
في إسناد الطبراني إسحاق بن بشر وهو متروك، لكن تابعه سعيد بن سالم، - وهو أيضا ضعيف- أخرج حديثه الواحدي في تفسيره.
* وقد خالفهما صفوان بن سليم عن كريب، رواه الأسلمي، عنه، عن كريب مرسلا، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 28] رقم 8874.
وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة رضي الله عنه أجمعين، وروي عن قتادة، والضحاك، أورد أحاديثهم السيوطي في الدر المنثور [7/ 627- 629] .
(429) - قوله: «لما أهبط آدم» :
أخرج هذا الشطر منه أبو الوليد الأزرقي في تاريخ [1/ 36] ، من حديث طلحة بن عمرو- أحد الضعفاء- عن عطاء، عن ابن عباس قوله، وأخرجه(2/231)
ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: احجج يا آدم، فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية، وما بين ذلك مفازة، حتى قدم مكة فلقيته الملائكة، فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات.
430- وكان آدم عليه السّلام يطوف بالبيت سبعة أسابيع بالليل، وخمسة أسابيع بالنهار، فقال آدم: يا رب اجعل لهذا البيت عمّارا يعمرونه من ذريتي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: إني معمره بنبي من ذريتك اسمه إبراهيم، أتخذه خليلا، أقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه ومواقفه، وأعلّمه مشاعره ومناسكه، فإذا فرغ من بنائه نادى:
يا أيها الناس إن الله تعالى بنى بيتا فحجّوه، فأسمع من بين الخافقين، فأجابوه: لبيك اللهمّ لبيك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن آدم عليه السّلام سأل ربه عزّ وجلّ فقال: يا رب أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئا أن تلحقه بي في الجنة، فقال الله تعالى: يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي شيئا بعثته آمنا يوم القيامة.
- أيضا [1/ 38] ، بإسناد ضعيف عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن عبد الله بن لبيد قال: بلغني عن ابن عباس.
(430) - قوله: «وكان آدم عليه السّلام» :
هو في تاريخ الأزرقي أطول منه [1/ 43- 44] ، بإسناد ضعيف عن أبي هريرة.(2/232)
431- وروى أبو قرة، عن معمر: أن سفينة نوح عليه السّلام طافت بالبيت سبعا، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه، وبوأه الله عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السّلام فبناه بعد ذلك، وذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ الآية.
432- وذكر ابن جريج رضي الله عنه في حديثه: أنه لما كان الغرق رفع الله عزت قدرته إليه البيت، واستودع الركن أبا قبيس، حتى إذا كان بناء (431) - قوله: «وروى أبو قرة» :
هو موسى بن طارق الزبيدي، الحافظ الصدوق، أبو قرة اليماني، قاضي زبيد، من رجال النسائي، وممن أثنى عليه الإمام أحمد، قال ابن حبان:
كان ممن جمع وصنف، وتفقه وذاكر، يغرب، ووصفه الذهبي في السير بالإمام المحدث الحجة.
انظر: تهذيب الكمال [29/ 80] ، ثقات ابن حبان [9/ 159] ، سير أعلام النبلاء [9/ 346] ، تهذيب التهذيب [10/ 312] ، الكاشف [3/ 163] ، الميزان [5/ 332] ، الجرح والتعديل [8/ 148] ، التقريب [/ 551] الترجمة رقم 6977، العبر [1/ 257] .
قوله: «عن معمر» :
هو ابن راشد الحداني، الإمام الحافظ المفسر، تقدم في حديث رقم: 333.
قوله: «أن سفينة نوح طافت بالبيت» :
أخرجه من هذا الوجه: الحافظ الجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور-[1/ 316] .
(432) - قوله: «وذكر ابن جريج» :
يعني: عن مجاهد كما في تاريخ الأزرقي [1/ 50- 51] ، والدر المنثور [1/ 314] ، ورواه أيضا ابن جريج عن جويبر، أخرجه الجندي- كما في الدر المنثور [1/ 314]- ضمن الأول من حديث معمر.(2/233)
إبراهيم عليه السّلام نادى أبو قبيس إبراهيم فقال: يا إبراهيم هذا الركن، فجاء فحفر عنه فجعله في البيت.
433- وعن الزهري أنه قال: وجد حجر في أساس البيت مكتوب في جوانبه الأربع، فأرادوا قراءته فلم يجدوا أحدا يقرأه حتى جاء حبر من أحبار اليمن فقرأه فإذا في جانبه: أنا الله ذو بكة، حرمتها يوم خلقت السماوات والأرضين، ووضعت هذين الجبلين يوم وضعت الشمس والقمر، وحففتهما بسبعة أملاك حنفاء، مبارك لأهلها في اللحم والماء- وقال آخرون: في اللحم واللبن-.
وفي الجانب الآخر: هذا بيت الله الحرام، يأتيه رزقه من ثلاثة سبل، أهله أول من يستحله.
وفي الجانب الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا، قدرت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وقدرته له، وويل لمن خلقته للشر وقدرته له.
434- ويقال: إنه مكتوب في أسفل المقام: إني أنا الله ذو بكة، (433) - قوله: «مكتوب في جوانبه الأربع» :
أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 150] رقم 9219، ومن طريقه البيهقي في الشعب [3/ 445] رقم 4017.
وأخرجه ابن إسحاق في السيرة [1/ 196] : حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية.
وأخرجه عبد الرزاق أيضا برقم 9221 من حديث معمر، عن رجل، عن مجاهد.
(434) - قوله: «في أسفل المقام» :
أخرجه الحافظ عبد الرزاق [5/ 150] رقم 9220، من حديث ابن جريج، -(2/234)
حرمتها يوم خلقت السماوات والأرضين، ويوم وضعت هذين الجبلين، وحففتهما بسبعة أملاك حنفاء.
435- وقال صلى الله عليه وسلم: إن حول الكعبة لقبور ثلثمائة نبي، وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبيا صلوات الله عليهم أجمعين، وكل نبي من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم فأتى الكعبة فعبد الله حتى يموت.
436- وروي: أن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله- عن مجاهد، وفيه: مكتوب في الحجر: ... ليس فيه الجملة الأخيرة: ما أعلم أنه ينزل ... ، وقال ابن إسحاق في السيرة [1/ 194- ابن هشام] : حدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه: مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
(435) - قوله: «فعبد الله حتى يموت» :
طرفه الأخير تقدم في أول الباب، وأخرج الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 120] رقم 9129، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 134] ، والبيهقي في الشعب [3/ 441] رقم 4006 من حديث ابن خثيم، عن ابن سابط عن عبد الله بن ضمرة السلولي قال: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم إلى الحجر قبر تسعة وتسعين- وفي بعض المصادر: سبعة وسبعين- نبيا، جاءوا حاجين فماتوا فقبروا هنالك، وأخرج أبو الوليد [1/ 73] عن مقاتل قوله: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر سبعين نبيّا، منهم:
هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف في بيت المقدس.
(436) - قوله: «وروي أن إسماعيل بن إبراهيم» :
أخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [1/ 312] قال: حدثنا جدي، -(2/235)
عليهما شكا إلى ربه حر مكة، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أني أفتح لك بابا من أبواب الجنة في الحجر، يجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة.
437- وروي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أقبل ذات يوم فقال لأصحابه: ألا تسألوني من أين جئت؟ قالوا: من أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت قائما على باب الجنة- وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله عنده-.
438- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الركن اليماني باب من أبواب الجنة، وما من أحد يدعو الله عند الركن الأسود إلا استجيب له.
- عن خالد بن عبد الرحمن بن خالد المخزومي قال: حدثني المبارك بن حسان الأنماطي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز في الحجر فسمعته يقول:
شكا إسماعيل عليه السّلام ... القصة، وزاد في آخره: وفي ذلك الموضع توفي، قال خالد: فيرون أن ذلك الموضع ما بين الميزاب إلى باب الحجر الغربي فيه قبره، وأخرج الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 119] رقم 9128، من حديث ابن جريج قال: بلغني عن كعب أنه قال: دفن إسماعيل بين زمزم والركن والمقام.
(337) - قوله: «وكان قائما تحت الميزاب» :
روي هذا عن الحسن البصري ضمن رسالته الطويلة المشهورة لرجل من أهل مكة، أخرجها بطولها الفاكهي في تاريخه [2/ 288] رقم 1545، وستأتي.
(438) - قوله: «باب من أبواب الجنة» :
أخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [1/ 338] موقوفا على ابن الزبير، وأخرجه [1/ 339] عن مجاهد قوله: من وضع يده على الركن اليماني ويدعو إلا أستجيب له، وأيضا بلفظ: ما من إنسان يضع يده على الركن اليماني-(2/236)
439- قال: وكذلك عند الركن اليماني، وكذلك عند الميزاب.
440- وعن سعيد بن المسيب أنه قال: الركن والمقام حجران من حجارة الجنة.
441- سئل عطاء عن استلام الركن اليماني وهو في الطواف فقال:
- ثم دعا إلا استجيب له، قال: وبلغني أن بين الركن اليماني والركن الأسود سبعين ألف ملك لا يفارقونه، هم هنالك منذ خلق الله سبحانه البيت.
(439) - قوله: «وكذلك عند الميزاب» :
أخرج أبو الوليد [1/ 318] من حديث عثمان بن ساج، عن عطاء قال: من قام تحت مثعب الكعبة فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
وأخرجه أيضا من حديث ابن جريج عن عطاء قوله.
(440) - قوله: «الركن والمقام حجران» :
حديث ابن المسيب أخرجه الفاكهي في تاريخه [1/ 86] رقم 12، بذكر الركن دون المقام، وقد ثبت هذا مرفوعا، فأخرج الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 39] رقم 8921، والإمام أحمد في المسند [2/ 213- 214] ، الترمذي في المناسك، باب ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام، رقم 878، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخه [1/ 328] ، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 75] ، جميعهم من طريق مسافع الحجبي، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن الله طمس على نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب، صححه ابن خزيمة برقم 2731، 2732، وابن حبان- كما في الإحسان- برقم 3710، والحاكم في المستدرك [1/ 456] .
(441) - قوله: «سئل عطاء» :
السائل له هو: ابن هشام، حديثه عند ابن ماجه في المناسك، باب فضل الطواف، من طريق إسماعيل بن عياش، ثنا حميد بن أبي سوية قال: -(2/237)
حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكّل الله به سبعين ملكا، ثم قال:
اللهمّ إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
442- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مررت بالركن اليماني قط إلا وجدت جبريل قائما عنده يقول: يا محمد استلم.
443- وقال صلى الله عليه وسلم: إن خير البقاع وأقربها من الله: ما بين الركن والمقام.
- سمعت ابن هشام يسأل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني ...
الحديث رقم 2957، وأخرجه الآجري في جزء مسألة الطائفين برقم 8، والفاكهي في تاريخ مكة [1/ 138] رقم 152، وابن عدي في الكامل [2/ 690]- في ترجمة حميد هذا، وقال: أحاديثه عن عطاء غير محفوظة- وابن الجوزي في مثير العزم برقم 225.
(442) - قوله: «ما مررت بالركن اليماني» :
أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة [1/ 338] من حديث عبد الله بن حميد، عن إبراهيم النخعي، عنها.
ورواه من وجه آخر: عن عثمان بن ساج، عن عطاء قال: قيل يا رسول الله، رأيناك تكثر استلام الركن اليماني، فقال- إن كان قاله-: ما أتيت عليه قط إلا وجبريل قائم عنده يستغفر لمن استلمه، مرسل ورواه من وجه آخر عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب نحوه، إلا أنه قال: وعنده ملك بدل: جبريل.
(443) - قوله: «إن خير البقاع» :
أخرجه الفاكهي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالت: قلت: يا رسول الله كأنك تريد بين الركن والمقام؟ قال صلى الله عليه وسلم: -(2/238)
444- وقال صلى الله عليه وسلم: الركن يمين الله في الأرض، يصافح به عباده كما يصافح أحدكم أخاه.
- صدقت، إن خير البقاع وأطهرها وأزكاها وأقربها من الله تعالى ما بين الركن والمقام، وإن فيما بين الركن والمقام روضة من رياض الجنة، فمن صلى فيه أربع ركعات نودي من بطنان العرش: أيها العبد غفر لك ما قد سلف منك، فاستأنف العمل.
رجال إسناده عن آخرهم ثقات غير أحمد بن صالح شيخ الفاكهي في هذا الحديث، قال محققه: لم أقف عليه.
(444) - قوله: «الركن يمين الله في الأرض» :
روي موقوفا على ابن عباس بإسناد صحيح، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 39] رقم 8919، 8920، وابن أبي عمر في مسنده- كما في إتحاف البوصيري [4/ 74- 75] رقم 3351، وأبو الوليد الأزرقي [1/ 324] ، والفاكهي في تاريخه [1/ 89] رقم 20، 21، جميعهم من طريق محمد بن عباد بن جعفر، عنه، وصحح إسناده البوصيري في إتحاف الخيرة.
ومن طرق عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق برقم 8920، الطبراني- كما في إتحاف السادة للزبيدي [4/ 451] ، أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [1/ 326] ، الفاكهي في تاريخه [1/ 93] ضمن رقم 28.
وأخرجه الخطيب في تاريخه [6/ 328] ، من طريقه ابن الجوزي في العلل [2/ 85] رقم 944، من حديث جابر بن عبد الله بإسناد فيه إسحاق بن بشر الكاهلي عن شيخه أبي معشر المدني، وهما ضعيفان.
وأخرج ابن ماجه في المناسك برقم 957- وهو طرف من المتقدم قريبا-، والفاكهي في تاريخه [1/ 87- 88] رقم 15، وابن عدي في الكامل [2/ 690] من حديث ابن أبي سوية قال: سمعت ابن هشام يسأل عطاء وهو في الطواف: يا أبا محمد، ما بلغك في هذا الركن الأسود؟ فقال: حدثني أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من فاوضه فإنما يفاوض يد الرحمن.(2/239)
445- وقال صلى الله عليه وسلم: إن الركن والمقام يأتيان يوم القيامة كل واحد منهما مثل أبي قبيس، له عينان ولسان وشفتان، يشهدان لمن وافاهما بالوفاء.
(445) - قوله: «إن الركن والمقام» :
أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 26] رقم 8890، والأزرقي في تاريخه [1/ 326] ، والفاكهي كذلك [1/ 93] ضمن حديث رقم 28، من حديث ابن جريج، عن مجاهد قوله، موقوفا عليه، غير أن مثل هذا لا يقال من قبيل الرأي، فله حكم الرفع.
وقد روي هذا في الركن دون المقام بإسناد صحيح، فأخرج أبو محمد الدارمي في المناسك من المسند، باب الفضل في استلامه، من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا: ليبعثن الله الحجر يوم القيامة، له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق، خرجناه في شرحنا تحت رقم 1970- فتح المنان، وذكرنا تصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم له.
وأخرج الإمام أحمد في المسند [2/ 211] ، والطبراني في الأوسط [1/ 337] رقم 567، والبيهقي في الأسماء والصفات [/ 420] ، وابن الجوزي في العلل [2/ 85] رقم 945، من حديث عبد الله بن المؤمل قال:
سمعت عطاء يحدث عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان يتكلم عمن استلمه بالسنية، وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه» ، صححه ابن خزيمة برقم 2737، والحاكم في المستدرك [1/ 457] .
وهاه الذهبي في التلخيص بابن المؤمل، وقد اختلف عليه فيه، روي أيضا عنه، عن عطاء، عن ابن عباس، أخرجه الطبراني في معجمه الكبير [11/ 182] رقم 11432، والفاكهي في تاريخه [1/ 87] رقم 14، قال الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 242] : بكر بن محمد وشيخه لم أعرفهما.(2/240)
446- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يبق في الأرض شيء من الجنة غير هذا الحجر، ولولا ما مسه من أنجاس المشركين ما استشفى به ذو عاهة إلا برأ.
(446) - قوله: «إنه لم يبق في الأرض شيء من الجنة» :
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [5/ 75] ، في الشعب [3/ 449- 450] رقم 4033، من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو به مرفوعا، رجاله عن آخرهم ثقات، لكن رواه ابن جريج مرة فأوقفه على عبد الله ابن عمرو ولم يرفعه، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [1/ 38] رقم 8915، وأبو الوليد في تاريخه [1/ 322، 323] ، والفاكهي كذلك [1/ 89، 1، 92] رقم 19، 28.
قلت: وقفه لا يضر لأن الذين رفعوه عن ابن جريج ثقات، منهم: سيد الحفاظ حماد بن زيد، ويؤيد رواية بعضهم له ضمن حديث مسافع الحجبي، عن عبد الله بن عمرو المتقدم قريبا.(2/241)
[83- فصل: ذكر المقام وأوّل أمره، وكيف كان]
83- فصل: ذكر المقام وأوّل أمره، وكيف كان وأما المقام فقد قال الله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى الآية.
447- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي أسكنه الله جنته بمكة حرسها الله، قال: حدثنا أبو الحسن: محمد بن نافع، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد بن إسحاق الخزاعي، ثنا أبو الوليد قال:
سمعت عبد الله بن شعيب بن شيبة بن جبير بن شيبة يقول: ذهبنا نرفع المقام في خلافة المهدي فانثلم- وهو من حجر رخو- فخشينا أن يتفتت، فكتبنا في ذلك إلى المهدي، فبعث إلينا بألف دينار، فضببنا بها المقام أسفله وأعلاه، وهو الذهب الذي عليه اليوم.
واختلفوا في المقام وابتدائه:
448- فمنهم من قال: صعد إبراهيم عليه السّلام المقام حيث أمر بالدعوة لقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا الآية، قال إبراهيم:
وأين يبلغ كلامي؟ فقال الله تعالى: عليك النداء، وعليّ البلاغ، فصعد وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج- وأذن الله للمقام حتى صار مثل (447) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
هو في تاريخه [2/ 36] .
(448) - قوله: «فأجابه من في أصلاب الرجال» :
روي هذا عن ابن عباس، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [11/ 518] رقم 11867، وابن منيع في مسنده- كما في إتحاف الخيرة [4/ 5] رقم-(2/242)
أبي قبيس-، فأجابه من في أصلاب الرجال، ومن في أرحام النساء، فمن أجاب مرة واحدة من التلبية فيحج حجة واحدة، ومن أجاب مرتين فيحج حجتين، وكذلك ثلاثة وأربعة، فلما ثقل عليه الوحي خالف بين قدميه.
449- ومنهم من قال: إن إبراهيم لما زار إسماعيل من الشام، وكانت سارة حلفته أن لا ينزل عند هاجر، وطلبت إليه هاجر أن يغسل رأسه ولحيته، فأخرج إبراهيم عليه السّلام رجليه حتى غسلت رأسه.
450- ومنهم من قال: إن امرأة إسماعيل سألت إبراهيم أن ينزل عليها لتغسل رأسه، فلم ينزل؛ لما عهدت إليه سارة أن لا ينزل حتى يرجع، فبركت ناقته، ودلى رجليه، فغسلت شقه الأيمن، ثم حولت الحجر إلى شقه الأيسر، وغسلت شقه الآخر.
قال أبو سعد: عبد الملك بن محمد صاحب الكتاب أعانه الله على طاعته: سألت الزمازمة حتى أتوا إليّ بماء زمزم، ثم سألت بني شيبة أن يكشفوا لي عن المقام فكشفوا في البيت، وسكبوا الماء موضع- 3180، وابن جرير في تفسيره [17/ 144] ، وابن أبي حاتم كذلك [8/ 2486] رقم 13877، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 176] ، جميعهم من حديث قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس بنحوه، وصححه الحاكم في المستدرك [2/ 388] ، وقال البوصيري في الإتحاف: قابوس مختلف فيه، وباقي رجاله ثقات.
(449) - قوله: «حتى غسلت رأسه» :
أورد الخبر التقي الفاسي في شفاء الغرام [1/ 202] ، ذكر أنه في خبر طويل ضعفه سعيد بن جبير، قال: ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الخليل وقف على ذلك لهذه الأمور كلها، والله أعلم.(2/243)
القدم، ثم شربت تبركا بذلك، ورأيت أثر قدمي إبراهيم عليه السّلام مغموسا فيه، وأصابع إحدى رجليه عند عقب الأخرى، وكان في ذلك الوقت المقام في البيت، وهذا دأبهم في الموسم، يخفون المقام في مصعد السطح في البيت، وذلك أنه حمل المقام مرة، فلما رد الله تعالى عليهم ذلك احتاطوا في ذلك الحفظ.(2/244)
[84- فصل: ذكر ردّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب المقام إلى موضعه الّذي هو عليه الآن]
84- فصل:
ذكر ردّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب المقام إلى موضعه الّذي هو عليه الآن 451- قال: فجاء السيل من باب بني شيبة- وكان يعرف بباب (451) - قوله: «فجاء السيل» :
اختصر المصنف رواية أبي الوليد في هذا، وقد ساق في تاريخ مكة قصة السيل والمقام فقال [2/ 33] : حدثني جدي، ثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه، عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب: باب السيل، قال:
كانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال له: سيل أم نهشل- وإنما سمي بأم نهشل: أنه ذهب بأم نهشل ابنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد بن العاص فماتت فيه- فاحتمل المقام من موضعه هذا فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقبل عمر فزعا فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت، فقال له عمر: فاجلس عندي، وأرسل إليها، فأتي بها، فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس فشاورهم فقالوا:(2/245)
السيل- فحمل المقام حتى وجد بأسفل مكة، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتبادروه وموضع المقام.
[85- فصل: ذكر ذرع المقام]
85- فصل:
ذكر ذرع المقام 452- قال أبو الوليد: وذرع المقام ذراع، والمقام مربع سعة أعلاه: أربعة عشر إصبعا في أربعة عشر إصبعا، وكذلك من أسفله، وفي طرفيه من أعلاه وأسفله طوقا ذهب، وفي الحجر سبع أصابع، وعرض حجر المقام من نواحيه: إحدى وعشرون إصبعا، والقدمان داخلتان في الحجر، وبين القدمين من الحجر إصبعان.
- نعم، هذا موضعه، قال: فلما استثبت ذلك عمر وحق عنده أمر به فأعلم ببناء ربضه تحت المقام، ثم حوله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم، وردم عمر الردم الأعلى بالصخر وحصنه.
قال ابن جريج: ولم يعله سيل بعد عمر رضي الله عنه حتى الآن.
(452) - قوله: «قال أبو الوليد» :
ساق المصنف كلام أبي الوليد هنا باختصار [2/ 38] .(2/246)
[86- فصل: ذكر ما جاء في منبر مكّة]
86- فصل: ذكر ما جاء في منبر مكّة 453- وأما المنبر، فأول من خطب بمكة على المنبر: معاوية بن أبي سفيان، قدم به من الشام حين حج في خلافته، وكان منبر صغير ثلاث درجات، والخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياما في وجه الكعبة، فلما حج هارون الرشيد أهداه والي مصر- عامل من يده- موسى بن عتيق منبرا عظيما في تسع درجات منقوش، فلما أراد الواثق الحج أمر بثلاث منابر أحدها بمكة، والثاني بمنى، والثالث بعرفة.
(453) - قوله: «وأما المنبر» :
الخبر رواية عن أبي الوليد كما في تاريخه [2/ 99- 100] .
قوله: «قياما في وجه الكعبة» :
زاد أبو الوليد: وكان ذلك المنبر الذي جاء به معاوية ربما خرب، فيعمر ولا يزاد فيه حتى حج هارون الرشيد في خلافته، وموسى بن عيسى عامل له على مصر.(2/247)
[87- فصل: في ذكر جبال مكّة حرسها الله تعالى]
87- فصل:
في ذكر جبال مكّة حرسها الله تعالى 454- عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا الآية، قال: طارت لعظمته ستة أجبل، فوقع ثلثه بالمدينة، وثلثه بمكة: أحد، وطي، ورضوى، ووقع بمكة: ثور، وثبير، وحراء.
