ـ[تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام]ـ
المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)
الناشر: المكتبة التوفيقية
عدد الأجزاء: 37
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
المجلد الأول
مقدمات
تقديم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات:
تقديم:
إن الحمد لله ...
نحمد، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هادي له.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3.
أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذه صفحات من تاريخنا الإسلامي، نحن أحوج ما نكون إليها في زماننا، لنستلهم منها العبرة، ونأخذ منها العظة.
__________
1 سور آل عمران: 102.
2 سورة النساء: 1.
3 سورة الأحزاب: 70، 71.(1/3)
بين يدي الكتاب:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد..
فمن المعالم التربوية التي صارت حقيقة في الأذهان، أن وجود عنصر القدوة الحسنة مؤثر جدًّا في عملية إعداد الفرد المثالي، النافع لنفسه ولغيره، وبالتالي بناء الجيل المثالي، ونشأ الأمة القوية الفتية.
وعندما يتأمل المرء المسلم فيما تركه السلف الصالح من تصانيف نافعة يجد فيها تلك القدوة الحسنة التي يبحث عنها.
ولا شك أن من أسباب الركود الحضاري، بل من أهم أسبابه هو جهل أبناء الأمة بما تركه السلف الصالح من كنوز عملية تعرض لها الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة.
وفي هذا الكتاب نسير في روضة "تاريخ الإسلام والمسلمين" فنحيا مع العلماء والفقهاء والأدباء والبلغاء والأمراء والسلاطين والزهاد والعابدين، فيا لها من مسيرة مباركة نتأسى بأفعالهم، ونهتدي بأقوالهم، ونسير على دربهم، ونتعرف على أحداث العالم الإ سلامي في تلك القرون الخالية.
فإنه من الجدير بكل مسلم ومسلمة الوقوف على سير ممالك الإسلام، والتعرف على أحداث عصورهم، والوقوف على أقوالهم، وأفعالهم، والاطلاع على مناقبهم وفضائلهم، ومعرفة الإيجابيات والسلبيات في أدوار حياتهم لتكون لنا نبراسًا نهتدي به في حياتنا.
وبعد..
فتلك موسوعة "تاريخ الإسلام" للإمام الحافظ العلامة الذهبي تضم تاريخ الإسلام في قرون خلت هدية مهداة إلى العالم الإسلامي بأسره في حُلة قشيبة.
فالحمد لله على توفيقه أولًا وآخرًا، وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به سائر المسلمين.
وجزى الله مؤلفه، ومحققه، وناشره خير الجزاء في الدنيا والآخرة.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه أبو مريم/ مجدي فتحي السيد
طنطا، مصر(1/5)
ترجمة الإمام الذهبي "673-748هـ":
1- اسمه ونسبه:
هو الإمام محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله، شمس الدين، المكنى بأبي عبد الله، والملقب بالذهبي.
وسر تلقيبه بالذهبي أن والده شهاب الدين أحمد اشتغل بصنعة الذهب المدقوق، فبرع بها وتميز، فنسب إليها.
2- مولده ونشأته العلمية:
في أسرة تحب العلم والعلماء، كان مولد العلامة الذهبي في مدينة ميافارقين من أشهر مدن ديار بكر، في أسرة تركمانية الأصل، وتنتهي بالولاء إلى بني تميم.
وفي شهر ربيع الآخر من سنة 673هـ، وذلك في الثالث من الشهر المذكور.
ونشأ في أسرة تحب العلم، فوالده شهاب الدين طلب العلم، وسمع "صحيح البخاري" في سنة 666هـ، من المقداد القيسي.
وكانت مرضعته وعمته ست الأهل بنت عثمان، الحاجة أم محمد، قد حصلت على الإجازة من ابن أبي اليسر، وجمال الدين بن مالك، وزهير بن عمر الزرعي، وغيرهم.
وكان خاله علي من طلبة العلم، فسمع من أبي بكر ابن الأنماطي، وبهاء الدين أيوب الحنفي وست العرب الكندية، والتاج عبد الخالق.
وكان زوج خالته فاطمة، أحمد بن عبد الغني بن عبد الكافي الأنصاري، الذهبي، المعروف بابن الحرستاني، قد سمع الحديث، ورواه، وكان حافظًا للقرآن الكريم.(1/7)
وكان أخاه من الرضاعة علاء الدين، أبا الحسن علي بن إبراهيم بن داود العطار الشافعي، من طلبة العلم وحصل الكثير من الإجازات من علماء زمانه.
وقد بدأ الذهبي حفظ القرآن الكريم، وإتقانه على يد شيخه مسعود بن عبد الله الصالحي، بدأ مبكرًا في إتقان علم القراءات والحديث الشريف.
وكانت نشأته العلمية في مدينة دمشق، فأخذ مختلف العلوم عن شيوخها، وأكثر الأحكام عن كبار علماء زمانه، كالحافظ ابن عساكر، والحافظ اليونيني.
وسمع بدمشق من عمر بن القواس، ويوسف بن أحمد القمولي، وببعلبك من عبد الخالق بن علي وبمصر من الأبرقوهي، وابن دقيق العيد، والدمياطي.
وسمع بالإسكندرية من أبي الحسن الغرافي، وأبي الحسن الصواف، وبمكة من التوني وبحلب من سنقر الزيني، وبنابلس من العماد بن بدران، وغيرهم كثير.
وتمكن العلامة الذهبي -رحمه الله- من علوم عصره الأساسية كالتفسير والحديث، والعقيدة، والفقه، والتاريخ، وانصرف بآخره في علمي الحديث والتاريخ فبرع فليهما، وفاق شيوخه في ذلك.
3- رحلاته العلمية:
ارتحل العلامة الذهبي إلى الكثير من البلدان، معرفة منه بأهمية الرحلة في طلب العلم، فرحل في البدء إلى بلدان ديار الشام، ومنها:
بعلبك، وحمص، وحماة، وطرابلس، والكرك، والمعرة، ونابلس، والرملة، والقدس وغيرها.
ورحل إلى الديار المصرية، فسمع بالقاهرة، وبالإسكندرية، ومنها رحل إلى فلسطين، ومنها رحل إلى بلاد الحرمين، فسمع بمكة المكرمة، وعرفة، ومنى، والمدينة.
4- شيوخه الذين تعلم منهم:
ذكر الإمام الذهبي -رحمه الله- في نهاية تذكرته للحفاظ بعض الشيوخ والحفاظ الذين تتلمذ عليهم، وأخذ عنهم العلم، فذكر:(1/8)
1- أبا الحسن علي بن مسعود الموصلي.
2- نصفي الدين محمود بن أبي بكر الأرموي.
3- شرف الدين أحمد بن إبراهيم الفزاري.
4- القاسم بن محمد بن يوسف.
5- محمد بن أبي الفتح البعلبكي.
6- عبد الكريم بن عبد النور.
7- محمود بن أبي بكر الحنفي.
8- محمد بن إبراهيم بن غنائم.
9- عثمان بن محمد التوزري.
10- محمد بن محمد بن سيد الناس.
11- أحمد بن مظفر بن النابلسي.
12- علي بن مظفر بن إبراهيم الكندي.
13- إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الأنصاري.
14- أحمد بن النضر الدقوقي.
15- عيسى بن يحيى السبتي.
16- حسن بن علي اللخمي.
17- علي بن إبراهيم بن داود.
18- موسى بن إبراهيم الشعراوي.
19- يعقوب بن أحمد الصابوني.
20- محمد بن مسلم بن مالك.
21- عبد الله بن أحمد المقدسي.
22- عمر بن حسن الدمشقي.
23- محمد بن أحمد بن عبد الهادي، وغيرهم كثير وعلى رأسهم ابن تيمية رحمه الله.(1/9)
ومن ذلك يتبين لنا أن الحافظ الذهبي -رحمه الله- قد سعى في طلب العلم سعيًا حميدًا، وقد ذكر أنه أخذ العلم عن ثلاثمائة وألف شيخ، فيهم كثير من علماء عصره، فمشايخ زمانه.
5- صفاته الشخصية:
ذُكر عنه -رحمه الله- أنه كان حاد الذهن، يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة قوية، فقيل عنه: كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها.
وقد ذكروا أن الحافظ ابن حجر، قال: شربت ماء زمزم بنية أن أصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ.
وكان السيوطي خاتمة الحفاظ، يقول: إن المحدثين عيال الآن -يعني زمن السيوطي- في الردود وغيرها في فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر.
6- مناصبه العلمية:
تولى العلامة الذهبي في سنة 703هـ الخطابة بمسجد كفر بطنان وهي قرية بغوطة دمشق، وظل مقيمًا بها إلى سنة 718هـ.
وفي يوم الاثنين العشرين من ذي الحجة باشر الشيخ الذهبي شياخة دار الحديث بتربة أم الصالح وذلك في سنة 718هـ.
وفي يوم الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة سنة 729هـ ولي شمس الدين الذهبي دار الحديث بالظاهرية.
ولما توفي العلامة الحافظ البرزالي -شيخ الذهبي- سنة 739هـ، تولى الذهبي تدريس الحديث بالمدرسة النفيسية، وإمامتها عوضًا عنه.
وفي نفس السنة باشر الذهبي مشيخة الحديث بالتنكزية، وتُعرف بدار القرآن والحديث.
وقد تولى الذهبي كذلك دار الحديث الفاضلية بالكلاسة.(1/10)
7- مؤلفاته العلمية:
له الكثير من التصانيف التي تشهد بتبحره، ولقد خلف لنا ثروة علمية ضخمة، فلقد ألف في فنون كثيرة، وكلها جم النفع، عظيم الفضل، غزير الفائدة، منها الموسعات الضخمة في الحديث والتاريخ، ومنها الكتب المتوسطة، ومنها الرسائل الصغيرة، والتي يطلق عليها الأجزاء الحديثية، وبعض مؤلفاته من تصنيفه ابتداء، وبعضها الآخر ردود، أو مستدركة على كتب، أو مختصرات.
وتمتاز كتبه بالوضوح في العبارة، ودقة التحقيق العلمي، والبعد عن التقليد والجمود.
وقد اخترت لك من كتبه ما يلي:
أولًا: في القراءات
1- معرفة كبار القراء.
2- التلويحات في علم القراءات.
ثانيًا: في علم الحديث
3- الأربعون البلدانية.
4 - الكلام على حديث الطير.
5- المستدرك على مستدرك الحاكم.
ثالثًا: في علم مصطلح الحديث
6- الموقظة في علم مصطلح الحديث.
7- طرق أحاديث النزول.
8- العذب السلسل في الحديث المسلسل.
9- منية الطالب لأعز المطالب.
10- كتاب الزيادة المضطربة.
رابعًا: في علم العقائد
11- العلو للعلي الغفار.(1/11)
12- ما بعد الموت.
13- مسألة دوام النار.
14- الردع والأوجال في نبأ المسيح الدجال.
15- جزء في الشفاعة.
16- الأربعين في صفات رب العالمين.
17- أحاديث الصفات.
18- رؤية الباري.
19- العرش.
خامسًا: في أعلم أصول الفقه
20- مسألة الاجتهاد.
21- مسألة خبر الواحد.
سادسًا: في علم الفقه
22- تحريم أدبار النساء.
23- جزء من صلاة التسبيح.
24- حقوق الجار.
25- الوتر.
26- اللباس.
27- مسألة السماع.
سابعًا: في علم الرقائق
28- الكبائر.
29- جزء في محبة الصالحين.
30- دعاء الكرب.
31- ذكر الوالدان.(1/12)
32- كشف الكربة عند فقد الأحبة.
33- التعزية الحسنة بالأعزة.
ثامنًا: في التاريخ والتراجم
34- أخبار قضاة دمشق.
35- سير أعلام النبلاء.
36- تاريخ الإسلام، وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
37- تذكرة الحفاظ.
38- العبر في خبر مَنْ غبر.
39- الإعلام بوفيات الأعلام.
40- أهل المائة فصاعدًا.
41- تقييد الإسلام.
42- دول الإسلام.
43- ذيل سير أعلام النبلاء.
44- معجم الشيوخ الأوسط.
45- المعين في طبقات المحدثين.
46- من تكلم فيه وهو موثق.
47- ميزان الاعتدال في نقد الرجال.
48- المغني في الضعفاء.
تاسعًا: في السير والتراجم المفردة
49- أخبار أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها.
50- التبيان في مناقب عثمان -رضي الله عنه.
51- ترجمة أبي حنيفة.
52- ترجمة أحمد بن حنبل.(1/13)
53- ترجمة مالك بن أنس.
54- ترجمة الشافعي.
55- الدرة اليتيمية في سيرة التيمية.
56- سيرة أبي القاسم الطبراني.
57- قض نهارك بأخبار ابن المبارك.
8- مناقب البخاري.
عاشرًا: المنوعات
59- بيان زغل العلم.
60- جزء في فضل آية الكرسي.
61- الطب النبوي.
أخيرًا: المختصرات من الكتب
62- "تجريد أسماء الصحابة" مختصر "أسد الغابة" لابن الأثير.
63- تلخيص "العلل المتناهية" لابن الجوزي.
64- تهذيب "تاريخ علم الدين البرزالي".
65- "الكاشف" في معرفة من له رواية في الكتب الستة مختصر "تهذيب الكمال".
66- مختصر "تاريخ دمشق" لابن عساكر.
67- مختصر "تاريخ بغداد "للخطيب.
68- مختصر "تاريخ نيسابور" للحاكم.
69- مختصر "جامع بين العلم وفضله" لابن عبد البر.
70- مختصر "الروضتين" لأبي شامة.
71- مختصر "وفيات الأعيان" لابن خلكان.
72- "المستحلي في اختصرا المحلي" لابن حزم.(1/14)
73- المقتنى في سرد الكنى.
74- مختصر "السنن الكبرى" للبيهقي.
8- ثناء العلماء والمؤرخين عليه:
قال ابن ناصر الدين: ناقد المحدثين، وإمام المعدلين والمجرحين، وكان إمامًا في القراءات وكان آية في نقد الرجال، عمدة في الجرح والتعديل.
وقال شمس الدين السخاوي: هو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال.
وقال تلميذه تقي الدين بن رافع السلامي: كان خيرًا، صالحًا، متواضعًا، حسن الخلق، حلو المحاضرة، غالب أوقاته في الجمع والاختصار، والاشتغال في العبادة، له ورد بالليل، وعنده مروءة وكرم.
وقال الزركشي: كان على الزهد التام والإيثار العام، والسبق إلى الخيرات، والرغبة بما هو آت.
وقال تلميذه الحسيني: سار بجملة منها الركبان في أقطار البلدان.
وقال صلاح الدين الصفدي: الشيخ، الإمام، العلامة، الحافظ، شمس الدين، أبو عبد الله الذهبي حافظ لا يجارى، ولافظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس.
ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبته وانتماؤه، جمع الكثير، ونفع الجم والغفير وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مؤونة التطويل في التأليف.
وقال تاج الدين السبكي: شيخنا، وأستاذنا، الإمام الحافظ، محدث العصر، واشتمل عصره على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص: المزي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الإمام الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم.
وأما أستاذنا أبو عبد الله، فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، ورجل الرجال في كل سبيل، وهو الذي خرجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة.
وسمع منه الجمع الكثير، وما زال يخدم هذا الفن إلى أن رسخت فيه قدمه،(1/15)
وتعب الليل والنهار، وما تعب لسانه وقلمه، وضربت باسمه الأمثال، وسار اسمه مسير لقببه الشمس إلا أنه لا يتقلص إذا نزل المطر، ولا يدبر إذا أقبلت الليالي.
وقال العلامة الحسيني: الإمام الذهبي، العلامة، شيخ المحدثين، قدوة الحفاظ والقراء، محدث الشام، ومؤرخه، ومفيده.
وكان أحد الأذكياء المعدودين، والحفاظ المبرزين.
وقال ابن كثير: الشيخ، الحافظ، الكبير، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين، وقد ختم به شيوخ الحديث وحفظه.
وقال البدر النابلسي: كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم، حديد الفهم، ثاقب الذهن وشهرته تغني عن الإطناب فيه.
وقال بدر الدين العيني: الشيخ الإمام العالم، العلامة، الحافظ، المؤرخ، شيخ المحدثين.
وقال سبط ابن حجر: الإمام، العالم، العلامة، حافظ الوقت الذي صار هذا اللقب علمًا عليه.
فلله دره من إمام محدث! فكم دخل في جميع الفنون، وخرج وصحح، وعدل وجرح، وأتقن هذه الصناعة، فهو الإمام سيد الحفاظ، إمام المحدثين، قدوة الناقدين.
9- تلاميذه الذين تعلموا منه:
سمع منه العلم الكثيرون، ورحلت إليه أمم، ومن أشهرهم:
صلاح الدين الصفدي، وتاد الدين السبكي، والبرزالي، والعلائي، وابن كثير، وابن رافع السلامي، والحسيني، وغيرهم.
وأخيرًا ... وفاته:
ظل العلامة، الإمام الذهبي -رحمه الله- يصنف ويدرس، ويؤلف، ويختصر، ويسعى في نشر لعلم، حتى كف بصره سنة 741هـ، فتوقف عن التأليف، وظل يدرس حتى وافته المنية في سنة 748هـ رحمه الله رحمة واسعة، ودفن بمقبرة باب الصغير بدمشق.(1/16)
ولمزيد من التفصيل والإيضاح يمكنك الرجوع إلى المراجع والمصادر التالية:
1- فوات الوفيات "2/ 183".
2- نكت الهيمان "241".
3- ذيل تذكرة الحفاظ "34"، "347".
4- طبقات الشافعية "5/ 216".
5- شذرات الذهب "6/ 153".
6- غاية النهاية "2/ 71".
7- الدرر الكامنة "3/ 336".
8- النجوم الزاهرة "10/ 182".
9- الإعلام بالتوبيخ "84".
10- مفتاح السعادة "1/ 212"، "2/ 216".
11- تاريخ النعيمي "1/ 78".
12- مجلة المجمع العلمي "16/ 387".
13- مقدمة المختصر المحتاج إليه.
14- دائرة المعارف الإسلامية "9/ 431-434".
15- الأعلام للزركلي "5/ 326".
والحمد لله رب العالمين.(1/17)
منهج التحقيق:
1- تخريج الآيات القرآنية.
2- تخريج الأحاديث وبعض الآثار.
3- تحقيق الأحاديث وبيان صحتها أو ضعفها مسندًا ذلك إلى أهل العلم بهذا الفن، وأذكر ذلك في أول التعليق.
4- تحقيق بعض الآثار.
5- تحقيق القول في الأعلام المجروحين مع نقل ما قيل فيهم في غير هذا الكتاب من مصادر الجرح والتعديل المتيسرة لدي.
6- تفسير بعض الأنساب.
7- التعريف ببعض الأماكن والبلدان.
8- تفسير بعض الكلمات الغربية.(1/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية قبل الهجرة:
ذِكْرُ نَسَبِ سَيِّدِ الْبَشَرِ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَبُو الْقَاسِمِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَدْنَانُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ، بِإِجْمَاعِ النَّاسِ1.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الآباء، فقيل بينهما تسعة آباء.
وقيل: بينهما سبعة آبَاءٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَسْمَاءِ بَعْضِ الْآبَاءِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَبًا، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ أَبًا وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَرَبِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا وَجَدْنَا مَنْ يَعْرِفُ مَا وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرّصًا2.
__________
1 وقد ذكر الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 684" نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدنان، ثم قال: وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "6/ 611"، وأما من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدنان فمتفق عليه.
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 25"، وإسناده حسن، فيه ابن لهيعة، وهو وإن كان سيئ الحفظ فقد روى عنه هذا الأثر عبد الله بن وهب، وروايته عنه قوية كما في "التقريب" "3563"، وفيه أيضًا خالد بن خداش، فيه مقال لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، فانظر "الميزان" للمصنف "2418".(1/19)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ1، أَبًا قَالَهُ: هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ النَّسَّابَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ هِشَامٌ وَأَبُوهُ مَتْرُوكَانِ2.
وَجَاءَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "كَانَ إِذَا انْتَهَى إِلَى عَدْنَانَ أَمْسَكَ وَيَقُولُ: "كَذَبَ النَّسَّابُونَ" 3 قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} 4.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَتِيمُ عُرْوَةَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا وَأَشْعَارِهَا يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْلَمُ مَا وَرَاءَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فِي شِعْرِ شَاعِرٍ وَلَا عِلْمِ عَالِمٍ5.
قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعَدًّا كَانَ عَلَى عَهْدِ عِيسَى بْنِ مريم -عليه السلام6.
__________
1 لم أجده عن ابن عباس -رضي الله عنه- وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 24" عن محمد بن السائب الكلبي قال: بين معد وإسماعيل -صلى الله عليه وسلم- نيف وثلاثون أبا. والكلبي متروك إذا أسند، فكيف إذا لم يسند، والراوي عنه هو هشام ابنه، وهو مثله في الضعف.
2 أما هشام فقد قال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. وقال الحافظ الذهبي: لا يوثق به، انظر ترجمته في "الميزان" "9237".
وأما أبوه محمد بن السائب فهو مفسر نسابة، معروف، ولكنه متروك ومتهم بالكذب، خاصة عن أبي صالح، فقد صرح نفسه بهذا، حيث قال لسفيان: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب. ولذلك تركه أئمة الجرح والتعديل. وانظر "الميزان" "7574".
3 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 24"، من طريق هشام عن أبيه عن أبي صالح به، وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء، أما أبو صالح فهو باذام، ضعيف كما في "الميزان "1032"، وهشام وأبوه كلاهما متروك، وقد صرح أبوه بالكذب في روايته عن أبي صالح كما تقدم.
4 سورة الفرقان: 38.
5 إسناده حسن: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 25"، وفي إسناده ابن لهيعة وقد رواه عنه عبد الله بن وهب، وروايته عنه قوية كما تقدم، وفيه خالد بن خداش، حسن الحديث كما تقدم، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ثقة كما في "التهذيب" "3/ 630"، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة تابعي ثقة كما في "التهذيب "4/ 488".
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 24"، وهشام متروك كما تقدم.(1/20)
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ إِذَا تَلَوْا: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} 1 قَالُوا: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَى هَذَا عِنْدَنَا عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ: تَكْذِيبُ مَنِ ادَّعَى إِحْصَاءَ بَنِي آدَمَ.
وَأَمَّا أَنْسَابُ الْعَرَبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَيَّامِهَا وَأَنْسَابِهَا قَدْ وَعَوْا وَحَفِظُوا جَمَاهِيرَهَا وَأُمَّهَاتِ قَبَائِلِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ أَنَّهُ: عَدْنَانُ بْنُ أُدَدِ بْنِ مُقَوِّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بْنِ آزَرَ، وَاسْمُهُ تَارَحُ بْنُ نَاحُورَ بْنِ سَارُوغَ بْنِ رَاغُو بْنِ فَالَخَ بْنِ عَيْبَرَ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بْنِ لَمَّكِ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بن خنوخ، وهو إدريس -عليه السلام- بن يَرْدَ بْنِ مِهْلِيلَ بْنِ قَيْنَنَ بْنِ يَانِشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الْإِمْسَاكُ عَمَّا وَرَاءَ عَدْنَانَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ.
وَرَوَى سَلَمَةُ الْأَبْرَشُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذَا النَّسَبَ إِلَى يَشْجُبَ سَوَاءً، ثُمَّ خَالَفَهُ فَقَالَ: يَشْجُبُ بْنُ يَانِشَ بْنِ سَارُوغَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ قِيذَارَ بْنِ نَبْتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَذْكُرُونَ أَنَّ عُمُرَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ أَشْرَعَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَخَ بْنِ عَابِرِ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نُوحِ بْنِ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ بْنِ يَرْدَ بْنِ مِهْلَايِيلَ بْنِ قَايَنَ بْنِ أنوش بن شيث بن آدم2.
__________
1 سورة إبراهيم: 9.
2 في إسناده من لم أجد لهم تراجم.(1/21)
وَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ وَجَدَ نَسَبَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي التَّوْرَاةِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ شَرْوَغَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمَّكَ بن متشالخ بن خنوخ -وهو إرديس- بْنُ يَارَدَ بْنِ مِهْلَايِيلَ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ1.
وَقَالَ ابْنُ سعد: حدثنا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ قَالَ: عَلَّمَنِي أَبِي وَأَنَا غُلَامٌ نَسَبَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدٍ، الطَّيِّبِ الْمُبَارَكِ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ بْنُ هِشَامٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ: زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ2.
قَالَ أَبِي: وَبَيْنَ مَعَدٍّ وَإِسْمَاعِيلَ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ أَبًا، وَكَانَ لَا يُسَمِّيهِمْ وَلَا يُنْفِذُهُمْ3.
قُلْتُ: وَسَائِرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَعْجَمِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْخَطِّ إِلَّا تَقْرِيبًا.
وَقَدْ قِيلَ في قوله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} 4: فَصِيلَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَعْمَامُهُ وَبَنُو أَعْمَامِهِ، وَأَمَّا فَخِذُهُ فَبَنُو هَاشِمٍ قَالَ: وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَطْنُهُ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَتُهُ، وَبَنُو كِنَانَةَ قَبِيلَتُهُ. وَمُضَرُ شَعْبُهُ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصْطَفَى اللَّهُ كِنَانَةَ مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى هَاشِمًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هاشم" 5 رواه مسلم.
وأمّه آمنة وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، فَهِيَ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى كِلَابٍ مِنْ زوجها عبد الله برجل.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: عبد المنعم بن إدريس متروك، ومتهم بالكذب، كما في "الميزان" "5270".
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات""1/ 23، 24".
3 إسناده ضعيف جدًّا: انظر المصدر السابق.
4 سورة المعارج: 13.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2276" في كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- والترمذي "3626" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "4/ 107"، وابن حبان "6242"، والبغوي في "شرح السنة" "3613".(1/22)
مَوْلِدُهُ الْمُبَارَكُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، وَالْفَتْحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، أنا عَلِيُّ بن عرم الْحَرْبِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ يَوْمَ الْفِيلِ"1 صَحِيحٌ2.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: "وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ. كنا لدين"3 أخرجه الترمذي، وإسناده حسن.
__________
1 أخرجه الحاكم في "مستدرك" "4180"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 75"، من طريق حجاج بن محمد به. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "1/ 96": رواه البزار والطبراني ورجاله موثقون. وانظر التعليق الآتي.
2 قلت: في هذا التصحيح بحث، فإن أبا إسحاق مدلس كما في "طبقات المدلسين" "ص31" للحافظ ابن حجر، وكذلك كان قد اختلط كما في "التقريب" "5065"، ولعل تصحيح الحافظ الذهبي له لأنه ورد من طريق آخر، فقد أخرجه ابن أبي شيبةكما في "البداية" "1/ 691"، عن عفان بن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس به، وهذا إسناد رجاله ثقات، ولكنه منقطع بين عفان وسعيد بن جبير، فهو يصلح لمتابعة الطريق الأول، وبذلك يتقوى الحديث، والله أعلم.
3 إسناده ضعيف: أخرجه الترمذي "3639"، في كتاب المناقب، باب: ما جاء في ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 165"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 47" والطبري في تاريخه "1/ 453" والحاكم في "مستدركه" "4183" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 76-77" وأبو نعيم في "الدلائل" "ص91" وابن حبان في "الثقات" "1/ 14"، وقال الألباني: ضعيف الإسناد.
قلت: وأما تحسين الحافظ الذهبي لإسناده ففيه نظر، فإن المطلب بن عبد الله مقبول كما في "التقريب" "6711"، ومعنى ذلك أنه إذا توبع فتقبل روايته، وإلا فإسناده لين، وقد تفرد بالرواية عنه ابن إسحاق كما في "التهذيب" "4/ 93-94" ووثقه ابن حبان، وابن حبان معروف عند أهل العلم بتساهله في التوثيق، حيث إنه يوثق من لم يعرف بجرح أو تعديل، ومثل هذا الموثق، إذا تُفرد عنه فلا نستطيع عندئذ أن نقبل روايته، والله أعلم بالصواب.(1/23)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ: ثنا سُلَيْمَانُ النَّوْفَلِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ، وَكَانَتْ عُكَاظُ بَعْدَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَبُنِيَ الْبَيْتُ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ. وَتَنَبَّأَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ1.
قَالَ شَبَّابٌ الْعُصْفُرِيُّ: ثنا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، سَمِعْتُ قِبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ يَقُولُ: أَنَا أَسَنُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَقَفَتْ بِي أُمِّي عَلَى رَوَثِ الْفِيلِ مُحِيلًا2 أَعْقِلُهُ، وَوُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الفيل3.
يحيى أَبُو زُكَيْرٍ، وَشَيْخُهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ4.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَبْعَثِهِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْفِيلِ سَبْعُونَ سَنَةً5. كَذَا قَالَ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: هَذَا وَهْمٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ وَبُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْفِيلِ وَبَيْنَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرُ سِنِينَ6. وهذا قول منقطع7.
__________
1 مرسل: ولم أميز سليمان النوفلي والأثر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 78".
2 محيلًا: أي متغيرًا.
3 إسناده ضعيف جدًّا، انظر التعليق الآتي.
4 أما يحيى فهو ابن محمد بن قيس، في حديثه ضعيف كما في "الميزان" "9616" وأما شيخه عبد العزيز بن عمران فهو الزهري المدني، متروك كما في "الميزان" "5119".
5 مرسل.
6 مرسل: وابن أبزى هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، وجعفر ويعقوب كلاهما فيه مقال.
7 يريد مقطوع، أي موقوف على هذا التابعي.(1/24)
وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ1 قَالَ:
ثنا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، ثنا الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: حُمِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عَاشُورَاءَ الْمُحَرَّمِ، وَوُلِدَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ غَزْوَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ2 وهذا حديث ساقط كما نرى.
وَأَوْهَى مِنْهُ مَا يُرْوَى عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ سَاقِطٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بَاذَامَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً3. قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ كَذِبَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ، وَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ آلَ اللَّهِ وَعَظُمَتْ فِي الْعَرَبِ، وُلِدَ لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول4 وَقِيلَ: مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ.
وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ - قَالَ: "ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَفِيهِ أُوحِيَ إِلَيَّ" 5. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ فِي لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الأول عند أبهرار النّهار6.
__________
1 محمد بن عثمان بن أبي شيبة على سعة علمه فقد تكلم فيه أهل العلم، بل رماه البعض بالكذب، والوضع، فانظر "الميزن" "7934".
2 إسناده ضعيف جدًّا: المسيب بن شريك متروك كما في "الميزان" "8544"، وتقدم ما قيل في محمد بن عثمان بن أبي شيبة.
3 إسناده ضعيف جدًّا.
4 مرسل: ومعروف بن خربوذ فيه مقال كما في "الميزان" "8655".
5 صحيح: أخرجه مسلم "1162/ 197" في كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
6 مرسل.(1/25)
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي، عَنْ حَسَّانِ بْنِ ثابت، قال: "إني لغلام يفعة"1، إذا سَمِعْتُ يَهُودِيًّا وَهُوَ عَلَى أَطَمَةِ2 يَثْرِبَ يَصْرُخُ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟ قَالَ: طَلَعَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي يُبعث بِهِ اللَّيْلَةَ3.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ -صَلَّى الله عليه وسلم- يوم الإثنين ونبئ يوم الْإِثْنَيْنِ. وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَفَتَحَ مَكَّةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ4. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"، وَأَخْرَجَهُ الْفَسَوِيُّ فِي "تَارِيخِهِ".
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ فِي "السِّيرَةِ" مِنْ تَأْلِيفِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ قُدُومُ أَصْحَابِ الْفِيلِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ"5.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ: "وُلِدَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ"6.
قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ نَيْسَانَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَهُ بَعْضُهُمْ: قَالَ: وَقِيلَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ يومًا.
__________
1 أي قوي.
2 مكان مرتفع.
3 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 165" وليس في الإسناد سوى جهالة هؤلاء الرجال، والظاهر أنهم من التابعين، وجهالتهم تُجبر بكونهم جمعًا كما في "الصحيحة" "3/ 361".
4 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 277"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 47"، وابن لهيعة سيئ الحفظ، وحديثه قوي إذا روى عنه العبادلة الذين أشار إليهم العلامة ناصر الدين الألباني في "الصحيحة" "1/ 67" وهذا الحديث من رواية موسى بن داود عن ابن لهيعة.
5 مرسل: أبو جعفر هو الباقر، محمد بن علي بن الحسين.
6 معضل: وأبو معشر هذا ضعيف كما في "التقريب" "7100".(1/26)
قُلْتُ: لَا أُبْعِدُ أَنَّ الْغَلَطَ وَقَعَ مِنْ هُنَا عَلَى مَنْ قَالَ ثَلَاثِينَ عَامًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ يَوْمًا فَقَالَ عَامًا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ سَابِعِهِ، وَصَنَعَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا1.
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَ يُونُسُ بْنُ عَطَاءٍ الْمَكِّيُّ، ثنا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ الْعَدَنِيُّ، ثنا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَخْتُونًا مَسْرُورًا، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَحَظِيَ عِنْدَهُ وَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ2.
تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْخَبَائِرِيُّ، عَنْ يُونُسَ، لَكِنْ أَدْخَلَ فِيهِ بَيْنَ يُونُسَ وَالْحَكَمِ: عُثْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الصُّدَائِيَّ.
قَالَ شَيْخُنَا الدِّمْيَاطِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَتَنَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا طَهَّرَ قَلْبَهُ3.
قُلْتُ: هذا منكر.
__________
1 إسناده ضعيف: الوليد بن مسلم مدلس كما في "التقريب" "7456" وقد عنعنه.
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 48"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 697": هذا الحديث في صحته نظر. وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 25": إنه لا يصح.
3 ضعيف: عزاه الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 697-368"، لابن عساكر، وقال: وهذا غريب جدًّا.(1/27)
أَسْمَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُنْيَتُهُ:
الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ" 1.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْمَاحِي، وَالْخَاتَمُ، وَالْعَاقِبُ" 2. وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ.
وَجَاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: "أَنَا أَحْمَدُ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ" 3.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: ثنا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُقْبَةَ4 بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: أَتُحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي كَانَ جُبَيْرٌ يَعُدُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هِيَ سِتَّةٌ: مُحَمَّدٌ، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماحي5.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3533" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومسلم "2354/ 124" في كتاب الفضائل، باب: في أسمائه -صلى الله عليه وسلم- والترمذي "2849"، في كتاب الأدب، باب ما جاء في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي "الشمائل له" "365"، وأحمد "4/ 80"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 49"، والطبراني في "الكبرى" "1520-1530" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 152".
2 أخرجه أحمد "4/ 81، 84".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2355"، في المصدر السابق، وأحمد "4/ 404"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 156، 157"، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه.
4 في "المطبوعة" "عقبة، والتصحيح من المصدر الآتي.
5 عبد الله بن صالح هو كاتب الليث ضعيف، ولكنه توبع، فقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 49" من طريق حجبين بن المثني عن الليث بن سعد به، وهو إسناد حسن عتبة بن مسلم وثقه ابن حبان وروى عنه جمع من الثقات كما في "التهذيب" "3/ 54"، ومثله يحسن حديثه على أقل تقدير، ولذا قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" "4442"، ثقة.(1/28)
فَأَمَّا حَاشِرٌ فَبُعِثَ مَعَ السَّاعَةِ نَذِيرًا لَكُمْ، وأمّا عاقب فإنّه عقّب الأنبياء، وأمّا ماحي فَإِنَّ اللَّهَ مَحَا بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ.
فَأَمَّا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاشِرُ، وَالْمُقَفِّي، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْمَلْحَمَةِ" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلًا قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" 2.
وَرَوَاهُ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الحَسَّانِيُّ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: يس مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُرْآنِ خَمْسَةُ أَسْمَاءَ: مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَيس، وَطه.
وَقِيلَ: طه، لُغَةٌ لِعَكٍّ، أَيْ يَا رَجُلُ، فَإِذَا قُلْتَ لِعَكِّيٍّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: طه، الْتَفَتَ إِلَيْكَ. نَقَلَ هَذَا الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ. فَعَلَى هَذَا القول لا يكون طه من أسمائه.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2355"، في كتاب الفضائل، باب: في أسمائه -صلى الله عليه وسلم- وفيه "نبي الرحمة" بدلًا من "والملحمة"، وأما هذه الرواية فأخرجها أحمد "4/ 404"، وصححها الألباني في "صحيح الجامع" "1473" والحديث أخرجه أيضا ابن سعد في "الطبقات" "1/ 49"، والطبراني في "الأوسط" "2716".
2 صحيح: أخرجه الطبراني في "الأوسط" "2981"، موصولًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ "إنما بعثت رحمة مهداة" وقال الألباني في "صحيح الجامع" "2345"، صحيح.
3 سورة الأنبياء: 107.(1/29)
وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: رَسُولًا، وَنَبِيًّا أُمِّيًّا، وَشَاهِدًا، وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، ورءوفًا رَحِيمًا، وَمُذَكِّرًا، وَمُدَّثِّرًا وَمُزَّمِّلًا، وَهَادِيًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الضَّحُوكُ، وَالْقَتَّالُ. جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا الضَّحُوكُ أَنَا الْقَتَّالُ"1.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ2، وَفِي التَّوْرَاةِ فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّهُ حِرْزٌ لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنَّ اسْمَهُ الْمُتَوَكِّلُ3.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْأَمِينُ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْعُوهُ بِهِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْفَاتِحُ، وَقُثَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ: تَذَاكَرُوا أَحْسَنَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ فَقَالُوا: قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ4 قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْمُقَفِّي، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ" 5 قَالَ: المقفيّ الذي
__________
1 لم أجده.
2 صحيح: أخرجه البخاري "6594" في كتاب القدر، باب: في القدر، ومسلم "2643" في كتاب القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي، وأبو داود "4718"، في كتاب السنة، باب: في القدر، والترمذي "2144"، في كتاب القدر، باب: ما جاء أن الأعمال بالخواتيم، وابن ماجه "76" في المقدمة، باب: في القدر، وأبو نعيم في "الحلية" "8617" وابن حبان في "صحيحه" "6174"، وهو طرف من حديث خلق الإنسان في الرحم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "2125"، في كتاب البيوع، باب: كراهية السخب في الأسواق، وأحمد "2/ 174"، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه.
وأخرجه الدارمي "6" من حديث ابن سلام -رضي الله عنه.
4 في المصدر الآتى "حذيفة" ويأتي تنبيه المصنف على ذلك.
5 حسن: أخرجه الترمذي في "الشمائل" "366"، وأحمد "5/ 405"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 49"، من حديث حذيفة -رضي الله عنه- وقال الألباني في "مختصر الشمائل": حسن.(1/30)
لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ1، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "الشَّمَائِلِ" وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، فَقَالَ عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ.
وَيُرْوَى بِإِسْنَادٍ وَاهٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِي عَشْرَةُ أَسْمَاءَ، فَذَكَرَ مِنْهَا الْفَاتِحَ، وَالْخَاتَمَ"2.
قُلْتُ: وَأَكْثَرُ مَا سُقْنَا مِنْ أَسْمَائِهِ صِفَاتٌ لَهُ لَا أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ.
وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو الْقَاسِمِ.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي" 3 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا تَجْمَعُوا اسْمِي وَكُنْيَتِي، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، اللَّهُ يُعْطِي وَأَنَا أُقَسِّمُ" 4.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا ولد إبراهيم ابن النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَارِيَةَ كَادَ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ5. ابْنُ لَهِيعَةَ ضعيف.
__________
1 لم أجد هذه الزيادة في المصادر السابقة، وإنما أخرجها مسلم "2354/ 125"، من قول الزهري بلفظ "قال: قلت للزهري: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبي".
2 إسناده ضعيف جدًّا، أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" "ص31" وفي إسناده سيف بن وهب متروك، ونقل الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "7/ 163" عن ابن دحية قال: هذا السند لا يساوي شيئًا.
3 صحيح: أخرجه البخاري "6188" في كتاب الأدب، باب: قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تكنوا بكنيتي"، ومسلم "2134" في كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وأبو داود "4965"، في كتاب الأدب، باب: في الرجل يتكنى بأبي القاسم وابن ماجه "3735" في كتاب الأدب، باب: الجمع بين اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنيته، وأحمد "3/ 248، 260، 270، 312، 395، 455، 457، 470، 478، 491، 519"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 50"، والبغوي في "شرح السنة" "3363".
4 صحيح: أخرجه الترمذي "2580" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنيته، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 50"، وأحمد "2/ 433" وأبو نعيم في "الحلية" "9784" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 163"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
5 إسناده ضعيف: ابن لهيعة ضعيف الحفظ، ولا يصح من حديثه إلا ما كان من رواية العبادلة عنه كما تقدم، ولا أعلم من روى عنه هذا الحديث، وفي تعقيب المصنف على الحديث ما يشعر بأنه من طريق آخر، والله أعلم.(1/31)
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ سَطِيحٍ وَخُمُودِ النِّيرَانِ لَيْلَةَ الْمَوْلِدِ وَانْشِقَاقِ الْإِيوَانِ:
قَالَ ابْنُ أبي الدّنيا وغيره:
حدثنا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، أنا أَبُو يَعْلَى أَيُّوبُ بْنُ عِمْرَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنِي مَخْزُومُ بْنُ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ارْتَجَسَ1 إِيوَانُ كِسْرَى، وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَغَاضَتْ2 بُحَيْرَةُ سَاوَةَ3، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسٍ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَرَأَى الْمُوبَذَانُ4 إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ مَا رَأَى مِنْ شَأْنِ إِيوَانِهِ فَصَبَرَ عَلَيْهِ تَشَجُّعًا، ثُمَّ رَأَى أَنْ لَا يَسْتُرَ ذَلِكَ عَنْ وُزَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ5، فَلَبِسَ تَاجَهُ وَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَجَمَعَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ فِيمَ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ - قَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَنَا الْمَلِكُ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ، فَازْدَادَ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ، فَقَالَ الْمُوبَذَانُ:
وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ -أَصْلَحَ اللَّهُ الملك- في هذه اللّيلة، ثم قصّ على رُؤْيَاهُ فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا يَا مُوبَذَانُ؟ قَالَ: حَدَثٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَتَبَ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ:
"مِنْ كِسْرَى مَلِكِ الْمُلُوكِ إِلَى النُّعْمَانِ بن المنذر، أما بعد، فوجّه إليّ رجل عَالِمٍ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِعَبْدِ الْمَسِيحِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بُقَيْلَةَ الغسانيّ،
__________
1 ارتجس: رجف.
2 غاضت: جف أو نقص ماؤها.
3 ساوة: مدينة بين الري وهمذان.
4 الموبذان: القاضي.
5 مرازبته: جمع مرزبان، وهو الرئيسي من الفرس.(1/32)
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَلَكَ عِلْمٌ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ - قَالَ: لِيَسْأَلْنِي الملك فإن كان عندي علم إلا أَخْبَرْتُهُ بِمَنْ يُعْلِمُهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَقَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ خَالٍ لِي يَسْكُنُ مَشَارِفَ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ سَطِيحٌ قَالَ: فَائْتِهِ فَسَلْهُ عَمَّا سَأَلْتُكَ وَائْتِنِي بِجَوَابِهِ، فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى عَلَى سَطِيحٍ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فَلَمْ يُحِرْ سَطِيحٌ جَوَابًا، فَأَنْشَأَ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ:
أَصَمُّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ ... أَمْ فَادَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنْ1
يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ2
وَأُمُّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ ... أَزْرَقُ نَهْمُ النَّابِ صَرَّارُ الأُذُنْ3
أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّدَاءِ وَالْبَدَنْ ... رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يَسْرِي لِلْوَسَنْ4
تَجُوبُ بِي الْأَرْضَ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ ... تَرْفَعُنِي وَجَنًا وَتَهْوِي بِي وَجَنْ5
لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَنْ ... كَأَنَّمَا أُخْرِجَ مِنْ جَوْفٍ ثَكَنْ6
حَتَّى أَتَى عَارِيَ الْجَآجِي وَالْقَطَنْ ... تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ7
فَقَالَ سَطِيحٌ: عَبْدُ الْمَسِيحِ، جَاءَ إِلَى سَطِيحٍ، وَقَدْ أَوْفَى عَلَى الضِّرِيحِ، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الَمُوبَذَانِ، رَأَى إِبِلًا صِعَابًا، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةِ8، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت. ثم قضى شطيح مَكَانَهُ، وَسَارَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَى رَحْلِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فَإِنَّكَ مَاضِي الْهَمِّ شِمِّيرُ ... لَا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ
إِنْ يُمْسِ مُلْكُ بَنِي سَاسَانَ أَفْرَطَهُمْ ... فَإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
__________
1 غطريف: سيد. وفاد: مات. وأزلم: قبض.
2 الخطة: الحالة والطريقة.
3 الصرار: الشديد السمع.
4 قيل: ملك.
5 علنداة: ناقة قوية. وشزن: والوجن: الأرض الصلبة.
6 ثكن: جبل بالبادية.
7 القطن: جزء من أسفل ظهر الإنسان. وبوغاء: تراب ناعم، والدمن: الزبل والبعر.
8 وادي السماوة: يقع بين الكوفة والشام.(1/33)
فَرُبَّمَا رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ ... تَهَابُ صَوْلَهُمُ الأُسْدُ الْمَهَاصِيرُ1
مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرَامٌ وَإِخْوَتُهُ ... وَالْهُرْمُزَانِ وَسَابُورٌ وَسَابُورُ
وَالنَّاسُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا ... أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَحْقُورٌ وَمَهْجُورُ
وَهُمْ بَنُو الْأُمِّ إِمَّا إِنْ رَأَوْا نَشَبًا ... فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ
وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَصْفُودَانِ فِي قَرَنٍ ... فَالْخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ2
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى كِسْرَى أَخْبَرَهُ بِقَوْلِ سَطِيحٍ فَقَالَ كِسْرَى: إِلَى مَتَى يَمْلِكُ مِنَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا تَكُونُ أُمُورٌ، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-3. هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غَرِيبٌ.
وَبِالْإِسْنَادِ إِلَى الْبَكَّائِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التّبابعة، فرأى رؤيا وَفَظِعَ مِنْهَا، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا، قَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا، قَالَ: إِنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ عَنْهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى سَطِيحٍ وَشِقٍّ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا فَقَدِمَ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ حُمَمَةً4 خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَةٍ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ، تِهَمَةٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ.
قَالَ: مَا أَخْطَأْتُ مِنْهَا شيئًا، فما تأويلها؟
فقال: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ5 مِنْ حَنَشٍ6، لَيَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشُ، فَلَيَمْلِكَنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ7 إِلَى جرش8.
__________
1 المهاصير: المفترسة.
2 مصفودان: موثقان ومقيدان.
3 أخرجه البيهقي في الدلائل "1/ 126-129"، وقد بحثت كثيرًا عن ترجمة لمخزوم بن هانئ وأبيه فلم أعثر عليها، والحديث كما ترى ضعفه المصنف.
4 حممة: جمرة.
5 الحرتين: تثنية حرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود.
6 حنش: حية.
7 أبين: موضع في جبل عدن.
8 جرش: مدينة باليمن.(1/34)
فَقَالَ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لنا لغائط مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بعده؟
قال: بل بعده بحين، أكثر ن سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ يَقْتُلُونَ وَيَخْرُجُونَ هَارِبِينَ.
قَالَ: مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ؟
قَالَ: يَلِيهِ إِرَمُ ذِي يَزَنَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا بِالْيَمَنِ.
قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ؟
قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَبِيٍّ زَكِيٍّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ.
قَالَ: وَمِمَّنْ هُوَ؟
قَالَ: مِنْ وَلَدِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ.
قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي؟
قَالَ: نَعَمْ وَالشَّفَقِ1 وَالْغَسَقِ2، وَالْفَلَقِ3 إِذَا اتَّسَقَ4، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ، وَكَتَمَهُ مَا قَالَ لِسَطِيحٍ لينظر أيتفقان قال: نعم حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَةٍ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَجَهَّزَ أَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يقال له سابور
__________
1 الشفق: الحرمة في السماء بعد غروب الشمس.
2 الغسق: ظلمة الليل.
3 الفلق: الصبح.
4 اتسق: اجتمع.(1/35)
ابن خُرَّزَاذَ، فَأَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ، فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ1.
بَابٌ مِنْهُ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَرَجْتُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ مِنْ نِكَاحٍ غير سفاح" 2. هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِيهِ مَتْرُوكَانِ: الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ3.
وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ إِنْ صَحَّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ4.
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْجَدْعَاءَ قال: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا قَالَ: "وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ" 5.
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَاللَّفْظُ لَهُ: ثنا بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: "وَآدَمُ بين الروح والجسد" 6.
__________
1 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 21-25".
2 حسن: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 26" وفي إسناده كما يأتي، ولكن للحديث طرق وشواهد أخرى، فقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 26"، من حديث عائشة -رضي الله عنها- وأخرجه الطبراني في "الأوسط" "4728" من حديث عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- ولذلك حسنه أبو عبد الرحمن الألباني في "صحيح الجامع" "3232-3225".
3 أما الواقدي فهو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أحد أوعية العلم، ومع ذلك فترك أهل العلم حديثه، بل واتهمه البعض بالكذب والوضع كما يأتي في ترجمته "1486".
4 انظر تخريج الحديث السابق.
5 صحيح: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 70"، وصححه الألباني في "الصحيحة" "1856".
6 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 59" وصححه شيخ الإسلام ابن تيمة في "مجموع الفتاوى" "2/ 147" والحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 767" والألباني في "الصحيحة" "1856".(1/36)
متى وجبت له النبوة:
وقال التّرمذيّ: حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ قَالَ: "بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ" 1. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ2.
قُلْتُ: لَوْلَا لِينٌ فِي الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ لَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ3.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: "أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّ نُورًا خَرَجَ مِنْهَا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ" 4.
وَرُوِّينَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى لِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ" 5. وَإِنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَتْ حِينَ وضعته نورًا أضاءت منه قصور الشام.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3629" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "2/ 130"، والخطيب البغدادي في "تاريخه" "3/ 70" و"5/ 83" وصححه الألباني في "صحيح سن الترمذي".
2 في نسخة "السنن" عندي قال: حسن صحيح غريب.
3 انظر التعليق السابق، وقد اختلف أهل العلم في معنى قول الترمذي: حسن صحيح غريب. وعليه يترتب هذا الاستنتاج، والله أعلم.
4 صحيح: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 172، 173" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 71".
وأخرجه أحمد "4/ 127، 184، 185" والدرامي "13" من طريق خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عمرو السلمي عن عتبة بن عبد السلمي ببعضه، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 71": إسناده جيد قوي. وصححه الألباني في "الصحيحة" "1545".
5 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" "4/ 127، 128"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 71" وأبو نعيم في "الحلية" "7924".(1/37)
رَوَاهُ اللَّيْثُ، وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ سُوَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْعِرْبَاضِ نَفْسِهِ.
وَقَالَ فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ: ثنا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ - قَالَ: "دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ" 1. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ فَرَجٍ.
قَوْلُهُ: "لَمُنْجَدِلٌ" أَيْ مُلْقًى، وَأَمَّا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ فقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} 2 وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْلُهُ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3.
وقال أبو ضمرة: حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَسَمَ اللَّهُ الْأَرْضَ نِصْفَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا، ثُمَّ قَسَمَ النّصف على ثلاثة فكنت في خير ثلت مِنْهَا، ثُمَّ اخْتَارَ الْعَرَبَ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اخْتَارَنِي مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"4 هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَرَوَى زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مَنْهَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي خُرَيْمِ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكٍ، فسمعت العبّاس، يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ. قَالَ: "قُلْ لَا يفض اللَّهُ فَاكَ". فَقَالَ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
__________
1 إسناده حسن: أخرجه أحمد "5/ 262" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 71" وقال الألباني في "الصحيحة" "4/ 62": إسناده حسن.
2 سورة البقرة: 129.
3 سورة الصف: 6.
4 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 5".(1/38)
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ ... خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأ ... رض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وفي النّو ... ر وَسُبُلِ الرَّشَادِ تَخْتَرِقُ1
الظِّلَالُ: ظِلَالُ الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} 2. وَالْمُسْتَوْدَعُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ آدَمُ وَحَوَّاءُ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَرَقِ، أَيْ يَضُمَّانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ يَتَسَتَّرَانِ بِهِ، ثُمَّ هَبَطْتَ إِلَى الدُّنْيَا فِي صُلْبِ آدَمَ، وَأَنْتَ لَا بَشَرٌ وَلَا مُضْغَةٌ.
وَقَوْلُهُ: "تَرْكَبُ السَّفِينَ" يَعْنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ. وَصَالِبُ لُغَةٌ غَرِيبَةٌ فِي الصُّلْبِ، وَيَجُوزُ فِي الصُّلْبِ الْفَتْحَتَانِ كَسَقَمٍ وَسُقْمٍ.
وَالطَّبَقُ: الْقَرْنُ، كُلَّمَا مَضَى عَالَمٌ وَقَرْنٌ جَاءَ قَرْنٌ، وَلِأَنَّ الْقَرْنَ يُطْبِقُ الْأَرْضَ بِسُكْنَاهُ بِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الِاسْتِسْقَاءِ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا طَبَقًا غَدَقًا"3 أَيْ يُطْبِقُ الْأَرْضَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} 4 أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ.
وَالنُّطُقُ: جَمْعُ نِطَاقٍ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْوِسْطُ وَمِنْهُ الْمِنْطَقَةُ. أَيْ أَنْتَ أَوْسَطُ قَوْمِكَ نَسَبًا. وَجَعَلَهُ فِي عَلْيَاءَ وَجَعَلَهُمْ تَحْتَهُ نِطَاقًا. وَضَاءَتْ: لُغَةٌ فِي أضاءت.
__________
1 أخرجه الحاكم في "مستدركه" "5417".
2 سورة المرسلات: 41.
3 أخرجه أبو داود "1169" في كتاب الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- دون "غدقا" وقال النووي في "الأذكار" "ص160"، إسناده صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
وأخرجه ابن ماجه "1270" في كتاب الإقامة، باب: ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وفيه ذكر "غدقًا"، وضعفه الألباني.
وأخرجه أيضًا "1269" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 236" من حديث كعب بن مرة -رضي الله عنه.
4 سورة الانشقاق: 19.(1/39)
وَأَرْضَعَتْهُ "ثُوَيْبَةُ" جَارِيَةُ أَبِي لَهَبٍ، مَعَ عَمِّهِ حمزة، ومع أبي سلمة ابن عبد الأسد المخزوميّ -رضي الله عنه-1.
رضاعه صلى الله عليه وسلم:
قَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ إِنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ وَأُمَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ أَخْبَرَتْهُمَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أوتحبين ذَلِكَ" قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ2 وَأَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ يُشْرِكُنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِيَ، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ" 3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عُرْوَةُ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ: ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ، أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ رَآهُ بَعْضُ أَهْلِهِ فِي النَّوْمِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، يَعْنِي حَالَةً. فَقَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ رَخَاءً، غَيْرَ أَنِّي أُسْقِيتُ فِي هَذِهِ مِنِّي بِعِتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ. وَأَشَارَ إِلَى النُّقْرَةِ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا4.
ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ وَأَخَذَتْهُ مَعَهَا إِلَى أَرْضِهَا، فَأَقَامَ مَعَهَا فِي بَنِي سَعْدٍ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ، ثُمَّ ردّته إلى أمّه.
رضاعه:
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ،
__________
1 انظر الحديث الآتي.
2 مخلية: منفردة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "5101" في كتاب النكاح، باب: قوله تعالى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ، ومسلم "1449" في كتاب الرضاع، باب: تحريم الربيبة، وأبو داود "2056" في كتاب النكاح، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، والنسائي "6/ 94" في كتاب النكاح، باب: تحريم الربيبة التي في حجره، وابن ماجه "1939" في كتاب النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وأحمد "6/ 428" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 52" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 148، 149".
4 مرسل: انظر التخريج السابق.(1/40)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّعْدِيَّةِ قَالَتْ: خَرَجْتُ فِي نِسْوَةٍ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ عَلَى أَتَانٍ1، لِي قَمْرَاءَ2 قَدْ أَذَمَّتْ3 بِالرَّكْبِ، وَخَرَجْنَا فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ4 لَمْ تُبْقِ شَيْئًا، وَمَعَنَا شَارِفٌ5 لَنَا، وَاللَّهِ إِنْ تَبِضَّ عَلَيْنَا بِقَطْرَةٍ، وَمَعِي صَبِيٌّ لِي لَا نَنَامُ لَيْلَنَا مَعَ بُكَائِهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مكة لم يبق منّا امرأة عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَأْبَاهُ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو كَرَامَةَ رِضَاعَةٍ مِنْ أَبِيهِ، وَكَانَ يَتِيمًا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ صَوَاحِبِي امْرَأَةٌ إِلَّا أَخَذَتْ صَبِيًّا، غَيْرِي. فَقُلْتُ لِزَوْجِي: لَأَرْجِعَنَّ إِلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُهُ، فَقَالَ زَوْجِي: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ خَيْرًا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ جَعَلْتُهُ فِي حِجْرِي فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيِي بِمَا شَاءَ مِنَ اللَّبَنِ، فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَخُوهُ رَوِيَا، وَقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا بِهَا حَافِلٌ، فَحَلَبَ وَشَرِبْنَا حَتَّى رَوِينَا، فَبِتْنَا شِبَاعًا رِوَاءً، وَقَدْ نَامَ صِبْيَانُنَا، قَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ أَصَبْتِ نَسْمَةً مُبَارَكَةً، ثُمَّ خَرَجْنَا، فَوَاللَّهِ لَخَرَجَتْ أَتَانِي أَمَامَ الرَّكْبِ قَدْ قَطَعَتْهُنَّ حَتَّى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحَدٌ، فَقَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ حَاضِرِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَقَدِمْنَا عَلَى أَجْدَبِ أَرْضِ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ كَانُوا لَيُسَرِّحُونَ أَغْنَامَهُمْ وَيُسَرِّحُ رَاعِيَّ غَنَمِي، فَتَرُوحُ غَنَمِي بِطَانًا لُبَّنًا حُفَّلًا، وَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا، فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث تسرح رَاعِي حَلِيمَةَ - فَيَسْرَحُونَ فِي الشِّعْبِ الَّذِي يَسْرَحُ فِيهِ رَاعِينَا، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا بِهَا من لبن، وتروح غنمي لبّنًا حفّلًا.
شق صدره الشريف -صلى الله عليه وسلم:
فَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَشِبُّ فِي يَوْمِهِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي الشَّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي سَنَةٍ، قَالَتْ: فَقَدِمْنَا عَلَى أُمِّهِ فَقُلْنَا لَهَا: رُدِّي عَلَيْنَا ابْنِي فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ، قَالَتْ: وَنَحْنُ أَضَنُّ شَيْءٍ بِهِ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْ بَرَكَتِهِ، قَالَتْ: ارْجِعَا بِهِ، فَمَكَثَ عِنْدَنَا شَهْرَيْنِ فَبَيْنَا هُوَ يَلْعَبُ وَأَخُوهُ خَلْفَ الْبُيُوتِ يَرْعَيَانِ بُهْمًا
__________
1 أتان: أنثى الحمار.
2 قمراء: يميل لونها إلى الخضرة.
3 أذمت: حبست.
4 شهباء: قحط.
5 شارف: ناقة.(1/41)
لَنَا؛ إِذْ جَاءَ أَخُوهُ يَشْتَدُّ قَالَ: أَدْرِكَا أَخِي قَدْ جَاءَهُ رَجُلَانِ فَشَقَّا بَطْنَهُ، فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ قَائِمٌ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ، فَاعْتَنَقَهُ أَبُوهُ وَأَنَا، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: أَتَانِي رَجُلَانِ فَأَضْجَعَانِي ثُمَّ شَقَّا بَطْنِي فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا صَنَعَا، فَرَجَعْنَا بِهِ. قَالَتْ: يَقُولُ أَبُوهُ: يَا حَلِيمَةُ مَا أرى هذا الغلام إلاّ أنه أضيب، فَانْطَلِقِي فَلْنَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَرَجَعْنَا بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: مَا رَدَّكُمَا بِهِ؟ فَقُلْتُ: كَفَلْنَاهُ وَأَدَّيْنَا الْحَقَّ، ثُمَّ تَخَوَّفْنَا عَلَيْهِ الْأَحْدَاثَ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ بِكُمَا، فَأَخْبِرَانِي خَبَرَكُمَا، فَمَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى أَخْبَرْنَاهَا، قَالَتْ: فَتَخَوَّفْتُمَا عَلَيْهِ - كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنًا، إِنِّي حَمَلْتُ بِهِ فَلَمْ أَحْمِلْ حَمْلًا قَطُّ كَانَ أَخَفَّ مِنْهُ وَلَا أَعْظَمَ بَرَكَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ نُورًا كَأَنَّهُ شِهَابٌ خَرَجَ مِنِّي حِينَ وَضَعْتُهُ أَضَاءَتْ لِيَ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، ثُمَّ وَضَعْتُهُ فَمَا وَقَعَ كَمَا يَقَعُ الصِّبْيَانُ، وَقَعَ وَاضِعًا يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، دَعَاهُ وَالْحَقَا شَأْنَكُمَا1.
هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ2.
قَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى، أنا عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ مِنْهُ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ3. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَالَ مسلم:
حدثنا شَيْبَانُ، ثنا حَمَّادٌ، ثنا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقةً،
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 168-172" وجهم بن أبي جهم قال في "الميزان" "1583": لا يعرف، له قصة حليمة السعدية.
2 قلت: وقد تقدم أن في إسناده جهم بن أبي جهم وهو لا يعرف كما في "الميزان" "1583" للمصنف، وعند الحافظ الذهبي يمكن قبول رواية مثل هذا بقيود فقد قال في "الميزان" "1/ 211": ما كل من لا يعرف ليس بحجة، لكن هذا الأصل. وقال في نفس المصدر "4/ 346": الجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح. وقال "6/ 161" عن أحد الرواة: روى عنه غير صفوان فهو شيخ محله الصدق وحديثه جيد.
وبالتالي فإذا كان الراوي غير معروف بجرح أو تعديل فالأصل أن حديثه مردود إلا بقيود ومحل بسط ذلك كتب المصطلح.