(454) - قوله: «عن معاوية بن قرة» :
هو الإمام التابعي، العالم، الحافظ الثبت: أبو إياس المزني، البصري، ممن أجمع أهل العلم على ثقته وإمامته، انظر عنه في:
طبقات ابن سعد [7/ 221] ، التاريخ الكبير [7/ 330] ، الجرح والتعديل [8/ 378] ، تهذيب الكمال [28/ 210] ، سير أعلام النبلاء [5/ 153] ، تهذيب التهذيب [10/ 195] ، الثقات لابن حبان [5/ 412] ، الكاشف [3/ 140] ، كنى الدولابي [1/ 115] .
قوله: «عن أنس بن مالك» :
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير [5/ 1560] رقم 8939، وأبو الشيخ وابن مردويه- كما في الدر المنثور [3/ 545]- وفي إسناده الجلد بن أيوب ممن أجمع أهل الحديث على ضعفه، وفي الباب عن ابن عباس، وعن علي بن أبي طالب قوله.
أما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني في الأوسط [9/ 123- 124] رقم 8259 من طريق طلحة بن عمرو- وهو ضعيف- عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا: لما تجلى الله لموسى بن عمران تطايرت سبعة جبال: ففي الحجاز منها خمسة، وفي اليمن اثنان، في الحجاز: أحد، وثيبر، وحراء، وثور، -(2/248)
حدثنا بهذا الحديث محمد بن أحمد بن بالويه الكرابيسي.
455- وحكي أن حول مكة حرسها الله اثنا عشر ألف جبل لكل جبل اسم وعرب ينتابونه.
456- ويقال: إن أبا قبيس وجبل بكّاء تسابقا إلى مكة، فسبق أبو قبيس إلى قرب البيت فبقي جبل بكاء خارجا، فلا يزال يبكي أسفا على ما فاته من مكة، وبكاؤه ظاهر تنحدر كل ليلة أحجاره، والمجاورون ينحّونه عن الطريق.
قال أبو سعد صاحب الكتاب رحمه الله: فتأملت ذلك فوجدته كما حكي.
- وورقان، وفي اليمن: حصور، وصبير، تفرد به طلحة.
وأما حديث علي بن أبي طالب فأخرجه ابن مردويه- كما في الدر المنثور [3/ 546]- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال: اسمع موسى، قال له: إني أنا الله- وذاك عشية عرفة، وكان الجبل بالموقف- فانقطع على سبع قطع، قطعة سقطت بين يديه، وهو الذي يقوم الإمام عنده في الموقف يوم عرفة، وبالمدينة ثلاثة:
طيبة، وأحد، ورضوى، وطور سيناء بالشام، وإنما سمي الطور لأنه طار في الهواء إلى الشام.
قوله: «محمد بن أحمد بن بالويه الكرابيسي» :
تقدمت ترجمته في: باب ظهوره صلى الله عليه وسلم.
(455) - قوله: «وحكي أن حول مكة» :
أورد هذا الأثر والآتي بعده الحافظ أبو حفص الموصلي في وسيلة المتعبدين [5- ق- 1/ 172] نقلا عن المصنف، وكذا قوله: فتأملت ذلك.(2/249)
[88- فصل: في فضل المقام بمكّة حرسها الله ومجاورة البيت الحرام والموت فيه]
88- فصل:
في فضل المقام بمكّة حرسها الله ومجاورة البيت الحرام والموت فيه 457- قال صلى الله عليه وسلم: من مات في حج أو عمرة لم يعرض ولم يحاسب، وقيل له: ادخل الجنة.
(457) - قوله: «من مات في حج أو عمرة» :
روي من حديث عطاء، عن عائشة، على ألوان:
1- رواه محمد بن صبيح بن السماك، عن عائذ بن نسير- وهو منكر الحديث- فاختلف عليه فيه:
2- فقال الحسين بن علي الجعفي- أحد الثقات- عنه، عن عائذ، عن عطاء، عن عائشة مرفوعا: من مات في هذا الوجه بحج أو عمرة ...
الحديث، أخرجه أبو يعلى في مسنده [8/ 79] رقم 4608، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية [8/ 215- 216] ، والبيهقي في الشعب [3/ 473] رقم 4097، والفاكهي في تاريخه [1/ 194، 386] رقم 314، 818، وأبو نعيم في الحلية [8/ 215] ، والآجري في مسألة الطائفين برقم 12، 13.
* وتابعه عن عائذ: محمد بن الحسن الهمداني، أخرجه الدارقطني [2/ 297- 298] ، والبيهقي في الشعب [3/ 473] تعليقا.
ويحيى بن يمان، أخرجه ابن عدي في الكامل [5/ 1992] ، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات [2/ 217] ، والعقيلي في الضعفاء [3/ 410] ، والبيهقي في الشعب [3/ 474] رقم 4098.
ويحيى بن أيوب، أخرجه الخطيب في تاريخه [5/ 369] ، والأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم 1035. -(2/250)
458- وقال صلى الله عليه وسلم: من مات بمكة فكأنما مات في السماء الدنيا.
459- وقال صلى الله عليه وسلم: من مات في أحد الحرمين حاجّا أو معتمرا بعثه الله يوم القيامة لا حساب ولا عذاب.
- فقد تبين أن الجعفي- وهو ثقة ثبت- لم يخطيء فيه، فلا يضر قول البيهقي في الشعب: قصر الجعفي في إسناده، لأن رواية غيره منكرة.
3- ورواه محمد بن صبيح بن السماك، مرة عن عائذ، فقال عنه، عن محمد بن عبد الله البصري، عن عطاء، عن عائشة به مرفوعا، أخرجه البخاري في تاريخه [1/ 106- 107] الترجمة رقم 301، ولم يسق المتن، ومن طريقه الخطيب في تاريخه [5/ 369] ، والبيهقي في الشعب [3/ 473] رقم 4096، والتقي الفاسي في شفاء الغرام [1/ 180] .
4- ورواه مندل- وهو ضعيف جدا- عن عائذ، عن محمد البصري، عن عطاء مرسلا، أخرجه العقيلي في الضعفاء [3/ 410] .
* وخالف محمد بن صالح العدوي- وهو مجهول- أصحاب الحسين الجعفي، فقال عنه: عن جعفر بن برقان قال: حدثني الزهري، عن عروة، عن عائشة به مرفوعا، أخرجه الطبراني في الأوسط [6/ 185] رقم 5384.
قال الطبراني: لم يروه عن الزهري إلا جعفر، تفرد به حسين الجعفي.
قال أبو عاصم: حديث عائشة يقويه حديث الحسن البصري في رسالته المشهورة التي أخرجها الفاكهي في تاريخه [2/ 288] رقم 1545، وستأتي بعد أحاديث.
(459) - قوله: «لا حساب ولا عذاب» :
روي هذا في حديث طويل عن ابن عمر، أخرجه الفاكهي في تاريخ مكة [2/ 160] رقم 1918، ومن طريقه الحاكم في تاريخه- كما في اللسان [1/ 187]- ومن طريق الحاكم: ابن الجوزي في الموضوعات [2/ 219] مختصرا، من حديث عبد الله بن نافع الصائغ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا به وزاد فيه: ومن زارني بعد موتي فكأنما زارني في-(2/251)
460- وقال صلى الله عليه وسلم: من صبر على حر مكّة ساعة من نهار تباعدت منه النار مسيرة مائة عام، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام.
461- وقال صلى الله عليه وسلم: من مرض يوما بمكة كتب الله له من العمل الصالح الذي كان يعمله عبادة ستين سنة.
462- وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أدرك شهر رمضان بمكة- حياتي، ومن جاورني بعد موتي فكأنما جاورني في حياتي، ومن مات بمكة مات في السماء الدنيا.. الحديث بطوله، عبد الله بن نافع منكر الحديث ليس بشيء، ولا يعرف هذا من حديث مالك.
(460) - قوله: «من صبر على حر مكة» :
أخرجه الفاكهي في تاريخه [2/ 310- 311] رقم 1565، وأبو الشيخ- كما في الجامع الكبير [1/ 792] ، بإسناد فيه عبد الرحيم بن زيد العمي- وهو متروك-، عن أبيه- وليس بالقوي- عن ابن المسيب، عن أبي هريرة به مرفوعا، وأخرجه من طريق آخر عن عبد الرحيم، فأسقط منه ابن المسيب وأبا هريرة بصورة المعضل، رقم 1566.
وفي الباب عن ابن عباس عند العقيلي في الضعفاء الكبير [1/ 226] ، من طريق الحسن بن رشيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا، وفيه: تباعدت عنه النار سبعين خريفا، ضعف العقيلي الحسن بن رشيد وجعل حديثه هذا لا أصل له.
(461) - قوله: «من مرض يوما بمكة» :
أخرجه الفاكهي في تاريخه [2/ 312] رقم 1569، أيضا بإسناد فيه عبد الرحيم العمي- وهو متروك.
(462) - قوله: «من أدرك شهر رمضان بمكة» :
رواه ابن أبي عمر في مسنده- كما في إتحاف الخيرة [3/ 406] رقم 2969-(2/252)
فصامه كله، وقام فيه بما تيسر، كتبه الله له بمائة ألف شهر رمضان لغيرها، وكان له بكل يوم مغفرة وشفاعة، وبكل يوم حملان فرس في سبيل الله.
463- وعن الحسن البصري قال: ما أعلم اليوم على وجه الأرض- ومن طريقه ابن ماجه في المناسك، باب صيام شهر رمضان بمكة، رقم 3117، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 23] ، والفاكهي في تاريخ مكة [2/ 314] رقم 1574، وأبو نعيم في أخبار أصبهان [2/ 196] ، والبيهقي في الشعب [3/ 347] رقم 3729، وفي [3/ 487] رقم 4149، جميعهم من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به مرفوعا.
قال ابن أبي حاتم في العلل [1/ 250] : سألت أبي عن هذا الحديث فقال:
هذا حديث منكر، وعبد الرحيم بن زيد متروك الحديث.
وقال البيهقي في الموضع الأول: تفرد به عبد الرحيم وليس بالقوي، وقال في الموضع الثاني: عبد الرحيم ضعيف، يأتي بما لا يتابعه عليه الثقات.
قلت: يقوي هذا الحديث ذكر الحسن له في رسالته المشهورة التي أشرنا إلى تخريجها قريبا وفيها: وما أعلم من بلدة على وجه الأرض يكتب لمن صام رمضان بها بمائة ألف شهر رمضان ما يكتب فيها..
الرسالة بطولها.
وأخرج البزار في مسنده [1/ 459- 460 كشف الأستار] رقم 966، من حديث عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعا:
رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة.
(463) - قوله: «وعن الحسن البصري» :
الإمام التابعي العلامة، العابد الزاهد، القدوة: الحسن بن أبي الحسن: -(2/253)
بلدة ترفع فيها الحسنات من أنواع البر، بكل واحدة منها مائة ألف ما يرفع من مكة، وقد روي في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى في المسجد الحرام ركعتين فكأنما صلى في مسجدي ألف ركعة، ومن صلى في مسجدي صلاة كانت أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان.
قال: ثم ما أعلم من بلدة أنه يكتب لمن يتصدق فيها بدرهم واحد بمائة ألف، ما يكتب بمكة.
قال: ثم ما أعلم من بلدة على وجه الأرض فيها شراب الأخيار، - يسار الأنصاري مولاهم، أبو زيد المدني البصري، قال الحافظ الذهبي:
سيد أهل زمانه علما وعملا، انظر عنه في:
حلية الأولياء [2/ 131] ، طبقات ابن سعد [7/ 156] ، التاريخ الكبير [2/ 289] ، الجرح والتعديل [3/ 40] ، أخبار القضاة [2/ 3] ، سير أعلام النبلاء [4/ 563] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 161] ، وفيات الأعيان [2/ 69] ، غاية النهاية [1/ 235] ، النجوم الزاهرة [1/ 267] ، تذكرة الحفاظ [1/ 66] ، طبقات المفسرين [1/ 147] ، تهذيب الكمال [6/ 95] ، تهذيب التهذيب [2/ 231] ، الكاشف [1/ 160] ، الوافي بالوفيات [12/ 306] .
قوله: «ما أعلم اليوم» :
قال الحسن رحمه الله: هذا في رسالته المشهورة في فضل مكة، كتبها لعبد الرحمن بن أنس الرمادي يرغبه في المقام بمكة، وكان بعث إليه يستفتيه ويستشيره في الخروج منها.
وقد طبعت رسالته هذه في جزء صغير مفرد، نشرها الدكتور سامي مكي، اعتمد فيها على عدة نسخ خطية، وأخرجها بطولها الفاكهي في تاريخه [2/ 288] برقم 1545.(2/254)
ومصلى الأبرار إلا بمكة، قيل لابن عباس: ما مصلى الأبرار؟ قال:
تحت الميزاب، فقيل: ما شراب الأخيار؟ قال: ماء زمزم.
قال: ثم ما أعلم على وجه الأرض بلدة يصلي فيها أحد حيث أمر الله ورسوله إلا بمكة ثم قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.
قال: ثم ما أعلم على وجه الأرض بلدة أن يكون في مسه ذلك تكفير الخطايا وانحطاط الذنوب كما ينحط الورق من الشجر إلا بمكة وهو إستلام الركن الأسود واليماني، وقد روي في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استلامهما يحط الخطايا حطّا.
قال: ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض أنه إذا دعا أحد بدعاء أمن له الملائكة فتقول: آمين، إلا بمكة حول بيت الله الحرام.
قال: ثم ما أعلم من بلدة على وجه الأرض أنه يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلا بمكة.
قال: ثم ما أعلم أنه ينزل في الدنيا ببلد كل يوم رائحة الجنة وروحها ما ينزل بمكة، ويقال: إن ذلك كله للطائفين.
قال: ثم ما أعلم على وجه الأرض بلدة يوجد فيها من الأعوان على الخير بالليل والنهار ما يوجد بمكة، فلنومك بالليل والنهار وإفطارك بالنهار يوما واحدا في حرم الله أرجى عندي وأفضل من عبادة الدهر وقيامه في غيرها.
قوله: «قيل لابن عباس» :
تقدم تخريجه قريبا في فصل ما جاء في فضل مائها.(2/255)
قال: ثم ما أعلم بلدة على وجه الأرض يحشر منها الأنبياء والأبرار والفقهاء والزهاد والعباد والصلحاء من الرجال والنساء ما يحشر من مكة، ويقال: إنهم يحشرون من مكة وهم آمنون.
قال: ثم إنه يستجاب الدعاء بمكة في خمسة عشر موضعا: أولها الملتزم، فالدعاء فيه مستجاب، وتحت الميزاب، وحول البيت في الطواف، وعند الركن الأسود، وعند الركن اليماني، وخلف المقام، ومنى، وعرفات، والمزدلفة، وعند الجمرات، وفي جوف الكعبة، وعلى الصفا والمروة، والدعاء في جوف الحرم مستجاب، وزمزم.
قال: فاغتنم هذه المواضع التي ترجى فيها المغفرة، واجتهد فيهن بالدعاء، فإنك إن حرمت منها ذهبت منك هذه المواضع كلها، فاعمل في ذلك.
وإياك أخي ثم إياك أن تبرح من مكة، ولو أنه يدخل عليك كل يوم كسب حلال فلسين وأنت في حرم الله، خير من أن تجد بغيرها ألفين، وإن السعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم.
فعليك يا أخي بتقوى الله، ولزوم العزلة، والاشتغال بنفسك، والاستيناس بكتاب الله تعالى ذكره، والسلام.
464- قال أبو عبيد: القاسم بن سلام» : قال بعض أصحابنا- وكان مجاورا بمكة-: أردت الانتقال منها إلى بعض البلدان، فرأيت في المنام 64 4- قوله: «قال أبو عبيد: القاسم بن سلام» :
الهروي، البغدادي، الإمام الحافظ، الفقيه، المجتهد، المقرىء، -(2/256)
كأنه قيل لي: كرهت جوارنا فتنتقل من عندنا؟ قال: فقلت: قد تبت، وأقام بها حتى مات.
465- وعن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: إن الله عزّ وجلّ يبعث يوم المحشر ملائكة من ملائكته المقربين، بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام، فيقول لهم: اذهبوا إلى البيت فزموها بهذه السلسلة، ثم قودوها إلى المحشر، قال: فيأتونها فيزمونها سبعمائة ألف سلسلة من ذهب، ثم يمدونها، وملك ينادي وهو يقول: سيري يا كعبة الله إلى المحشر بأمر الله، قال: والكعبة يومئذ لها عينان ولسان- صاحب الغريب والتصانيف المفيدة حققت له منها كتابه العظيم:
الناسخ والمنسوخ، أسأل الله العلي أن ييسر طبعه.
أخذ أبو عبيد القراءة عرضا على الكسائي، وإسماعيل بن جعفر، واللغة عن أبي عبيدة، وكان مؤدبا، ولي قضاء طرسوس، ثم حج وجاور إلى أن توفي بها، يكفيه فخرا قول الإمام أحمد: أبو عبيد ممن يزداد عندنا كل يوم خيرا، وكان ابن راهويه يقول: إن الله لا يستحي من الحق، أبو عبيد أعلم مني ومن الشافعي، ومن ابن حنبل.
معرفة القراء الكبار [1/ 141] ، تذكرة الحفاظ [1/ 417] ، سير أعلام النبلاء [10/ 490] ، تاريخ بغداد [12/ 403] ، تاريخ دمشق لابن عساكر [49/ 58] ، العقد الثمين [7/ 23] ، غاية النهاية [2/ 17] ، طبقات السبكي [2/ 153] ، طبقات ابن سعد [7/ 355] ، التاريخ الكبير [7/ 172] ، طبقات الحنابلة [1/ 259] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 257] ، وفيات الأعيان [4/ 60] ، النجوم الزاهرة [2/ 241] ، مرآة الجنان [2/ 83] ، صفة الصفوة [4/ 130] ، الجرح والتعديل [7/ 111] ، معجم الأدباء [16/ 254] ، إنباه الرواة [3/ 12] ، تهذيب الكمال [23/ 354] ، تهذيب التهذيب [8/ 283] ، الكاشف [2/ 336] ، بغية الوعاة [2/ 253] .(2/257)
وشفتان، قال: فتنادي فتقول: إن ليّ إلى الله تعالى شفاعة وطلبة، فلست بسائرة حتى أعطاها، فينادي ملك من جو السماء: سلي، فتقول الكعبة:
يا رب شفعني في جيراني الذين دفنوا حولي من المؤمنين، فيقول الله عزّ وجلّ: قد أعطيتك سؤلك، قال: فيحشر كل موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمون، فيجتمعون حول الكعبة يلبون.
ثم تقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي، فتقول الكعبة بأعلى صوتها: يا رب عبادك المذنبون الذين وفدوا إليّ من كل فج عميق على كل ضامر، شعثا غبرا، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا إليّ زائرين، مسلمين طائعين لك سيدي، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر، فشفعني فيهم، واجمعهم حولي.
قال فينادي الملك: فإن منهم من ارتكب الذنوب بعدك، وأصروا على الكبائر حتى وجبت لهم النار، قال فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام.
فيقول الله عزّ وجلّ: قد شفعتك فيهم، وأعطيتك سؤلك، قال:
فينادي منادي من جو السماء: ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس، فيعتزلون، فيجمعهم الله عزّ وجلّ حول البيت الحرام بيض الوجوه، آمنين من النار، يطوفون، ويلبون.
ثم ينادي ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري، فتقول الكعبة: لبيك لبيك، والخير بين يديك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد لك، والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك، ثم يمدونها إلى المحشر.(2/258)
466- وعن مجاهد رضي الله عنه قال: رأيت الكعبة في النوم وهي تكلّم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: لئن لم تنته أمتك يا محمد عن المعاصي لأنتفضنّ حتى يصير كل حجر مني في مكان.
(466) - قوله: «وعن مجاهد» :
هو ابن جبر، أخرج حديثه الجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور [1/ 330]-.
وأخرج الفاكهي في أخبار مكة [1/ 205] رقم 342، من حديث البزي، عن مسافع الحجبي، عن أخيه قال: بينما أنا نائم خلف المقام إذا أنا بطير من ذهب ورأسه من زمردة خضراء واقعا على مصباح زمزم، فاستقبل الكعبة فقال: يا كعبة الله ما لي أراك قاطبة؟ ما لي أراك متغضبة؟ قالت: إني لمؤمنة بالله ورسوله، ولكن لما أرى حولي، ولئن لم ينته المتعللون بي والمتعللات من النساء والرجال لأنتفضن انتفاضة يرجع كل حجر مني إلى موضعه الذي حمل منه.
وأخرج الجندي أيضا والآجري في جزء مسألة الطائفين برقم 6، عن وهيب بن الورد قال: كنت أطوف أنا وسفيان بن سعيد الثوري ليلا فانقلب سفيان وبقيت في الطواف، فدخلت الحجر فصليت تحت الميزاب، فبينا أنا ساجد إذ سمعت كلاما بين أستار الكعبة والحجارة وهي تقول: يا جبريل أشكو إلى الله ثم إليك ما يفعل هؤلاء الطائفون حولي، تفكههم في الحديث ولغطهم وشؤمهم.
قال وهيب: فأولت أن البيت يشكو إلى جبريل عليه السّلام.
وأخرج الفاكهي في أخبار مكة [2/ 271] رقم 1506، من حديث الفضيل بن عياض قوله: والله لو أصبحنا وقد رفعت الكعبة من بين أظهرنا ما عجبت، ولعلمنا أنه قد استوجبنا ذلك.
وأخرج أيضا [2/ 251، 269] رقم 1453، 1500، من حديث ابن جريج، عن ابن أبي عتيق قال: إن البيت يبعث يوم القيامة شهيدا بما يعمل حوله. -(2/259)
467- وروي: أن الكعبة تتكلم وتنزل يوم القيامة فتقول:
إيذن لي يا رب في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيؤذن لها، فإذا جاءت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تهتم لثلاثة فإني أشفع لهم: من طاف بي، ومن خرج من البيت ولم يصل إليّ، والثالث: من اشتهى أن يقصدني فلم يجد سبيلا إلى ذلك.
- وأخرج [2/ 269] رقم 1499، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قوله: يا أهل مكة انظروا ما تعملون فيها، فإنها ستخبر عنكم يوم القيامة بما تعملون فيها.
(467) - قوله: «إيذن لي يا رب» :
أخرجه الجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور [1/ 329]- عن الزهري قال: إذا كان يوم القيامة رفع الله الكعبة البيت الحرام إلى بيت المقدس فيمر بقبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فيقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فيقول صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام يا كعبة الله، ما حال أمتي؟ فتقول: يا محمد أما من وفد إليّ من أمتك فأنا القائم بشأنه، وأما من لم يفد من أمتك فأنت القائم بشأنه، وأخرج الديلمي، وابن مردويه في تفسيره- كما في الدر المنثور [1/ 329] ، ومن طريقه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم 1012، من حديث ابن المنكدر عن جابر مرفوعا: إذا كان يوم القيامة زفت الكعبة بيت الله الحرام إلى قبري فتقول: السلام عليك يا محمد، فأقول:
وعليك السلام يا بيت الله، ما صنع بك أمتي بعدي؟ فتقول: يا محمد من أتاني فأنا أكفيه، وأكون له شفيعا، ومن لم يأتني فأنت تكفيه وتكون له شفيعا.
وأخرج أبو بكر الواسطي في فضائل بيت المقدس من حديث خالد بن معدان قال: لا تقوم الساعة حتى تزف الكعبة إلى الصخرة زف العروس، -(2/260)
468- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الثنية- ثنية المقبرة، وليس بها يومئذ مقبرة- فقال: يبعث الله عزّ وجلّ من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا، وجوههم كالقمر ليلة البدر.
قال أبو بكر: يا رسول الله من هم؟ قال: الغرباء.
- فيتعلق بها جميع من حج واعتمر فإذا رأتها الصخرة قالت لها: مرحبا بالزائرة والمزورة إليها، أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [1/ 436] رقم 950، بنحوه.
وأخرج أيضا عن كعب قال: لا تقوم الساعة حتى يزف البيت الحرام إلى بيت المقدس، فينقادان إلى الجنة وفيهما أهلهما، والعرض والحساب ببيت المقدس.
ذكرهما السيوطي في الدر المنثور.