3 إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود "5144" في كتاب الأدب، باب: في بر الوالدين وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "1102": ضعيف الإسناد.(1/42)
فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأمه1، وثم أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ، يَعْنِي مُرْضِعَتَهُ، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ2.
قَالَ أَنَسٌ: قَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ3.
وَقَالَ بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا وَزَادَ فِيهِ: "فَرَحَّلَتْ -يَعْنِي ظِئْرَهُ- بَعِيرًا، فَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، وَرَكِبَتْ خَلْفِي حَتَّى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي فَقَالَتْ: أَدَّيْتُ أَمَانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ"4.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُتِيتُ وَأَنَا فِي أَهْلِي، فَانْطُلِقَ بِي إِلَى زَمْزَمَ فَشُرِحَ صَدْرِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحُشِيَ بِهَا صَدْرِي" قَالَ أَنَسٌ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِينَا أَثَرَهُ "فَعَرَجَ بِي الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا". وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ5.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا. وَأَمَّا قَتَادَةُ فَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِنَحْوِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِيُعْرَفَ أَنَّ جِبْرِيلَ شَرَحَ صَدْرَهُ مَرَّتَيْنِ: فِي صِغَرِهِ ووقت الإسراء به.
__________
1 لأمه: جمعه.
2 صحيح: أخرجه مسلم "162/ 261" في كتاب الإيمان، باب: الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحمد "3/ 288".
3 هو تمام الحديث السابق.
4 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "4/ 184" وبقية مدلس، وقد عنعنه.
5 صحيح: أخرجه مسلم "162/ 260" في كتاب الإيمان، باب: الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخرجه البخاري "3887" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج، ومسلم "164" في المصدر السابق، والترمذي "3357" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} ، والنسائي "1/ 217" في كتاب الصلاة، باب: فرض الصلاة، من طريق أنس عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم "163" في المصدر السابق، من طريق أنس عن أبي ذر -رضي الله عنه.(1/43)
ذكر وفاة والده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عبد المطلب
...
ذكر وفاة والده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عبد لمطلب:
وَتُوُفِّيَ "عَبْدُ اللَّهِ" أَبُوهُ وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا. وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: وَهُوَ حَمْلٌ.
تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ غَرِيبًا، وَكَانَ قَدِمَهَا لِيَمْتَارَ تَمْرًا، وَقِيلَ: بَلْ مَرَّ بِهَا مَرِيضًا رَاجِعًا مِنَ الشَّامِ، فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ1: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ إِلَى غَزَّةَ فِي عِيرٍ تَحْمِلُ تِجَارَاتٍ، فَلَمَّا قَفَلُوا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ مَرِيضٌ فَقَالَ: أَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَخْوَالِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مَرِيضًا مُدَّةَ شَهْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَارِثَ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؛ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ؛ وَدُفِنَ فِي دَارِ النَّابِغَةِ أَحَدِ بَنِي النَّجَّارِ؛ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ حَمْلٌ، عَلَى الصَّحِيحِ".
وَعَاشَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَذَلِكَ أَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ فِي سِنِّهِ وَوَفَاتِهِ.
وَتَرَكَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْمِيرَاثِ أُمَّ أَيْمَنَ وَخَمْسَةَ أَجْمَالٍ وَغَنَمًا، فَوَرِثَ ذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وفاة آمنة:
وَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ "آمِنَةُ" بِالْأَبْوَاءِ2 وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَكَّةَ مِنْ زيارة أخوال أبيه بن عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ وَمِائَةِ يَوْمٍ.
وَقِيلَ: ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ.
فَلَمَّا مَاتَتْ وَدُفِنَتْ، حَمَلَتْهُ أُمُّ أَيْمَنَ مَوْلَاتُهُ إِلَى مَكَّةَ إِلَى جَدِّهِ، فَكَانَ فِي كِفَالَتِهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ جَدُّهُ، وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَانِ سِنِينَ، فَأَوْصَى بِهِ إِلَى عمّه أبي طالب.
__________
1 مرسل.
2 الأبواء: من أعمال الفرع من المدينة.(1/44)
قال عمرو بن عون: أنبأنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كِنْدِيرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا رَجُلٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَرْتَجِزُ يَقُولُ:
رَبِّ رُدَّ إِلَيَّ رَاكِبِي مُحَمَّدَا ... يَا رَبُّ رُدَّهُ وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا
قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ذَهَبَ إِبِلٌ لَهُ فَأَرْسَلَ ابْنَ ابْنِهِ فِي طَلَبِهَا، وَلَمْ يُرْسِلْهُ فِي حَاجَةٍ قَطُّ إِلَّا جَاءَ بِهَا، وقد احتبس عليه، فما برحت حتى أتى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَ الْإِبِلُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ حَزِنْتُ عَلَيْكَ حُزْنًا؛ لَا تُفَارِقْنِي أَبَدًا1.
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ حَيْدَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اعْتَمَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ كِنْدِيرَ عَنْ أَبِيهِ2.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، حَدَّثَنِي جُلْهُمَةُ بْنُ عُرْفُطَةَ قَالَ: إِنِّي لَبِالْقَاعِ مِنْ نمرة، إذا أَقْبَلَتْ عِيرٌ مِنْ أَعْلَى نَجْدٍ، فَلَمَّا حَاذَتِ الْكَعْبَةَ إِذَا غُلَامٌ قَدْ رَمَى بِنَفْسِهِ عَنْ عَجُزِ بَعِيرٍ، فَجَاءَ حَتَّى تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ نَادَى يَا رَبَّ البِنَيَّةِ أَجِرْنِي؛ وَإِذَا شَيْخٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ عَلَيْهِ بَهَاءُ الْمُلْكِ وَوَقَارُ الْحُكَمَاءِ.
فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا غُلَامُ، فَأَنَا مِنْ آلِ اللَّهِ وَأُجِيرُ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ؟
قَالَ: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَأَنَا صَغِيرٌ، وَإِنَّ هَذَا اسْتَعْبَدَنِي، وَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ لِلَّهِ بَيْتًا يَمْنَعُ مِنَ الظُّلْمِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ اسْتَجَرْتُ بِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقُرَشِيُّ: قَدْ أَجَرْتُكَ يَا غُلَامُ، قَالَ: وَحَبَسَ اللَّهُ يَدَ الْجُنْدَعِيِّ إِلَى عُنُقِهِ.
قَالَ جُلْهُمَةُ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَمْرَو بْنَ خَارِجَةَ وَكَانَ قُعْدُدَ3 الْحَيِّ فَقَالَ: إِنَّ لهذا الشيخ ابنًا يعني أبا طالب.
__________
1 في سنده من لم أجد لهم ترجمة.
2إسناده ضعيف جدًّا: خارجة بن مصعب ضعيف جدًّا كما في "التهذيب" "1/ 512".
3 قعدد: جبان.(1/45)
قَالَ فَهَوَيْتُ رَحْلِي نَحْوَ تِهَامَةَ، أَكْسَعُ بِهَا الحدود، وأعلوا بِهَا الكُدَانَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِذَا قُرَيْشٌ عِزِينٌ1، قَدِ ارْتَفَعَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ يستسقون، فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزّى؛ وقائل يَقُولُ: اعْتَمِدُوا مَنْاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى.
وَقَالَ شَيْخٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ حَسَنُ الْوَجْهِ جَيِّدُ الرَّأْيِ: أَنَّى تُؤْفَكُونَ وَفِيكُمْ بَاقِيَةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَسُلَالَةُ إِسْمَاعِيلَ؟
قَالُوا لَهُ: كَأَنَّكَ عَنَيْتَ أَبَا طَالِبٍ. قَالَ: إِيهًا. فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَقُمْتُ مَعَهُمْ فَدَقَقْنَا عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ مصفّر، عَلَيْهِ إِزَارٌ قَدِ اتَّشَحَ بِهِ، فَثَارُوا إِلَيْهِ فقالوا:
الاستسقاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم:
يَا أَبَا طَالِبٍ قَحَطَ الْوَادِي، وَأَجْدَبَ الْعِبَادُ فَهَلُمَّ فَاسْتَسْقِ؛ فَقَالَ: رُوَيْدَكُمْ زَوَالَ الشَّمْسِ وَهُبُوبَ الرِّيحِ؛ فَلَمَّا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ، خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ مَعَهُ غُلَامٌ كَأَنَّهُ دُجُنٌّ تَجَلَّتْ عَنْهُ سَحَابَةٌ قَتْمَاءُ، وَحَوْلَهُ أُغَيْلِمَةٌ؛ فَأَخَذَهُ أَبُو طَالِبٍ فَأَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِالْكَعْبَةِ، وَلَاذَ بِأُضْبَعِهِ الْغُلَامُ، وَبَصْبَصَتِ الْأُغَيْلِمَةُ حَوْلَهُ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فأقبل السّحاب من ههنا وههنا وَأَغْدَقَ2 وَاغْدَوْدَقَ وَانْفَجَرَ لَهُ الْوَادِي، وَأَخْصَبَ النَّادِي وَالْبَادِي؛ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... رَبِيعُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
تَطِيفُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
وَمِيزَانُ عَدْلٍ لَا يَخِيسُ شُعَيْرَةً ... وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ3
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَهُمْ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَطَاءٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَطْوَلَ النَّاسِ قَامَةً، وَأَحْسَنَهُمْ وَجْهًا، مَا رَآهُ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا أَحَبَّهُ، وَكَانَ لَهُ مَفْرَشٌ فِي الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا
__________
1 عزين: جماعات.
2 قزعة: سحابة.
3 في سنده من لم أجد له ترجمة.(1/46)
يُجْلِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ أَحَدٌ، وَكَانَ النَّدِيُّ مِنْ قُرَيْشٍ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ فَمَنْ دُونَهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَهُ دُونَ الْمَفْرَشِ؛ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ فَجَلَسَ عَلَى الْمَفْرَشِ، فَجَبَذَهُ1 رَجُلٌ فَبَكَى؛ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ، مَا لِابْنِي يَبْكِي قَالُوا لَهُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى الْمَفْرَشِ فَمَنَعُوهُ، فَقَالَ: دَعُوا ابْنِي يَجْلِسْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ شَرَفًا، وَأَرْجُو أَنْ يَبْلُغَ مِنَ الشَّرَفِ مَا لَمْ يَبْلُغْ عَرَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ2.
قَالَ: وَمَاتَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَالنَّبِيُّ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَكَانَ خَلْفَ جِنَازَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَبْكِي حَتَّى دُفِنَ بِالْحَجُونِ3.
وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ:
فَرَوَى عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ" قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ" 4. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْتَنِي الْكَبَاثَ5 فَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أطيب" قلنا: أوكنت تَرْعَى الْغَنَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ وهل من نبيّ إلاّ وقد رَعَاهَا" 6. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
سَفَرُهُ مَعَ عَمِّهِ -إِنْ صحّ- وخبر بحيرى الراهب:
قال قراد أبو نوح: حدثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-
__________
1 جبذه: جذبه.
2 إسناده ضعيف: عبد الله بن شبيب ضعيف جدًّا كما في "الميزان" "4376".
3 الحجون: جبل بمكة.
4 صحيح: أخرجه البخاري "2262" في كتاب الإجازة، باب: رعى الغنم على قراريط، وابن ماجه "2149" في كتاب التجارات، باب: الصناعات.
5 الكباث: ثمر الأراك.
6 صحيح: أخرجه البخاري "3406" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} ، ومسلم "2050" في كتاب الأشربة، باب: فضيلة الأسود من الكباث.(1/47)
وَأَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ؛ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ بَحِيرَى نَزَلُوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ وَهُمْ يَحِلُّونَ رِحَالَهُمْ؛ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ فَقَالَ أَشْيَاخُ قُرَيْشٍ: وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِنَبِيٍّ لَأَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، أَسْفَلَ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ. ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا؛ فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ، يَعْنِي إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ لَوْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ فَقَتَلُوهُ؛ فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةِ نَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ الرَّاهِبُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ نَاسٌ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ خَلَّفْتُمْ خَلْفَكُمْ أَحَدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا: لَا. إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا؛ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا.
قال: فتابعوه وأقاموا معه، فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: أُنْشِدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَنَا؛ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ1.
تَفَرَّدَ بِهِ قُرَادٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ، ثِقَةٌ، احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ2؛ وَرَوَاهُ النَّاسُ عن قراد، وحسّنه التّرمذي.
__________
1 صحيح: دون ذكر "بلال" فإنه منكر: أخرجه الترمذي "3640" في كتاب المناقب: باب: ما جاء في بدء نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن جرير الطبري في "تفسيره" "1/ 519"، والحاكم في "مستدركه" "4229" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 722": فيه غرابة. قلت: يقصد ذكر "بلال" ويأتي تفصيل وجه الغرابة في ذكره، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "8/ 587": إسناده قوي. وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 24": أن بعث بلال من الغلط الواضح، فإن بلالًا إذ ذاك لعله لم يكن موجودًا. وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "745": صحيح لكن ذكر "بلال" فيه منكر كما قيل.
2 تأتي ترجمته "1515".(1/48)
وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا؛ وَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ؟ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ أَصْغَرُ من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ؛ وَأَيْنَ كَانَ بِلَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَشْتَرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَكُنْ وُلِدَ بَعْدُ؛ وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمِيلَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ؟ لِأَنَّ ظِلَّ الْغَمَامَةِ يُعْدِمُ فَيْءَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَزَلَ تَحْتَهَا، وَلَمْ نَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ قَطُّ بِقَوْلِ الرَّاهِبِ، وَلَا تَذَاكَرَتْهُ قُرَيْشٌ، وَلَا حَكَتْهُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخُ، مَعَ تَوَفُّرِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى حِكَايَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ أَيَّمَا اشْتِهَارٍ، وَلَبَقِيَ عِنْدَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِسٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ وَلَمَا أَنْكَرَ مَجِيءَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوَّلًا بِغَارِ حِرَاءٍ وَأَتَى خَدِيجَةَ خَائِفًا عَلَى عَقْلِهِ، وَلَمَا ذَهَبَ إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَيْضًا فَلَوْ أَثَّرَ هَذَا الْخَوْفُ فِي أَبِي طَالِبٍ وَرَدَّهُ، كَيْفَ كَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا لِخَدِيجَةَ؟
وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُنْكَرَةٌ، تشبه ألفاظ الطّرقيّة، مع أنّ ابن عائد قَدْ رَوَى مَعْنَاهُ فِي مَغَازِيهِ دُونَ قَوْلِهِ: "وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا" إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي "السِّيرَةِ"1: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا فِي رَكْبٍ، وَمَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ غُلَامٌ، فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرى الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصَّوْمَعَةِ قَطُّ رَاهِبٌ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهِمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ، يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ؛ قَالَ: فَنَزَلُوا قريبًا من الصّومعة، فصنع بحيرى طَعَامًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٍ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، فنزل بظلّ شجرة، فنزل بحيرى مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَجَاءُوهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يا بحيرى مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا، فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ، فَاجْتَمَعُوا، وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرى فِيهِمْ وَلَمْ يَرَهُ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا يَتَخَلَّفْ عَنْ طَعَامِي هَذَا أَحَدٌ.
قَالُوا: مَا تَخَلَّفَ أَحَدٌ إلَّا غُلَامٌ هُوَ أَحْدَثُ القوم سنًّا.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 186-188".(1/49)
قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، ادْعُوهُ.
فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنَّ هَذَا لَلُؤْمٌ بِنَا، يَتَخَلَّفُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الطَّعَامِ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ قَامَ وَاحْتَضَنَهُ، وَأَقْبَلَ بِهِ فَلَمَّا رَآهُ بَحِيرَا جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ، قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ، حَتَّى إِذَا شَبِعُوا وتفرّقوا قام بحيرى فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَسْأَلُكَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنيِ عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلْنِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ بُغْضَهُمَا شَيْئًا قَطُّ.
فَقَالَ لَهُ: فَبِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ، فَتَوَافَقَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الصِّفَةِ.
ثُمَّ نَظَرَ فِيهِ أَثَرَ خَاتَمِ النّبوّة، فأقبل على أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَا هُوَ مِنْكَ - قَالَ: ابْنِي.
قَالَ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا.
قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي.
قَالَ: ارْجِعْ بِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُهُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ أَخِيكَ شَأْنٌ، فَخَرَجَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَتَاهُ رَاهِبٌ فَقَالَ: فِيكُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَبُو هَذَا الْغُلَامِ؟ قَالَ: أَبُو طَالِبٍ: هَأَنَذَا وَلِيُّهُ. قَالَ: احْتَفِظْ بِهِ وَلَا تَذْهَبْ بِهِ إِلَى الشَّامِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ حُسَّدٌ، وَإِنِّي أَخْشَاهُمْ عَلَيْهِ. فَرَدَّهُ1.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَجَمَاعَةٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ تاجرًا إلى الشام، ومعه محمد، فنزلوا ببحيرى، الحديث2.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 57".
2 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 57" ومحمد بن عمر هو الواقدي متروك كما تقدم.(1/50)
روى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ: فَلَمَّا نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، ارْتَحَلَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ تَاجِرًا، فَنَزَلَ تَيْمَاءَ، فَرَآهُ حَبْرٌ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ، فَقَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ قَالَ: هُوَ ابْنُ أَخِي، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ قدمت به الشّام لا تصل له إلى أَهْلَكَ أَبَدًا، لَيَقْتُلَنَّهُ الْيَهُودُ إِنَّهُ عَدُوُّهُمْ، فَرَجَعَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ مِنْ تَيْمَاءَ إِلَى مَكَّةَ1.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي، يُحَدِّثُ عمّا كان الله تعالى يحفظه به فِي صِغَرِهِ، قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ الْغِلْمَانُ بِهِ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَجَعَلَ إِزَارَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إِذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهَا، لَكْمَةً وَجِيعَةً، وَقَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ، فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رقبتي"2.
__________
1 مرسل.
2 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 189".(1/51)
حَرْبُ الْفِجَارِ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: وَهَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَلِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرُونَ سَنَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَلَّتْ كِنَانَةُ وَقَيْسٌ عَيْلَانَ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ أُنَبِّلُ عَلَى أَعْمَامِي"2 أَيْ أَرُدُّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إِذَا رَمَوْهُمْ. وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ حرب بن أميّة.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 189-191".
2 معضل: ذكره ابن هشام في "سيرته" "1/ 191" بدون إسناد.(1/51)
شَأْنُ خَدِيجَةَ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1:
ثُمَّ إِنَّ "خديجة بنت خويلد بْن أسد بْن عَبْد الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ" وَهِيَ أَقْرَبُ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قُصَيٍّ بِرَجُلٍ، كَانَتِ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، وَكَانَتْ تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَّارًا فَعَرَضَتْ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ غلام لها اسْمُهُ "مَيْسَرَةُ"، فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ تَحْتَ
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 193".(1/51)
شَجَرَةٍ بِقُرْبِ صَوْمَعَةٍ، فَأَطَلَّ الرَّاهِبُ إِلَى "مَيْسَرَةَ" فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ.
ثُمَّ بَاعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِجَارَتَهُ وَتَعَوَّضَ وَرَجَعَ، فَكَانَ "مَيْسَرَةُ" -فِيمَا يَزْعُمُونَ- إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ يَسِيرُ1.
وَرَوَى قِصَّةَ خُرُوجِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، المحاملي، عن عبد الله ابن شَبِيبٍ وَهُوَ وَاهٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرُ بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرِ الْعَدَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَتْنِي عُمَيْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُمِّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنْيَةَ أُخْتِ يَعْلَى قَالَتْ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ2، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ بَاعَتْ خَدِيجَةُ مَا جَاءَ بِهِ فَأَضْعَفَ أَوْ قَرِيبًا.
وَحَدَّثَهَا "مَيْسَرَةُ" عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَعَنِ الْمَلَكَيْنِ، وكانت لبيبةً حازمةً، فبعثت إليه تقول: يابن عمّي، إنّي رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ وَأَمَانَتِكَ وَصِدْقِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ، ثُمَّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ، فَجَاءَ مَعَهُ حَمْزَةُ عَمُّهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدٍ فَخَطَبَهَا مِنْهُ، وَأَصْدَقَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرِينَ بَكْرَةً، فَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ. وَتَزَوَّجَهَا وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً3.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ": حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِيمَا يَحْسَبُ حَمَّادٌ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر خَدِيجَةَ، وَكَانَ أَبُوهَا يَرْغَبُ عَنْ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَنَعَتْ هِيَ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَدَعَتْ أَبَاهَا وَزُمَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَطَعِمُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا، فَقَالَتْ لِأَبِيهَا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَخْطُبُنِي فَزَوِّجْنِي إِيَّاهُ، فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، فَخَلَّقَتْهُ4 وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً كَعَادَتِهِمْ، فَلَمَّا صَحَا نَظَرَ، فَإِذَا هُوَ مُخَلَّقٌ فَقَالَ: مَا شَأْنِي؟ فَقَالَتْ: زَوَّجْتَنِي مُحَمَّدًا، فَقَالَ: وَأَنَا أُزَوِّجُ يَتِيمَ أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحيي؟ تُرِيدُ أَنْ تُسَفِّهَ نَفْسَكَ مَعِي عِنْدَ قُرَيْشٍ بِأَنَّكَ كُنْتَ سَكْرَانَ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى رضي5.
__________
1 معضل: انظر المصدر السابق.
2 إسناده ضعيف جدًّا: عبد الله بن شبيب ضعيف جدًّا كما تقدم.
3 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 194-195".
4 خلقته: طيبته بالخلوق.
5 أخرجه أحمد "1/ 312"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 73".(1/52)
وَقَدْ رَوَى طَرَفًا مِنْهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَوْ غيره.
أولاده -صلي الله عليه وسلم- من خديجة:
وَأَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ سِوَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُمُ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ، وَمَاتُوا صِغَارًا رُضَّعًا قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَرُقَيَّةُ، وَزَيْنَبُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-1 فَرُقَيَّةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ تَزَوَّجَتَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْنَبُ زَوْجَةُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَفَاطِمَةُ زَوْجَةُ عَلِيٍّ -رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 195-196".(1/53)
حَدِيثُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الحجر الأسود:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: فَلَمَّا بَلَغَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا يَهُمُّونَ بِذَلِكَ لِيَسَقَفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا2 فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا.
وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إِلَى جُدَّةٍ فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا وَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا، وَكَانَ بِمَكَّةَ نَجَّارٌ قِبْطِيٌّ، فتَهَّيَأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضُ ما يُصْلِحُهَا، وَكَانَتْ حَيَّةٌ تَخْرُجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الَّتِي كَانَتْ يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهدى لَهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَتُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلّا احْزَأَلَّتْ3 وَكَشَّتْ4 وَفَتَحَتْ فَاهَا، فَكَانُوا يَهَابُونَهَا، فَبَيْنَا هِيَ يَوْمًا تُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا، فَذَهَبَ بِهَا، قَالَ: فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ هَابُوا هَدْمَهَا.
فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَمْ تُرَعْ، اللَّهُمَّ لَمْ نُرِدْ إِلَّا خَيْرًا. ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ، وَهَدَمُوا حَتَّى بَلَغُوا أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِذَا حِجَارَةٌ خُضْرٌ آخِذٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 198-199".
2 الرضم أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط.
3 احزألت: رفعت ذنبها.
4 كشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.(1/53)
ثُمَّ بَنَوْا، فَلَمَّا بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ، يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، اخْتَصَمُوا فِيمَنْ يَضَعُهُ، وَحَرَصَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَحَارَبُوا وَمَكَثُوا أَرْبَعَ لَيَالٍ.
ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ وَتَنَاصَفُوا فَزَعَمُوا أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ أَسَنَّ قُرَيْشٍ، قَالَ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا رأوهو قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا بِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: "هَاتُوا لِي ثَوْبًا" فَأَتَوْا بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ بِيَدِهِ فَوَضَعَهُ فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ: "لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا"، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ وَضَعَهُ هُوَ -صَلَّى الله عليه وسلم- بيده وبني عليه1.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحُلُمَ أَجْمَرَتِ2 امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مَجْمَرَتِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ، فَهَدَمُوهَا حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ أَيُّ الْقَبَائِلِ تَضَعُهُ قَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمُ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحُ نَمِرَةَ فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَيِّدُ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ، فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ، ثُمَّ طَفِقَ لَا يَزْدَادُ عَلَى السِّنِّ إِلَّا رِضًا حَتَّى دَعَوْهُ الْأَمِينَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ، فَطَفِقُوا لَا يَنْحَرُونَ جَزُورًا إِلَّا الْتَمَسُوهُ فَيَدْعُو لَهُمْ فِيهَا3.
وَيُرْوَى عَنْ عُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْبَيْتَ بُنِيَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً4.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عبد الرحمن العطّار، حدثنا ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ: لَهُ يَا خَالُ، حَدِّثْنِي عَنْ شَأْنِ الْكَعْبَةِ قبل أن تبنيها قريش قال: كان
__________
1 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 203".
2 يريد بخرت.
3 مرسل: وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 740": هذا سياق حسن، وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله "لما بلغ الحلم"، والمشهور أن هذا كان ورسوله الله -صلى الله عليه وسلم- عمره خمس وثلاثون سنه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار -رحمه الله. ا. هـ.
4 مرسل: انظر "البداية" "1/ 740".(1/54)
بِرَضْمٍ1 يَابِسٍ لَيْسَ بِمَدَرٍ2 تَنْزُوهُ3 الْعَنَاقُ4 وَتُوضَعُ الْكِسْوَةُ عَلَى الْجُدُرِ ثُمَّ تُدَلَّى، ثُمَّ إِنَّ سَفِينَةً لِلرُّومِ أَقْبَلَتْ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالشُّعَيْبَةِ5 انْكَسَرَتْ، فَسَمِعَتْ بِهَا قُرَيْشٌ فَرَكِبُوا إِلَيْهَا وَأَخَذُوا خَشَبَهَا، وَرُومِيٌّ يُقَالُ لَهُ "بَاقُومُ" نَجَّارٌ بَانٍ فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ قَالُوا: لَوْ بَنَيْنَا بَيْتَ رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ، وَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَنَقَلُوا الْحِجَارَةَ مِنْ أَجْيَادِ الضَّوَاحِي، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ إِذِ انْكَشَفَتْ نَمِرَتُهُ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ عَوْرَتَكَ، فَذَلِكَ أَوَّلُ مَا نُودِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمَا رُؤِيَتْ لَهُ عَوْرَةٌ بَعْدُ6.
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنَى الْبَيْتَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ جُرْهُمٌ، فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ. وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَضْعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مَكَانَهُ7.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر بن حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ، رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ، زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ"8.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: إِنَّمَا حَمَلَ قُرَيْشًا عَلَى بِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَّ السَّيْلَ كَانَ يَأْتِي مِنْ فَوْقِهَا مِنْ فَوْقِ الرَّدْمِ الَّذِي صَنَعُوهُ فَأَخْرَبَهُ، فَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا الْمَاءُ، وَكَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُلَيْحٌ سَرَقَ طِيبَ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادُوا أَنْ يُشَيِّدُوا بِنَاءَهَا وَأَنْ يَرْفَعُوا بَابَهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ شَاءُوا، فَأَعَدُّوا لِذَلِكَ نَفَقَةً وَعُمَّالًا.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ: ثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَلَيْهِ إزار، فقال له عمه
__________
1 الرضم: الحجارة.
2 المدر: قطع الطين اليابس.
3 تنزوه: تثب عليه.
4 العناق: الأنثى من أولاد المعز التي لم تكمل سنة.
5 الشعبية: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز.
6 لم أجده من هذا الطريق، وقد أخرجه أحمد "4/ 454، 455"، من طريق آخر عن ابن خثيم مختصرًا ويأتي لفظه.
7 مرسل.
8 إسناده حسن: أخرجه إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 88".(1/55)
العبّاس: يابن أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَهُ عَلَى مَنْكِبِكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عُرْيَانًا"1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
مُسْلِمٌ الزَّنْجِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَتَذَاكَرُوا بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ فَقَالُوا: كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِرَضْمٍ يَابِسٍ، وَكَانَ بَابُهَا بِالْأَرْضِ، وَلَمْ يُكَنْ لَهَا سَقْفٌ، وَإِنَّمَا تُدَلَّى الكِسْوَةُ عَلَى الْجُدُرِ، وَتُرْبَطُ مِنْ أَعْلَى الْجُدُرِ مِنْ بَطْنِهَا، وَكَانَ فِي بَطْنِ الْكَعْبَةِ عَنْ يَمِينِ الدَّاخِلِ جُبٌّ يَكُونُ فِيهِ مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ بِنَذْرٍ مِنْ جُرْهُمٍ، وَذَلِكَ أنّه عدا على ذلك الْجُبِّ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمٍ فَسَرَقُوا مَا بِهِ فَبَعَثَ اللَّهُ تِلْكَ الْحَيَّةَ فَحَرَسَتِ الْكَعْبَةَ وَمَا فِيهَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى أَنْ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ، وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مُعَلَّقَيْنِ فِي بَطْنِهَا مَعَ مَعَالِيقَ مِنْ حِلْيَةٍ.
إِلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى بَلَغُوا الأَسَاسَ الَّذِي رَفَعَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ، فَرَأَوْا حِجَارَةً كَأَنَّهَا الْإِبِلُ الْخَلِفُ2 لَا يُطِيقُ الْحَجَرَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا يُحَرِّكُ الْحَجَرَ مِنْهَا، فَتَرْتَجُّ جَوَانِبُهَا، قَدْ تَشَبَّكَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَأَدْخَلَ الوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَانْفَلَقَتْ مِنْهُ فَلْقَةٌ، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَنَزَّتْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى عَادَتْ فِي مَكَانِهَا، وَطَارَتْ مِنْ تَحْتِهَا بَرْقَةٌ كَادَتْ أَنْ تَخْطَفَ أَبْصَارَهُمْ، وَرَجَفَتْ مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَأَمْسَكُوا.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَلَّتِ النَّفَقَةُ عَنْ عِمَارَةِ الْبَيْتِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُقَصِّرُوا عَنِ الْقَوَاعِدِ وَيُحَجِّرُوا مَا يَقْدِرُونَ وَيَتْرُكُوا بَقِيِّتَهُ فِي الْحَجَرِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَتَرَكُوا سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا، وَرَفَعُوا بَابَهَا وَكَسَوْهَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا السَّيْلُ وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، وَبَنَوْهَا بِسَافٍ مِنْ حِجَارَةٍ وَسَافٍ مِنْ خَشَبٍ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ فَتَنَافَسُوا فِي وَضْعِهِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَرَفَعُوهَا بِمِدْمَاكِ حِجَارَةٍ وَمِدْمَاكِ خَشَبٍ، حَتَّى بَلَغُوا السَّقْفَ، فَقَالَ لَهُمْ "بَاقُومُ" النَجَّارُ الرُّومِيُّ: أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْعَلُوا سقفها مكبّسًا أو مسطّحًا؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1582" في كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، ومسلم "340/ 77" في كتاب الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة، وأحمد "3/ 295-380"، وعبد الرزاق في "مصنفه" "1103"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 31".
2 يريد أنها صخور عظيمة.(1/56)
قَالُوا: بَلْ مُسَطَّحًا، وَجَعَلُوا فيِهِ سِتَّ دَعَائِمَ فِي صَفَّيْنِ، وَجَعَلُوا ارْتِفَاعَهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَقَدْ كَانَتْ قَبْلُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلُوا دَرَجَةً مِنْ خَشَبٍ فِي بَطْنِهَا يُصْعَدُ مِنْهَا إِلَى ظَهْرِهَا، وَزَوَّقُوا سَقْفَهَا وَحِيطَانَهَا مِنْ بَطْنِهَا وَدَعَائِمِهَا، وَصَوَّرُوا فِيهَا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالشَّجَرَ، وَصَوَّرُوا إِبْرَاهِيمَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ1، وَصَوَّرُوا عِيسَى وَأُمَّهُ، وَكَانُوا أَخْرَجُوا مَا فِي جُبِّ الْكَعْبَةِ مِنْ حِلْيَةٍ وَمَالٍ وَقَرْنَيِ الْكَبْشِ، وَجَعَلُوهُ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَأَخْرَجُوا مِنْهَا هُبَلَ، فَنُصِبَ عِنْدَ الْمَقَامِ حَتَّى فَرَغُوا فَأَعَادُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ ستروها بحيرات يَمَانِيَّةٍ2.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَغَيْرِهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْبَيْتِ، فَأَمَرَ بِثَوْبٍ فَبُلَّ بِمَاءٍ وَأَمَرَ بِطَمْسِ تِلْكَ الصُّوَرِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَقَالَ: "امْحُوا الْجَمِيعَ إِلَّا مَا تَحْتَ يَدِي" 3. رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ.
ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الشَّامِيُّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ: أَدْرَكْتُ فِي الْبَيْتِ تِمْثَالَ مَرْيَمَ وَعِيسَى؟ قَالَ: نَعَمْ أَدْرَكْتُ تِمْثَالَ مَرْيَمَ مُزَوَّقًا فِي حِجْرِهَا عِيسَى قَاعِدٌ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ سِتَّةُ أَعْمِدَةٍ سَوَارِي، وَكَانَ تِمْثَالُ عِيسَى وَمَرْيَمَ فِي الْعَمُودِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ، فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَتَى هَلَكَ - قَالَ فِي الْحَرِيقِ زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قُلْتُ: أَعَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْنِي كَانَ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ.
قَالَ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ عَاوَدْتُ عَطَاءً بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: تِمْثَالُ عِيسَى وَأُمِّهِ فِي الْوُسْطَى مِنَ السَّوَارِي.
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: ثَنَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ أَنْ تُهْدَمَ تِمْثَالَ عِيسَى وَأُمِّهِ، قَالَ دَاوُدُ: فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْحَجَبَةِ عَنْ مُسَافِعِ بْنِ شَيْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا شَيْبَةُ امْحُ كُلَّ صُورَةٍ إِلَّا مَا تَحْتَ يَدِي" قَالَ: فَرَفَعَ يَدَهُ عَنْ عِيسَى ابن مريم وأمّه4.
__________
1 الأزلام: سهام يستقسم بها.
2 مرسل.
3 ابن أبي نجيح وأبوه كلاهما ثقة، إلا أن ابن أبي نجيح يدلس.
4 إسناده ضعيف.(1/57)
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ جُعْدُبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ، فَرَأَى صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: "قَاتَلَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوهُ شَيْخًا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ"، ثُمَّ رَأَى صُورَةَ مَرْيَمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: "امْحُوا مَا فِيهَا إِلَّا صُورَةَ مَرْيَمَ"1. ثُمَّ سَاقَهُ الْأَزْرَقِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَ عَطَاءٍ وَعَمْرٍو ثَابِتٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ نَسْمَعْ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا بُنِيَ الْبَيْتُ كَانَ النَّاسُ يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُمْ، فَأَخَذَ الثَّوْبَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ فَنُودِيَ: "لَا تَكْشِفْ عَوْرَتَكَ" فَأَلْقَى الْحَجَرَ وَلَبِسَ ثَوْبَهُ2. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ: ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَخِي نَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رِقَابِنَا وَأُزُرُنَا تَحْتَ الْحِجَارَةِ، فَإِذَا غَشِيَنَا النَّاسُ ائْتَزَرْنَا، فَبَيْنَا هُوَ أَمَامِي خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مُنْبَطِحًا، فَجِئْتُ أَسْعَى وَأَلْقَيْتُ حَجَرِي، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ - فَقَامَ وَأَخَذَ إِزَارَهُ وَقَالَ: "نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا" فَكُنْتُ أَكْتُمُهَا النَّاسَ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا مَجْنُونٌ3. رَوَاهُ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ، عَنْ سِمَاكٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تَشَاجَرُوا فِي الْحَجَرِ أَنْ يَضَعَهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: قَدْ جَاءَ الْأَمِينُ4.
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَمْزَةَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الواحد، أنا محمد بن أحمد،
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: يزيد بن عياض بن جعدبة ضعيف جدًّا، ومتهم بالكذب، كما في "الميزان" "9740".
2 أخرجه أحمد "9740".
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 32، 33"، وسماك صدوق إلا أن روايته عن عكرمة مضطربة كما في "التقريب" "2624".
4 أخرجه الطيالسي في "مسنده" "113" والطبري في "تفسيره" "3/ 69-71".(1/58)
أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَتْهُمْ، أَنْبَأَ ابْنُ بُرَيْدَةَ، أَنْبَأَ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابن خيثم، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةً بِالرَّضْمِ، لَيْسَ فِيهَا مَدَرٌ1، وَكَانَتْ قَدْرَ مَا نَقْتَحِمُهَا، وَكَانَتْ غَيْرَ مَسْقُوفَةٍ، إِنَّمَا تُوضَعُ ثِيَابُهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ تُسْدَلُ عَلَيْهَا سَدْلًا، وَكَانَ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ مَوْضُوعًا عَلَى سُورِهَا بَادِيًا، وَكَانَتْ ذَاتَ رُكْنَيْنِ كَهَيْئَةِ الْحَلْقَةِ، فَأَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ فَانْكَسَرَتْ بِقُرْبِ جُدَّةَ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ لِيَأْخُذُوا خَشَبَهَا، فَوَجَدُوا رَجُلًا رُومِيًّا عِنْدَهَا، فَأَخَذُوا الْخَشَبَ، وَكَانَتِ السَّفِينَةُ تُرِيدُ الْحَبَشَةَ، وَكَانَ الرُّومِيُّ الَّذِي فِي السَّفِينَةِ نَجَّارًا، فَقَدِمُوا بِهِ وَبِالْخَشَبِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَبْنِي بِهَذَا الَّذِي فِي السَّفِينَةِ بَيْتَ رَبِّنَا، فَلَمَّا أَرَادُوا هَدْمَهُ إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ عَلَى سُورِ الْبَيْتِ، مِثْلَ قِطْعَةِ الْجَائِزِ سَوْدَاءِ الظَّهْرِ، بَيْضَاءِ الْبَطْنِ، فَجَعَلَتْ كُلَّمَا دَنَا أَحَدٌ إِلَى الْبَيْتِ لِيَهْدِمَ أَوْ يَأْخُذَ مِنْ حِجَارَتِهِ، سَعَتْ إِلَيْهِ فَاتِحَةً فَاهَا، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ: عِنْدَ الْمَقَامِ فَعَجُّوا2 إِلَى اللَّهِ وَقَالُوا: رَبَّنَا لَمْ نُرَعْ، أَرَدْنَا تَشْرِيفَ بَيْتِكَ وَتَزْيِينَهُ، فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَمَا بَدَا لَكَ فَافْعَلْ، فَسَمِعُوا خِوَارًا فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُمْ بِطَائِرٍ أَسْوَدِ الظَّهْرِ، أَبْيَضِ الْبَطْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، أَعْظَمَ مِنَ النِّسْرِ، فَغَرَزَ مِخْلَابَهُ فِي رَأْسِ الْحَيَّةِ، حَتَّى انْطَلَقَ بِهَا يَجُرُّهَا، ذَنَبُهَا أَعْظَمُ مِنْ كَذَا وَكَذَا سَاقِطًا، فَانْطَلَقَ بِهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ، فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ، وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي، تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ، وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ، فَذَهَبَ يَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَبَرَزَتْ عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ، خَمِّرْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَانَ بَيْنَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ3. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ دَاوُدُ الْعَطَّارُ، عَنِ ابْنِ خثيم4.
__________
1 المدر: الطين اليابس.
2 عجوا: صاحوا.
3 في إسناده مقال: إسحاق بن إبراهيم هو الدبري، راوي المصنف عن الإمام عبد الرزاق، فيه مقال، ومحله الصدق، إلا أن في روايته عن عبد الرزاق مقال، ويترجح فيها الضعف، انظر "الميزان" "731" و"لسانه" وتأتي ترجمته "2421".
4 تقدم لفظه.(1/59)
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْمِصِّيصِيُّ، عَنْ عَبْدِ الله بن واقد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، ثنا هِلالُ بْنُ خَبَّابٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: وَلِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدِي أعبده من دون الله، فأجئ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ1 الَّذِي أَنْفَسُهُ2 عَلَى نَفْسِي فَأَصُبُّهُ عليه، فيجئ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ3 فَيَبُولُ، فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا الْحَجَرَ، وَمَا يَرَى الْحَجَرَ مِنَّا أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا، مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، يَكَادُ يَتَرَاءَى مَنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ، فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: "بَلْ" نَحْنُ نَضَعُهُ. فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا. قَالُوا: أَوَّلُ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ، فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ4 هُوَ. اسْمُ مَوْلَى مُجَاهِدٍ: السَّائِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} 5 قَالَ: مِنْ تَحْتِهِ مَدًّا6. وَرَوَى نَحْوَهُ عَنْ منصور، عن مجاهد.
__________
1 الخاثر: الغليظ.
2 أنفسه: أبخل به.
3 يشغر: يختلي.
4 إسناده حسن: أخرجه أحمد "3/ 425"، وأخرجه الدارمي "3" من طريق آخر عن مجاهد مختصرًا، وقال الألباني في "تحقيق فقه السيرة" "ص94": إن إسناد أحمد حسن.
5 سورة الانشقاق: 3.
6 إسناده ضعيف: أبو يحيى القتات ضعيف وأجود رواياته ما رواه عنه سفيان وليست هذه منها. وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": لين الحديث، وانظر "الميزان" "10729".(1/60)
وَمِمَّا عَصَمَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ:
إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، يَعْنِي الْأَشِدَّاءَ الْأَقْوِيَاءَ، وَكَانُوا يَقِفُونَ فِي الْحَرَمِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَا يَقِفُونَ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رِيَاسَةً وَبَأْوًا1، وَخَالَفُوا بِذَلِكَ شَعَائِرَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي جُمْلَةِ مَا خَالَفُوا. فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "أَضْلَلَتُ بَعِيرًا لِي يَوْمَ عَرَفَةَ، فَخَرَجْتُ أَطْلُبُهُ بِعَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ ههنا"2.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، عَصَمَنِي اللَّهُ فِيهِمَا، قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا تَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، فَسَمِعْتُ غِنَاءً وَصَوْتَ دُفُوفٍ وَمَزَامِيرَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ، فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتَهِ" 3.
وَرَوَى مِسْعَرٌ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ ذَرِيحٍ، عَنْ زياد النّخعي، ثنا عمّار بن ياسر
__________
1 كبرًا.
2 صحيح: أخرجه البخاري "1664" في كتاب الحج، باب: الوقوف بعرفة، ومسلم "1220" في كتاب الحج، باب: في الوقوف، والنسائي "5/ 255" في كتاب الحج، باب: رفع اليدين في الدعاء بعرفة، وأحمد "4/ 80".
3 أخرجه الحاكم في "مستدركه" "7619"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 33، 34" وقال أخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد" "8/ 226" بعد أن عزاه للبزار، رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 725": وهذا حديث غريب جدًّا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره "حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته" مقحمًا، والله أعلم.
ا. هـ. قلت: وهذا الاحتمال بعيد إلا أن يعضده ضعف السند، وهذا ما لا أعلمه بل هو قريب من الحسن، والله أعلم بالصواب.(1/61)
أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَيْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَيْئًا حَرَامًا؟ قَالَ: "لَا، وَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ عَلَى مِيعَادَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَامِرُ قَوْمِي، والآخر غلبتني عيني" 1 أو كما قال.
إباء النبي -صلى الله عليه وسلم- حضورب عبد تعظيمن فيه الأصنام:
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حسين بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَيْمَنَ قَالَتْ: كَانَ بُوَانَةُ صَنَمًا تَحْضُرُهُ قُرَيْشٌ، تُعَظِّمُهُ وَتُنَسِّكُ لَهُ النُّسَّاكُ، وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ يَوْمًا فِي السَّنَةِ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْعِيدَ، فَيَأْبَى، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا طَالِبٍ غَضِبَ، وَرَأَيْتُ عَمَّاتِهِ غَضِبْنَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ الْغَضَبِ، وَجَعَلْنَ يَقُلْنَ: إِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنِ اجْتِنَابِ آلِهَتِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى ذَهَبَ فَغَابَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا مَرْعُوبًا، فَقُلْنَ: مَا دَهَاكَ؟ قَالَ: "إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ لِي لَمَمٌ"، فَقُلْنَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَبْتَلِيكَ بِالشَّيْطَانِ، وَفِيكَ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا فِيكَ، فَمَا الَّذِي رَأَيْتَ؟ قَالَ: إِنِّي كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْ صَنَمٍ مِنْهَا تَمَثَّلَ لِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ يَصِيحُ: وَرَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَمَسَّهُ قَالَتْ: فَمَا عَادَ إِلَى عيد لهم حتى نبّئ2.
نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- مس الأصنام قبل بعثته:
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُ إِسَافٌ أَوْ نَائِلَةُ يَتَمَسَّحُ الْمُشْرِكُونَ بِهِ إِذَا طَافُوا، فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَطُفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرَرْتُ مَسَحْتُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَمَسَّهُ"، قَالَ زَيْدٌ: فَطُفْنَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَكُونُ، فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألم تنه" 3.
__________
1 أخرجه الطبراني في "الصغير" "903".
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 75": ومحمد بن عمر هو الواقدي متروك كماتقدم، وأبو بكر بن أبي سيرة كذلك.
3 إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "4956" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 34" إسناده صحيح.(1/62)
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ زَادَ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِإِسْنَادِهِ: قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ مَا اسْتَلَمَ صَنَمًا حَتَّى أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ1
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهِدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ2. فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا حَتَّى نَقُومَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَيْفَ نَقُومُ خَلْفَهُ، وَإِنَّمَا عَهْدُهُ بِاسْتِلَامِ الأَصْنَامِ قُبَيْلُ؟ قَالَ: فَلَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ.
تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرٌ، وَمَا أَتَى بِهِ عَنْهُ سِوَى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَهُوَ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، ثنا بُدَيْلُ بْنُ "مَيْسَرَةَ"، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْعًا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ. قَالَ: فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَوَجَدْتُهُ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: "يَا فَتًى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا ههنا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ"3.أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَخْبَرَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَزْدِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْبُنِّ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ أبي العقب، أنا أحمد بن إبراهيم، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامِ الْأَسْوَدِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا بِأَعْلَى مَكَّةَ، إِذَا بِرَاكِبٍ عَلَيْهِ سَوَادٌ فَقَالَ: هَلْ بِهَذِهِ القرية
__________
1 قاله البيهقي في المصدر السابق.
2 أخرجه أبو يعلى في "مسنده" "1877" وابن عدي في "الكامل" "4/ 128" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 726": هو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه: لم يكن أخوه -يقصد أبا بكر بن أبي شيب- يتلفظ بشيء من هذا. ا. هـ.
قلت: وعثمان بن أبي شيبة من أئمة الحديث، وهو ثقة ربما أخطأ، انظر "الميزان" "5518" وقد ذكر فيه هذا الحديث من مناكيره، وتأتي ترجمة عثمان بن أبي شيبة "1856".
3 إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود "4996" في كتاب الأدب، باب: في العدة، وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "1062": ضعيف الإسناد.(1/63)
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ؟ فَقُلْتُ مَا بِهَا أَحْمَدُ وَلَا مُحَمَّدٌ غَيْرِي، فَضَرَبَ ذِرَاعَ رَاحِلَتِهِ فَاسْتَنَاخَتْ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى كَشَفَ عَنْ كَتِفِي حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيَّ فَقَالَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ؟ قُلْتُ: وَنَبِيٌّ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: بِمَ أُبْعَثُ؟ قَالَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ قَوْمِكَ، قَالَ: فَهَلْ مِنْ زَادٍ؟ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَقَالَتْ: حَرِيًّا أَوْ خَلِيقًا أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ، فَهِيَ أَكْبَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا فِي أَمْرِي، فَأَتَيْتُهُ بِالزَّادِ، فَأَخَذَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى زَوَّدَنِي نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- طعامًا، وحمله لي في ثوبه "1.
__________
1 الظاهر أنه من مغازي ابن عائذ، ولم أقف على تراجم لمن فوقه.(1/64)
ذِكْرُ مَبْعَثِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، أَيْ يَتَعَبَّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي1 حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 2 قَالَتْ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ3 حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي" 4، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ مَا لِي! وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: "قَدْ خَشِيتِ عَلَيَّ"، فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ5، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْخَطَّ الْعَرَبِيَّ، فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ.
فَقَالَتِ: اسْمَعْ من ابن أخيك، فقال: يابن أَخِي مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ6 الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ: "أَوَمُخْرِجِيَّ هم؟ ".
__________
1 غطني: ضمني.
2 سورة العلق: 1-5.
3 بوادره: البوادر اللحمة التي بين المنكب والعنق.
4 زملوني: غطوني ولفوني.
5 الكل: من لا يستقل بأمره.
6 الناموس: هو جبريل -صلى الله عليه وسلم- والناموس لغة صاحب الخير، وعكسه الجاسوس، وهو صاحب الشر.(1/65)
قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ به إلاّ عودي وأوذي، ونّ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا1.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ2 وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ3.
فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ وَرَقَةَ، فَقَالَتْ لَهُ خديجة: إنّه يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ صَدَّقَكَ، وَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، فَقَالَ: "رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَكَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ غَيْرُ ذَلِكَ" 4.
وَجَاءَ مِنْ مَرَاسِيلِ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "رَأَيْتُ لِوَرَقَةَ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ" 5.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُزْنًا شَدِيدًا، وَغَدَا مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى6 مِنْ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، وَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةٍ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ7. رَوَاهُ أَحْمَدُ في "مسنده"، والبخاري.
__________
1 مؤزرًا: قويًَّا.
2 لم ينشب: لم يلبث.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3" في كتاب بدء الواحي، باب: رقم "3"، ومسلم "160" في كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وانظر شرح الغريب في "شرح مسلم للنووي" "2/ 161-166"، و"الفتح" "1/ 31-37".
4 أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" "9719" في آخر حديث بدء الوحي.
5 صحيح: أخرجه البزار موصولًا لا بذكر عائشة -رضي الله عنها- كما في "البداية" "2/ 13" وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد جيد، وروي مرسلًا وهو أشبه. وصححه الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص112".
6 يتردي: يهلك.
7 مرسل: أخرجه أحمد "6/ 223"، والبخاري "6982" في كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ الوحي الرؤيا الصالحة، وهو من مراسيل الزهري على الراجح، فلفظه في المصدرين السابقين "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا ... " الحديث قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "12/ 376" القائل "فيما بلغنا" هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري، وليس موصولًا.(1/66)
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ1، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ3.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي الْأَبَرْقُوهِيُّ، أنا عَبْدُ الْقَوِيِّ بْنُ الْجَبَّابِ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِفَاعَةَ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْخُلَعِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ النَّحَّاسِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَرْدِ، أنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ، ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، ثنا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتِ الأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ وَكُهَّانُ الْعَرَبِ قَدْ تَحَدَّثُوا بَأَمْرِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَمَّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَعَمَّا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ، وَمَا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ شَأْنِهِ، وَأَمَّا الْكُهَّانُ فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ بِمَا اسْتَرَقَتْ مِنَ السَّمْعِ، وَأَنَّهَا قَدْ حُجِبَتْ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَرُمِيَتْ بِالشُّهُبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 4 فَلَمَّا سَمِعَتِ الْجِنُّ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- عرفت أنّها منعب مِنَ السَّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ، لِئَلا يُشْكَلَ الْوَحِيُ
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3851" في كتاب مناقب الأنصار، باب: مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم.
2 مرسل.
3 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 912".
4 سورة الجن: 9.(1/67)
بشيء من خير السَّمَاءِ فَيَلْتَبِسَ الْأَمْرُ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَوَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ1.
وَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَوَّلَ الْعَرَبِ فَزِعَ لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ ثَقِيفٌ، فَجَاءُوا إِلَى عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا حَدَثَ؟ قَالَ: بَلَى، فَانْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، فَهِيَ وَاللَّهِ طَيُّ الدُّنْيَا وَهَلَاكُ أَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا، فَهَذَا أَمْرٌ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ هَذَا الْخَلْقَ فَمَا هُوَ2.
قُلْتُ: رَوَى حَدِيثَ يَعْقُوبَ بِنَحْوِهِ حُصَيْنٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، لَكِنْ قال: فأتوا عبد ياليل بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ3.
وَقَدْ جَاءَ غَيْرُ حَدِيثٍ بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْكُهَّانِ أَخْبَرَهُ رِئْيَةً مِنَ الْجِنِّ بِأَسْجَاعٍ وَرَجَزٍ، فِيهَا ذِكْرُ مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ.
وَبِالْإِسْنَادِ إِلَى ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَمْرِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: إِنَّ مِمَّا دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُدَاهُ لَنَا، أَنَّا كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ يَهُودَ، وَكُنَّا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَهُمْ أَهْلُ كتاب، وَكَانَ لَا يَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ، فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ قَالُوا إِنَّهُ قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، وَكُنَّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فلمّا بعث الله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ، فَبَادَرْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ، فَفِي ذَلِكَ نَزَلَ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} 4. الْآيَاتِ5.
حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ،
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 209-211".
2 معضل: انظر المصدر السابق "1/ 212".
3 مرسل.
4 انظر "البداية" "1/ 781-810" باب: في هواتف الجان.
5 سورة البقرة: 89.
والخبر أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 216، 217".(1/68)
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ يَهُودِيٌّ، فَخَرَجَ يَوْمًا حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأَنَا أَحْدَثُهُمْ سِنًّا، فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، قَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لا يَرَوْنَ بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ، أَوَ تَرَى هَذَا كَائِنًا أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ! قَالَ: نَعَمْ قَالُوا: فَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلادِ، وَأَشَارَ إِلَى مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، قَالُوا: وَمَتَى نَرَاهُ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا حَدَثٌ فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ، قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا، فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ، أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ! قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ1.
حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي عَمَّ كَانَ الْإِسْلَامُ لِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسِيدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، نَفَرٍ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، ثُمَّ كَانُوا سَادَتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ قلت: لا بد وَاللَّهِ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ يَهُودِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ، فَحَلَّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكَانَ إِذَا قَحَطَ عَنَّا المطر يأمرنا بالصّدقة وَيَسْتَسْقِي لَنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَبْرَحُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى نُسْقَى، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ، إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ؟ قُلْنَا: أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: إِنَّمَا قَدِمْتُ أَتَوَكَّفُ2 خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فأبتعه، وقد أظلّكم زمانه، فلا تسبقنّ غليه يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَلَا يَمْنَعَنَّكُمْ ذلك منه.
فلمّا بعث مُحَمَّد رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَاصَرَ خَيْبَرَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ، وَكَانُوا شُبَّانًا أَحْدَاثًا: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كَانَ عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ، قَالُوا: لَيْسَ بِهِ، فَنَزَلَ هَؤُلاءِ وَأَسْلَمُوا وَأَحْرَزُوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم3.
__________
1 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 217-218".
2 أتوكف: أنتظر.
3 أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 218-219" والظاهر من السياق أن هذا الشيخ من بني قريظة أدرك الجاهلية لقوله "قدم علينا قبل الإسلام بسنين" إلا أن يريد بقوله "علينا" قومه لا هو، وقد يفعل البعض، والله أعلم.(1/69)
وَبِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ قَدْ ذَكَرَتْ لِعَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَتَنَصَّرَ، مَا حَدَّثَهَا "مَيْسَرَةُ" مِنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ وَإِظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا يَا خَدِيجَةُ إِنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيًّا يُنْتَظَرُ زَمَانُهُ، قَالَ: وَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ: حَتَّى مَتَى، وَقَالَ:
لَجِجْتُ وَكُنْتُ فِي الذِّكْرَى لَجُوجًا ... لِهَمٍّ طَالَمَا بَعَثَ النَّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ ... فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِيَ يَا خَدِيجَا
بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثُكِ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا1
بِمَا خَبَّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ... مِنَ الرُّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَسُودُ قَوْمًا ... وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجَا
وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَ نُورٍ ... يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيَّةَ أَنْ تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا ... وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا2
فَيَا لَيْتَنِي إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ ... شَهِدْتُ فَكُنْتُ أَوَّلَهُمْ وُلُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ تَكُنْ أُمُورٌ ... يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا3
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ الضَّبِّيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: $"إِنَّ بِمَكَّةَ لَحَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِيَ بُعِثْتُ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ"4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كثير: حدثنا أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا أَيُّ الْقُرْآنِ أنزل
__________
1 المكتين: تثنية مكة.
2 الفلوج: الظهور.
3 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 196-197".
4 صحيح: عزاه المصنف لأبي داود ولم أجده فيه، فلعله أراد الترمذي فسبقه القلم، فقد أخرجه الترمذي "3644" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق سليمان بن معاذ به، وأخرجه أيضًا مسلم "2277" في كتاب الفضائل باب: نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "5/ 89، 95، 105"، الدارمي "20"، والطبراني في "الأوسط" "2012"، وابن حبان في "صحيحه" "6482" والبغوي في "شرح السنة" "3709".(1/70)
أوّل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} 1 أَوِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 2 فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِي فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى عَرْشٍ فِي الْهَوَاءِ، يَعْنِي الْمَلَكَ، فَأَخَذَنِي رَجْفَةٌ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَأَمَرَتْهُمْ فَدَثَّرُونِي، ثم صبّوا عليّ الماء، فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} " 3.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجُئِثْتُ 4 مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فدثّروني، ونزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 5 وَهِيَ الْأَوْثَانُ"6. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أنّ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فَكَانَ الْوَحْيُ الْأَوَّلُ لِلنُّبُوَّةِ والثّاني للرسالة.
__________
1 سورة المدثر: 1.
2 سورة العلق: 2.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4924" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، وأحمد "3/ 392".
4 جئثت: فزعت.
5 سورة المدثر: 1-5.
6 صحيح: أخرجه البخاري "4" في كتاب بدء الوحي، باب: رقم "3"، ومسلم "161/ 255" في كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/71)
فَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ خَدِيجَةُ "رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
قَالَ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الأثير: خديجة أوّل خلق الله أسلمت بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَتَقَدَّمْهَا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: خَدِيجَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٌ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: بَلْ عَلِيٌّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، لَكِنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ أو نحوها على الصحيح، وقيل: وله ثمان سِنِينَ، وَقِيلَ: تِسْعٌ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، فَإِنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ، وَأَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا: تُوُفِّيَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.
فَهَذَا يَقْضِي بِأَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، حَتَّى إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ وَلَهُ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ بِاللَّهِ عِلَيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدٌ مَوْلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَقَبِلَ الرَّسُولُ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَانْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ، وَجَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرَةٍ وَلَا صَخْرَةٍ إِلَّا سَلَّمَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ قَالَ: أَرَأَيْتُكِ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكِ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ لِي، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي، وَأَخْبَرَهَا بِالْوَحْيِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، فَاقْبَلِ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى عَدَّاسٍ غُلَامِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى فَقَالَتْ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ إِلَّا ما
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 248".(1/72)
أَخْبَرْتَنِي، هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ جِبْرِيلَ؟ فَقَالَ عَدَّاسٌ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ. قَالَتْ: أَخْبِرْنِي بِعِلْمِكَ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَرَجَعَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى وَرَقَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِنَحْوٍ مِنْهُ، وَزَادَ: فَفَتَحَ جِبْرِيلُ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَوَضَّأَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مُوَاجِهَ الْبَيْتِ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما رأى جبريل يفعل2.
__________
1 مرسل: أخرجه موسى بن عقبة كما في "البداية" "12/ 17-18".
2 مرسل.(1/73)
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ بعض أهل العلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ لَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ مِنْهُ1، وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَنْسُكُ فِيهِ.
وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إني لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ3. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ القاضي: حدثنا أَبُو الرَّبِيعِ، ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: جاء جبريل إلى النّبيّ
__________
1 إسناده ضغيف: انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 238".
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 ضعيف: أخرجه الترمذي "3646" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والدارمي "21" وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "747": ضعيف.(1/73)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ، قَدْ خَضَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِالدِّمَاءِ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: "خَضَبَنِي هَؤُلَاءِ بِالدِّمَاءِ وَفَعَلُوا وَفَعَلُوا"، قَالَ: تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَتْ تَخُطُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا، قَالَ: "ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ" فَرَجَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَسْبِي" 1. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ إسحاق: حدّثني وهب بن كيسان، سمعت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ، حَدَّثْتُ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُجَاوِرُ فِي حِرَاءَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَحَنَّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ2. وَالتَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: فَكَانَ يُجَاوِرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ، خَرَجَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى حِرَاءَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ 4 مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قلت: ما أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يعود لي بمثل ما
__________
1 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4028" في كتاب الفتن، باب: الصبر على البلاء، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "7/ 430"، والدارمي "23"، وأبو نعيم في "الحلية" "9854" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 611": إسناده على شرط مسلم. وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3254": صحيح.
2 رجاله موثقون: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 238" وعبيد الله بن عمير مختلف في صحبته.
3 انظر المصدر السابق "1/ 239، 240" فقد أخرجه ابن إسحاق بالسند السابق.
4 النمط: نوع من البسط.(1/74)
صنع بي، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1، فَقَرَأْتُهَا ثُمَّ انْتَهَى عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا" 2.
فِي هَذَا الْمَكَانِ زِيَادَةٌ، زَادَهَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَهِيَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مجنون فكنت لا أطيق أن أنظر إليهما، فَقُلْتُ: إِنَّ الأَبْعَدَ، يَعْنِي نَفْسَهُ، لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، ثُمَّ قُلْتُ: لَا تُحَدِّثْ عَنِّي قُرَيْشٌ بِهَذَا أَبَدًا، لَأَعْمِدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَأَطْرَحَنَّ نَفْسِي فَلَأَسْتَرِيحَنَّ، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جِبْرِيلُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جِبْرِيلُ، فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَمَا أَتَقَدَّمُ وَلَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي، فَانْصَرَفْتُ إِلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كُنْتَ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ حَتَّى بَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا، ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رأيت، فقالت: أبشر يابن عَمِّي وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَى وَسَمِعَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِ يَا خَدِيجَةُ، لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ، فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ، فَلَمَّا قَضَى جِوَارَهُ طَافَ بِالْكَعْبَةِ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ وَهُوَ يَطُوفُ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذَّبَنَّهُ
__________
1 سورة العلق: 1-5.
2 أخرجه ابن إسحاق السابق، كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 239، 240" ورجاله موثقون إلا أن عبيد الله بن عمير مختلف في صحبته.(1/75)
وَلَتُؤْذَنَّهُ وَلَتُخْرَجَنَّهُ وَلَتُقَاتَلَنَّهُ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ1.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنَا أَوَّلَ مَا رَأَى أَنَّ اللَّهَ أَرَاهُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَهَا لِخَدِيجَةَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ وَشَرَحَ صَدْرَهَا بِالتَّصْدِيقِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ، ثُمَّ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى بَطْنَهُ شُقَّ ثُمَّ طُهِّرَ وَغُسِّلَ ثُمَّ أُعِيدَ كَمَا كَانَ، قَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَأَبْشِرْ، ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فأجلسه في مجلس كَرِيمٍ مُعْجِبٍ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يقول: أجلسني على بساط طهيئة الدُّرْنَوَكِ2 فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فَبَشَّرَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى اطْمَأَنَّ3.
الَّذِي فِيهَا مِنْ شَقِّ بَطْنِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهَا بِمَا تَمَّ لَهُ فِي صِغَرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُقَّ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ شُقَّ مَرَّةً ثَالِثَةً حِينَ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَأَنْشَدَ وَرَقَةُ:
إِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي ... حَدِيثُكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا ... مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
يَفُوزُ بِهِ من فار فِيهَا بِتَوْبَةٍ ... وَيَشْقَى بِهِ الْعَانِي الْغَوِيُّ الْمُضَلَّلُ
فَسُبْحَانَ مَنْ تَهْوِي الرِّيَاحُ بِأَمْرِهِ ... وَمَنْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ مَا شَاءَ يَفْعَلُ
وَمَنْ عَرْشُهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا ... وَأَقْضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ لَا تبدّل
طمأنة السيدة خديجة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن الوحي:
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حكيمٍ أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيِ ابْنَ عَمٍّ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: "يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ" هَلْ تَرَاهُ؟ قالت: يابن عَمٍّ قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، فَقَامَ فجلس عليها، قالت: هل
__________
1 انظر المصدر السابق.
2 الدرنوك: كل ما له خمل قصير.
3 مرسل: أجرجه موسى بن عقبة بن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلًا، كما في "البداية" "2/ 17".(1/76)
تَرَاهُ: قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاقْعُدْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى، فَتَحَوَّلَ فَقَعَدَ عَلَى فَخِذِهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي، فَفَعَلَ، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ: قَالَ: "نَعَمْ"، فَتَحَسَّرَتْ فَأَلْقَتْ خِمَارَهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: "لَا" قَالَتِ: اثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ1.
قَالَ: وَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّيَ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ تُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ خَدِيجَةَ، إِلِّا أَنِّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ2.
وقال أبو صالح: أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ عُلَمَائِهِمْ يَقُولُ: كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلى قوله {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 3 فَقَالُوا: هَذَا صَدْرُهَا الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حِرَاءَ، ثُمَّ أُنْزِلَ آخِرُهَا بَعْدُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ4.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّنْزِيلِ فِي رَمَضَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 5، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 6 وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 7.
صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع خديجة وإسلام علي وزيد بن حارثة:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قَالَ: هَمَزَ جِبْرِيلُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ عَيْنٌ، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَرَجَعَ، وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ خديجة، حتى أتى بها العين
__________
1 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 242"، فقال: حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير: أنه حدث عن خديجة -رضي الله عنها.
2 أخرجه ابن إسحاق كما في المصدر السابق "1/ 242-243".
3 سورة العلق: 1-5.
4 إسناده ضعيف: أبو صالح هو كاتب الليث ضعيف كما في "التقريب" "3388".
5 سورة البقرة: 185.
6 سورة القدر: 1.
7 سورة الدخان: 3.(1/77)
فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ هو وخديجة، ثُمَّ كَانَ هُوَ وَخَدِيجَةُ يُصَلِّيَانِ سِرًّا، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ فَوَجَدَهُمَا يُصَلِّيَانِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذَا يَا مُحَمَّدُ.
فَقَالَ: دِينٌ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ فَأَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَكُفْرٍ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى.
فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُفْشِي عَلَيْهِ سِرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ إِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَاكْتُمْ، فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ، فَأَصْبَحَ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَقِيَ يَأْتِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَمَ إِسْلامَهُ.
وَأَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَمَكَثَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ يَخْتَلِفُ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَصَابَتْ قُرَيْشًا أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ، وَكَانَ مُوسِرًا، إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ، مَا تَرَى، فَانْطَلِقْ لِنُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَآمَنَ بِهِ1.
وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَكْتُمُ الْإِسْلَامَ فَرَقًا مِنْ أَبِيهِ، حَتَّى لَقِيَهُ أَبُوهُ فَقَالَ: أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: آزِرِ ابْنَ عَمِّكَ وَانْصُرْهُ2.
وَقَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ قبل أبي بكر.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 149".
2 مرسل.(1/78)
وقال يونس: عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدَّدَ وَنَظَرَ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ"1.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي "مَيْسَرَةَ" أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مَنْ يُنَادِيهِ، يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَى أَبِي بكر، وكان نديمًا له في الجاهلية2.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "البداية" "2/ 34" ولم أجد ترجمة لمحمد بن عبد الرحمن، والإسناد مرسل، فإن ابن إسحاق لم يدرك أحدًا من الصحابة.
2 مرسل إسناده ضعيف: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.(1/79)
إِسْلامُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: ذَكَرَ بعض أهل العلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، خَرَجَ إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ فَيُصَلِّيَانِ فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ عَبَرَ عَلَيْهِمَا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم: يابن أَخِي مَا هَذَا؟ قَالَ: "أَيْ عَمِّ هَذَا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينُ إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْهُدَى وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي وَأَعَانَنِي"، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لا يخلص إليك شيء تكره مَا بَقِيتُ، وَلَمْ يُكَلِّمْ عَلِيًّا بِشَيْءٍ يَكْرَهُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ فَاتَّبِعْهُ2.
ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ بِرَقِيقٍ، فَدَخَلَتْ عمّته خديجة بنت خويلد فقال: أَيَّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْتِ فَهُوَ لَكِ، فَاخْتَارَتْ زَيْدًا، فَأَخَذَتْهُ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَوْهَبَهُ، فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ قَبْلَ الوحي، ثم قدم أبوه
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 249، 250".
2 معضل: انظر المصدر السابق.(1/79)
حَارِثَةُ لِمَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ وَجَزَعِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ عِنْدِي، وَإِنْ شِئْتَ فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيكَ". قَالَ: بَلْ أُقِيمُ عِنْدَكَ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فلمّا نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} 1 قَالَ: أَنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ2.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ مُحَبَّبًا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَكَانَ تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، فَجَعَلَ لَمَّا أَسْلَمَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ، وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ: عُثْمَانُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَسْلَمُوا وَصَلُّوا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ أَوَّلَ مَنْ سَبَقَ بِالإِسْلامِ وَصَلُّوا وَصَدَّقُوا.
ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الأَرْقَمِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ. وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ المطّلب بن عبد مناف المطّلبيّ، وسعيد ابن زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيُّ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَخَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَسُلَيْطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْعَامِرِيُّ، وَأَخُوهُ حَاطِبٌ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو أَحْمَدَ ابْنَا جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيِّ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ الْجُمَحِيُّ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلَّلِ، وَأَخُوهُ خَطَّابٌ، وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُوهُمَا، وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الْعَدَوِيُّ الزُّهْرِيُّ، وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفٍ، وَالنَّحَّامُ وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَسَدٍ الْعَدَوِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَامْرَأَتُهُ أُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ، وَحَاطِبُ بن عمرو، وأبو حذيفة مهشم
__________
1 سورة الأحزاب: 5.
2 ذكره ابن هشام في "سيرته" "1/ 250-251".
3 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 252".(1/80)
بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَخَالِدُ، وَعَامِرُ، وَعَاقِلُ وَإِيَاسُ بَنُو الْبُكَيْرِ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيٍّ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ النَّمَرِيُّ حَلِيفُ بَنِي تَيْمٍ1.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى، فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ الْمَوْسِمِ، أَفِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ؟ قَالَ طَلْحَةُ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا، فَقَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ وَحَرَّةٍ وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي، فَأَسْرَعْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَقُلْتُ: هَلْ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِينُ تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَانْطَلِقْ فَاتَّبِعْهُ، فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَخَرَجَ بِهِ حَتَّى دَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ، وَكَانَ نَوْفَلُ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ: الْقَرِينَيْنِ2.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ، عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما معه إلا خمسة أبعد وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَالِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِمَكَّةَ مُسْتَخْفِيًا، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: "نَبِيٌّ" قُلْتُ: وَمَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: "رَسُولُ اللَّهِ" قُلْتُ: اللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "نعم"،
__________
1 انظر "المصدر السابق" "1/ 253، 254".
2 إسناده ضعيف جدًّا: محمد بن عمر الواقدي متروك كما تقدم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3660" في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلًا".(1/81)
قُلْتُ بِمَ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "بِأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَتُكَسَّرَ الْأَوْثَانُ وَتُوصَلَ الأَرْحَامُ"، قُلْتُ: نِعْمَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، فَمَنْ تَبِعَكَ؟ قَالَ: "حُرٌّ وَعَبْدٌ"، يعني أَبَا بَكْرٍ وَبِلالا، فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: أَتَّبِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا وَلَكِنِ الحقْ بِقَوْمِكَ، فَإِذَا أُخْبِرْتَ بِأَنِّي قَدْ خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي" 1 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: لَقَدْ مَكَثْتُ سَبَعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلامَهُ سَبْعَةٌ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ3. تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الإِسْلامِ، قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ": ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ يَافِعًا5 أَرْعَى غَنَمًا لعقبة بن أبي معيط بمكة
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "832" في كتاب صلاة المسافرين، باب: إسلام عمرو بن عبسة، وأحمد "4/ 111، 112"، وأخرجه النسائي "1/ 283-284"، في كتاب المواقيت باب: إباحة الصلاة إلى أن يصلى الصبح، وابن ماجه "1364" في كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في أي ساعات الليل أفضل، وأحمد "4/ 113، 114"، وأبو نعيم في "الحلية" "1377" من طريق آخر عن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3727" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص وأبو نعيم في "الحلية" "290".
3 حسن: أخرجه ابن ماجه "150" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحمد "1/ 404"، وأبو نعيم في "الحلية" "487" وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده ثقات. وقال المصنف في "تاريخ الإسلام" "1/ 97". حديث صحيح. وقال الإلباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "122": حسن.
4 صحيح: أخرجه البخاري "38602" في كتاب مناقب الأنصار، باب: إسلام سعيد بن زيد -رضي الله عنه.
5 يافعًا: قويًّا.(1/82)
فَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَا: يَا غُلَامُ هَلْ عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِينَا؟ قُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا، فَقَالَا: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذْعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الضَّرْعَ فَدَعَا، فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ، فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَا وَسَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: "اقْلُصْ"، فَقَلَصَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ فَقَالَ: "إِنَّكَ غُلَامٌ معلَّم"، فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ1.
__________
1 إسناده حسن: أخرجه أحمد "1/ 379، 462"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 171"، والطبراني في "الكبير" "8456" وإسناده حسن من أجل عاصم هو ابن بهدلة.(1/83)
فَصْلٌ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيرَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ مِنْ قومه
...
فصل في دعوته النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشِيرَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ:
قَالَ جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بن طلحة، عن أبي هريرة: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ:
"يَا بَنِي كَعْبِ بْنَ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلالِهَا" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ وَزُهَيْرٌ عَنْ جَرِيرٍ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَضْمَةٍ3 مِنْ جَبَلٍ، فَعَلَاهَا ثُمَّ نَادَى: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، إِنِّي نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ" 4 أخرجه مسلم.
__________
1 سورة الشعراء: 214.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4771" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، ومسلم "204" في كتاب الإيمان، باب: في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، والترمذي "3196" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الشعراء، والنسائي "6/ 248، 249" في كتاب الوصايا، باب: إذا أوصى لعشيرته الأقربين، وأحمد "2/ 360، 519"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 177، 178"، وابن حبان في "صحيحه" "646".
3 الرضمة: دون الهضبة.
4 صحيح: أخرجه مسلم "207" في المصدر السابق، والطبراني في "الكبير" "18/ 374"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 178".(1/84)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بن نوفل، واستكتمني اسمه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُ قَوْمِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عَلَيْهَا، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ عَذَّبَكَ"، قَالَ عَلِيٌّ: فَدَعَانِي فَقَالَ: "يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ، فَعَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُهُمْ بِذَلِكَ رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ، ثُمَّ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ عَذَّبَكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا يَا عَلِيُّ رِجْلَ شَاةٍ عَلَى صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَأَعِدَّ لَنَا عُسَّ1 لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، فَفَعَلْتُ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلا يَزِيدُونَ رَجُلا أَوْ يَنْقُصُونَ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ أَبُو طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو لَهَبٍ، فَقَدَّمْتُ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْجَفْنَةَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا حذية2، فشقّها بأسنانه، ثم رمى بها ي نَوَاحِيهَا وَقَالَ: "كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ مَا نَرَى إِلَّا آثَارَ أَصَابِعِهِمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مثلها، ثم قال رسول اله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ"، فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ3، فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَكَلَّمَ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ: لَهَدَّمَا4 سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْغَدِ: "عُدْ لَنَا يَا عَلِيُّ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ بِالْأَمْسِ"، فَفَعَلْتُ وَجَمَعْتُهُمْ، فَصَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى نَهِلُوا، وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَعْبِ حَتَّى نَهِلُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي والله قد ما أعلم شابًّا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"5.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عمرو، عن عبد الله بن الحارث.
__________
1 العس: القدح الضخم.
2 الحذية: ما قطع من اللحم طولًا.
3 القعب: القدح الضخم.
4 لهد: كلمة تعجب.
5 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 179" وفي إسناده جهالة.(1/85)
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرَهُ إِلَى أَنْ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ؛ "يَا صَبَاحَاهُ"، قَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا، ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ"2 كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَّا "وَقَدْ تَبَّ" فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ، وَهِيَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ".
وَقَالَ ابْنُ عُيَيَنْةَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ4 وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَمَّمًا أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي"، وَقَرَأَ قُرْآنًا فَاعْتَصَمَ بِهِ وَقَرَأَ {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} 5 فَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ علمت قريش أنّي ابنة سيّدها6.
__________
1 سورة الشعراء: 214.
2 سورة المسد: 1.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4971" في كتاب التفسير، باب: سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، ومسلم "208/ 355" في كتاب الإيمان، باب: في قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَْ} .
4 الفهر: الحجر.
5 سورة الإسراء: 45.
6 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 195، 196".(1/86)
رَوَى نَحْوَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ.
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "انْظُرُوا قُرَيْشًا كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَهُمْ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ" 1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَقَالَ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 2 وقال {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} 3 قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا صَلَّوْا ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ وَاسْتَخْفَوْا بِصَلاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ بِشِعْبٍ، إِذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ4 بَعِيرٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ فِي الْإِسْلامِ، فَلَمَّا بَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ وَصَدَعَ بِالْإِسْلامِ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ، فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى عَابَ آلِهَتَهُمْ، فَأَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خلافه وعداواته، فَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَرَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ يَمْنَعُهُ مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ، وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنْ آلِهَتِنَا وَعَنِ الْكَلامِ فِي دِينِنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُمْ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلا، فَانْصَرَفُوا.
ثُمَّ بعد ذلك تباعد الرجال وتضاغنوا، أكثرت قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، وَمَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: إِنَّ لَكَ نَسَبًا وَشَرَفًا فِينَا، وَإِنَّا اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَصْبِرُ عَلَى شَتْمِ آلِهَتِنَا وَتَسْفِيهِ أَحْلامِنَا حَتَّى تَكُفَّهُ أو تنازله وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فراق قومه وعداواته لَهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا أَنْ يُسَلِّمَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لهم ولا أن يخذله5.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3533" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والبيهقي في "سننه" "8/ 252" وفي "الدلائل" "1/ 152".
2 سورة الحجر: 94.
3 سورة الحجر: 89.
4 اللحى: العظم الذي على الفخذ.
5 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 258-261".(1/87)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ انْطَلِقْ فَائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ حِفْشٍ أَوْ كِبْسٍ، يَقُولُ بَيْتٌ صَغِيرٌ،، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً"، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي قَطُّ فَارْجِعُوا1. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "التَّارِيخِ" عَنْ أبي كريب، عن يونس.
"غيرة أبي طالب عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ":
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ مَا قَالُوا، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يابن أَخِي إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُوا إِلَيَّ فَقَالُوا: كَذَا وَكَذَا، فَابْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلا تُحَمِّلْنِي مِنَ الأَمْرِ مَا لا أُطِيقُ، فَظَنَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ بَدَاءٌ وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، فَقَالَ: "يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ"، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي، فأقبلت إليه فقال: فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ أَبَدًا2.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ يُونُسُ ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي ذَلِكَ شِعْرًا.
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَامْضِ لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ3 ... أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي ... فَلَقَدْ صَدَقْتَ، وَكُنْتَ قِدْمًا أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ ... مِنْ خير أديان البريّة دينا
__________
1 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "7/ 51"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 187".
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 261-262" وهو على شهرته ضعيف لإرساله.
3 غضاضة: عيب.(1/88)
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِي سُبَّةً ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ: ثنا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1 وَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ: "أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ" 2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ3 يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلى الله، ووراءه رَجُلٌ أَحْوَلُ تُقَدُّ وَجْنَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو لَهَبٍ4.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ مِنْ بَنِي الدُّئِلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَمْشِي بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا". وَوَرَاءَهُ أَبُو لَهَبٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ رَبِيعَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أُزْفِرُ5 الْقِرْبَةَ لِأَهْلِي6.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: "قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا". وَإِذَا خَلْفَهُ رَجُلٌ يَسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ وَيَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللاتِ وَالْعُزَّى7. إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
"رد أبي جهل عن أذى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعجزة نبوته":
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي
__________
1 سورة المائدة: 76.
2 صحيح: أخرجه الترمذي "3057" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وابن جرير الطبري في "تفسيره" "6/ 199"، وأبو نعيم في "الحلية" "8375" وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "6/ 96". إسناده حسن، واختلف في وصله وإرساله. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
3 ذو المجاز: سوق بعرفة.
4 أخرجه أحمد "3/ 492"، والبيهفي في "الدلائل" "2/ 185".
5 أزفر: أحمل.
6 أخرجه أحمد "3/ 492"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 1486".
7 أخرجه البيهفي في "الدلائل" "2/ 186".(1/89)
حازم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وبينه لخندقًا من نار، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" 1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الملائكة عيانًا" 2. أخرجه البخاريّ.
"إغراء قريش لأبي طالب ليسلم لهم النبي -صلى الله عليه وسلم":
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَتَوْا أَبَا طَالِبٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ3 فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنُصْرَتُهُ وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ نَقْتُلْهُ، فَإِنَّمَا رَجُلٌ كَرَجُلٍ، فَقَالَ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا تَسُومُونَنِي، أَتُعْطُونِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا.
فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ وَجُهِدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي لَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَحَقَبَ4 الْأَمْرُ، وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ القوم، فقال أبو طالب.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2797" في كتاب القيامة، باب: قوله تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} ، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 189".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4958" في كتاب التفسير، باب: قوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} ، والترمذي "3359" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، والنسائي في "الكبرى" "11685"، وأحمد "1/ 248، 368".
3 أنهد: أقوى.
4 حقب: اشتد.(1/90)
أَلَا قُلْ لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنَ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يُرَشُّ عَلَى السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ1
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا ... إِذَا سُئِلَا قَالَا إِلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
أَخُصُّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَمَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَتْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا قَامَ عَنْهُمْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلامِنَا، وَسَبِّ آلِهَتِنَا، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسَنَّ له غدًا بحجر، فإذا سجد فضحت بِهِ رَأْسَهُ فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ أَخَذَ حَجَرًا وَجَلَسَ، وَأَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامَ يُصَلِّي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ، وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الشَّامِ، وَجَلَسَتْ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا يَنْظُرُونَ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مَرْعُوبًا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ، قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ، حَتَّى قَذَفَ بِهِ مِنْ يَدِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ مَا قُلْتُ لَكُمْ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ أَنْ يَأْكُلَنِي2.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَهُ"3.
وَقَالَ الْمُحَارِبِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو جَهْلٍ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ أَنْ تُصَلِّيَ يَا مُحَمَّدُ؟ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَكْثَرَ نَادِيًا مِنِّي، فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقال
__________
1 الخور: الضعاف، والحبحاب: القصير.
2 إسناده ضعيف: لجهالة هذا الشيخ من مصر، وانظر "سيرة ابن هشام" "1/ 288-289".
3 معضل: انظر المصدر السابق "1/ 289".(1/91)
جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} 1. وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ2.
"خضوع الوليد بن المغيرة للقرآن العظيم":
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أنا الْحَاكِمُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ بِمَكَّةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ علمت أنّي من أكثرها مالًا، قال: فقيل فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهَا، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، بِأَثْرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} 3 يَعْنِي الْآيَاتِ4.
هَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ مُخْتَصَرًا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ، فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتُقْدِمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قَالُوا: فَأَنْتَ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وأنا
__________
1 سورة العلق: 17-18.
2 تقدم تخريجه قريبًا.
3 سورة المدثر: 11.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 198" والحاكم في "مستدركه" "3872" وإسحاق بن إبراهيم هو الدبري، فيه مقال خاصة في روايته عن عبد الرزاق.(1/92)
أَسْمَعُ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ1 الْكَاهِنِ وَسَجْعِهِ.
فقَالُوا: نَقُولُ مَجْنُونٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هو بخنقه وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ.
قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ وَهَزَجِهِ وَقَرِيضِهِ وَمَقْبُوضِهِ وَمَبْسُوطِهِ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ.
قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ؟ قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلا عُقَدِهِ.
فَقَالُوا: مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ حَلاوَةً وَإِنَّ أَصْلَهُ لَغَدِقٌ وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنِيٌّ، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ نَقُولَ سِاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ ابْنِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ عَشِيرَتِهِ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمُ، لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ. فَأُنْزِلَ فِي الْوَلِيدِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} . إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 2 وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الَّذِي كَانُوا مَعَهُ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 3 أي أصنافًا، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4.
"شهادة النضر بن الحارث لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ":
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْعَبْدَرِيُّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا ابْتُلِيتُمْ بِمِثْلِهِ، لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمُكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صدغيه الشّيب، وجاءكم
__________
1 الزمزمة: الكلام الخفي.
2 سورة المدثر: 11-26.
3 سورة الحجر: 91.
4 سورة الحجر: 92.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "4/ 199-201" وإسناده ضعيف، محمد بن أبي محمد مجهول كما في "التقريب" "6276".(1/93)
بِمَا جَاءَكُمْ، قُلْتُمْ سَاحِرٌ، لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، وَلَا بِكَاهِنٍ وَلَا بِشَاعِرٍ، قَدْ رَأْيَنا هَؤُلَاءِ وَسَمِعْنَا كَلَامَهُ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ1.
وكان النّضر من شياطين قريش، مّن يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ: حدثنا الْأَجْلَحُ عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ: لَقَدِ انْتَشَرَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَكَلَّمَهُ ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَقَدْ سَمِعْتُ بِقَوْلِ السِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، وَمَا يَخْفَى عليّ إن كان لذلك، فَأَتَاهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، قَالَ: فِيمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّيَاسَةُ عَقَدْنَا لَكَ أَلْوِيَتَنَا، فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نَسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ أَبْيَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَغْنِي بِهِ أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 2 فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا حَسِبْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَأْتَ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ، فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ، قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حَتَّى بَلَغَ {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه، وناسدته الرحم أن
__________
1 إسناده ضعيف: للجهالة فيه.
2 سورة فصلت: 1-13.(1/94)
يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ1. رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْهُ.
وَقَالَ داود بن عمرو الضّبيّ: حدثنا الْمُثَنَّى بْنُ زُرْعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لما قَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 2 أَتَى أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَلَامًا مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ قَطُّ كَلَامًا مِثْلَهُ، وَمَا دَرَيْتُ ما أردّ عليه3.
"محاولة عتبة بن ربيعة إغراء النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خضوعه للحق":
قال ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ ربيعة، لما أسلم حمزة قالوا به: يَا أَبَا الْوَلِيدِ كَلِّمْ مُحَمَّدًا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يابن أَخِي إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ عَلِمْتَ مِنَ الْبَسْطَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ بَيْنَهُمْ، وَسَفَّهْتَ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ، حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ وَمَلَّكْنَاكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: افْعَلْ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 4. وَمَضَى فَأَنْصَتَ عُتْبَةُ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّجْدَةِ سَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: "قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ فَأَنْتَ وَذَاكَ"، فَقَامَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْلِفُ وَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي سَمِعْتُ
__________
1 صحيح: أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" "1123" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 202-204" وصححه الألباني في تحقيق "فقه السيرة".
2 سورة فصلت: 1.
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 205" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 77": وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه.
قلت: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.
4 سورة فصلت: 1.(1/95)
قَوْلًا، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي، وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ1.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً يَتَسَمَّعُونَ مِنْ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا وَقَالُوا: لَا نَعُودُ فَلَوْ رَآنَا بَعْضُ السُّفَهَاءِ لَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ عَادُوا لِمِثْلِ لَيْلَتِهِمْ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا تَلَاقَوْا فَتَلاوَمُوا لِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَأَصْبَحُوا جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَعَاهَدُوا أَنْ لا يَعُودُوا، ثُمَّ إِنَّ الأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، ثُمَّ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ؟ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حتى إذا يجاثينا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ. قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ، وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، فَقَامَ الْأَخْنَسُ عَنْهُ2.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَمْشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلٍ، إِذْ لَقِيَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ مَا اتَّبَعْتُكَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عليه وسلم- صلى اله عليه وسلم، وأقبل عليّ فقال: والله إنّ لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ بَنُو قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالُوا: فينا النّدوة،
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 204-205 وفي إسناده جهالة.
2 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 206".(1/96)
قُلْنَا، نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا اللِّوَاءُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَقَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا: منّا نبيّ، واله لا أفعل1.
__________
1 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 207" وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار، قال في "التقريب" "64": ضعيف وسماعه للسيرة صحيح: وفي "التهذيب" "1/ 32، 33" ما يفهم منه أن سبب ضعفعه أنه روى عن القدماء ولم يثبت لقاءه لبعضهم، فإذا صح سماعه للسيرة فالإسناد حسن أو صحيح، والله أعلم.(1/97)
"شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُعَادَاةِ خُصُومِهِ":
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا وَثَّبَتْ كُلَّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَامَ أَبُو طَالِبٍ فَدَعَا بَنِي هَاشِمَ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقِيَامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْخَاسِرِ أَبِي لَهَبٍ، فَجَعَلَ أَبُو طَالِبٍ يَمْدَحُهُمْ ويذكر قديمهم، ويذكر فضل محمد صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا خَشِيَ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يُرْكِبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ، لَمَّا انْتَشَرَ ذِكْرُهُ قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي مِنْهَا:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمُ ... وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ2
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَفِيهَا يَقُولُ:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى مُحَمَّدًا ... وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
ونسلمه حتى مصرّع حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضَ قَوْمٌ نحوكم غير عزل ... يبيض حَدِيثٍ عَهْدُهَا بِالصَّيَاقِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ3
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دأب المحبّ المواصل
__________
1 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 207" وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار، قال في "التقريب" "64": ضعيف وسماعه للسيرة صحيح: وفي "التهذيب" "1/ 32، 33" ما يفهم منه أن سبب ضعفعه أنه روى عن القدماء ولم يثبت لقاءه لبعضهم، فإذا صح سماعه للسيرة فالإسناد حسن أو صحيح، والله أعلم.
2 عضب: سيف قاطع، والمقاول: الملوك.
3 ثمال اليتامى: مطعمهم.(1/97)
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ ... إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ... يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ ... تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ ذو أَرُومَةٍ ... يُقَصِّرُ عَنْهَا سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ1
حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَفَدَيْتُهُ ... وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَى وَالْكَلَاكِلِ2
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ
فَلَمَّا انْتَشَرَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْعَرَبِ ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ ذُكِرَ، وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنَ الأحبار، وكانوا حلفاء، يعني اليهود في بالدهم، وَكَانَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الأَسْلَتِ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا، وَعِنْدَهُ أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ السِّنِينَ بِزَوْجَتِهِ، فَقَالَ:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَا ... مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبٍ3
رَسُولُ امْرِئٍ قد راعه ذات بينكم ... على الناي مخزون بِذَلِكَ نَاصِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسِّ الْعَقَارِبِ4
مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنِ أَوْ لِلْأَقَارِبِ5
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا، فَأَنْتُمُ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ نَهْتَدِي بِالذَّوَائِبِ6
فَقُومُوا، فَصَلُّوا رَبَّكُمْ، وَتَمَسَّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الأَخَاشِبِ
فِعْنَدَكُمْ مِنْهُ بَلاءُ وَمُصَدَّقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ7
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يؤب ... إلى أهله ملجيش غير عصائب
__________
1 الأرومة: الأصل من كل شيء.
2 الذرا: الخلق. والكلاكل: مفرد الكلكل، وهو الصدر.
3 مغلغلة: رسالة.
4 بتاغيكم: ظلمكم.
5 الغول: الهلاك.
6 الذوائب: الأعالي.
7 السافي: الذي أصابته الغبار. والحاصب: الريح المحملة بالتراب والحصى.(1/98)
أَبُو يَكْسُومَ مَلِكُ أَصْحَابِ الْفِيلِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ، أَصَابَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، قَدْ سَفَّهَ أَحْلامَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَلَمَّا مَرَّ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ، فَلَمَّا مَرَّ الثَّالِثَةَ غَمَزُوهُ، فَوَقَفَ فَقَالَ: "أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ"، قَالَ: فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا فِيهِمْ رَجُلٌ إِلا كَأَنَّ عَلَى رَأْسِهِ طَائِرًا وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَطْأَةً لَيُرَفِّؤُهُ بِأَحْسَنَ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ يَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولا، فَانْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبيناهم فِي ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهُمْ يَبْكِي وَيَقُولُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} 1 ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ2، فَحَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أبي بَكْرٍ، أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَقَدْ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ صَدَعُوا فِرْقَ رَأْسِهِ مِمَّا جَذَبُوهُ بِلِحْيَتِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ3.
إِسْلَامُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: نا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا
__________
1 سورة غافر: 28.
2 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 275-276" وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار فيه مقال كما تقدم.
3 إسناده ضعيف: للجهالة فيه، والظاهر أن قال: فحدثني. هو ابن إسحاق، والله أعلم.(1/99)
وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا ذِي مَالٍ وَهَيْئَةٍ فَأَكْرَمَنَا، فَحَسَدَنَا قومه، فقالوا: إنّك إذا خرجت عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ، فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا1 عَلَيْنَا مَا قِيلَ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ، فَقَدْ كَدَّرْتَهُ وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ، فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا2 فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي، فَانْطَلَقْنَا فَنَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ، فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا.
قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ يا بن أخي قبل أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- بثلاث سنين، فقلت: لمن؟ قال الله، قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي اللَّهُ أُصَلِّي عِشَاءً، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَلْقَيْتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ -يَعْنِي الثَّوْبَ- حَتَّى تَعْلُونِي الشَّمْسُ.
فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي حَتَّى آتِيَكَ، فَأَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ، أَيْ أَبْطَأَ، عَلَيَّ، ثُمَّ أَتَانِي فَقُلْتُ مات حَبَسَكَ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ عَلَى دِينِكَ، قُلْتُ: مَا يَقُولُ النَّاسُ؟
قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ، وَكَاهِنٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ.
فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ3، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ كَافِينِي حَتَّى أَنْطَلِقَ فَأَنْظُرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا4 لَهُ وَتَجَهَّمُوا، فَأَتَيْتُ مَكَّةَ، فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصّابئ؟ قال: فأشار إلى الصّابئ، قال: فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَغَسَلْتُ عَنِّي الدَّمَ، وَدَخَلْتُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ مِنْ بين ليلة
__________
1 ثنا: نشر.
2 صرمتنا: أي القطيع من الإبل.
3 أقراء الشعر: طرقه.
4 شنفوا: أبغضوا.(1/100)
وَيَوْمٍ، وَمَا لِيَ طَعَامٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ، فسمنت حتى تكسّرت عقف بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعِ1. فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانٍ، قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أَصْمِخَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرُ امْرَأَتَيْنِ، فَأَتَتَا عَلَيَّ، وَهُمَا تُدْعَوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ، فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا، فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأَخْرَى، قَالَ: فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا، وَفِي لَفْظٍ: فَمَا حدثناهما ذَلِكَ عَمَّا قَالَتَا، فَأَتَتَا عَلِيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي. فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ، وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا. فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا هَابِطَانِ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَالَا لَهُمَا: مَا لَكُمَا؟
قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا.
قَالَا: مَا قَالَ لَكُمَا؟ قَالَتَا: قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلأُ الْفَمَ.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبُهُ، فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ طَافَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ أَتَيْتُهُ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ.
فَقَالَ: "وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". ثُمَّ قَالَ: "مِمَّنْ أَنْتَ؟ " قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا عَلَى جَبِينِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِّي انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، فَأَهْوَيْتُ لِآخُذَ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي2 صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَتَى كُنْتَ هَهُنَا؟ قُلْتُ: قُدْ كُنْتُ هَهُنَا مُنْذَ ثَلاثِينَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ.
قَالَ: فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَقَالَ: "إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَا، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، حَتَّى فَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا. قَالَ فَغَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
__________
1 سخفة الجوع: رقة الجوع.
2 قدعني: كفني.(1/101)
إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ لَا أَحْسَبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ أَخِي أُنْيَسًا فَقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ؟
قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّنَا فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَأَسْلَمَتْ، ثُمَّ احْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ خِفَافُ بْنُ إِيماءَ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ بَقِيَّتُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْلَمْنَا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ بَقِيَّتُهُمْ. وجاءت أسلم، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِخْوَانُنَا، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا فَقَالَ: "غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ" 1 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُمْ بِإِسْلامِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَرْسَلْتُ أَخِي فَرَجَعَ وَقَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ، فَلَمْ يَشْفِنِي، فَأَتَيْتُ مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ، فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، جِئْتُ الْمَسْجِدَ، ثُمَّ مَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَعُودَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: مَا أَمْرُكَ؟ قُلْتُ: إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ، ثُمَّ قُلْتُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ خَرَجَ نَبِيٌّ، قَالَ: قَدْ رَشَدْتَ فَاتْبَعْنِي، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَعَرَضَهُ عَلَيَّ، فَأَسْلَمْتُ، فَقَالَ: اكْتُمْ إِسْلامَكَ وَارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا معاشر قُرَيْشٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ، فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ: تَقْتُلُونَ، وَيْلَكُمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارٍ، فَأَطْلَقُوا عَنِّي. ثُمَّ فَعَلْتُ مِنَ الْغَدِ كَذَلِكَ، وَأَدْرَكَنِي العبّاس أيضًا2.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2473" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر -رضي الله عنه- وأحمد "4/ 174-175".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3861" في كتاب المناقب الأنصار، باب: إسلام أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- ومسلم "2474" في المصدر السابق، والطبراني في "الأوسط" "2633"، وأبو نعيم في "الحلية" "516".(1/102)
وقال النّضر بن محمد اليماميّ: حدثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ رُبُعَ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِهِ1.
__________
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "1617" والحاكم في "مستدركه" "5459".(1/103)
إِسْلَامُ حَمْزَةَ:
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ وَاعِيَةً، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، تَسْمَعُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَعَمَدَ إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ، رَاجِعًا مِنْ قَنَصٍ1 لَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ قَنَصٍ وَكَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ قَنَصِهِ بَدَأَ بِالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ أَعَزَّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَشَدَّهُ شَكِيمَةً، فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَوْلَاةِ قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ آنِفًا مِنْ أَبِي الحكم، وجده ها هنا جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبَّهُ وَبَلَغَ مِنْهُ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ، فَاحْتَمَلَ حَمْزَةُ الْغَضَبَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتَهُ، فَخَرَجَ يَسْعَى مُغِذًّا لِأَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا رَآهُ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ، فَضَرَبَهُ بِهَا، فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، ثُمَّ قال: أتشتمه! فأنا على دينه أقوم مَا يَقُولُ، فَرُدَّ عَلَي ذَلِكَ إِنِ اسْتَطَعْتَ، فقامت رجلا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا، وَتَمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ فَلَمَّا أَسْلَمَ، عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ -رَضِيَ الله عنه- سيمنعه، فكفّوا بعض الشّيء2.
__________
1 القنص: الصيد.
2 مرسل: إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 283".(1/103)
"إِسْلَامُ عُمَرَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ":
وَقَالَ عَبْدُ بن حميد وغيره: حدثنا أبو عامر العقديّ، حدثنا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَوْ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ" 1. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرَ"2.
وَقَالَ عبد العزيز الأوسي: حدثنا الْمَاجُشُونَ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً" 3.
قَالَ إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا قَيْسٌ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ في "مسنده": أخبرنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ فَجَعَلْتُ أُعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، فَقَرَأَ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 5 الْآيَاتِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ كُلَّ مَوْقِعٍ6.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3701" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأحمد "2/ 95" وابن سعد في "الطبقات" "2/ 142"، وأبو نعيم في "الحلية" "7502" وزاد الراوي فيه "قال: وكان أحبهما إليه عمر"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
2 انظر الآتي، وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 142" عن الحسن مرسلًا.
3 صحيح دون قوله "خاصة": أخرجه ابن ماجه "105" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "85": صحيح دون قوله "خاصة".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3684" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وابن سعد في "الطبقات" "2/ 143" وأبو نعيم في "الحلية" "11977".
5 سورة الحاقة: 40، 41.
6 إسناده منقطع: أخرجه أحمد "1/ 17" وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 62": شريح بن عبيد لم يدرك عمر.(1/104)
وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الأَسْلَمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الْمُؤَمَّلِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ إِسْلَامِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: ضَرَبَ أُخْتِي الْمَخَاضُ لَيْلا، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ، فَدَخَلْتُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي لَيْلَةٍ قَرَّةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ الْحِجْرَ، وَعَلَيْهِ تُبَّانٌ1، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَسَمِعْتُ شَيْئًا لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ، فَخَرَجَ، فَاتَّبَعْتُهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ " قُلْتُ: عُمَرُ، قَالَ: "يَا عُمَرُ مَا تَدَعُنِي لَيْلًا وَلَا نَهَارًا"، فَخَشِيتُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيَّ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله، وأنك رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يا عُمَرُ أَسِرَّهُ". قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُعْلِنَنَّهُ، كَمَا أَعْلَنْتُ الشِّرْكَ2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عبيد الله بن المنادي: حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا القاسم ابن عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ، فلقيه رجل من بين زُهْرَةَ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ، وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَبَأْتَ3، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى الْعَجَبِ، إِنَّ ختنك4 وأختك قد صبآ وَتَرَكَا دِينَكَ. فَمَشَى عُمَرُ فَأَتَاهُمَا، وَعِنْدَهُمَا خَبَّابٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِحِسِّ عُمَرَ تَوَارَى فِي الْبَيْتِ، فدخل فقال: ما هذه الهيمنة؟ 5 وَكَانُوا يَقْرَءُونَ {طه} ، قَالَا: مَا عَدَا حَدِيثًا تحدّحدثناه بَيْنَنَا، قَالَ فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَأْتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ: خَتَنُهُ: يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غير دينك؟ فوثب عليه فوطئه وَطْئًا شَدِيدًا، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ لِتَدْفَعَهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَنَفَحَهَا نَفْحَةً بِيَدِهِ فَدَمَّى وَجْهُهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ غضبى: وغن كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطُونِي الْكِتَابَ الَّذِي هو عندكم فأقرؤه، وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ الْكِتَابَ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رجس، وإنّه لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ
__________
1 التبان: سروال صغير.
2 إسناده ضعيف: أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه، ويحيى بن يعلى ضعفه البخاري، وأبو حاتم كما في "الميزان" "9657".
3 صبأت: أي خرجت من دين إلى دين آخر.
4 ختنك: زوج أختك.
5 الهينمة: الضجة.(1/105)
الْكِتَابَ، فَقَرَأَ {طه} حَتَّى انْتَهَى إِلَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 1 فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرَ خَرَجَ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَصْلِ الدَّارِ الَّتِي فِي أَصْلِ الصَّفَا. فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ وَعَلَى بَابِهَا حَمْزَةُ، وَطَلْحَةُ، وَنَاسٌ، فَقَالَ حَمْزَةُ: هَذَا عُمَرُ، إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُسْلِمْ وَإِنْ يُرِدْ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا، قَالَ: وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَاخِلٌ يُوحَى إِلَيْهَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى عُمَرَ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ فَقَالَ: "مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ حتى نزل الله لك مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ"؟ فَهَذَا عُمَرُ "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ بِعُمَرَ" فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ2.
وَقَدْ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ فِيهِ: زَوْجُ أُخْتِهِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنِّي لَعَلَى سَطْحٍ، فَرَأَيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَجُلٍ وَهُمْ يَقُولُونَ: صَبَأَ عُمَرُ، فَجَاءَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ عَلَيْهِ قَبَاءُ دِيبَاجٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ عُمَرُ قَدْ صَبَأَ فَمَهْ أَنَا لَهُ جَارٌ، قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ عِزِّهِ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْهُ.
قَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ قِيلَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرَ الْجُمَحِيُّ، فَغَدَا عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنَا غُلامٌ أَعْقِلُ، حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: أعلمت أنّي
__________
1 سورة طه: 1-14.
2 منكر: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 142-143"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 219-220"، والقاسم بن عثمان فيه مقال كما في "الميزان" "6825"، وقال الحافظ الذهبي: حدث عنه إسحاق الأزرق بمتن محفوظ، وبقصة إسلام عمر، وهي منكرة جدًّا.
قلت: يقصد بالمتن المحفوظ "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب.." الحديث.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3865" في كتاب مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.(1/106)
أَسْلَمْتُ؟ فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ، قَالَ يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ، وَثَارُوا إِلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ، وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ على رؤوسهم، قال وطلح1 فقعد وقاموا على رأسه وهوي قول: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنْ لَوْ كُنَّا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبْرَةٌ، وَقَمِيصٌ مُوَشًّى2، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ، قَالَ: فَمَهْ! رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ! أَتَرَوْنَ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَدِيٍّ يُسْلِمُونَهُ! خَلُّوا عَنْهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ3 عَنْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ: يَا أَبَهْ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ؟ قَالَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ4.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحُنَيْنِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ: كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَيْنَا أَنَا فِي يَوْمٍ حَارٍّ بِالْهَاجِرَةِ، فِي بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ؛ إِذْ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: عَجَبًا لك يابن الْخَطَّابِ، إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ وَأَنَّكَ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ هَذَا الْأَمْرُ فِي بَيْتِكَ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ قَدْ أَسْلَمَتْ، فَرَجَعْتُ مُغْضَبًا حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ والرجلان ممّن لا شيء له ضمّهما إلى مَنْ فِي يَدِهِ سِعَةً فَيَنَالَانِ مِنْ فَضْلِ طعامه، وقد كان ضمّ إلى زَوْجِ أُخْتِي رَجُلَيْنِ، فَلَمَّا قَرَعْتُ الْبَابَ قِيلَ: "مَنْ هَذَا؟ " قِيلَ: عُمَرُ، فَتَبَادَرُوا فَاخْتَفَوْا مِنِّي، وقد كانوا يقرؤون صَحِيفَةً بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تَرَكُوهَا أَوْ نَسَوْهَا، فَقَامَتْ أُخْتِي تَفْتَحُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا، أَصَبَأْتِ، وَضَرَبْتُهَا بِشَيْءٍ فِي يَدِي عَلَى رَأْسِهَا، فسال الدم وبكت، وقالت: يا بن الْخَطَّابِ مَا كُنْتَ فَاعِلا فَافْعَلْ فَقَدْ صَبَأْتُ، قَالَ: وَدَخَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى السَّرِيرِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الصَّحِيفَةِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا نَاوِلِينِهَا، قَالَتْ: لست
__________
1 طلح: فسد، والمراد هنا أعيا.
2 موشى: مزخرف.
3 كشط: زال.
4 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 330"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 98": هذا إسناد جيد قوي.(1/107)
مِنْ أَهْلِهَا، أَنْتَ لا تَطَهِّرُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَهَذَا كِتَابٌ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ، فَمَا زِلْتُ بِهَا حَتَّى نَاوَلَتْنِيهَا، فَفَتَحْتُهَا، فَإِذَا فِيهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذُعِرْتُ مِنْهُ، فَأَلْقَيْتُ الصَّحِيفَةَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَتَنَاوَلْتُهَا، فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 فذعرت، فقرأت إلى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 2 فقلت: أشهد ن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَخَرَجُوا إِلَيَّ مُتَبَادِرِينَ وَكَبَّرُوا، وَقَالُوا: أَبْشِرْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ دِينَكَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ إِمَّا أَبُو جَهْلٍ وَإِمَّا عُمَرُ"، وَدَلُّونِي عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتٍ بِأَسْفَلِ الصَّفَا، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ، فَقَالُوا: مَنْ؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ، وَقَدْ عَلِمُوا شِدَّتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما اجْتَرَأَ أَحَدٌ أَنْ يَفْتَحَ الْبَابَ، حَتَّى قَالَ: "افْتَحُوا لَهُ" فَفَتَحُوا لِي، فَأَخَذَ رَجُلانِ بِعَضُدِي، حَتَّى أَتَيَا بِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: خَلُّوا عَنْهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِمَجَامِعِ قَمِيصِي وَجَذَبَنِي إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَسْلِمْ يَابْنَ الْخَطَّابِ، اللَّهُمَّ اهْدِهِ" فَتَشَهَّدْتُ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِفِجَاجِ مَكَّةَ، وَكَانُوا مُسْتَخْفِينَ، فَلَمْ أَشَأْ أَنْ أَرَى رَجُلًا يضرِب ويُضرب إِلَّا رَأَيْتُهُ، وَلَا يُصِيبُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَجِئْتُ خَالِي وَكَانَ شَرِيفًا، فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ وَقَدْ صَبَأْتُ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، ثُمَّ دَخَلَ وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي.
فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَادَيْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ مثل ما قال لِخَالِي، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ خَالِي، فَدَخَلَ وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي فَقُلْتُ: مَا هَذَا بشيء، إنّ المسلمين ويضربون وَأَنَا لَا أُضْرَبُ، فَقَالَ لِي رَجُلٌ: أَتُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ بِإِسْلَامِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِذَا جَلَسَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ فَأْتِ فُلَانًا، لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ يَكْتُمُ السِّرَّ، فَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِنِّي قَدْ صَبَأْتُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَكْتُمُ السِّرَّ، فَجِئْتُ، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ، فَقُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ: إِنِّي قَدْ صَبَأْتُ، قَالَ: أَوَقَدْ فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ، فَبَادَرُوا إِلَيَّ، فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ وَيَضْرِبُونَنِي، وَاجْتَمَعَ عَلَيَّ النَّاسُ، قَالَ خَالِي: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟ قِيلَ: عُمَرُ قَدْ صَبَأَ، فَقَامَ عَلَى الْحِجْرِ، فَأَشَارَ بِكُمِّهِ: أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أُخْتِي، فَتَكَشَّفُوا عَنِّي، فَكُنْتُ لَا أَشَاءُ أَنْ أَرَى رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُ وَيُضْرَبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ حَتَّى يُصِيبَنِي ما
__________
1 سورة الحديد: 1.
2 سورة الحديد: 7.(1/108)
يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ، فَأَتَيْتُ خَالِي فَقُلْتُ: جِوَارُكَ رُدَّ عَلَيْكَ، فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُ وَأُضْرَبُ حَتَّى أَعَزَّ الله الإسلام1.
"سبب تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق":
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ، لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيتَ الْفَارُوقَ؟ فَقَالَ: أَسْلَمَ حَمْزَةُ قَبْلِي بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَأَسْرَعَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسُبُّهُ، فَأُخْبِرَ حَمْزَةُ، فَأَخَذَ قَوْسَهُ وَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ، إِلَى حَلْقَةِ قُرَيْشٍ الَّتِي فِيهَا أَبُو جَهْلٍ، فَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ مُقَابِلَ أَبِي جَهْلٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَعَرَفَ أَبُو جَهْلٍ الشَّرَّ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عُمَارَةَ؟ فَرَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَ بِهَا أَخْدَعَيْهِ2، فَقَطَعَهُ فَسَالَتِ الدِّمَاءُ، فَأَصْلَحَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ مَخَافَةَ الشَّرِّ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخْتَفٍ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ، فَانْطَلَقَ حَمْزَةُ فَأَسْلَمَ، وَخَرَجْتُ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا فُلَانٌ الْمَخْزُومِيُّ فَقُلْتُ: أَرَغِبْتَ عَنْ دِينِ آبَائِكَ وَاتَّبَعْتَ دِينَ مُحَمَّدٍ؟ قال: إن فعلت فقد فعله من وأعظم عَلَيْكَ حَقًّا مِنِّي، قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ وَخَتَنُكَ، فَانْطَلَقْتُ فَوَجَدْتُ هَمْهَمَةً3، فَدَخَلْتُ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَمَا زَالَ الْكَلَامُ بَيْنَنَا حَتَّى أَخَذْتُ بِرَأْسِ خَتَنِي فَضَرَبْتُهُ وَأَدْمَيْتُهُ، فَقَامَتْ إِلَيَّ أُخْتِي فَأَخَذَتْ بِرَأْسِي وَقَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ، فَاسْتَحْيَيْتُ حِينَ رَأَيْتُ الدِّمَاءَ، فَجَلَسْتُ وَقُلْتُ: أَرُونِي هَذَا الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَقُمْتُ فَاغْتَسَلْتُ، فَأَخْرَجُوا إِلَيَّ صَحِيفَةً فِيهَا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قُلْتُ: أَسْمَاءُ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إلى قوله {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 4 فَتَعَظَّمْتُ فِي صَدْرِي، وَقُلْتُ: مِنْ هَذَا فَرَّتْ قُرَيْشٌ، فَأَسْلَمْتُ، وَقُلْتُ: أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فَإِنَّهُ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، فَأَتَيْتُ فَضَرَبْتُ الْبَابَ، فَاسْتَجْمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ لَهُمْ حَمْزَةُ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: عُمَرُ، قَالَ: وَعُمَرُ! افْتَحُوا لَهُ الْبَابَ، فَإِنْ أَقْبَلَ قَبِلْنَا منه، وإن أدبر قتلناه،
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 216"، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف الحفظ كما في "التقريب" "315".
2 الأخدع: عرق في العنق.:
3 الهمهمة: الكلام الخفي.
4 سورة طه: 1-8.(1/109)
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَخَرَجَ فَتَشَهَّدَ عُمَرُ، فَكَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السنا على الحقّ؟ قال: "بلى"، فقلت: فيم الِاخْتِفَاءُ، فَخَرَجْنَا صَفَّيْنِ أَنَا فِي أَحَدِهِمَا، وَحَمْزَةُ فِي الْآخَرِ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَنَظَرَتْ قُرَيْشٌ إِلَيَّ وَإِلَى حَمْزَةَ، فَأَصَابَتْهُمْ كَآبَةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الْفَارُوقَ" يَوْمَئِذٍ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَسْلَمَ عُمَرُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَعَشْرِ نِسْوَةٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بمكة1.
وقال الواقديّ: حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُمَرَ أَسْلَمَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارَ الْأَرْقَمِ، وَبَعْدَ أَرْبَعِينَ أَوْ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أُنْزِلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ2.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ. فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن الإرث، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّهِ لَيْلَى قَالَتْ: كَانَ عُمَرُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي إِسْلامِنَا، فَلَمَّا تَهَيَّأْنَا لِلْخُرُوجِ إِلَى الْحَبَشَةِ، جَاءَنِي عُمَرُ، وَأَنَا عَلَى بَعِيرٍ، نُرِيدُ أَنْ نَتَوَجَّهَ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: قَدْ آذَيْتُمُونَا فِي دِينِنَا، فَنَذْهَبَ فِي أَرْضِ اللَّهِ حَيْثُ لَا نُؤْذَى فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَجَاءَ زَوْجِي عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ مِنْ رِقَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: تَرْجِينَ أَنْ يُسْلِمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا يُسْلِمُ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ. يَعْنِي مِنْ شِدَّتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِضْعٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلا، وَإِحْدَى عشرة امرأة3.
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 143" والواقدي متروك.
2 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في المصدر السابق.
3 معضل.(1/110)
"الْهِجْرَةُ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ الثَّانِيَةُ":
قَالَ يَعْقُوبُ الْفَسَوِيُّ فِي "تَارِيخِهِ":
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، حَدَّثَنِي بَشَّارُ بْنُ مُوسَى الْخَفَّافُ، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الْبُرْجُمِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ مُحَمَّدِ بن واسع، حدثنا قَتَادَةُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَهْلِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: خَرَجَ عُثْمَانُ بِرُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحَبَشَةِ، فَأَبْطَأَ خَبَرُهُمْ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ رَأَيْتُ خَتَنَكَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: "عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتِهِمَا"؟ قَالَتْ: رَأَيْتُهُ حَمَلَ امْرَأَتَهُ عَلَى حِمَارٍ مِنْ هَذِهِ الدَّبَّابَةِ، وَهُوَ يَسُوقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ"1.
وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن إدريس، حدثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُرْوَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَلْتُ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَبَشَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَأَى مَا يُصِيبُنَا مِنَ الْبَلَاءِ: "الْحَقُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكَهَا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فَأَقِيمُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ"، فَقَدِمْنَا عَلَيْهِ فَاطْمَأْنَنَّا فِي بِلَادِهِ2 الْحَدِيثَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَاسِعِ "الْمُخَلَّصِيَّاتِ": وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ عَمِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
__________
1 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 297".
2 إسناده صحيح: أخرجه أحمد "1/ 201-203"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 301-306"، وأبو نعيم في "الحلية" "357" مطولًا، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص135": سنده صحيح.
3 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 308-218".(1/111)
أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ" فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
فَخَرَجَ عُثْمَانُ بِزَوْجَتِهِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَلَدُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عبد شمس بزوجته سهلة سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَوَلَدَتْ لَهُ بِالْحَبَشَةِ مُحَمَّدًا، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَزَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حُثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبٍ الْحَارِثِيُّ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ. ثُمَّ سَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ جَمَاعَتَهُمْ وَقَالَ: فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، أَوْ وُلِدَ بِهَا، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَعَبَدُوا اللَّهَ وَحَمِدُوا جِوَارَ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ:
يَا رَاكِبًا بَلِّغَا عَنِّي مُغَلْغَلَةً ... مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللَّهِ وَالدِّينِ1
كُلَّ امْرِئٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مُضْطَهَدٍ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ مَقْهُورٍ وَمَفْتُونِ
أَنَّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللَّهِ وَاسِعَةً ... تُنْجِي مِنَ الذُّلِّ وَالْمَخْزَاةِ والهون
فلا تقيموا على ذلّ الحياة وخز ... ي فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ غَيْرِ مَأْمُونِ
إِنَّا تَبِعْنَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ النَّبِيِّ وَعَالَوْا فِي الْمَوَازِينِ2
فَاجْعَلْ عَذَابَكَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ بَغَوْا ... وَعَائِذٌ بِكَ أَنْ يَعْلُوا فَيَطْغُونِي
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ يُعَاتِبُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ ابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ يُؤْذِيهِ:
أَتَيْمَ بْنَ عَوْفٍ وَالَّذِي جاء بغضةً ... ومن دونه الشرّ مان وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ3
أَأَخْرَجْتَنِي مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ آثِمًا ... وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع4
__________
1 مغلغلة: رسالة.
2 عالوا: خانوا.
3 الشرمان: تثنية شرم، وهو الخليج من البحر. والبرك: الإبل الباركة.
4 صرح بيضاء: مدينة الحبشة، وتقذع: تكره.(1/112)
تَرِيشُ نِبَالًا لَا يُوَاتِيكَ رِيشُهَا ... وَتَبْرِي نِبَالًا رِيشَهَا لَكَ أَجْمَعُ
وَحَارَبْتَ أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزَّةً ... وَأَهْلَكْتَ أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ إِنْ نَابَتْكَ يَوْمًا مُلِمَّةٌ ... وَأَسْلَمَكَ الْأَوْبَاشُ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا وَاشْتَدَّ مَكْرُهُمْ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ إِخْرَاجِهِ، فَعَرَضُوا عَلَى قَوْمِهِ أَنْ يُعْطُوهُمْ دِيَتَهُ وَيَقْتُلُوهُ، فأبوا حميّةً.
"عدم ثبوت قصة الغرانيق":
وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِعْبَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَبَشَةِ فَخَرَجُوا مَرَّتَيْنِ؛ رَجَعَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى حِينَ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَرَرْنَاهُ وَأَصْحَابَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يذكر من حالفه من اليهود والنّصارى بمصل مَا يَذْكُرُ بِهِ آلِهَتَنَا مِنَ الشَّتْمِ، وَالشَّرِّ. وكأن رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَنَّى هُدَاهُمْ، فَأُنْزِلَتْ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عِنْدَهَا كَلِمَاتٍ "وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى" فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُشْرِكٍ بِمَكَّةَ، وَدَالَتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ وَتَبَاشَرُوا بِهَا. وقالوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَجَعَ إِلَى دِينِنَا، فَلَمَّا بلغ آخر النّجم سجد النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُشْرِكٍ، غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا رَفَعَ مِلْءَ كَفَّيْهِ تُرَابًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَعَجِبَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فِي السُّجُودِ، بِسُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَجِبَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ سَمِعُوا مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَاطْمَأَنُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، لما أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَاطْمَأَنُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ، لِمَا أُلْقِيَ فِي أُمْنِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَدَّثَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَرَأَهَا فِي السَّجْدَةِ، فَسَجَدُوا تَعْظِيمًا لِآلِهَتِهِمْ.
وَفَشَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي النَّاسِ، وَأَظْهَرَهَا الشَّيْطَانُ، حَتَّى بَلَغَتْ أَرْضَ الْحَبَشَةِ وَمَنْ بِهَا مِنَ المسلمين عثمان ين مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ، وَحَدَّثُوا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ وَصَلُّوا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَمِنُوا بِمَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا سِرَاعًا، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ مَا ألقى
__________
1 سورة النجم: 19-20.(1/113)
الشَّيْطَانُ، وَأُنْزِلَتْ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1 الْآيَاتِ. فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ قَضَاءَهُ وَبَرَّأَهُ مِنْ سَجْعِ الشَّيْطَانِ انْقَلَبَ الْمُشْرِكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ2.
وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ، فِيمَنْ رَجَعَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ إِلَّا بِجِوَارٍ، فَأَجَارَ الوليد بن المغيرة عثمان ين مَظْعُونٍ، فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ مَا يَلْقَى أَصْحَابُهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَعَذَّبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالسِّيَاطِ وَالنَّارِ، وَعُثْمَانُ مُعَافًى لَا يُعْرَضُ لَهُ، اسْتَحَبَّ الْبَلَاءَ، فَقَالَ لِلْوَلِيدِ: يَا عَمُّ قَدْ أَجَرْتَنِي، وَأُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِي إِلَى عَشِيرَتِكَ فَتَبَرَّأَ مِنِّي، فَقَالَ: يابن أَخِي لَعَلَّ أَحَدًا آذَاكَ أَوْ شَتَمَكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا اعْتَرَضَ لِي أَحَدٌ وَلَا آذَانِي، فَلَمَّا أَبَى إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقُرَيْشٌ فِيهِ، كَأَحْفَلِ مَا كَانُوا، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ يُنْشِدُهُمْ، فَأَخَذَ الْوَلِيدُ بِيَدِ عُثْمَانَ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَدْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ جِوَارِهِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ، أَنَا وَاللَّهِ أَكْرَهْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنِّي بَرِيءٌ، ثُمَّ جَلَسَ مَعَ القوم فنالوا منه.
"الهجرة الثانية إلى الحشبة":
قَالَ مُوسَى: وَخَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ فِرَارًا بِدِينِهِمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَرُوهُمَا أَنْ يُسْرِعَا فَفَعَلَا، وَأَهْدَوْا لِلنَّجَاشِيِّ فَرَسًا وَجُبَّةَ دِيبَاجٍ3، وَأَهْدَوْا لِعُظَمَاءِ الْحَبَشَةِ هَدَايَا، فَقَبِلَ النَّجَاشِيُّ هَدِيَّتَهُمْ، وَأَجْلَسَ عَمْرًا عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: إِنَّ بِأَرْضِكَ رِجَالًا مِنَّا سُفَهَاءَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ وَلَا دِينِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا، فَقَالَ: حتى أكلّمهم وأعلم على أيّ
__________
1 سورة الحج: 52.
2 حديث الغرانيف هذا ورد من عدة طرق مرسلة، وقد مال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "8/ 293" إلى تقوية الحديث لكثرة طرقه، وله في ذلك بحث مطول، وخالفه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 229-230" فذكر أن طرق هذه القصة كلها مرسلة، ولم يرها مسندة من وجه صحيح، وكذلك ضعيف حديث الغرانيق العلامة ناصر الدين الألباني في بحث قيم ذكر فيه طرق الحديث المسندة والمرسلة، وسبب اختلاف أهل العلم في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه هو أن الحديث إذا ورد من طرق مرسلة هل يتقوى بها أم لا؟ فالثاني هو الراجح. ومحل بسط ذلك كتب المصطلح.