(468) - قوله: «وعن عبد الله بن مسعود» :
أخرجه الجندي في فضائل مكة، ومن طريقه الفاسي في شفاء الغرام [1/ 284] ، الفاكهي في تاريخه [4/ 51] رقم 2370، عن عبد الرحيم بن زيد العمي- تقدم أنه متروك-، عن أبيه- وليس بالقوي-، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به مرفوعا.
أسقط الجندي من الإسناد أبا عبد الرحيم، لذلك قال الفاسي عقبه: فيه سقط بين عبد الرحيم وشقيق.(2/261)
[89- فصل: ذكر حنين السّلف إلى مكّة بيت الله]
89- فصل:
ذكر حنين السّلف إلى مكّة بيت الله 469 ذكر ابن جريج قال: كان ابن أم مكتوم الأعمى يقول:
يا حبذا مكة من وادي ... بها أمشي بلا هادي
بها أهلي وعوّادي ... بها ترسخ أوتادي
(469) - قوله: «كان ابن أم مكتوم الأعمى» :
مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلال، ومن السابقين الأولين، والمهاجرين المرضيين، كان ضريرا، هاجر بعد بدر بيسير، يقال: اسمه: عمرو، وقيل:
عبد الله بن قيس ابن زائدة بن رواحة القرشي، العامري، انظر أخباره في:
حلية الأولياء [2/ 4] ، الإصابة [7/ 83] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 295] ، سير أعلام النبلاء [1/ 360] ، الاستيعاب [7/ 41] ، أسد الغابة [4/ 263] ، طبقات ابن سعد [4/ 205] .
قوله: «يا حبذا مكة» :
أخرج ابن أبي عمر في مسنده- كما في إتحاف الخيرة [4/ 95- 96] رقم 3402، والمطالب العالية: النسخة المسندة [3/ 358- 359] رقم 1392-، والأزرقي في تاريخه [2/ 154] ، من طريق طلحة بن عمرو- أحد الضعفاء-، عن عطاء، عن ابن أم مكتوم: أنه طاف مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، فانحدر وسعى ابن أم مكتوم، ثم وقف حتى أدركه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ... فذكر الأبيات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حبذا هي، ضعفه البوصيري بطلحة بن عمرو.
قلت: خالفه عمر بن قيس المكي- وهو أيضا ضعيف- فرواه عن عطاء، عن جابر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم خرج إلى الصفا، فأتى بناقته فركبها، فأتاه-(2/262)
470- وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر أعوده، فقلت: كيف تجدك؟ فقال:
كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
- عبد الله ابن أم مكتوم- رجل من بني عامر بن لؤي، وكان مكفوفا- قال:
يا رسول الله أعطني حطام راحلتك حتى أطوف بك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف أن لا تهدي، قال: فأخذ بخطام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
يا حبذا مكة من وادي ... أرض بها أهلي وعوادي
إني بها أمشي بلا هادي ... إني بها ترسخ أوتادي
حتى فرغ النبي من طوافه، أخرجه الفاكهي في تاريخه [2/ 237- 238] رقم 1430.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات [2/ 141] ، من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا: لما كان يوم فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، كان عبد الله ابن أم مكتوم بين يديه وهو يقول: ...
فذكر الأبيات. مرسل.
وقيل: بل هي لأبي بكر، فأخرج الفاكهي في أخبار مكة [1/ 302- 303] رقم 626، من طريق سعيد بن مسلم بن بانك، عن عبد الله ابن أبي أوفى- سمعه منه- قال: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يقول:
يا حبذا مكة من وادي ... أرض بها أهلي وعوادي
فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على منكبه فقال: الله أكبر، الله أكبر، فقال أبو بكر: الله أكبر، الله أكبر.
(470) - قوله: «وروى هشام بن عروة» :
الحديث في الصحيحين، أخرجه البخاري في فضائل المدينة، باب- 12، رقم 1889، وفي مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، رقم 3926، وفي المرض، باب عيادة النساء الرجال، رقم 5654، وفي-(2/263)
قالت: ثم دخلت على عامر بن فهيرة، فقلت له: كيف تجدك؟
فقال:
وجدت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرىء مجاهد بطوقه ... والثور يحمي جلده بروقه
قالت عائشة رضي الله عنها: ثم دخلت على بلال فقلت: كيف تجدك؟ قال: فرفع عقيرته ثم قال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
وهل أردنّ يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة رضي الله عنها: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ إن إبراهيم عبدك ونبيك (عليه السّلام) دعاك لأهل مكة، وأنا أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك به إبراهيم لأهل مكة، اللهمّ بارك لهم في صاعهم وفي مدهم وفي تمرهم، وحببها إلينا كحبنا مكة وأشد، وانقل وباءها إلى حمراء والجحفة.
- باب من دعا برفع الوباء والحمى، رقم 5677، وفي الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، رقم 6372، لم يذكر الأبيات في هذا الموضع، ولم يذكر أبيات عامر ابن فهيرة في المواضع الأخرى.
وأخرجه مسلم في المناسك، باب الترغيب في سكنى المدينة، رقم 1386 (480) دون الأبيات.(2/264)
[90- فصل: في فضل الطّواف بالبيت ودخوله والنّظر إليه وما جاء في حجّه والصّلاة في المسجد الحرام]
90- فصل:
في فضل الطّواف بالبيت ودخوله والنّظر إليه وما جاء في حجّه والصّلاة في المسجد الحرام 471- وعن مجاهد رضي الله عنه: أن آدم عليه السّلام طاف بالبيت فلقيته الملائكة، فصافحته وسلمت عليه وقالت: بر حجك يا آدم، طف بهذا البيت، فإنا قد طفنا قبلك بألفي عام، فقال لهم آدم عليه السّلام: ماذا كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال آدم: وأنا أزيد فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
472- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حج آدم عليه السّلام، فطاف بالبيت سبعا، فلقيته الملائكة في الطواف فقالوا: بر حجك يا آدم، أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون في الطواف؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، (471) - قوله: «وعن مجاهد» :
أخرج قوله الجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور [1/ 321- 322]-.
(472) - قوله: «وعن ابن عباس» :
أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة [1/ 45- 46، 2/ 13] ، والجندي في فضائل مكة، وابن عساكر- كما في الدر المنثور [1/ 320- 321] ، بإسناد فيه طلحة بن عمرو، وهو ضعيف.
وأخرج الفاكهي في تاريخه [1/ 282] رقم 575، نحوه من حديث عبد الله بن يزيد، عن أبي يزيد بن العجلان قوله.(2/265)
والله أكبر، قال آدم: فزيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: فزادت الملائكة فيها ذلك، ثم حج إبراهيم عليه السّلام بعد بنائه البيت، فلقيته الملائكة في الطواف، فسلموا عليه، فقال لهم: ماذا كنتم تقولون في طوافكم؟
قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم عليه السّلام: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فأعلمناه ذلك فقال: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم: فزيدوا فيها: العظيم، فقالت الملائكة ذلك.
473- وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من طاف بالبيت سبعا وأحصاه، وركع ركعتين كان له كعدل رقبة نفيسة من الرقاب.
(473) - قوله: «كان له كعدل رقبة» :
لفظ حديث عبد الله بن عبد الله بن طلحة، عن عمه، عن ابن عمر، أخرجه الفاكهي في تاريخ مكة [1/ 187- 188] رقم 296، والجندي في فضائل مكة- كما في إتحاف الزبيدي [4/ 359]-.
وقد روي عن ابن عمر من وجه آخر بألفاظ من حديث عطاء بن السائب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر وفيه: وكتب له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له به درجة، وكان له عدل رقبة.
رواه عطاء بن السائب، وقد اختلف عليه فيه:
1- فروي عنه، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر، وهي رواية الجمهور.
2- وروي عنه مرة بإسقاط أبي عبد الله بن عبيد من الإسناد.
من الوجه الأول: أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 29] رقم 8877، ومن طريقه الإمام أحمد في المسند [2/ 89] ، وأخرجه أبو داود في الطيالسي في مسنده برقم 1900، ومن طريقه البيهقي في الشعب [3/ 452] رقم 4041، وأخرجه الإمام أحمد في المسند [2/ 11، 95] ، والترمذي في المناسك، باب ما جاء في استلام الركنين، رقم 959-(2/266)
.........
- وقال: حسن-، وابن خزيمة في صحيحه برقم 2753، وابن حبان كذلك برقم 3697- إحسان-، والحاكم في المستدرك [1/ 489] ، الطبراني في معجمه الكبير [12/ 390- 392] الأرقام: 1348، 13439، 13440، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 110] ، والآجري في مسألة الطائفين برقم 14.
وأخرجه من الوجه الثاني: النسائي في الحج، باب ذكر الفضل في الطواف بالبيت، رقم 2919، والطبراني في معجمه الكبير [12/ 392] رقم 13447، وروايتهما من طريق حماد بن زيد، عن عطاء، وهي جيدة لأنه سمع منه قبل الاختلاط.
وتابعه إبراهيم بن طهمان عند البيهقي في الشعب [3/ 452] رقم 4042.
وأخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف برقم 8824 من طريق معمر، عن عطاء، عن عبد الله بن عبيد مرسلا.
ورواه ابن ماجه في المناسك برقم 2956 من طريق العلاء بن المسيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر مرفوعا.
ورواه الحافظ عبد الرزاق من هذا الوجه من طريق حوشب، عن عطاء فأوقفه لكن من حديث عبد الله بن عمرو، كذلك قال ابن عجلان، عن عطاء عند الفاكهي [1/ 188] رقم 297.
ورواه ابن جريج، ويحيى بن سعيد بن عطاء فرفعاه، أخرجهما الفاكهي برقم 292، 295، وتابعهما المثنى بن الصباح عند الأزرقي [2/ 8] .
وفي الباب عن المنكدر مرفوعا: من طاف حول البيت أسبوعا لا يلغو فيه كان كعدل رقبة، أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة [2/ 116] ، ومن طريقه البيهقي في الشعب [3/ 454] رقم 4049، والطبراني في معجمه الكبير [20/ 360] رقم 845، والحاكم [3/ 457] ، ورجاله ثقات، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 254] ، الظاهر أنه مرسل.(2/267)
474- وروي عنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
لا يطوف أحد طوافا يحصيه إلا كان كعدل رقبة، ولا يرفع رجلا ولا يضع أخرى إلا كتبت له بها حسنة ورفع له بها درجة وحط عنه بها سيئة.
475- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحصى أسبوعا فله عتق رقبة، ومن رفع قدما ووضع أخرى كتبت له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ورفع له بها درجة.
476- وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وشرب ماء زمزم غفر الله له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت.
(474) - قوله: «وروي عنه أيضا» :
لفظه ولفظ الآتي بعده من ألفاظ حديث ابن عمر المتقدم، أوله: من طاف بالبيت سبعا.
(476) - قوله: «وعن جابر بن عبد الله» :
أخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط، والجندي في تاريخ مكة من حديث أبي معشر، عن ابن المنكدر، عنه به مرفوعا، أفاده الزبيدي في الإتحاف [4/ 359] ، قال: وهو حديث غريب، اه.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور [1/ 293] للحميدي وابن النجار.
قلت: رواه أبو الزبير، عن جابر وقال فيه: كان كعدل رقبة، ليس فيه ذكر الصلاة خلف المقام ولا شرب ماء زمزم، أخرجه الفاكهي في تاريخه [1/ 187] رقم 294، لكن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ممن يخرج له في الشواهد والاعتبار.(2/268)
477- وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويغفر له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت: طواف بعد صلاة الفجر يكون فراغه عند طلوع الشمس، وطواف بعد صلاة العصر يكون فراغه مع غروب الشمس.
478- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طاف حول البيت سبعا في يوم صائف شديد حره حاسرا، واستلم الحجر في كل طوفة من غير أن يؤذي أحدا، وقل كلامه إلا بذكر الله كان له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعون ألف حسنة، ومحي عنه سبعون ألف سيئة، ورفع له سبعون ألف درجة، ويعطيه الله سبعين ألف شفاعة، إن شاء في أهل بيته من المسلمين وإن شاء في العامة، وإن شاء عجلت له في الدنيا وإن شاء أخرت له في الآخرة.
(477) - قوله: «وعن أنس بن مالك» :
أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط [6/ 465] رقم 5889، والفاكهي في أخبار مكة [1/ 253] رقم 485، والجندي في فضائل مكة- كما في القرى [/ 330]-، والأزرقي في تاريخ مكة [2/ 22] ، جميعهم من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي- وهو متروك- عن أبيه- وليس بالقوي- عن أنس به.
(478) - قوله: «في يوم صائف» :
أخرجه الجندي في فضائل مكة من حديث ابن عباس- كما في شفاء الغرام [1/ 176] ، للتقي الفاسي-، والفاكهي في أخبار مكة [1/ 211- 212] رقم 362، والكلام في إسناده كالكلام في إسناد الذي قبله.
قوله: «حاسرا» :
أي: عن رأسه، زاد الجندي: وقارب بين خطاه، وقل التفاته، وغض بصره.(2/269)
479- وقال صلى الله عليه وسلم: الكعبة محفوفة بسبعين ألفا من الملائكة، يستغفرون لمن طاف بها ويصلون إليها.
480- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استكثروا من هذا الطواف قبل أن يحال بينكم وبينه، وكأني أنظر إلى رجل من الحبشة أصيلع أفيدع جالس عليها يهدمها حجرا حجرا.
(479) - قوله: «الكعبة محفوفة» :
أخرجه الفاكهي في تاريخه [1/ 196] رقم 319، من حديث ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعا، ليث ممن يضعف في الحديث.
(480) - قوله: «أصيلع» :
كذا عندنا، وفي رواية: أصعل، وفي أخرى: أصلع، وروي أيضا: أصمع، قال ابن عيينة بعد روايته: الصمع في الآذان، والصعل: في الرأس: صغر الرأس، قال أبو عبيد القاسم في الغريب: الأصمع الصغير الأذن، فأما الأصلع فمعروف، وهو من ذهب شعر رأسه، والأفيدع: تصغير أفدع، والفدع: زيغ بين القدم وعظم الساق، وكذلك إذا كان في اليد وزالت المفاصل عن أماكنها، أفاده في النهاية.
وقد روي حديث الباب موقوفا ومرفوعا.
فأخرج يحيى الحماني في مسنده- كما في الفتح [3/ 538]- ومن طريقه الحارث ابن أبي أسامة في مسنده [1/ 435- بغية الباحث] رقم 351، والحاكم في المستدرك [1/ 448] ، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 340] ، وأبو نعيم في الحلية [4/ 131] ، من حديث الحصين بن عمر- وهو ضعيف جدا وبعضهم تركه- عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن علي قال: حجوا قبل أن لا تحجوا، فكأني أنظر إلى حبشي أصمع بيده معول ينقضها حجرا حجرا، قلنا لعلي: أبرأيك؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكن سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم. -(2/270)
481- وقيل: لو أن رجلا بمكة قيل له: طف بهذا البيت، فيقول:
لا أطوف، فتؤخذ رجله ويطاف به حول الكعبة لغفر له وإن كان مكرها.
482- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: دخول البيت دخول في حسنة وخروج من سيئة، فيخرج مغفورا له.
- ورواه جماعة عن أبي العالية، عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه، أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الغريب [2/ 140] ، والحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 137] رقم 9178، والأزرقي في تاريخه [1/ 276] ، والفاكهي في أخبار مكة كذلك [1/ 194] رقم 313.
وروي أيضا من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا عليه أيضا، أخرجه الحافظ عبد الرزاق [5/ 137، 137- 138] رقم 9179، 9180.
قال أبو عاصم: وأصل الحديث في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن أبي مليكة، عن ابن عباس مرفوعا: كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا، أخرجه في المناسك، باب هدم الكعبة.
(481) - قوله: «لا أطوف» :
يعني: لا أقدر على ذلك لمرض أو ضعف ونحوهما.
قوله: «وإن كان مكرها» :
يريد على معنى التكلف، لابد من هذا التفسير والتأويل ليتصور ترتيب الأجر المذكور المبني على ذلك. والله أعلم.
(482) - قوله: «دخول البيت دخول في حسنة» :
مدار هذا الحديث على عبد الله بن المؤمل- أحد الضعفاء- ومع ذلك فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم 3013، والبزار في مسنده [2/ 43 كشف الأستار] رقم 1161، والطبراني في معجمه الكبير [11/ 177] رقم 11414، أيضا في [11/ 200- 201] رقم 11490، وابن عدي في-(2/271)
483- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نظر إلى البيت إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويحشر يوم القيامة في الآمنين.
484- وعن سعيد بن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه.
485- وعن محمد بن السائب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا تحاتت ذنوبه كما يتحات الورق من الشجر.
- الكامل [4/ 1456] ، ومن طريقه السهمي في تاريخ جرجان [/ 208] ، والبيهقي في السنن الكبرى [5/ 158] ، وفي الشعب [3/ 455] رقم 4053.
وأخرجه الأزرقي في تاريخه [2/ 9] ، من حديث رجل، عن مجاهد قوله:
النظر إلى الكعبة عبادة، ودخول فيها دخول في حسنة، وخروج منها خروج من سيئة.
(484) - قوله: «من نظر إلى الكعبة» :
قول ابن المسيب أخرجه الأزرقي في تاريخه [2/ 9] ، والجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور [1/ 328]-.
(485) - قوله: «وعن محمد بن السائب» :
هو الكلبي، الإخباري المفسر: أبو النضر، أحد المتروكين، ترجمنا له في باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للمناسبة هناك.
قوله: «كما يتحات ورق الشجر» :
أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 9] ، والجندي في فضائل مكة- كما في الدر المنثور [1/ 328]-.
وقد روي نحو هذا من حديث محمد بن علي قوله، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 135] رقم 9172.(2/272)
486- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الكعبة محض الإيمان.
487- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نظر إلى البيت نظرة من غير طواف ولا صلاة كان أفضل عند الله من عبادة سنة صائما قائما راكعا ساجدا.
- وأخرج البيهقي في الشعب [3/ 455] رقم 4052، عن عطاء بن أبي رباح قوله: النظر إلى البيت عبادة، زاد الحافظ عبد الرزاق رقم 9173 من وجه آخر عنه: وتكتب له بها حسنة، وتصلي عليه الملائكة ما دام ينظر إليه.
وأخرج الأزرقي في تاريخه [2/ 9] ، والجندي في فضائل مكة، وابن أبي شيبة- كما في الدر المنثور [1/ 328] أيضا عن عطاء وزادوا عنه: والناظر إلى البيت بمنزلة الصائم القائم الدائم المخبت المجاهد في سبيل الله، وأخرج الجندي في فضائل مكة عن عطاء قوله: إن نظرة إلى هذا البيت في غير طواف ولا صلاة تعدل عبادة سنة، قيامها وركوعها وسجودها، ذكره في الدر المنثور.
486- قوله: «وعن ابن عباس» :
أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 9] ، ومن طريقه الفاسي في شفاء الغرام [1/ 183] ، وعزاه في الدر المنثور [1/ 328] أيضا للجندي في فضائل مكة.
وأخرج الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 8] ، من طريق أبي الأشعث بن دينار، عن يونس بن خباب قال: النظر إلى الكعبة عبادة فيما سواها من الأرض، عبادة الصائم القائم الدائم القانت.
(487) - قوله: «من نظر إلى البيت» :
انظر ما قبله والتعليق عليه.(2/273)
488- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى في المسجد الحرام في جماعة صلاة واحدة كتب الله له ألفي ألف صلاة وخمس مائة ألف صلاة.
489- وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ:
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ، ثم قال: هي الصلوات الخمس في الجماعة في المسجد الحرام.
490- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحاج والمعتمر وفد الله، إن سألوا أعطوا، وإن دعوا أجيبوا، وإن أنفقوا أخلف عليهم بكل درهم ألف درهم، والذي نفسي بيده ما أهل مهل، ولا كبّر مكبّر إلا أهل بتهليله وكبر بتكبيرة ما بين يديه حتى ينقطع التراب.
491- وفي حديث آخر فقال رجل: يا رسول الله وأنى هذه (488) - قوله: «كتب الله له ألفي ألف صلاة» :
أخرجه الفاكهي في تاريخه [2/ 105- 106] رقم 1223، ومن طريقه التقي الفاسي في شفاء الغرام [1/ 81] ، من حديث المبارك بن حسان عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة قولهما موقوفا عليهما، وفي إسناده الحكم بن عبد الله الأيلي القرشي هو وشيخه المسيب ابن واضح ضعيفان.
(489) - قوله: «هي الصلوات الخمس» :
أخرجه الجندي في فضائل مكة- كما في شفاء الغرام [1/ 81]-، وابن مردويه في تفسيره- كما في الدر المنثور [5/ 687]-.
(490) - قوله: «حتى ينقطع التراب» :
أخرجه البيهقي في الشعب [3/ 475] رقم 4104، وأبو الشيخ في الثواب- كما في الكنز [5/ 19] رقم 11867-.
(491) - قوله: «وفي حديث آخر» :
أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [1/ 418- 419] رقم 907، وأوله: الحاج-(2/274)
المضاعفة؟ قال: أما والذي نفسي بيده، أما نفقاتهم فيخلفها الله لهم في الدنيا قبل أن يخرجوا منها، وأما الألف ففي الآخرة، والذي بعثني بالحق للدرهم الواحد أثقل من جبلكم هذا- وأشار إلى أبي قبيس-.
492- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جلس مستقبل الكعبة ساعة واحدة محتسبا حبّا لله ولرسوله وتعظيما للقبلة كان له أجر الحاج والمعتمر والمجاهد في سبيل الله والمرابط الصائم القائم، وأول من ينظر الله إليه من عباده إلى أهل الحرم، فمن رآه طائفا غفر له، ومن رآه جالسا مستقبل الكعبة غفر له.
493- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم عرفة بالموقف يفتح الله عزّ وجلّ أبواب السماء فيباهي بهم الملائكة فيقول لهم: انظروا إلى- والعمار وفد الله ... الحديث، وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي- وهو متروك-، عن أبيه- وليس بالقوي-، عن أبي سهيل، عن أبي هريرة، أخرج أوله ابن ماجه والبيهقي- كما تقدم- من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة دون سؤال الرجل وما بعده.
(492) - قوله: «من جلس مستقبل الكعبة» :
لم أقف عليه.
(493) - قوله: «إذا كان يوم عرفة» :
هو طرف من حديث ابن عمر الطويل، أوله: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن؟ قال: اجلس، وجاء آخر من ثقيف فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك الأنصاري، قال: فقال الأنصاري: إنه رجل غريب، وإن للغريب حقا، فابدأ به، فأقبل صلى الله عليه وسلم على الثقفي فقال: إن شئت أنبأتك عما كنت تسألني، وإن شئت تسألني وأخبرك ... الحديث بطوله، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في-(2/275)
عبادي شعثا غبرا، جاءوني من كل فج عميق، يرجون مغفرتي، قد غفرت لهم جميعا، أفيضوا عبادي كلكم مغفورا لكم، مشفّعين فيمن شفّعتم، فلو كانت ذنوبكم مثل عدد الرمال، أو كانت ذنوبكم مثل عدد القطر يغفرها الله لكم.
494- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج حجة الإسلام، وطاف طواف الزيارة، فإنه يطوف يومئذ ولا ذنب له، يأتيه ملك فيضع يده بين كتفيه ويقول: اعمل لما يستقبل، قد كفيت ما مضى.
- المصنف [5/ 15] رقم 8830، ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير [12/ 425] رقم 13566، والبزار في مسنده [2/ 8 كشف الأستار] رقم 1082، والفاكهي في أخبار مكة [1/ 423] رقم 918، والبيهقي في الدلائل [6/ 294] ، وصححه ابن حبان- كما في الموارد- برقم 963.
وفي الباب عن أنس بن مالك، وأبي بن كعب يأتي في الفقرة التالية.
(494) - قوله: «فإنه يطوف يومئذ ولا ذنب له» :
هو طرف من حديث أنس بن مالك الطويل بنحو حديث ابن عمر المتقدم وفيه: فقال الثقفي: يا رسول الله أرأيت إن كانت ذنوبي أقل من ذلك؟
قال: يذخر لك في حسناتك، قال صلى الله عليه وسلم: وأما طوافك بالبيت بعد ذلك (يعني الإفاضة) فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع كفه بين كتفيك ... الحديث.