3 الديباج: نوع من الحرير.(1/114)
شَيْءٍ هُمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: هُمْ أَصْحَابُ الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ فِينَا، وَإِنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَلَا يَسْجُدُونَ لَكَ إِذَا دَخَلُوا، فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ وَلَا أَصْحَابُهُ وَحَيَّوْهُ بِالسَّلَامِ، فَقَالَ عَمْروٌ: أَلَمْ نُخْبِرْكَ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: حَدِّثُونِي أَيُّهَا الرَّهْطُ، مَا لَكُمْ لَا تُحَيُّونِي كما يحيّيني مَنْ أَتَانِي مِنْ قَوْمِكُمْ، وَأَخْبِرُونِي مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَمَا دِينُكُمْ؟ أَنَصَارَى أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَيَهُودٌ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَعَلَى دِينِ قَوْمِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمَا دِينُكُمْ؟ قَالُوا: الْإِسْلَامُ، قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، قَالَ: مَنْ جَاءَكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: جَاءَنَا بِهِ رَجُلٌ مِنَّا قَدْ عَرَفْنَا وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، بَعَثَهُ الله كما بعث الرسل إلى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَأَمَرَنَا بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَفَاءِ وَالْأَمَانَةِ، وَنَهَانَا أَنْ نَعْبُدَ الْأَوْثَانَ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ، فَصَدَّقْنَاهُ، وَعَرَفْنَا كَلَامَ اللَّهِ، فَعَادَانَا قَوْمُنَا وَعَادَوْهُ وَكَذَّبُوهُ، وَأَرَادُونَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَفَرَرْنَا إِلَيْكَ بِدِينِنَا وَدِمَائِنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ النّجاشيّ: والله إن خرج هذا الأمر مِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْرُ عِيسَى، قال: وأمّا التحيّة فإنّ رسولنا خبرنا أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ، فَحَيَّيْنَاكَ بِهَا، وَأَمَّا عِيسَى فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ وَابْنُ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَخَفَضَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ عُودًا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى هَذَا وَزْنَ هَذَا الْعُودِ، فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَمِعَتْ هَذَا الْحَبَشَةُ لَتَخْلَعَنَّكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقُولُ فِي عِيسَى غَيْرَ هَذَا أَبَدًا، وَمَا أَطَاعَ اللَّهَ النَّاسُ فِيَّ حِينَ رَدَّ إِلَيَّ مُلْكِي، فَأَنَا أُطِيعُ النَّاسَ فِي دِينِ اللَهِ! مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ أَبُو النَّجَاشِيِّ مَلِكَ الْحَبَشَةَ، فَمَاتَ وَالنَّجَاشِيُّ صَبِيٌّ، فَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ أَنَّ إِلَيْكَ مُلْكَ قَوْمِكَ حَتَّى يَبْلُغَ ابْنِي، فَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْمُلْكُ، فَرَغِبَ أَخُوهُ فِي الْمُلْكِ، فَبَاعَ النَّجَاشِيَّ لِتَاجِرٍ، وَبَادَرَ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى السَّفِينَةِ، فَأَخَذَ اللَّهُ عَمَّهُ قَعْصًا1 فَمَاتَ، فَجَاءَتِ الْحَبَشَةُ بِالتَّاجِ، وَأَخَذُوا النَّجَاشِيَّ فَمَلَّكُوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ التَّاجِرَ قَالَ: مَا لِي بُدٌّ مِنْ غُلَامِي أَوْ مَالِي، قَالَ النَّجَاشِيُّ: صَدَقَ، ادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ.
قَالَ: فَقَالَ النَّجَاشِيُّ حِينَ كَلَّمَهُ جَعْفَرٌ: رُدُّوا إِلَى هَذَا هديّته -يعني عمرًا-
__________
1 القعص: الطعن.(1/115)
وَاللَّهِ لَوْ رَشَوْنِي عَلَى هَذَا دَبْرَ ذَهَبٍ -وَالدَّبْرُ بِلُغَتِهِ الْجَبْلُ- مَا قَبِلْتُهُ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: امْكُثُوا آمِنِينَ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ.
وَأَلْقَى اللَّهُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ عَمْرٍو وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ فِي مَسِيرِهِمَا، فَمَكَرَ بِهِ عَمْرٌو وَقَالَ: إِنَّكَ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَاذْهَبْ إِلَى امْرَأَةِ النَّجَاشِيِّ فَتَحَدَّثْ عِنْدَهَا إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا، فإنّ ذلك عون لنا فِي حَاجَتِنَا، فَرَاسَلَهَا عُمَارَةُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا انْطَلَقَ عَمْرٌو إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبِي هَذَا صَاحِبُ نِسَاءٍ، وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَهْلَكَ فَاعْلَمْ عِلْمَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ النَّجَاشِيُّ، فَإِذَا عُمَارَةُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنَفَخَ فِي إِحْلِيلِهِ1 سَحَرَةٌ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي جَزِيرَةٍ مِنَ الْبَحْرِ، فَجُنَّ، وَصَارَ مَعَ الْوَحْشِ، وَرَجَعَ عَمْرٌو خَائِبَ السَّعْيِ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى، لَا نُؤذَى، وَلَا نَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النّجاشيّ رجلين جلدين، وأن يعدوا لِلنَّجَاشِيِّ، فَبَعَثُوا بِالْهَدَايَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا2، وَسَتَأْتِي -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- رَوَاهَا جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْمَبْعَثِ.
وَقَالَ حُدَيْجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَعَثَنا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ ثَمَانُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا جَعْفَرٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عُمَارَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَبَعَثُوا مَعَهُمَا بِهَدِيَّةٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ سَجَدَا لَهُ، وَبَعَثَا إِلَيْهِ بِالْهَدِيَّةِ، وَقَالَا: إِنَّ نَاسًا مِنْ قَوْمِنَا رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا، وَقَدْ نَزَلُوا أَرْضَكَ، فَبَعَثَ إليهم، فقال لنا جعفر: أنا خطيبكم، قَالَ: فَاتَّبَعُوهُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا لَكُمْ لَمْ تَسْجُدُوا لِلْمَلِكِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ إِلَيْنَا نبيّه، فأمرنا أن لا يسجد إلاّ الله، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى، قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ؟ قَالَ: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ، وهو روح الله
__________
1 الإحليل: القبل من الرجل.
2 تقدم تخريجه قريبًا.(1/116)
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ، فَتَنَاوَلَ النَّجَاشِيُّ عُودًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ، مَا تَزِيدُونَ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا يَزِنُ هَذَا، فَمَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَحْمِلَ نَعْلَيْهِ، أَوْ قَالَ أَخْدُمَهُ، فَانْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَرْضِي، فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَشَهِدَ بَدْرًا1. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ حُدَيْجٍ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى: أنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَسَاقَ كَحَدِيثِ حُدَيْجٍ2.
وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ إِسْرَائِيلَ وَهَمَ فِيهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَإِلَّا أَيْنَ كَانَ أَبُو موسى الأشعريّ ذلك الوقت.
رجعنا إلى تَمَامِ الْحَدِيثِ الَّذِي سُقْنَاهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: فَلَمْ يَبْقَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ النَّجَاشِيِّ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّةً، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ وَأَخْبَرَا ذَلِكَ الْبِطْرِيقَ بِقَصْدِهِمَا، لِيُشِيرَ عَلَى الْمَلِكِ بِدَفْعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَرَّبَا هَدَايَا النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدِمَ إِلَى بِلَادِكَ مِنِّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، جَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ، وَلَا أنت، فقد بعحدثنا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ أَبْغَضَ إِلَى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صِدْقًا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا، فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ إِذَنْ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عمّا يقولان،
__________
1 أخرجه أحمد "1/ 461"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 67"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 84": إسناد جيد قوي وسياقه حسن. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 228": إسناده حسن.
قلت: أبو إسحاق مدلس، وقد عنعنه، وكان قد اختلط، فالله أعلم بالصواب.
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "356" وفي إسناد محمد بن زكريا الغلابي، متهم بالوضع كما في "الميزان" "7537" ويدل على نكارة في إسناده ما يأتي.(1/117)
فَأَرْسَلَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءُوا وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا دِينُكُمْ؟ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرٌ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ، وَأَمَرَنَا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، فعدا علينا قومنا فعذّبونا، وفتنونان عَنْ دِينِنَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، فَخَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: قَالَ: وَهَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ {كهيعص} 1 فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ، حَتَّى اخْضَلَّ لِحْيَتُهُ2، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ، حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاللَّهِ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا وَلَا يُكَادُ.
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، قَالَ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ، ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَطَلَبَنَا، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ فِي عيسى بن مَرْيَمَ إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ، وَاللَّهِ، مَا قَالَ اللَّهُ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا كَانَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ عُودًا ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فتناحرت بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ، وَاللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي، وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، رُدُّوا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ، قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مردودًا عليهما ما جاءا به.
__________
1 سورة مريم: 1.
2 أخضل لحيته: ابتلت بالدموع.(1/118)
قَالَتْ: فَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَدْ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْنَا مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. فَسَارَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَقْعَةَ، ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا يَلْتَقِي الْقَوْمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ، وَدَعَوْنَا اللَّهَ تَعَالَى لِلنَّجَاشِيِّ، فَإِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ الزُّبَيْرُ يَسْعَى فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَهَرَ النَّجَاشِيُّ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ وَمَكَّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ1.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَحَدَّثْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ إِلَى آخِرِهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فقَالَتِ الْحَبَشَةُ: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا هَذَا وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ، فَإِنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْغُلَامِ، وَلِأَخِيهِ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا، فَتَوَارَثُوا مُلْكَهُ مِنْ بَعْدِهِ بَقِيَتِ الْحَبَشَةُ بَعْدَهُ دَهْرًا، فَعَدَوْا عَلَى أَبِي النَّجَاشِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا أَخَاهُ. فَمَكَثُوا حِينًا، وَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ، فَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَنَزَلَ مِنْهُ بِكُلِّ مَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْهُ قَالَتْ بَيْنَهَا: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبَ هَذَا عَلَى عَمِّهِ، وَإِنَّا لَنَتَخَوَّفُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا، وَإِنْ مَلَكَ لَيَقْتُلُنَا بِأَبِيهِ، فَكَلَّمُوا الْمَلِكَ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، قَتَلْتُ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ! بَلْ أُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِكُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجُوا بِهِ فَبَاعُوهُ لِتَاجِرٍ بستّمائة ردهم، فَقَذَفَهُ فِي سَفِينَةٍ وَانْطَلَقَ بِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَفَزِعَتِ الْحَبَشَةُ إلى ولده، فإذا هو محمق ليس في ولده خير، فمرج2 الأَمْرُ، فَقَالُوا: تَعَلَّمُوا، وَاللَّهِ إِنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمُوهُ غَدْوَةً،
__________
1 صحيح: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 319"، وأحمد "1/ 301-203"، وأبو نعيم في "الحلية" "357"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 301-306"، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص135": سنده صحيح.
2 مرج: اختلط.(1/119)
فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ، وَأَخَذُوهُ مِنَ التَّاجِرِ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ، وَأَقْعَدُوهُ على سرير ملكه، فجاء التّاجر فقال: ما لي، قَالُوا: لَا نُعْطِيكَ شَيْئًا، فَكَلَّمَهُ، فَأَمَرَهُمْ فَقَالَ: أَعْطُوهُ دَرَاهِمَهُ أَوْ عَبْدَهُ، قَالُوا: بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ عَدْلِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1.
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يُكَلِّمُ النَّجَاشِيَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2.
"إسلام النجاشي":
أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَدٍ، وَجَمَاعَةٌ، أنا ابْنُ ملاعب، حدثنا الأموي، أنا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ، أنا الْمُخَلِّصُ، أنا البغويّ، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرًا وَعُمَارَةَ بِهَدِيَّةٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيُؤْذُوا الْمُهَاجِرِينَ. فَخَلُّوهُمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: وَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى غَيْرَ مَا تَقُولُ، فَأَرْسِلْ إِلَيْنَا، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ الثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكُمْ فِي عِيسَى؟ قَالَ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أَعَبِيدٌ هُمْ لَكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَلَكُمْ عَلَيْهِمْ دَيْن؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: يَقُولُ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى عَذْرَاءَ بَتُولٍ، فَقَالَ: ادْعُوا لِي فُلَانًا الْقَسَّ، وَفُلَانًا الرَّاهِبَ، فَأَتَاهُ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ قَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُنَا، قَالَ: وَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُؤْذِيكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَادَى مَنْ آذَى مِنْهُمْ فَأَغْرَمُوهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيَكْفِيكُمْ؟ قُلْنَا: لَا، فَأَضْعِفْهَا، قَالَ: فلما ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرْنَاهُ، قَالَ فَزَوَّدَنَا وَحَمَلْنَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي، فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعْتَنَقَنِي وَقَالَ: مَا أَدْرِي أَنَا بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَفْرَحُ أَمْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلنَّجَاشِيِّ" ثَلَاثَ مرّات، وقال المسلمون: آمين3.
__________
1 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق في "سيرة ابن هشام" "10/ 322-223".
2 مرسل.
3 إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في "الكبير" "1478" ومجالد هو ابن سعيد، قال في "التقريب" "6478": ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره.(1/120)
"إِسْلَامُ ضِمَادٍ":
دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ ضِمَادٌ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَاءِ النَّاسِ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: آتِي هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا فَقُلْتُ: إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ يَشَاءُ، فَهَلُمَّ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فَهَلُمَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لَهُ: "وَعَلَى قَوْمِكَ" فَقَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِ ضِمَادٍ. فَقَالَ صَاحِبُ الْجَيْشِ لِلسَّرِيَّةِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ قَوْمُ ضِمَادٍ1. أَخْرَجَهُ مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "868" في كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 223-224".(1/121)
"إِسْلَامُ الْجِنِّ":
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} 1 الْآيَاتِ، وَقَالَ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} 2 وَأَنْزَلَ فِيهِمْ سُورَةَ الْجِنِّ.
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ3، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأرسلت
__________
1 سورة الأحقاف: 29.
2 سورة الأنعام: 130.
3 عكاظ: سوق بين نخلة والطائف.(1/121)
عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بينكم وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.
قَالَ: فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بربّنا أحدًا، فأنزلت {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، يَعْنِي أَوَّلَ مَا سَمِعَتِ الْجِنُّ الْقُرْآنَ، ثُمَّ إِنَّ دَاعِيَ الْجِنِّ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ حَفِظَ الْقِصَّتَيْنِ، فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَنْصَتُوا قَالُوا: صَهْ، وَكَانُوا سَبْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} 2 الآيات.
وقال مسعر، عن معن، حدثنا أَبِي، سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ3.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ قال: قلت لابن مسعود:
__________
1 سورة الجن: 1.
والخبر أخرجه البخاري "773" في كتاب الأذان: باب: الجهر بقراءة صلاة الفجر، ومسلم "449" في كتاب الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح، والترمذي "3334" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الجن، والنسائي في "الكبرى" "11624، 11625"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 226"، وابن حبان في "صحيحه" "6526".
2 سورة الأحقاف: 29.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3859" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ذكر الجن، ومسلم "450/ 153": في كتاب الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح.(1/122)
هَلْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا اغْتِيلَ، اسْتُطِيرَ، مَا فَعَلَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ، أَوْ قَالَ فِي السَّحَرِ، إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرُوا الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ"، فَانْطَلَقَ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَذَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ سَنَّةَ الْخُزَاعِيُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَصْحَابِهِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَحْضُرَ اللَّيْلَةَ أَمْرَ الْجِنِّ فَلْيَفْعَلْ"، فَلَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ خَطَّ لِي بِرِجْلِهِ خَطًّا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ، فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ فَغَشِيَتْهُ أَسْوَدَةٌ2 كَثِيرَةٌ، حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا وَطَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ، ذَاهِبِينَ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ، وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الْفَجْرِ، فَانْطَلَقَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الرَّهْطُ؟ " فَقُلْتُ: هُمْ أُولَئِكَ يَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخَذَ عَظْمًا وَرَوْثًا فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ زَادًا، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدٌ بِعَظْمٍ أَوْ بِرَوْثٍ3. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَبْصَرَ زُطًّا4 فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا هَؤُلَاءِ الزُّطُّ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ شبههم إلاّ الْجِنِّ، وَكَانُوا مُسْتَنْفِرِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا5. صَحِيحٌ.
يُقَالُ: اسْتَنْفَرَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ، إِذَا أَخَذَ ذَيْلَهُ مِنْ بَيْنِ فَخِذَيْهِ إِلَى حُجْزَتِهِ فَغَرَزَهُ. وَكَذَا يقال في الكلب، إذ جَعَلَ ذَنَبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْحَائِضِ: استنفري.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "450/ 150" في المصدر السابق، وأبو داود "85" في كتاب الطهارة، باب: الوضوء بالنبيذ، والترمذي "3269" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأحقاف.
2 أسودة: أي جماعة من الناس.
3 أخرجه ابن جرير في "تفسيره" "26/ 21".
4 الزط: قوم من الهند أو السند.
5 أخرجه ابن جرير في "تفسيره" "26/ 21" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 231".(1/123)
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، عَنْ مُسْتَمِرِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْجِنِّ، حَتَّى أَتَى الْحَجُونَ1 فَخَطَّ عَلَيَّ خَطًّا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ وَرْدَانُ: إِنِّي أَنَا أُرَحِّلُهُمْ عَنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ2.
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُورَةَ الرَّحْمَنُ، ثُمَّ قَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا، لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ من مرّة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ"3. زُهَيْرٌ ضَعِيفٌ4.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ جَدِّهِ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِدَاوَةٍ لِوُضُوئِهِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: "أَتَانِي جِنُّ نَصِيبِينَ فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِرَوْثَةٍ وَلَا بِعَظْمٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا" 5. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَيَدْخُلُ هَذَا الْبَابُ فِي بَابِ شَجَاعَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُوَّةِ قَلْبِهِ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 6 فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا". وَفِي لَفْظٍ: "فَأَخَذْتُهُ فَفَدَغْتُهُ"، يَعْنِي خنقته7. متفق عليه.
__________
1 الحجون: جبل بمكة.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 231، 232".
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 232".
4 كذا جزم الحافظ الذهبي بضعفه، وما يترجح عندي أنه صدوق، وضعفه في رواية الشاميين عنه خاصة رواية عمر بن أبي سلمة عنه فمنكرة، وانظر "الميزان" "2918"، وتأتي ترجمته "1197".
5 صحيح: أخرجه البخاري "3860" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ذكر الجن: والبيهقي في "الدلائل "2/ 223".
6 سورة ص: 35.
7 صحيح: أخرجه البخاري "4808" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، ومسلم "541" في كتاب المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، وأحمد "2/ 298".(1/124)
فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ وَأَقْوَالِ الكهّان:
قال ابن وهب: أخبرنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا، إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، فَبَيْنَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَيَّ الرَّجُلَ، فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ أَنَّكَ عَلَى دِينِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كُنْتَ كَاهِنَهُمْ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، فَقَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ قَالَتْ:
أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا ... وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا1
وَلُحُوقَهَا بِالْقَلاصِ وَأَحْلَاسِهَا2
قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ مِنْهُ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ، قُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ، يَقُولُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، قُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، فَأَعَادَ قَوْلَهُ، قَالَ: فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُمَرَ بِنَفْسِهِ سَمِعَ الصَّارِخَ مِنَ الْعِجْلِ، وَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاهِنَ هُوَ الَّذِي سمع.
__________
1 إبلاسها: المراد به اليأس.
وإنكاسها: انقلابها.
2 القلاص: جمع قلص، وهو جمع قلوص، وهي الفتية من الإبل، وأحلاسها: جمع حلس: وهو ما يوضع على ظهر الإبل.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3866" في كتاب مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.(1/125)
فَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مَارٌّ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ كُنْتُ مَرَّةً ذَا فَرَاسَةٍ، وَلَيْسَ لِي رَئِيٌّ، أَلَمْ يَكُنْ قَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَنْظُرُ وَيَقُولُ فِي الْكَهَانَةِ، ادْعُوهُ لِي، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مِنْ أَيْنَ قَدِمْتَ؟ قَالَ: مِنَ الشَّامِ، قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أردت هذا الْبَيْتَ، وَلَمْ أَكُنْ أَخْرُجُ حَتَّى آتِيَكَ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ تَنْظُرُ فِي الْكَهَانَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحَدِّثْنِي، قَالَ: إِنِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ بِوَادٍ، إِذْ سَمِعْتُ صَائِحًا يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، خَبَرٌ نجيح، رجل يصيح، يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْجِنَّ وَإِيَاسَهَا، وَالإِنْسَ وَإِبْلاسَهَا، وَالْخَيْلَ وَأَحْلَاسَهَا، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ إِنَّ هَذَا لَخَبَرٌ يَئِسَتْ مِنْهُ الْجِنُّ، وَأَبْلَسَتْ مِنْهُ الإنس، وأعلمت فِيهِ الْخَيْلُ، فَمَا حَالَ الْحَوْلُ حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.
وَرَوَاهُ الْوَليِدُ بْنُ مَزْيَدَ الْعُذْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ مِسْكِينٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَيْنَا عُمَرُ جَالِسٌ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَحَدِ الْقُرَّاءِ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْقُوفًا.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَاهِنُ هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ بن موسى الحمّار الكوفي، حدثنا زياد بن يزيد القصري، حدثنا محمد بن تراس الكوفي، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: بَيْنَا عُمَرُ يَخْطُبُ إِذْ قَالَ: أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ قَالَ: أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالُوا: وَمَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: كَانَ بَدْءُ إِسْلَامِهِ شَيْئًا عَجَبًا، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ سواد بن قارب، فقال له: حدّحدثنا بِبَدْءِ إِسْلَامِكَ يَا سَوَادُ، قَالَ: كُنْتُ نَازِلا بِالْهِنْدِ، وَكَانَ لِي رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ إِذْ جَاءَنِي فِي مَنَامِي ذَلِكَ قَالَ: قُمْ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وأنجاسها ... وشدّها العيس بأحلاسها
نهوي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُوهَا مِثْلُ أَرْجَاسِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بعينيك إلى راسها
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 245-246".(1/126)
يَا سَوَادُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ نَبِيًّا فَانْهَضْ إِلَيْهِ تَهْتَدِ وَتَرْشُدْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثُمَّ قَالَ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... لَيْسَ فَدَامَاهَا كَأَذْنَابِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى نَابِهَا
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثم قال:
عجبت لجنّ وَتَخْبَارِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... لَيْسَ ذَوُو الشَّرِّ كَأَخْيَارِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
فَوَقَعَ فِي قَلْبِي حُبُّ الْإِسْلَامِ، وَشَدَدْتُ رَحْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ بِالْمَدِينَةِ، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:
"مَرْحَبًا بِسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، قَدْ عَلِمْنَا مَا جَاءَ بِكَ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قُلْتُ شِعْرًا فَاسْمَعْهُ مِنِّي:
أَتَانِي رَئِيِّي بَعْدَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْتُ بِكَاذِبٍ1
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَتَاكَ نَبِيٌّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاقِي الْإِزَارَ وَوَسَّطَتْ ... بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْنَاءُ عِنْدَ السَّبَاسِبِ2
فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَأَنَّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُلِّ غَائِبِ
وَأَنَّكَ أدنى المرسلين شفاعةً ... إلى الله يا بن الأَكْرَمِينَ الأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيكَ يَا خَيْرَ مَنْ مَشَى ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيْبُ الذَّوَائِبِ
فَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... سِوَاكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبِ
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لِي: "أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ"، فَقَالَ لَهُ عمر: هل يأتيك رأيك الآنَ؟ قَالَ: مُنْذُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِنِي، ونعم العوض كتاب الله من الجنّ3.
__________
1 هجعة: نوم خفيف.
2 الذعلب: السرية من النوق. الناقة الشديدة. والسباسب: أيام الشعانين عند النصارى.
3 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 248-253" وفيه جهالة محمد بن تراس وزياد بن يزيد كما يأتي، وفيه أيضًا عنعنه أبي إسحاق وهو مدلس.(1/127)
هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بِالْمَرَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ تَرَاسٍ وَزِيَادٌ مَجْهُولانِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمَا، وَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَلَكِنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ مَشْهُورٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو يعلى الموصليّ، وعليّ بن شيبان: حدثنا يحيى بن حجر الشاميّ، حدثنا عليّ بن منصور الأبناوي، حدثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ: أَنْتَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَتَاهُ رَئِيُّهُ بِظُهُورِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ عَلَى كَهَانَتِكَ.
فَغَضِبَ وَقَالَ: مَا اسْتَقْبَلَنِي بِهَذَا أَحَدٌ مُنْذُ أَسْلَمْتُ.
قَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ من الشّرك أعظم، قال: فأخبرني بإتيانك رأيك بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ اسْمَعْ مَقَالَتِي وَاعْقِلْ، إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشِّعْرَ قَرِيبًا مِمَّا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ يَقُولُ: كُنَّا يَوْمًا فِي حَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُمْ آلُ ذَرِيحٍ، وَقَدْ ذَبَحُوا عِجْلا، وَالْجَزَّارُ يُعَالِجُهُ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ وَلَا نَرَى شَيْئًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا آلَ ذَرِيحٍ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، صَائِحٌ يَصِيحُ، بِلِسَانٍ فَصِيحٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلاّ الله1.
أبو عبد الرحمن عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ فِيهِ جَهَالَةٌ، مَعَ أَنَّ الحديث منقطع.
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أبو عبد الرحمن الوقاحي هو عثمان بن عبد الرحمن، متروك، وكذبه البعض كما في "الميزان" "5531".(1/128)
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ، عَنْ بِشْرِ بْنِ حَجَرٍ أَخِي يَحْيَى بْنِ حَجَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِنَحْوِهِ.
وقال ابن عديّ في كامله: حدثنا الوليد بن حمّاد، بالرملة، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا الحكم بن يعلى المحاربيّ، حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الشَّرَاةِ، فَأَتَانِي آتٍ فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ أَتَى رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
كَذَا فِيهِ سَعِيدٌ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي سَوَادٌ، وَعَبَّادٌ لَيْسَ بِثِقَةٍ يَأْتِي بِالطَّامَّاتِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَوَّلُ مَا سُمِعَ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ تُدْعَى فَطِيمَةَ، كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ، فَجَاءَ يَوْمًا فَوَقَعَ عَلَى جِدَارِهَا، فَقَالَتْ: مَا لَكَ لَا تَدْخُلُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ يُحَرِّمُ الزِّنَى، فَحَدَّثَتْ بِذَاكَ الْمَرْأَةُ عَنْ تَابِعِهَا مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَ أَوَّلَ خَبَرٍ تُحَدِّثُ بِهِ بِالْمَدِينَةِ2.
وقال يحيى بن يوسف الزّمي: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَوَّلُ خَبَرٍ قَدِمَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا تَابِعٌ، فَجَاءَ فِي صُورَةِ طَائِرٍ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَائِطِ دَارِهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: انْزِلْ، قَالَ: لَا، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ بِمَكَّةَ نَبِيٌّ يُحَرِّمُ الزِّنَى، قَدْ مَنَعَ مِنَّا الْقَرَارَ3.
وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَامَّتُهَا واهية الأسانيد.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 253-254"، وعباد بن عبد الصمد ضعيف جدًّا كما في "الميزان" "4128".
2 مرسل.
3 عزاه الحافظ ابن كثير في "البداية" لأبي نعيم.(1/129)
وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. قَالَ شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ2. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ، لَكِنْ لَمْ يَقُلِ الْبُخَارِيُّ "مَرَّتَيْنِ".
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ "فَانْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ"3. وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوٌ مِنْهُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ أبي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ مُنْشَقًّا شِقَّتَيْنِ بِمَكَّةَ، قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِقَّةٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَشِقَّةٌ عَلَى السُّوَيْدَاءِ، فَقَالُوا: سُحِرَ الْقَمَرِ4.
لَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَرَادَ "قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" يَعْنِي إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَلَفْظُهُ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَقَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشهدوا" 5.
__________
1 سورة القمر: 1-3.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4867" في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، ومسلم "2802" في كتاب صفة القيامة، باب: انشقاق القمر، والترمذي "3297" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة القمر، وأحمد "3/ 65، 207، 220، 275، 278"، والطبري في "تفسيره" "27/ 50"، والنسائي في "الكبرى" "11554"، وأبو يعلى في "مسنده" "2929، 2930، 3113، 3141، 3187"، والحاكم في "مستدركه" "3761" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 262، 263، 264"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "708" والبغوي في "تفسيره" "4/ 235".
3 صحيح: انظر التخريج السابق.
4 لم أجده بهذا اللفظ.
5 صحيح: أخرجه البخاري "4864، 4865" في المصدر السابق، ومسلم "2800" في المصدر السابق، والترمذي "3296، 3298" في المصدر السابق، والنسائي في "الكبرى" "11552، 11553" والطيالسي في "مسنده" "ص37، 38" والطبري في "تفسيره" "27/ 50، 51" والطبراني في "الكبير" "9996، 9997، 10009"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص200، 201، 202"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 264-266"، والحاكم في "مستدركه" "3756، 3757" وابن حبان في "صحيحه" "6495" والبزار كما في "مختصر زائد البزار" "1801، 1802، 1971"، والطحاوي في "المشكل" "697، 698، 700، 701، 702، 703"، والبغوي في "تفسيره" "4/ 235".(1/130)
وَأَخْرَجَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن الأعمش، حدثنا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْفَلَقَ الْقَمَرُ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَارَتْ فِلْقَةٌ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْهَدُوا" 1. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطّيالسيّ في "مسنده": حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السُّفَّارُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَجَاءَ السُّفَّارُ فَقَالُوا: ذَلِكَ صَحِيحٌ2.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. متفق عَلَيْهِ مَنْ حَدِيثِ بَكْرٍ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فِي قوله {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 4 قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةٌ مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ مِنْ خَلْفِ الْجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "اللهمّ اشهد" 5. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: انظر التخريج السابق.
2 تقدم تخريجه من "مسند الطيالسي".
3 صحيح: أخرجها البخاري "4866" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، ومسلم "2803" في كتاب صفة القيامة، باب: انشقاق القمر، والطبري في "تفسيره" "27/ 51" والطبراني في "الكبير" "10734، 10735"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص201، 202"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 267" والطحاوي في "مشكل الآثار "704، 705".
4 سورة القمر: 1.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2801" في المصدر السابق، والترمذي "3299" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة القمر، والطيالسي في "مسنده" "ص257" والطبري في "تفسيره" "27/ 50"، والطبراني في "الكبير" "13473"، أبو نعيم في "الدلائل" "ص201"، والحاكم في "مستدركه" "3759"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 267"، وابن حبان في "صحيحه" "6496".(1/131)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَهُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو كُدَيْنَةَ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ حُصَيْنٍ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن أبيه. والأول أصحّ.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3300" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 82"، والطبري في "تفسيره" "27/ 51"، والطبراني في "الكبير" "1559، 1560، 10561"، والحاكم في "مستدركه" "3760" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 268"، وابن حبان في "صحيحه" "6497" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
وفي الباب عن حذيفة -رضي الله عنه- وأخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 51" والطحاوي في "مشكل الآثار" "706، 707".
وعن علي -رضي الله عنه- أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" "696".(1/132)
بَابُ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَنَزَلَتْ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} 2، قَالُوا: نَحْنُ لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قليلًا، وقد أوتينا التّوارة فيها حكم الله، ومن أوتي التّوارة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَ: فَنَزَلَتْ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الْآيَةَ3. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، بَعَثُوا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لهم
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3300" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 82"، والطبري في "تفسيره" "27/ 51"، والطبراني في "الكبير" "1559، 1560، 10561"، والحاكم في "مستدركه" "3760" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 268"، وابن حبان في "صحيحه" "6497" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
وفي الباب عن حذيفة -رضي الله عنه- وأخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 51" والطحاوي في "مشكل الآثار" "706، 707".
وعن علي -رضي الله عنه- أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" "696".
2 سورة الإسراء: 85.
3 سورة الكهف: 109.
والخبر صحيح، أخرجه الترمذي "3151" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "8/ 2531": رجاله رجال مسلم. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/132)
صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا، فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ الْيَهُودِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ بِبَعْضِ قَوْلِهِ، فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ: سَلُوهُ عَنْ ثلاث نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجَبٌ.
وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَمَا كَانَ نَبَؤُهُ.
وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ، فَقَدِمَا مَكَّةَ فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا، وَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: "أُخْبِرُكُمْ غَدًا"، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَمَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُحْدِث اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَمْ يَأْتِهِ جِبْرِيلُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا غَدًا وَالْيَوْمُ خَمْسَ عَشَرَ، وَأَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُكْثَ الْوَحْيِ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ، وَخَبَرُ الْفِتْيَةِ وَالرَّجُلُ الطَّوَّافُ وَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 1.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَلَعَلَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ مَرَّتَيْنِ2.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ فَيَزْرَعُوا فِيهَا.
فَقَالَ اللَّهُ: إِنْ شِئْتَ آتَيْنَاهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أهلك من كان
__________
1 إسناده ضعيف: للجهالة فيه، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 270".
2 حديث ابن مسعود بنحو حديث ابن عباس: وقد أخرجه البخاري "4721" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ، ومسلم "2794" في كتاب صفة القيامة، باب: سؤال اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح.(1/133)
قَبْلَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَسْتَأْنِيَ بِهِمْ. قَالَ: "بَلْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} 1. حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ، عن سعيد بن جبير.
__________
1 سورة الإسراء: 59.
والخبر إسناده صحيح، أخرجه أحمد "1/ 258"، والنسائي في "الكبرى" "11290" وهو كما قال الشيخ أحمد شاكر في "المسند" "2333": إسناده صحيح.(1/134)
ذكر أذية المشتركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين
...
ذِكْرُ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِلْمُسْلِمِينَ:
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قُلْتَ: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: أَقْبَلَ عقبة بن أبي معيط والنّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ، فَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} 1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، وَعُبَيْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَهَذِهِ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ، لَكِنْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلأَوَّلِ.
وقال سفيان، وشعبة، واللّفظ له: حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَثَمَّ سَلَى2 بَعِيرٍ، فَقَالُوا: مَنْ يَأْخُذُ سَلَى هَذَا الْجَزُورِ فَيَقْذِفُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَجَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ" -أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، شَكَّ شُعْبَةُ، وَلَمْ يَشُكَّ سفيان بن أميّة- قال عبد الله: فقد رأيتهم
__________
1 سورة غافر: 28.
والخبر أخرجه البخاري "4815" في كتاب التفسير، باب: سورة المؤمن، وأحمد "2/ 204"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 274".
2 السلى: الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الجنين من بطن أمه.(1/135)
قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، غَيْرَ أَنَّ أُمَيَّةَ كَانَ رَجُلا بَادِنًا، فَتَقَطَّعَ قَبْلَ أَنْ يُبْلَغَ بِهِ الْبِئْرُ1. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شعبة، ومن حديث سفيان.
وقال "م"2: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، أنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَى جَزُورٍ فَيَضَعُهُ عَلَى كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فضحكوا وجعل بعضكم يَمِيلُ إِلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ وَسَبَّتْهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إذا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثًا، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ" وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ. فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ3.
وَقَالَ زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إسلام سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ.
فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.
وَأَمَّا أبو بكر فمنعه الله بقومه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3854" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ما لقي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مِنَ المشركين بمكة، ومسلم "1794" في كتاب الجهاد، باب: ما لقي النَّبِيّ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذى المشركين والمنافقين، وأحمد "1/ 417"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 278".
2 إشارة إلى "مسلم".
3 صحيح: أخرجه مسلم "1794/ 107" في المصدر السابق.(1/136)
وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وأوقفوهم في الشمس، فما ن أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا غَيْرَ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ1. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ: "أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرَ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ" 2.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ شَهِيدٍ فِي الْإِسْلَامِ أُمَّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ، طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بحربة في قبلها3.
وقال يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْتَقَ مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ سَبْعَةً، فَذَكَرَ مِنْهُمُ الزِّنِّيرَةَ، قَالَ: فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَكَانَتْ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَصَابَ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا هُوَ كَذَلِكَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا4.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بن أبي خالد وغيره: حدثنا قَيْسٌ قَالَ: سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً شَدِيدَةً فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلا تدعو اللَّهَ، فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: "إِنْ كان من قَبْلَكُمْ لَيُمَشِّطُ أَحَدَهُمْ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتَمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا
__________
1 حسن: أخرجه ابن ماجه "150" في المقدمة، باب: في فصائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحمد "1/ 404"، وأبو نعيم في "الحلية" "487"، وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "122".
2 صحيح: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "5666" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 282"، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص122": حديث حسن صحيح، رواه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 203" بلاغًا، ووصله الحاكم والطبراني في "الأوسط" "كما في "المجمع" "9/ 293" عن جابر، وأخرجه أبو أحمد الحاكم في "الإصابة". ا. هـ.
3 مرسل: ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 71" وعزاه للإمام أحمد، وقال: مرسل.
4 مرسل.(1/137)
اللَّهَ" 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ2.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أَحَدَهُمْ يُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ، حَتَّى مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَوِي جالسًا من شدّة الضّرّ الذي نزل له، حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، حَتَّى يَقُولُوا لَهُ: آللَّاتُ وَالْعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، حَتَّى إِنَّ الْجُعْلَ لَيَمُرُّ بهم فيقولون له: أهذا الْجُعْلُ إِلَهُكَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، افْتِدَاءً مِنْهُمْ مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ3.
وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عُكَّاشَةَ، أَنَّهُ حُدِّثَ، أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مَشَوْا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ، حِينَ أَسْلَمَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا أَنْ يَأْخُذُوا فِتْيَةً مِنْهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، مِنْهُمْ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ وَخَشَوْا شَرَّهُ: إِنَّا قَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُعَاتِبَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي قَدْ أحدثوا فإنّا بِذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: هَذَا فَعَلَيْكُمْ بِهِ فَعَاتِبُوهُ، يَعْنِي أَخَاهُ الْوَلِيدَ، ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَنَفْسَهُ، وَقَالَ:
أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ أَخِي عُيَيْشًا ... فَيَبْقَى بَيْنَنَا أَبَدًا تَلَاحِي
احْذَرُوا عَلَى نَفْسِهِ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَقْتُلَنَّ أَشْرَفَكُمْ رَجُلا، قَالَ: فَتَرَكُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا دَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ4.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ العاص من
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3852" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ما لقي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مِنَ المشركين بمكة، وأبو داود "2649" في كتاب الجهاد، باب: في الأسير يكره على الكفر، وأحمد "5/ 109، 110، 111" وأبو نعيم في "الحلية" "473"، ولم يروه مسلم كما يدل عليه خاتمة كتاب المناقب في "الفتح" "6/ 735".
2 صحيح: انظر التخريج السابق.
3 إسناده ضعيف: حكيم بن جبير ضعيف كما في "التقريب" "1468".
4 إسناده ضعيف.(1/138)
الْحَبَشَةِ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، لا لَهُ لَا يَخْرُجُ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَمَةَ يَزْعُمُ أنّ صاحبكم نبيّ1.
كتاب النجاشي للنبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه:
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، مَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النَّجَاشِيِّ أَصْحَمَةَ بْنِ أَبْحَرَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ أَرِيحَا ابْنِي، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَإِنْ شِئْتَ، أَنْ آتِيَكَ فَعَلْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُ النَّجَاشِيِّ مَصْحَمَةَ، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةٌ، وَإِنَّمَا النَّجَاشِيُّ اسْمُ الْمَلِكِ، كَقَوْلِكَ كِسْرَى وَهِرَقْلُ3.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ4، وَأَمَّا قَوْلُهُ مَصْحَمَةُ فلفظ غريب.
__________
1 مرسل.
2 معضل إسناده ضعيف جدًّا: محمد بن حميد الرازي متهم كما يأتي في ترجمته "1935".
3 معضل.
4 صحيح: أخرجه البخاري "1334" في كتاب الجنائز، باب: التكبير على الجنازة أربعًا، ومسلم "952": في كتاب الجنائز، باب: في التكبير على الجنائز، والنسائي "4/ 69" في كتاب الجنائز، باب: الصفوف على الجنازة، وأحمد "3/ 295-319".(1/139)
ذِكْرُ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ وَالصَّحِيفَةِ:
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمُ اشْتَدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَشَدِّ مَا كَانُوا، حَتَّى بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الْجَهْدُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلاءُ، وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي مَكْرِهَا أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَانِيَةً، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ عَمَلَهُمْ جَمَعَ بَنِي هَاشِمٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِعْبَهُمْ وَيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ حَمِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ إِيمَانًا، فَلَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ مَنَعُوهُ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْقَتْلِ، وَكَتَبُوا فِي مَكْرِهِمْ صَحِيفَةً وَعُهُودًا وَمَوَاثِيقَ، لَا يَقْبَلُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبَدًا صُلْحًا، وَلَا تَأْخُذُهُمْ بِهِمْ رَأْفَةٌ حَتَّى يُسْلِمُوهُ لِلْقَتْلِ.
فَلَبِثَ بَنُو هَاشِمٍ فِي شِعْبِهِمْ، يَعْنِي ثَلاثَ سِنِينَ، واشتدّ عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأصواق، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ إِذَا نَامَ النَّاسُ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِهِ، حَتَّى يَرَى ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ مَكْرًا بِهِ وَاغْتِيَالَهُ، فَإِذَا نَامَ النَّاسُ أَمَرَ أَحَدَ بَنِيهِ أَوْ إِخْوَتِهِ فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَأْتِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِرَاشَ ذَلِكَ فَيَنَامُ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ رَأْسُ ثَلَاثِ سِنِينَ، تَلَاوَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنْ بَنِي قُصَيٍّ، وَرِجَالٌ أُمَّهَاتُهُمْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ قَطَّعُوا الرَّحِمَ وَاسْتَخَفُّوا بِالْحَقِّ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى نَقْضِ مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ.
وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى صَحِيفَتِهِمُ الْأَرَضَةَ1، فَلَحَسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، وَيُقَالُ كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي سَقْفِ الْبَيْتِ، فَلَمْ تَتْرُكِ اسْمًا لِلَّهِ إِلا لَحَسَتْهُ، وَبَقِيَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ شَرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لَا وَالثَّوَاقِبِ2 مَا كَذَبَنِي، فَانْطَلَقَ يَمْشِي بِعِصَابَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَهُوَ حَافِلٌ مِنْ قُرَيْشٌ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قَدْ حَدَثَتْ أُمُورٌ بَيْنَكُمْ لَمْ نَذْكُرْهَا لَكُمْ، فَائْتُوا بِصَحِيفَتِكُمُ الَّتِي تَعَاهَدْتُمْ عَلَيْهَا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ، فَأَتَوْا بِهَا وَقَالُوا: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا وَتَرْجِعُوا إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ قَوْمَكُمْ، فَإِنَّمَا قَطَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَجَعَلْتُمُوهُ خَطَرًا لِلْهَلَكَةِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ لِأُعْطِيكُمْ أَمْرًا لَكُمْ فِيهِ نِصْفٌ3، إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أَخْبَرَنِي وَلَمْ يَكْذِبْنِي، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَمَحَا كُلَّ اسْمٍ هُوَ لَهُ فِيهَا، وَتَرَكَ فِيهَا غَدْرَكُمْ وَقَطِيعَتَكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، فأفيقوا، فوالله لا
__________
1 الأرضة: دوبية تأكل الخشب.
2 الثواقب: الكواكب المضيئة.
3 نصف: إنصاف.(1/140)
نُسْلِمُهُ أَبَدًا حَتَّى نَمُوتَ مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ بَاطِلًا، دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ، فَرَضُوا وَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ، فَلَمَّا رَأَتْهَا قُرَيْشٌ كَالَّذِي قَالَ أَبُو طَالِبٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا قَطُّ إِلَّا سِحْرًا مِنْ صَاحِبِكُمْ، فَارْتَكَسُوا1 وَعَادُوا لِكُفْرِهِمْ، فَقَالَ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَالسَّحْرِ غَيْرَنَا، فَكَيْفَ تَرَوْنَ، وَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَتِنِا أَقْرَبُ إِلَى الْجِبْتِ وَالسِّحْرِ مِنْ أَمْرِنَا، وَلَوْلا أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى السِّحْرِ لَمْ تَفْسُدِ الصَّحِيفَةُ، وَهِيَ فِي أَيْدِيكُمْ، أَفَنَحْنُ السَّحَرَةُ أَمْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ عِنْدَهُ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ: نَحْنُ بَرَاءٌ مِمَّا فِي هذه الصَّحِيفَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ2.
وَذَكَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَقَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ، يَعْنِي حين فارق قومه من الشعب، لقي هندًا بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ نَصَرْتِ اللاتَ وَالْعُزَّى وَفَارَقْتِ مَنْ فَارَقَهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ3.
وَأَقَامَ بَنُو هَاشِمٍ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا حَتَّى جُهِدُوا، لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلا سِرًّا مُسْتَخْفًى بِهِ. وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَمَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا، يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ، وَهِيَ فِي الشِّعْبِ فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ! قَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ! قَالَ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا، خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لِحَى بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ يَرَى ذَلِكَ، وَيَكْرَهُونَ أن يبلغ ذلك
__________
1 ارتكسوا: انتكسوا.
2 مرسل: انظر "البداية" "2/ 101، 102".
3 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 332".(1/141)
رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، فيشتموا بهم. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجَهْرًا1.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَلَمَّا أَفْسَدَ اللَّهُ الصَّحِيفَةَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورهطه، فعاشوا وخالطوا النّاس.
__________
1 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "السيرة" "1/ 333، 334".(1/142)
بَابُ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} 1
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} قَالَ: الْمُسْتَهْزِئُونَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عبد يغوث الزّهري، وأبو زمعة السود بن المطّلب من بني أسد ين عبد العزّى، والحارث بن عيطل، السَّهْمِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَشَكَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِ، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ، وَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ2 فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى عَيْنَيْهِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ أَبَا زَمْعَةَ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ أَوْ بَطْنِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ، فَأَمَّا الْوَلِيدُ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُوَ يَرِيشُ نِبَالًا، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَعَمِيَ. وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فخرج في رأسه قروح فمات مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَارِثُ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ فَدَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرَقَةٌ3، حَتَّى امْتَلَأَتْ فَمَاتَ مِنْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ رَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ حِمَارًا فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شَوْكَةٍ، فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِهِ4 فَمَاتَ مِنْهَا5. حَدِيثٌ صحيح.
__________
1 سورة الحجر: 95.
2 الأبجل: عرق في ذراع البعير والفرس.
3 الشبرقة: نبات حجازي له شوك.
4 الأخمص: باطن القدم المرفوع عن الأرض.
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 316-318".(1/142)
دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قُرَيْشٍ بِالسَّنَةِ 1:
قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ قَالَ فِيمَا يَقُولُ: يَوْمَ تأتي السّماء بدخان مبين، قَالَ: دُخَانٌ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكْمَةِ، فَقُمْنَا فَدَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الْعَالِمُ لِمَا لَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 2. وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدُّخَانِ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلَامِ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ"، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ فَحَصَّتْ3 كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَةَ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ دَعَوْا فَكُشِفَ عَنْهُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} 4. ثم قرأ عبد الله {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} 5 قَالَ: فَعَادُوا فَكَفَرُوا فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} 6. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ فَانْتُقِمَ مِنْهُمْ7. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الدَّهَّانُ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ: أَنْبَأَ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ: "اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ فَقَالَ: إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ، فَدَعَا فَسُقُوا الغيث8.
__________
1 السنة: القحط.
2 سورة ص: 86.
3 فحصت: المراد أهلكت.
4 سورة الدخان: 12.
5 سورة الدخان: 15.
6 سورة الدخان: 16.
7 صحيح: أخرجه البخاري "4822" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ، ومسلم "2798" في كتاب صفة القيامة، باب: الدخان، والترمذي "3265" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الدخان، وأحمد "1/ 431، 441"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 326، 327".
8 انظر التخريج السابق، وهو لفظ البيهقي.(1/143)
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَآيَةُ الرُّومِ، وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ1.
وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: اللِّزَامُ، وَالرُّومُ، وَالدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبَطْشَةُ2.
وَقَالَ أَيُّوبُ وَغَيْرُهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَغِيثُ مِنَ الْجُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ3. بِالدَّمِ، فَنَزَلَتْ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} 4.
__________
1 صحيح: انظر التخريج المتقدم.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2798/ 41" في المصدر السابق.
3 العلهز: الوبر المختلط بالدم.
4 سورة المؤمنون: 76.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 329".(1/144)
ذِكْرُ الرُّومِ:
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسٌ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ"، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ ذَلِكَ، فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أَجَلًا، فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ أَجَلَ خَمْسِ سِنِينَ فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَلَا جَعَلْتَهُ -أَرَاهُ قَالَ- دُونَ الْعَشْرِ"، قَالَ: فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} 1.
__________
1 سورةالروم: 2-4.
والخبر صحيح، أخرجه الترمذي "3204" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الروم، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/144)
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَسَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ1.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ ابْنِ عبّاس: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 2 قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ وَغَلَبَتْهُمْ فَارِسٌ، ثُمَّ غَلَبَتْهُمُ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَقِيَ نَبِيُّ اللَّهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْتَقَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، فَنَصَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَنُصِرَ الرُّومُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَجَمِ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَنَصْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ3.
قَالَ عَطِيَّةُ: فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْتَقَيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْنُ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَالْتَقَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَنَصَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، فَفَرِحْنَا بِنَصْرِنَا وَنَصْرِهِمْ4.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ -يَعْنِي أَوَّلَ الرُّومِ- نَاحَبَ أَبُو بَكْرٍ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ، يَعْنِي رَاهَنَ قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ الْقِمَارُ، عَلَى شَيْءٍ، إِنْ لَمْ تُغْلَبْ فَارِسُ فِي سبع سنين، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِمَ فَعَلْتَ، فَكُلُّ مَا دُونَ الْعَشْرِ بِضْعٌ"، فَكَانَ ظُهُورُ فَارِسِ عَلَى الرُّومِ فِي سَبْعِ سِنِينَ، وَظُهُورُ الرُّومِ عَلَى فَارِسٍ فِي تِسْعِ سِنِينَ. ثُمَّ أَظْهَرَ اللَّهُ الرُّومَ عَلَيْهِمْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ5.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عروبة، عن قتادة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} 6 قَالَ: غَلَبَهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ عَلَى أَدْنَى الشَّامِ، قَالَ: فَصَدَّقَ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّ الرُّومَ سيظهرون بعد، فاقتمروا هم المشركون عَلَى خَمْسِ قَلَائِصَ7، وَأَجَّلُوا بَيْنَهُمْ خَمْسَ سِنِينَ، فَوَلِيَ قِمَارَ الْمُسْلِمِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَوَلِيَ قِمَارَ الْمُشْرِكِينَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
__________
1 صحيح: ذكره الترمذي عقب الرواية السابقة، ويأتي موصولًا عن أبي سعيد الخدري.
2 سورة الروم: 1، 2.
3 إسناده ضعيف: عطية العوفي ضعيف,.
4 صحيح: أخرجه بنحوه الترمذي "3203" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الروم، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
5 مرسل.
6 سورة الروم: 3.
7 قلائص: الإبل الفتية.(1/145)
يُنْهَى عَنِ الْقِمَارِ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ تَظْهَرِ الرُّومُ، فَسَأَلَ الْمُشْرِكُونَ قِمَارَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَكُونُوا أَحِقَّاءَ أَنْ تُؤَجِّلُوا أَجَلًا دُونَ الْعَشْرِ، فَإِنَّ الْبِضْعَ ما بين الثلاث إلى العشر، فزايدوهم مادّوهم فِي الْأَجَلِ" فَفَعَلُوا، فَأَظْهَرَ اللَّهُ الرُّومَ عِنْدَ رَأْسِ السَّبْعِ مِنْ قِمَارِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَرْجِعَهُمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ1.
وَقَالَ الوليد بن مسلم: حدثنا أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسٍ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ، وَظُهُورَهُمْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي خَمْسَ عشرة سنة.
__________
1 مرسل.(1/146)
ثُمَّ تُوُفِّيَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ:
يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} 1. أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَنَزَلَ فِيهِ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 2.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَنْأَى عَنْهُ3.
وَرَوَاهُ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، عَنْ حَبِيبٍ، فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فوجد أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إلا الله أحاجّ لك بها
__________
1 سورة الأنعام: 26.
2 سورة القصص: 56.
3 إسناده ضعيف: للجهالة فيه، وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 58" من طريق الواقدي.(1/146)
عند الله" فقالا: أيا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! قَالَ: فَكَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ أَنْ قَالَ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1 الْآيَتَيْنِ، وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 2 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ.
وَقَدْ حَكَى عَنْ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ، ابْنُهُ عَلِيٌّ، وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ بِذِي الْمَجَازِ مَعَ ابْنِ أَخِي، فَعَطِشْتُ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ، فَأَهْوَى بِعَقِبِهِ إلى الأرض، فَشَرِبْتُ3.
وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَسُودُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِمَالٍ، إِلَّا أَبَا طَالِبٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ.
قُلْتُ: وَلِأَبِي طَالِبٍ شِعْرٌ جِيِّدٌ مُدَوَّنٌ فِي السِّيرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي "مُسْنَدِ أَحْمَدَ" مَنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا ضَحِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ، ظَهَرَ عَلَيْنَا أَبُو طَالِبٍ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُصَلِّي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يابن أَخِي؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: مَا بِالَّذِي تَصْنَعَانِ مِنْ بَأْسٍ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا يَعْلُونِي اسْتِي أَبَدًا، فَضَحِكْتُ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِ أَبِي4.
وَرَوَى مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قُرَيْشًا أَظْهَرُوا لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَدَاوَةَ وَالشَّتْمَ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ رَهْطَهُ، فَقَامُوا بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يدعون الله على
__________
1 سورة التوبة: 113.
2 سورة القصص: 56.
والخبر صحيح، أخرجه مسلم "24" في كتاب الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، وأخرجه البخاري "4675" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، والنسائي "4/ 90، 91" في كتاب الجنائز، باب: "25/ 433".
3 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 72".
4 إسناده، ضعيف جدًّا: يحيى بن سلمة بن كهيل متروك كما في "التقريب" "7561".(1/147)
مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنْ أَبَى قَوْمُنَا إِلا الْبَغْيَ عَلَيْنَا فَعَجِّلْ نَصْرَنَا، وَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِي يُرِيدُونَ مِنْ قَتْلِ ابْنِ أَخِي، ثُمَّ دَخَلَ بِآلِهِ الشِّعْبَ1.
ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا طَالِبٍ قَالَ: "أَيْ عَمُّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَسْتَحِلُّ لَكَ بِهَا الشَّفَاعَةَ"، قال: يابن أَخِي، وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُبَّةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ، يَرَوْنَ أَنِّي قُلْتُهَا جَزَعًا مِنَ الموت، لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فَلَمَّا ثَقُلَ أَبُو طَالِبٍ رُؤِيَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ وَاللَّهِ قَالَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ أَسْمَعْ"2.
قُلْتُ: هَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ كَانَ سَمِعَهُ الْعَبَّاسُ يَقُولُهَا لَمَا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: هَلْ نَفَعْتَ عَمَّكَ بِشَيْءٍ3، وَلَمَا قَالَ عليّ بعد موته: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ4. صَحَّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، رَوَى عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنُ عُمَرَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 5 نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ6.
زَيْدُ بن الحباب، حدثنا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْعَبَّاسِ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا تَرْجُو لِأَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: "كُلَّ الْخَيْرِ مِنْ رَبِّي" 7.
__________
1 مرسل.
2 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 383" وفي إسناده جهالة.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3883" في كتاب مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، ومسلم "209" في كتاب الإيمان، باب: شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 59".
4 صحيح: أخرجه أبو داود "3214" في كتاب الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك، والنسائي "4/ 79" في كتاب الجنائز، باب: مواراة المشرك، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 59" وقال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "686": إسناده حسن. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
5 سورة القصص: 56.
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/8 58" من طريق الواقدي.
7 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 59" عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ مرسلًا.(1/148)
أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا احْتَضَرَ أَبُو طَالِبٍ دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فقال: يابن أَخِي إِذَا أَنَا مُتُّ فَأْتِ أَخْوَالَكَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ أَمْنَعُ النَّاسِ لِمَا فِي بُيُوتِهِمْ1.
قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةً عَنِّي حَتَّى مَاتَ عَمِّي"2.
كَاعَّةٌ: جَمْعُ كَائِعٍ، وَهُوَ الْجَبَانُ، يُقَالُ: كَعَّ إِذَا جَبُنَ وَانْقَبَضَ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَمِّهِ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 3 الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، وَلَوْلا أَنا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" 4. أَخْرَجَاهُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ السُّفْيَانَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ" 5. أَخْرَجَاهُ.
__________
1 مرسل.
2 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 59" وأخرجه الحاكم "4243"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 349، 350"، موصولًا، ومرسلًا.
3 سورة القصص: 56.
والخبر صحيح، أخرجه مسلم "25" في كتاب الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، والترمذي "3199" في كتاب التفسير باب: ومن سورة القصص، وأحمد "2/ 434، 441".
4 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3885" في كتاب مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، ومسلم "210" في كتاب الإيمان، باب: شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 347".(1/149)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ" 1.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: "اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ وَلَا تُحْدِثْنَ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي"، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِيَ بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ2.
وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَزَادَ بَعْدُ: اذْهَبْ فَوَارِهِ: "فَقُلْتُ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا " قَالَ: "اذْهَبْ فَوَارِهِ" 3. وَفِي حَدِيثِهِ تصريح السّماع من ناحية قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا يَقُولُ. وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ متّصل.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَفِيهٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ إِلَى بيته، فأتت بنته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يَقُولُ: " "أَيْ بُنَيَّةَ لَا تَبْكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ"، وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ"4. غَرِيبٌ مُرْسَلٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَارَضَ جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ:
"وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا عَمُّ وَجُزِيتَ خَيْرًا"5. تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُوَارَزْمِيُّ. وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَرْوِي عَنْهُ عيسى غنجار، والفضل الشيبانيّ.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "212" في كتاب الإيمان، باب: أهون أهل النار عذابًا، وأحمد "1/ 290" والحاكم في "مستدركه" "78325"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 348".
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 أخرجه الطيالسي في "مسنده" "120".
4 مرسل إسناده ضيعف: للجهالة فيه.
5 منكر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" 1/ 260" وفي إسناده إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي، ضعيف كما في "الميزان" "136" وذكر له المصنف هذا الحديث ثم قال: وهذا خبر منكر.(1/150)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا طَالِبٍ فِي مَرَضِهِ قَالَ: "أَيْ عَمُّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَسْتَحِلُّ لك بها الشفاعة يوم القيامة"، فقال: يابن أَخِي وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُبَّةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ مِنْ بَعْدِي يَرَوْنَ أَنِّي قُلْتُهَا جَزَعًا حِينَ نَزَلَ بِيَ الْمَوْتُ لَقُلْتُهَا، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأَسُرَّكَ بِهَا، فَلَمَّا ثَقُلَ أَبُو طَالِبٍ رُؤِيَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ لِيَسْتَمِعَ قَوْلَهُ، فَرَفَعَ الْعَبَّاسُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ وَاللَّهِ قَالَ الْكَلِمَةَ الَّتِي سَأَلْتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ أَسْمَعْ"1.
إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا، وَأَيْضًا، فَكَانَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ الْوَقْتَ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِ، وَلِهَذَا إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِوَايَتَهُ وَقَالَ لَهُ: لَمْ أَسْمَعْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنّه يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، فَلَوْ كَانَ الْعَبَّاسُ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ إِسْلَامِ أَخِيهِ أَبِي طَالِبٍ لَمَا قَالَ هَذَا، وَلَمَا سَكَتَ عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ" 2، وَلَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ قَوْمٌ بُهْتٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ مَاتَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ فتتابعت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَصَائِبُ بِمَوْتِهِمَا.
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ وَزِيرَةَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلامِ، كَانَ يَسْكُنُ إِلَيْهَا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وأنّهما توفّيا في ذلك العام، وتوفّيت قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّ مَوْتَهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ.
وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ الْأَسَدِيَّةُ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَتْ تُدْعَى فِي الجاهليّة الطاهرة، وأمّها فاطمة بنت
__________
1 إسناده ضعيف: وقد تقدم.
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 382".(1/151)
زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمِّ الْعَامِرِيَّةُ. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ تَحْتَ أَبِي هَالَةَ بْنِ زُرَارَةَ التَّمِيمِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِي هَالَةَ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ عَتِيقُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، ثُمَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلْ تَزَوَّجَهَا أَبُو هَالَةَ بَعْدَ عَتِيقٍ. وَكَانَتْ وَزِيرَةَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ1، وَقِيلَ: كَانَ مَوْتُهَا فِي رَمَضَانَ، وَدُفِنَتْ بِالْحَجُونِ2، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَاشَتْ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ: تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً3، وَأَقَامَتْ مَعَهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ لَمْ يَكَدْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا، وَاسْتِغْفَارٍ لَهَا، فَذَكَرَهَا يَوْمًا، فَاحْتَمَلَتْنِي الْغِيرَةُ، فَقُلْتُ: لَقَدْ عَوَّضَكَ اللَّهُ مِنْ كَبِيرَةِ السِّنِّ، فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَبًا أَسْقَطْتُ فِي خَلَدِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ أَذْهَبْتَ غَضَبَ رَسُولِكَ عَنِّي لَمْ أَعُدْ إِلَى ذِكْرِهَا بِسُوءٍ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَقِيتُ قَالَ: "كَيْفَ قُلْتِ، وَاللَّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَآوَتْنِي إِذَا رَفَضَنِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَرُزِقْتُ مِنْهَا الْوَلَدَ، وحُرِمْتُمُوه مِنِّي"، قَالَتْ: فَغَدَا وَرَاحَ عَلَيَّ بِهَا شَهْرًا4.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عَائِشَةَ قالت: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا، وَمَا تزوّجني
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 251" وفي إسناده الواقدي، وهو متروك.
2 الحجون: جبل بمكة.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 250-251" عن حكيم بن حزام بإسناد ضعيف جدًّا.
4 أخرجه الطبراني في "الكبير" "21"، وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 224": أسانيده حسنة.(1/152)
إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ"1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ2.
وَقَالَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامُ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ"3 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ" 4 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3816" في كتاب مناقب الأنصار، تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- خديجة، ومسلم "2435" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة -رضي الله عنها- والترمذي "3901" في كتاب المناقب، باب: فضل خديجة -رضي الله عنها.
2 مرسل: وقد تقدم عن عائشة -رضي الله عنها- وإسناده ضعيف جدًّا.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3820" في المصدر السابق، ومسلم "2432" في المصدر السابق.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3815" في المصدر السابق، ومسلم "2430" في المصدر السابق، والترمذي "3903" في كتاب المناقب، فضل خديجة -رضي الله عنها- والنسائي في "الكبرى" "8354"، وأحمد "1/ 84، 116، 132، 143".(1/153)
ذِكْرُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى:
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ1.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التّرمذيّ: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الضَّحَّاكِ الزُّبَيْدِيُّ بْنِ زريق، حدثنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سالم، عن الزّبيديّ محمد بن الوليد، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نفير قال: حدثنا شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ:
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ أُسري بِكَ؟
قَالَ: "صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي صَلَاةَ الْعَتْمَةِ بِمَكَّةَ مُعَتَّمًا، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَقَالَ: ارْكَبْ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيَّ، فَرَازَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا، يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ، فَأَنْزَلَنِي فَقَالَ: صَلِّ، فَصَلَّيْتُ.
ثُمَّ رَكِبْنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتُ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتُ بِطِيبَةَ، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا، يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا، فَقَالَ: انْزِلْ، فَصَلِّ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا.
قَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: صَلَّيْتُ بِمَدْيَنَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا، يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ فَقَالَ: انْزِلْ، فَصَلَّيْتُ وَرَكِبْنَا.
فَقَالَ لِي: صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عيسى، ثم انطلق بي حتى دخلنا
__________
1 مرسل.(1/154)
الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِيِّ، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فِيهِ دَابَّتَهُ، وَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ مِنْ بَابٍ فِيهِ تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ لَبَنٍ وَعَسَلٍ، أَرْسَلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ هَدَانِي الله فأخذت البن، فَشَرِبْتُ حَتَّى قَرَعْتُ بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شَيْخٌ مُتَّكِئٌ عَلَى مِثْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ ليُهدى.
ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِيَ الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الزَّرَابِيِّ1.
قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟
قَالَ: مِثْلَ الْحَمْأَةِ2 السُّخْنَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي، فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ، بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ ضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ، قَدْ جَمَعَهُ فُلَانٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ.
ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فَقَدِ الْتَمَسْتُكَ فِي مَظَانِّكَ؟ قُلْتُ: عَلِمْتَ أَنِّي أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَصِفْهُ لِي، قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، لَا يَسْأَلْنِي عن شيء إلا أبنته عنه، قال: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لَكُمْ، بِمَكَانِ كَذَا، وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ، فَجَمَعَهُ فُلَانٌ، وَإِنَّ مَسِيرَهُمْ يَنْزِلُونَ بِكَذَا، ثُمَّ كَذَا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا، يَقْدَمُهُمْ جَمَلٌ آدَمٌ، عَلَيْهِ مِسْحٌ أَسْوَدُ، وَغَرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، أَشْرَفَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ حَتَّى كَانَ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، حين أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل"3.
__________
1 الزرابي: جمع الزربية، وهي البساط.
2الحمأة: الطين الأسود المنتن.
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 355-357" وإسحاق بن إبراهيم ضعيف كما في "الميزان" "730" وفي سنده من لم أجد لهم ترجمة، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 14" بعد أن ساق الحديث: ولا شك أن هذا الحديث مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم، وسؤال الصديق عن نعت المقدس وغير ذلك، والله أعلم.(1/155)
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: ابْنُ زِبْرِيقَ تَكَلَّمَ فِيهِ النَّسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شيخ1.
قال حمّاد بن سلمة: حدثنا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهُ خَلْفَ جِبْرِيلَ، فَسَارَ بِنَا، فَكَانَ إِذَا أَتَى عَلَى جَبَلٍ ارْتَفَعَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا هَبَطَ ارْتَفَعَتْ يَدَاهُ، فَسَارَ بِنَا فِي أَرْضٍ فَيْحَاءَ طَيِّبَةٍ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَخُوكَ مُحَمَّدٌ، فَرَحَّبَ ودعا لي بِالْبَرَكَةِ، وَقَالَ: سَلْ لِأُمَّتِكَ الْيُسْرَ، ثُمَّ سَارَ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَا عَلَى مَصَابِيحَ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذِهِ شَجَرَةُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ، تُحِبُّ أَنْ تَدْنُوَ مِنْهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَنَوْنَا مِنْهَا، فَرُحِّبَ بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَنُشِرَ لِي الْأَنْبِيَاءُ مَنْ سَمَّى اللَّهُ وَمَنْ لَمْ يُسَمِّ، وَصَلَّيْتُ بِهِمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ: مُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمُ، فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَقُرِّبَتْ لِيَ الْأَنْبِيَاءُ، مَنْ سَمَّى اللَّهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُسَمِّ، فَصَلَّيْتُ بِهِمْ2.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مَيْمُونُ. ضُعِّفَ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلْيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَرَأْتُ عَلَى الْقَاضِي سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ، أَخْبَرَكُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ، أنا الْفَضْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْمَوَازِينِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنا يُوسُفُ الْقَاضِي، أنا أَبُو يَعْلَى التَّمِيمِيُّ، حدثنا محمد بن إسماعيل
__________
1 وقال في "الميزان" "730": قال أبو حاتم: لا بأس به.
2 إسناده ضعيف: أبو حمزة هو ميمون القصاب، ضعيف كما في "الميزان" "8969".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3394" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، ومسلم "168" في كتاب الإيمان، باب: الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والترمذي "3414" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، والنسائي "8/ 312" في كتاب الأشربة، باب: منزلة الخمر.(1/156)
الْوَسَاوِسِيُّ، ثنا ضَمْرَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هانئ، عن أمّ هانئ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَلَسٍ1 وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي فَقَالَ: "شَعَرْتُ أَنِّي نِمْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ فَذَهَبَ بِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابَّةٌ أَبْيَضُ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، مُضْطَرِبُ الْأُذُنَيْنِ، فَرَكِبْتُهُ، وَكَانَ يَضَعُ حَافِرَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، إِذَا أَخَذَ بِي فِي هُبُوطٍ طَالَتْ يَدَاهُ، وَقَصُرَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا أَخَذَ بِي فِي صُعُودٍ طَالَتْ رِجْلَاهُ وَقَصُرَتْ يَدَاهُ، وَجِبْرِيلُ لَا يَفُوتُنِي، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَوْثَقْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُوثِقُ بِهَا، فَنُشِرَ لِي رَهْطٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَكَلَّمْتُهُمْ، وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ، فَشَرِبْتُ الْأَبْيَضَ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: شَرِبْتَ اللَّبَنَ وَتَرَكْتَ الْخَمْرَ، لَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَارْتَدَّتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ رَكِبْتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَصَلَّيْتُ بِهِ الْغَدَاةَ". قَالَتْ: فَتَعَلَّقْتُ بِرِدَائِهِ وَقُلْتُ: أُنْشِدُكَ الله يابن عَمٍّ أَلَا تُحَدِّثُ بِهَذَا قُرَيْشًا فَيُكَذِّبُكَ مَنْ صَدَّقَكَ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رِدَائِهِ فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِي، فَارْتَفَعَ عَنْ بَطْنِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى عُكْنِهِ2 فَوْقَ إِزَارِهِ وَكَأَنَّهُ طَيٌّ الْقَرَاطِيسِ، وَإِذَا نُورٌ سَاطِعٌ عِنْدَ فُؤَادِهِ، يَكَادُ يَخْتَطِفُ بَصَرِي، فَخَرَرْتُ ساجدةً، فلمّا رفعت رأسي إذا وهو قَدْ خَرَجَ، فَقُلْتُ لِجَارِيَتِي نَبْعَةَ: وَيْحَكِ اتْبَعِيهِ فَانْظُرِي، فَلَمَّا رَجَعَتْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى قُرَيْشٍ فِي الْحَطِيمِ3، فِيهِمُ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَسْرَاهُ، فَقَالَ عَمْروٌ كَالْمُسْتَهْزِئِ: صِفْهُمْ لِي، قَالَ: أَمَّا عِيسَى فَفَوْقَ الرَّبْعَةِ4، عَرِيضُ الصَّدْرِ، ظَاهِرُ الدَّمِ، جَعْدُ الشَّعْرِ، تَعْلُوهُ صَهْبَةٌ5، كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَأَمَّا مُوسَى فَضَخْمٌ، آدَمٌ، طُوَالٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، كَثِيرُ الشَّعْرِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُتَرَاكِبُ الْأَسْنَانِ، مُقَلَّصُ الشَّفَتَيْنِ، خَارِجُ اللَّثَةِ، عَابِسٌ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَوَاللَّهِ لَأَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلقًا وخُلقًا، فَضَجُّوا وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُطْعِمُ: كُلُّ أَمْرِكَ كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ أممًا، غير قولك اليوم، أنا
__________
1 الغلس: ظلمة الليل.
2 عكنه: ما انطوى وتثنى من لحم البطن.
3 الحطيم: الحجر.
4 الربعة: المتوسط القامة.
5 الصهبة: حمرة أو شقرة في الشعر.(1/157)
أَشْهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ! نَحْنُ نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا، أَتَيْتَهُ فِي لَيْلَةٍ! 1.
وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، الْوَسَاوِسِيُّ ضَعِيفٌ تفرّد به.
"م" حدثنا محمد بن رافع، حدثنا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثَبِّتْهَا، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي، أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ، كأنّه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مَرْيَمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ" 2.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ أَيْضًا، عَنْ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا.
قَالَ اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا الله لي بيت المقدس، فطففت أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" 3. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كيسان، عن ابن شهاب: سمعت ابن
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أبو صالح ضعيف، ومحمد بن إسماعيل الوساوسي متهم بالوضع كما في "الميزان" "7222".
2 صحيح: أخرجه مسلم "172/ 278" في كتاب الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم، عن زهير بن حرب عن حجين بن المثنى به، ولم أجده عن محمد بن رافع، وقد ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 21" عن محمد بن رافع، فالله أعلم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3886" في كتاب مناقب الأنصار، باب: حديث الإسراء، ومسلم "170" في المصدر السابق، والترمذي "3144" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، والنسائي في "الكبرى" "11282".(1/158)
الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَقِيَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ، فَافْتُتِنَ نَاسٌ كَثِيرٌ كَانُوا قَدْ صَلُّوا مَعَهُ1. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وقال محمد بن كثير المصّيصيّ: حدثنا مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ آمَنَ، وَسَعَوْا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسري بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المقدس! قال: أوقال ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لقد صدق، قالوا: وتصدّقه! قال: نعم إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ2.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى مُوسَى وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ3. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مِقْلَاصٍ الْفَقِيهُ، وَيُونُسُ، وَغَيْرُهُمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- بِالْبُرَاقِ، فَكَأَنَّهَا أَمَرَّتْ ذَنَبَهَا، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: مَهْ يَا بُرَاقُ، فَوَاللَّهِ إِنْ رَكِبَكِ مِثْلُهُ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: "مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ لَهُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ. فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ يَقُولُ: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، قَالَ: فَلَقِيَهُ خَلْقٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يا حاشر، فردّ السلام،
__________
1 مرسل.
2 صحيح: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "4407"، وصححه الألباني في "الصحيحة" "306".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2375" في كتاب الفضائل، باب: من فضائل موسى -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "3/ 120".(1/159)
فَانْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَالْخَمْرَ، وَاللَّبَنَ، فَتَنَاوَلَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ وَغَرِقْتَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَغَوَيْتَ وَغَوَتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ بُعِثَ لَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَّا الْعَجُوزُ فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا عَلَيْكَ فَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى وَعِيسَى1.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَرَوْحٌ، وَغُنْدَرٌ: أنا عَوْفٌ، حدثنا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، ثُمَّ أَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَلِمْتُ بِأَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُونِي"، قال: فقعد معتزلًا حزينًا، فمرّ به أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ فَجَلَسَ فَقَالَ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نَعَمْ"، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ"، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا! قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَلَمْ يُرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ إِلَيْكَ قَوْمَكَ أَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَدَعَا قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنَ لُؤَيٍّ هَلُمَّ، فَانْتَقَضَتِ الْمَجَالِسُ، فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ: حَدِّثْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أُسري بِي اللَّيْلَةَ"، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْنَا! قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَوَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُسْتَعْجِبٌ لِلْكَذِبِ زَعْمٍ، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فذهبت أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النّعت"، قال: "فجئ بِالْمَسْجِدِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عُقَيْلٍ أَوْ عُقَالٍ". قَالَ: "فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ"، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ وَاللَّهِ أَصَابَ2.
وَرَوَاهُ هَوْذَةُ عن عوف.
مسلم بن إبراهيم: حدثنا الحارث بن عبيد، حدثنا أبو عمران، عن أنس قال:
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 362".
2 إسناده حسن: أخرجه أحمد "1/ 309"، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 239": إسناده حسن وكذلك قال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص163".(1/160)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ؛ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ، فَوَكَزَ 1 بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ، فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ، وَقَعَدْتُ فِي أُخْرَى، فَارْتَفَعْتُ حَتَّى سُدَّتِ الْخَافِقَيْنِ 2، فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَمَسَّ السَّمَاءَ لَمَسَسْتُ، وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي فَالْتَفَتُّ إِلَى جِبْرِيلَ، فَإِذَا هُوَ لَاطِئٌ 3، فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ، وَفَتَحَ لِي بَابَ السَّمَاءِ وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِي" 4.
إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ حَسَنٌ، وَالْحَارِثُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ.
سَعِيدُ بن منصور: حدثنا أَبُو مَعْشَرَ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ قال: "يا جيريل إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي؟ "، قَالَ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصِّدِّيقُ.
رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، أنا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَحَدَّثَهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَلَامَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَارْتَدُّوا كُفَّارًا، فَضَرَبَ اللَّهُ رِقَابَهُمْ مَعَ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يُخَوِّفُنَا مُحَمَّدٌ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، هَاتُوا تَمْرًا وَزُبْدًا، فَتَزَقَّمُوا. وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، لَيْسَ بِرُؤْيَا مَنَامٍ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ5.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتِيَ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَلَمْ يُزَايِلَا ظَهْرَهُ هُوَ وَجِبْرِيلُ، حَتَّى انْتَهَيَا بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَأَرَاهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، ثُمَّ قَالَ لِي: هَلْ صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اسْمُكَ يَا أَصْلَعُ، قُلْتُ: زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، قَالَ: فَأَيْنَ تَجِدُهُ صلاّها؟ فتأوّلت
__________
1 ركز: دفع وضرب.
2 الخافقين: المشرق والمغرب.
3 لاطئ: لاصق بالأرض.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 369"، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح "7/ 238": رجاله لا بأس بهم إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله.
5 أخرجه أحمد "1/ 374".(1/161)
الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} 1 قَالَ: فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّى لَصَلَّيْتُمْ كَمَا تُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ: أَرَبَطَ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: أَكَانَ يَخَافُ أَنْ تَذْهَبَ مِنْهُ وَقَدْ أَتَاهُ اللَّهُ بِهَا، كَأَنَّ حُذَيْفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَلَا رَبَطَ الْبُرَاقَ بالحلقة2.
وقال ابن عيينة، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 3 قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُريها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسري بِهِ. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} 4 قال: هي شجرة الزّقّوم5 أخرجه البخاري.
__________
1 سورة الإسراء: 1.
2 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 392، 394" وأخرجه "5/ 387" من طريق آخر عن عاصم به، وأخرجه أيضًا الترمذي "3158" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
قلت: وقد أخرج الترمذي "3143" عن بريدة مرفوعًا "لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبرئيل بأصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"، ففي هذا الحديث إثبات أنه ربط البراق، فهو مقدم على نفي حذيفة -رضي الله عنه- المتقدم، وأما إنكاره لربطه بقوله "وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة" فهذا لا ينافي الأخذ بالأسباب، والله أعلم.
3 سورة الإسراء: 60.
4 سورة الإسراء: 60.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3888" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج، والترمذي "3145" في المصدر السابق.(1/162)
ذِكْرُ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء
...
ذكر المعراج النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّمَاءِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 1 وَقَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2. تَفْسِيرُ ذَلِكَ: قَالَ زَائِدَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي
__________
1 سورة النجم: 5-11.
2 سورة النجم: 13، 14.(1/162)
إسحاق الشّيبانيّ قال: سألت زرّين حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 1 فقال: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سُتُّمِائَةُ جَنَاحٍ2. أَخْرَجَاهُ.
وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ هَذَا، لَكِنْ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 3 فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ4.
وقال "خ" قبيصة: حدثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 5 قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ6.
وقال حمّاد بن سلمة: حدثنا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 7 قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةٍ، عَلَيْهِ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ، يَنْفُضُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلَ الدُّرَّ وَالْيَاقُوتَ" 8. عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ الْقَارِئُ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ9.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ -كَذَا قَالَ- وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُصْعَدُ بِهِ، حَتَّى يُقْبَضَ منها، وإليها مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا، حَتَّى يُقْبَضَ منها {إِذْ يَغْشَى
__________
1 سورة النجم: 9.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3232" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: إذا قال أحدكم "آمين"، ومسلم"174" في كتاب الإيمان، باب: ذكر سدرة المنتهى، والترمذي "3288" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النجم.
3 سورة النجم: 18.
4 صحيح: أخرجه مسلم "174/ 282" في المصدر السابق.
5 سورة النجم: 18.
6 صحيح: أخرجه البخاري "4858" في كتاب التفسير، باب: قَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .
7 سورة النجم: 13.
8 إسناده حسن: أخرجه أحمد "1/ 412" وعاصم هو ابن بهدلة فيه مقال: والراجح أنه حسن الحديث.
9 تأتي ترجمته "733".(1/163)
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} 1 قَالَ: غَشِيَهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ الْمُقْحِمَاتِ2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 3 قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِبْرِيلَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ4.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أبي هريرة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 5 قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ6.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لعائشة: فأين قوله تعالى: {دَنَا فَتَدَلَّى} 7؟ قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ8. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَوَّلَ شَأْنِهِ يَرَى الْمَنَامَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادَ9، أَنَّهُ خَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فصرخ به: يا محمّد يا محمد، نظر يَمِينًا وَشِمَالا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نَظَرَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَفَعَ بَصَرَهُ، فَإِذَا هُوَ ثانيًا إحدى رجليه على الأخرى في
__________
1 سورة النجم: 16.
2 صحيح: أخرجه مسلم "173" في كتاب الإيمان، باب: ذكر سدرة المنتهى، والترمذي "3287"، في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النجم.
3 سورة النجم: 11.
4 أخرجه أحمد "11/ 394".
5 سورة النجم: 13.
6 صحيح: أخرجه مسلم "175" في كتاب الإيمان باب: معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً} .
7 سورة النجم: 8.
8 صحيح: أخرجه البخاري "4855" في كتاب التفسير، باب: سورة "النجم"، ومسلم "177/ 290" في المصدر السابق، والترمذي "3079" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأنعام، واللفظ لمسلم.
9 أجياد: موضع بمكة يلي الصفا.(1/164)
الأفق، فقال: يا محمّد جبريل جِبْرِيلُ، يُسَكِّنُهُ، فَهَرَبَ حَتَّى دَخَلَ فِي النَّاسِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ رَجَعَ فَنَظَرَ فَرَآهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 1.
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2 قال: دنا ربّه منه فتدلّ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
أَخْبَرَنَا التَّاجُ عَبْدُ الْخَالِقِ، أنا ابْنُ قُدَامَةَ، أنا أَبُو زُرْعَةَ، أنا الْمُقَدِّمِيُّ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي الْمُنْذِرِ، أنا ابْنُ سَلَمَةَ، أنا ابن ماجه، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الصَّلْتَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ، بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ، فِيهَا الْحَيَّاتُ، تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا"4. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنِ الْحَسَنِ، وَعَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ وَزَادَ فِيهِ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
أَبُو الصَّلْتِ مَجْهُولٌ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْدَاوِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِلَالٍ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زكريا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَ أَبُو جَعْفَرٍ محمد بن عمرو، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عون قال:
__________
1 سورة النجم: 1.
والخبر إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة سيئ الحفظ.
2 سورة النجم: 13، 14.
3 صحيح: أخرجه الترمذي "3291" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النجم، وقال حسن. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
4 إسناده ضعيف: أخرجه ابن ماجه "2273" في كتاب التجارات، باب: التغليظ في الربا، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
قلت: في إسناده الصلت مجهول كما يأتي، وقال في "الميزان" "10320" لا يعرف وعلي بن زيد سيئ الحفظ.(1/165)
أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ وَخَلْقِهِ، سَادًّا مَا بَيْنَ الْأُفُقِ1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ.
قُلْتُ: قَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ، فَأَنْكَرَتْهَا عَائِشَةُ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّمَا فِيهَا تَفْسِيرُ مَا فِي النَّجْمِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِلَّهِ. وَذَكَرَهَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فُرِج سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَّلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، ثُمَّ أَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مُحَمَّدٌ، قَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، إِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ2، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا. مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ، الدُّنْيَا، فَفَتَحَ".
فَقَالَ أنس: فذكر أنّه وجد في السّماوات: آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ -يَعْنِي أَبَا ذَرٍّ- كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ، فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِدْرِيسَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قَالَ: "ثُمَّ مَرَّ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِدْرِيسُ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4855" في كتاب التفسير، باب: سورة "والنجم"، ومسلم "177/ 287" في كتاب الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، والترمذي "3079" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأنعام.
2 أسودة: جماعة من الناس.(1/166)
الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ" 1.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيُّ كَانَا يقولان: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثمّ عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ" 2.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أمُرّ بِمُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ مُوسَى: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّيَ، فَوَضَعَ عَنِّي شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ رَبِّيَ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ3 اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المسك" 4.
أخبرنا بهذا الحديث يحيى بن أحمد المقري بالإسكندرية، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ الْفَوِّيُّ بِمِصْرَ، قَالَا: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادٍ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِفَاعَةَ، أَنَا عَلِيُّ بن الحسن الشافعي، أنا عبد الرحمن بن عمر البّزار، حدثنا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو المديني، حدثنا أبو موسى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، نا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، فَذَكَرَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ شَطْرَهُ الثَّانِي مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَبَّةَ، إِلَى آخره عن يونس5، فوافقناه بعلّو.
__________
1 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
2 صحيح: أخرجه مسلم "163/ 263" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء.
3 الجنابذ: القباب.
4 صحيح: انظر التخريج السابق.
5 أخرجه النسائي "1/ 221" في كتاب الصلاة، باب: فرض الصلاة.(1/167)
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، وَتَابَعَهُ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ" -وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحِجْرِ- "مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ" فَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ الْأَوْسَطِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ قَالَ: فَأَتَانِي وَقَدْ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ "فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ"، قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِلْجَارُودِ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ؟ قَالَ: "فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتيت بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتيت بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ، وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ"، فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، "يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا آدَمُ فِيهَا، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، فردّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ وَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ(1/168)
هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ؟ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّهُ غُلَامٌ بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ صعد بي حتّى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى. وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ.
فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ. فَقَالَ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.
قَالَ: ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ، خَمْسُونَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ. قُلْتُ: قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، ولكن أرضى(1/169)
وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا نَفَرْتُ نَادَانِي مُنَادٍ، قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ هُدْبَةَ عَنْهُ.
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حدثنا أَنَسٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: "فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشَقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِطُولِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ، بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، قَالَ: فَأُتِيتُ فَانْطَلَقَ بِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا"، قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِصَاحِبِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلَ بَطْنِي، "فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، وَحُشِيَ، أَوْ قَالَ: كُنِزَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً -شَكَّ سَعِيدٌ- ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ وَمَعِي صَاحِبِي لَا يُفَارِقُنِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا".
وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَحَدِيثِ هَمَّامٍ، إِلَى قَوْلِهِ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَزَادَ "يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ" 3.
قُلْتُ: وَهَذِهِ زِيَادَةٌ رَوَاهَا هَمَّامٌ فِي حَدِيثِهِ، وَهُوَ أَتْقَنُ مِنَ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، فَقَالَ: قَالَ قَتَادَةُ، فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ، وفي حديث ابن أبي عروبة زيادة: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 4 إِنَّ وَرَقَهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وَلَفْظُهُ: "ثُمَّ أُتِيتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِخَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ، فَحَطَّ عنّي خمس
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3887" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج.
2 صحيح: أخرجه مسلم "164/ 265" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء.
3 صحيح: أخرجه مسلم "164/ 264" في المصدر السابق.
4 سورة النجم: 14.(1/170)
صَلَوَاتٍ، فَمَا زِلْتُ أَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى كُلَّمَا أُتِيتُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ، حَتَّى رَجَعْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، كُلَّ يَوْمٍ، فَلَمَّا أُتِيتُ عَلَى مُوسَى قَالَ كَمَقَالَتِهِ، قُلْتُ: لَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ فَنُودِيتُ أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، وَجَعَلْتُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا" 1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وشريك ين أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَلَمْ يُسْنِدْهُ لَهُمَا، لَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَلَا عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَأَتَانِي بِإِنَاءَيْنِ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا بِآدَمَ".
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ، "فَإِذَا بِيُوسُفَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لي بخير"، إِلَى أَنْ قَالَ: لَمَّا فُتِحَ لَهُ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ: "فَإِذَا بِإِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، فَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ"، قَالَ: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ. فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا"، قَالَ: فَدَنَا فَتَدَلَّى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، "وَفُرِضَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلَاةً، فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى قَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَرَّبْتُهُمْ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فعلت؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3887" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج، ومسلم "162/ 259" في المصدر السابق.(1/171)
قُلْتُ: قَدْ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: هِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً" 1.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ دُونَ قَوْلِهِ: فَدَنَا فَتَدَلَّى، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، وَهُوَ ثَبْتٌ فِي حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ شريك بن عبد اله بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، وَفِيهِ: ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى2.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ شَيْبَانُ، عن قتادة، عن أبي العالية، حدثنا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأْسِ"، قَالَ: وأُري مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} 3. فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ لَقِيَ مُوسَى4. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، "لَقِيتُ مُوسَى وَعِيسَى، -ثُمَّ نَعَتَهُمَا- وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ" 5.
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ قَنَانٍ النّهميّ، حدثنا أبو ظبيان الجنبي
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "162/ 259" في المصدر السابق.
2 صحيح: أخرجه البخاري "7517" في كتاب التوحيد، باب: ماجاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
3 سورة السجدة: 33.
4 صحيح: أخرجه مسلم "165/ 267" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3394" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ومسلم "168" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء، وقد تقدم.(1/172)
قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: حَدِّثْنَا عَنْ أَبِيكَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا، بَلْ حَدِّثْنَا أَنْتَ عَنْ أَبِيكَ، قَالَ: لَوْ سَأَلْتَنِي قَبْلَ أَنْ أَسْأَلَكَ لَفَعَلْتُ، فَأَنْشَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ يَهْوِي بِنَا، كُلَّمَا صَعِدَ عَقَبَةً اسْتَوَتْ رِجْلَاهُ مَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا هَبَطَ اسْتَوَتْ يَدَاهُ مَعَ رِجْلَيْهِ، حَتَّى مَرَرْنَا بِرَجُلٍ طُوَالٍ سَبِطٍ آدَمٍ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَهُوَ يَقُولُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ وَيَقُولُ: أَكْرَمْتَهُ وَفَضَّلْتَهُ فَدَفَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَلَّمْنَا، فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَدُ.
قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ.
قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: مُوسَى، قُلْتُ: وَمَنْ يُعَاتِبُ؟ قَالَ: يُعَاتِبُ رَبَّهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى رَبِّهِ! قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَفَ لَهُ حِدَّتَهُ.
قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا حَتَّى مَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ كَأَنَّ ثَمَرَهَا السِّرْجُ وَتَحْتَهَا شَيْخٌ وَعِيَالُهُ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: اعْمِدْ إِلَى أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ وَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: ابْنُكَ أَحْمَدُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ، يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَاقٍ رَبَّكَ اللَّيْلَةَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ حَاجَتُكَ أَوْ جُلُّهَا فِي أُمَّتِكَ فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَنَزَلْتُ فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي فِي بَابِ الْمَسْجِدِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَرْبِطُ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ النَّبِيِّينَ مَا بَيْنَ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، ثُمَّ أُتِيتُ بِكَأْسَيْنِ مِنْ عَسَلٍ وَلَبَنٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَضَرَبَ جِبْرِيلُ مَنْكِبِي وَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَمَمْتُهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا فأقبلنا1 ... هذا حديث حسن غريب.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه الحسن بن عرفة في "جزئه" كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 16" وقال الحافظ ابن كثير: إسناد غريب ولم يخرجوه، فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه -عليه السلام- ابتداء، ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه.
قلت: وإسناده منقطع، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لم يسمع من أبيه كما في "التقريب" "8231".(1/173)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ ثَابِتٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أتيت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" 1، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى يُصَلِّي"، وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَعِيسَى قَالَ: "فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ" 2.
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَقِيَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ رَأَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَأَنَّهُ رَاجَعَ مُوسَى؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ مُثِّلُوا لَهُ، فَرَآهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَرَأَى مُوسَى فِي مَسِيرِهِ قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَآهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ هُوَ وَغَيْرَهُ، فَعُرِجَ بِهِمْ، كَمَا عُرِجَ بِنَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ وَسَلَامُهُ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَحَيَاةِ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَيْسَتْ حَيَاتُهُمْ كَحَيَاةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلَا حَيَاةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، بَلْ لَوْنٌ آخَرُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَجْسَادُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَكْبَرُ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ، وَالْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 3.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ، أنا رَوْحٍ عَبْدُ الْمُعِزِّ بْنُ مُحَمَّدٍ كِتَابَةً، أَنَّ تَمِيمَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيَّ أَخْبَرَهُمْ، أَنْبَأَ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنا أَبُو عَمْرُو بْنُ حِمْدَانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عليّ بن المثنّى، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَذِهِ مَاشِطَةُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، كَانَتْ تَمْشُطُهَا، فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: بِاسْمِ اللَّهِ، قَالَتْ بنت فرعون: أبي، قالت: ربّي وربّ
__________
1 صحيح: وقد تقدم من رواية مسلم.
2 صحيح: وقد تقدم من رواية مسلم.
3 سورة البقرة: 3.(1/174)
أَبِيكَ، قَالَتْ: أَقُولُ لَهُ إِذًا، قَالَتْ: قُولِي لَهُ: قَالَ لَهَا: أَوَ لَكِ رَبٌّ غَيْرِي! قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَاحْمِي لَهَا بَقَرَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا لِمَا لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. فألقي ولدها في البقرة وَاحِدًا وَاحِدًا، فَكَانَ آخِرَهُمْ صَبِيٌّ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ". قَالَ ابْنُ عبّاس: فأربعة تكلّموا وهم صبيان مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَصَبِيُّ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَالرَّابِعُ لَا أَحْفَظُهُ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ1.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، عن أبي بكر أَبِي سَبْرَةَ وَغَيْرِهِ قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ السَّبْتِ لِسَبْعِ عَشْرَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَمَانِيَةِ عَشَرَ شَهْرًا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَائِمٌ فِي بَيْتِهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِالْمِعْرَاجِ، فَإِذَا هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ مَنْظَرًا فَعَرَجَ به إلى السماوات سَمَاءً سَمَاءً، فَلَقِيَ فِيهَا الْأَنْبِيَاءَ، وَانْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى2.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جدّه. قال محمد بن عمر: وحدثنا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالُوا: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: فَتَفَرَّقَتْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَطْلُبُونَهُ حِينَ فُقِدَ يَلْتَمِسُونَهُ، حَتَّى بَلَغَ الْعَبَّاسُ ذَا طُوَى، فَجَعَلَ يَصْرُخُ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: "لبّيك" فقال: يابن أَخِي عَنَّيْتَ قَوْمَكَ مُنْذُ اللَّيْلَةَ، فَأَيْنَ كُنْتَ.
__________
1 من أجل عطاء بن السائب صدوق وقد اختلط، ولكن رواية حماد بن سلمة عنه قبل الاختلاط كما في "الصحيحة" "2/ 267-268".
2 معضل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 102" وأبو بكر بن أبي سبرة ومحمد بن عمر كلاهما متروك.(1/175)
قَالَ: "أَتَيْتُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".
قَالَ: فِي لَيْلَتِكَ! قَالَ: "نَعَمْ".
قَالَ: هَلْ أَصَابَكَ إِلَّا خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَا أَصَابَنِي إِلَّا خَيْرٌ".
وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: مَا أُسْرِيَ بِهِ إِلَّا مِنْ بَيْتِنَا: نَامَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنْبَهْنَاهُ لِلصُّبْحِ، فَقَامَ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ قَالَ: يَا أُمَّ هَانِئٍ جِئْتُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمْ.
فَقَالَتْ: لَا تُحَدِّثُ النَّاسَ فَيُكَذِّبُونَكَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ فَتَعَجَّبُوا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ1.
فَرَّقَ الْوَاقِدِيُّ، كَمَا رَأَيْتَ، بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَجَعَلَهُمَا فِي تَارِيخَيْنِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ: أَنْبَأَ رَاشِدٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرْنَا عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِكَ فِيهَا، فَقَرَأَ أوّل {سبحان} 2 وَقَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ عِشَاءً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَيْقَظَنِي، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ عُدْتُ فِي النَّوْمِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نِمْتُ، فَأَيْقَظَنِي، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَإِذَا أَنَا بِهَيْئَةِ خَيَالٍ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، حَتَّى خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا أَنَا بِدَابَّةٍ أَدْنَى شَبَهِهِ بِدَوَابِّكُمْ هَذِهِ بِغَالُكُمْ، مُضْطَرِبَ الْأُذُنَيْنِ، يُقَالَ لَهُ الْبُرَاقُ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَرْكَبُهُ قَبْلِي، يَقَعُ حَافِرُهُ مَدَّ بَصَرِهِ، فَرَكِبْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ عَلَيْهِ إِذْ دَعَانِي دَاعٍ عَنْ يَمِينِي: يَا مُحَمَّدُ أَنْظِرْنِي أَسْأَلْكَ، فَلَمْ أُجِبْهُ، فَسِرْتُ، ثُمَّ دَعَانِي دَاعٍ عَنْ يَسَارِي: يَا مُحَمَّدُ أَنْظِرْنِي أَسْأَلْكَ، فَلَمْ أُجِبْهُ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ حَاسِرَةٍ عَنْ ذِرَاعَيْهَا، وَعَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ، فَقَالَتْ: يَا محمد أنظرني فأسألك، فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَوْثَقْتُ دَابَّتِي بِالْحَلْقَةِ، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءَيْنِ: خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَشَرِبْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، فَحَدَّثْتُ جِبْرِيلَ عَنِ الدَّاعِي الَّذِي عَنْ يَمِينِي، قَالَ: ذَاكَ دَاعِي الْيَهُودِ، لَوْ أَجَبْتَهُ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ، والآخر
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 103" ومحمد بن عمر هو الواقدي، متروك كما تقدم.
2 أي سورة الإسراء.(1/176)
دَاعِي النَّصَارَى، لَوْ أَجَبْتَهُ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ الدُّنْيَا، لَوْ أَجَبْتَهَا لَاخْتَارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، ثُمَّ دَخَلْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيتُ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَلَمْ تَرَ الْخَلَائِقُ أَحْسَنَ مِنَ الْمِعْرَاجِ، أَمَا رَأَيْتُمُ الْمَيِّتَ حِينَ يُشَقُّ بَصَرُهُ طَامِحًا إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَجَبُهُ بِهِ، فَصَعِدْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ، فَإِذَا أَنَا بِمَلَكٍ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ صَاحِبُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 1. فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ: رَوْحٌ طَيِّبَةٌ وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ اجْعَلُوهَا فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْفُجَّارِ، فَيَقُولُ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَنَفْسٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينَ. ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَخْوِنَةٍ -يَعْنِي بِالْخُوَانِ الْمَائِدَةَ- عَلَيْهَا لَحْمٌ مُشَرَّحٌ، لَيْسَ بِقُرْبِهَا أَحَدٌ، وَإِذَا أَنَا بِأَخْوِنَةٍ أُخْرَى، عَلَيْهَا لَحْمٌ قَدْ أَرْوَحَ وَنَتِنَ، وَعِنْدَهَا أُنَاسٌ يَأْكُلُونَ مِنْهَا. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ مِنْ أُمَّتِكَ يَتْرُكُونَ الْحَلَالَ وَيَأْتُونَ الْحَرَامَ، قَالَ: ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ بُطُونُهُمْ أَمْثَالُ الْبُيُوتِ، كُلَّمَا نَهَضَ أَحَدُهُمْ خَرَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ، وَهُمْ عَلَى سَابِلَةِ2 آلِ فِرْعَوْنَ، فَتَجِيءُ السَّابِلَةُ فَتُطَارِدُهُمْ، فَسَمِعْتُهُمْ يَضِجُّونَ إِلَى اللَّهِ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ مَشَافِرُهُمْ كَمَشَافِرِ3 الْإِبِلِ، فَتُفْتَحُ أَفْوَاهُهُمْ وَيُلْقَمُونَ الْجَمْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ فَيَضِجُّونَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بنساء يعلّقن بثديهنّ، فسمعتهنّ يضجن إِلَى اللَّهِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الزُّنَاةُ مِنْ أُمَّتِكَ، ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ يُقَطَّعُ مِنْ جُنُوبِهِمُ اللَّحْمُ، فَيُلَقَّمُونَ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلُّ مَا كُنْتَ تَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ أَخِيكَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ مِنْ أُمَّتِكَ اللَّمَّازُونَ. ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، قَدْ فَضُلَ عَلَى النَّاسِ بِالْحُسْنِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، قلت:
__________
1 سورة المدثر: 31.
2 سابلة: طريقة.
3 المشافر: جمع مشفر، وهو شفة البعير الغليظة.(1/177)
يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَإِذَا أَنَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِمَا. ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، ثُمَّ صَعَدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ، وَنِصْفُ لِحْيَتِهِ بَيْضَاءُ وَنِصْفُهَا سَوْدَاءُ، تَكَادُ لِحْيَتُهُ تُصِيبُ سُرَّتَهُ مِنْ طُولِهَا، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْمُحَبَّبُ فِي قَوْمِهِ، هَذَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى رَجُلٌ آدَمٌ كَثِيرُ الشَّعْرِ، لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ لَنَفَذَ شَعْرُهُ دُونَ الْقَمِيصِ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: يَزْعُمُ النَّاسُ أَنِّي أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِّي، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى. ثُمَّ صَعِدْتُ السَّابِعَةَ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ، سَانِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، فَدَخَلْتُهُ وَدَخَلَ مَعِي طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي، عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، ثُمَّ دُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا كُلُّ وَرَقَةٍ مِنْهَا تَكَادُ أَنْ تُغَطِّي هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَإِذَا فِيهَا عَيْنٌ تَجْرِي، يُقَالُ لَهَا سَلْسَبِيلٌ، فَيُشَقُّ مِنْهَا نَهْرَانِ، أَحَدُهُمَا الْكَوْثَرُ وَالْآخَرُ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَغُفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي
وَمَا تَأَخَّرَ، ثُمَّ إِنِّي دُفِعْتُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَاسْتَقْبَلَتْنِي جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، ثُمَّ أُغْلِقَتْ، ثُمَّ إِنِّي دُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَتَغَشَّى لِي، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، قَالَ: وَنَزَلَ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، ثُمَّ دُفِعْتُ إِلَى مُوسَى، فَذَكَرَ مُرَاجَعَتَهُ فِي التَّخْفِيفِ.
أَنَا اخْتَصَرْتُ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقُلْتُ: رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُهُ".
ثُمَّ أَصْبَحَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِالْعَجَائِبِ، فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُ الْبَارِحَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَعُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، وَرَأَيْتُ كَذَا، وَرَأَيْتُ كَذَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا تُعْجَبُونَ مِمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ حَذَفْتُ نَحْوَ النِّصْفِ منه. رواه نجيّ بن أبي
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 390-396" وأبو هارون العبدي متروك كما في "التقريب" "4840" وقد ساقه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 11-13" ثم قال: ورواه ابن أبي حاتم بسياق طويل حسن أنيق أجود مما ساقه غيره علي غرابته وما فيه من النكارة. ا. هـ. باختصار ثم بين ضعف أبي هارون العبدي.(1/178)
طَالِبٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَهُوَ صَدُوقٌ، عَنْ رَاشِدٍ الْحِمَّانِيِّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْهُ حَمَّادُ بن زيد، وابن الْمُبَارَكِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَالِحُ الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي هَارُونَ عُمَارَةُ بْنُ جُوَيْنٍ الْعَبْدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ شِيعِيٌّ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هَارُونَ أَيْضًا هُشَيْمٌ، وَنُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحَدَّانِيُّ بِطُولِهِ نَحْوَهُ، حَدَّثَ بِهِ عَنْهُمَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هَارُونَ العبدي بطوله. ورواه أسد بن موسى، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هَارُونَ، وَبِسِيَاقِ مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ صَارَ أَبُو هَارُونَ مَتْرُوكًا.
وقال إبراهيم بن حمزة الزّبيريّ: حدثنا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ مَاهَانَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. "ح" وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ القاسم، ويونس بن بكير، وحجّاج الأعور، حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، وَهُوَ عِيسَى بْنُ مَاهَانَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} 1 قَالَ: أُتى بِفَرَسٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ، خَطْوُهُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَارَ وَسَارَ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَأَتَى عَلَى قَوْمٍ يَزْرَعُونَ فِي يَوْمٍ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُضَاعَفُ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِسُبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} 2. ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُرْضَخُ3 رُءُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ، كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ! قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ عَلَى أَقْبَالِهِمْ رِقَاعٌ، وَعَلَى أَدْبَارِهِمْ رِقَاعٌ، يَسْرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الْأَنْعَامُ عَنِ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ، وَرَضْفِ جَهَنَّمَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَتَى عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ، لَا يَمُرُّ بِهَا شَيْءٌ إِلَّا قَصَعَتْهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} 4. ثُمَّ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ جَمَعَ حِزْمَةً عَظِيمَةً لَا يَسْتَطِيعُ حَمْلَهَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يزيد عليها،
__________
1 سورة الإسراء: 1.
2 سورة سبأ: 39.
3 ترضخ: تكسر.
4 سورة الأعراف: 86.(1/179)
قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِكَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ. قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ.
ثُمَّ نَعَتَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَدَخَلَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ1.
وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِي ثَلَاثِ وَرَقَاتٍ كِبَارٍ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ، وَالْحَدِيثُ مُنْكَرٌ يُشْبِهُ كَلَامَ الْقُصَّاصِ، إِنَّمَا أَوْرَدْتُهُ لِلْمَعْرِفَةِ لَا لِلْحُجَّةِ.
وَرَوَى فِي الْمِعْرَاجِ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ حَدِيثًا، وَلَيْسَ بِثِقَةٍ2، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. آخِرُ الْإِسْرَاءِ.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل""2/ 397-403" وأبو جعفر الرازي سيئ الحفظ كما في "التقريب" "8019" وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 21": في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة.
2 فهو متهم بالكذب كما يأتي في ترجمته "1491".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3935" في كتاب مناقب الأنصار، باب: التاريخ، وأبو نعيم في "الحلية" "9002".(1/180)
زَوَاجُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَائِشَةَ وَسَوْدَةَ أمي المؤمنين:
قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَا ابْنَةُ سِتٍّ، وَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ جَاءَنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا أَلْعَبُ عَلَى أُرْجُوحَةٍ، وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ1، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي، ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَيْهِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَمَكَثْتُ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ2. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا مُرْسَلًا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، أَرَى أَنَّ رَجُلا يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُ فَأَرَاكِ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ" 4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: أَلَا تُزَوَّجُ؟ قَالَ: "وَمَنْ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بكرًا وإن شئت ثيبًا.
__________
1 مجممة: الجمة هي مجتمع الشعر.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3894" في كتاب مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة، ومسلم "1422" في كتاب النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة، وأبو داود "4933-4937" في كتاب الأدب، باب: في الأرجوحة.
3 أخرجه البخاري "3896" في المصدر السابق، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 265": وهو في الجملة صحيح.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3895" في المصدر السابق، ومسلم "2438" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة -رضي الله عنها.(1/181)
قَالَ: "مَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ" ?.
فَقَالَتْ: أَمَّا الْبِكْرُ فَعَائِشَةُ بِنْتُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ.
وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ، قَالَ: "اذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ".
قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّ رُومَانَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ رُومَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، قَالَتْ: مَاذَا؟
قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ عَائِشَةَ.
قَالَتِ: انْتَظِرِي فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ آتٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ.
فَقَالَ: أَوَتَصْلُحُ لَهُ وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَخُوهُ وَهُوَ أَخِي وَابْنَتُهُ تَصْلُحُ لِي".
قَالَتْ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ رومان: إنّ المطعم ين عَدِيٍّ قَدْ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللَّهِ مَا أُخلف وَعْدًا قَطُّ، تَعْنِي أَبَا بَكْرٍ.
قَالَتْ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ الْمُطْعِمَ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ فَأَقْبَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: لَعَلَّنَا إِنْ أَنْكَحْنَا هَذَا الْفَتَى إِلَيْكَ تُصْبِئْهُ وَتُدْخِلْهُ فِي دِينِكَ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَتَقُولُ مَا تَسْمَعُ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْعِدِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا: قُولِي لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْيَأْتِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَلَكَهَا، قَالَتْ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَأَبُوهَا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ جَلَسَ عَنِ الْمَوْسِمِ فَحَيَّيْتُهُ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُلْتُ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، قَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قُلْتُ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، فَرَحَّبَ بِي وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَذْكُرُ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَ: كُفْؤٌ كَرِيمٌ مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ؟ قُلْتُ: تُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: قُولِي لَهُ فَلْيَأْتِ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَلَكَهَا. قَالَتْ: وَقَدِمَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثُو عَلَى رَأْسِي التُّرَابَ أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَوْدَةَ1. إسناده حسن.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 411، 412"، وأخرجه أحمد "6/ 210، 211" مرسلًا.(1/182)
عَرْضُ نَفْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْقَبَائِلِ:
قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي" 1. أخرجه دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تِلْكَ السِّنِينِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ، لَا يَسْأَلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، وَيَقُولُ:
لَا أُكره أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَاكَ، ومن كره لم أكرهه، إنّما أُرِيدُ أَنْ تُحْرِزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ، حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ وَيَقُولُونَ: قَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ، وَلَفَظُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ.
وَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، وَابْتُلِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ مَا كَانَ، فَعَمَدَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ، فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ، هُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ: عَبْدُ يَالِيلَ، وَحَبِيبٌ، وَمَسْعُودُ بَنُو عَمْرٍو، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ، وَمَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ.
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَسْرِقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ بَعَثَكَ قَطُّ.
وَقَالَ الْآخَرُ: أَعْجَزَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ.
وَقَالَ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ مَجْلِسِكَ هَذَا، وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَأَنْتَ أَشَرُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ وَتَهَزَّءُوا بِهِ، وَأَفْشَوْا فِي قَوْمِهِمُ الَّذِي رَاجَعُوهُ بِهِ، وقعدوا له صفّين
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "3734" وفي كتاب السنة، باب: في القرآن، والترمذي "2934" في كتاب فضائل القرآن، باب: رقم "24"، وابن ماجه "201" في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد "3/ 390"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "8/ 447". وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/183)
عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ وَأَدْمَوْا رِجْلَيْهِ، فَخَلُصَ مِنْهُمْ وَهُمَا تَسِيلَانِ الدِّمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِهِمْ، وَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ حَبَلَةٍ1 مِنْهُ، وَهُوَ مَكْرُوبٌ مُوجَعٌ، فَإِذَا فِي الْحَائِطِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ أَخُوهُ، فَلَمَّا رَآهُمَا كَرِهَ مَكَانَهُمَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا، فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَرْسَلَا إِلَيْهِ غُلَامًا لَهُمَا يُدْعَى عَدَّاسًا، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، مَعَهُ عِنَبٌ، فَلَمَّا جَاءَ عَدَّاسٌ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ"؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ نِينَوَى2، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ متّى"؟ فقال: ما يُدْرِيكَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟ قَالَ: "أَنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ أخبرني خبر يونس"، فَلَمَّا أَبْصَرَ عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ مَا يَصْنَعُ غُلَامُهُمَا سَكَتَا، فَلَمَّا أَتَاهُمَا قَالا: مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ وَقَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ، أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ عَرَفْتُهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى، فَضَحِكَا بِهِ، وَقَالَا: لَا يَفْتِنْكَ عَنْ نَصْرَانِيَّتِكَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ خَدَّاعٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَكَّةَ3.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "مَا لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ، يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ 4، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، ثُمَّ نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ"، فَقَالَ لَهُ
__________
1 الحبلة: شجرة العنب.
2 نينوى: مدينة بالعراق.
3 مرسل.
4 قرن الثعالب: موضع على مسافة يوم وليلة من مكة.(1/184)
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَشْرَارِهِمْ -أَوْ قَالَ: مِنْ أَصْلَابِهِمْ- مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" 1. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ البكّائيّ، عن ابن إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: لَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الطَّائِفِ، عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَتُهُمْ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو، وَأَخَوَاهُ مَسْعُودٌ وَحَبِيبٌ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ جُمَحٍ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ مَنْ يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ؟ وَقَالَ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ2.
وَذَكَرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِيمَا ذُكِرَ لِي: "اللَّهُمُّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ"3.
وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ يُحَدِّثُ أَبِي قَالَ: إِنِّي لَغُلَامٌ شَابٌّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقِفُ عَلَى الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ، يَقُولُ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا وَتُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ، قَالَ: وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَوْلِهِ قَالَ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلَخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَحُلَفَاءَكُمْ من الحيّ من بني مالك بن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3231" في كتاب بدء الخلق، ومسلم "1795" في كتاب الجهاد، باب: ما لقي النَّبِيّ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذى المشركين.
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "السيرة" "1/ 384، 385".
3 معضل: ذكره ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 385، 386" بدون إسناد.(1/185)
أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ1.
وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مُلَيْحٌ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ2.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ، إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَلَمْ يَقْبَلُوا3.
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا مِنْهُمْ4.
وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: "الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"، قَالَ: أَفَتُهْدَفُ5 نُحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا، لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ6.
__________
1 إسناده صعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 387-388"، وحسين بن عبد الله ضعيف.
2 مرسل: انظر المصدر السابق "1/ 388".
3 مرسل: انظر المصدر السابق.
4 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 388" عن بعض أصحابه، عَنْ عبد الله بْن كعب بْن مالك.
5 أي تصير هدفًا.
6 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 388-389".(1/186)
حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِت:
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حدثني عاصم بن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ سُوَيْدٌ يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمُ "الْكَامِلَ" لِسِنِّهِ وَجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ، فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا الَّذِي مَعَكَ"؟ قَالَ: مِجَلَّةُ لُقْمَانَ، يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ، قَالَ: "اعْرِضْهَا"، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْهُ، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ"، فَتَلَا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَقَوْلٌ حَسَنٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ، فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَى أَنَّهُ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ بُعَاثٍ1.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَسُوَيْدٌ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى ... مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي
مَقَالَتُهُ كَالشَّهْدِ مَا كان شاهدًا ... وبالغيب مأثور على يغرة النَّحْرِ
يَسُرُّكَ بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيمِهِ ... تَمِيمَةُ غِشٍّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظَّهْرِ2
تُبَيِّنُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ ... مِنَ الْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنَّظَرِ الشَّزْرِ3
فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتَنِي ... وَخَيْرُ الْمَوَالِي يريش ولا يبري4
__________
1 أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 389، 390".
2 تبتري: تقطع. وعقب الظهر: عصبه.
3 الشزر: نظرة الإعراض.
4 رشني: قواني. وبريتني: أضعفتني.(1/187)
حَدِيثُ يَوْمِ بُعَاثٍ:
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ " قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: "أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى الْعِبَادِ"، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسٌ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: يَا قَوْمُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ، فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ حِفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَيَضْرِبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، فَسَكَتَ، وَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُمْ وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِي أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ، وَكَانُوا لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا. وَقَدْ كَانَ اسْتُشْعِرَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا سَمِعَ1.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وقد افترق ملؤهم وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ -يَعْنِي وَجُرِّحُوا- قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ في دخولهم في الإسلام2. أخرجه البخاري.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 391" والحصين قال في "التقريب": مقبول أي إذا توبع، وإلا فلين.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3777" في كتاب مناقب الأنصار، باب: رقم "1".(1/188)
ذكر مبدأ خبرالأنصار وَالْعَقَبَةِ الْأُولَى:
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ: حدثنا هشام بن محمد الكلبيّ، حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعَتْ قُرَيْشٌ قَائِلًا يَقُولُ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ:
فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ ... بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَنِ السَّعْدَانِ؟ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، أَوْ سَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ؟ فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ سَمِعُوا الْهَاتِفَ يَقُولُ:
أَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا ... وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ1
أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا ... عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ2
فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ لِلطَّالِبِ الْهُدَى ... جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتُ رَفَارِفِ3
__________
1 الغطارف: جمع الغطريف، وهو السيد.
2 المنية: الأمنية.
3 الرفارف: جمع الرفرف، وهي الوسادة.(1/188)
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ1.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ2: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ الْأَنْصَارُ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا لَقِيَهُمْ قَالَ: "مَنْ أَنْتُمْ؟ " قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: "أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ غَزَوْهُمْ بِبِلادِهِمْ، فكانوا إذا كان بهم شَيْءٌ قَالُوا: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ، قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ، فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ تَعَلَّمُوا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا تَسْبِقَنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَأَسْلَمُوا وَقَالُوا: إِنَّا تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ بِكَ فَسَنُقْدِمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ بِهِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ سِتَّةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الزُّرَقِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ السُّلَمِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ بَدَلَ عُقْبَةَ: مُعَوَّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ غُنْمٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَفَشَا فِيهِمْ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ "الْعَقَبَةُ الْأُولَى"، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بيعة النّساء، وذك قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبُ، وَهُمْ أَسْعَدُ بن زرارة، وعوف، ومعوّذ ابنا الحارث
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: هشام الكلبي متروك كما تقدم.
2 ذكره في "السيرة" "1/ 391-392".
3 ذكره في "السيرة" "1/ 392-393".(1/189)
وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْبَلَوِيُّ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَهُمَا مِنَ الْأَوْسِ.
وَقَالَ يُونُسُ وَجَمَاعَةٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى، وَنَحْنُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَاهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ، عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ بِذَلِكَ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ1. أَخْرَجَاهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ.
أَخْبَرَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَا: أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْبُنِّ، أنا جَدِّي أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ الْمُعَدَّلُ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نقول في الله عزّ وجل، ولا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الْجَنَّةُ2. رَوَاهُ زُهَيْرُ بن معاوية، عن ابن
__________
1 صحيح: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 394" والبخاري "3892" في كتاب مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار، ومسلم "1709" في كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها.
2 في إسناده مقال، أخرجه أحمد "5/ 325"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 451-452"، وإسماعيل بن عبيد الله قال في "التقريب": مقبول، أي إذا توبع وإلا فلين، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 193": هذا إسناد جيد قوي.(1/190)
خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُبَادَةَ قَالَ نَحْوَهُ. "خَالَفَهُ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، فَرَوَيَا عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ هَذَا الْمَتْنَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَهُوَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. وَسَيَأْتِي".
وَقَالَ الْبَكَّائِيّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ1: فَلَمَّا انْصَرَفَ الْقَوْمُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيَّ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يُسَمَّى مُصْعَبٌ بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنُ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ مَا لَكَ إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلَّيْتَ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ! قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمٍ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ2، قُلْتُ: وَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا3.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ الْمَوْسِمُ حَجَّ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ تَغْلِبَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَأَيْقَنُوا بِهِ وَاطْمَأَنُّوا وَعَرَفُوا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَصَدَّقُوهُ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَنَحْنُ حِرَاصٌ عَلَى مَا أَرْشَدَكَ اللَّهُ بِهِ، مُجْتَهِدُونَ لَكَ بِالنَّصِيحَةِ، وَإِنَّا نُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيِنَا، فَامْكُثْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى قَوْمِنَا فَنَذْكُرَ لَهُمْ شَأْنَكَ، وَنَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّ اللَّهُ يُصْلِحُ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَنُوَاعِدُكَ الْمَوْسِمَ مِنْ قابل، فرضي بذلك
__________
1 ذكره في "السيرة" "1/ 395".
2 نقيع الخضمات: من أودية الحجاز.
3 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 395-396".(1/191)
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ سِرًّا وَتَلَوْا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا قَدْ أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْ قِبَلِكَ يُفَقِّهْنَا، فَبَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ فِي بَنِي تَمِيمٍ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ يَدْعُو النَّاسَ سِرًّا، وَيَفْشُو فِيهِمُ الْإِسْلَامُ وَيَكْثُرُ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ، فَجَلَسَا عِنْدَ بِئْرِ بَنِي مَرْقٍ1، وَبَعَثَا إِلَى رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَوْهُمَا مُسْتَخْفِينَ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ويَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَأَتَاهُمْ فِي لأْمَتِهِ2 مَعَهُ الرُّمْحُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ: عَلَامَ أَتَيْتَنَا فِي دُورِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ، يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، لَا أَرَاكَ بَعْدَهَا تُسِيءُ مِنْ جِوَارِنَا، فَقَامُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا مَرَّةً أُخْرَى لِبِئْرِ بَنِي مَرْقٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَذَكَرُوا لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الثَّانِيَةَ فَجَاءَهُمْ، فَتَوَاعَدَهُمْ وَعِيدًا دُونَ وَعِيدِهِ الأول، فقال له أسعد: يابن خَالَةٍ، اسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنْ سَمِعْتَ حَقًّا فَأَجِبْ إِلَيْهِ، وَإِنْ سَمِعْتَ مُنْكَرًا فَارْدُدْهُ بِأَهْدَى مِنْهُ، فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3 فَقَالَ سَعْدٌ: مَا أَسْمَعُ مِنْكُمْ إِلَّا مَا أَعْرِفُهُ، فَرَجَعَ سَعْدٌ وَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُمَا إِسْلَامَهُ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ إِسْلَامَهُ وَقَالَ: مَنْ شَكَّ مِنْهُمْ فِيهِ فَلْيَأْتِ بِأَهْدَى مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ أَمْرٌ لَتُحَزَّنَّ مِنْهُ الرِّقَابُ، فَأَسْلَمَتْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ عِنْدَ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، إِلَّا مَنْ لَا يُذْكَرُ.
ثُمَّ إِنَّ بَنِي النَّجَّارِ أَخْرَجُوا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، وَاشْتَدُّوا عَلَى أَسْعَدَ، فَانْتَقَلَ مُصْعَبٌ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَدْعُو آمِنًا وَيَهْدِي اللَّهُ بِهِ. وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَكُسِرَتْ أَصْنَامُهُمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَعَزَّ مَنْ بِالْمَدِينَةِ، وكان مصعب أوّل من جمّع بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَكَذَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إِنَّ مُصْعَبًا أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ4.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن المغيرة بن معيقيب،
__________
1 بئر في المدينة.
2 لأمته: أداة الحرب.
3 سورة الزخرف: 1-3.
4 مرسل.(1/192)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ ابن خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ، وَقَالَا عَلَى بِئْرِ مَرْقٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا نَاسٌ، وَكَانَ سَعْدٌ وَأَسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَيِّدَيْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِهِ قَالَ سَعْدٌ لِأُسَيْدٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ فَازْجُرْهُمَا وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فلولا أسعد بن زرارة ابن خَالَتِي كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ، قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا، وَاعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فقال له مصعب: أوتجلس فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَّزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، وقرأ عليه القرآن، فقالا فما بَلَغَنَا: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ، قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ وَتَتَطَهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ مُقْبِلًا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَلَّى له، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَمَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيَخْفِرُونَكَ، فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضَبًا مُبَادِرًا مُتَخَوِّفًا، فَأَخَذَ الْحَرْبَةَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ عَنَّا شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا. ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ مِنِّي هَذَا، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ! وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: أَيْ مُصْعَبُ جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءِهِ، إِنْ يَتْبَعْكَ لَا يَتَخَلَّفْ عنك منهم اثنان، فقال: أو تقعد فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ: أَنْصَفْتَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ وَاللَّهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ.(1/193)
ثُمَّ فَعَلَ كَمَا عَمِلَ أُسَيْدٌ، وَأَسْلَمَ، وَأَخَذَ حَرْبَتَهُ، وَأَقْبَلَ عَائِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، وَمَعَهُ أُسَيْدٌ، فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ سَعْدٌ إِلَيْكُمْ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذهب به من عندكم، فقال: يا نبي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْرِفُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً قَالَ: فَإِنَّ كلام رجال وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا، فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً، وَرَجَعَ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ إِلَى مَنْزِلِهِمَا، وَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إلا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَخَطْمَةَ، وَوَائِلٍ، وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسُ اللَّهِ وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الأَسْلَتِ، وَهُوَ صَيْفِيٌّ، وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ وَقَائِدًا، يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَضَتْ أُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ1.(1/194)
الْعَقَبَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، وداود العطّار وهذا لفظه: حدثنا ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ الْحَاجَّ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ: مِجَنَّةُ1، وَعُكَاظٌ، وَمِنًى، يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي وَيَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَلَا يَجِدُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَرْحَلُ صَاحِبُهُ مِنْ مُضَرَ أَوِ الْيَمَنِ، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ أَوْ ذُو رَحِمِهِ يَقُولُونَ: احْذَرْ فَتَى قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْكَ، يَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِهِمْ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ يَثْرِبَ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ يظهرون الإسلام، ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رَجُلًا مِنَّا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدَنَا شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا فِيهِ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، حَتَّى تَوَافَيْنَا عِنْدَهُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أن تقولوا في الله، لا
__________
1 مجنة: سوق من أسواق العرب في الجاهلية.(1/194)
تَأْخُذْكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ يَثْرِبَ، تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ" فَقُلْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، إِلَّا أَنَا، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى عَضِّ السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ. فَقُلْنَا: أَمِطْ يَدَكَ يَا أَسْعَدُ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ نُبَايِعُهُ رَجُلًا رَجُلًا، يَأْخُذُ عَلَيْنَا شَرْطَهُ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ1.