أخرجه البزار في مسنده [2/ 9 كشف الأستار] رقم 1083، ومسدد كذلك [1/ 26 المطالب العالية] رقم 84، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 5- 6] ، والفاكهي في أخبار مكة [1/ 425] رقم 919، والأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم 1009، قال الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 276] : رواه البزار وفيه إسماعيل ابن رافع وهو ضعيف.
وفي الباب عن أبي بن كعب، أخرجه الفاكهي [1/ 425] رقم 920.(2/276)
495- وروي مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا حج المسلم ولم يقبل منه يحط عنه وزر سبعين سنة، قيل: يا رسول الله فإن لم يكن له وزر سبعين سنة؟ قال: يحط عن أبويه، قيل: فإن لم يكن؟ قال: عن أهل بيته.
496- وقال صلى الله عليه وسلم: إن للحاج بكل خطوة يخطوها سبع مائة حسنة من حسنات الحرم، قالوا: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال:
الحسنة الواحد بمائة ألف حسنة.
(495) - قوله: «وروي مسندا» :
لم أقف عليه.
(496) - قوله: «إن للحاج بكل خطوة» :
رواه يحيى بن سليم، عن محمد بن مسلم، وقد اختلف عليهما فيه: عن إسماعيل بن أمية مرة، ومرة: عن إسماعيل بن إبراهيم، ومرة عن إبراهيم بن ميسرة، ومرة عمن حدثهم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
أخرجه بالأوجه المذكورة عنهم أبو يعلى- كما في المطالب [1/ 317] رقم 1061، والبزار في مسنده [2/ 26 كشف الأستار] رقم 112، والطبراني في معجمه الكبير [12/ 75- 76] رقم 12522، وفي الأوسط [3/ 326- 327] رقم 2696، وابن عدي في الكامل [4/ 1570] ، وأبو نعيم في أخبار أصبهان [2/ 354] ، والفاكهي في تاريخ مكة [1/ 392] رقم 832، وأبو الوليد في تاريخ مكة [2/ 7] ، وابن الجوزي في العلل [2/ 76] رقم 931، 932.
ارتضاه الضياء المقدسي فأخرجه في المختارة [10/ 54] رقم 47، وقال:
محمد بن مسلم تكلم فيه بعض الأئمة، وقد وثقه يحيى وروى له مسلم، ويحيى بن سليم قال أبو حاتم: لا يحتج به، ولم يبين الجرح، وقد وثقه يحيى، وروى له البخاري ومسلم. -(2/277)
497- وقال صلى الله عليه وسلم: لو أن الملائكة صافحت أحدا لصافحت الغازي في سبيل الله، والبار بوالديه، والطائف ببيت الله الحرام.
498- وقال صلى الله عليه وسلم: الطواف بالبيت خوض في رحمة الله.
- قال الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 209] : فيه إسماعيل بن إبراهيم ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
قلت: له إسناد آخر من رواية عيسى بن سوادة أحد الضعفاء غير أن ابن خزيمة ارتضى حديثه هذا فصححه برقم 2791.
وأخرجه البزار في مسنده [2/ 25 كشف الأستار] رقم 1120، والطبراني في معجمه الكبير [12/ 105] رقم 12606، والدولابي في الكنى [2/ 13] ، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 331] ، وفي الشعب [3/ 431] رقم 3981.
* رواه يحيى بن سليم مرة عن ابن جريج، عن عطاء قوله، أخرجه الفاكهي [1/ 397] رقم 844.
ورواه زيد بن الحواري- وهو ضعيف- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله، فالاضطراب في سنده ظاهر فيه. والله أعلم.
(497) - قوله: «لو أن الملائكة صافحت أحدا» :
لم أقف عليه، لكن أخرج الفاكهي في أخبار مكة [2/ 276] رقم 1518، من حديث عبد الله بن عمرو قوله: إذا بلغ الحاج أنصاب الحرم تلقتهم الملائكة على جنبتي الحرم، فأشاروا بالسلام على الجمالة، وصافحوا البغالة، واعتنقوا الرجالة اعتناقا، موقوف، وفي إسناده لين ومستور، ومثله يروى في هذا الباب.
(498) - قوله: «الطواف بالبيت خوض في رحمة الله» :
أخرج أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 4] ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده مرفوعا: إذا خرج المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض في الرحمة، فإذا دخله غمرته ... الحديث. -(2/278)
499- وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ ليباهي بالطائفين ملائكته.
500- وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عمل أفضل من حج مبرور.
501- وقال صلى الله عليه وسلم: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
- وأخرجه من وجه آخر عن عمرو بن شعيب وفيه: من توضأ وأسبغ الوضوء ثم أتى الركن يستلمه خاض في الرحمة ... الحديث، معناه صحيح وإسناده ضعيف.
(499) - قوله: «ليباهي بالطائفين ملائكته» :
هو طرف من حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم تخريجه تحت رقم: 457.
(500) - قوله: «ما من عمل أفضل من حج مبرور» :
أخرج الإمام البخاري في المناسك من صحيحه، باب فضل الحج المبرور، من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور، وأخرج في الباب حديث أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور، وأخرج الإمام أحمد في مسنده [2/ 258] ، والطيالسي برقم 2518 من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور، صححه ابن حبان- كما في الإحسان- برقم 4597.
وأخرج الإمام أحمد [4/ 114] ، من حديث عمرو بن عبسى مرفوعا: أفضل الأعمال حجة مبرورة أو عمرة مبرورة.
(501) - قوله: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» :
هو طرف من حديث أبي هريرة عند الشيخين، أوله: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ... الحديث، أخرجه البخاري في العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، رقم 1773، ومسلم في المناسك، باب فضل الحج-(2/279)
502- وقال صلى الله عليه وسلم: من حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه.
503- وقال صلى الله عليه وسلم: خلق الله عزّ وجلّ لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها في كل يوم، ستون منها للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين.
- والعمرة، رقم 1349، وخرجناه في المناسك من مسند الحافظ أبي محمد الدارمي تحت رقم 1923- فتح المنان.
(502) - قوله: «من حج ولم يرفث» :
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وخرجناه في المناسك من مسند الحافظ أبي محمد الدارمي تحت رقم 1924- فتح المنان.
(503) - قوله: «خلق الله عزّ وجلّ لهذا البيت» :
كذا قال في أوله، وقال غيره: ينزل الله في كل ليلة، وفي رواية: إن لله في كل ليلة، أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده- كما في بغية الباحث- رقم 376، وأبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة [2/ 8] ، ومن طريقه الزبيدي في الإتحاف [4/ 272] .
وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير [11/ 124، 195] رقم 11248، 11475، وفي الأوسط [7/ 169] رقم 6310، وابن عدي في الكامل [6/ 2280] ، ومن طريقه البيهقي في الشعب [3/ 454- 455] رقم 4051، والخطيب في تاريخه [6/ 27] ، والفاكهي في أخبار مكة [1/ 198، 199] رقم 324، 325، والتقي الفاسي في شفاء الغرام [1/ 167] ، والأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم 1046، والشجري في آماليه [2/ 59] ، من طرق عن عطاء، وابن أبي مليكة، عن ابن عباس مرفوعا، حسنه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، والمنذري في الترغيب والترهيب- فيما ذكره الحافظ البوصيري في إتحاف الخيرة [4/ 93]-، والسخاوي فيما ذكره الزبيدي في الإتحاف [4/ 272] ، وقال: فإذا اجتمعت طرق هذا الحديث ارتقى إلى مرتبة-(2/280)
504- وقال صلى الله عليه وسلم: جهاد الكبير وجهاد الضعيف وجهاد المرأة:
الحج والعمرة.
- الحسن، اه. وحكى التقي الفاسي أن الحافظ توقف فيه، ونقل الزبيدي في الإتحاف عن البلقيني قوله: لم أقف على إسناد صحيح له.
قلت: ورواه ابن جريج مرة عن عطاء فأوقفه على ابن عباس، أخرجه الفاكهي برقم 326، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وحسان بن عطية قوله.
حديث عبد الله بن عمرو أخرجه الفاكهي في تاريخه برقم 327 وفي إسناده جعفر بن محمد الأنطاكي قال ابن حجر في اللسان: ليس بثقة.
وأما حديث حسان بن عطية فأخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 8] .
(504) - قوله: «جهاد الكبير» :
أخرجه الإمام أحمد في مسنده [2/ 421] ، والنسائي في المناسك، باب فضل الحج رقم 2626، وسعيد بن منصور في سننه برقم 2344، والبيهقي في السنن الكبرى [4/ 350] ، جميعهم من حديث يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي هريرة به مرفوعا.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 306] ، قال: رجاله رجال الصحيح.
قلت: رواه ابن جريج، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم به مرسلا، أخرجه الحافظ عبد الرزاق في المصنف [5/ 308] رقم 9709، ولا يضر هذا لأن الذين أسندوه عن ابن الهاد ثقات.(2/281)
[91- فصل: ذكر اعتناء السّلف بحجّ البيت وعدم تركهم له]
91- فصل:
ذكر اعتناء السّلف بحجّ البيت وعدم تركهم له 505- قال السري السقطي: سمعت علي بن الموفق وهو راجع من الحج يقول: إلهي لا تجعل هذا آخر عهدي ببيتك وزيارته، إلهي (505) - قوله: «قال السري السقطي» :
قال الحافظ الذهبي في السير: هو الإمام القدوة، شيخ الإسلام: السري بن المغلس السقطي، أبو الحسن البغدادي، صحب معروفا الكرخي، وهو أجل أصحابه. اه. كان رحمه الله صاحب أحوال وتأله، وله أقوال مأثورة، انظرها في:
تاريخ بغداد [9/ 187] ، حلية الأولياء [10/ 116] ، العبر [2/ 5] ، سير أعلام النبلاء [12/ 185] ، صفة الصفوة [2/ 209] ، البداية والنهاية [11/ 13] ، مرآة الجنان [2/ 158] ، الرسالة القشيرية [/ 12] ، طبقات الصوفية [/ 48] ، النجوم الزاهرة [2/ 339] ، طبقات الصوفية للشعراني [1/ 86] ، لسان الميزان [3/ 13] .
قوله: «علي بن الموفق» :
الإمام الزاهد، قال الحافظ الذهبي: أحد مشايخ الطريق، له أحوال ومقامات، توفي سنة خمس وستين ومائتين، انظر عنه:
تاريخ بغداد [12/ 110] ، المنتظم [12/ 202] ، البداية والنهاية [11/ 38] ، الوافي بالوفيات [22/ 265] ، حلية الأولياء [10/ 312] ، طبقات الحنابلة [1/ 230] ، صفة الصفوة [2/ 218] ، الكامل لابن الأثير [6/ 22] ، النجوم الزاهرة [3/ 41] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 265- ص 139] ، مثير العزم الساكن لابن الجوزي [1/ 221] رقم 398.(2/282)
استحييت من كثرة ما أقول: لا تجعل هذا آخر عهدي، وأنت تفعل ذلك، ثم قال: إلهي حججت ستين حجة، إلهي إن قبلت مني فقد وهبت من ذلك ثلاثين حجة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وثواب عشر حجج لخصمائي، وثواب عشر حجج لوالديّ، وثواب عشر حجج لي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، ثم رجع إلى راحلته فغلبته عيناه فرأى في المنام كأن قائلا يقول له: يا علي بن الموفق، أعليّ تتسخّى وأنا خلقت السخاء، إني أشهدك وأشهد ملائكتي أني قد غفرت لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فانتبه علي بن الموفق وبكى ثلاثة أيام ولياليها وهو يقول: يا واسع المغفرة اغفر لنا برحمتك.
506- وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول إذا وقف بعرفة:
اللهمّ أنت دعوت إلى حج بيتك الحرام، ووعدت المنفعة على شهود مناسكك، وقد جئتك، فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وأن تقيني عذاب النار.
507- وعن سفيان بن عيينة، عن ابن عبد الملك قال: حج عمر بن قوله: «وهو راجع من الحج يقول» :
الحكاية مخرجة في مظان ترجمته، وقد ذكرتها لك.
(506) - قوله: «وعن عمر بن عبد العزيز» :
أمير المؤمنين، الخليفة الأموي الراشد، أخرنا ترجمته فذكرناها في باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم للمناسبة هناك.
(507) - قوله: «عن ابن عبد الملك» :
أظنه مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو سعيد القرشي، الأموي، فإنه يروي عن ابن عمه كما في تهذيب الكمال، ويروي عنه والد-(2/283)
عبد العزيز بالناس فلما نظر إلى مجتمع الناس بعرفة قال: اللهمّ زد في إحسان محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وراجع بمسيئهم إلى التوبة، وحط من أوزارهم بالرحمة.
قال ابن عيينة: هكذا يكون الداعي، يدعو لأهل رعيته.
- سفيان بن عيينة: عيينة بن أبي عمران، انظر عن مسلمة في:
تهذيب الكمال [27/ 562] ، سير أعلام النبلاء [5/ 241] ، تهذيب التهذيب [10/ 131] ، ثقات ابن حبان [7/ 49] ، التاريخ الكبير [7/ 387] ، الجرح والتعديل [8/ 266] ، الكاشف [3/ 127] ، التقريب [/ 531] ، الترجمة رقم 6660.(2/284)
[92- فصل: في ذرع المسجد الحرام]
92- فصل:
في ذرع المسجد الحرام 508- مكسرا: مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع، ذرع المسجد طولا من باب بني جمع إلى باب بني هاشم: أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، وعرضه من باب دار الندوة إلى الجدار الذي يلي الوادي: ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرع عرض المسجد الحرام من المنارة التي عند المشعر إلى المنارة التي بباب بني شيبة: مائتا ذراع وثمانية وسبعون ذراعا، وذرع عرض المسجد من منارة باب أجياد إلى منارة بني سهم: مائتا ذراع وثمانية وسبعون ذراعا.
(508) - قوله: «مكسرا مائة ألف» :
هو رواية عن أبي الوليد في تاريخه [1/ 81] ، فهو مسند عن المصنف من طريقه.(2/285)
[93- فصل: في صفة باب الكعبة]
93- فصل:
في صفة باب الكعبة 509- وطول باب الكعبة في السماء: ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرض ما بين جداريه: ثلاثة أذرع وثماني عشرة أصبعا، والجدران وعتبة الباب العليا ونجاف الباب ملبس صحائف ذهب منقوش، وفي جدار عضادتي الباب أحد عشر حلقة من حديد مموه بالفضة متفرقة: في كل جدار سبع حلق يشد بها جوف الباب من أستار الكعبة، وعلى وسط البابين حلقتان من فضة مموه بالذهب سوى ما يقفل عليه.
واتفق في شهور سنة ست وثمانين وثلاثمائة خروج بعض إخواننا، وكان جميل النية، فأشرت عليه بحمل حلقتين عظيمتين حسناوتين، ففعل، وعلق فوق هاتين: الحلقتين اللتين ذكرتهما، وضوء الذهب ظاهر عليهما. تقبل الله ذلك منه.
(509) - قوله: «وطول باب الكعبة» :
هو رواية عن أبي الوليد في تاريخ مكة [1/ 306] ، فهو مسند عن المصنف بالإسناد المتقدم إلى أبي الوليد، وكذا ما سيأتي في هذا الباب.(2/286)
[94- فصل: في صفة عتبة باب الكعبة]
94- فصل:
في صفة عتبة باب الكعبة 510- وفي عتبة الباب: ثمانية عشر مسمارا، منها: أربعة على الباب، وأربعة عشر على وجه العتبة، والمسامير حديد، ملبسة ذهبا، مقببة منقوشا، تدوير كل مسمار سبع أصابع، وعود الباب ساج، وغلظه ثلاثة أصابع، وعليه غلق، وعلى الحاجب كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وعدد المسامير: مائتا مسمار، منها: مائة كبار، والباب حديد ملبسان ذهبا، وفي المصراعين سلوفينتا فضة مموهتان، وفي السلوفينتين لبنتان من ذهب مرتفعتان، وفي طرف السلوفينتين حلقتا ذهب، سعة كل حلقة: ثمان أصابع، وهما حلقتا قفل الباب، وهما على ذراعين وستة عشر أصبعا من الباب، والقفل حديد مموه.
(510) - قوله: «وفي عتبة الباب» :
هو رواية عن أبي الوليد في تاريخه [1/ 307] ، بلفظ مختصر.(2/287)
[95- فصل: ذرع الكعبة من داخل]
95- فصل:
ذرع الكعبة من داخل 511- طول الكعبة في السماء من داخلها إلى السقف الأسفل:
ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا، وعرض جدار التحجير الذي فوق سطح الكعبة: ذراعان واثنا عشر إصبعا، وعرض جدار التحجير كما يدور: ذراع، وفي التحجير ملبن مربع من ساج في جدرات سطح الكعبة، كما يدور فيه حلق حديد يشد فيها ثياب الكعبة، وظهرها مشيد بالمرمر المطبوخ شيد به تشييدا.
وميزاب الكعبة في وسط الجدار الذي يلي الحجر، بين الركن الشامي والركن الغربي، يسكب في بطن الحجر، وذرع طول الميزاب:
أربعة أذرع، وسعته: ثمانية أصابع، في ارتفاع مثلها، والميزاب ملبس بصفائح من ذهب، داخله وخارجه، وكان الذي جعل عليه الذهب:
الوليد بن عبد الملك.
(511) - قوله: «طول الكعبة في السماء» :
هو رواية عن أبي الوليد، انظر تاريخه [1/ 290- 291] .
قوله: «ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا» :
عبارة أبي الوليد: ثمانية عشر ذراعا ونصف، وكذا في التي بعدها: ذراعان ونصف.
قوله: «وظهرها» :
يريد: أرض سطح الكعبة، كما هي عبارة أبي الوليد.(2/288)
وذرع داخل الكعبة من وجهها من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي، وفيه باب الكعبة: تسعة عشر ذراعا وعشرة أصابع، وذرع ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي- وهو الشق الذي يلي الحجر-: خمسة عشر ذراعا، وثمانية عشر أصبعا، وذرع ما بين الركن الغربي إلى الركن اليماني- وهو ظهر الكعبة-: عشرون ذراعا وستة أصابع، وذرع ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود: ستة عشر ذراعا وستة أصابع.(2/289)
[96- فصل: في ذرع البيت من خارج]
96- فصل:
في ذرع البيت من خارج 512- طوله في السماء: سبع وعشرون ذراعا.
وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامي:
خمس وعشرون ذراعا، وذرع شقها اليمنى من الركن الأسود إلى الركن اليماني: عشرون ذراعا، وذرع شقها الذي يلي الحجر من الركن الشامي إلى الركن الغربي: واحد وعشرون.
وذرع جميع الكعبة مكسرا: أربعمائة ذراعا وثمانية عشر ذراعا.
وذرع نفد جدار الكعبة ذراعان.
والذراع أربعة وعشرون أصبعا.
قال: والكعبة لها سقفان: أحدهما فوق الآخر.
(512) - قوله: «طوله في السماء» :
هو رواية عن أبي الوليد أيضا، انظر تاريخه [1/ 289- 290] .(2/290)
[97- فصل: في الشّاذروان حول الكعبة]
97- فصل:
في الشّاذروان حول الكعبة 513- من خارجها في السماء من البلاط المفروش حولها سبعة وعشرون ذراعا، وعدد حجارة الشاذروان التي حول الكعبة: ثمانية وستون حجرا في ثلاثة أوجه، وفي الشاذروان الذي يلي الملتزم إلى الركن الأسود: ذراعان ليس فيهما شاذروان، طول الشاذروان في السماء: سبعة عشر إصبعا، وعرضه: ذراع، وطول درجة الكعبة التي يصعد عليها إلى بطن الكعبة من خارج إلى بطن: ثمانية أذرع واثنا عشر إصبعا، وعرضها ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعا.
وفيها من الدرج: ثلاثة عشر درجة، ومن خشب الساج، ومن حذاء الشاذروان إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود: ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعا ليس فيه شاذروان، ومن الشاذروان إلى عتبة الباب أربعة أذرع.
(513) - قوله: «في الشاذروان حول الكعبة» :
هو رواية عن أبي الوليد في تاريخه [1/ 309- 310] ، فهو مسند عن المصنف بإسناده إليه.(2/291)
[98- فصل: ذكر الكراسي الموجودة في الكعبة]
98- فصل:
ذكر الكراسي الموجودة في الكعبة 514- وفي الكعبة ثلاثة كراسي من ساج.
طول كل كرسي في السماء: ذراع ونصف.
وعرض كل كرسي منها: ذراع وثمانية أصابع في مثلها.
والكراسي عليها صفائح ذهب، وفوق الذهب: الديباج.
وتحت الكراسي رخام المرمر بقدر سعة الكراسي.
وطول الرخام في السماء: سبعة أصابع.
وعلى الكراسي: أساطين متفرقة.
الأسطوانة الأولى التي على باب الكعبة ثلثها صفائح ذهب وفضة وبقيتها مموهة.
وذرع غلظها: ذراعان واثنا عشر إصبعا.
514- قوله: «وتحت الكراسي رخام المرمر» :
كذا عندنا، وفي المطبوع من تاريخ أبي الوليد: رخام أحمر.(2/292)
[99- فصل: في صفة الرّوازن الّتي للضّوء في سقف الكعبة]
99- فصل:
في صفة الرّوازن الّتي للضّوء في سقف الكعبة 515- وفي سقف الكعبة: أربع روازن.:
أحدها: حيال الركن الغربي.
والثاني: حيال الركن اليماني.
والثالث: حيال الركن الأسود.
والرابع: حيال الركن الوسطى.
والروازن مربعة، أعلاها رخام يماني، يدخل منه الضوء إلى بطن الكعبة.
(515) - قوله: «والروازن مربعة» :
اختصر المصنف ما يتعلق بالترجمة، انظر: تاريخ أبي الوليد [1/ 293- 296] .(2/293)
[100- فصل: في صفة الدّرجة]
100- فصل:
في صفة الدّرجة 516- وفي الكعبة إذا دخلتها على يمينك درجة يظهر عليها إلى سطح الكعبة، وهي مربعة مع جدري الكعبة في زاوية الركن الشامي، منها داخل في الكعبة، من جدرها الذي فيه بابها ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعا، وعرضه ذراع واثنا عشر إصبعا.
وبابها ساج فرد أعسر وعليه صفائح فضة أمر به المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين.
وطول الدرجة في السماء من بطن الكعبة: عشرون ذراعا.
وعدد أضفارها ثمانية وأربعون ضفرا.
وعرض الدرجة ذراع وأربعة أصابع، وفي الدرجة ثماني كوى داخلة في الكعبة.
(516) - قوله: «وفي الكعبة إذا دخلتها» :
رواية عن أبي الوليد في تاريخه [1/ 294] بلفظ مختصر، وقد عبر المصنف هنا بقياس الإصبع بدل: نصف ذراع، كما هو تعبير الوليد، فهو مسند عن المصنف بالإسناد المتقدم إليه.(2/294)
[101- فصل: في صفة الجزعة وذرعها]
101- فصل:
في صفة الجزعة وذرعها 517- وفي البيت جزعة مقابل باب الكعبة، سوداء مخططة ببياض، ذرع سعتها اثنا عشر إصبعا في مثلها، وحولها طوق من ذهب، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مقابلتها.
[102- فصل: في صفة الإزار الرّخام الأسفل الّذي في بطن الكعبة]
102- فصل:
في صفة الإزار الرّخام الأسفل الّذي في بطن الكعبة 518- وبطن الكعبة مؤزرة، مدارة من داخلها برخام أحمر وأبيض وأخضر، وألواح ملبسة ذهبا وفضة، وهما إزاران:
إزار أسفل، فيه ثمانية وثلاثون لوحا، طول كل لوح: ذراعان وثمانية أصابع.
من ذلك: الألواح البيض: أحد وعشرون لوحا:
(517) - قوله: «وفي البيت جزعة» :
رواية عن أبي الوليد في تاريخه [1/ 293] .
(518) - قوله: «وبطن الكعبة مؤزرة» :
رواية عن أبي الوليد في تاريخ مكة [1/ 295] .(2/295)
منها في الجدار الذي بين الركن اليماني سبعة ألواح.
ومنها في الملتزم لوحان.
ومنها في الجدار الذي فيه باب الكعبة ثلاثة ألواح.
ومنها في الجدار الذي يلي الحجر أربعة ألواح.
وعدد الألواح الخضر: تسعة عشر لوحا:
منها في الجدار الذي بين الركن الغربي والركن اليماني أربعة ألواح.
ومنها في الجدار الذي بين الركن اليماني والركن الأسود أربعة ألواح.
ومنها في الجدار الذي في الباب خمسة.
ومنها في الملتزم لوحان.
ومنها في الجدار الذي يلي الحجر: أربعة.(2/296)
[103- فصل: في صفة الإزار الأعلى]
103- فصل:
في صفة الإزار الأعلى 519- وفي الإزار الأعلى الثاني: اثنان وأربعون لوحا، طول كل لوح: أربعة أذرع وأربعة أصابع، البيض من ذلك: عشرون لوحا، ومن الحمر: سبعة، ومن الخضر: ستة.
[104- فصل: في صفة فرش أرض البيت بالرّخام]
104- فصل:
في صفة فرش أرض البيت بالرّخام 520- وأرض الكعبة مفروشة برخام أبيض وأخضر وأحمر، عدد الرخام ستة وثلاثون رخامة، وعند عتبة باب الكعبة رخامتان: خضراء وحمراء مفروشتان.
(519) - قوله: «وفي الإزار الأعلى الثاني» :
عن أبي الوليد في تاريخه [1/ 295- 296] .
(520) - قوله: «وأرض الكعبة مفروشة» :
تاريخ أبي الوليد [1/ 297- 298] .(2/297)
[105- فصل: ذرع ما بين الأساطين]
105- فصل:
ذرع ما بين الأساطين 521- ذرع ما بين الجدر الذي يلي الركن الأسود والركن اليماني إلى الأسطوانة الأولى أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا، ومثلها ما بين الأسطوانة الأولى إلى الثانية ومثلها إلى الوسطى، ومثلها إلى الثالثة، ومن الثالثة إلى جدار الحجر: ذراعان وثمانية أصابع.
(521) - قوله: «ومثلها إلى الوسطى» :
اللفظ اختصره المصنف، وعبارة أبي الوليد: وذرع ما بين الأسطوانة الأولى إلى الأسطوانة الثانية: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الثانية إلى الأسطوانة الثالثة: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الثالثة إلى الجدار ... إلخ.(2/298)
[106- فصل: في عدد أساطين المسجد الحرام]
106- فصل:
في عدد أساطين المسجد الحرام 522- من شقه الشرقي: مائة وثلاث أسطوانات.
ومن شقه الغربي: مائة اسطوانة وخمس أسطوانات.
ومن شقه الشامي: مائة وخمسة وثلاثون أسطوانة.
ومن شقه اليماني: مائة واحد وأربعون أسطوانة.
فجميع ما فيه من الأساطين: أربع مائة أسطوانة وأربعة وثمانون أسطوانة، كل أسطوانة: عشرة أذرع، وتدويرها ثلاثة أذرع.
وعدد الأساطين التي على الأبواب من كل ناحية مائة وإحدى وخمسون أسطوانة.
فجميع الأساطين التي في المسجد وعلى الأبواب: ستمائة أسطوانة وخمس وثلاثون أسطوانة.
(522) - قوله: «في عدد أساطين المسجد الحرام» :
تاريخ أبي الوليد [2/ 82] .(2/299)
[107- فصل: في عدد الطّاقات]
107- فصل:
في عدد الطّاقات 523- على الأساطين أربعمائة طاقة وثمان وتسعون طاقة:
منها في الظلال التي تلي دار الندوة: مائة واثنتان وأربعون طاقة.
ومنها في الظلال التي تلي الوادي: مائة وخمس وأربعون طاقة.
ومنها ما يلي المسعى: تسع وتسعون طاقة.
ومنها التي تلي شق بني جمح: مائة واثنا عشر طاقة.
ومنها التي تلي بطن المسجد الحرام: مائة واحدى وخمسون:
من ذلك مما يلي دار الندوة: ست وأربعون.
ومنها مما يلي دار بني جمح: تسع وعشرون.
ومنها مما يلي الوادي: خمس وأربعون.
ومنها مما يلي المسعى: إحدى وثلاثون.
(523) - قوله: «في عدد الطاقات» :
تاريخ أبي الوليد [2/ 84] .(2/300)
[108- فصل: في عدد أبواب المسجد الحرام]
108- فصل:
في عدد أبواب المسجد الحرام ثلاثة وعشرون بابا:
الأول: باب بني شيبة، وهو الباب الكبير، ويعرف بباب بني عبد شمس في الجاهلية.
الثاني: باب دار القوارير، ويعرف بباب علي رضي الله عنه.
الثالث: باب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يلي زقاق العطارين الذي فيه حجرة خديجة بنت خويلد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من ذلك الباب ويخرج منه.
الرابع: باب العباس بن عبد المطلب، وعنده ميل أخضر في المسعى، داخلها منقوشة بالفسيفساء، وهي المعجون التي في أيام الخلفاء من بني أمية.
الخامس: باب بني هاشم، وهو مستقبل الوادي.
السادس: باب بني تيم.
السابع: باب أم هانىء بنت أبي طالب، يلي دور عبد شمس بني مخزوم.
قوله: «ثلاثة وعشرون بابا» :
تاريخ أبي الوليد [2/ 86] ، اللفظ هنا مختصر.
قوله: «وعنده ميل أخضر في المسعى داخلها» :
عبارة أبي الوليد: عند علم المسعى من خارج.(2/301)
* وهذه الأبواب مما يلي المسعى.
والباب الأول مما يلي أجياد الكبير، وهو يعرف بالوادي، يقال له:
باب حكيم ابن حزام- ويعرف بباب الحزامية-.
والباب الثاني يعرف اليوم بباب الخياطين.
والباب الثالث باب بني جمح.
والباب الرابع باب أبي البختري بن هشام.
والباب الخامس يلي دار زبيدة.
والباب السادس باب بني سهم، وفيها باب إبراهيم الذي يذهب منها إلى العمرة، وباب الحزورة.
* وفي الشق الذي يلي دار الندوة ودار العجلة- وهو الشق الشامي- وفيه: ستة أبواب:
الباب الأول: يلي المنارة التي تلي بني سهم، يعرف بباب عمرو بن العاص.
والباب الثاني: قد سدّ، وجعل في دار العجلة، وموضعه بيّن.
والباب الثالث: باب دار العجلة.
والباب الرابع: باب قعيقعان.
والباب الخامس: باب دار الندوة.
قوله: «وموضعه بيّن» :
زاد أبو الوليد [2/ 93] : لمن يقابله.
قوله: «باب دار العجلة» :
وهو الذي يسمى الآن بباب الباسطية؛ لاتصاله بمدرسة عبد الباسط.(2/302)
والباب السادس: أظنه يقال له: باب الأمير.
وأما الحطيم: فما بين الركن والمقام والبيت وزمزم والحجر.
والملتزم: ما بين الباب والحجر الأسود.
قوله: «أظنه يقال له: باب الأمير» :
قال أبو الوليد [2/ 94] : الباب السادس طاق واحد، وهو باب دار شيبة بن عثمان، يسلك منه إلى السويقة.(2/303)
[109- فصل: ذكر منى واتّساعها أيّام الحجّ وسبب تسميتها بذلك]
109- فصل:
ذكر منى واتّساعها أيّام الحجّ وسبب تسميتها بذلك 524- حدثنا محمد بن سهل بن هلال رحمه الله بمكة حرسها الله، ثنا محمد بن نافع، ثنا إسحاق بن أحمد، ثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى، ثنا سليم بن مسلم، ...
(524) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
الخبر في تاريخه [2/ 179] ، من طريقه أيضا أخرجه التقي الفاسي في شفاء الغرام [1/ 323] ، سيأتي تمام تخريجه.
قوله: «حدثني محمد بن يحيى» :
هو ابن أبي عمر العدني، الإمام الحافظ شيخ الحرم ومسندها: أبو عبد الله المكي صاحب المسند، وأحد شيوخ مسلم في الصحيح، وكان صاحب عبادة ونسك، حج سبعا وسبعين حجة، وروي أنه لم يقعد من الطواف ستين سنة، انظر عنه في:
تهذيب الكمال [26/ 639] ، تهذيب التهذيب [9/ 457] ، سير أعلام النبلاء [12/ 96] ، تاريخ يحيى برواية الدوري [2/ 542] ، الجمع بين رجال الصحيحين [2/ 477] ، العقد الثمين [2/ 387] ، التاريخ الكبير [1/ 265] ، تذكرة الحفاظ [2/ 501] ، الجرح والتعديل [8/ 124] ، ثقات ابن حبان [9/ 98] ، الكاشف [3/ 95] .
قوله: «ثنا سليم بن مسلم» :
هو الخشاب، كنيته: أبو مسلم الجمحي، المكي، أحد الضعفاء، يقال:
كان جهميا، تركه النسائي، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، وسليم: بفتح السين المهملة، وكسر اللام، فرق بينهما ابن عدي وغيره، -(2/304)
عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس وسئل عن منى فقيل له: عجبا لضيقه في غير الحج؟ فقال: إن منى ليتسع بأهله كما يتسع الرحم بالولد.
- وزعم الحافظ الذهبي أنه سليمان بن مسلم فوهم.
الكامل لابن عدي [3/ 1165] ، الميزان [2/ 422] ، معرفة الرجال [1/ 58] ، الترجمة رقم 70، لسان الميزان [3/ 113] ، المغني في الضعفاء [1/ 285] ، الديوان [1/ 360] ، ضعفاء العقيلي [2/ 164] ، ضعفاء النسائي: الترجمة رقم 256، والمجروحين [1/ 354] .
قوله: «عن عبيد الله بن أبي زياد» :
هو القداح، كنيته: أبو الحصين المكي، أحد الرواة الذين يعتبر بهم ويروى لهم، قال أبو حاتم: ليس بالقوي ولا بالمتين، هو صالح الحديث، يحول من كتاب الضعفاء الذي صنفه البخاري.
تهذيب الكمال [19/ 41] ، طبقات ابن سعد [5/ 491] ، تاريخ يحيى برواية الدوري [2/ 382] ، المجروحين لابن حبان [2/ 66] ، ثقات ابن شاهين:
الترجمة رقم 955، ديوان الضعفاء [2/ 136] ، المغني [2/ 415] ، تهذيب التهذيب [7/ 13] ، الكاشف [2/ 198] ، الجرح والتعديل [5/ 315] ، الكامل لابن عدي [4/ 1634] ، التقريب [/ 371] ، الترجمة رقم 4292.
قوله: «كما يتسع الرحم بالولد» :
تابع ابن أبي عمر عن سليم: يحيى بن محمد بن ثوبان، أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [4/ 278] رقم 2621.
وروته مولاة أبي الطفيل، عن أبي الطفيل، عن أبي الدرداء به مرفوعا، أخرجه الطبراني في الأوسط [8/ 380- 381] رقم 7771، وفي الصغير- كما في مجمع الزوائد [3/ 265]- قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه.(2/305)
525- وقال صلى الله عليه وسلم: منى مناخ من سبق.
526- واستأذنت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تبني كنيفا بمنى فلم يأذن لها.
527- والعرب تسمي كل موضع يجتمع فيه الناس منى، ومن مكة إلى منى أربعة أميال، فرسخ وثلث، وهي من الحرم.
528- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إنما سميت منى منى لما يمنى فيها من الدماء.
(525) - قوله: «منى مناخ من سبق» :
خرجناه في المناسك من مسند الحافظ أبي محمد الدارمي، باب كراهية البنيان بمنى، من حديث يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بناء بمنى يظلك؟ قال: لا، فذكره، [7/ 681] رقم 2068- فتح المنان.
(526) - قوله: «واستأذنت عائشة رضي الله عنها» :
أخرجه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه [2/ 173] ، والفاكهي في أخبار مكة [4/ 283] رقم 2626، كلاهما من حديث سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عائشة به، إسناده على شرط الصحيح إلا أنه منقطع.
(528) - قوله: «إنما سميت منى» :
هكذا في الأصول عن ابن عباس، وقد أخرج أبو الوليد [2/ 180] ، هذا القول عن شيخه المتقدم محمد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي الوزير عمر بن مطرف، عن أبيه قوله.
وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال: إنما سميت منى منى لأن جبريل حين أراد أن يفارق آدم عليه السّلام قال له: تمنّ، قال: أتمنى الجنة، فسميت منى لأمنية آدم عليه السّلام، أخرجه أبو الوليد أيضا.(2/306)
قال الأستاذ أبو سعد رحمة الله عليه: بت ليلة بمنى في غير أيام الموسم، وكنت ساهرا أكثر الليل أتأذى من البعوض، فلما كان من الغد سألت بعض أهل الحرم عن البعوض بمنى، فقال: جميع السنة يكون كذا إلا أيام منى، فإنه يقل فيها.
قوله: «بت ليلة» :
هذه الحكاية ذكرها التقي الفاسي في شفاء الغرام [1/ 323] ، في معرض ذكره الآيات التي جعلها الله في منى فقال: ومن الآيات التي بمنى في أيام الحج: قلة البعوض بها على ما ذكره أبو سعيد- كذا- في شرف النبوة فيما حكى عنه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه: الوصل والمنى في فضل منى؛ فإنه قال: قال أبو سعيد في الوفا بشرف المصطفى صلى الله عليه وسلم ... ثم ذكر كلامه هنا بالحرف.
قال الشبراخيتي: اعلم أن منى بها خمس آيات: أحدها: أن ما قبل من الحصيات يرفع، والثانية: اتساعها للحجيج مع ضيقها في الأعين، والثالثة:
كون الحدأة لا تخطف منها اللحم، والرابعة: كون الذباب لا يقع في الطعام، وإن كان من شأنه أن لا ينفك عنه كالعسل والسكر، والخامسة:
قلة البعوض بها، نظمها بعضهم فقال:
وآي منى خمس فمنها اتساعها ... لحجاج بيت الله ولو جاوزوا الحدّا
ومنع حداة من تخطف لحمها ... وقلة وجدان البعوض بها عدا
وكون ذباب لا يقع في طعامها ... ورفع الحصا المقبول دون الذي ردا(2/307)
[110- فصل: ذكر مسجد الخيف وله عشرون بابا]
110- فصل:
ذكر مسجد الخيف وله عشرون بابا 529- حدثنا محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله، ثنا محمد ابن نافع، ثنا أبو محمد: إسحاق بن أحمد، ثنا أبو الوليد قال:
حدثني جدي، عن عبد المجيد، عن ابن جريج، ...
(529) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
الخبر أورده الطبري في القرى [/ 479] ، وعزاه للمصنف في كتابه هذا، وهو في تاريخ أبي الوليد [2/ 173] ، وزاد بعد قوله مسجد منى: الذي تحالفوا فيه علينا، قال ابن جريج: قلت لعثمان: أي حلف؟ قال:
الأحزاب، اه. وهو معضل.
وهكذا رواه مسدد في مسنده كما في إتحاف البوصيري [4/ 112] رقم 3440، قال الحافظ البوصيري: ورجاله ثقات.
وأخرجه الفاكهي في أخبار مكة [4/ 263] رقم 2589، من طريق سعيد بن عبد الرحمن، ثنا عبد المجيد به.
قلت: أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنا نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر.
قوله: «عن عبد المجيد» :
هو ابن عبد العزيز بن أبي روّاد الأزدي، أبو عبد الحميد المكي، الحافظ الصدوق، كان من أعلم الناس بحديث ابن جريج، تكلم فيه للإرجاء، وهو في الحديث عن ابن جريج أثبت فيه، ومن أعلم الناس به، وله عن غيره ما ينكر، أخرج له الجماعة سوى البخاري، انظر عنه في:
التاريخ الكبير [6/ 112] ، الجرح والتعديل [6/ 164] ، سير أعلام النبلاء-(2/308)
عن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قدمنا مكة نزلنا بالخيف- والخيف: مسجد منى-.
ومسجد الخيف مسجد في وسطه منارة، بقرب المنارة قبر آدم عليه السّلام، وطول السنة ترى ثمّ خضرة.
-[9/ 434] ، تهذيب الكمال [18/ 271] ، تهذيب التهذيب [6/ 339] ، الكاشف [2/ 182] ، طبقات ابن سعد [5/ 500] ، تاريخ يحيى برواية الدوري [2/ 370] ، المجروحين لابن حبان [2/ 160] ، الكامل لابن عدي [5/ 1982] ، الميزان [3/ 362] ، العقد الثمين [5/ 492] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 308] .
قوله: «عن عثمان بن أبي سليمان» :
النوفلي، القرشي، المكي قاضيها، وثقه الجمهور، استشهد به البخاري وأخرج له مسلم في الصحيح، انظر عنه في:
تهذيب الكمال [19/ 384] ، تهذيب التهذيب [7/ 111] ، الكاشف [2/ 219] ، طبقات ابن سعد [5/ 486] ، الجمع بين رجال الصحيحين [1/ 352] ، الثقات لابن حبان [7/ 192] ، التقريب [/ 384] ، الترجمة رقم 4476، ثقات ابن شاهين، الترجمة رقم 743.
قوله: «عن عبد الله بن أبي بكر» :
هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، الإمام الحافظ الحجة أبو محمد المدني أحد الأثبات.
قال الإمام أحمد: حديثه شفاء. وقال ابن عبد البر: كان من أهل العلم ثقة فقيها محدثا مأمونا، حافظا، وهو حجة فيما نقل وحمل.
تهذيب الكمال [14/ 349] ، تهذيب الأسماء واللغات [2/ 195] ، ثقات ابن حبان [7/ 10] ، الجرح والتعديل [5/ 77] ، التاريخ الكبير [5/ 54] ، -(2/309)
530- قال ابن عباس رضي الله عنهما: صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا، كلهم يخطمون بالليف.
- تهذيب التهذيب [5/ 144] ، طبقات ابن سعد [/ 283- الجزء المتمم] ، سير أعلام النبلاء [5/ 314] .
(530) - قوله: «قال ابن عباس» :
أخرجه أبو الوليد في تاريخه [1/ 69، 2/ 174] : حدثني جدي وابن أبي عمر العدني قالا: ثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة، عنه به. وزاد: يعني: رواحلهم.
قال أبو عاصم: روي هذا مرفوعا، فأخرج الطبراني في معجمه الكبير [11/ 452- 453] رقم 12283، وفي الأوسط [6/ 193] رقم 5403، والفاكهي في أخبار مكة [4/ 266] رقم 2593، من حديث أبي فضيل، عن عطاء- وكان قد اختلط- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا:
صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا، فيهم موسى عليه السّلام، وكأني أنظر إليه عليه عباءتان قطوانيتان وهو محرم على بعير من أزد شنوءة، مخطوم بخطام من ليف وله ضفران.
أعله الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 221، 297] ، باختلاط ابن السائب، وهو حديث قد حسنه المنذري في الترغيب والترهيب، وارتضاه الضياء إذ أخرجه في المختارة [10/ 292- 293] رقم 309.
وأخرج البزار بإسناد صحيح- كما في كشف الأستار [2/ 48- 49] رقم 1177، والفاكهي في أخبار مكة [4/ 266] رقم 2594، من حديث إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعا:
في مسجد الخيف قبر سبعون نبيّا.
قال البزار: لا نعلمه عن ابن عمر بأحسن من هذا الإسناد، تفرد به إبراهيم عن منصور، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد [3/ 297] : رجاله ثقات.(2/310)
531- وعن عطاء قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: لو كنت من أهل مكة لأتيت مسجد منى كل سبت.
532- وقال مجاهد رضي الله عنه: حج خمسة وسبعون نبيا، كلهم قد طاف بالبيت، فصلوا في مسجد منى، فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة في مسجد منى فافعل.
(531) - قوله: «وعن عطاء» :
هو في تاريخ الأزرقي [2/ 174] ، من حديث ابن أبي رواد، عن ابن جريج، وقد تابعه ابن عيينة عن ابن جريج أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [4/ 267] رقم 2595، من حديث شيخه ابن أبي عمر العدني، وهذا إسناد على شرط مسلم.
وعن عائشة بنت سعد قالت: كان سعد- يعني ابن أبي وقاص- يقول:
لو كنت من أهل مكة ما أخطأني جمعة لا أصلي فيه- يعني: مسجد الخيف- ولو يعلم الناس ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل، أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [4/ 267] رقم 2596، إسناده جيد، رجاله موثقون.
(532) - قوله: «وقال مجاهد» :
أخرج قوله الأزرقي في تاريخ مكة [1/ 69، 2/ 174] ، حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن خصيف، عنه به.
تابعه عبد الله بن عمران المخزومي، عن سعيد بن سالم، أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [4/ 268] رقم 2599.(2/311)
[111- فصل: في مسجد الكبش]
111- فصل:
في مسجد الكبش 533- قال أبو سعد: وبهذا الإسناد: عن أبي الوليد قال: حدثنا جدي، ثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسماعيل- أو: إسحاق- صلوات الله عليه.
(533) - قوله: «وبهذا الإسناد: عن أبي الوليد» :
يعني المتقدم برقم: 529 وهو في تاريخ مكة [2/ 175] ، إسناده صحيح.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [10/ 3224] رقم 13243، والحاكم في المستدرك [2/ 559] ، وسكت عنه هو والذهبي لأن في الطريق إليه عنده الواقدي، وحاله مشهور.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور [7/ 113] أيضا: لعبد بن حميد، وابن المنذر.
قوله: «ثنا داود بن عبد الرحمن» :
العطار، الإمام الحافظ الثقة الورع القدوة: أبو سليمان المكي فقيهها وعالمها، حديثه في الكتب الستة، وهو ممن اتفق على إمامته.
انظر عنه في: تهذيب الكمال [8/ 413] ، طبقات ابن سعد [5/ 498] ، العقد الثمين [4/ 347] ، ثقات ابن حبان [6/ 286] ، تهذيب التهذيب [3/ 266] ، الكاشف [1/ 222] ، إكمال مغلطاي [4/ 257] ، تاريخ يحيى برواية الدوري [2/ 216] ، التاريخ الكبير [3/ 241] ، الجرح والتعديل [3/ 417] .(2/312)
وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه، وكان مخزونا حتى فدى الله إسماعيل- أو: إسحاق-، وكان أعين، أقرن، له ثغاء، وكان ابنه الآخر قرب حرثا فلم يتقبل منه.
[112- فصل: ذكر قصّة فداء إسماعيل عليه السّلام]
112- فصل:
ذكر قصّة فداء إسماعيل عليه السّلام 534- والقصة: أنه لما وضع إبراهيم عليه السّلام المدية على حلق إسماعيل نودي: على رسلك، هذا فداؤه، فنظر فإذا الكبش منهبط من جبل ثبير، فخلّى إسماعيل، وسعى يتلقى الكبش ليأخذه فحاد عنه، فلم يزل يعرض له ويردّه حتى أخذه وذبحه في المنحر، فسمي مسجد الكبش.
(534) - قوله: «فنظر فإذا الكبش» :
أخرجها أبو الوليد، فهي مسندة عن المصنف بالإسناد المتقدم إلى أبي الوليد في تاريخه [2/ 175] : حدثني جدي، ثنا عبد الرحمن بن حسن بن القاسم، عن أبيه قوله.(2/313)
[113- فصل: ذكر المسافة من منى إلى المزدلفة]
113- فصل:
ذكر المسافة من منى إلى المزدلفة 535- ومن منى إلى مزدلفة: ميلان وكسر، وإن حسبت من أول المزدلفة فهي ثلاثة أميال- ومن آخر مزدلفة إلى مسجد عرفة: ثلاثة أميال، والمزدلفة كلها موقف.
536- قال ابن عباس رضي الله عنهما: حد عرفة من الجبل المشرف إلى بطن عرنة إلى جبال عرنة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة.