زَادَ فِي وَسَطِهِ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ يابن أَخِي لَا أَدْرِي مَا هَذَا الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ، إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا، قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا: عَلَامَ نُبَايِعُكَ.
وَقَالَ أبو نعيم: حدثنا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِيلُ الْخُطْبَةَ، فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، فَقَالَ أَسْعَدُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا عَلَى اللَّهِ، قَالَ: "أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَلِأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ"، قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، قَالَ: "لَكُمُ الْجَنَّةُ"، قَالُوا: فَلَكَ ذَلِكَ2.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زائدة، نا مجالد، عن
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 322-323" من طريق آخر عن ابن خثيم، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 263": إسناده حسن. وقال الألباني في "الصحيحة" "63": إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد صرح أبو الزبير بالتحديث في بعض الطرق عنه.
2 مرسل: أخرجه أحمد "4/ 119-120" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 450" وانظر ما يأتي.(1/195)
الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ بِنَحْوِهِ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا1.
وَقَالَ ابْنُ بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ أَخَا بَنِي سَالِمٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ تَدْرُونَ عَلَى مَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا أَنْهَكَتْ أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ وَأَشْرَافَكُمْ قَتْلًا، تَرَكْتُمُوهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْتَعْلِنُونَ بِهِ وَافُونَ لَهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ عَاصِمٌ: فَوَاللَّهِ مَا قَالَ الْعَبَّاسُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا لِيَشِدَّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَا الْعِقْدَ2.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ: مَا قَالَهَا إِلَّا لِيُؤَخِّرَ بِهَا أَمْرَ الْقَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، لِيَشْهَدَ أَمْرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن أبيّ، فيكون أقوى، قالوا: فما بالنا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ"، قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، وَبَايَعُوهُ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَيْهِمْ غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ"3.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، وقاله مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَهَذَا لَفْظُهُ: إِنَّ الْعَامَ الْمُقْبِلَ حَجَّ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا، أَرْبَعُونَ مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ وَثَلَاثُونَ مِنْ شَبَابِهِمْ، أَصْغَرُهُمْ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْبَيْعَةِ أَجَابُوهُ وَقَالُوا: اشْتَرِطْ عَلَيْنَا لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: "أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ". فَلَمَّا طَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الشَّرْطِ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ الْمَوَاثِيقَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْوَفَاءِ، وَعَظَّمَ الْعَبَّاسُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَذَكَرَ أَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سُلْمَى بِنْتَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بطوله4.
__________
1 إسناده ضعيف.: أخرجه أحمد "4/ 120" ومجالد ضعيف.
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 404".
3 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في المصدر السابق.
4 مرسل.(1/196)
قَالَ عُرْوَةُ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ عُمَارَةَ وَزَوْجُهَا وَابْنَاهُمَا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْقَيْنِ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي الْحَجَّةِ الَّتِي بَايَعْنَا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعَقَبَةِ مَعَ مُشْرِكِي قَوْمِنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ تَعَلَّمُوا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونَنِي عليه أم لا، فقلنا: ومات هُوَ يَا أَبَا بِشْرٍ؟ قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ إِلَى هَذِهِ الْبَنِيَّةِ وَلَا أَجْعَلَهَا مِنِّي بِظَهْرٍ، فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ لَا تَفْعَلْ، وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى الله عليه وسلم- يصلّ إِلَّا إِلَى الشَّامِ، قَالَ: فَإِنِّي وَاللَّهِ لَمُصَلٍّ إِلَيْهَا، فَكَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَتَوَجَّهْنَا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فقال لي البراء: يابن أَخِي انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ، فَلَقَدْ وَجَدْتُ فِي نَفْسِي بِخِلَافِكُمْ إِيَّايَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَقِيَنَا رَجُلٌ بِالْأَبْطَحِ، فَقُلْنَا: هَلْ تَدُلُّنَا عَلَى مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفَانِهِ إِنْ رَأَيْتُمَاهُ؟ قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُهُ، كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْنَا بِالتِّجَارَةِ، فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَانْظُرُوا الْعَبَّاسَ، قَالَ: فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَبَّاسُ نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ جَالِسَيْنِ، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وفوالله مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّاعِرُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ البراء: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي قَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ فِي سَفَرِي هَذَا رَأْيًا، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ، قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ: رَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا"، فَرَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلُهُ يَقُولُونَ: قَدْ مَاتَ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ، قَدْ رَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ.
ثُمَّ وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَقَبَةَ، أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا لِلْبَيْعَةِ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ وَالِدُ جَابِرٍ، وَإِنَّهُ لَعَلَى شِرْكِهِ، فَأَخَذْنَاهُ فَقُلْنَا: يَا أَبَا جَابِرٍ وَاللَّهِ إِنَّا لَنَرْغَبُ بِكَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. فَتَكُونَ(1/197)
لِهَذِهِ النَّارِ غَدًا حَطَبًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بعث رسولًا يأمر بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَقَدْ أَسْلَمَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْبَيْعَةِ، فَأَسْلَمَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، وَحَضَرَهَا مَعَنَا فَكَانَ نَقِيبًا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَعَدْنَا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًّى أَوَّلَ اللَّيْلِ مَعَ قَوْمِنَا، فَلَمَّا اسْتَثْقَلَ النَّاسُ مِنَ النَّوْمِ تَسَلَّلْنَا مِنْ فُرُشِنَا تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِالْعَقَبَةِ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، أَحَبَّ أنَ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ فِي مَنْعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبِلَادِهِ، قَدْ مَنَعْنَاهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا مِنْهُ، وَقَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَى مَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا وَعَدْتُمُوهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِذْلَانًا فَاتْرُكُوهُ فِي قَوْمِهِ، فَإِنَّهُ فِي مَنْعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ، فَقُلْنَا: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَكَلَّمَ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، وَتَلَا الْقُرْآنَ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَجَبْنَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَقُلْنَا لَهُ: خُذْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ، فَقَالَ: "إِنِّي أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ"، فَأَجَابَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلَقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَعَرَضَ فِي الْحَدِيثِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنِ اللَّهُ أَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ فَقَالَ: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ وَأُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ"، فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا"، فَأَخْرَجُوهُمْ لَهُ، فَكَانَ نَقِيبَ بَنِي النَّجَّارِ. أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَنَقِيبَ بَنِي سَلَمَةَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَنَقِيبَ بَنِي سَاعِدَةَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَنَقِيبَ بَنِي زُرَيْقٍ: رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَنَقِيبَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَنَقِيبَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ بَدَلَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ- وَنَقِيبَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَنَقِيبَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ- أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَرَبَ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ فَبَايَعُوا، فَصَرَخَ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصَّبَأَةِ(1/198)
مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أُزَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ، ارْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ". فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ" فَرُحْنَا إِلَى رِحَالِنَا فَاضْطَجَعْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، أَقْبَلَتْ جِلَّةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَتًى شَابٌّ وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَتَانِ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا لِتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنَ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا مِنْ شَيْءٍ، وَمَا فَعَلْنَا، فَلَمَّا تَثَوَّرَ الْقَوْمُ لِيَنْطَلِقُوا قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُشْرِكُهُمْ فِي الْكَلَامِ: يَا أَبَا جَابِرٍ -يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو- أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَكَهْلٌ مِنْ كُهُولِنَا، لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهُ الْحَارِثُ، فَرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَلْبَسَنَّهُمَا، فَقَالَ أَبُو جَابِرٍ: مَهْلًا أَحْفَظْتَ لَعَمْرِ اللَّهِ الرَّجُلَ -يَقُولُ: أَخْجَلْتَهُ- ارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَرَدُّهُمَا، فَأْلٌ صَالِحٌ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَسْلِبَهُ1.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ فَأَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَعْنِي ابْنَ سَلُولٍ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَوَّتُوا عَلَيَّ بِمِثْلِهِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ2.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُمْ: "ابْعَثُوا مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نقيبًا كفلا عَلَى قَوْمِهِمْ، كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ"، فَقَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَنْتَ نَقِيبٌ عَلَى قَوْمِكَ، ثُمَّ سَمَّى النُّقَبَاءَ كَرِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ مَالِكٍ3.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الأنصار أنّ جبريل
__________
1 صحيح: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 399-400"، وأحمد "3/ 460-462"، وابن جرير الطبري في "تاريخه" "2/ 90-93"، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص177": هذا سند صحيح.
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 406".
3 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 403-404".(1/199)
-عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يُشِيرُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ نَقِيبًا، قَالَ مَالِكٌ: كُنْتُ أَعْجَبُ كَيْفَ جَاءَ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، وَمِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلَانِ، حَتَّى حَدَّثَنِي هَذَا الشَّيْخُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْبَيْعَةِ، قَالَ مَالِكٌ: وَهُمْ تِسْعَةُ نُقَبَاءَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ1.
وَقَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ2.
__________
1 إسناده ضعيف: وهو مرسل.
2 ذكره في "السيرة" "1/ 409-417".(1/200)
تسمية من شهداء العقبة
...
تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ:
قُلْتُ: تَرَكْتُ النُّقَبَاءَ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمُوا.
فَمِنَ الْأَوْسِ: سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ.
وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ: ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَبُهَيْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: رفعة بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ -وَعَدَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ نَقِيبًا عِوَضَ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ أَمِيرُ الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَئِذٍ اسْتُشْهِدَ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ.
فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَوْسِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَمِنَ الْخَزْرَجِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَأَخُوهُ عَوْفٌ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: سَهْلُ بْنُ عتيك، بدريّ.
ومن بني عمر بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمْ بَنُو حُدَيْلَةَ: أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ.
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ غَزِيَّةَ.
وَمِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ صَاحِبُ النِّدَاءِ، وَخَلادُ بْنُ سُوَيْدٍ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو.(1/200)
وَمِنْ بَنِي بَيَاضَةَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي سَلَمَةَ: بِشْرُ بن البراء بن معرور ابن أحد النّقياء، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيٍّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَسْعُودُ بْنُ يَزِيدَ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ حَارِثَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ حَرَامٍ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ.
وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ سَوَادٍ: سُلَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو البسر كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَيْفِيُّ بْنُ سَوَادٍ.
وَمِنْ بَنِي نَابِي بْنِ عَمْرٍو: ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَقُتِلَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَخُوهُ عَمْرٌو، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَخَالِدُ بْنُ عَدِيٍّ.
وَمِنْ بَنِي حَرَامٍ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَثَابِتُ بْنُ الْجَذْعِ، اسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَخُدَيْجُ بْنُ سَلَامَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْبَلَوِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ.
وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ: رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: النَّقِيبَانِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الَّذِي كَانَ أَمِيرًا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ فَاسْتُشْهِدَ.
وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ فَأُمُّ مَنِيعٍ أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، وَأُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، حَضَرَتْ وَمَعَهَا زَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنَاهَا حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَحَبِيبٌ هُوَ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَقَطَّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ الْبَيْعَةِ، فَتَّشَتْ قُرَيْشٌ مِنَ الْغَدِ عَنِ(1/201)
الْخَبَرِ وَالْبَيْعَةِ، فَوَجَدُوهُ حَقًّا، فَانْطَلَقُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَهَرَبَ مُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَشَدُّوا يَدَيْ سَعْدٍ إِلَى عُنُقِهِ بتسعة1، وكان ذا شعر كثير، فطفقوا يحبذونه بِجُمَّتِهِ وَيَصُكُّونَهُ وَيَلْكِزُونَهُ، إِلَى أَنْ جَاءَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَعْدٌ يُجِيرُهُمَا إِذَا قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَأَطْلَقَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَخَلَّيَا سَبِيلَهُ.
قَالَ: وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ قَدْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ سَادَةِ بَنِي سَلَمَةَ، وَقَدِ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ مَنَافٌ فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمَا، كَانُوا يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِهِ فَيَأْخُذُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ الْحُفَرِ، وَفِيهَا عُذْرُ النَّاسِ، مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيْلَكُمْ مَنْ عَدَا عَلَى آلِهَتِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ! ثُمَّ يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ هَذَا لَأَخْزَيْتُهُ. فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ فَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مَرَّاتٍ، وَفِي الْآخِرِ عَلَّقَ عَلَيْهِ سَيْفَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا تَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، وَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَعَلَّقُوهُ وربطوه به وألقوه في جبّ عذرة، فإذا عَمْرٌو فَلَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِالْكَلْبِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ، وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَالَ:
تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ
أُفٍّ لِمَصْرَعِكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... الْآنَ فَتَشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ2
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ ... الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ وَدَيَّانِ الدِّيَنْ
هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظلمة قبر مرتهن3
__________
1 النسعة: سير مضفور تشد به الحقائب.
2 مستدن: دنيء ذليل. والغبن: السفه.
3 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 408-409".(1/202)
ذِكْرُ أَوَّلِ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ:
عُقَيْلٌ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ: "قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً 1 ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ. وَهُمَا الْحَرَّتَانِ"، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَرَجَعَ إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَتَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي الْحَرْبِ وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنُّصْرَةِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا وَاللُّحُوقِ بِالْأَنْصَارِ، فَخَرَجُوا أَرْسَالًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عبد الأسد إلى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهَا قَبْلَ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى بِسَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ مَكَّةَ، فَآذَتْهُ قُرَيْشٌ، وَبَلَغَهُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَسْلَمُوا، فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ3.
فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ رَحَّلَ لِي بَعِيرَهُ، ثُمَّ حَمَلَنِي وَابْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُنِي. فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا عَلَيْهَا، هَذِهِ، عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ! فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ، وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سَلَمَةَ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، فَانْطَلَقَ زوجي إذ
__________
1 سبخة: أرض ذات ملح.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3905" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، وأحمد "6/ 198"، وأبو نعيم في "الحلية" "64".
3 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "السيرة" "1/ 418".(1/203)
فَرَّقُوا بَيْنَنَا، فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطَحِ، فَلَا أَزَالُ أَبْكِي حَتَّى أُمْسِي، سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا. حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي فَرَحِمَنِي، فَقَالَ: أَلَا تَخْرُجُونَ مِنْ هَذِهِ الْمِسْكِينَةِ، فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا؟ فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ، قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي. فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، وَخَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ، وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. قُلْتُ: أَتَبَلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى زَوْجِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ1 لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيَّ، فَقَالَ: إِلَى أين يابنة أَبِي أُمَيَّةَ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ: أوما مَعَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا اللَّهُ وَبُنَيَّ هَذَا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكِ مِنْ مَتْرَكٍ. فَأَخَذَ بِخِطَامِ2 الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي، فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ، أَرَى أَنَّهُ أَكْرَمُ مِنْهُ، كَانَ أَبَدًا إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عنّي حتى نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرِ، ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى شَجَرَةٍ، فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَرَحَّلَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي وَقَالَ: ارْكَبِي، فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَنِي حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا3.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَهَا بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ: عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ، مَعَ امْرَأَتِهِ وَأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ، وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَمْشِي بِمَكَّةَ بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ أُمَّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَنَزَلَ هَؤُلاءِ بِقُبَاءٍ عَلَى مُبَشِّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ4.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ، فَخَرَجُوا رَسَلًا رَسَلًا5،
__________
1 التنعيم: موضع بمكة، بينها وبين سرف.
2 الخطام: الزمام الذي يقاد البعير به.
3 في إسناده مقال: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 418-420" وفي إسناده سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة، قال في "التقريب": مقبول. أي إذا توبع وإلا فلين.
4 قاله ابن إسحاق بدون إسناد كما في "السيرة" "1/ 420".
5 المراد متتابعين.(1/204)
فَخَرَجَ مِنْهُمْ قَبْلَ مَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَبُو سَلَمَةَ وَامْرَأَتُهُ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ الشَّرِيدِ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَجَمَاعَةٌ، فَطَلَبَ أَبُو جَهْلٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ عَيَّاشًا، وَهُوَ أَخُوهُمْ لِأُمِّهِمْ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَذَكَرُوا لَهُ حُزْنَ أُمِّهِ، وَأَنَّهَا حَلَفَتْ لَا يُظِلُّهَا سَقْفٌ، وَكَانَ بِهَا بَرًّا، فَرَقَّ لَهَا وَصَدَقَهُمْ، فَلَمَّا خَرَجَا بِهِ أَوْثَقَاهُ وَقَدِمَا بِهِ مَكَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى قَبْلِ الْفَتْحِ1.
قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَدْعُو لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُنُوتِ: "اللَّهُمُّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ". الْحَدِيثَ2.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَنَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَطَائِفَةٌ، وَمَكَثَ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَكَّةَ، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ، مَنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَلَى اخْتِلافٍ فِيهِ3.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعْنَا لِلْهِجْرَةِ اتَّعَدْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقُلْنَا: الْمِيعَادُ بَيْنَنَا التَّنَاضِبِ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَمَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ لَمْ يَأْتِهَا فَقَدْ حُبِسَ، فَأَصْبَحْتُ عِنْدَهَا أَنَا وعيّاش، وحبس هشام وفتن فافتتن، وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَكُنَّا نَقُولُ: مَا اللَّهُ بِقَابِلٍ مِنْ هَؤُلاءِ تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللَّهَ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأُنْزِلَتْ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 4، فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي كِتَابًا، ثُمَّ بَعَثْتُ بِهَا إِلَى هِشَامٍ، فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْتُ بِهَا إِلَى ذِي طُوًى أُصْعِدُ فيها النّظر وأصوّبه لأفهمها، فقلت: اللهمّ
__________
1 مرسل.
2 صحيح: أخرجه البخاري "2932" في كتاب الجهاد: باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، وأحمد "2/ 470، 521" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.
3 مرسل: والظاهر أن قوله "على اختلاف فيه" من قول المصنف.
4 سورة الزمر: 53.(1/205)
فَهِّمْنِيهَا، فَعَرَفْتُ أَنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا لِمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا، وَيُقَالُ فِينَا، فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى بَعِيرِي، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَقُتِلَ هِشَامٌ بِأَجْنَادِينَ1.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدِمْنَا مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلْنَا الْعُصْبَةَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَكَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا2.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ مَكَانُهُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَثَرِي، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى أَخُو بَنِي فِهْرٍ، ثُمَّ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَبِلَالُ، ثُمَّ أَتَانَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، ثُمَّ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، فلم يقدم عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى قَرَأْتُ سُوَرًا مِنَ الْمُفَصَّلِ3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَةَ قَالَ: وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ الْحَجِّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ، وَصَفَرَ، وَإِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يَحْبِسُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِمَكْرِهِمْ فِي قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} 4 الْآيَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ تَحْتَ اللَّيْلِ قِبَلَ الْغَارِ بِثَوْرٍ، وَعَمَدَ عَلَيٌّ فَرَقَدَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوَارِي عَنْهُ الْعُيُونَ5.
وَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَزَادَ: فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيّهم
__________
1 إسناده حسن: أخرجه البزار كما في "زوائد مختصر البزار" "1345" وقال الحافظ ابن حجر في التعليق عليه: حسن. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 62": رجاله ثقات.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 463".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3924-3925" في كتاب مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة، ولم يخرجه مسلم كما يدل على ذلك خاتمة مناقب الأنصار في "الفتح" "7/ 325" والغريب أن الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 203" عزاه لمسلم والله أعلم.
4 سورة الأنفال: 30.
5 مرسل.(1/206)
يَجْثِمُ عَلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ فَيُوثِقُهُ، إِلَى أَنْ أَصْبَحُوا، فَإِذَا هُمْ بِعَلِيٍّ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَعَلِمُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ فَارًّا مِنْهُمْ، فَرَكِبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَيْقَنَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بُويِعَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَلْحَقُوا بِإِخْوَانِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: الْآنَ، فَأَجْمِعُوا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّهُ قَدْ كَرَّ عَلَيْكُمْ بِالرِّجَالِ، فَأَثْبِتُوهُ أَوِ اقْتُلُوهُ أَوْ أَخْرِجُوهُ.
فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيَقْتُلُوهُ. فَلَمَّا دَخَلُوا الدَّارَ اعْتَرَضَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ جَمِيلٍ فِي بَتٍّ1 لَهُ فَقَالَ: أَأَدْخُلُ؟ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، سَمِعَ بِالَّذِي اجْتَمَعْتُمْ لَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْضُرَهُ مَعَكُمْ، فَعَسَى أَنْ لا يَعْدِمَكُمْ مِنْهُ نُصْحٌ وَرَأْيٌ، قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قد كان من الأمر أم قَدْ عَلِمْتُمْ، فَأَجْمِعُوا رَأْيًا فِي هَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَرَى أَنْ تَحْبِسُوهُ، فَقَالَ النَّجْدِيُّ: مَا هَذَا بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَيَخْرُجَنَّ رَأْيُهُ وَحَدِيثُهُ إِلَى مَنْ وَرَاءِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَوْشَكَ أَنْ يَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَغْلِبُوكُمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: بَلْ نُخْرِجُهُ فَنَنْفِيهِ، فَإِذَا غَيَّبَ عَنَّا وَجْهَهُ وَحَدِيثَهُ مَا نُبَالِي أَيْنَ وَقَعَ، قال النجديّ: ماذا بِرَأْيٍ، أَمَا رَأَيْتُمْ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَحُسْنَ حَدِيثِهِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَى مَنْ يَلْقَاهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَيَدْخُلُ عَلَى قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَأَصْفَقَتْ2 مَعَهُ عَلَى رَأْيِهِ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِيهِ رَأْيًا، مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ غُلَامًا جَلْدًا نَهْدًا نَسِيبًا وَسِيطًا3، ثُمَّ تُعْطُوهُ شِفَارًا4 صَارِمَةً، فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ، فَلَمْ تَدْرِ عَبْدُ مَنْافٍ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَصْنَعُ، وَلَمْ يَقْوَوْا عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ فَتَدُونَهُ لَهُمْ، قَالَ النَّجْدِيُّ: لِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْفَتَى، هَذَا الرَّأْيُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ، فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا لَهُ، وأتى رسول الله
__________
1 البت: الكساء الغليظ.
2 أصفقت: اجمتعت.
3 وسيطًا: شريفًا.
4 شفارًا: جمع شفرة، وهي السكين أو السيف.(1/207)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَبَرُ وَأُمِرَ أَنْ لا ينام على فراشه تلك الّيلة، فَلَمْ يَبِتْ مَوْضِعَهُ، بَلْ بَيَّتَ عَلِيًّا فِي مَضْجَعِهِ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأموي عن أبيه.
حدثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
"ح". قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ بَاذَامَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِيهِ: وَأَذِنَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ "الْأَنْفَالَ" يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَبَلَاءَهُ عِنْدَهُ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} الآية1.
__________
1 سورة الأنفال: 30.
والخبر أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 428-430".(1/208)
سِيَاقُ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة مهاجرا
...
سياق خروح النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة مُهَاجِرًا:
قَالَ عُقَيْلٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا وَيَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ1، لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ2، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ: إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخرج وَلَا يُخرج، وإنك تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٍ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلَادِكَ، وَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخرج مِثْلُهُ وَلَا يُخرج، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ! فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةَ، وَقَالُوا لَهُ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَيُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ3 عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يُعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،
__________
1 برك الغماد: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن.
2 القارة: قبيلة مشهورة.
3 يتقصف: يزدحم.(1/208)
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، وَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ الله.
والنّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُسْلِمِينَ: "قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ. هُمَا الْحَرَّتَانِ"، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجَعَ إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ.
وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، قَالَ: هَلْ تَرْجُو بِأَبِي أَنْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
فبينا نحن جلوس في بيتنا في نحر الظَّهِيرَةِ، قِيلَ لِأَبِي بِكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هذه السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ وَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "اخْرُجْ فَقَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ"، قَالَ: فَخُذْ مِنِّي إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ قَالَ: "بِالثَّمَنِ"، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْتُهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَأَوْكَتْ بِهِ الْجِرَابَ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ في(1/209)
جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ "ثَوْرُ" فَمَكَثَا فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ1، فَيُدْلِجُ2 مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يَكِيدُونَ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظّلام، ويرعى عليها عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منيحةً3، وَيُرِيحُ عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِ4 مِنْحَتِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهِمَا عامر بن فهيرة بغلس، ويفعل ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي الثَّلاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بَكْرٍ رَجُلا مِنْ بَنِي الدُّئِلِ هَادِيًا خِرِّيتًا5، قد غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدِّئْلِيُّ، فَأَخَذَ بِهِمَا فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ6. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَيَوْمٌ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَارِبًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَيْلًا، فَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي مَرَّةً أَمَامَهُ، وَمَرَّةً خَلْفَهُ يَحْرُسُهُ، فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَتَهُ حَتَّى حَفِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا رَآهُمَا أَبُو بَكْرٍ حَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، حَتَّى أَتَى بِهِ فَمَ الْغَارِ، وَكَانَ فِيهِ خَرْقٌ فِيهِ حَيَّاتٌ، فَخَشِيَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَلْقَمَهُ قَدَمَهُ، فَجَعَلْنَ يَضْرِبْنَهُ وَيَلْسَعْنَهُ الْحَيَّاتُ وَالْأَفَاعِي وَدُمُوعُهُ تَتَحَدَّرُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 7، وَأَمَّا يَوْمُهُ، فَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ قُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَأَلَّفِ النَّاسَ وَارْفُقْ بِهِمْ، فَقَالَ: جَبَّارٌ فِي الجاهلية خوّار في الإسلام، بم أتألّفهم بشعر مفتعل أم بقول مفترى! وذكر الحديث8.
__________
1 أي حسن الاستماع لما يقال.
2 الدلجة: السير أو الليل.
3 المنيحة: الناقة.
4 رسل: لبن.
5 خريتا: دليلًا.
6 صحيح: أخرجه البخاري، "3905" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، وأحمد "6/ 198"، وأبو نعيم في "الحلية" "64".
7 سورة التوبة: 40
8 إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 476" من طريق محمد بن سيرين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهذا إسناد منقطع، وأخرجه البيهقي "2/ 477" من وجه آخر ضعيف كما يأتي.(1/210)
وَهُوَ مُنْكَرٌ، سَكَتَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَسَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّاسِبِيُّ، حَدَّثَنِي فُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مَيْمُونَ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مُحَصَّنٍ، عَنْ عُمَرَ. وَآفَتُهُ مِنْ هَذَا الرَّاسِبِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَةٍ، مَعَ كَوْنِهِ مَجْهُولًا، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ فَغَمَزَهُ1.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: حدثنا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَارِ، فَأَصَابَ يَدَهُ حَجَرٌ فَقَالَ:
إِنْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ2
الْأَسْوَدُ: هُوَ ابْنُ قَيْسٍ، سَمِعَ مِنْ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ، وَاحْتَجَّا بِهِ في الصّحيحين.
وقال همّام: حدثنا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى تَحْتِ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" 3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُمْ رَكِبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ، وَيَجْعَلُونَ لَهُمُ الْجُعْلَ الْعَظِيمَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَجَازَ بِهِمَا الدَّلِيلُ أَسْفَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا حَتَّى جَاءَ بِهِمَا السَّاحِلَ أَسْفَلَ مِنْ "عُسْفَانَ" ثُمَّ سَلَكَ فِي "أَمَجٍ"، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ "قُدَيْدًا"، ثُمَّ سَلَكَ فِي "الْخَرَّارِ"، ثُمَّ أَجَازَ عَلَى "ثَنِيَّةِ الْمَرَةِ"، ثُمَّ سَلَكَ "مَدْلَجَةَ لَقْفٍ"، ثُمَّ اسْتَبْطَنَ "مَدْلَجَةَ مَجَاحٍ"، ثُمَّ "بَطْنَ مرجح
__________
1 ذكره الحافظ الذهبي في "الميزان" "4804" وقال: أتى بخبر باطل طويل وهو المتهم به ثم ذكر طرق، وقال: وهو يشبه وضع الطرقية.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 480".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3653" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم "2381" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر -رضي الله عنه- والترمذي "3107" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وأحمد "1/ 4" وابن جرير الطبري في "تفسيره" "10/ 96".(1/211)
ذِي الْعَصَوَيْنِ"، ثُمَّ أَجَازَ "الْقَاحَةَ"، ثُمَّ هَبَطَ "الْعَرَجَ"، ثُمَّ أَجَازَ فِي "ثَنِيَّةِ الْغَائِرِ" عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ "بَطْنَ رِيمٍ" ثُمَّ قَدِمَ "قُبَاءَ" مِنْ قِبَلِ "الْعَالِيَةِ"1.
وَقَالَ مُسْلِمُ بن إبراهيم: حدثنا عَوْنُ بْنُ عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا مُصْعَبٍ الْمَكِّيَّ قَالَ: أَدْرَكْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ؛ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَسَمِعْتُهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْغَارِ أَمَرَ اللَّهُ بِشَجَرَةٍ فَنَبَتَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَتَرَتْهُ، وَأَمَرَ اللَّهُ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ فَسَتَرَتْهُ، وَأَمَرَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا بِفَمِ الْغَارِ، وَأَقْبَلَ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ بِعِصِيِّهِمْ وَسُيُوفِهِمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَاقِينَ فَقَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ2.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بكر من عازب رحلًا بثلاثة عشر دِرْهَمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى رَحْلِي، فَقَالَ لَهُ عَازِبٌ: لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ خَرَجْتُمَا، وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمَا.
قَالَ: أَدْلَجْنَا مِنْ مَكَّةَ لَيْلًا، فَأَحْيَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا بَقِيَّةُ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ، ثُمَّ فَرَشْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أحدًا، فإذا براعي يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أُرِيدُ، يَعْنِي الظِّلَّ، فَسَأَلْتُهُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ، فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ هَكَذَا، فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً3 مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ رَوَّأْتُ4 معي
__________
1 مرسل.
2 منكر: أخرجه البيهقي في "الدائل" "2/ 481-482"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" 2/ 214": هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه. وقال الألباني في "الضعيفة" "1128": منكر.
3 الكثبة: القليل.
4 روأت: صفيت.(1/212)
لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِدَاوَةً، عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَافَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يا رسول الله فشرب حتى رضي، ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ آنَ الرَّحِيلُ، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رسول الله قال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1، فَلَمَّا أَنْ دَنَا مِنَّا، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ قُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ قد لحقنا يا رسول الله وَبَكَيْتُ، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ؟ " قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنِّي إِنَّمَا أَبْكِي عَلَيْكَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "اللهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ"، فَسَاخَتْ2 بِهِ فَرَسُهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا، فَوَثَبَ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَعْمِيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا حَاجَةَ لَنَا فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ"، فَدَعَا لَهُ، فَانْطَلَقَ رَاجِعًا إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا3. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ. أخرج الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رجاء، عنه.
وَقَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَتْلِهِ أَوْ أسْرِهِ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ؛ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوَدَةً4 بِالسَّاحِلِ، أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ قَلَّمَا لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى قُمْتُ فَدَخَلْتُ بيتي،
__________
1 سورة التوبة: 40.
2 ساخت: غاصت.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3615" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام ومسلم "3014" في كتاب الزهد، باب: في حديث الهجرة، وأحمد "1/ 2".
4 أسودة: أشخاص.(1/213)
فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي فَتُهْبِطَهَا مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، فَأَخَذْتُ رُمْحِي وَخَرَجْتُ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجَّهِ1الْأَرْضَ، وَخَفَضْتُ علية الرُّمْحِ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تَقْرُبُ بِي، حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُمْ عَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَوْ لَا أَضُرُّهُمْ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ: "لَا أَضُرُّهُمْ"، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، فَرَفَعْتُهَا تَقْرُبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ التَّلَفُّتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجْ يَدَاهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ "لَا أَضُرُّهُمْ"، فَنَادَيْتُهُمَا بِالْأَمَانِ، فَوَقَفَا لِي وَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمَا، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكُمَا الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمَا أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي شَيْئًا، وَلَمْ يَسْأَلَانِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ مُوَادَعَةٍ آمَنُ بِهِ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ2، ثُمَّ مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم3. أخرجه البخاري.
وقال موسى بن عقبة: أخبرنا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَخَاهُ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ أَخْبَرَهُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ: وَأَخْرَجْتُ سِلَاحِي ثُمَّ لَبِسْتُ لَامَتِي4، وَفِيهِ: فَكَتَبَ لِي أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَيَّ فَرَجَعْتُ فَسَكَتُّ، فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ، وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حُنَيْنٍ خَرَجْتُ لِأَلْقَاهُ وَمَعِي الْكِتَابُ، فَدَخَلْتُ بَيْنَ كَتِيبَةٍ مِنْ كَتَائِبِ الْأَنْصَارِ، فَطَفِقُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عَلَى نَاقَتِهِ، أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزَةٍ كأنّها
__________
1 الزج: الطعن.
2 الأدم: الجلد.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3906" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة.
4 اللأمة: أداة الحرب.(1/214)
جمارة1، فرفعت يَدِي بِالْكِتَابِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كتابك، فقال: "يوم وفاء وبرّ ادن ادن"، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ شَيْئًا أَسْأَلُ عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَأَلَهُ عَنِ الضَّالَّةِ وَشَيْءٍ آخَرَ، قال: فانصرفت وسقت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَدَقَتِي2.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، أَتَى نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي، فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا فَلَطَمَنِي عَلَى خَدِّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي3.
وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ، خَمْسَةُ آلَافٍ أَوْ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ وقد ذهب بصره فقال: والله إنّي لا أراه فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ، قَالَتْ: كَلَّا يَا أبت، قد ترك لنا خيرً كَثِيرًا، قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ مِنَ الْبَيْتِ كَانَ أَبِي يَضَعُ فِيهَا مَالَهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقَالَتْ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، فِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ، قَالَتْ: وَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ4.
وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا، جَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدَّهُ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَّا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَكْبًا ثَلَاثَةً مَرُّوا عَلَيَّ آنِفًا، إِنِّي لأراهم محمدًا وأصحابه،
__________
1 الجمارة: قلب النخلة.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 487-489".
3 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 434".
4 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 435".(1/215)
فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ، يَعْنِي أَنِ اسْكُتْ، ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ يَبْتَغُونَ ضَالَّةً لَهُمْ، قَالَ: لَعَلَّهُ، قَالَ: فَمَكَثْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ بَيْتِي، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ1.
قَالَ: وَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مَا نَدْرِي أَيْنَ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرِ غِنَاءِ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، وَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسٍ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
قَالَتْ: فَعَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ2.
قُلْتُ: قَدْ سُقْتُ خَبَرَ أُمِّ مَعْبَدٍ بِطُولِهِ فِي صِفَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يَأْتِي -إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بن أبي زائدة: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة، فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَيْتٍ مُنْتَحِيًا، فَقَصَدَ إِلَيْهِ فَلَمَّا نَزَلْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَيِ اللَّهِ إِنَّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وليس مَعِي أَحَدٌ، فَعَلَيْكُمَا بِعَظِيمِ الْحَيِّ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِرَى3، قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهَا بِأَعْنُزٍ لَهُ يَسُوقُهَا، فَقَالَتْ له: يا بنيّ انطلق بهذه العنز والسّفرة إِلَيْهِمَا فَقُلْ: اذْبَحَا هَذِهِ وَكُلَا وَأَطْعِمَانَا، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْطَلِقْ بِالشَّفْرَةِ وَجِئْنِي بِالْقَدَحِ"، قَالَ: إِنَّهَا قَدْ عزبت وليس بها لَبَنٌ، قَالَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِقَدَحٍ، فَمَسَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرْعَهَا، ثُمَّ حَلَبَ حَتَّى مَلَأَ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقْ بِهِ إِلَى أُمِّكَ، فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهَذِهِ وَجِئْنِي بِأُخْرَى، ففعل بها
__________
1 أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 435-436".
2 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 434-435".
3 القرى: ما يقدم للضيف.(1/216)
كَذَلِكَ، ثُمَّ سَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ بِأُخْرَى، فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ شَرِبَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَبِتْنَا لَيْلَتَنَا ثُمَّ انْطَلَقْنَا، فَكَانَتْ تُسَمِّيهِ "الْمُبَارَكَ"، وَكَثُرَ غَنَمُهَا حَتَّى جَلَبَتْ جَلْبًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَرَآهُ ابْنُهَا فَعَرَفَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّهُ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُبَارَكِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنِ الرَّجُلُ الذي كان معك؟ قال: وما تدرن مَنْ هُوَ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: هُوَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ، فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ فَأَطْعَمَهَا وَأَعْطَاهَا1.
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى عَنْ يَحْيَى، وَإِسْنَادُهُ نَظِيفٌ لَكِنْ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى.
أوس بن عبد الله بن بريدة: أنا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَفَاءَلُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ جَعَلَتْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ لِمَنْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَرَكِبَ بُرَيْدَةُ فِي سَبْعِينَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، فَلَقِيَ نَبِيَّ الله -صلى الله عليه وسلم- لَيْلًا فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: بُرَيْدَةُ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: بَرَدَ أَمْرُنَا وَصَلُحَ، ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّنْ؟ قَالَ: مَنْ أَسْلَمَ، قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: سَلِمْنَا، ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي سَهْمٍ، قَالَ: خَرَجَ سَهْمُكَ. فَأَسْلَمَ بُرَيْدَةُ وَالَّذِينَ مَعَهُ جَمِيعًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ بُرَيْدَةُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَدْخُلِ الْمَدِينَةَ إِلَّا وَمَعَكَ لِوَاءٌ، فَحَلَّ عِمَامَتَهُ ثُمَّ شَدَّهَا فِي رُمْحٍ، ثُمَّ مَشَى بَيْنَ يدي النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَنْزِلُ عَلَيَّ، قَالَ: إِنَّ نَاقَتِي مَأْمُورَةٌ. فَسَارَ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى بَابِ أَبِي أَيُّوبَ فَبَرَكَتْ2. قُلْتُ: أَوْسٌ مَتْرُوكٌ.
وقال الحافظ أبو الوليد الطّيالسيّ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، ثنا أَبِي، عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: لَمَّا انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ مُسْتَخْفِيَيْنِ مَرَّا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا فَاسْتَسْقَيَاهُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تَحْلِبُ، غَيْرَ أنّ ههنا عناقًا
__________
1 إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 491"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 224-225" إسناد حسن. وقد أعله المصنف بالانقطاع بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الصديق، والظاهر أن هذا هو الراجح، فقد اختلفوا في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر، ولم يذكر الحافظ ابن حجر في "التهذيب" "2/ 548" أبا بكر في شيوخ عبد الرحمن، مع تنبيهه في المقدمة أنه يبدأ بذكر أكبر شيوخ الراوي، مما يدل على أنه لم يثبت له سماع منه، والله أعلم.
2 إسناده ضعيف جدًّا: أوس متروك كما يأتي، وانظر "الميزان" "1046".(1/217)
حَمَلَتْ أَوَّلَ الشَّاءِ، وَقَدْ أَخْدَجَتْ وَمَا بَقِيَ لَهَا لَبَنٌ، فَقَالَ: ادْعُ بِهَا، فَدَعَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَسَحَ ضَرْعَهَا وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمَجْنٍ فَحَلَبَ فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الرَّاعِيَ، ثُمَّ حَلَبَ فَشَرِبَ، فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ؟ قَالَ: "أَتَكْتُمُ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ، قَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ذَلِكَ"، قَالَ: فَأَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَأَنَا مُتَّبِعُكَ، قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ذَلِكَ يَوْمَكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فَائْتِنَا" 1.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قال: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: لَمَّا بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ، كُنَّا نَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَنَجْلِسُ لَهُ بِظَاهِرِ الْحَرَّةِ، نَلْجَأُ إِلَى ظِلُّ الْجُدُرِ حَتَّى تَغْلِبَنَا عَلَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسْنَا كَمَا كُنَّا نَجْلِسُ، حتى إذا رجعنا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَنَادَى: يَا بُنَيَّ قَيْلَةُ هَذَا جَدُّكُمْ قَدْ جَاءَ، فَخَرَجْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَنَاخَ إِلَى ظِلٍّ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَيُّهُمَا أَسَنُّ، هُمَا فِي سِنٍّ وَاحِدَةٍ، حَتَّى رَأَيْنَا أَبَا بَكْرٍ يَنْحَازُ لَهُ عَنِ الظِّلِّ، فَعَرَفْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَامَ فَأَظَلَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ وَسَّاجٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدِمَ، يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِهِ أَشْمَطُ3 غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَغَلَّفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حديث محمد بن حمير.
__________
1 أخرجه البزار كما في "زوائد مسند البزار" "1342".
2 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 438" وعبد الرحمن بن عويم بن ساعدة ذكر ابن حبان في "الثقات" "5/ 75" إِنَّهُ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 أشمط: اختلط سواد شعره ببياضه.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3919" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة.(1/218)
وَقَالَ شُعْبَةُ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ، وَبِلَالٌ، وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَسْعَوْنَ فِي الطُّرُقِ يَقُولُونَ: "جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ حَتَّى تَعَلَّمْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} 1 في مثلها من المفصّل2.
خ3 وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، فِي حَدِيثِ الرَّحْلِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَضَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا مَعَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا، فَتَنَازَعَهُ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بذلك"، وقدم النّاس حين قدمنا المدينة، في الطَّرِيقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ، وَالْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ يَقُولُونَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّهُ أكبر جاء محمد، الله أَكْبَرُ جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ فَنَزَلَ حَيْثُ أَمَرَ4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ القاسم: حدثنا سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، وَأَسْعَى وَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: "جَاءَ مُحَمَّدٌ"، فَأَسْعَى، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ فَكَمِنَّا فِي بَعْضِ جُدُرِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِيُؤْذِنَ بِهِمَا الْأَنْصَارَ قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءَ خُمْسُمِائَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا، فَقَالُوا: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِنَّ الْعَوَاتِقَ لَفَوْقَ الْبُيُوتِ يَتَرَاءَيْنَهُ يَقُلْنَ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ قَالَ: فَمَا رَأَيْنَا مَنْظَرًا شَبِيهًا بِهِ يَوْمَئِذٍ5. صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُوَقِّرِيُّ وَغَيْرُهُ، عن الزّهري قال: فأخبرني عروة أنّ
__________
1 سورة الأعلى: 1.
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 رمز للبخاري.
4 أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في "الطبقات" "4/ 271" وأصله عند البخاري "3925" في كتاب مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة.
5 إسناده صحيح: أخرجه أحمد "3/ 222".(1/219)
الزُّبَيْرَ كَانَ فِي رَكْبِ تُجَّارٍ بِالشَّامِ، فَقَفَلُوا إِلَى مَكَّةَ، فَعَارَضُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ بِثِيَابِ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ نَحْرُ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَمَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ أَطْمًا1 مِنْ آطَامِهِمْ لِشَأْنِهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ2 يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ3 الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السَّلَامِ، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ الْيَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْسَبُهُ أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فعرفوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ، فَمَشَى مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى بَرَكَتْ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ مَسْجِدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا4 لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ، غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ أَخَوَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ". ثُمَّ دَعَا الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا الْمِرْبَدَ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ، فَأَبَى حَتَّى ابْتَاعَهُ وَبَنَاهُ5.
وَقَالَ عَبْدُ الوارث بن سعيد وغيره: حدثنا أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا متقلّدين سيوفهم، فكأنّي
__________
1 الأطم: الحصن.
2 مبيضين: عليهم ثياب بيض.
3 جدكم: حظكم.
4 مربدًا: موضع لتجفيف التمر.
5 أخرجه البخاري "3906" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة.(1/220)
أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفَهُ، وَمَلأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْتَظِرُ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ "أَهْلِ الْمَدِينَةِ" فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: انْظُرِ الَّذِينَ دَعَوْكَ فَأْتِهِمْ، فَعَمَدَ إِلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَاتَّخَذَ مَكَانَهُ مَسْجِدًا فَكَانَ يصلّي فيه، ثم بناه عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَهُوَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَالرِّضْوَانِ.
ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَمَرَّ عَلَى بَنِي سَالِمٍ، فَجَمَعَ فِيهِمْ، وَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ الْيَهُودُ صَلَّى إِلَى قِبْلَتِهِمْ طَمِعُوا فِيهِ لِلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، ثُمَّ ارْتَحَلَ فَاجْتَمَعَتْ لَهُ الْأَنْصَارُ يُعَظِّمُونَ دِينَ اللَّهِ بِذَلِكَ، يَمْشُونَ حَوْلَ نَاقَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- لا يَزَالُ أَحَدُهُمْ يُنَازِعُ صَاحِبَهُ زِمَامَ النَّاقَةِ، فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَ النَّاقَةِ، فَإِنَّمَا أَنْزِلُ حَيْثُ أَنْزَلَنِي اللَّهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِ أَبِي أَيُّوبَ فِي بَنِي غَنْمٍ، فَبَرَكَتْ عَلَى الْبَابِ، فَنَزَلَ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ أَبِي أَيُّوبَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ حَتَّى ابْتَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسْكَنَهُ فِي بَنِي غَنْمٍ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ مَوْضِعًا لِلتَّمْرِ لِابْنَيْ أَخِي أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَعْطَى ابْنَيْ أَخِيهِ مَكَانَهُ نَخْلا لَهُ فِي بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: نُعْطِيهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا نَأْخُذُ لَهُ ثَمَنًا، وَبَنَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَمْزَةَ وَلِعَلِيٍّ وَلِجَعْفَرَ، وَهُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَجَعَلَ مَسْكَنَهُمْ فِي مَسْكَنِهِ، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ بَابِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لَهُ، فَصَرَفَ بَابَ حَمْزَةَ وَجَعْفَرَ. كَذَا قَالَ: وَهُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلِيٌّ بِمَكَّةَ2. رَوَاهُ ابْنُ عَائِذٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْهُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: لَمَّا دَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأَبُو بكر من المدينة،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3932" في المصدر السابق، ومسلم "524" في كتاب المساجد، باب: ابتناء مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو داود "453" في كتاب الصلاة، باب: في بناء المساجد، أبو نعيم في "الحلية" "3316".
2 إسناده ضعيف: عثمان بن عطاء الخراساني ضعيف كما في "التقريب" "4502".(1/221)
وَقَدِمَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنَ الشَّامِ، خَرَجَ طَلْحَةُ عَامِدًا إِلَى مَكَّةَ، لَمَّا ذُكِرَ له النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ إِمَّا مُتَلَقِّيًا لَهُمَا، وَإِمَّا عَامِدًا عَمْدَهُ بِمَكَّةَ، وَمَعَهُ ثِيَابٌ أَهْدَاهَا لِأَبِي بَكْرٍ مِنْ ثِيَابِ الشَّامِ، فَلَمَّا لَقِيَهُ أَعْطَاهُ الثِّيَابَ، فَلَبِسَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ مِنْهَا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلةً خَلَت من ربيع الأوّل، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ1.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْهُ. رَوَاهُ يُونُسُ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بن إدريس: حدثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمٍ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ قَوْمِي قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بِقُبَاءَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءَ. وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً2.
وَقَالَ زكريّا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: مكث النّبيّ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ وَهُو ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة: حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَجُوزٍ لَهُمْ، قَالَتْ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَخْتَلِفُ إِلَى صِرْمَةِ أَبِي قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ يَرْوِي هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
__________
1 الوليد بن مسلم مدلس، وقد عنعنه، والحديث أخرجه البيهفي في "الدلائل" 2/ 511".
2 ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، والحديث أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 512".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3902" في كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، ومسلم "2351/ 118" في كتاب الفضائل، باب: كم أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة والمدينة؟ وأحمد "1/ 371".(1/222)
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... يُذَكِّرُ لَوْ أَلْفَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا1
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ ... فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى ... وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطِيبَةَ رَاضِيَا
وَأَصْبَحَ مَا يَخْشَى ظَلَامَةَ ظَالِمٍ ... بَعِيدٍ وَلَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا
بَذَلْنَا الْأَمْوَالَ مِنْ جُلِّ مَالِنَا ... وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتَّآسِيَا
نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُوَاسِيَا
وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَصْبَحَ هَادِيَا2
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ شَابٌّ لَا يُعْرَفُ -يُرِيدُ دُخُولَ الشَّيْبِ فِي لِحْيَتِهِ دُونَهُ لَا فِي السِّنِّ- قَالَ أَنَسٌ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، فَيَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي طَرِيقَ الْخَيْرِ. فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ"، فَصَرَعَهُ فَرَسُهُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ3. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ، قَالَ: "تَقِفُ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا"، قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى النَّبِيِّ وَآخِرُ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَانِبَ الْحَرَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ، فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا فَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فَرَكِبَا وَحَفُّوا حَوْلَهُمَا بِالسِّلَاحِ، فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ "جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وأقبل حَتَّى نَزَلَ إِلَى جَانِبِ بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ، يَخْتَرِفُ4 لَهُمْ مِنْهُ، فَعَجَّلَ أَنْ يَضَعَ الَّتِي يَخْتَرِفُ فِيهَا فَجَاءَهُ وَهِيَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ"؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذِهِ دَارِي، قَالَ: "اذْهَبْ فَهَيِّئْ لَنَا مقيلًا"، فذهب فهيأ
__________
1 ثوى: أقام.
2 إسناده ضعيف: لجهالة هذه العجوز، وقد عزاه الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 238" للحميدي.
3 الحمحمة: صوت دون الصهيل.
4 يخترف: يجتني.(1/223)
لَهُمَا مَقِيلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ هَيَّأْتُ لَكُمَا مَقِيلًا، قَالَ: "قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَقِيلَا".
فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقًّا، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَلَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ سِيرَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَغَازِيهِ فِي الْعَشْرِ السِّنِينِ الَّتِي لَبِثَ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ مَا فِيهِ مَغْنًى إِنْ شَاءَ الله تعالى.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري في "3911" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة.(1/224)
فَصْلٌ فِي مُعْجِزَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِوَى مَا مَضَى فِي غُضُونِ الْمَغَازِي 1:
قَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيَسَرِ صَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِهِ فَقَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ2 فَذَهَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْضِي حاجته واتّبعته بإداوة نم مَاءٍ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، وَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: "انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ"، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ3 الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: "انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ"، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ4، فِيمَا بَيْنَهُمَا، لَأَمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: "الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ"، فَالْتَأَمَتَا، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحَضِّرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقري -يَعْنِي فَيَبْتَعِدَ- فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْبِلٌ، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ وَقْفَةً فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا، يَمِينًا وَشِمَالًا، ثُمَّ أَقْبَلَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيَّ قَالَ: "يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي"؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ غُصْنًا فَأَقْبِلْ بِهِمَا، حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ، قال: فقمت فأخذت حجرًا فكسرته وجشرته5 فاندلق لِي، فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما غصنًا، ثم أقبلت
__________
1 أي في الأصل في كتاب "تاريخ الإسلام" حيث ساق المغازي، وحذفها المحقق هنا.
2 أفيح: واسعًا.
3 المخشوش: الخشاش عود يجعل في أنف البعير يشد به الزمام.
4 المنصف: وسط الطريق.
5 جشرته: قطعته.(1/225)
أَجُرُّهُمَا، حَتَّى إِذَا قُمْتُ مَقَامَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُ فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: "إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ".
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا، وَفِيهِ إِعْوَازُ النَّاسِ الْمَاءَ، وَأَنَّهُ أَتَاهُ بِيَسِيرِ مَاءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ فِي قَصْعَةٍ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَوَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَاسْتَقَى مِنْهُ النَّاسُ حَتَّى رُوُوا1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ إِلَّا يَسِيرٌ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ فِي صَحْفَةٍ، وَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ فَتَوَضَّئُوا وَشَرِبُوا، قَالَ الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ فَقَالَ: حَدَّثَنِيهِ جَابِرٌ، فَقُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً2. أَخْرَجَهُ "خ".
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَنَا عَطَشٌ، فَجَهَشْنَا3 إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعَ يَدَهُ فِي تَوْرٍ4 مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ الْعُيُونُ، فَقَالَ: "خُذُوا بِاسْمِ اللَّهِ"، فَشَرِبْنَا فَوَسِعَنَا وَكَفَانَا، وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا وَخُمْسُمِائَةً5. صَحِيحٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى الْحَجُونِ لَمَّا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَرِنِي الْيَوْمَ آيَةً لَا أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بَعْدَهَا"، قَالَ: فَأَمَرَ فَنَادَى شَجَرَةً، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهَا فرجعت6.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "3006" في كتاب الزهد، باب: حديث جابر الطويل.
2 صحيح: أخرجه البخاري.
3 جهشنا: فزعنا.
4 التور: إناء من نحاس أو حجارة.
5 صحيح: أخرجه البخاري "4152" في كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية.
6 إسناده ضعيف: علي بن زيد ضعيف الحفظ.(1/226)
وَرَوَى الْأَعْمَشُ نَحْوَهُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ نَحْوًا مِنْهُ، عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَر بْن أبان: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ: "أَيْنَ تُرِيدُ"؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِلَى أَهْلِي، قَالَ: "هَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ"؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "تُسْلِمُ"، قَالَ: هَلْ مِنْ شَاهِدٍ؟ قَالَ: "هَذِهِ الشَّجَرَةُ"، فَدَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ1 الْأَرْضَ خَدًّا، فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلَاثًا، فَشَهِدَتْ لَهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا، وَرَجَعَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونِي آتِكَ بِهِمْ، وَإِلَّا رَجَعْتُ إِلَيْكَ فَكُنْتُ مَعَكَ2. غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ"3 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ إنك رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ"؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَعَاهُ، فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ فِي الأَرْضِ، فَجَعَلَ يَنْقِزُ4، حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ لَهُ: "ارْجِعْ"، فَرَجَعَ حَتَّى عَادَ إِلَى مَكَانِهِ، فقال: أشهد أنّك رسول الله وَآمَنَ5. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَاجَتِهِ، وَتَبِعْتُهُ بالإداوة، فإذا شجرتان بينهما أذرع
__________
1 تخد: تشق.
2 أخرجه الدارمي "16".
3 هكذا أطلق عليه الحافظ الذهبي مسندًا، والصحيح أنه "سنن" فتصنيفه على الكتاب والأبواب الفقهية لا على مسانيد الصحابة، ولكن إطلاق "المسند" على "سنن الدارمي" اشتهر عند المحدثين، قال السيوطي: مسند الدارمي ليس بمسند بل هو مرتب على الأبواب. وقال العراقي: اشتهر تسميته بالمسند كما سمى البخاري كتاب بالمسند، لكون أحاديثه مسنده. انظر مقدمة محقق "سنن الدارمي".
4 ينقز: يقفز.
5 صحيح: أخرجه الترمذي "3648" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "1/ 223"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/227)
فَقَالَ: "انْطَلِقْ فَقُلْ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْحَقِي بِصَاحِبَتِكِ حَتَّى أَجْلِسَ خَلْفَهُمَا" فَفَعَلْتُ، فَرَجَعَتْ حَتَّى لَحِقَتْ بِصَاحِبَتِهَا، فَجَلَسَ خَلْفَهُمَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ رَجَعَتَا1.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَقَالَ: إِنِّي أُطِبُّ النَّاسَ، فَإِنْ كَانَ بِكَ جُنُونٌ دَاوَيْتُكَ، فَقَالَ: "أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَادْعُ ذَاكَ العذق"، فدعاه، فجاءه ينقز علة ذَنَبِهِ، حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "ارْجِعْ" فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا لَعَامِرٍ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَسْحَرَ مِنْ هَذَا2.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أنا عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّوَيْهِ، أنا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِسَمَرْقَنْدَ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، وَكَانَ لَا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَتَغَيَّبَ فَلَا يُرَى، فَنَزَلْنَا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا عَلَمٌ، فَقَالَ: "يَا جَابِرُ اجْعَلْ فِي إِدَاوَتِكَ مَاءً ثُمَّ انْطَلِقْ بِنَا"، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى لَا نُرَى، فإذا هو بشجرتين بينهما أربعة أَذْرُعٍ، فَقَالَ: "انْطَلِقْ إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقُلْ: يَقُولُ لَكِ: الْحَقِي بِصَاحِبَتِكِ حَتَّى أَجْلِسَ خَلْفَكُمَا" فَرَجَعَتُ إِلَيْهَا، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتَا إِلَى مَكَانِهِمَا.
فَرَكِبْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بَيْنَنَا كَأَنَّمَا عَلَيْنَا الطَّيْرُ تُظِلُّنَا، فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ فَقَالَتْ: يَا رسول الله إِنَّ ابْنِي هَذَا يَأْخُذُهُ الشَّيْطَانُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَتَنَاوَلَهُ فَجَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُقَدَّمِ الرَّحْلِ ثُمَّ قَالَ: "اخْسَ عَدُوَّ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، اخْسَ عَدُوَّ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ الله" ثَلَاثًا، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا قَضَيْنَا سَفَرَنَا مررنا بذلك الملكان، فَعَرَضَتْ لَنَا الْمَرْأَةُ مَعَهَا صَبِيُّهَا وَمَعَهَا كَبْشَانِ تَسُوقُهُمَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْبَلْ مِنِّي هَدِيَّتِي، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ، فَقَالَ: "خُذُوا منها وَاحِدًا وَرُدُّوا عَلَيْهَا الْآخَرَ".
قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَنَا كأنّما علينا الطّير تظلّنا، فإذا جمل
__________
1 إسناده ضعيف: أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه.
2 تقدم تخريجه قبل السابق.(1/228)
نادٌّ حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ السِّمَاطَيْنِ1 خَرَّ سَاجِدًا، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ عَلَى النَّاسِ: "مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ"؟ فَإِذَا فِتْيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: هُوَ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَمَا شَأْنُهُ" قَالُوا: اسْتَنَيْنَا2 عَلَيْهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ لَهُ شَحِيمَةٌ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَنْحَرَهُ فَنُقَسِّمَهُ بَيْنَ غِلْمَانِنَا فَانْفَلَتَ مِنَّا، قَالَ: "بِيعُونِيهِ"، قَالُوا: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أَمَّا لِي فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ"، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ ذلك: يا رسول الله نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ، قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِشَيْءٍ أَنْ يَسْجُدَ لِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ"3.
رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَعِنْدَهُ: "لَا يَنْبَغِي لبشر أن يسجد لبشر" وهو أصلح.
وَقَدْ رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَيْتُ مِنْهُ أَشْيَاءَ: نَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ: "انْطَلِقْ إِلَى هاتين الأشاءتين4 فقل: إن رسول الله يَقُولُ لَكُمَا أَنْ تَجْتَمِعَا". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ5.
مُرَّةُ: هُوَ ابْنُ أَبِي مُرَّةَ. وَقَدْ رَوَاهُ وَكِيعٌ مَرَّةً، فَقَالَ فِيهِ: عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَجَبًا. الْحَدِيثَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّمَا هُوَ عَنْ يَعْلَى نَفْسِهِ.
قُلْتُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، كِلَاهُمَا عَنْ يَعْلَى نَفْسِهِ.
وَقَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونَ: أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا، وَكَانَ أَحَبَّ ما استتر
__________
1 السماط: الصف.
2 استنينا: استقينا.
3 إسناده ضعيف: أخرجه الدارمي "17"، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعنه.
4 الأشاءتين: النخلتين الصغيرتين.
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 20-24".(1/229)
بِهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ1، فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- حَنَّ إِلَيْهِ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عليه وسلم- ذِفْرَيْهِ2 فَسَكَنَ، فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ"؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي، فَقَالَ: "أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ" 3. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ "حَائِشُ نَخْلٍ"، وَبَاقِيهِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وقال إسماعيل بن جعفر: حدثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ ثِقَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ نَاضِحًا لِبَعْضِ بَنِي سَلَمَةَ اغْتَلَمَ، فَصَالَ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعَ حَتَّى عَطِشَتْ نَخْلُهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاشْتَكَى ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْطَلِقْ، وَذَهَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ النَّخْلِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا تَدْخُلْ، قَالَ: "ادْخُلُوا لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ"، فَلَمَّا رَآهُ الْجَمَلُ أَقْبَلَ يَمْشِي وَاضِعًا رَأْسَهُ حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَجَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتُوا جَمَلَكُمْ فَاخْطِمُوهُ وَارْتَحِلُوهُ"، فَفَعَلُوا وَقَالُوا: سَجَدَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآكَ، قَالَ: "لَا تَقُولُوا ذَلِكَ لِي، لَا تَقُولُوا مَا لَمْ أَبْلُغْ فَلَعَمْرِي مَا سَجَدَ لِي وَلَكِنْ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِي"4.
وَقَالَ عَفَّانُ: نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ شَيْخًا مِنْ قَيْسٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدَنَا بَكْرَةٌ صَعْبَةٌ لَا نَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَدَنَا مِنْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَحَفَلَ فاحتلب وشرب5.
__________
1 حائش: نخل: نخل ملتف.