(535) - قوله: «ومن منى إلى مزدلفة» :
هو رواية عن أبي الوليد في تاريخه [2/ 186- 190] .
(536) - قوله: «قال ابن عباس» :
هو موصول عن المصنف بالإسناد المتقدم إلى أبي الوليد في تاريخه [2/ 194] : حدثني جدي، ثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبي نجيح- كذا وصوابه: ابن أبي نجيح- عن مجاهد، عنه به.
تابعه يحيى بن محمد، عن ابن عمير، أخرجه الفاكهي في أخبار مكة [5/ 6- 7] رقم 2719.
قوله: «إلى وصيق إلى ملتقى وصيق» :
في الأصول، في الموضعين: وضيق، بالضاد المعجمة، وكذا هو في أصول أبي الوليد، وضبطها العز بن جماعة في مناسكه [3/ 1006- 1007] ، بالصاد المهملة، وقال ياقوت في المعجم [5/ 378] : جبل أدناه لكنانة- قوم من بني عدي بن عدي- وشقه الآخر لهذيل.(2/314)
[114- فصل: حديث عبد الله بن الزّبير بن العوّام ومقتله رضي الله عنه]
114- فصل: حديث عبد الله بن الزّبير بن العوّام ومقتله رضي الله عنه 537- أخبرنا أبو عمر: محمد بن سهل بن هلال البستي بمكة حرسها الله سنة ست وسبعين وثلثمائة قال: حدثنا أبو الحسن: محمد بن قوله: «حديث عبد الله بن الزبير بن العوام» :
الأسدي، ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمير المؤمنين، أبو بكر وأبو حبيب القرشي، المكي، ثم المدني، أحد المجاهدين الأعلام.
له صحبة ورواية، عداده في صغار الصحابة، أدرك من حياته صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام وأربعة أشهر، وكان ملازما للولوج عليه صلى الله عليه وسلم لكونه من آله، وكان أحد الكبار في العلم والشرف والجهاد والديانة والتأله، وهو فارس قريش في زمانه، قال الحافظ الذهبي في السير: بويع له بالخلافة عند موت يزيد سنة أربع وستين، فحكم على الحجاز، واليمن، ومصر، والعراق، وخراسان، وبعض الشام، ولم يستوسق له الأمر، ومن ثم لم يعده بعض العلماء في أمراء المؤمنين، وعد دولته في زمن فرقة، فإن مروان غلب على الشام، ثم مصر، وقام عند مصرعه ابنه عبد الملك بن مروان، وحارب ابن الزبير، حتى قتله رضي الله عنه، فاستقل عبد الملك وآله، واستوسق لهم الأمر، إلى أن قهرهم بنو العباس بعد ملك ستين عاما، وانظر أخباره في:
التاريخ الكبير [5/ 6] ، الجرح والتعديل [5/ 56] ، الإصابة [2/ 308] ، الاستيعاب [2/ 299] ، المعرفة لأبي نعيم [3/ 1647] ، أسد الغابة [3/ 242] ، تاريخ الخلفاء [/ 211] ، تهذيب الكمال [14/ 508] ، تهذيب التهذيب [5/ 187] ، تاريخ ابن عساكر [28/ 137] ، الوافي بالوفيات [17/ 172] ، سير أعلام النبلاء [3/ 363] ، تاريخ الإسلام-(2/315)
نافع بن إسحاق الخزاعي بمكة في المسجد الحرام، ثنا أبو محمد:
إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، ثنا أبو الوليد: محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي قال: حدثني جدي، عن مسلم بن خالد الزنجي، عن يسار بن عبد الرحمن قال: شهدت ابن الزبير حين فرغ من بناء البيت، كساه القبطي وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج، فليعتمر من التنعيم.
قال: فما رأيت يوما كان أكثر عتيقا ولا أكثر بدنة منحورة من يومئذ.
538- ذكر ابن جريج قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكسو البيت القباطي.
-[عهد الخلفاء- ص 96] ، المستدرك للحاكم [3/ 547] ، الحلية لأبي نعيم [1/ 329] ، الكامل في التاريخ [4/ 348] ، العقد الثمين [5/ 141] ، غاية النهاية [1/ 419] ، تهذيب الأسماء واللغات [1/ 266] ، وفيات الأعيان [3/ 71] ، المعرفة والتاريخ [1/ 243، 543] .
(537) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
أخرجه في تاريخه [1/ 215] .
قوله: «عن يسار بن عبد الرحمن» :
كنيته: أبو الوليد المكي، يعد في التابعين، روى عن جابر بن عبد الله وحديثه عنه في صحيح مسلم.
تهذيب الكمال [34/ 393] ، تهذيب التهذيب [12/ 299] ، ثقات ابن حبان [4/ 291] ، الجرح والتعديل [9/ 307] ، الكاشف [3/ 343] ، التقريب [/ 682] ، الترجمة رقم 8438.
(538) - قوله: «ذكر ابن جريج» :
أخرجه من طرق: أبو الوليد الأزرقي في تاريخه، وزاد في رواية موسى بن عبيدة، وأبي نجيح: من بيت المال.(2/316)
539- أخبرنا أبو عمر رحمه الله، ثنا أبو الحسن، ثنا أبو محمد، ثنا أبو الوليد قال: أخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن موسى بن يعقوب، عن عمه قال: هدم ابن الزبير البيت حتى وضعه بالأرض، وبناها من أسها، وأدخل الحجر في البيت- وكان قد احترق حين احترق (539) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
أخرجه في تاريخه [1/ 215- 216] .
قوله: «عن الواقدي» :
هو العلامة الإخباري، صاحب المغازي والسير والتاريخ: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي مولاهم، القاضي أبو عبد الله المديني، أحد أوعية العلم على ضعفه المتفق عليه مع عدم الاستغناء عن حديثه في الأخبار والسير، حتى قال الخطيب: هو ممن طبّق ذكره شرق الأرض وغربها، وسارت بكتبه الركبان في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات والفقه، كان جوادا كريما مشهورا بالسخاء.
تاريخ بغداد [3/ 3] ، طبقات ابن سعد [7/ 334] ، الجرح والتعديل [8/ 20] ، الوافي بالوفيات [4/ 238] ، تذكرة الحفاظ [1/ 348] ، سير أعلام النبلاء [9/ 454] ، وفيات الأعيان [1/ 506] ، تهذيب الكمال [26/ 180] ، معجم الأدباء [18/ 277] ، مقدمة عيون الأثر [1/ 17] ، النجوم الزاهرة [2/ 184] ، التاريخ الكبير [1/ 178] ، تهذيب التهذيب [9/ 323] ، الكامل لابن عدي [6/ 2245] ، المجروحين [2/ 290] ، تاريخ يحيى برواية الدوري [2/ 532] ، القضاة لوكيع [3/ 270] ، الكاشف [3/ 73] ، التقريب [/ 498] ، الترجمة رقم 6175.
قوله: «عن موسى بن يعقوب» :
هو الزمعي، أبو محمد المدني، من رجال الأربعة، وأحد الضعفاء الذي يروى لهم في الفضائل والترغيب والترهيب، فقد أخرج له البخاري في-(2/317)
الخشب والحجارة، وانصدع بثلاث فرق، فرأيته منكسرا حتى شده ابن الزبير بالفضة، ثم أدخل الحجر في البيت- ونصب الخشب حول البيت، ثم سترها، وبنوا من وراء الستر حتى بلغ الركن الأسود، فوضعه جوفها، ولطخ جدرها بالمسك حين فرغ منها، وجعل لها بابين موضوعين بالأرض، بابا في وجهها، وبابا بإزائه من خلفها، يدخل من هذا الذي في وجهها ويخرج من الآخر، واعتمر حين فرغ من الكعبة ماشيا مع رجال من قريش وغيرهم، منهم: عبد الله بن صفوان، وعبيد بن عمير.
- الأدب، انظر عنه في:
تهذيب الكمال [29/ 171] ، تهذيب التهذيب [10/ 337] ، الكاشف [3/ 168] ، التقريب [/ 554] ، الترجمة رقم 7026، الكامل في الضعفاء [6/ 2341] ، الديوان [2/ 391] ، المغني [2/ 689] ، ثقات ابن حبان [7/ 758] .
قوله: «عن عمه» :
هو يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة القرشي، لا يكاد يعرف لقلة روايته.
ذكره البخاري في التاريخ الكبير [8/ 346] ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل [9/ 276] ، وسكتا عنه، ووثقه ابن حبان [7/ 625] .(2/318)
[115- فصل: ذكر سبب بناء ابن الزّبير البيت وما كان عليه قبل ذلك]
115- فصل:
ذكر سبب بناء ابن الزّبير البيت وما كان عليه قبل ذلك 540- أخبرنا أبو عمر، ثنا أبو الحسن، ثنا أبو محمد، ثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي أحمد، عن ابن سالم، عن ابن جريج قال: سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها، يقول: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية وتخلف وخشي منهم، لحق بمكة ليمتنع بالحرم، وحمل مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عنه، وكان يجتمع إليه الناس فيقوم فيهم بين الأيام، فيذكر مساوىء بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا، فأرسل إليه رجلا من أهل الشام في خيل من خيل الشام، فعظم على ابن الزبير الفتنة، (540) - قوله: «ثنا أبو الوليد» :
الخبر بطوله في تاريخ مكة [1/ 201 وما بعده] .
وأخرجه من طرق: الفاكهي في تاريخه [2/ 351 وما بعده] رقم 1652، 1653، وأبو نعيم في الحلية [1/ 331] ، وفي المعرفة [3/ 1650] رقم 4144، والحاكم في المستدرك [3/ 550] ، وأبو العرب التميمي في المحن [/ 174 وما بعده] ، وابن عساكر في تاريخه [28/ 229 وما بعده] .(2/319)
وقالوا: لا يستحل الحرم بسببك فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد لجّ في أمرك، وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا، وقد عملت لك غلا من فضة، وتلبس فوقه الثياب، وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه.
فقال: دعوني أياما حتى أنظر في أمري، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق في ذلك، فأبت عليه أن يذهب مغلولا، وقالت: يا بني عش كريما ومت كريما، ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا.
قال: فأبى عليهم أن يذهب إليه في غل، وامتنع في مواليه ومن تآلف إليه من أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم: الزبيرية، فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله ومن كان معه بالمدينة من بني أمية وإخراجهم إياه منها إلا ما كان من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجهز إليهم يزيد: مسلم بن عقبة المرّي في أهل الشام، وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة- وكان مسلم مريضا، في بطنه الماء الأصفر، فقال له يزيد: إن حدث بك الموت فول الحصين بن نمير الكندي على جيشك- فسار حتى قدم المدينة فقاتلوه أهل المدينة، فقاتلهم فظفر بهم، ودخلها، فقتل من قوله: «وقالوا: لا يستحل» :
كذا في الأصل، وفي تاريخ أبي الوليد: وقال، والإشكال في الجملة التالية بعدها: وقد عملت لك غلا من فضة هل هي لفاعل قال أو بالبناء للمجهول، وفي تاريخ الفاكهي: فقيل لابن الزبير: ألا نصنع لك غلا من فضة.(2/320)
قتل منهم، وأسرف في القتل- فسمي بذلك مسرفا- ونهب المدينة ثلاثا.
ثم سار إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير فولّاه ذلك، وقلّده، ومضى الحصين إلى مكة، فقاتل بها ابن الزبير أياما، وجمع ابن الزبير أصحابه، فتحصّن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد الحرام خياما ورواقا يكنّون فيها من حجارة المنجنيق، ويستظلون فيها من الشمس.
وكان الحصين بن نمير الكندي قد نصب لهم المنجنيق على أبي قبيس وعلى الأحمر- وهما أخشبا مكة- فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة حتى تحرقت كسوتها عليها فصارت كأنها جيوب النساء، فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد نارا في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شررة في الخيمة فاحترقت، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماكا من ساج ومدماكا من حجارة، من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة، قوله: «فدعا الحصين بن نمير» :
في تاريخ أبي الوليد: فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، لولا أني أكره أن أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشا من أذنك فتبول فيها، لا تكن إلا الوقاف، ثم الثقاف، ثم الانصراف، قال: فتوفي مسلم المسرف، ومضى الحصين.(2/321)
فطارت الرياح بلهب تلك النار فأحرقت كسوة الكعبة، فاحترق الساج الذي بين البناء.
وجاء النعي بموت يزيد بن معاوية، فلما احترقت الكعبة، واحترق الركن الأسود وتصدع- وكان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة- ضعفت جدران الكعبة حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها، وهي مجردة متوهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعا، فشاور ابن الزبير أشراف أهل مكة ووجوههم، فأشار بعضهم عليه بهدمها وأبي أكثرهم هدمها، ثم أجمع على هدمها وبنائها.
قوله: «فاحترق الساج الذي بين البناء» :
زاد أبو الوليد [2/ 203] : وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بسبعة وعشرين يوما، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر، فلما احترقت الكعبة ...
قوله: «ففزع لذلك أهل مكة» :
اختصر المصنف هنا ذكر وقف القتال بين ابن الزبير والحصين بن نمير بسبب وصول خبر وفاة أميرهم، وفيه: أنّ ابن الزبير أرسل إليه من يكلمه في الرجوع إلى الشام لينظر ما ينتهي إليه أمر قومه هناك.
قوله: «وأبى أكثرهم» :
زاد أبو الوليد في روايته [1/ 204] : وكان أشدهم إباء: عبد الله بن عباس وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس في حرمتها، ولكن-(2/322)
وكان رضي الله عنه يحب أن يكون هو الذي يردها على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إبراهيم وعلى ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة.
فأراد أن يبنيها بالورس، وهمّ أن يرسل إلى اليمن في ورس يشترى له، فقيل له: إن الورس ينفت ويذهب، ولكن ابنها بالفضة، فسأل عن الفضة فأخبر أن فضة صنعاء هي الأجود، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشتري له بها فضة ويكترى عليها، ثم سأل رجالا من أهل مكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروها بمقلعها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج إليه، فلما اجتمعت الحجارة وأراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى، فأقاموا بها ثلاثا فرقا من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها.
فأمر ابن الزبير بهدمها فما اجترأ على ذلك أحد، فلما رأى ذلك علاها هو بنفسه، وأخذ المعول، وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا، فصعدوا فهدموا. وأرسل عبد الله بن- ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه وأنا أنظر إليه ينقض من أعلى إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته، قال: فكان ممن أشار عليه بهدمها:
جابر بن عبد الله- وكان جاء معتمرا- وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن أمية، فأقام أياما يشاور وينظر، ثم أجمع على هدمها ...
قوله: «فصعدوا فهدموا» :
اختصر المصنف السياق، ففي رواية أبي الوليد [1/ 205- 206] : فصعدوا فهدموا، وأرقى ابن الزبير فوقها عبيدا من الحبش يهدمونها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة.(2/323)
عباس إلى عبد الله بن الزبير: لا تدع الناس يصلوا إلى غير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير.
وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة رضي الله عنها تقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر منها أذرعا، ولولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة، وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، بابا شرقيا يدخل منه الناس، وبابا غربيا يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ - قالت قلت: لا، - قال: تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه أن يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر منها، فأراها قريبا من سبعة أذرع.
فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسوّاها بالأرض، كشف عن أساس- قال: وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع أفيدع قائم عليها يهدمها بمسحاته، قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر: هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو؟ فلم أرها.
قال: فهدموها، وأعانهم الناس، فما ترجلت الشمس حتى ألصقها كلها بالأرض من جوانبها جميعا، وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادي الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير....
قلت: حديث عبد الله بن عمرو تقدم تخريجه عند ذكر حديث: استكثروا من هذا الطواف، تحت رقم: 480.(2/324)
إبراهيم، فوجدوه داخلا في الحجر نحوا من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل، آخذ بعضها ببعض، كتشبك الأصابع بعضها ببعض.
قال: فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع جدار الباب- باب الكعبة- على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة، مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريبا من الركن اليماني فكان البنّاء يبنون من وراء السّتر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه فنقر في حجرين: حجر من المدماك الذي تحته، وحجر من المدماك الذي فوقه بقدر الركن، وطوبق بينهما.
قوله: «كتشبك الأصابع بعضها ببعض» :
زاد أبو الوليد هنا [1/ 206- 207] : يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها.
قوله: «فأشهدهم على ذلك الأساس» :
في الرواية بعض الاختصار، فعند أبي الوليد [2/ 207] : فأدخل رجل من القوم- كان أيدا- يقال له: عبد الله بن مطيع العدوي عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان جميعا، ويقال:
إن مكة كلها رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفا شديدا، حتى ندم كل من أشار على ابن الزبير بهدمها، وأعظموا ذلك إعظاما شديدا، وأسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء ...(2/325)
فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله بن الزبير، وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب ويضعوه في موضعه.
وكان ابن الزبير حين هدم البيت جعل الركن في ديباجة، وأدخله في تابوت وأقفل عليه، ووضعه عنده في دار الندوة
فلما أقروه في موضعه، وطوبق عليه الحجران كبروا.
قوله: «ويضعوه في موضعه» :
في السياق بعض اختصار، ففي رواية أبي الوليد: وقال لهم ابن الزبير:
إذا دخلت في الصلاة- صلاة الظهر-، فاحملوه، واجعلوه في موضعه، فأنا أطوّل الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي- وكان ذلك في حر شديد- فلما أقيمت الصلاة كبّر ابن الزبير وصلى بهم ركعة، خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة بن عثمان، ودار الندوة يومئذ قريبة من الكعبة، فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة، فلما أقروه ...
قوله: «كبروا» :
في السياق اختصار، وتمام رواية أبي الوليد للقصة: فخفف عبد الله بن الزبير صلاته، وتسامع الناس بذلك، وغضبت فيه رجال من قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين بنته قريش، فحكّموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد فطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله في ردائه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة من قريش رجلا فأخذوا بأركان الثوب، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه.
وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلا تلك-(2/326)
ثم قال ابن الزبير: من كانت لي عليه طاعة فليخرج، فليعتمر من التنعيم، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله.
وخرج ابن الزبير ماشيا، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكرا لله تعالى، ولم ير يوما كان أكثر عتيقا، ولا أكثر بدنة- الشظية من أعلاه- موضعها بيّن في أعلى الركن- وطول الركن: ذراعان.
قوله: «فليتصدق بقدر طوله» :
وفي تاريخ أبي الوليد [1/ 210] ، نقلا عن ابن جريج وغيره قالوا:
كانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعا في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعا، قصرت بحال الزيادة، التي زاد من الحجر فيها، واستمسج ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها، فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولا في السماء، فأنا أزيد تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعا في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية، جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتي من رخام بها يقال له: البلق، فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء.
وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعا واحدا، فجعل له ابن الزبير مصراعين طولهما أحد عشر ذراعا من الأرض إلى منتهى أعلاهما اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة يصعد فيها إلى ظهرها، فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة خلّقها من داخلها وخارجها، من أعلاها إلى أسفلها، وكساها القباطي.(2/327)
منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة.
قال: فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير، إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعا، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الآخر، وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير زاد في بيت الله ما ليس منه، وأحدث فيه بابا آخر، فكتب إليه عبد الملك أن سدّ بابها الغربي الذي كان فتحه ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه.
قال: فهدم الحجاج منها: ستة أذرع وشبرا مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش التي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منه شيئا.
قوله: «وأحدث فيه بابا آخر» :
زاد أبو الوليد: فكتب إليه يستأذنه في رد البيت على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب ...
قوله: «لم يحرك منه شيئا» :
تمام الرواية عند أبي الوليد [1/ 211- 212] ، فكل شيء فيها اليوم بناء ابن الزبير إلا الجدر الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج وسد الباب الذي في ظهرها، وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضا من عمل الحجاج.
فلما فرغ الحجاج من هذا كله، وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: -(2/328)
541- قيل: لما مات مروان ثم دعا عبد الملك إلى نفسه وقام- ما أظن أبا خبيب- يعني: ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة، فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة، قال:
سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك استقصروا في بناء البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة أذرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض بابا شرقيا يدخل الناس منه، وبابا غربيا يخرج الناس منه.
قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال: فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك.
قال ابن جريج: وكان باب الكعبة، الذي عمله ابن الزبير، طوله في السماء أحد عشر ذراعا، فلما كان الحجاج نقض من الباب أربعة أذرع وشبرا، عمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبرا.
(541) - قوله: «لما مات مروان» :
أخرجه من طرق بألفاظ مطولا ومختصرا، وبعضهم يفرقه: ابن أبي شيبة في المصنف [15/ 85] ، وأبو العرب التميمي في المحن [5/ 174- 183] ، وأبو نعيم في المعرفة [3/ 1649- 1650] الأرقام: 4138، 4142، 4144، وابن عساكر في تاريخه [226، 231 وما بعدها إلى 239] ، والفاكهي في تاريخه [2/ 351 وما بعدها إلى 361] الأرقام: 1652، 1653، 1654، 1655، وابن جرير في تاريخه [7/ 202 إلى 206] ، وأبو نعيم في الحلية [1/ 332] ، والحاكم في المستدرك [3/ 552] ، وانظر طبقات ابن سعد [5/ 228- 229] .(2/329)
فأجابه أهل الشام، خطب الناس على المنبر فقال: من لابن الزبير منكم؟ فقال الحجاج بن يوسف: أنا يا أمير المؤمنين، فأسكته ثم عاد، فأسكته، فقال: أنا يا أمير المؤمنين، فإني رأيت في المنام أني انتزعت جبّته فلبستها، قال: فعقد له، ووجهه في الجيش إلى مكة، حتى وردوا على ابن الزبير وقاتله بها، فقال ابن الزبير: احفظوا هذين الجبلين، فإنكم لن تزالوا أعزة ما لم يظهروا عليهما.
فلم يلبثوا أن ظهر الحجاج ومن معه على أبي قبيس ونصب المنجنيق عليه، فكان يرمي ابن الزبير ومن معه في المسجد.
فلما كانت الغداة التي قتل فيها ابن الزبير، دخل ابن الزبير بسحر على أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وهي يومئذ ابنة مائة سنة، لم يسقط لها سن، ولم يفسد لها بصر، فقالت أمه: يا عبد الله ما فعلت في حربك؟ قال: بلغوا مكان كذا وكذا، وضحك ابن الزبير وقال:
إن في الموت لراحة، فقالت له: يا بني لعلك تتمناه لي، فما أحب أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك: إما أن تملك فتقر بذلك عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك، قال ابن الزبير: إني أخشى أن يمثل بي، قالت: يا بني إن الشاة إذا ذبحت لا تحس بسلخها.
قال: ثم ودعها وخرج من عندها، ودخل المسجد وجعل يهيء أشياء يستر بها الحجر أن يصيبه المنجنيق.
قال: فقيل له: ألا تكلمهم الصلح؟ قال: أو حين الصلح هذا؟
والله لو وجدوكم في جوفها لذبحوكم جميعا- يعني: الكعبة- ثم أنشأ يقول:(2/330)
ولست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
أبي لي ابن سلمى أنه غير بارح ... ملاق المنايا أي صرف تيمما
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول: ليكن أحدكم سيفه كما يكن وجهه لئلا يفسد سيفه، فيدفع عن نفسه بيده كأنه امرأة، والله ما لقيت زحفا قط إلا كنت في الرعيل الأول، ولا ألمت جرحا قط، إلا كان مر الدواء أشد.
قال: فبينا هو كذلك إذ دخل عليه نفر من باب بني جمح فيهم أسود فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء أهل حمص، فحمل عليهم ومعه سيفان، فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله، فقال الأسود: يا ابن الزانية، فقال له ابن الزبير: اصبر يا ابن حام، أسماء زانية؟ ثم أخرجهم من المسجد وانصرف، فإذا بقوم دخلوا من باب بني سهم، فقال: من هؤلاء؟ قيل: أهل الأردن، فحمل عليهم وهو يقول:
لا عهد لي بغارة مثل السيل ... لا ينجلي غبارها حتى الليل
فأخرجهم من المسجد، ثم رجع فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني مخزوم، فحمل عليهم وهو يقول:
لو كان للدهر بلى أبليته ... أو كان قرني واحدا كفيته
قال: وعلى ظهر المسجد من أعوانه من يرمي عدوه بالآجر، قال فحمل عليهم فأصابت آجرة في مفرقه حتى فلقت رأسه، فوقف قائما وهو يقول:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما
قال: ثم رجع، فأكب عليه موليان له يقاتلان عنه وهما يقولان:
العبد يحمي ربه ويحتمي، حتى قتلا.