2 الذفري: العظم خلف الأذن.
3 صحيح: أخرجه مسلم "342/ 79" في كتاب الحيض، باب: التستر عند البول، إلى قوله "حائش نخل" ولفظه عنده "حائظ نخل" وأخرجه أبو داود "2549" في كتاب الجهاد، باب: ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، وأحمد "1/ 204"، والدارمي "663"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 26-27"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
4 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 28" وفيه جهالة هذا الرجل من بني سلمة، وهو وإن وثقه الراوي فلا يعني هذا أنه ثقة، فكم من راوٍ اختلف أهل العلم في توثيقه وتضعيفه، فإذا لم يذكر لنا الراوي اسم هذا الثقة ليتبين لنا هل ضعفه آخرون أم لا؛ فلا نستطيع عنذئذ أن نعتمد توثيقه، والله أعلم.
5 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 29".(1/230)
وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أوفى، تفرّد به فَائِدٍ أَبُو الْوَرْقَاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَحَدِيثٌ لِجَابِرٍ آخَرُ تَفَرَّدَ بِهِ الْأَجْلَحُ، عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْهُ. أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِأَهْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْشٌ، فَإِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعِبَ وَذَهَبَ وَجَاءَ. فَإِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَضَ فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ1، مَا دَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْبَيْتِ2. صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حدثنا الْمَسْعُودِيُّ: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَدَخَلَ رَجُلٌ غَيْضَةً فَأَخْرَجَ بَيْضَةً حَمْرَةً3، فَجَاءَتِ الْحَمْرَةُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ"، فَقَالَ رَجُلٌ: أنا أخذت بيضتها. فقال: "ردّه رُدَّهُ رَحْمَةً لَهَا"4.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أبي غُرْزَةِ الغِفاري: حدثنا عَلَيُّ بْنُ قَادِمٍ، أنا أَبُو الْعَلَاءِ خَالِدُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِظَبْيَةٍ مَرْبُوطَةٍ إِلَى خِبَاءٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حُلَّنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُرْضِعَ خِشْفِي، ثُمَّ أَرْجِعَ، فَتَرْبِطَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَيْدُ قَوْمٍ وَرَبِيطَةُ قَوْمٍ"، قَالَ: فَأَخَذَ عَلَيْهَا فَحَلَفَتْ لَهُ، فَحَلَّهَا، فَمَا مَكَثَتْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَتْ وَقَدْ نَفَضَتْ مَا فِي ضَرْعِهَا، فَرَبَطَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا مِنْهُمْ، فَوَهَبُوهَا لَهُ، فَحَلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُ الْبَهَائِمُ مِنَ الْمَوْتِ مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا أَبَدًا"5. عَلَيٌّ، وَأَبُو الْعَلَاءِ صَدُوقَانِ، وَعَطِيَّةُ فِيهِ ضَعْفٌ. وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ عَنْ زَيْدِ بن أرقم.
__________
1 يترمرم: يحرك فاه.
2 أخرجه أحمد "6/ 112-113، 150" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 31".
3 حمرة: طير كالعصفور.
4 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 404"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 32"، والمسعودي اختلط، وانظر تعقيب المصنف.
5 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 34" وعطية هو العوفي ضعيف.(1/231)
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَاعٍ يَرْعَى بِالْحَرَّةِ؛ إِذْ عَرَضَ ذِئْبٌ لِشَاةٍ، فَحَالَ الرَّاعِي بَيْنَ الذِّئْبِ وَبَيْنَ الشَّاةِ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّاعِي: أَلَا تَتَّقِي اللَّهِ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ رِزْقٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ الرَّاعِي: الْعَجَبُ مِنْ ذِئْبٍ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الْإِنْسِ! فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَعْجَبَ مِنِّي: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، فَسَاقَ الرَّاعِي شَاةً حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَزَوَاهَا1 زَاوِيَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ الذِّئْبِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّاسِ فَقَالَ لِلرَّاعِي: "قُمْ فَأَخْبِرْهُمْ"، قَالَ: فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا قَالَ الذِّئْبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ الرَّاعِي، أَلَا إِنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَلَامُ السِّبَاعِ لِلْإِنْسِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ، وَيُكَلِّمُ الرَّجُلَ شِرَاكُ نَعْلِهِ وَعَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَيُخْبِرُهُ، فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ" 2. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، وَمَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ نَحْوَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح الإسناد.
وقال سفيان بن حمزة: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ عن أَوْسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أُهْبَانَ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّهُ كَانَ فِي غَنَمٍ لَهُ، فَكَلَّمَهُ الذِّئْبُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمَ3. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ.
وقال يوسف بن عديّ: حدثنا جعفر بن جسر، أخبرني أبي، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَاعٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَنَمٍ لَهُ؛ إِذْ جَاءَ الذِّئْبُ فأخذ شاةً، ووثب الراعي حتى
__________
1 زواها: نحاها.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 41-42" وأخرجه مختصرًا الترمذي "2188" في كتاب الفتن، باب: ما جاء في كلام السباع، وأحمد "3/ 83-84"، وأبو نعيم في "الحلية" "12765"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 636": إسناده على شرط الصحيح. وصحح الألباني في رواية الترمذي في "صحيح سنن الترمذي".
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 43-44".(1/232)
انْتَزَعَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ أَنْ تَمْنَعَنِي طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا اللَّهُ تَنْزِعُهَا مِنِّي! وَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
وَقَالَ مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ2. "خ"
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 150-151" وجعفر بن جسر ضعيف كما في "الميزان" "1493".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3579" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، وأحمد "1/ 460"، والدارمي "29".(1/233)
فَصْلٌ فِي تَسْبِيحِ الْحَصَى فِي يَدِهِ -صَلَّى الله عليه وسلم:
قال قريش بن أنس: حدثنا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: لَا أَذْكُرُ عُثْمَانَ إِلَّا بِخَيْرٍ بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ: كُنْتُ رَجُلًا أَتَتَبَّعُ خَلَوَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَيْتُهُ وَحْدَهُ، فَجَلَسْتُ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ وَجَلَسَ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ، ثُمَّ عثمان، وبين عُثْمَانُ وَبَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْعُ حَصَيَاتٍ، فَأَخَذْهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي كَفِّهِ، فَسَبَّحْنَ، حَتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ. ثُمَّ أَخَذَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُمَرَ فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرِسْنَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ" 1.
صَالِحٌ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ذَكَرَ الْوَلِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ كَبِيرَ السِّنِّ، كَانَ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ذَكَرٌ لَهُ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ2.
وَيَرْوِي مِثْلُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. وَجَاءَ مثله عن أنس من وجهين منكرين.
"أنين الشجرة والغصن الذي كان يخطب إليهما -صلى الله عليه وسلم-":
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 64، 65".
2 إلى هنا كلام الحافظ البيهقي في المصدر السابق.(1/233)
كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ إِلَى نَخْلَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ"، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، فَنَزَلَ فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، كَانَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ قَالَ: "كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذّكر عندها" 1. "خ". رواه جَمَاعَةٌ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَازِنِيُّ وَاسْمُهُ عُمَرُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ حَنَّ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَمَسَحَهُ، فَسَكَنَ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي إِلَى جِذْعٍ وَيَخْطُبُ إِلَيْهِ، فَصُنِعَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا جَاوَزَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ الْجِذْعَ خَارَ حَتَّى تَصَدَّعَ وَانْشَقَّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سَمِعَ صَوْتَ الْجِذْعِ، فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا هُدِمَ الْمَسْجِدُ أَخَذَ ذَلِكَ الْجِذْعَ أَبِي فَكَانَ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ حَتَّى بَلِيَ وَأَكَلَتْهُ الْأَرَضَةُ وَعَادَ رُفَاتًا3. رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ ابْنِ عُقَيْلٍ.
مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "هل ترون قبلتي ههنا، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا سُجُودُكُمْ، إنّي لأراكم وراء ظهري" 4. متّفق عليه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3584" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 66".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3583" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 66-67".
3 حسن: أخرجه ابن ماجه "1414" في كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في بدء شأن المنبر، والدارمي "36"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 67-68"، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": حسن.
4 صحيح: أخرجه البخاري "418" في كتاب الصلاة، باب: عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، ومسلم "424" في كتاب الصلاة، باب: الأمر بتحسين الصلاة، وأحمد "2/ 303، 365، 375"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 73".(1/234)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذِهِ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ أَبَانَهُ بِهَا مِنْ خَلْقِهِ.
وَقَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: "فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي، وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كثيرًا"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: "رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ" 1. أَخْرَجَهُ مسلم.
وقال بشر بن بكر: حدثنا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مُسْتَتِرَةٌ بِقِرَامٍ2 فِيهِ صُورَةٌ، فَهَتَكَهُ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ" 3.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبُرْنُسٍ فِيهِ تِمْثَالُ عُقَابٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَيْهِ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ4. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُنْقَطِعَةٌ.
وَقَالَ عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا فِي غَنَمٍ لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَرْعَاهَا، فَأَتَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: "يَا غُلَامُ هَلْ عِنْدَكَ لَبَنٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ وَلَكِنْ مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: "فَائْتِنِي بِشَاةٍ لَمْ يَنْزُ 5 عَلَيْهَا الْفَحْلُ"، فَأَتَيْتُهُ بِعَنَاقٍ جَذَعَةٍ، فَاعْتَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ دَعَا وَمَسَحَ ضَرْعَهَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، فَاحْتَلَبَ فِي صَحْفَةٍ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، وَشَرِبَ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: اقْلُصْ، فَقَلَصَ فَعَادَ كَمَا كَانَ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: "إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ"، فَأَخَذْتُ عَنْهُ سَبْعِينَ سُورَةً مَا نَازَعَنِيهَا بَشَرٌ6. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ قَوِيٌّ.
مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "426" في كتاب الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام، وأحمد "3/ 154"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 74".
2 القرام: ثوب من الصوف.
3 أخرجه أحمد "6/ 85-86"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 81".
4 إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 81".
5 ينز: يثب.
6 أخرجه أحمد "1/ 379"، 462" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 84-85".(1/235)
عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْهُ فِيهِ، وَدَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي، وَأَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا في المسجد ومعه النَّاسِ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: "قُومُوا" قَالَ: فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالناس وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ"، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً1 لَهَا فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأذن لهم، فأكلوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشْرَةٍ"، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَأَكَلَ الْقَوْمُ وَشَبِعُوا، وَهُمْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا2. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ هَذَا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جندب، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى بِقَصْعَةٍ، فِيهَا طَعَامٌ، فَتَعَاقَبُوهَا إِلَى الظُّهْرِ مُنْذُ غُدْوَةٍ، يَقُومُ قَوْمُ وَيَقْعُدُ آخَرُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِسَمُرَةَ: هَلْ كَانَتْ تُمَدُّ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْشٍ تَعْجَبُ؟ مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا من ههنا، وَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ3، وَأَشَارَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ إِلَى السَّمَاءِ. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عن أبيه، أن سَلْمَانَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَدِيَّةٍ فَقَالَ: "لِمَنْ أَنْتَ"؟ قَالَ لِقَوْمٍ، قَالَ: "فَاطْلُبْ إِلَيْهِمْ أَنْ يُكَاتِبُوكَ"، قَالَ: فَكَاتَبُونِي عَلَى كذا وكذا نخلة أغرسها لهم،
__________
1 العكة: السمن.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3587" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم "2040" في كتاب الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 88-89".
3 صحيح: أخرجه الترمذي "3645" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- "5/ 12-18"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 93"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/236)
وَيَقُومُ عَلَيْهَا سَلْمَانُ حَتَّى تُطْعِمَ، قَالَ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَغَرَسَ النَّخْلَ كُلَّهُ، إِلَّا نَخْلَةً وَاحِدَةً غَرَسَهَا عُمَرُ، فَأَطْعَمَ نَخْلُهُ مِنْ سَنَتِهِ إِلَّا تِلْكَ النَّخْلَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ غَرَسَهَا"؟ قَالُوا: عُمَرُ، فَغَرَسَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ، فَحَمَلَتْ مِنْ عَامِهَا1. رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَابْنُ أَبِي الْخَيْرِ كِتَابَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَتْهُمْ، أَنَا ابن ريذة، أنا الطّبرانيّ، حدثنا الوليد بن حمّاد الرّملي، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْسٌ، فَدَفَعَهَا إِلَيَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَمَيْتُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى انْدَقَّتْ عَنْ سِيَتِهَا2، وَلَمْ أَزَلْ عَنْ مَقَامِي نَصْبَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلْقَى السِّهَامَ بِوَجْهِي، كُلَّمَا مال سهم منها إلى وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَيَّلْتُ رَأْسِي لِأَقِيَ وَجْهَهُ، فَكَانَ آخِرُ سَهْمٍ نَدَرَتْ مِنْهُ حَدَقَتِي عَلَى خَدِّي، وَافْتَرَقَ الْجَمْعُ، فَأَخَذْتُ حَدَقَتِي بِكَفِّي، فَسَعَيْتُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا رَآهَا فِي كَفِّي دَمِعَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ قتادة قدى وَجْهَ نَبِيِّكَ بِوَجْهِهِ، فَاجْعَلْهَا أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا نَظَرًا"، فَكَانَتْ أَحَدَّ عَيْنَيْهِ نَظَرًا3. حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بن زيد: حدثنا الْمُهَاجِرُ مَوْلَى آلِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، قَالَ: فَقَبَضَهُنَّ ثُمَّ دَعَا فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: "خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُنَّ، فَأَدْخِلْ يَدَكَ، فَخُذْ وَلَا تَنْثُرُهُنَّ نَثْرًا" قَالَ: فَحَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا وَسْقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنَّا نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ الْمِزْوَدُ مُعَلَّقًا بِحَقْوِي لا يُفَارِقُ حَقْوِي، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ انْقَطَعَ4. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غريب.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 97".
2 السية: ما انحنى من طرفي القوس.
3 أخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 8"، وقال الهيثمي في "المجمع" "6/ 113": فيه من لم أعرفه.
4 صحيح: أخرجه الترمذي "3865" في كتاب المناقب، باب: مناقب أبي هريرة -رضي الله عنه- والبيهقي في "الدلائل" "6/ 109"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/237)
وَرُوِيَ فِي "جُزْءِ الْحَفَّارِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ: فَأَخَذْتُ مِنْهُ خَمْسِينَ وَسْقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ مُعَلَّقًا خَلْفَ رَحْلِي، فَوَقَعَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ فَذَهَبَ1. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى غَرِيبَةٌ.
وَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَمَنْ ضَيَّفَاهُ حَتَّى كَالَهُ، فأتى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: "لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ" 2.
وَكَانَتْ أُمُّ مَالِكٍ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَها أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَعَصَرْتِيهَا"؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا" 3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسِيرٍ. فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ، حَتَّى هَمَّ أَحَدُهُمْ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَزْوَادِ فَدَعَوْتَ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَفَعَلَ، فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ، فَدَعَا حَتَّى إِنَّهُمْ مَلَئُوا أَزْوَادَهُمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: "أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله، لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 4. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى نَحْوَهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَزَادَ: فَمَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وِعَاءٌ إِلَّا مَلَئُوهُ وَبَقِيَ مِثْلُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 110".
2 صحيح: أخرجه مسلم "2281" في كتاب الفضائل، باب: في معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "6/ 114".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2280" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 114".
4 صحيح: أخرجه مسلم "27" في كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وأحمد "3/ 11"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 120".(1/238)
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ بِهَا إِلَّا حُجِبَ عَنِ النَّارِ" 1. رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْهُ.
وَقَالَ سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءَ الْعُطَارِدِيَّ يقول: حدثنا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسِيرٍ فَأَدْلَجُوا لَيْلَتَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ عَرَّسُوا فَغَلَبَتْهُمْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ أَبُو بَكْرٍ، فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ بَعْدَهُ، فَقَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، حَتَّى يَسْتَيْقِظَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ وَالشَّمْسُ قَدْ بَزَغَتْ قَالَ: "ارْتَحِلُوا"، فَسَارَ بِنَا حَتَّى ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى بِنَا، وَاعْتَزَلَ رَجُلٌ فَلَمْ يُصَلِّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا"؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ، ثُمَّ صَلَّى، وَجَعَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَكُوبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ أَطْلُبُ الْمَاءَ، وَكُنَّا قَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ، قُلْنَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: أَيْهَاتَ فَقُلْنَا: كَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ؟ قَالَتْ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَقُلْنَا: انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: وَمَا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا حَتَّى اسْتَقْبَلْنَا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَدَّثَتْهُ أَنَّهَا مُؤْتِمَةٌ2، فَأَمَرَ بِمَزَادَتَيْهَا فَمَجَّ3 فِي الْعَزْلَاوَيْنِ4 الْعُلْيَاوَيْنِ، فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أربعين رجلًا حتّى روينا وملأنا كلّ قرية معنا وكلّ إدواة.
وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا، وَهِيَ تَكَادُ تَضَرَّجُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: "هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ"، فَجَمَعْنَا لَهَا مِنَ الْكِسَرِ وَالتَّمْرِ، حَتَّى صَرَّ لَهَا صُرَّةً فَقَالَ: "اذْهَبِي فَأَطْعِمِي عِيَالَكِ، وَاعْلَمِي أَنَّا لَمْ نَرْزَأْ مِنْ مَائِكِ شَيْئًا"، فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا قَالَتْ: لَقَدْ أَتَيْتُ أَسْحَرَ النَّاسِ، أَوْ هُوَ نَبِيٌّ كَمَا زَعَمُوا، فَهَدَى اللَّهُ ذَلِكَ الصِّرْمَ5 بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمُوا6. اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
__________
1 أخرجه أحمد "3/ 417-418"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 121".
2 مؤتمة: عندها أيتام.
3 مج: لفظ.
4 العزلاوين: فمي المزادة الأسفلين.
5 الصرم: القطعة من الشيء.
6 صحيح: أخرجه البخاري "3571" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم "682" في كتاب المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة.(1/239)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنْ لَا تُدْرِكُوا الْمَاءَ تَعْطَشُوا"، فَانْطَلَقَ سَرَعَانُ النَّاسِ تُرِيدُ الْمَاءَ، وَلَزِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَمَالَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَنَعَسَ، قَالَ: فَمَالَ فَدَعَمْتُهُ فَأَدْعَمَ وَمَالَ، فَدَعَمْتُهُ فَأَدْعَمَ، ثُمَّ مَالَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَدَعَمْتُهُ فَانْتَبَهَ، فَقَالَ: "مَنِ الرَّجُلُ"؟ قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ: "حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ"، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ عَرَّسْنَا"، فَمَالَ إِلَى شَجَرَةٍ، فَنَزَلَ فَقَالَ: "انْظُرْ هَلْ تَرَى أَحَدًا"؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ، هَذَانِ رَاكِبَانِ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً فَقَالَ: "احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا"، قَالَ: فَنِمْنَا فَمَا أَيْقَظَنَا إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، فَانْتَبَهْنَا فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَارَ وَسِرْنَا هُنْيَةً، ثُمَّ نَزَلْنَا فَقَالَ: "أَمَعَكُمْ مَاءٌ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ مَيْضَأَةٌ1 فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: "فَأْتِنِي بِهَا" 2، فَتَوَضَّئُوا وَبَقِيَ فِي الْمَيْضَأَةِ جُرْعَةٌ فَقَالَ: "ازْدَهِرْ بِهَا يَا أَبَا قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهَا شَأْنٌ"، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْنَا، فَقَالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ: فَرَّطْنَا فِي صَلَاتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَقُولُونَ؟ إِنْ كَانَ أَمْرَ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ، وَإِنْ كَانَ أَمْرَ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ"، قُلْنَا: فَرَّطْنَا فِي صَلَاتِنَا، قَالَ: "لَا تَفْرِيطَ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوهَا مِنَ الْغَدِ لِوَقْتِهَا". ثُمَّ قَالَ: "ظُنُّوا بِالْقَوْمِ"، فَقُلْنَا: إِنَّكَ قُلْتَ بِالْأَمْسِ إِنْ لَا تُدْرِكُوا الْمَاءَ غَدًا تَعْطَشُوا، فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ فَقَالَ: "أَصْبَحَ النَّاسُ وَقَدْ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ"، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالماء، وفي القوم أبا بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَا: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ الله لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويحلّفكم، وَإِنْ يُطِعِ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الظَّهِيرَةُ رُفِعَ لَهُمْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا عَطَشًا انْقَطَعَتِ الْأَعْنَاقُ، قَالَ: "لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا قَتَادَةَ ائْتِنِي بِالْمَيْضَأَةِ"، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: "حُلَّ لِي غُمَرِي" -يَعْنِي قَدَحَهُ- فَحَلَلْتُهُ، فَجَعَلَ يَصُبُّ فِيهِ وَيَسْقِي النَّاسَ، فَقَالَ: "أَحْسِنُوا الْمِلْءَ، فَكُلُّكُمْ سَيَصْدُرُ عَنْ رِيٍّ" فَشَرِبَ الْقَوْمُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَبَّ لِي فَقَالَ: "اشْرَبْ"، قلت: اشرب أنت يا رسول الله، قَالَ: "إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا"، فَشَرِبْتُ ثُمَّ شَرِبَ بَعْدِي، وَبَقِيَ مِنَ الْمَيْضَأَةِ نَحْوٌ ممّا كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمائة.
__________
1 الميضأة: الإناء الذي يتوضأ منه.
2 ازدهر بها: احتفظ بها.(1/240)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَسَمِعَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَأَنَا أُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رياح الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: الْقَوْمُ أَعْلَمُ بِحَدِيثِهِمْ، انْظُرْ كَيْفَ تُحَدِّثُ فَإِنِّي أَحَدُ السَّبْعَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَحْفَظُ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرِي1. وَرَوَاهُ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فبينا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَأَتَاهُ أعرابيّ فقال: يا رسول الله هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءَ قَزْعَةً2، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهُمَا حَتَّى ثَارَتْ سَحَابَةٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنِ الْمِنْبَرِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَنْ لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ، حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا"، فَمَا يُشِيرُ بِيَدَيْهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ، حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ3، وَسَالَ الْوَادِي، وَادِي قُبَاءٍ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي إِلَّا حَدَّثَ بِالْجُودِ4. اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَرَوَاهُ ثَابِتٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، وروح بن عبادة: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ، سَمِعَ عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عُثْمَانَ بن حنيف، أنّ
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "681" في كتاب المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 132-133".
2 قزعة: سحابة.
3 الجوبة: الفرجة.
4 صحيح: أخرجه البخاري "1033" في كتاب الاستسقاء، باب: من تمطر في المطر، ومسلم "897/ 9" في كتاب الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 139-140".(1/241)
رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي، قَالَ: "فَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ اللَّهَ"، قَالَ: فَادْعُهُ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ، فَتَقْضِيهَا لِي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي". فَفَعَلَ الرجل فبرأ1.
قال البيهقيّ: وكذلك رواه حمّاد ين سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَبَطِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ الْخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَهُ رَجُلٌ ضَرِيرٌ فَشَكَا إِلَيْهِ ذِهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ: "ائْتِ الْمَيْضَأَةَ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ صَلِّ ركعتين ثم قل: اللهمّ إنّ أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فَيُجْلِي لِي عَنْ بَصَرِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وشفّعني في نفسي"، قال عُثْمَانُ: فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضَرَرٌ قَطُّ2. رَوَاهُ يَعْقُوبُ الْفَسَوِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَلَبَ يَهُودِيٌّ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ"، قَالَ فَاسْوَدَّ شَعْرُهُ حَتَّى صَارَ أَشَدَّ سَوَادًا مِنْ كذا وكذا3.
__________
1 أخرجه الترمذي "3589" في كتاب الدعوات، باب: رقم "118" وابن ماجه "1385" في كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الحاجة، وأحمد "4/ 138"، والبيهقي في "الدلائل: " "6/ 166" واللفظ له.
ورواية الباقي دون قوله $"وشفعني في نفسي"، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "1/ 323"، وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" "974": صحيح. وكذلك صححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 176".
3 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 210".(1/242)
وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَفِيهِ: "فَاسْوَدَّتْ لِحْيَتُهُ بَعْدَ مَا كَانَتْ بَيْضَاءَ"1.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَتْ لَيْلَةً شَدِيدَةَ الظُّلْمَةِ وَالْمَطَرِ فَقُلْتُ: لَوْ أَنِّي اغْتَنَمْتُ الْعَتْمَةَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبْصَرَنِي وَمَعَهُ عُرْجُونٌ2 يَمْشِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: "يا قتادة اخرج هَذِهِ السَّاعَةَ؟ " قُلْتُ: اغْتَنَمْتُ شُهُودَ الصَّلَاةِ مَعَكَ، فَأَعْطَانِي الْعُرْجُونَ فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ خَلَفَكَ فِي أَهْلِكَ فَاذْهَبْ بِهَذَا الْعُرْجُونِ فَاسْتَعِنْ بِهِ حَتَّى تَأْتِيَ بَيْتَكَ، فَتَجِدَهُ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فاضربه بالعرحون"، فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَضَاءَ الْعُرْجُونُ مِثْلَ الشَّمْعَةِ نُورًا، فَاسْتَضَأْتُ بِهِ فَأَتَيْتُ أَهْلِي فَوَجَدْتُهُمْ رُقُودًا، فَنَظَرْتُ فِي الزَّاوِيَةِ فَإِذَا فِيهَا قُنْفُذٌ، فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ بِهِ، حَتَّى خَرَجَ3.
عَاصِمٌ عَنْ جَدِّهِ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ4، لَكِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ حَدِيثٌ قَوِيٌّ.
وَقَالَ حرميّ بن عمارة: حدثنا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ادْنُ مِنِّي". قَالَ: فَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِي وَلِحْيَتِي ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ وَأَدِمْ جَمَالَهُ"، قَالَ: فَبَلَغَ بِضْعًا وَمِائَةِ سَنَةٍ وَمَا فِي لِحْيَتِهِ إِلَّا نَبْذٌ يَسِيرٌ، وَلَقَدْ كَانَ مُنْبَسِطَ الْوَجْهِ لَمْ يَنْقَبِضْ وَجْهُهُ حَتَّى مَاتَ5. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ مَوْصُولٌ، وَأَبُو زَيْدٍ هُوَ عمرو بن أخطب.
وقال عليّ بن الحسن بن شقيق: حدثنا الحسين بن واقد، حدثنا أبو نهيك
__________
1 منكر: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 210"، وفي إسناده محمد بن إبراهيم بن عزرة، قال المصنف في "الميزان" "7109": روى عنه محمد بن سليمان المنقري خبرًا منكرًا. ا. هـ، يقصد الحديث.
2 العرجون: العذق.
3 إسناده منقطع: أخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 5-6"، وهو منقطع كما يأتي.
4 وذلك أن قتادة بن النعمان مات "23" أو قبلها بعام، وعاصم مات "106"، أبو بعدها.
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 211".(1/243)
الأزديّ عن عمرو بن أخطب وهو أَبُو زَيْدٍ قَالَ: اسْتَسْقَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَفِيهِ شَعْرَةٌ فَرَفَعْتُهَا ثُمَّ نَاوَلْتُهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ"، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ ابْنَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَمَا فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ طَاقَةٌ بَيْضَاءُ1.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بن سليمان: أخبرنا أَبِي، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانَ فِي مَرَضِهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ فِي مُؤَخَّرِ الدَّارِ، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسَحَ وَجْهَهَ، قَالَ: وَكُنْتُ قَلَّمَا رَأَيْتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ كَأَنَّ عَلَى وَجْهِهِ الدِّهَانُ2. رَوَاهُ عارم، ويحيى بن معين، عن معتمر.
وقال عكرمة بن عمّار: حدثنا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشِمَالِهِ فَقَالَ: "كُلْ بِيَمِينِكَ"، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: "لَا اسْتَطَعْتَ"، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْوَلَدُ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ وَيَنْزِعُ إِلَى أُمِّهِ. قَالَ: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا " -قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ- "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ نَزَعَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَهُ إِلَى أُمِّهِ". فَأَسْلَمَ ابن سَلَامٍ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرَ الْمَدَنِيِّ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ مُرْسَلًا، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْهُ، وَفِيهِ: "فَأَمَّا الشَّبَهُ فَأَيُّ النُّطْفَتَيْنِ سَبَقَتْ إِلَى الرَّحِمِ فَالْوَلَدُ له أشبه" 5.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 211-212".
2 أخرجه أحمد "5/ 27-28"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 217".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2021" في كتاب الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب، وأحمد "4/ 46"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 238".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3938" في كتاب مناقب الأنصار، باب: رقم "51" وأحمد "3/ 108، 189، 271" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 528، 529"، و"6/ 260، 261".
5 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل": "6/ 261-262".(1/244)
وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ أَنَّ ثَوْبَانَ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَ حَبْرٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ قُلْتُ: أَلَا تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّمَا سَمَّيْتُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اسْمِي الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أهَلْيِ محمد" فقال اليهوديّ: إن النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟ قَالَ: "فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ"، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: "فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ" قَالَ: مِمَّا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "زِيَادَةُ كَبِدِ نُونٍ" 1 قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: "يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا"، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: "يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ" قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، قَالَ: "سَلْ"، قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ، قَالَ: "مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرجل منيّ المرأة أذكرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرجل آنثا بِإِذْنِ اللَّهِ"، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ سَأَلَنِي هَذَا الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْهُ حَتَّى أَتَانِي اللَّهُ بِهِ" 2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، عَنْ شَهْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يَوْمًا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: "سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ، إِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ تَعْرِفُونَهُ أَتُبَايِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ"؟ قَالُوا: لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: "فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ"، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهَا: أَخْبِرْنَا عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ مَاءِ الرَّجُلِ كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ، حَتَّى يَكُونَ ذَكَرًا، وَكَيْفَ تَكُونُ الْأُنْثَى منه حتى
__________
1 النون: الحوت.
2 صحيح: أخرجه مسلم "315" في كتاب الحيض، باب: بيان صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 263-264".(1/245)
تَكُونَ أُنْثَى، وَمَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ: "فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ لَتُبَايِعُنِّي"، فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، قال: "أنشدكم عَهْدُ اللَّهِ لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ لَتُبَايِعُنِّي"، فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، قَالَ: "أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ: أَلْبَانُ الْإِبِلِ، وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، لَحْمَانُهَا"؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ"، قَالَ: "أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِنْ عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَتْ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ"؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: "اللَّهُمَّ اشهد"، قَالَ: "أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ"؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". قَالُوا: أَنْتَ الْآنَ حَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ، قَالَ: "وَلِيِّي جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ"، قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ غَيْرَهُ مِنَ الملائكة لبايعناك وصدّقناك، قال: "وَلِمَ"؟ قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} 1الآية. ونزلت {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} 2.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أَنْبَأَ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَنَسْأَلْهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ، فَإِنَّهُ إِنْ سَمِعَكَ تَقُولُ نَبِيٌّ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَانْطَلَقَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَاهُ عَنْ قَوْلِهِ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، قَالَ: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تزنوا، لا تسحروا، ولا
__________
1 سورة البقرة: 97.
2 سورة البقرة: 90.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 266-267"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 83-84" وشهر بن حوشب ضعيف الحفظ كما في "التقريب" "2830" ولكن رواية عبد الحميد عنه أصلح حالا من غيرها، قال أحمد: لا بأس لحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر. نقله في "الصحيحة" "4/ 350".(1/246)
وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ فَيَقْتُلَهُ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً -شَكَّ شُعْبَةُ- وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ". فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا"؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَنَحْنُ نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تقتلنا اليهود1.
وقال عفّان: أنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ ابْتَعَثَ نَبِيَّهُ لِإِدْخَالِ رِجَالٍ الْجَنَّةَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَنِيسَةً فَإِذَا هُوَ بِيَهُودَ، وَإِذَا يَهُودِيٌّ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى صِفَتِهِ أَمْسَكَ، وَفِي نَاحِيَتِهَا رَجُلٌ مَرِيضٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا لكم أَمْسَكْتُمْ"؟ فَقَالَ الْمَرِيضُ: إِنَّهُمْ أَتَوْا عَلَى صِفَةِ نَبِيٍّ فَأَمْسَكُوا، ثُمَّ جَاءَ الْمَرِيضُ يَحْبُو حَتَّى أَخَذَ التَّوْرَاةَ وَقَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَقَرَأَ، حَتَّى أَتَى عَلَى صِفَتِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَتُكَ وَصِفَةُ أُمَّتِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لُوا أَخَاكُمْ"2.
وَقَالَ يزيد بن هارون: حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِكْرَزِ، عَنْ وَابِصَةَ -هُوَ الْأَسَدِيُّ- قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ، فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ. فَقَالَ: "ادْنُ يَا وَابِصَةُ"، فَدَنَوْتُ حتى مسّت
__________
1 ضعيف: أخرجه الترمذي "2742" في كتاب الاستئذان، باب: ما جاء في قبلة اليد والرجل، والنسائي "7/ 111" في كتاب تحريم الدم، باب: السحر، وابن ماجه مختصرًا "3705" في كتاب الأدب، باب: الرجل يقبل يد الرجل، وأحمد "4/ 239"، وأبو نعيم في "الحلية" "6528" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 286"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 674": في رجاله من تكلم فيه، وقال في "تفسيره" "3/ 67": هو حديث مشكل وعبد الله بن سلمة، في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع آيات بالعشر كلمات ... إلى أن قال. وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل ابن سلمة فإن له بعض ما ينكر، والله أعلم.
وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "517": ضعيف.
2 إسناده منقطع: أخرجه أحمد "1/ 416" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 273"، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه كما تقدم.(1/247)
رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَقَالَ: "يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ بِمَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ"؟ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ الله، قَالَ: "جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: "يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ: مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وأفتوك" 1.
وقال ابن وهب: حدّثني معاوية عن أبي عبد الله محمد الْأَسَدِيِّ، سَمِعَ وَابِصَةَ الأَسَدِيَّ قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْأَلُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَسْأَلَهُ: "جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ"؟ قُلْتُ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنَّهُ لَلَّذِي جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَقَالَ: "الْبِرُّ مَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُكَ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ" 2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ، سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ خَرَجْنَا إِلَى الطَّائِفِ، فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ: "هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ قَوْمِ ثَمُودَ، فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَهُ مَنَعَهُ مَكَانُهُ مِنَ الْحَرَمِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَتْهُ النَّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ". قَالَ: فابتدرناه فاستخرجنا الغصن3.
__________
1 أخرجه أحمد "4/ 228" وأبو نعيم في "الحلية" "1400"، وقال النووي في "رياض الصالحين "ص178": حديث حسن. وقد ذكر في إسناد أحمد أن الزبير لم يسمع من أيوب بن عبد الله.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 292".
3 ضعيف: أخرجه أبو داود "3088" في كتاب الخراج، باب: نبش القبور، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 297" وأخرجه أيضًا المصنف بسنده في "الميزان" "1124" وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "678": ضعيف.(1/248)
بَابٌ: مِنْ أَخْبَارِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالكوائن بعده فوقعت كما أخبر
شعبة بن عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا يَكُونُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ مَا يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْهَا1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا مَا تَرَكَ فِيهِ شَيْئًا إلى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَفِي لَفْظٍ: "حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ" وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ2. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ بِمَعْنَاهُ.
وقال عزرة بن ثابت: حدثنا علباء بن أحمر، حدثنا أَبُو زَيْدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْفَجْرَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى أَظُنَّهُ قَالَ: حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَحْفَظُنَا أَعْلَمُنَا3. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا، أَلَا تَسْتَنْصِرُ اللَّهَ لَنَا؟ فَجَلَسَ مُحْمَارًّا وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَيُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَتُحْفَرُ لَهُ الحفرة، فيوضع المنشار على رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، أَوْ يُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا بَيْنَ عَصَبِهِ وَلَحْمِهِ، مَا يَصْرِفُهُ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ الله
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2891/ 24" في كتاب الفتن، باب: إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يكون إلى قيام الساعة.
2 صحيح: أخرجه البخاري "6604" في كتاب القدر، باب: وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، ومسلم "2891/ 23" في المصدر السابق.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2892" في المصدر السابق، وأحمد "5/ 341".(1/249)
هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْكُمْ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخْشَى إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ لَكَ مِنْ أَنْمَاطٍ" 2، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّى يَكُونُ لِي أَنْمَاطٌ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ"، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ الْيَوْمَ لِامْرَأَتِي: نَحِّي عَنِّي أَنْمَاطَكِ، فَتَقُولُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ أَنْمَاطٌ بَعْدِي، فَأَتْرُكُهَا3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي فَيَبُسُّونَ4 فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تُفْتَحُ الْعِرَاقُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ فَيَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" 5. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن العلاء بن زبر، حدثنا بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ لِي: "يَا عَوْفُ اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مَوْتَانُ 6، يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ 7 الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ فِيكُمْ، حَتَّى يعطى الرجل مائة دينار فيظلّ
__________
1 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
2 أنماط: جموع نمط، وهو ثوب من صوف يطرح على الهودج.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3631" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم "2083" في كتاب اللباس، باب: جواز اتخاذ الأنماط، والبيهقي في "الدلائل: " "6/ 319".
4 يبسون: يسوقون دوابهم.
5 صحيح: أخرجه البخاري "1875" في كتاب فضائل المدينة، باب: من رغب عن المدينة ومسلم "1388" في كتاب الحج: باب: الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار، وأحمد "5/ 219-220"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 320".
6 موتان: وباء.
7 قعاص: داء يأخذ الدواب فتموت فجأة.(1/250)
سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً 1، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا" 2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ، سَمِعَ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا" 3. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مالك، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا فَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا"4. مُرْسَلٌ مَلِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ مُتَّصِلًا5.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هَاجَرُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ قِبْطِيَّةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ قِبْطِيَّةٌ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَهْلِكُ كِسْرَى، ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ، وَلَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" 6. متّفق عليه.
__________
1 غاية: راية.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3176" في كتاب الجزية، باب: ما يحذر من الغدر، وابن ماجه "4042" في كتاب الفتن، باب: أشراط الساعة، وأحمد "5/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "6641"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 320-321".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2543" في كتاب فضائل الصحابة، باب: وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهل مصر، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 321".
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 322".
5 أخرجه البيهقي في المصدر السابق.
6 صحيح: أخرجه البخاري "3618" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم "2918"، في كتاب الفتن، باب: رقم "18"، وأحمد "2/ 233، 240، 256، 272، 313، 501"، والترمذي "2223" في كتاب الفتن، باب: ما جاء إذا ذهب كسرى فلا كسرى بعده، وعبد الرزاق في "مصنفه" "20814"، والبيهقي في "سننه" "9/ 177"، وفي "الدلائل" "4/ 393"، وابن حبان في "صحيحه" "6689"، والبغوي في "شرح السنة" "3728، 3729".(1/251)
أَمَّا كِسْرَى وَقَيْصَرُ الْمَوْجُودَانِ عِنْدَ مَقَالَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُمَا هَلَكَا، وَلَمْ يَكُنْ بعد كسرى كسرى آخر، ولا بعد قيصر بالشام قيصر آخر، وانفقت كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْرِ عُمَرَ -رَضِيَ الله عنه- وبقي للقياصرة ملك بالروم وقسطنطينية، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَبُتَ مُلْكُهُ"1 حِينَ أَكْرَمَ كِتَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ تَعَالَى فتح القسطنطينة، وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَكَاسِرَةِ مُلْكٌ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ" حِينَ مَزَّقَ كِتَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمَ، قَالَ فَأَلْقَى إِلَيْهِ سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، فَجَعَلَهُمَا فِي يَدَيْهِ فَبَلَغَا مَنْكِبَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمَا عُمَرُ فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ سِوَارَا كِسْرَى فِي يَدِ سُرَاقَةَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ3.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ عَنْ عديّ بن حاتم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُثِّلَتْ لِيَ الْحِيرَةُ كَأَنْيَابِ الْكِلَابِ وَإِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَهَا"، فقام رجل فقال: يا رسول الله هَبْ لِي ابْنَةَ بُقَيْلَةَ، قَالَ: "هِيَ لَكَ" فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهَا، فَجَاءَ أَبُوهَا فَقَالَ: أَتَبِيعُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِكَمْ؟ احْكُمْ مَا شِئْتَ، قَالَ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهَا، قَالُوا لَهُ: لَوْ قُلْتَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا لَأَخَذَهَا، قَالَ: وَهَلْ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ4.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَمَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الْأَزْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ سَتُجَنِّدُونَ أَجْنَادًا، جُنْدًا بِالشَّامِ، وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ، وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خِرْ لِي، قَالَ: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَسْقِ مِنْ غدره، فإنّ الله
__________
1 أخرجه البيهقي في "سننه" "9/ 177" عند الشافعي معضلًا.
2 مرسل: أخرجه البخاري "4424" في كتاب المغازي، باب: كِتَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى كسرى وقيصر، عن سعيد بن المسيب مرسلًا.
3 إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 325"، والحسن ولد في آخر خلافة عمر -رضي الله عنه.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 326".(1/252)
قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ"، قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: مَنْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ فَلَا ضَيْعَةَ عَلَيْهِ1. صَحِيحٌ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا وَكِرْمَانَ -قَوْمًا مِنَ الْأَعَاجِمِ- حُمْرُ الْوُجُوهِ، فُطْسُ الْأُنُوفِ، صِغَارُ الْأَعْيُنِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ 2 الْمُطْرَقَةُ" 3، قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ" 4.
"خ"5. وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارِ أَبِي الْحَكَمِ، عَنْ جَبْرِ بْنِ عَبِيدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةَ الْهِنْدِ، فَإِنْ أدركتها أنفق فيها ما لي وَنَفْسِي، فَإِنِ اسْتُشْهِدْتُ كُنْتُ مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ رَجَعْتُ فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرِّرُ6. غَرِيبٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طالب، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْعَاقِبَةَ فِي الآخر وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ" 7. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم
__________
1 صحيح: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 326-327" من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود ""2483" في كتاب الجهاد، باب: في سكنى الشام، وأحمد "4/ 110"، وأبو نعيم في "الحلية" "1341"، وقال الألباني في "صحيح الجامع" "3659": صحيح.
2 المجان: جمع مجن، وهو الترس.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3590" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، من حديث أبي هريرة.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3587" في المصدر السابق، ومسلم "2912" في كتاب الفتن، باب: رقم "18" من حديث أبي هريرة.
5 كذا رمز له بهذا الرمز الذي يعني أن البخاري أخرجه وليس كذلك فانظر التعليق الآتي.
6 إسناده ضعيف: أخرجه النسائي "6/ 42" في كتاب الجهاد، باب: غزوة الهند، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 336"، وقال المصنف في "الميزان" "1437": خبر منكر، وقال الألباني في "ضعيف سنن النسائي": ضعيف الإسناد.
7 صحيح: أخرجه مسلم "2270" في كتاب الرؤيا، باب: رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "6/ 337".(1/253)
الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ"، قَالُوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ" 1. اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخَشْنِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إن اللَّهَ بَدَأَ هَذَا الْأَمْرَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، وَكَائِنًا خِلَافَةً وَرَحْمَةً، وَكَائِنًا مُلْكًا عَضُوضًا، وَكَائِنًا عُتُوًّا وَجَبْرِيَّةً وَفَسَادًا فِي الْأُمَّةِ، يَسْتَحِلُّونَ الْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ وَالْحَرِيرَ وَيُنْصَرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُرْزَقُونَ أَبَدًا حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ"2.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ وَغَيْرُهُ، عَنْ سعيد بن جهمان، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ". قَالَ لِي سَفِينَةُ: أَمْسَكَ أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَعُمَرُ عشرًا، وعثمان اثنتي عشرة، وَعَلِيٌّ سِتًّا. قُلْتُ لِسَفِينَةَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً، قَالَ: كَذَبَتْ أَسْتَاهُ بَنِي الزَّرْقَاءِ، يَعْنِي بَنِي مَرْوَانَ3. كَذَا قَالَ فِي عَلِيٍّ "سِتًّا"، وَإِنَّمَا كَانَتْ خِلَافَةُ عَلِيٍّ خَمْسَ سِنِينَ إِلَّا شَهْرَيْنِ، وَإِنَّمَا تَكْمُلُ الثَّلَاثُونَ سَنَةً بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ زَائِدَةٍ عَمَّا ذُكِرَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ صالح بن كيسان، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قال: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُدِئَ فِيهِ، فَقُلْتُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ: "وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَهَيَّأْتُكِ وَدَفَنْتُكِ"، فَقُلْتُ غَيْرَى: كَأَنِّي بِكَ في
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3455" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم "1842" في كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 338".
2 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 340" وليث هو ابن أبي سليم، ضعيف الحفظ.
3 صحيح: أخرجه أبو داود "6464" في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، والترمذي "2233" في كتاب الفتن، باب: ما جاء في الخلافة، وأحمد "2/ 220-221" والطبراني في "الكبير" "6442"، وأبو نعيم في "الحلية" "1280"، والحاكم في "مستدركه" "4438" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 341" وابن حبان في "صحيحه" "6657" وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".(1/254)
ذَلِكَ الْيَوْمِ عَرُوسًا بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَقَالَ: "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ، ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يقول قائل ويتمنّى ممتنّ: أَنَّى وَلَا، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُ: فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَّى، وَلَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وَقَالَ: "اثْبُتْ عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ" 2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوَهُ، لَكِنَّهُ قَالَ "حِرَاءَ" بَدَلَ "أُحُدٍ" وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى حِرَاءٍ، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ" 3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
أَبُو بَكْرٍ صِدِّيقٌ، وَالْبَاقُونَ قَدِ اسْتُشْهِدُوا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقد خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، قَالَ: "وَلِمَ"؟ قَالَ: نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَانَا عَنِ الْخُيَلَاءِ، وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَانَا أَنْ نرفع أصواتنا، وَأَنَا جَهِيرُ الصَّوْتِ، فَقَالَ: "يَا ثَابِتُ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَعَاشَ حَمِيدًا، وَقُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ4. مرسل، وثبت أنّه قتل يوم اليمامة.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 343"، وأخرجه مسلم "2387" في كتاب الفضائل، باب: من فضائل أبي بكر، من قول "ادعى لي أبا بكر وأخاك ... " الحديث.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3686" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2417" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير -رضي الله عنهما.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 355".(1/255)
وقال الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكن التَّحْرِيشُ" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسَرَّ إِلَيَّ: "إِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقًا بِي وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ" 2. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه كَانَ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ" 3. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عُمَرَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ4.
وَمِنْ وُجُوهٍ، عَنْ عَلِيٍّ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ5.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمَصْرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ "يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ"، فَقَدِمَ رَسُولٌ مِنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِينَا عَدُوَّنَا فَهَزَمُونَا، فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ "يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ"، فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، فقلنا لعمر: كنت تصيح بذلك6.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2812" في كتاب صفة القيامة، باب: تحريش الشيطان، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 363".
2 صحيح: أخرجه البخاري "6285، 6286" في كتاب الاستئذان، باب: من ناجي بين يدي الناس، ومسلم "2450/ 99" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل فاطمة -رضي الله عنها.
3 صحيح: أخرجه مسلم "23987" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر -رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري "3689" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 369، 370".
6 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 370".(1/256)
وَقَالَ ابْنُ عَجْلَانَ: وَحَدَّثَنَا إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، فَذَكَرَ حَدِيثَ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: فَوَفَدَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى عُمَرَ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ يُدْعَى أُوَيْسًا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا ههنا مِنَ الْقَرَنِيِّينَ أَحَدٌ؟ قَالَ: فَدُعِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَلَا يَدَعُ بِهَا إِلَّا أمًّا له، قد كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ عَنْهُ، فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ، يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَأْمُرْهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا عَنْ رِجَالِهِ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُخْتَصَرًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أُسَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ أَهْلُ الْيَمَنِ جَعَلَ عُمَرُ يَسْتَقْرِئُ الرِّفَاقَ فَيَقُولُ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ قَرَنٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى قَرَنٍ، قَالَ: فَوَقَعَ زِمَامُ عُمَرَ أَوْ زِمَامُ أُوَيْسٍ، فَتَنَاوَلَهُ عُمَرُ، فَعَرَفَهُ بِالنَّعْتِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: أُوَيْسٌ، قَالَ: هَلْ كَانَتْ لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ كَانَ بِكَ مِنَ الْبَيَاضِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ عَنِّي إِلَّا مَوْضِعَ الدِّرْهَمِ مِنْ سُرَّتِي لِأَذْكُرَ بِهِ رَبِّي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي، أَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، وَلَهُ وَالِدَةٌ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ" 2. الْحَدِيثَ.
وَقَالَ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ أَمْدَادُ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كان به برص فبرأ منه إلا
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2543/ 223" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أويس القرني -رضي الله عنه- والبيهقي في "الدلائل" "6/ 375".
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 376"، وأخرجه مسلم مختصرًا "2542/ 224" في المصدر السابق.(1/257)
موضع درهم له والدة هو بها بر، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ" فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عامله فَيَسْتَوْصُوا بِكَ خَيْرًا؟ فَقَالَ: لَأَنْ أَكُونَ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إليَّ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ أُوَيْسٍ، كَيْفَ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسٌ مَعَ أَمْدَادِ الْيَمَنِ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ والدة هو بها بر، لو أقسم على اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ" فَلَمَّا قَدِمَ الرَّجُلُ أَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي، وَقَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْتَغْفِرْ لَهُ، قَالَ فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ أُسَيْرُ بْنُ جَابِرٍ: فَكَسَوْتُهُ بُرْدًا، فَكَانَ إِذَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذَا1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِطُولِهِ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ أَصْحَابَ عَلِيٍّ: "أَفِيكُمْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ"؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَضَرَبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ مَعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "خَيْرُ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ"2.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عن حُذَيْفَة، كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، قَالَ: هَاتِ إِنَّكَ لجرئ، فَقُلْتُ: ذِكْرُ فِتْنَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا أَعْنِي، إِنَّمَا أَعْنِي الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ يَنَالُكَ مِنْ تِلْكَ شَيْءٌ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَرَأَيْتَ الْبَابَ يُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لَا يُغْلَقُ أَبَدًا، قُلْتُ: أَجَلْ، فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ من الباب؟ قَالَ: نعم،
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2542/ 225" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 376-377".
2 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 378" ويزيد، وشريك كلاهما في حفظه ضعف.(1/258)
كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا دُونَهُ اللَّيْلَةَ، وَذَلِكَ إنّي حدّثته حديثًا ليس بالأغاليط، فَسَأَلَهُ مَسْرُوقٌ: مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ1. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي حَدِيثِ الْقُفِّ: فَجَاءَ عُثْمَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، عَلَى بَلْوَى -أَوْ بَلَاءٍ- يُصِيبُهُ" 2. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَطَّانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي سَهْلَةَ مَوْلَى عُثْمَانَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ادْعِي لِي -أَوْ لَيْتَ عِنْدِي- رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي"، قَالَتْ: قُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: "لَا"، قُلْتُ: عُمَرُ؟ قَالَ: "لَا"، قُلْتُ: ابْنُ عَمِّكَ عَلِيٌّ؟ قَالَ: "لَا"، قُلْتُ: فَعُثْمَانُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: فَجَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ: قُومِي، قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسِرُّ إِلَى عُثْمَانَ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ قُلْنَا: أَلَا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهِدَ إِلَيَّ أَمْرًا، فَأَنَا صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ3.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ نَاجِيَةَ الْكَاهِلِيِّ -فِيهِ جَهَالَةٌ- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ رَأْسِ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَإِنْ يَهْلِكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِلَّا تروخي عنهم سعين سنة"، فقال عمر: يا رسول الله من أمن هذا أو من مستقبله؟ قال: "من مستقبله" 4.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "525" في كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، ومسلم "144" في كتاب الفتن، باب: الفتنة التي تموج موج البحر.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3674" في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "لوكنت متخذا خليلًا" ومسلم "2403" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل عثمان بن عفان، والترمذي "3730" في كتاب المناقب، باب: مناقب عثمان بن عفان، وأحمد "4/ 393، 406، 407" وأبو نعيم في "الحلية" "166"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 388، 389".
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 391".
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 393" بهذا اللفظ، وأخرجه أبو داود "4254" في كتاب الفتن، باب: ذكر الفتن، ولفظه "قلت: أمما بقي أو مما مضى، قال: مما مضى". وأخرجه أحمد "1/ 390، 3939-394، 451" وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".(1/259)
وَقَالَ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَتْ عَائِشَةُ بَعْضَ دِيَارِ بَنِي عَامِرٍ، نَبَحَتْ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْءَبِ، فَقَالَتْ: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ قَالُوا: الْحَوْءَبُ، قَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ إِذَا نَبَحَتْهَا كِلَابُ الْحَوْءَبِ". فَقَالَ الزُّبَيْرُ: تَقَدَّمِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ بَيْنَ النَّاسِ1.
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، تَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ" 2. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو: كَانَ أَهْلُ الشَّامِ سِتِّينَ أَلْفًا، فقتل منهم عشرون ألفًا، وكان العراق مائة ألف وعشرين ألفا، فقتل منهم أربعون ألفا، وذلك يوم صفين.
وقال شعبة: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي -يَعْنِي أَبَا قَتَادَةَ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِعَمَّارٍ: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" 3.
وَقَالَ الْحَسَنُ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَهُ. رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نَقْرَأُ: جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا جَاهَدْتُمْ فِي أَوَّلِهِ! قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ الْأُمَرَاءَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ الْوُزَرَاءَ. رواه الرماديّ عنه4.
__________
1 أخرجه أحمد "6/ 52، 97"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 410".
2 صحيح: أخرجه البخاري "7121" في كتاب الفتن، باب: رقم "25"، ومسلم "157" في كتاب الفتن، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2916" في كتاب الفتن، باب: رقم "18".
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 422".(1/260)
وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني وهو بِالْيَمَنِ بِذَهَبٍ فِي تُرْبَتِهَا فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَرْبَعَةٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْكِلَابِيِّ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أُعْطِيهِمْ أَتَأَلَّفُهُمْ"، فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاتِئُ2 الْجَبِينِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِي أَهْلُ السَّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي"؟ فَاسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ فِي قَتْلِهِ، فَأَبَى ثُمَّ قَالَ: "يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ 3 هَذَا قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ" 4. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ بِمَعْنَاهُ.
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَالضَّحَّاكُ، يَعْنِي الْمشرفي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا، فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ مِنْ بَنِي تميم: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْدِلْ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ وَمَنْ يَعْدِلْ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ". فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: "لَا، إِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثم ينظر إلى
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1065/ 150" في كتاب الزكاة، باب: ذكر الخوارج، وأبو داود "4667" في كتاب السنة، باب: ما يدل على ترك الكلام في الفتنة، وأحمد "3/ 5، 32، 45، 48، 79" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 424".
2 ناتئ: بارز.
3 الضئضئ: أصل الشيء.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3344" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ومسلم "1064/ 143" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 426، 427".(1/261)
رِصَافِهِ 1 فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ 2 فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ3 فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَدْعَجُ 4 إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ" 5. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَشْهَدُ أَنِّي كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ قَتَلَهُمْ، فَالْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى وأُتيّ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم6. أخرجه البخاريّ.
وقال أيّوب، عن أن سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: ذَكَرَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَهْلَ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُودَنُ7 الْيَدِ أَوْ مَثْدُونُ8 الْيَدِ أَوْ مُخْدَجُ9 الْيَدِ، لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَنَبَّأْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ10. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْوَضِيِّ السُّحَيْمِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ بِالنَّهْرَوَانِ، فَقَالَ لَنَا: الْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَتَوْهُ فَقَالَ: ارْجِعُوا فَالْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ، فَوَاللَّهِ مَا كُذِبْتُ وَلَا كَذَبْتُ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَرَجَعُوا فَقَالُوا: قَدْ وَجَدْنَاهُ تَحْتَ الْقَتْلَى فِي الطِّينِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَبَشِيًّا، لَهُ ثَدْيٌ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، عَلَيْهِ شُعَيْرَاتٌ كَالشُّعَيْرَاتِ الَّتِي عَلَى ذَنَبِ الْيَرْبُوعِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ عَلِيٌّ11. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ".
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: جَاءَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، فقال: لا والذي فلق الحبّة وبرأ
__________
1 الرصاف: عقب يلوى على مدخل النصل فيه.
2 النضي: نصل السيف.
3 القذذ: آذان السهم.
4 الأدعج: متسع العين مع شدة سوادها وبياضها.
5 تدردر: تضطرب.
6 صحيح: أخرجه البخاري "3610" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام.
7 مودن: ناقص.
8 مثدون اليد: صغير اليد.
9 مخدج: ناقص.
10 صحيح: أخرجه مسلم "1066/ 155" في المصدر السابق، وأحمد "1/ 155"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 431".
11 أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" "169"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 433".(1/262)
النَّسْمَةَ، وَلَكِنِّي مَقْتُولٌ مِنْ ضَرْبَةٍ عَلَى هَذِهِ تَخْضِبُ هَذِهِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَتِهِ- عَهْدٌ وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ، وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى1.
وَقَالَ أبو النّضر: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ أَبُوهُ بَدْرِيًّا قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَائِدًا لِعَلِيٍّ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ ثقل به، فَقَالَ لَهُ أَبِي: مَا يُقِيمُكَ بِمَنْزِلِكَ هَذَا؟ لَوْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ لَمْ يَلِكَ إِلَّا أَعْرَابُ جُهَيْنَةَ! تُحْمَلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ وَلِيَكَ أَصْحَابُكَ وَصَلُّوا عَلَيْكَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهِدَ إِلَيَّ أَنِّي لَا أَمُوتُ حَتَّى أُؤَمَّرَ، ثُمَّ تُخْضَبُ هَذِهِ مِنْ دَمِ هَذِهِ -يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ هَامَتِهِ- فَقُتِلَ، وَقُتِلَ أَبُو فَضَالَةَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ2.
وَقَالَ الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَظِيمَتَيْنِ" 3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ دُونَ "عَظِيمَتَيْنِ".
وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَهُوَ بِسَاحِلِ حِمْصٍ، وَهُوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا". قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: "أَنْتِ فِيهِمْ"، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ"، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "لا" 4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فِيهِ إِخْبَارُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ أُمَّتَهُ يَغْزُونَ الْبَحْرَ، وَيَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 438-439".
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 438".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3629" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 442".
4 صحيح: أخرجه البخاري "2924" في كتاب الجهاد، باب: ما قيل في قتال الروم، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 452".(1/263)
"إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا دَجَّالًا كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ2.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ لِلْحَجَّاجِ: أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا3، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ4. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، تعني بالكذّاب المختار بن أبي عُبَيْدٍ5.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْن سالم الجزريّ، حدثنا الْأَحْوَصُ بْنُ الْحَكِيمِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ، يَهَبُ اللَّهُ لَهُ الْحِكْمَةَ، وَرَجُلٌ يُقَالُ لَهُ غَيْلَانُ، هُوَ أَضَرُّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ إِبْلِيسَ"6. مَرْوَانُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ ابن جريج: أخبرنا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ يَقُولُ: "تَسْأَلُونَ عَنِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ" 7. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ العشاء ليلةً
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2923" في كتاب الفتن، باب: رقم "18"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 480".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3609" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم "157/ 84" في كتاب الفتن، باب: رقم "18".
3 المبير: المهلك.
4 صحيح: أخرجه مسلم "2545" في كتاب فضائل الصحابة، باب: ذكر كذاب ثقيف ومبيرها، وأحمد "6/ 351"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 481".
5 تأتي ترجمته "366".
6 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 496"، ومروان بن سالم متروك، ومتهم بالوضع كما في "الميزان" "8425"، وقد ذكر له المصنف هذا الحديث من مناكيره.
7 صحيح: أخرحه مسلم "2538" في كتاب فضائل الصحابة، باب: بيان معنى قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة"، وأحمد "3/ 326، 345، 385"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 501".(1/264)
فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ على ظهر أَحَدٌ" 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَقَالَ الْجُرَيْرِيُّ: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ أَبِي الطُّفَيْلِ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ ممّن لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرِي، قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ تُوُفِّيَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ3.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "يَعِيشُ هَذَا الْغُلَامُ قَرْنًا"، قَالَ: فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ4.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: عن الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: وُلِدَ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّوْهُ الْوَلِيدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُمْ، غَيِّرُوا اسْمَهُ فَسَمُّوهُ عَبْدَ اللَّهِ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رجل يقال الْوَلِيدُ، هُوَ شَرٌّ لِأُمَّتِي مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ"5. هَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَرَاسِيلُهُ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ6.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَغَلًا 7، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا 8، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا" 9. غَرِيبٌ، وَرُوَاتُهُ ثقات.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "116" في كتاب العلم، باب: السمر في العلم، ومسلم "2537" في المصدر السابق.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2340" في كتاب الفضائل، باب: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض مليح الوجه، وأبو داود "4864" في كتاب الأدب، في هدي الرجل، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 204، 205" والمقصد: الذي ليس بجسيم ولا نحيف، ولا طويل ولا قصير.
3 تأتي ترجمته "319".
4 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 503" وفي إسناده الواقدي، وهو متروك.
5 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 505"، وقال: هذا مرسل حسن.
6 تأتي ترجمته "455".
7 الدغل: الفساد.
8 الخول: الأتباع والخدم.
9 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 508".(1/265)
وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، لَكِنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثِينَ رَجُلًا"1.