ثم ساروا إليه، فحزّ رأسه رضي الله عنه.(2/331)
542- وروى صالح بن الوليد الرياحي قال: أخبرتني جدتي قالت:
كنت عند أسماء إذ جاءها عبد الله بن الزبير فقال لها: إن هذا الرجل قد نزل بنا في أربعين ألفا من أهل الشام، وهو رجل من ثقيف يسمى الحجاج، وقد نالنا نبلهم ونشابهم، وقد أرسل يخيرني بين ثلاث: بين أن أهرب في الأرض فأذهب حيث شئت، أو أضع يدي في يده فيبعث بي موقرا إلى الشام، وبين أن أقاتل حتى أقتل، فقالت: سمعت خليلي أبا القاسم صلوات الله وسلامه عليه يقول: إن في ثقيف مبيرا وكذابا، وإني لا أراه إلا المبير، اذهب فعش كريما، ومت كريما.
قال: فذهب ونشر المصحف، واستند إلى الكعبة حتى قتل.
543- وعن عروة: أن حصين بن نمير الكندي، الشامي، لما سار إلى مكة في قتال ابن الزبير، ضرب ابن الزبير فسطاطا في المسجد، فكان فيه نساء يسقين الجرحى ويداوينهم، ويطعمن الجائع، ويشتكي إليهن المجروح، فقال حصين: ما يزال يخرج علينا من هذا الفسطاط أسد، كأنما يخرج من عرينه فمن يكفينه؟ فقال رجل من أهل الشام: أنا، فلما جنّ عليه الليل وضع شمعة في طرف رمح ثم ضرب فرسه حتى طعن (542) - قوله: «وروى صالح بن الوليد الرياحي» :
قال البخاري في تاريخه الكبير [4/ 292] : سمع جدته، روى عنه موسى بن إسماعيل، زاد ابن أبي حاتم [4/ 418] عن أبيه: هو مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات [6/ 464] .
(543) - قوله: «وعن عروة أن حصين» :
هو أحد طرق الخبر المتقدم تخريجه في أول الباب، تجده في المواضع المشار إليها هناك.(2/332)
الفسطاط، قال: فالتهب نارا، والكعبة يومئذ مؤزرة بالطنافس، وعلى أعلاه الحبرة، قال: فطارت الريح باللهب على الكعبة حتى احترقت الكعبة، واحترق فيها يومئذ قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل.
قال: فهرب حصين بن نمير لما رأى الحريق، ولحق بالشام.
ومات يزيد بن معاوية بالشام، فقام من بعده مروان بن الحكم، ودعا إلى نفسه، فأجابه أهل حمص وأهل الأردن وفلسطين، قال:
فوجه إليه ابن الزبير الضحاك ابن قيس بن مزاحم في مائة ألف، والتقوا بمرج راهط، قال: ومروان يومئذ في خمسة آلاف من بني أمية ومواليهم وأتباعهم من أهل الشام، فقال مروان لمولى له يقال: ابن أركن: احمل على أي الطرفين شئت، قال: وكيف يحمل على هؤلاء في كثرتهم؟ قال: هم بين مكره ومستأجر، احمل عليهم فيكفيك إضعان الماضع الحجر، فحملوا عليهم فهزمهم مروان، وقتل منهم جملة، وقد مرّ ذكره.
ثم مات مروان فدعا عبد الملك بن مروان إلى نفسه، وقام فأجابه أهل الشام، فخطب الناس على المنبر فقال: من لعبد الله بن الزبير، ...
وقد مر ذكره.
544- قال محمد بن سيرين: لما أتى عبد الله بن الزبير برأس المختار ووضع بين يديه قال: ما من شيء حدثني به كعب إلا وقد رأيته إلا أنه قال لي: يقتلك شاب من ثقيف.
قال ابن سيرين: ولا يدري ابن الزبير أن أبا محمد قد خبىء له- يعني: الحجاج بن يوسف-.(2/333)
545- وعن محمد بن زيد بن عبد الله بن الخطاب قال: إني لأنظر إلى المنجنيق فوق أبي قبيس، فرموا، إذ جاءت سحابة سوداء كأنها غمامة سوداء، فالتفت بالمنجنيق فأحرقته ومن حوله.
546- وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم، فأمر عبد الله بن الزبير أن يغيب دمه، فأخذه عبد الله بن الزبير فشربه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد احتظرت بحظار شديد من النار، ولكن ويل لك من الناس، وويل للناس منك.
(545) - قوله: «وعن محمد بن زيد بن عبد الله بن الخطاب» :
هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، الإمام التابعي الثقة، أبو محمد العمري المدني، أحد رجال الكتب الستة، وهو قليل الحديث.
انظر:
تهذيب الكمال [25/ 226] ، سير أعلام النبلاء [5/ 105] ، الكاشف [3/ 39] ، تهذيب التهذيب [9/ 152] ، التقريب [/ 79] ، الترجمة رقم 5892، التاريخ الكبير [1/ 84] ، الجرح والتعديل [7/ 256] ، الثقات لابن حبان [5/ 365] .
(546) - قوله: «فأمر عبد الله بن الزبير أن يغيب دمه» :
أخرجه أبو يعلى الموصلي- كما في المطالب العالية [4/ 21] رقم 3847- ولعله في الكبير، ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن عساكر في تاريخه [28/ 163] ، والطبراني في معجمه الكبير- كما في مجمع الزوائد [8/ 72]- والبزار في مسنده [3/ 145 كشف الأستار] رقم 2436، والحاكم في المستدرك [3/ 554] ، والبيهقي في السنن الكبرى [7/ 67] ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [28/ 163- 164] ، وأبو نعيم في الحلية [1/ 330] ، في المعرفة [3/ 1652] رقم 4151، وابن عساكر في تاريخه [28/ 163] ، جميعهم من حديث الهنيد بن القاسم- لم يوثق ولم يخرج- عن عامر بن-(2/334)
547- ولما قتل عبد الله بن الزبير علم جميع أهل مكة بقتله لما شموا من ريح المسك، فغاظ ذلك الحجاج بن يوسف، فأمر حتى علّق مع عبد الله بن الزبير كلبا لتغلب رائحة الميتة ذلك.
548- وعن محمد بن زيد العمري قال: لما نصب الحجاج المنجنيق على ابن الزبير فوق أبي قبيس، قال: جعلت الصواعق تقع من كل مكان، فقال الحجاج: لا يهولنّكم، فإنما هي صواعق تهامة، قال:
فأنا نظرت إليها أقبلت من السماء كأنها مخراق فطحطحهم كلهم.
549- وقيل: لما قتل الحجاج ابن الزبير ثم صلبه على عقبة- عبد الله بن الزبير، عن أبيه به، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم وهو ثقة. كذا قال.
(547) - قوله: «حتى علق مع عبد الله بن الزبير كلبا» :
أخرج ابن سعد في الطبقات- ضمن الجزء المفقود- من حديث شيخه الواقدي: أنا رباح بن مسلم، عن أبيه قال: لقد رأيتهم مرة ربطوا هرة ميتة إلى جنبه، فكان ريح المسك يغلب على ريحها.
ومن طريق ابن سعد أخرجه ابن عساكر في تاريخه [28/ 229] .
(548) - قوله: «وعن محمد بن زيد العمري» :
تقدم قريبا، أخرج حديثه ابن عساكر في تاريخه [28/ 222] ، وفيه: كأنها خمار أحمر قد حرقت أصحاب المنجنيق نحوا من خمسين رجلا.
والطحطحة: تفريق الشيء وكسره إهلاكا كما في اللسان.
(549) - قوله: «لما قتل الحجاج ابن الزبير» :
أخرجه بطوله: مسلم في الفضائل، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، حديث رقم 2545، وابن الأعرابي في معجمه برقم 1486، وانظر الأثرين المتقدمين برقم: 414، 413 والتعليق عليهما. -(2/335)
المدينة كأنه يصغر بذلك قريشا قال: فجعلت قريش تمر به والناس، حتى مر به عبد الله بن عمر فوقف فقال: السلام عليك أبا خبيب- ثلاث مرات- ثم قال: أما والله لقد نهيتك عن هذا، أما والله ما علمتك إلا صواما قواما وصولا للرحم، أما والله إن أمة أنت شرها لأمة صدق، ثم قعد.
ثم أرسل الحجاج إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق بعدما ذهب بصرها أن تأتيه، فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول: أما والله لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأعادت إليه الرسول، فقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني، قال: إذا آتي ستي، فانطلق حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني ما صنعت بعبد الله بن الزبير؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، ولقد بلغني أنك كنت تعيّره وتقول: يا ابن ذات النطاقين، أما أحدهما فنطاق كنت أرفع فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي طعامهما من الدواب أن تصيبه، وأما النطاق الآخر فنطاق المرأة الذي لا تستغني عنه، فبأي ذينك لا أم لك تعيره؟ قالت أسماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف مبيرا وكذابا، فأما الكذاب فقد رأيته، وأما المبير فلا أجدك إلا إياه، فخرج ولم يرد عليها.
- وأخرج البخاري بعضه في الأطعمة، باب الخبز المرقق من حديث وهب بن كيسان قال: كان أهل الشام يعيّرون ابن الزبير يقولون: يا ابن ذات النطاقين. فقالت له أسماء: يا بني إنهم يعيرونك بالنطاقين، وهل تدري ما كان النطاقان؟ ... الحديث.
قوله: «إذا آتي ستي» :
هكذا في الأصول.(2/336)
550- وقيل: لما قتل عبد الله بن الزبير كبّر أهل الشام، فسمعها عبد الله بن عمر فقال: لئن كبر القتلة، لقد قدمنا المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود: قد سحرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس يولد لهم، فكان أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، فكبّر المسلمون بولادته تكبيرة.
551- وقيل: إن عبد الله بن عمر لما نظر إلى عبد الله بن الزبير وقد صلب منكوسا، قال عبد الله: لئن علت رجلاك، لطالما قمت بها في الصلاة.
قال: فبلغ الحجاج موقف ابن عمر وقوله، فبعث إليه فأنزله عن جذعه، فأمر به فطرح في مقبرة اليهود.
552- وعن بكر بن عبد الله المزني، أن يهوديا أسلم يقال له يوسف- وكان يقرأ الكتب، وكان صديقا لعبد الملك- فضرب منكب (550) - قوله: «كبّر أهل الشام» :
أخرجه أبو نعيم في المعرفة [3/ 1647- 1648] رقم 4132، وفيه: الذين كبروا على مولده خير من الذين كبروا على قتله.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخه [28/ 154، 154- 155] .
ويروى أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أمه، أخرجه ابن سعد، ومن طريقه ابن عساكر [28/ 228] .
(551) - قوله: «فطرح في مقبرة اليهود» :
ثبت أن أمه أسماء رضي الله عنها أخذته بعد إنزاله فكفنته ثم دفنته في مقبرة الحجون، رواه الواقدي وابن سعد وابن عساكر.
(552) - قوله: «وعن بكر بن عبد الله المزني» :
أخرج حديثه ابن عساكر في تاريخه [37/ 127] .(2/337)
عبد الملك ذات يوم وقال: اتق الله يا ابن مروان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا وليتها، قال: فدفعه وقال: ما شأني وذاك، أيكون هذا؟ قال: اتق الله في أمرهم إذا وليتهم، فجهز يزيد بن معاوية جيشا إلى أهل مكة، فأخذ عبد الملك بقميصه فنفضه وقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، أتبعث إلى حرم الله؟! فضرب يوسف منكبه وقال: ما تنفض قميصك!! جيشك إليهم أعظم من جيش يزيد بن معاوية.
553- وعن نافع قال: رأيت ابن عمر رافعا يديه إلى السماء وهو يقول: اللهمّ إني لا أرضى بما يصنع الحجاج.
554- وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن العقوبة إذا نزلت عمّت البر والفاجر، والحساب يوم القيامة على النيات.
555- أبو العالية البراء قال: أتى ابن عمر على ابن الزبير فقال:
رحمة الله عليك، أما والله ما علمتك إلا كنت صواما قواما، تحب الله ورسوله.
قال: فأتى رجل الحجاج فأخبره بكلام ابن عمر، فقال الحجاج (554) - قوله: «إن العقوبة إذا نزلت» :
أخرجه البخاري في الفتن، باب إذا أنزل الله بقوم عذابا، رقم 7108، ومسلم في صفة الجنة، باب الأمر بحسن الظن بالله، كلاهما من حديث حمزة بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر مرفوعا: إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم، لفظ البخاري.
(555) - قوله: «أبو العالية البراء» :
حديثه عند ابن سعد في الطبقات ضمن الجزء المفقود، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [28/ 242] .(2/338)
لرجل من أهل الشام: انطلق وائتني برأس ابن عمر، قال: فسكت الشامي هنيهة، ثم قال: أصلح الله الأمير، إن أذنت لي تكلمت، قال:
تكلم، قال: هذا رجل إنما أعين الناس إليه اليوم، وإني أخشى أن تكون فتنة لا تطفأ أبدا، قال: فدعه.
قال: فأرسل إليه بعشرة آلاف درهم فقبلها ابن عمر، ثم تركها أياما، ثم أرسل إليه أن ابعث إلينا بمالنا، فقال ابن عمر: قد فرقنا بعضه، ونحن مهيؤوه إن شاء الله، فأتاه الرسول فأخبره فقال: ارجع فقل: لا حاجة لنا به.
556- وروى أبو يوسف: محمد بن الزبير مؤذن مسجد عسقلان قال: حدثتني جدتي قالت: وضع الحجاج المنجنيق على الكعبة، فكانت الحجارة تخرج يمينا وشمالا لا تصيبه، حتى جاء يهودي فقال: لا تصيبوه حتى تلطخوه بالعذرة والجيف، فرموه بها فأصابوه بعد ذلك.
557- وروى أبو حفص المكي، عن المرتفع قال: لما وضع الحجاج المنجنيق على ابن الزبير سمعت بالبيت أنينا كأنين الإنسان:
آه، آه.
(556) - قوله: «مؤذن مسجد عسقلان» :
ترجم ابن حبان في الثقات [5/ 369] ، لرجل يقال له: محمد بن الزبير ممن يروي عن ابن الزبير، وابن عباس، وعنه عبدة بن أبي لبابة وقال: كان على إفريقية، فلا أدري هو هذا أو غيره.
(557) - قوله: «كأنين الإنسان» :
وقال المرتفع، عن أبيه: كأنين المريض، أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة [1/ 199] ، لم أعرف أبا حفص ولا شيخه.(2/339)
558- وروى محمد بن كثير الصنعاني رحمه الله، عن جده عبد الرحمن بن أبي عطاء أنه شهد فتنة ابن الزبير، فاشتغل الناس عن الطواف، فجاء جمل فجعل يطوف بالبيت، حتى طاف سبعا.
58 5- قوله: «وروى محمد بن كثير الصنعاني» :
صنعاء دمشق، من تلاميذ الأوزاعي، وسط، ويقال: عنده ما ينكر، ويقال:
بل اختلط في آخر عمره فظهر له بعض ما ينكر، أخرج له: د. ت. س.
انظر عنه في:
تهذيب الكمال [26/ 329] ، تهذيب التهذيب [9/ 369] ، الكاشف [3/ 81] ، سير أعلام النبلاء [10/ 380] ، التاريخ الكبير [1/ 218] ، الجرح والتعديل [8/ 69] ، التقريب [/ 504] ، الترجمة رقم 6251، وطبقات ابن سعد [7/ 489] ، المعرفة والتاريخ [1/ 201] .
قوله: «عن جده عبد الرحمن بن أبي عطاء» :
لم أجده فيما لديّ من المصادر.(2/340)
[116- باب ذكر الهجرة وحديث الغار]
116- باب ذكر الهجرة وحديث الغار 559- أخبرنا أبو عبد الله التميمي بين المسجدين مكة والمدينة حرسهما الله تعالى، قال: حدثنا ابن الأعرابي، ثنا محمد بن علي بن زيد، ثنا محمد بن عبد الجبار الهمداني، ...
(559) - قوله: «ثنا محمد بن علي بن زيد» :
الصائغ، الإمام المحدث الثقة: أبو عبد الله المكي، ذكره الحافظ الذهبي في السير وأثنى عليه، وقال: حدث عن جماعة مع الصدق والفهم وسعة الرواية، توفي بمكة سنة إحدى وتسعين ومائتين.
سير أعلام النبلاء [13/ 428] ، تذكرة الحفاظ [2/ 659] ، العبر [2/ 90] ، شذرات الذهب [2/ 382] ، البداية والنهاية [11/ 99] ، تاريخ الإسلام [وفيات سنة 291- ص 283] ، المعجم الصغير للطبراني [2/ 39] .
قوله: «ثنا محمد بن عبد الجبار الهمداني» :
الحافظ الثقة الجليل، الإمام كبير المحل، لقبه: سندول- ويقال:
سندولا- قال الحافظ المزي: من كبار التنّاء بهمذان- أي: الدهاقنة ملاك الأراضي- يقال: إنه صنف كتابا كبيرا، روى عنه أبو داود في المراسيل.
تهذيب الكمال [25/ 585] ، سير أعلام النبلاء [11/ 157] ، المعجم المشتمل: الترجمة رقم 882، ثقات ابن حبان [9/ 145] ، تهذيب التهذيب [9/ 258] ، ذيل الكاشف: الترجمة رقم 1364، التقريب [/ 491] :
الترجمة رقم 6062.(2/341)
ثنا شبابة بن سوّار، ثنا فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران قال:
كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا خطب بالبصرة يوم الجمعة- وكان واليها- صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ثنى بعمر بن الخطاب يدعو له، فيقوم ضبة بن محصن العنزي فيقول: فأين أنت عن ذكر صاحبه قبله؟ - يعني:
أبا بكر الصديق رضي الله عنه- ثم قعد، فلما فعل ذلك مرارا، كتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه: ...
قوله: «ثنا شبابة بن سوار» :
الفزاري، الإمام الحافظ الحجة: أبو عمرو الفزاري مولاهم، المدائني.
حديثه في الدواوين الستة.
قال الحافظ الذهبي: من كبار الأئمة إلا أنه مرجىء.
تهذيب الكمال [12/ 343] ، سير أعلام النبلاء [9/ 513] ، تهذيب التهذيب [4/ 264] ، تذكرة الحفاظ [1/ 361] ، الكامل لابن عدي [4/ 1365] ، التقريب [/ 263] ، الترجمة رقم 2733، الجمع بين رجال الصحيحين [1/ 218] ، تاريخ بغداد [9/ 295] ، الكاشف [2/ 3] ، إكمال مغلطاي [6/ 200] .
قوله: «ثنا فرات بن السائب» :
الجزري، كنيته: أبو سليمان- وقيل: أبو المعلى- أحد الضعفاء، قال الإمام أحمد: قريب من محمد بن زياد الطحان في ميمون، يتهم بما يتهم به ذاك.
الكامل لابن عدي [6/ 2048] ، الميزان [4/ 261] ، لسان الميزان [4/ 430] ، المغني في الضعفاء [2/ 509] ، الديوان [2/ 234] ، ضعفاء ابن الجوزي [3/ 3] ، المجروحين لابن حبان [2/ 207] ، ضعفاء البخاري الصغير، الترجمة رقم 297.(2/342)
إن ضبة بن محصن يطعن علينا، ويفعل كيت وكيت، فكتب عمر إلى ضبة يأمره بأن يخرج إليه، فبعث به أبو موسى رضي الله عنه.
قوله: «إن ضبة بن محصن يطعن علينا» :
هذا الحديث أورده بطوله المجد الفيروز آبادي صاحب القاموس في الصلاة والبشر [/ 288] ، عزاه للمصنف في كتابه هذا.
وقد روى هذا الحديث جماعة- كما سيأتي- عن فرات بن السائب دون القصة المذكورة هنا بين ضبة وأبي موسى.
وأما حميد بن هلال فروى عن عبد الله بن يزيد الباهلي، عن ضبة خلافا آخر له مع أبي موسى، فأخرج ابن عساكر في تاريخه [32/ 77- 78] :
عن عبد الله بن يزيد قال: دخل ضبة بن محصن من الليل فتحدث عندي حتى خشيت عليه الحرس، قال: فكان فيما حدثني، قال: شاكيت أبا موسى في بعض ما يشاكي الرجل أميره، قال: فانطلقت أبووا عليه عند عمر.
قال: وذلك عند حضور وفادة أبي موسى إلى عمر، فكتب أبو موسى إلى عمر- والبرد إذ ذاك على الإبل، قال: فكتب-: السلام عليك، أما بعد، فإني كتبت إليك وأنا خارج إليك في كذا وكذا، قال: فكتب إليه: إنّ ضبة بن محصن قد خرج من عندي عاصيا بغير إذن، فهو بيني وبينك، فأحببت أن تعلم ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فسبقني كتابه، فقدمت المدينة، فجئت إلى باب عمر، فقلت: السلام عليكم، أيدخل ضبة بن محصن؟ فقال عمر: لا مرحبا ولا أهلا، قال فقلت: أما المرحب فمن الله، وأما أهل فلا أهل ولا مال، قال: فأعدت ذلك ثلاث مرات وأعادهن ثلاثا، ثم قال: ادخل- أو قال: أذن لي- فدخلت، قال: قلت: يا أمير المؤمنين الرجل يظلمه سلطانه فإذا انتهى إلى أمير المؤمنين لم يجد عنده غيرا، فو الله يا أمير المؤمنين إن الأرض لواسعة، وإن العدو لكثير، قال: فكأنما كشف عن وجهه غطاء، فقال: ادن دنوك، فقال: إيه، ثم قال قلت: أبو موسى اصطفى لنفسه أربعين من الأساورة، قال فقال: اكتب، فكتب، قال: -(2/343)
فلما قدم ضبة إلى المدينة على عمر رضي الله عنه قال له الحاجب: ضبة العنزي بالباب فأذن له، فلما أقبل قال: لا مرحبا بضبة ولا أهلا. قال:
أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل ولا مال، فعلام يا أمير المؤمنين استحللت إنهاضي من بلادي بلا جرم أتيته ولا جناية؟ فأطرق عمر رضي الله عنه طويلا، ثم قال عمر: هل أنت واهب ذنبي إليك؟ قال: قد غفر الله لك يا أمير المؤمنين.
قال: ما أغضب أميرك عليك؟؟ فأخبره الخبر: أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثنّى بك فكنت أقول له: فأين أنت عن ذكر صاحبه قبله وفعله؟
فعاد عمر رضي الله عنه فبكى ثم قال: أنت والله أوفق منه وأصوب، والله ليوم وليلة من أبي بكر خير من عمر ومن آل عمر منذ يوم ولد إلى أن يبعث، ألا أنبئك بيومه وليلته؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، فقال:
أما ليلته: فإنه لما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى الغار جعل يمشي طورا أمامه وطورا خلفه وطورا عن يمينه وطورا عن شماله، قال صلى الله عليه وسلم: ما هذا من فعالك يا أبا بكر، قال: يا رسول الله صلى الله عليك بأبي وأمي أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك، وأتخوف الطلب فأحب أن أكون خلفك، وأحفظ الطريق يمينا وشمالا، فقال: لا بأس عليك يا أبا بكر إن الله معنا، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مخمص القدم يطأ- ثم قال: إيه؟ قال قلت: أبو موسى له مكيالان يكيل الناس بغير الذي يكتال به، قال: اكتب فكتب، قال قلت: عقيلة سريته لها قصعة غادية رائحة يأكل منها أشراف الجند، قال: اكتب فكتب.. القصة.
قوله: «غير مخمص القدم» :
الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء، -(2/344)
بجميع قدمه الأرض، وكان حافيا، فحفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمله أبو بكر على كاهله حتى انتهى إلى الغار، فلما وضعه ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل الغار، فقال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فأستبرئه قبلك، فدخل أبو بكر رضي الله عنه فجعل يلتمس بيده في ظلمة الليل الغار مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لم ير شيئا دخل النبي صلى الله عليه وسلم فكانا فيه، فلما أسفر بعض الإسفار، رأى أبو بكر خرقا في الغار فألقمه قدمه حتى الصباح مخافة أن يخرج منها هامة أو ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فهذه الليلة.
وأما اليوم: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض واستخلف أبو بكر، رجع من رجع من الناس إلى الكفر، أتيته لا آلوه إلا نصحا، فقلت: يا خليفة رسول الله ارفق بالناس وتألفهم فإنهم كالوحش، قال: يا عمر رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، إنك خوّار في الجاهلية خوّار في الإسلام، - والأخمص: خصر القدم، قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي عن قول علي رضي الله عنه في الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصان الأخمصين قال: إذا كان خمص الأخمصين بقدر لم يرتفع جدا ولم يستو أسفل القدم جدا فهو أحسن ما يكون، فإذا استوى أو ارتفع جدا فهو ذم، ذكره ابن منظور.
قوله: «فحفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» :
وفي لفظ آخر: فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه.
قوله: «إنك خوّار في الجاهلية» :
في رواية يحيى بن سعيد العطار، عن فرات: جئتني بخذلانك، جبارا في الجاهلية خوار في الإسلام!!
تابعه عن فرات بن السائب: عبد الرحمن بن إبراهيم، أخرجه من طريقه-(2/345)
زعمت أن أتآلفهم! أفبسحر مفترى أم شعر مفتعل؟! هيهات، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقرض الوحي، والله لأضربنهم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء إن منعوني عقالا.
- أبو بكر الدينوري في المجالسة [5/ 380] رقم 2238، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه [30/ 79- 80] ، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد [7/ 1278] رقم 2426، والبيهقي في الدلائل [2/ 476- 477] .
وعبد الرحمن هذا ذكره الذهبي في الميزان وقال: عن فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ضبة بن محصن، عن أبي موسى ... بقصة الغار، قال: وهو يشبه وضع الطرقية. اه. كذا قال، وجعله المتهم به مع أنه قد توبع، فقد رواه يحيى بن سعيد العطار، عن فرات، بمثل سياق المصنف إلا أنه جعله من حديث ابن عمر أن أبا موسى، أخرجه أبو بكر الإسماعيلي- كما في مسند الفاروق لابن كثير [2/ 672]-، وقال عقبه: هذا إسناد غريب من هذا الوجه، ويحيى بن سعيد العطار هذا حمصي فيه ضعف، ولكن لهذا شواهد كثيرة من وجوه أخر.
قلت: منها: ما أخرجه البيهقي في الدلائل [2/ 476] ، من طريق عفان بن مسلم: ثنا السري بن يحيى، ثنا محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر، قال: والله لليلة خير من آل عمر.. وذكر القصة بطولها، مرسل بإسناد حسن، بل صححه الحاكم في المستدرك [3/ 6] ، قال الذهبي في التلخيص: صحيح مرسل.
قلت: لعله سمعه من أنس، فقد روي عنه من طرق ضعيفة، فأخرج الآجري في الشريعة [3/ 45] رقم 1335، وأبو نعيم في الحلية [1/ 33] ، من حديث عطاء ابن أبي ميمونة، عن أنس قال: لما كان ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله دعني لأدخل قبلك، فإن كان وجيئة أو شيء كانت بي قبلك.. الحديث، وفي إسناده هلال بن عبد الرحمن الحنفي وهو مجمع على ضعفه. -(2/346)
560- أخبرنا أبو بكر: أحمد بن يعقوب بن عبد الجبار بن بغاطرة بن مصعب بن سعيد- قدم علينا في شهور سنة سبع وستين وثلثمائة رحمه الله- قال:
- وأخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد [7/ 1287] رقم 2427، من حديث علي بن زيد بن جدعان عن ابن المسيب عن أنس ببعضه ومعناه.
وأخرج الإمام أحمد في الفضائل برقم 22، 182، وابن أبي شيبة في المصنف [14/ 334] رقم 18466، وابن عساكر في تاريخه [30/ 81] ، من حديث رجل عن ابن أبي مليكة قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر فأخذا طريق ثور، قال: فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه..
الحديث مرسل، وفيه انقطاع.
قال أبو عاصم: كثرة هذه الشواهد تدل على أن للقصة أصلا، والسياق لم يبلغ في نكارته حد الوضع، والله أعلم.
(560) - قوله: «ابن بغاطرة» :
اختلفت المصادر في ضبطها، ففي بغية الطلب ومختصر ابن منظور:
بغاطر، وفي آخر ترجمته من تاريخ ابن عساكر: قال لنا أبو بكر البيهقي:
أحمد بن يعقوب كان يعرف بابن بغاطرة.
قوله: «ابن مصعب بن سعيد» :
هو ابن مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو بكر القرشي، الأموي، الجرجاني، ترجم له ابن عساكر في تاريخه، ونقل عن البيهقي قوله: لا أستحل رواية شيء منها- يعني: من أحاديثه-، اه. والظاهر من أمره وترجمته: الاستقامة والتدين والأدب، وممن أوذي وعذب لرفضه الدخول في أمر السلطان.
انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر [6/ 101] ، بغية الطلب [3/ 1248] ، مختصر ابن منظور [3/ 327] .(2/347)
أخبرنا أبو خليفة: الفضل بن حباب الجمحي بالبصرة سنة ثلاث وثلثمائة، قال: سمعت عبد الله بن رجاء أبا عمر الغداني يقول: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى أهلي، فقال له عازب: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم.
قوله: «الفضل بن حباب» :
ذكره الحافظ الذهبي في السير فقال: الإمام العلامة، المحدث الأديب، الإخباري شيخ الوقت، ممن عني بهذا الشأن، لقي الأعلام، وكتب علما جما.
سير أعلام النبلاء [14/ 7] ، تذكرة الحفاظ [2/ 670] ، النجوم الزاهرة [3/ 193] ، مرآة الجنان [2/ 246] ، الميزان [4/ 270] ، البداية والنهاية [11/ 128] ، طبقات القراء لابن الجوزي [2/ 8] ، أخبار أصبهان [2/ 151] ، بغية الوعاة [2/ 245] ، العبر [2/ 130] .
قوله: «أبا عمر الغداني» :
الإمام الحافظ الثقة، من شيوخ الإمام البخاري- يقال: كنيته: أبو عمر بضم المهملة وحذف الواو من آخره- وهو ممن اجتمع أهل البصرة على عدالته، وأثنى عليه الأئمة.
تهذيب الكمال [14/ 495] ، تهذيب التهذيب [5/ 184] ، سير أعلام النبلاء [10/ 376] ، تذكرة الحفاظ [1/ 404] ، العبر [1/ 380] ، الجمع بين رجال الصحيح [1/ 251] ، ثقات ابن حبان [8/ 341] ، إكمال مغلطاي [7/ 345] ، الكاشف [2/ 76] ، التقريب [/ 302] : الترجمة رقم 3312.
أما إسرائيل فهو: ابن يونس بن أبي إسحاق. وأبو إسحاق هو: السبيعي، واسمه: عمرو بن عبد الله.(2/348)
قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا ليلتنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظلها، فنظفت تلك البقية فسويته، ثم فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: اضطجع، ثم ذهبت أنظر هل أرى من الطلب أحدا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أريد من الظل فسألته وقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: بلى، فقلت:
هل أنت حالب لي؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، وقلت: - والحديث في الصحيحين.
* تابعه عن الفضل بن حباب:
1- ابن حبان، أخرجه في صحيحه- كما في الإحسان- برقم 6281، 6870.
2- أبو عمرو بن مطر، أخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 484] .
3- أبو بكر الإسماعيلي، أخرجه من مستخرجه- كما في الفتح [7/ 11] .
* وتابع أبا خليفة الفضل عن عبد الله بن رجاء:
1- الإمام البخاري، أخرجه في اللقطة من صحيحه، باب من عرّف اللقطة ولم يدخلها للسلطان، رقم 2439، وفي فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، رقم 3615.
2- يعقوب بن سفيان، أخرجه في المعرفة [1/ 239] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 483] .
* ومن طرق عن إسرائيل، وأبي إسحاق أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3615، وفي باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رقم 3908، 3917، وفي الأشربة، باب شرب اللبن، رقم 5706، ومسلم في الزهد، باب حديث الهجرة، رقم 2009، وابن أبي شيبة في المصنف [14/ 327] رقم 18459، والإمام أحمد في المسند [1/ 2] ، -(2/349)
انفض ضرعها من الغبار وانفض كفيك، فقال: بهما هكذا- فضرب بإحدى يديه على الأخرى- فحلب كثبة من لبن، وكنت تزودت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببته على اللبن حتى برد أسفله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، فقلت: قد آن الرحيل يا رسول الله.
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فلما دنا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب يا رسول الله قد لحقنا، وبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت:
أما والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهمّ اكفناه بما شئت، قال: فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمينّ على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق راجعا إلى أصحابه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أنزل على بني النجار أخوال- ويعقوب بن سفيان في المعرفة [1/ 239- 241] ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل [2/ 483] ، والمروزي في مسند أبي بكر، رقم 62، 63، 64، 65، والبيهقي في الدلائل [2/ 485] .(2/350)
عبد المطلب أكرمهم بذلك، فخرج الناس حتى قدمنا المدينة، وفي الطريق وعلى البيوت الغلمان والخدم، ويقولون: جاء محمد، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله، فلما أصبح انطلق حتى نزل حيث أمر.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة، عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله عزّ وجلّ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فوجه نحو الكعبة، فقال السفهاء من الناس- وهم اليهود-: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله عزّ وجلّ:
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وكان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل فخرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار وهم ركوع في العصر نحو بيت المقدس فقال: أشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد توجه نحو الكعبة.
فقال البراء بن عازب: وكان أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير بن هاشم أخو بني عبد الدار بن قصي، قلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه وأصحابه على أثري، ثم أتانا بعده عمرو ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، فقلنا له: ما فعل من ورائك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قال: هم على أثري، ثم أتانا بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وبلال، ثم أتانا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكبا، ثم أتانا بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، قال البراء: فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل، ثم خرجنا نلقى العير فوجدناهم قد حذروا.(2/351)
561- روى مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فعطش أبو بكر عطشا شديدا، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى صدر الغار فاشرب.
قال أبو بكر: فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماءا أحلا من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك، ثم عدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شربت؟ فقلت: شربت يا رسول الله، قال: ألا أبشرك؟
قلت: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنان: أن اخرق نهرا في جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر.
قال أبو بكر: ولي عند الله هذه المنزلة؟ قال: نعم وأفضل، والذي بعثني بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيّا.
562 روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: بينا نحن جلوس في بيت أبي بكر رضي الله عنه وقت الظهيرة إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم مقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت وأمي، قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قالت عائشة رضي الله عنها فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر (561) - قوله: «روى مجاهد، عن ابن عباس» :
أخرج الحديث المجد الفيروز أبادي في الصلاة والبشر [/ 190] ، وعزاه للمصنف، وأسنده ابن عساكر في تاريخه [30/ 149- 150] ، ووهى إسناده الحافظ السيوطي في الخصائص [1/ 463- 464] .(2/352)
قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين.
قوله: «فبذلك سميت ذات النطاقين» :
أخرجه بلفظ أطول منه: الإمام البخاري في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 45 وتمامه: قالت عائشة: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر- وهو غلام شاب، ثقف لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحهما عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من بني الديل- وهو من بني عبد بن عدي- هاديا خريتا- والخريت: الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل.(2/353)
[117- فصل: حديث أمّ معبد الخزاعيّة، وفيه: وصف حلية النّبيّ صلى الله عليه وسلم]
117- فصل:
حديث أمّ معبد الخزاعيّة، وفيه: وصف حلية النّبيّ صلى الله عليه وسلم 563- حدثنا أبو أحمد: الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي- قراءة عليه في سنة ستين وثلاثمائة-، قال: أخبرني أبو محمد:
عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ثنا أبي، ثنا بشر بن محمد بن أبان بن مسلم الواسطي السكري أبو أحمد ببغداد سنة ثلاث وعشرين ومائتين قال: حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ...
(563) - قوله: «السكري أبو أحمد» :
ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل [2/ 364] ، نقل عن أبيه قوله:
شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات [8/ 139] ، قال الذهبي في الميزان [1/ 324] : صدوق إن شاء الله.
ساق له ابن عدي الكامل [2/ 450] ، أربعة أحاديث ثم قال: أرجو أنه لا بأس به، ومقدار ما ذكرته هو من أنكر ما رأيت له، وكأنها من قبل الرواة عنه.
قوله: «عبد الملك بن وهب المذحجي» :
مذحج اليمن، كوفي يقال: اسمه سليمان بن عمرو بن عبد الله بن وهب النخعي، ينسب إلى جده وهب، قاله ابن أبي حاتم [5/ 373] عن أبيه، قال:
وسمعته يقول: قال بعض أصحابنا: إن عبد الملك بن وهب هذا معمول عن اسمه- كذا ولعله: معدول عن اسمه- قال: وهو سليمان بن عمرو بن عبد الله بن وهب النخعي، نسبه إلى جده وهب، وسماه عبد الملك، والناس معبدون- كذا- عبيد الله. اه. وهذا يعني أن الاسم مدلس، لم يصرح به لضعفه واتهامه، وفي ذلك نظر، وينبغي أن يحرر القول، ويتثبت من الأمر، وقد ذكره ابن حبان في الثقات [7/ 108] ومدار حديث الباب عليه.(2/354)
عن الحر بن الصيّاح النخعي، عن أبي معبد الخزاعي قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة هاجر من مكة إلى المدينة، هو وأبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله ابن الأريقط الليثي، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية- وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي، وتجلس بفناء الخيمة، وتطعم وتسقي-، فسألوها تمرا ولحما ليشتروه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.
قوله: «عن الحر بن الصياح النخعي» :
كوفي، تابعي، ثقة، أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي، ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والدارقطني والجمهور، وعند البخاري أن أبا معبد مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فالحر لم يدرك أبا معبد في قول البخاري.
قوله: «عن أبي معبد الخزاعي» :
اختلف في اسمه، قال الحافظ البيهقي في الدلائل عقب إخراجه: قال أبو جعفر ابن محمد الحلواني: سألت مكرما عن اسم أم معبد؟ فقال:
اسمها عاتكة بنت خالد وكنيتها أم معبد، وأبو معبد اسمه أكثم بن أبي الجون ويقال له: عبد العزى، وقد ذكره غير واحد في الصحابة لكن قال بعضهم: توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البخاري: قتل زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «مرملون» :
أصله: من الرمل، فكأنهم من شدة حاجتهم قد لصقوا بالرمل، كما قيل للفقير: ترب، قال البيهقي: مرملون: يريد قد نفد زادهم.
قوله: «مسنتون» :
داخلون في السنة: القحط والجدب والمجاعة، ويروى: مشتون- من الشتاء- أي: داخلون فيه، قاله الحافظ البيهقي.(2/355)
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسر خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟
قالت: هي أجهد من ذاك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله وقال: اللهمّ بارك لها في شاتها، فتفاجت، ودرّت فاجترت، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه ثجّا حتى علته الثمال، فسقاها فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا، فشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شربا، فشربوا جميعا عللا بعد نهل، حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادره عندها، ثم ارتحلوا عنها.
قوله: «في كسر خيمتها» :
يريد جانبها.
قوله: «فتفاجت» :
أي: فتحت ما بين رجليها للحلب.
قوله: «يربض الرهط» :
أي: يرويهم ويكفيهم، والرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة.
قوله: «فحلب فيه ثجا» :
أي: سيلا.
قوله: «حتى علته الثمال» :
أي: علته رغوة اللبن، والثمالة: رغوة اللبن إذا حلب، ويروى: حتى علاه البهاء، قال البيهقي: بهاء اللبن وهو وبيص رغوته، يريد أنه ملأه.
قوله: «حتى أراضوا» :
أي: شربوا حتى رووا فنقعوا بالري، قاله البيهقي، وقال غيره: حتى ناموا على الأرض وهو البساط، وقيل: حتى صبوا اللبن على الأرض.(2/356)
قال: فقلّ ما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حيّلا عجافا، يتساوكن هزلا، مخّهن قليل، لا نقي بهن، فلما رأى اللبن قال:
من أين لكم هذا والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب، صفيه لي يا أم معبد؟ قالت:
رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، ...
قوله: «حيّلا» :
أي: ضعيفة الحال لا حول لها، ويقال أيضا: الحيل التي ليست بحوامل.
قوله: «يتساوكن هزلا» :
يتمايلن من شدة ضعفهن، والتساوك: السير الضعيف، ويروى: يتشاركن هزلا، قال البيهقي: أي عمهن الهزال، فليس فيهن منقية ولا طرق، وهو من الإشراك.
قوله: «والشاء عازب» :
أي بعيد في المرعى.
قوله: «لم تعبه ثجلة» :
الثجلة: ضخامة البطن واسترخاء اسفله، ويروى: لم تعبه نحلة، قال البيهقي: النحلة: الدقة والضمر.
قوله: «ولم تزريه صعلة» :
الصعلة: صغر الرأس، ويروى: لم تزريه صقلة، قال البيهقي: الصقلة:
الأضلاع، والصقلة: الخاصرة، تريد: أنه ليس بمنتفخ ولا ناحل.
قوله: «وسيم قسيم» :
الوسيم: الحسن الهيئة وضيئها، ونحوه القسيم.(2/357)
في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، كأن كلامه خرزات نظم ينحدرن منه، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، ...
قوله: «في عينيه دعج» :
الدعج: تقدم الكلام على معناه في أبواب صفته صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وفي أشفاره وطف» :
أي في شعر أجفانه طول، ويروى: في أشفاره عطف، قال البيهقي: قال القتيبي: سألت الرياش فقال: لا أعرف العطف، وأحسبه غطف- بالغين المعجمة- وهو أن تطول الأشفار ثم تنعطف، والعطف- إن كان محفوظا- شبيه بذلك، وهو إنعطاف الأشفار.
قوله: «وفي صوته صحل» :
أي: كالبحة وهو أن لا يكون حادا، ويروى أيضا: صهل.
قوله: «في عنقه سطع» :
أي: طول.
قوله: «وإذا تكلم سما» :
حقيقة ومعنى لبلاغة منطقه حتى يبلغ القلب والعقل، وقال الحافظ البيهقي:
في قوله: إن تكلم سما، تريد: علا برأسه أو يده. اه. وهو أبلغ من ذلك كما تقدم.
قوله: «فصل لا نزر ولا هذر» :
وسط بين ذلك، ليس بقليل ولا كثير.(2/358)
ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته لا لتمست أن أصحبه، ولأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله، وهو يقول:
قوله: «لا تشنؤه عين من طول» :
أي أن العين تعطيه حقه من الطول وتقر له به. وهو في معنى الرواية الأخرى عند البيهقي: ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عن مطاولته.
قوله: «ولا تقتحمه عين من قصر» :
أي: لا تزدريه ولا تحتقره.
قوله: «محفود محشود» :
المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه، ويسرعون في طاعته، والمحشود: المحفوف المطاف به.
قوله: «لا عابس» :
أي: الوجه، بل طليقه، ويروى: لا عابث.
قوله: «ولا مفند» :
بكسر النون المشددة: كثير اللوم، أو الذي يكثر اللوم، ويروى: ولا معتد، قال البيهقي: من الاعتداء وهو الظلم.(2/359)
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتي أمّ معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم به ... من فعال لا تجازي وسؤيد
سلوا أختكم عن شاتها ... وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
أتاها بشاة حائل فتحلبت له ... بصريح ضرّة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها لحالب ... يدر لها في مصدر ثم مورد
قال: فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقد سر من يسري إليهم ويفتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا ... عمي وهداة يهتدون بمهتد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
قوله: «هما نزلا بالبر» :
وروي أيضا:
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
قوله: «سلوا أختكم» :
ويروى قبله هذا البيت:
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قوله: «تسكعوا» :
في صلب الأصل: تشغلوا: ثم ضرب الناسخ عليها وكتب في الهامش:
تسكعوا صح: قال: والتسكع: التمادي في الباطل. اه. وفي المصادر:
تسفهوا.(2/360)
وإن قال في يوم مقالة غايب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
ويهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قوله: «ومقعدها للمؤمنين بمرصد» :
تابعه عن بشر بن محمد:
1- عمرو بن زرارة، أخرجه البخاري في تاريخه [2/ 84] ، اختصر لفظه وقال: ما أدري الحر أدرك أبا معبد؛ أبو معبد قتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- العباس بن محمد الدوري. أخرجه أبو نعيم في المعرفة [6/ 3019] رقم 7001، وابن عساكر في تاريخه [3/ 316] .
3- محمد بن المثنى. أخرجه ابن سعد في الطبقات [1/ 230] ، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم [3/ 57] ، إلا أنه قلب اسم الشيخ فجعله محمد بن بشر، والظاهر أنه من سوء الطبع كما يظهر من رواية ابن الجوزي، وزاد في آخر متنه: قال عبد الملك: فبلغنا أن أم معبد هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت.
4- الحسن بن مكرم، أخرجه البيهقي- كما في تاريخ ابن كثير [3/ 192] ، وابن عساكر في تاريخه [3/ 319] .
وعزاه الحافظ في الإصابة من هذا الوجه- أعني طريق الحر بن الصياح- لابن خزيمة في صحيحه، والبغوي في الصحابة، ولعله عند ابن منده أيضا في الصحابة من هذا الوجه: فقد أخرجه ابن عساكر في تاريخه [3/ 316] ، من طريقه.
وروي من وجه آخر، فأخرجه الحاكم في المستدرك [3/ 9، 11] ، والبيهقي في الدلائل [1/ 276، 277، 281] من طرق، والطبراني في معجمه الكبير [4/ 55] رقم 3605، وفي الأحاديث الطوال برقم 30، وأبو نعيم في المعرفة [6/ 3019- 3020] ، وفي الدلائل [1/ 337] رقم 238، والبغوي-(2/361)
.........
- في شرح السنة [13/ 261] رقم 3704، وفي الأنوار برقم 456، وأبو القاسم الأصبهاني في الدلائل برقم 42، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد، الأرقام: 1433، 1434، 1435، 1436، 1437، والآجري في الشريعة [/ 465- 466] ، وابن عساكر في تاريخ دمشق [3/ 322- 323، 323- 326، 327- 329، 330، 332، 332- 334] ، وابن قتيبة في الغريب [1/ 465] ، والبغوي، وابن شاهين، وابن السكن، ويعقوب بن سفيان دون الأشعار، قاله البيهقي ثم أخرجه من طريقه [1/ 281] ، وابن منده كما في الخصائص [1/ 466] ، جميعهم من حديث أيوب بن الحكم، عن حزام بن هشام عن أبيه هشام بن حبيش، عن حبيش بن خالد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وقتيل البطحاء يوم فتح مكة به، صححه الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي في التلخيص، وفي إسناده اختلاف بين وصله وإرساله، فبعضهم يسقط حبيش بن خالد ولا يذكره ويرويه مرسلا، ومعظم أحاديث السيرة إنما الاعتماد فيها على قبول أهل العلم لها حيث يوردونها ولا يطيلون البحث في أسانيدها كما يفعلون في أحاديث الأحكام، قال الحاكم في مستدركه عقب روايته لحديث الباب:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويستدل على صحة وصدق رواته بدلائل:
- فمنها: نزول المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيمتين، متواتر في أخبار صحيحة ذوات عدد.
- ومنها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون بوضع الحديث والزيادة والنقصان، وقد أخذوه لفظا بعد لفظ عن أبي معبد وأم معبد.
- ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد: أخذ الوالد عن أبيه، والأب عن جده، لا إرسال ولا وهن في الرواة. -(2/362)