وقال سليمان بن حيّان الأحمر: أنبأنا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ النَّصْرِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَرِيفٌ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَرِيفٌ نَزَلَ الصُّفَّةَ، فَنَزَلْتُ الصُّفَّةَ، وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرَافِقُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ مُدًّا مِنْ تَمْرٍ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فِي صَلَاتِهِ؛ إِذْ نَادَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْرَقَ بُطُونَنَا التَّمْرُ، وَتَخَرَّقَتْ عَنَّا الْخُنُفُ2 قَالَ: وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَصَاحِبِي، مَكَثْنَا بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَا لَنَا طَعَامٌ غَيْرُ الْبَرِيرِ 3 -وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ- حَتَّى أَتَيْنَا إِخْوَانَنَا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَآسَوْنَا مِنْ طَعَامِهِمْ، وَكَانَ جُلَّ طَعَامِهِمُ التَّمْرُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْ قَدِرْتُ لَكُمْ عَلَى الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لَأَطْعَمْتُكُمُوهُ، وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ أَوْ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، تَلْبَسُونَ أَمْثَالَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيُغْدَى وَيُرَاحُ عَلَيْكُمْ بِالْجِفَانِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ أَمِ الْيَوْمَ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ، أَنْتُمُ الْيَوْمَ إِخْوَانٌ، وَأَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 4.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ: ذَكَرَ سُفْيَانُ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى يُحَنِّسَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ5 وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"6. حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَنَاجَى رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثَةً: سَأَلْتُهُ أَنْ لا
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 507"، وعطية هو العوفي، ضعيف الحفظ.
2 الخنف: من الثياب الرديء.
3 البرير: ثمر الأراك.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 524".
5 المطيطاء: الخيلاء.
6 مرسل: أخرجه البخاري في "الدلائل" "6/ 525".(1/266)
يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ1 فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا" 2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى 3 لِيَ الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ 4، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا" 5.
وَقَالَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ" 6.
"وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" 7.
"وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ من أمّتي بالمشركين حتى يعبدوا
__________
1 السنة: القحط.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2890" في كتاب الفتن، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، وأحمد "1/ 1825"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 526".
3 زوى: جمع.
4 بيضتهم: أصلهم.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2889" في المصدر السابق، وأبو داود "4252" في كتاب الفتن، باب: ذكر الفتن، باب: رقم "14"، وابن ماجه "3952" في كتاب الفتن، باب: ما يكون من الفتن، وأحمد "5/ 278-284"، وأبو نعيم في "الحلية" "2435" والبيهفي في "الدلائل" "6/ 526-527"، والبغوي في "شرح السنة" "4015".
6 صحيح: أخرجه الترمذي "2236" في كتاب الفتن، باب: ما جاء في الأئمة المضلين، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 5274" من حديث ثوبان، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
7 صحيح: أخرجه أبو داود "4252" في كتاب الفتن، باب: ذكر الفتن، والترمذي "2209" في كتاب الفتن، باب: رقم "32" وابن ماجه "3952" في كتاب الفتن، باب: ما يكون من الفتن، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 527" وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".(1/267)
الْأَوْثَانَ 1، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" 2.
"وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى" 3. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ يُونُسُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الهَرْج". قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ"، قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا". قَالُوا: ومعنا يومئذ عقولنا؟ قال: "إنّه ينزع عُقُولُ أَكْثَرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُمْ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسَبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ" 4.
وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ معهم سياط كأذناب البقر، يضربون النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ5 الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يجدن ريحها وإن رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا"6. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ، كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: أَمِنْ قِلَّةٍ نحن
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "4252" في المصدر السابق، والترمذي "2226" في كتاب الفتن، باب: ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون، والبيهفي في "الدلائل" "6/ 527" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
2 صحيح: هو بقية الحديث السابق.
3 صحيح: أخرجه مسلم "1920" في كتاب الإمارة، باب: رقم "53"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 527".
4 أخرجه أحمد "4/ 405، 406"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 529".
5 البخت: الإبل الخراسانية.
6 صحيح: أخرجه مسلم "2128" في كتاب اللباس، باب: النساء الكاسيات العاريات، وأحمد "2/ 356، 440" والبيهقي في "الدلائل" "6/ 532، 533".(1/268)
يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ"، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ" 1.
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بن جابر، حدثنا أَبُو عَبْدِ السَّلَامِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي، ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مِثْلِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ" 2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو: حَدَّثَنِي أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَازِيُّ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلّها فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ" 3. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا" 4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "4297" في كتاب الملاحم، باب: في تداعي الأمم على الإسلام، وأحمد "5/ 278" وأبو نعيم في "الحلية" "591" والبيهفي في "الدلائل" "6/ 534"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
2 صحيح: أخرجه مسلم "2364" في كتاب الفضائل: باب: فضل النظر إليه -صلى الله عليه وسلم- وأخرجه أيضًا البخاري "3589" في كتاب المناقب، باب: النبوة في الإسلام، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 536".
3 صحيح: أخرجه أبو داود "4597" في كتاب السنة، باب: شرح السنة، وأحمد "4/ 102" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "8/ 21": إسناده حسن. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
4 صحيح: أخرجه البخاري "80" في كتاب العلم، باب: رفع العلم، ومسلم "2671" في كتاب العلم، باب: رفع العلم.(1/269)
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ كَثِيرُ النَّوَاءِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَوْمٌ يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ، هُمْ بَرَاءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ"2. كَثِيرٌ ضَعِيفٌ تَفَرَّدَ بِهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَمْزَةَ، أنا زَهْدَمٌ، أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوَفُّونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" 3. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالضَّعِيفَةُ فِي إِخْبَارِهِ بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ كَثِيرَةٌ إِلَى الْغَايَةِ، اقْتَصَرْنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا4، وَمَنْ لم يجعل الله نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْتُبَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ يؤيدنا بروحٍ منه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "100" في كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم، ومسلم "3673" في المصدر السابق.
2 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 547"، وكثير النواء ضعيف كما في "الميزان" "6930".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3651" في كتاب فضائل الصحابة، باب: رقم "1"، ومسلم "2535" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة.
4 وقد استوعب غالبها الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 536-776".(1/270)
بَابٌ: جَامِعٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَرَفَعُوهُ: قَالُوا: هَذَا كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ، فَأُعْجِبُوا بِهِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَى يُحْسِنُ مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ. فَأَمَاتَهُ اللَّهُ، فَأَقْبَرُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، قَالُوا: هَذَا عَمَلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ: فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: هَذِهِ هِيَ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى، وَهِيَ "الْقُرْآنُ" فَإِنَّ النَّبِيَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَانَ يَأْتِي بِالْآيَةِ وَتَنْقَضِي بِمَوْتِهِ، فَقَلَّ لِذَلِكَ مَنْ يَتْبَعُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِكَوْنِ مُعْجِزَتِهِ الْكُبْرَى بَاقِيَةً بَعْدَهُ، فَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ عَلَى مَمَرِّ الْأَزْمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ زَائِدَةُ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا صُدِّقَ نَبِيُّ مَا صُدِّقْتُ، إِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أمّته إلا الرجل الواحد" 4. رواه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2781" في كتاب صفات المنافقين، باب: رقم "1"، وأحمد "3/ 222"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 126".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3617" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 127".
3 صحيح: اخرجه البخاري "4981" في كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحي، ومسلم "152" في كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "7/ 129"، وأبو نعيم في "الحلية" "15112".
4 صحيح: أخرجه مسلم "196/ 332" في كتاب الإيمان، باب: رقم "85"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 130".(1/271)
وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1 قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ جملةً واحدةً إلى سماء الدُّنْيَا، وَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ، فَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ينزله عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 2.
__________
1 سورة القدر: 2.
2 سورة الفرقان: 32.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 131".(1/272)
بَابُ: آخِرِ سُورَةٍ نُزِّلَتْ
قَالَ أَبُو الْعُمَيْسِ، عن عبد المجيد ين سُهَيْلٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 1 قَالَ: صَدَقْتَ2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، قَالَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مِثْلَ مَا تَعْلَمُ يابن عَبَّاسٍ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ يَقُولُ: آخِرُ سُورَةٍ نزلت براءة، وآخر آية نزلت "يستفتونك"4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمِ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آية أنزلها الله آية الرّبا5.
__________
1 سورة النصر: 1.
2 صحيح: أخرجه مسلم "3024" في كتاب التفسير، باب: رقم "1".
3 صحيح: أخرجه البخاري "4970" في كتاب التفسير، باب: قوله {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ، والبيهفي في "الدلائل" "5/ 446"، "7/ 134، 135".
4 صحيح: أخرجه البخاري "4654" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ومسلم "1618" في كتاب الفرائض، باب: آخر آية أنزلت آية الكلالة، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 136".
5 صحيح: أخرجه البخاري "4544" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 138".(1/272)
وقال الحسين بن واقد، عن زيد النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 1.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: آخِرُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرِّبَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ2. صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} 3.
فَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّا مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِمُقْتَضَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ قَالَا: نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ، والبقرة، وآل عمران، والأنفال، والمائدة، والممتحنة، والنّساء، {إِذَا زُلْزِلَتِ} ، والحديد، ومحمد، والرّعد، والرحمن، {هَلْ أَتَى} ، والطّلاق، ولم يكن، والحشر، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} ، وَالنُّورُ، وَالْحَجُّ، وَالْمُنَافِقُونَ، وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْحُجُرَاتُ، وَالتَّحْرِيمُ، وَالصَّفُّ، وَالْجُمُعَةُ، وَالتَّغَابُنُ، وَالْفَتْحُ، وَبَرَاءَةٌ، قالا: ونزل بمكة، فذكرا ما بقي من سور القرآن4.
__________
1 سورة البقرة: 281".
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 137".
2 أخرجه أحمد "1/ 36، 50" والبيهقي في "الدلائل" "7/ 138".
3 سورة التوبة: 129.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 138-139".
4 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 142-143".(1/273)
باب: في النسخ والمحور من الصدور
...
بَابٌ: فِي النَّسْخِ وَالْمَحْوِ مِنَ الصُّدُورِ
وَقَالَ أَبُو حَرْبِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةٍ، فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ. وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أنّي حفظت منها: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} 1، فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ، فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرُوهُ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ سُورَةً كَانَتْ قَدْ وَعَاهَا. فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ إِلَّا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَأَتَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَصْبَحَ لِيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا جَمَعَهُمْ؟ فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِشَأْنِ تِلْكَ السُّورَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ، وَسَأَلُوهُ عَنِ السُّورَةِ، فَسَكَتَ سَاعَةً لَا يُرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: "نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ"، فَنُسِخَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ فِيهِ3. رَوَاهُ عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ فِيهِ: وَابْنُ الْمُسَيِّبِ جَالِسٌ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ.
نَسْخُ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَحْوُهَا مِنْ صُدُورِهِمْ مِنْ بَرَاهِينِ النُّبُوَّةِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.
__________
1 سورة الصف: 2.
2 صحيح: أخرجه مسلم "1050" في كتاب الزكاة، باب: لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا.
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 157".(1/274)
ذكر صفة النبي -صلى الله عليه وسلم:
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، سَمِعَ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن الناس وجهًا: وأحسنه خَلْقًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الذَّاهِبِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ1. اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: نا أَبُو نُعَيْمٍ، نا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قال رجل لبراء: أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: "لَا، مِثْلَ الْقَمَرِ"2.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بن سمرة، قال له رجل: أكان
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3549" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم "2337/ 93" في كتاب الفضائل، باب: فِي صِفَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3552" في المصدر السابق.(1/274)
وجه النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مُسْتَدِيرًا1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْمُحَارِبِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانَ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَمَرِ، فَلَهُوَ كَانَ أَحْسَنَ فِي عَيْنِي مِنَ الْقَمَرِ2.
وَقَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ ابن شهاب، أخبرني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا أَنْ سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يَبْرُقُ وَجْهُهُ، وَكَانَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ3، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهَا يَوْمًا مَسْرُورًا وَأَسَارِيرُ وَجْهِهِ تَبْرُقُ، وَذَكَرَ الحديث4. متّفق عليه.
وقال يعقوب الفسوي: حدثنا سعيد، حدثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ هَمْدَانَ سَمَّاهَا قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَيْتُهُ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةَ، بِيَدِهِ مِحْجَنٌ، فَقُلْتُ لَهَا: شَبِّهِيهِ، قَالَتْ: كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مثله5.
وقال يعقوب بن محمد الزّهريّ: حدثنا عبد الله بن موسى التّيميّ، حدثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قُلْنَا لِلرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ: صِفِي لَنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: لَوْ رَأَيْتِهِ لقلت، الشمس طالعة6.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2344/ 109" في كتاب الفضائل، باب: شيبه -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "1/ 195، 196".
2 ضعيف: أخرجه الترمذي "2820" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في الرخصة في لبس الحمرة للرجال، وفي "الشمائل" له "10"، والدارمي "57"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 196"، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "532": ضعيف.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3556" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3555" في المصدر السابق، ومسلم "1459" في كتاب الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد.
5 إسناده ضعيف: أبو إسحاق مدلس، وقد عنعنه، ويونس بن أبي يعفور ضعيف الحفظ كما في "التقريب" "7920".
6 إسناده ضعيف: أخرجه الدارمي "60" وقال شيخنا أبو محمد خالد بن عبد الرحمن في تحقيقه لسنن الدارمي: إسناده ضعيف، أبو عبيد مقبول، وأسامة صدوق يهم وابن موسى صدوق كثير الخطأ.(1/275)
وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَنَسًا وَهُوَ يَصِفُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: كَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ، ليس بأبيض أمهق1، ولا آدم بِجَعْدٍ2 قَطَطٍ3، وَلَا بِالسَّبْطِ4، بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ5، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْمَرَ اللَّوْنِ6.
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ7.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: أنا حُمَيْدٌ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبْيَضَ، بَيَاضُهُ إِلَى السُّمْرَةِ8.
وَقَالَ سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو الطُّفَيْلِ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرِي، قُلْتُ: صِفْهُ لِي، قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا9. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحَ الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى اله عليه وسلم قَدْ شَابَ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ10. متّفق عليه.
__________
1 الأمهق: الأبيض الكريه البياض.
2 الجعد: من الشعر المتلوي.
3 القطط: شديد الجعودة.
4 السبط: المسترسل.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3547" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلم "2347" في كتاب الفضائل، باب: فِي صِفَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 203".
7 صحيح: وقد تقدم في "الدلائل" "1/ 204".
8 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 204".
9 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
10 صحيح: أخرجه البخاري في "3543" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلم "2343" في كتاب الفضائل، باب: شيبه -صلى الله عليه وسلم.(1/276)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَزْهَرَ اللَّوْنِ1. رَوَاهُ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُشْرَبًا وَجْهُهُ حُمْرَةً2. رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن إدريس وغيره: أنبأنا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ3.
وقال ابن عيينة: أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ مُزَاحِمِ بْنِ أَبِي مُزَاحِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، عَنْ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا، فَنَظَرْتُ إِلَى ظَهْرِهِ كأنّه سبيكة فضّة4.
وقال يعقوب الفسويّ: أنبأنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَصِفُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ5.
وَقَالَ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنَجْتَهِدُ، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مكترث6. رواه ابن لهيعة، عن أبي يونس.
__________
1 تقدم.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 206".
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي "1/ 207" وابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.
4 أخرجه أحمد "3/ 426".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 208"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 468": إسناده حسن.
6 ضعيف: أخرجه الترمذي "3668" في كتاب المناقب، باب: فِي صِفَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي "الشمائل" "122"، وأحمد "2/ 350-380"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 209"، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "750": ضعيف.(1/277)
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كان النّبيّ ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْهُوسَ الْكَعْبَيْنِ1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ: أَشْهَلَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْهُوسَ الْعَقِبِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّكْلَةُ: كَهَيْئَةِ الْحُمْرَةِ، تَكُونُ فِي بَيَاضِ الْعَيْنِ، وَالشَّهْلَةُ: حُمْرَةٌ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ. قُلْتُ: وَمَنْهُوسُ الْكَعْبِ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ. كَذَا فَسَّرَهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ لِشُعْبَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبة: أنبأنا عَبَّادٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: كُنْتُ إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ قُلْتُ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ، وَكَانَ فِي سَاقَيْهِ حُمُوشَةٌ، وَكَانَ لا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا2.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، مُشْرَبَ الْعَيْنِ بِحُمْرَةٍ، كَثَّ اللِّحْيَةِ3.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ: انْعَتْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بَيَاضُهُ حُمْرَةً، وَكَانَ أَسْوَدَ الْحَدَقَةِ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ4.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَصِفُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ مُفَاضَ الْجبينِ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، أَسْوَدَ اللِّحْيَةِ، حَسَنَ الثَّغْرِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، يطأ بقدميه جميعًا، ليس له أخمص5.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2339" في كتاب الفضائل، باب: في صفة فم النبي -صلى الله عليه وسلم- والترمذي "3666" في المصدر السابق، وفي "الشمائل" "9"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 210، 211".
2 ضعيف: أخرجه الترمذي "3665" في المصدر السابق، وفي "الشمائل" له "225"، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "749": ضعيف.
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 212": دون قوله "كث اللحية" فأخرجه "1/ 217".
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 212-213".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 214" بعضه.(1/278)
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ الزُّهْرِيُّ: أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْلَجَ1 الثَّنِيَّتَيْنِ، إِذَا تَكَلَّمَ رُؤِيَ كَالنُّورِ بَيْنَ ثَنَايَاهُ2. عَبْدُ الْعَزِيزِ مَتْرُوكٌ.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ3.
رَوَى مِثْلَهُ شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الملك بن عمير، عن نافع بن جبير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَلَفْظُهُ: كَانَ ضَخْمَ الْهَامَةِ، عَظِيمَ اللِّحْيَةِ4.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أنبأنا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، ثنا خَالِدُ بْنُ خَالِدٍ التَّمِيمِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَازِنٍ الرَّاسِبِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ: انْعَتْ لَنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، ضَخْمَ الْهَامَةِ، أَغَرَّ أَبْلَجَ أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ5.
وقال جرير بن حازم: حدثنا قَتَادَةُ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ لَا سَبْطَ وَلَا جَعْدَ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ6. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَضْرِبُ منكبيه7 "خ".
__________
1 الفلج: التباعد بين الأسنان.
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 215" وعبد العزيز هو ابن عمران الزهري، متروك كما في "الميزان" "5119".
3 قوله شثن: أي غليظ. والكراديس، رءوس العظام: والمسربة: الشعر من أعلى الصدر إلى أسفل العانة.
4 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 216" وشريك في حفظه ضعف.
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 216-217" وقوله: أغر: الغرة بياض في جبهة الفرس، والمراد به الحسن، وقوله: أبلج: مشرق الوجه. وأهدب الأشفار طويل شعر الأجفان.
6 صحيح: أخرجه البخاري "5905" في كتاب اللباس، باب: الجعد، ومسلم "2338/ 94" في كتاب الفضائل، باب: صفة شعر النبي -صلى الله عليه وسلم.
7 صحيح: أخرجه البخاري "5903" في المصدر السابق.(1/279)
وَقَالَ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، كَانَ إِلَى أَنْصَافِ أذنيه1."م".
قُلْتُ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ2."د"3 في "السّنن".
وقال شعبة: أنا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرْبُوعًا، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، يَبْلُغُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أحسن منه4. متّفق عليه.
وأخرجه "خ" مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، وَلَفْظُهُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، أَحْسَنَ مِنْهُ، وَإِنَّ جُمَّتَهُ تَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ5. وأخرجه "م" من حديث الثّوريّ، ولفظه: له شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، وَفِيهِ: لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ6.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: وَصَفَ لَنَا عَلِيٌّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ رَجِلَهُ7. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ شَعْرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوْقَ الْوَفْرَةِ، وَدُونَ الْجُمَّةِ8. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وإسناده حسن.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2338/ 96" في المصدر السابق.
2 صحيح: أخرجه أبو داود "4185" في كتاب الترجل، باب: ما جاء في الشعر، والترمذي في "الشمائل" "29" وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
3 رمز لأبي داود.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3551" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلم "2337/ 91" في كتاب الفضائل، باب: فِي صِفَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والبيهقي في "الدلائل" "1/ 240".
5 صحيح: أخرجه البخاري "5901" في كتاب اللباس، باب: الجعد.
6 صحيح: أخرجه مسلم "2337/ 92" في المصدر السابق.
7 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "223".
8 حسن: أخرجه أبو داود "4187" في كتاب الترجل، باب: ما جاء في الشعر، والترمذي، "1761" في كتاب اللباس، باب: ما جاء في الجمة واتخاذ الشعر، وفي "الشمائل" له "25"، وابن ماجه "3635" في كتاب اللباس، باب: اتخاذ الجمة، وأحمد "6/ 108، 118"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 224"، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2930" حسن.(1/280)
وقال ابن عيينة، عن ابن أبي نجي، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ قَدْمَةً، وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ، تَعْنِي ضَفَائِرَ1. لَمْ يُدْرِكْ مُجَاهِدٌ أُمَّ هَانِئٍ. وَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهَا، وَذَلِكَ ممكن.
وقال إبراهيم بن سعد: أنبأنا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُفَرِّقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ ناصيته ثم فرّق بعد2. خ م.
وَقَالَ رَبِيعَةُ الرَّأْيِ: رَأَيْتُ شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا هُوَ أَحْمَرُ، فَسَأَلْتُ فَقِيلَ: مِنَ الطِّيبِ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: سَأَلْتُ أَنَسًا: أَخَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا4. أَخْرَجَاهُ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحِ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يختصب، إِنَّمَا كَانَ شَمِطَ5 عِنْدَ الْعَنْفَقَةِ6 يَسِيرًا، وَفِي الصُّدْغَيْنِ يَسِيرًا، وَفِي الرَّأْسِ يَسِيرًا7. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "4191" في كتاب الترجل، باب: في الرجل يعقص شعره، والترمذي "1788" في كتاب اللباس، باب: دُخُولُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ، وفي "الشمائل" "28، 31"، وابن ماجه "3631" في المصدر السابق، وأحمد "6/ 341، 425"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 224"، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "6/ 662": رجاله ثقات. وقال في نفس المصدر "10/ 372": سنده حسن. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2926": صحيح.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3558" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومسلم "2336" في كتاب الفضائل، باب: في سدل النبي -صلى الله عليه وسلم- شعره، وفرقه.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3547" في المصدر السابق وأخرج مسلم "2347" أصل الحديث دون هذه الزيادة.
4 صحيح: أخرجه البخاري "5894" في كتاب اللباس، باب: ما يذكر في الشيب، ومسلم "2341/ 102" في كتاب الفضائل، باب: شيبه -صلى الله عليه وسلم.
5 شمط: مختلط سواد الشعر ببياضه.
6 العنفقة: الشعر أسفل الشفة السفلى.
7 صحيح: أخرجه مسلم "2341/ 104" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 232".(1/281)
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءُ، وَوَضَعَ زُهَيْرٌ بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَى عَنْفَقَتِهِ1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وأخرجه مسلم2 من حديث إسرائيل.
وقال: "خ": أنبأنا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَرِيزِ بْنُ عُثْمَانَ، قلت لعبد الله بن بشر: أَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْخًا؟ قَالَ: كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ3.
وَقَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَذَكَرَ شَمْطَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: كَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يُرَ، وإذا لم يدهن تبين4. أخرجه "م".
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَإِذَا ادَّهَنَ وَمَشَّطَهُ لَمْ يَسْتَبِنْ5. أَخْرَجَهُ "م".
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا مِنْ شِعْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ مَصْبُوغٌ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ6. صَحِيحٌ أخرجه "خ" وَلَمْ يَقُلْ "بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ" مِنْ حَدِيثِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ عُثْمَانَ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهِبٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ جُلْجُلٌ7 مِنْ فِضَّةٍ ضَخْمٌ، فِيهِ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ إِذَا أَصَابَ إِنْسَانًا الْحُمَّى، بَعَثَ إِلَيْهَا فخضخضته8 فيه، ثم ينضحه الرَّجُلُ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَ: بَعَثَنِي أَهْلِي إِلَيْهَا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3545" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلم "2342" في المصدر السابق، وأبو نعيم في "الحلية" "5941" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 233".
2 كذا في المطبوعة، ولعله أراد البخاري، فقد أخرجه من الطريق المذكور دون مسلم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3546" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 232، 234".
4 صحيح: أخرجه مسلم "2344/ 108" في المصدر السابق.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2344/ 109" في المصدر السابق.
6 صحيح: أخرجه البخاري "5897" في كتاب اللباس، باب: ما يذكر في الشيب، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 236".
7 الجلجل: الجرس الصغير.
8 خضخضته: حركته.(1/282)
فَأَخْرَجَتْهُ، فَإِذَا هُوَ هَكَذَا وَأَشَارَ إِسْرَائِيلُ بِثَلَاثِ أصابع وكان فيه شعرات حمر1. "خ".
محمد بن أبان المستملي: حدثنا بشر بن السّريّ، حدثنا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ شَهِدَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَنْحَرِ، هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَسَمَ ضَحَايَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ هُوَ وَصَاحِبُهُ، فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ. وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمَخْضُوبٌ عِنْدَنَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، يَعْنِي: الشَّعَرَ2. هَذَا خَبَرٌ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر قَالَ: كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً3، رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْهُ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ برقان: حدثنا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عقيل قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالٍ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: سَلْهُ هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ شَعْرًا مِنْ شَعْرِهِ قَدْ لُوِّنَ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- كَانَ قَدْ مُتِّعَ بِالسَّوَادِ، وَلَوْ عَدَدْتُ مَا أَقْبَلَ عَلَيَّ مِنْ شَيْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، مَا كُنْتُ أَزِيدُهُنَّ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ شَيْبَةً، وَإِنَّمَا هَذَا الَّذِي لُوِّنَ مِنَ الطِّيبِ الَّذِي كَانَ يُطَيَّبُ بِهِ شَعْرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الَّذِي غَيَّرَ لَوْنَهُ4.
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ شَعْرٌ قَدْ علاه الشّيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنّاء5.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5896" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل": "1/ 235-236".
2 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "5/ 441".
3 صحيح: أخرجه ابن ماجه "3630" في كتاب اللباس، باب: من ترك الخضاب، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2925". صحيح.
4 أخرحه البيهقي في "الدلائل" "1/ 239".
5 أخرجه أبو داود "4206" في كتاب الترجل، باب: في الخضاب، والترمذي "2821" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في الثوب الأخضر، وفي "الشمائل"، والنسائي "3/ 185" في كتاب العيدين، باب: الزينة للخطبة للعيدين، وأحمد "2/ 227-228"، و"4/ 163"، وأبو نعيم في "الحلية" "13022"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 237".(1/283)
وقال أبو نعيم: أنبأنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: إِنَّ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاقْشَعْرَرْتُ حِينَ قَالَ ذَلِكَ، وَكُنْتُ أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا لَا يُشْبِهُ النَّاسَ، فَإِذَا هُوَ بَشَرٌ ذُو وَفْرَةٍ بِهَا رَدْعٌ1 مِنْ حِنَّاءٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ2.
وَقَالَ عمرو بن محمد العنقزي: أنبأنا ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ- كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ3، وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ والزّعفران4.
وقال النّضر بن شميل: أنبأنا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّمَا صِيغَ مِنْ فِضَّةٍ، رَجِلَ الشَّعْرِ، مُفَاضَ الْبَطْنِ5، عظيم مشاش6 المنكبين، يطأ بقدميه جَمِيعًا، إِذَا أَقْبَلَ أَقْبَلَ جَمِيعًا، وَإِذَا أَدْبَرَ أَدْبَرَ جَمِيعًا7.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَخْمَ الْيَدَيْنِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَفِي لَفْظٍ: كَانَ ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، سَائِلَ العرق8. أخرج البخاريّ بعضه.
__________
1 الردع: الصبغ.
2 أخرجه أحمد "2/ 227-228" من طريق آخر عن عبيد الله بن إياد.
3 النعال السبتية: نوع من النعال لا شعر لها.
4 صحيح: أخرجه أبو داود "4210" في كتاب الترجل، باب: ما جاء في خضاب الصفرة، والنسائي "8/ 186" في كتاب الزينة، تصفير اللحية، وأبو نعيم في "الحلية" "9021"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 238"، وأشار الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" "1/ 120" إلى أنه صحيح. وكذلك صححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
5 مفاض البطن: مستوى البطن مع الصدر.
6 المشاش: العظم لا مخ فيه.
7 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 241".
8 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 242" وأخرجه البخاري "5907" في كتاب اللباس، باب: الجعد، دون قوله "سائل العرق".(1/284)
وقال معمر وغيره، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ1.
وَقَالَ أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ -أَوْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، شَكَّ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ فِيهِ- عَنْ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-2 كَانَ ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ والكفيّن، لم أَرَ بَعْدَهُ شَبِيهًا بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَهُمَا صَحِيحَانِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ. قُلْتُ لِسِمَاكٍ: مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ: عَظِيمُ الْفَمِ، قُلْتُ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شِقِّ الْعَيْنِ، قُلْتُ: مَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ؟ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ يَزِيدُ بن هارون: أنبأنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مِقْسَمِ بْنِ ضَبَّةَ: حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي سَارَةٌ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ كَرْدَمٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، وَأَنَا مَعَ أَبِي، وَبِيَدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- درّة كدرّة الكباث4، فَدَنَا مِنْهُ أَبِي، فَأَخَذَ بِقَدَمِهِ، فَأَقَرَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت: فَمَا نَسِيتُ طُولَ إِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ عَلَى سَائِرِ أَصَابِعِهِ5.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ: أنبأنا حَرْبُ بْنُ سُرَيْجٍ الْخَلْقَانِيُّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَلْعَدَوِيَّةِ، حَدَّثَنِي جَدِّي قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْجِسْمِ، عَظِيمُ الْجَبْهَةِ، دَقِيقُ الْأَنْفِ، دَقِيقُ الْحَاجِبَيْنِ، وَإِذَا مِنْ لَدُنْ نَحْرِهِ إِلَى سُرَّتِهِ كَالْخَيْطِ الْمَمْدُودِ شَعْرُهُ، وَرَأَيْتُهُ بَيْنَ طِمْرَيْنِ6. فَدَنَا مِنِّي فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ"7.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ، وقاله شريك،
__________
1 تقدم.
2 علقه البخاري "5911-5912" في المصدر السابق.
3 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
4 في المصدر الآتي "الكتاب".
5 أخرجه أحمد "6/ 366".
6 الطمر: الثوب البالي.
7 إسناده ضعيف: للجهالة فيه.(1/285)
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لِشَرِيكٍ قَالَ: وَصَفَ لَنَا عَلِيٌّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ لَا قَصِيرَ وَلَا طَوِيلَ وَكَانَ يَتَكَفَّأُ فِي مِشْيَتِهِ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ وَلَفْظُ الْمَسْعُودِيُّ: كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ1. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَطْحَاءِ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهِمَا وُجُوهَهُمْ، فَأَخَذْتُ يَدَهُ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ انْعَتْ لَنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ لَا قَصِيرَ وَلَا طَوِيلَ، وَهُوَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ، وَكَانَ شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، فِي صَدْرِهِ مَسْرُبَةٌ، كَأَنَّ عَرَقَهُ لُؤْلُؤٌ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صُعُدٍ3. وَرَوَى نَحْوَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا مَسَسْتُ بِيَدِي دِيبَاجًا وَلا حَرِيرًا، وَلَا شَيْئًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا شَمَمْتُ رَائِحَةً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ ثَابِتٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ مثله وَزَادَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إذا مشى تكفأ5. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3657" في كتاب المناقب، باب: ما جاء فِي صِفَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي "الشمائل" "5، 6، 124"، وأحمد "1/ 134" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3553" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم.
3 تقدم.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3561" في المصدر السابق، ومسلم "2330/ 81" في كتاب الفضائل، باب: طيب رائحة النبي -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "1/ 254".
5 صحيح: أخرجه مسلم "2330/ 82" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 255".(1/286)
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو بمنى فقلت: ناولني يدك، فناولينها، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ1.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عِنْدَنَا، فَعَرِقَ وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ، فَجَعَلَتْ تُسْلِتُ الْعَرَقَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ"؟ قَالَتْ: هَذَا عَرَقٌ نَجْعَلُهُ لِطِيبِنَا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرَ الْعَرَقِ3. رواه مسلم.
__________
1 أخرجه أحمد "4/ 161".
2 صحيح: أخرجه مسلم "2331/ 83" في كتاب الفضائل، باب: طيب عرق النبي -صلى الله عليه وسلم.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2332/ 85" في المصدر السابق، وأحمد "3/ 146، 239، 287"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 2587".(1/287)
ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم
...
فَأَخْرَجَتْهُ، فَإِذَا هُوَ هَكَذَا وَأَشَارَ إِسْرَائِيلُ بِثَلَاثِ أصابع وكان فيه شعرات حمر1. "خ".
محمد بن أبان المستملي: حدثنا بشر بن السّريّ، حدثنا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ شَهِدَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَنْحَرِ، هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَسَمَ ضَحَايَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ هُوَ وَصَاحِبُهُ، فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ. وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمَخْضُوبٌ عِنْدَنَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، يَعْنِي: الشَّعَرَ2. هَذَا خَبَرٌ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر قَالَ: كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً3، رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْهُ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ برقان: حدثنا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عقيل قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالٍ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: سَلْهُ هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ شَعْرًا مِنْ شَعْرِهِ قَدْ لُوِّنَ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- كَانَ قَدْ مُتِّعَ بِالسَّوَادِ، وَلَوْ عَدَدْتُ مَا أَقْبَلَ عَلَيَّ مِنْ شَيْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، مَا كُنْتُ أَزِيدُهُنَّ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ شَيْبَةً، وَإِنَّمَا هَذَا الَّذِي لُوِّنَ مِنَ الطِّيبِ الَّذِي كَانَ يُطَيَّبُ بِهِ شَعْرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الَّذِي غَيَّرَ لَوْنَهُ4.
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ شَعْرٌ قَدْ علاه الشّيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنّاء5.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5896" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل": "1/ 235-236".
2 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "5/ 441".
3 صحيح: أخرجه ابن ماجه "3630" في كتاب اللباس، باب: من ترك الخضاب، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2925". صحيح.
4 أخرحه البيهقي في "الدلائل" "1/ 239".
5 أخرجه أبو داود "4206" في كتاب الترجل، باب: في الخضاب، والترمذي "2821" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في الثوب الأخضر، وفي "الشمائل"، والنسائي=(1/273)
خاتم النّبوّة:
قال حاتم بن إسماعيل: أنبأنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وُضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلِ زِرِّ الْحَجَلَةِ1. أَخْرَجَاهُ، وَوَهِمَ من قال: زر الْحَجَلَةِ، وَهُوَ بَيْضُهَا.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجْهُهُ مُسْتَدِيرًا مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَرَأَيْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، يُشْبِهُ جَسَدَهُ2. أَخْرَجَهُ مسلم.
وقال حمّاد بن زيد وغيره: أخبرنا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ قَالَ: دُرْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى. جُمْعًا، عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَطْوَلَ مِنْ هَذَا.
وقال أبو داود الطيّالسيّ: حدثنا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرِنِي الْخَاتَمَ: قَالَ: "أَدْخِلْ يَدَكَ"، فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي جِرِبَّانِهِ4، فَجَعَلْتُ أَلْمِسُ أَنْظُرُ إِلَى الْخَاتَمِ، فَإِذَا هو على نغض
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3541" في كتاب المناقب، باب: خاتم النبوة، ومسلم "2345" في كتاب الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2344/ 109" في كتاب الفضائل، باب: شيبه -صلى الله عليه وسلم، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 195-196".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2346/ 112" في كتاب الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة، وأحمد "5/ 82-83"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 263".
وقوله "نغض كتفه: أعلاه. وخيلان: جمع خال، وهو الشامة. والثآليل. جمع ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد.
4 الجربان: ما يحيط بالرقبة من الثوب.(1/288)
كَتِفِهِ مِثْلُ الْبَيْضَةِ، فَمَا مَنَعَهُ ذَاكَ أَنْ جَعَلَ يَدْعُو لِي، وَإِنَّ يَدِي لَفِي جِرِبَّانِهِ1.
رواه يحيى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، لَكِنْ قَالَ: "مِثْلُ السِّلْعَةِ"2.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى مِثْلِ السِّلْعَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي لَأُطِبُّ الرِّجَالَ، أَفَأُعَالِجُهَا لَكَ؟ قَالَ: "لَا طيّبها الَّذِي خَلَقَهَا". رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، وَقَالَ: "مِثْلُ التُّفَّاحَةِ"3. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ مسلم بن إبراهيم: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْسَرَةَ، ثنا عَتَّابٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: الْخَاتَمُ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَحْمَةٌ نَابِتَةٌ4.
وقال قيس بن حفص الدّارميّ: حدثنا مسلمة بن علقمة، حدثنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حَرْبٍ، عَنْ سَلَامَةَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ وَقَالَ: انْظُرْ إِلَى مَا أُمِرْتَ بِهِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامِ5. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حدثنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحِمْصٍ، وَكَانَ جَارًا لِي شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ بَلَغَ الْفَنَدَ6 أَوْ قَرِيبًا، فَقُلْتُ: أَلَا تُخْبِرُنِي؟ قَالَ: بَلَى، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَبُوكَ، فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِ هِرَقْلَ، حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ مُحْتَبٍ عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ: "يَا أَخَا تَنُوخٍ"، فَأَقْبَلْتُ أَهْوِي حَتَّى قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَلَّ حَبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، ثمّ قال: "ههنا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ" فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ مثل المحجمة الضّخمة7.
__________
1 أخرجه أحمد "3/ 434-435"، "5/ 35".
2 السلعة: زيادة في الجسم كالغدة.
3 أخرجه أحمد "2/ 266، 288" بنحوه.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 265" ولفظه "لحمة ناتئة".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 266".
6 الفند: ضعف العقل.
7 أخرجه البيقهي في "الدلائل" "1/ 266".(1/289)
بَابٌ: جَامِعٌ مِنْ صِفَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
قال عيسى بن يونس: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى عَفْرَةَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذَا نَعَتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ، كَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبْطِ، كَانَ جَعْدًا رَجِلًا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلَا الْمُكَلْثَمِ، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ تَدْوِيرٌ، أَبْيَضُ مُشْرَبًا حُمْرَةً، أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، أَهْدَبُ الْأَشْفَارِ، جَلِيلُ الْمُشَاشِ وَالْكَتِفِ -أَوْ قَالَ الْكَتَدِ- أَجْرَدُ ذَا مَسْرُبَةٍ، شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، أَجْوَدُ النَّاسِ كَفًّا وَأَجْرَأُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقُهُمْ لَهْجَةً، وَأَوْفَاهُمْ بِذِمَّةٍ، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "الْغَرِيبِ": حَدَّثَنِيهِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى عُفْرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ إذ نَعَتَ، فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ: يَقُولُ لَيْسَ بِالْبَائِنِ الطُّولِ. وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ: يَعْنِي الَّذِي تَرَدَّدَ خَلْقُهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ مُجْتَمِعٌ لَيْسَ بِسَبَطِ الْخَلْقِ، يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ رَبْعَةٌ.
وَالْمُطَهَّمُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: التَّامُّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، فَهُوَ بَارِعُ الْجَمَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُكَلْثَمُ: الْمُدَوَّرُ الْوَجْهِ، يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مَسْنُونٌ.
وَالدَّعَجُ: شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ.
وَالْجَلِيلُ الْمُشَاشِ: الْعَظِيمُ رُءُوسِ الْعِظَامِ مِثْلَ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ.
وَالْكَتَدُ: الْكَاهِلُ وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْجَسَدِ.
وَشَثْنُ الْكَفَّيْنِ: يَعْنِي أَنَّهَا إلى الغلظ.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 269-270".(1/290)
وَالصَّبَبُ: الِانْحِدَارُ.
وَالْقَطَطُ: مِثْلُ شَعْرِ الْحَبَشَةِ.
وَالْأَزْهَرُ: الَّذِي يُخَالِطُ بَيَاضَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحُمْرَةِ.
وَالْأَمْهَقُ: الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ.
وَشَبْحُ الذِّرَاعَيْنِ: يَعْنِي عَبْلَ الذِّرَاعَيْنِ عَرِيضَهُمَا.
وَالْمَسْرُبَةُ: الشَّعْرُ الْمُسْتَدَقُّ مَا بَيْنَ اللُّبَّةِ إلى السّرّة.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: التَّقَلُّعُ. الْمَشْيُ بِقُوَّةٍ.
وَقَالَ يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيًّا، عَنْ نَعْتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، أَدْعَجَ، سَبِطَ الشَّعْرِ، ذَا وَفْرَةٍ، دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ، كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ شَعْرٌ، يَجْرِي كَالْقَضِيبِ، لَيْسَ فِي بَطْنِهِ وَلَا صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ، شَثْنُ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ، وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنْ صَخْرٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، وَلَرِيحُ عَرَقِهِ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِالْعَاجِزِ وَلَا اللَّئِيمِ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ1.
قَالَ البيهقيّ: أنبأنا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَوْذَبٍ، أنا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّرِيفِينِيُّ عَنْهُ، وَقَالَ حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْآدَمِ، وَلَا الْأَبْيَضِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ، فَوْقَ الرَّبْعَةِ وَدُونَ الطَّوِيلِ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ مَنْ رَأَيْتُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَطْيَبِهِ رِيحًا وَأَلْيَنِهِ كَفًّا، كَانَ يُرْسِلُ شَعْرَهُ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ، وَكَانَ يَتَوَكَّأُ إِذَا مَشَى2.
وَقَالَ مَعْمَرُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ صِفَةً وَأَجْمَلَهَا، كَانَ رَبْعَةً إِلَى الطُّولِ مَا هُوَ، بَعِيدَ ما بين
__________
1 تقدم.
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.(1/291)
الْمَنْكِبَيْنِ، أَسِيلَ الْخَدَّيْنِ، شَدِيدَ سَوَادِ الشَّعْرِ، أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، أَهْدَبَ، إِذَا وَطِئَ بِقَدَمِهِ وَطِئَ بِكُلِّهَا، لَيْسَ أَخْمَصَ، إِذَا وَضَعَ رِدَاءَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ فَكَأَنَّهُ سَبِيكَةُ فِضَّةٍ، وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ1. رَوَاهُ عَبْدُ الرزاق عنه.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 273-273".(1/292)
حَدِيثُ أُمِّ مَعْبَدٍ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَقَالَ أَبُو هِشَامٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكَعْبِيُّ الْخُزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَمِّي أَيُّوبُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ حِزَامِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ الَّذِي قُتِلَ بِالْبَطْحَاءِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهُوَ أَخُو عَاتِكَةَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج مِنْ مَكَّةَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَمَوْلًى لِأَبِي بِكْرٍ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأُريقط اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَتْ بَرْزَةً1 جَلْدَةً2 تَحْتَبِي بِفِنَاءِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ تَسْقِي وَتُطْعِمُ، فَسَأَلُوهَا تَمْرًا وَلَحْمًا يَشْتَرُونَهُ مِنْهَا، فَلَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا، وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ3، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ، فَقَالَ: "مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ"؟ قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: "هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ"؟ قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَتَأْذَنِينَ أَنْ أَحْلُبَهَا"؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي وَأُمِّي، إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلُبْهَا، فَدَعَا بِهَا، فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، فَتَفَاجَّتْ4 عَلَيْهِ، وَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ، وَدَعَا بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ، فَحَلَبَ ثَجًّا5 حَتَّى عَلَاهُ الْبَهَاءُ، ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رُوِيَتْ، ثُمَّ سَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوَوْا، ثُمَّ شَرِبَ آخِرُهُمْ. ثُمَّ حَلَبَ ثَانِيًا بَعْدَ بَدْءٍ، حَتَّى مَلَأَ الْإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا وَبَايَعَهَا، وَارْتَحَلُوا عَنْهَا.
فَقَلَّمَا لَبِثَتْ، حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ، يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ هُزَالًا مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَعْبَدٍ اللَّبَنَ عَجِبَ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا أمّ معبد؟
__________
1 برزة: عفيفة.
2 جلدة: شديدة.
3 أي نفد زادهم.
4 تفاجت: فتحت بين رجليها.
5 ثجًّا: منصبًا.(1/292)
وَالشَّاءُ عَازِبٌ حِيَالٌ، وَلَا حَلُوبَ فِي الْبَيْتِ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صِفِيهِ لِي.
قَالَتْ: رَجُلٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، أَبْلَجُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الْخَلْقِ، لَمْ تُعِبْهُ ثَجْلَةٌ، لَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةُ، وَسِيمٌ قَسِيمٌ، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صَوْتِهِ صَحَلٌ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَافَةٌ، أَزَجُّ أَقْرَنُ، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَا وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْسَنُهُ وَأَحْلَاهُ مِنْ قَرِيبٍ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ لَا نَزْرٌ وَلَا هَذَرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ، رَبْعَةٌ لَا يَائُسٌ مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْظَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إِنْ قَالَ أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ، لَا عَابِسٌ وَلَا مُفَنَّدٌ.
قَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: فَهَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ، الَّذِي ذكر لنا من أمره، ولقد هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالٍ، يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، وَلَا يَدْرُونَ مَنْ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قَالَا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَاهَا بِالْهُدَى وَاهْتَدَتْ بِهِ ... فَقَدْ فَازَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ،
فَيَالَ قُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا يُجَارَى وَسُؤْدُدِ
لِيَهْنِ بني كعب مكان فتاتهم ... مقعدها لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ ... عَلَيْهِ صَرِيحًا ضَرَّةِ الشَّاةِ مُزْبِد
فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا لِحَالِبٍ ... يُرَدِّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ
فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ شَبَّبَ يُجَاوِبُ الْهَاتِفَ، فَقَالَ:
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ ... وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلَّتْ عُقُولُهُمْ ... وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ رَبُّهُمْ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعِ الْحَقَّ يُرْشَدِ
وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا ... عَمَايَتُهُمْ هَادٍ بِهِ كُلَّ مُهْتَدِي(1/293)
وَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْلِ يَثْرِبٍ ... رِكَابُ هُدًى حَلَّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ
نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ1
قَوْلُهُ: "إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ" يُرِيدُ أَنَّهُ يَمِيدُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَمْشِي فِي رِفْقٍ غَيْرَ مُخْتَالٍ.
وَقَوْلُهُ: "فَخْمًا مُفَخَّمًا" قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْفَخَامَةُ فِي الْوَجْهِ نُبْلُهُ وَامْتِلَاؤُهُ، مَعَ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَظِيمًا مُعَظَّمًا فِي الصُّدُورِ وَالْعُيُونِ، وَلَمْ يَكُنْ خَلْقُهُ فِي جِسْمِهِ ضخمًا.
و"أقنى الْعِرْنَيْنِ": مُرْتَفِعُ الْأَنْفِ قَلِيلًا مَعَ تَحَدُّبٍ، وَهُوَ قريب من الشّمم.
و"الشنب": ماء ورقة في الثّغر.
و"الفلج": تباعد ما بين الأسنان.
و"الدمية": الصُّورَةُ الْمُصَوَّرَةُ.
وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ أُمِّ مَعْبَدٍ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: أنا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ، حدثنا أبو جعفر بن موسى بن عيسى الحلواني، حدثنا مكرم بن محرز بن مهديّ، حدثنا أبي، عن حزام بن هشام. فذكره نَحْوَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الْحَكَمِ الْخُزَاعِيُّ بِقُدَيْدٍ، إِمْلَاءً عَلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ، قَالَ: حدثنا عَمِّي سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ.
وَسَمِعَهُ ابْنُ مَطَرٍ بِقُدَيْدٍ أَيْضًا، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ.
وَرَوَاهُ عَنْ مُكْرَمِ بْنِ مُحْرِزٍ الْخُزَاعِيِّ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْقَاسِمِ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ، مَعَ تَقَدُّمِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنُ خزيمة، وجماعة آخرهم القطيعيّ.
__________
1 أخرجه البيقهي في "الدلائل" "1/ 277-280".(1/294)
قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الصَّالِحَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا مُكْرَمُ بْنُ مُحْرِزٍ عَنْ آبَائِهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتُهُ مِنْ مُكْرِمٍ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ، حج أبي بي، وأنا ابن سبع سنين، فأدخلني على مكرم1.
ورواه البيهقي أيضا في اجتياز النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ، مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُكْرِمٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَيْسِيِّ، قالا: حدثنا أَبُو أَحْمَدَ بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ السُّكَّرِيُّ، ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيُّ، ثنا الْحُرُّ بْنُ الصَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خَرَجَ هُوَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطَ اللَّيْثِيُّ كَذَا قَالَ: اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ الدِّيلِيُّ مَرُّوا بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَقَوْلُهُمَا ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ: أَيْ ظَاهِرُ الْجَمَالِ.
وَمُرْمِلِينَ: أَيْ قَدْ نَفَدَ زَادُهُمْ. وَمُسْنِتِينَ: أَيْ دَاخِلِينَ فِي السَّنَةِ وَالْجَدْبِ.
وَكِسْرُ الْخَيْمَةِ: جَانِبُهَا.
وَتَفَاجَّتْ: فَتَحَتْ مَا بين رجليها.
وبربض الرَّهْطَ: يَرْوِيهِمْ حَتَّى يُثْقِلُوا فَيَرْبِضُوا، وَالرَّهْطُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ.
وَالثَّجُّ: السَّيْلُ.
وَالْبَهَاءُ: وَبِيضُ رَغْوَةِ اللَّبَنِ، فَشَرِبُوا حَتَّى أَرَاضُوا، أَيْ رَوَوْا. كَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ.
وَتَسَاوَكْنَ: تَمَايَلْنَ مِنَ الضَّعْفِ، وَيُرْوَى: تَشَارَكْنَ، أَيْ عَمَّهُنَّ الْهُزَالُ.
وَالشَّاءُ عَازِبٌ: بَعِيدٌ فِي الْمَرْعَى.
وَأَبْلَجُ الْوَجْهِ: مُشْرِقُ الْوَجْهِ مُضِيئُهُ.
وَالثَّجْلَةُ: عِظَمُ الْبَطْنِ مَعَ اسْتِرْخَاءِ أَسْفَلِهِ.
وَالصَّعْلَةُ: صِغَرُ الرَّأْسِ، وَيُرْوَى صَقْلَةٌ وَهِيَ الدِّقَّةُ وَالضَّمْرَةُ، وَالصَّقْلُ: مُنْقَطِعُ الْأَضْلَاعِ مِنَ الخاصرة.
__________
1 أخرجه الحاكم في "مستدركه" "4276"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 281".(1/295)
وَالْوَسِيمُ: الْمَشْهُورُ بِالْحُسْنِ، كَأَنَّهُ صَارَ الْحُسْنُ لَهُ سِمَةً.
وَالْقَسِيمُ: الْحَسَنُ قِسْمَةِ الْوَجْهِ.
وَالْوَطْفُ: الطُّولُ.
وَالصَّحْلُ: شِبْهُ الْبَحَّةِ.
وَالسَّطْعُ: طُولُ الْعُنُقِ.
لَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ: أَيْ لَا تَزْدَرِيهِ لِقِصَرِهِ فَتُجَاوِزُهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ تَهَابُهُ وَتَقْبَلُهُ.
وَالْمَحْفُودُ: الْمَخْدُومُ.
وَالْمَحْشُودُ: الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ حَوْلَهُ.
وَالْمُفَنَّدُ: الْمَنْسُوبُ إِلَى الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْعَقْلِ.
وَالضَّرَّةُ: أَصْلُ الضَّرْعِ.
وَمُزْبِدُ خُفِضَ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: "فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا لَحِالِبٍ".
أَيْ خَلَّفَ الشَّاةَ عِنْدَهَا مُرْتَهِنَةً بِأَنْ تَدُرَّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ وكيع بن الجرّاح: حدثنا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ الْعِجْلِيُّ إِمْلَاءً، ثنا رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ زَوْجِ خَدِيجَةَ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ وَكَانَ وَصَّافًا عَنْ حِلْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخْمًا مُفَخَّمًا، يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ، أَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ وَأَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ، عَظِيمَ الْهَامَةِ، رَجِلَ الشَّعْرِ، إِذَا انْفَرَقَتْ عَقِيصَتُهُ فَرَقَ، وَإِلَّا فَلَا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِذَا هُوَ وَفَّرَهُ، أَزْهَرُ اللَّوْنِ، وَاسِعُ الْجَبِينِ. أَزَجُّ الْحَوَاجِبِ: سَوَابِغُ فِي غَيْرِ قَرَنٍ، بَيْنَهُمَا عِرْقُ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ. أَقْنَى الْعِرْنَيْنِ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ يَحْسِبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، سَهْلُ الْخَدَّيْنِ، ضَلِيعُ الْفَمِ، أَشْنَبُ مُفَلَّجُ الْأَسْنَانِ، دَقِيقُ الْمَسْرُبَةِ، كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدُ دُمْيَةٍ فِي صفاء الفضّة.(1/296)
مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ، بَادِنٌ، مُتَمَاسِكٌ، سَوَاءُ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، عَرِيضُ الصَّدْرِ، بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، ضَخْمُ الْكَرَادِيسِ، أَنْوَرُ الْمُتَجَرَّدِ، مَوْصُولُ مَا بَيْنَ اللُّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ، عَارِي الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، أَشْعَرُ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِي الصَّدْرِ، طَوِيلُ الزَّنْدَيْنِ، رَحْبُ الرَّاحَةِ، شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، سَائِلُ -أَوْ سَائِرُ- الْأَطْرَافِ، خُمْصَانُ الْأَخْمَصَيْنِ، مَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ، يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ، إِذَا زَالَ قَلْعًا، يَخْطُو تَكَفِّيًا، وَيَمْشِي هَوْنًا، ذَرِيعُ الْمِشْيَةِ، إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، خَافِضُ الطَّرْفِ، نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلَاحَظَةُ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ، وَيَبْدُرُ مَنْ لَقِيَهُ بالسلام.
قَالَ: قُلْتُ: صِفْ لِي مَنْطِقَهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ، طَوِيلَ السَّكْتِ، لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ، بِأَشْدَاقِهِ، وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَصْلٌ لَا فُضُولَ وَلَا تَقْصِيرَ، دَمِثٌ لَيْسَ بالجافي ولا المهين، يعظّم بالنّعمة وَإِنْ دَقَّتْ، لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ، وَلَا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهَا، فَإِذَا تعدّى الحقّ، لم يعرفه أَحَدٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا، إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا، يَضْرِبُ بِرَاحَتِهِ الْيُمْنَى بَاطِنَ رَاحَتِهِ الْيُسْرَى، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، وَيَفْتَرُّ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَكَتَمْتُهَا الْحُسَيْنَ زَمَانًا، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، يَعْنِي إِلَى هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ، فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَوَجَدْتُهُ قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مُدْخَلِهِ وَمُخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا.
قَالَ الْحُسَيْنُ: فَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَرَدَّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ، وَقَسْمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ، فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ، وَإِخْبَارُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ، يَقُولُ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ،(1/297)
وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَلَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ، يَدْخُلُونَ رُوَّادًا، وَلَا يَفْتَرِقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً، يَعْنِي عَلَى الْخَيْرِ.
فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُخْرَجِهِ، كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ؟ قال: كان يخزن لِسَانَهُ إِلَّا مِمَّا يَعْنِيهِ، وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُنفّرهم، ويُكرم كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ، وَيَحْذَرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِي عَنْ أَحَدٍ بِشْرَهُ وَلَا خُلُقَهُ، وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ، وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ وَيُقَوِّيهِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّيهِ، مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، لا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَمَلُّوا، لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٌ، لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يُجَاوِزُهُ، الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النّاس خيارهم، وأفضلم عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً.
فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ؟ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَقُومُ وَلَا يَجْلِسُ إِلَّا عَلَى ذكر، ولا بوطن الْأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بذلك، يعطي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ، وَلَا يَحْسِبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ منه بسطه وخلفه، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا، وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ، لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، وَلَا تُؤَبَّنُ فِيهِ الحرم، ولا تثنى فَلَتَاتُهُ، مُتَعَادِلِينَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ بِالتَّقْوَى، مُتَوَاضِعِينَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ، وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ1. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَكْثَرَهُ مُقَطَّعًا فِي "كِتَابِ الشَّمَائِلِ".
وَرَوَاهُ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السِّجْزِيُّ، وَغَيْرُهُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أبي الخصيب، عن عمرو بن
__________
1 ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 285-292"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 204-206" وبعضه عند الترمذي في "الشمائل" "8، 224، 335، 350"، وقال: الألباني في "مختصر الشمائل" "6": ضعيف جدًّا.
قلت: سفيان بن وكيع ضعيف الحديث جدًّا.(1/298)
محمد العنقزيّ، حدثنا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ الْعِجْلِيِّ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهِ زَائِدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ: فسألته عَنْ سِيرَتِهِ فِي جُلَسَائِهِ فَقَالَ: كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ، وَلَا فَحَّاشٍ، وَلَا عَيَّابٍ، وَلَا مَزَّاحٍ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِيهِ، وَلَا يُؤْيَسُ مِنْهُ، وَلَا يُحَبَّبُ فِيهِ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ: مِنَ الْمِرَاءِ، وَالْإِكْثَارِ، وَمَا لَا يَعْنِيهِ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلَاثٍ: كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا وَلَا يُعَيِّرُهُ، وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ، كَأَنَّمَا عَلَى رءوسهم الطّير، فإذا سكت تكلّموا، ولا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ، مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ، وَكَانَ يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: "إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه"، وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا عَنْ مُكَافِئٍ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ.
فسألته: وكيف كَانَ سُكُوتُهُ؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعٍ: عَلَى الْحِلْمِ، وَالْحَذَرِ، وَالتَّدَبُّرِ، وَالتَّفَكُّرِ، فَأَمَّا تَدَبُّرُهُ، فَفِي تَسْوِيَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا تَفَكُّرُهُ فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى، وَجُمِعَ الْحِلْمُ فِي الصَّبْرِ، فَكَانَ لَا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَسْتَفِزُّهُ. وَجُمِعَ لَهُ الحذر في أربع: أخذه بِالْخَيْرِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَتَرْكِهِ الْقَبِيحَ لِيُنْتَهَى عَنْهُ، وَاجْتِهَادِهِ الرَّأْيَ فِيمَا يُصْلِحُ أُمَّتَهُ وَالْقِيَامِ بِهِمْ، وَالْقِيَامِ فِيمَا جَمَعَ لَهُمْ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.
وَرَوَاهُ بِطُولِهِ كُلِّهِ يعقوب الفسويّ: حدثنا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ حَمَّادٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَصْرِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ بِمَكَّةَ، عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ، فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ النَّهْدِيِّ: قَرَأْتُ2 عَلَى أَبِي الْهُدَى عِيسَى بْنِ يَحْيَى السَّبْتِيِّ، أَخْبَرَكُمْ عَبْدُ الرحيم بن يوسف
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: جميع بن عمر العجلي ضعيف جدًّا كما في "الميزان" "1550".
2 قائل "قرأت" هو المصنف، فإن عيسى البستي في طبقة شيوخ المصنف لا شيوخ أبي غسان النهدي، وتأتي ترجمته "6213".(1/299)
الدِّمَشْقِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أنا أَبُو سَعْدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الفانيدي، وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ السَّمْنَانِيُّ، وَأَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَسَدِيُّ، قالوا: أنا أبو عليّ الحسن بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّاجِرُ، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْعَلَوِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَخِي أبي طاهر، حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عليّ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحسين قال: قال الحسن بْنُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، عَنْ حِلْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ وَصَّافًا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهُ شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ، فَقَالَ: كَانَ فَخْمًا مُفَخَّمًا1. فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ جُمَيْعِ بْنِ عُمَرَ بِطُولِهِ، إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ: فَقَالَ فِي "عَرِيضِ الصَّدْرِ" "فَسِيحِ الصَّدْرِ"، وَقَالَ "رَحْبَ الْجَبْهَةِ" بَدَلَ "رَحْبِ الرَّاحَةِ"، وَقَالَ "يَبْدَأُ" بَدَلَ "يَبْدُرُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ"، وَقَالَ "طَوِيلَ السُّكُوتِ" بَدَلَ "السَّكْتِ"، وَقَالَ "لَمْ يكن ذواقًا ولا مدحة" بَدَلَ "لَا يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ" وَأَشْيَاءَ سِوَى هَذَا بِالْمَعْنَى.
قَوْلُهُ مُتَمَاسِكٌ: أَيْ مُمْتَلِئُ الْبَدَنِ غَيْرُ مُسْتَرْخٍ وَلَا رَهْلٍ، وَالْمُتَجَرِّدُ: الْمُتَعَرِّي، واللّبة: النّخر، وَالسَّائِرُ وَالسَّائِلُ: هُوَ الطَّوِيلُ السَّابِغُ، وَالْأَخْمَصُ: مَا يُلْصَقُ مِنَ الْقَدَمِ بِالْأَرْضِ، وَالْمَمْسُوحُ: الْأَمْلَسُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شُقُوقٌ، وَلَا وَسَخٌ، وَلَا تَكَسُّرٌ، فَالْمَاءُ يَنْبُو عَنْهُمَا لِذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُمَا، وَقَوْلُهُ: زَالَ قَلْعًا، الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بِقُوَّةٍ لَا كَمَنْ يَمْشِي اخْتِيَالًا وَيَشْحَطُ مَدَاسَهُ دَلْكًا بِالْأَرْضِ، وَيُرْوَى: زَالَ قَلْعًا. وَمَعْنَاهُ التَّثَبُّتُ، وَالذَّرِيعُ: السَّرِيعُ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ: أَيْ يُقَدِّمُهُمْ أَمَامَهُ، وَالْجَافِي: الْمُتَكَبِّرُ، وَالْمَهِينُ: الْوَضِيعُ، وَالذَّوَاقُ: الطَّعَامُ، وَأَشَاحَ: أَيِ اجْتَنَبَ ذَاكَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَحَبُّ الْغَمَامِ: الْبَرَدُ، وَالشَّكْلُ: النَّحْوُ وَالْمَذْهَبُ، وَالْعَتَادُ: مَا يُعَدُّ لِلْأَمْرِ مِثْلَ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وقوله لا توءبّن فِيهِ الْحُرَمُ: أَيْ لَا تُذْكَرُ بِقَبِيحٍ، وَلَا تثنى فَلَتَاتُهُ: أَيْ لَا تُذَاعُ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لِمَجْلِسِهِ فَلَتَاتٌ فَتُذَاعَ، وَالنَّثَا فِي الْكَلَامِ: الْقَبِيحُ والحسن.
__________
1 إسناده ضعيف: علي بن جعفر فيه جهالة كما في "الميزان" "5799".(1/300)
وَقَدْ مَرَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا1.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا أَتَوْا كَاهِنَةً فَقَالُوا لَهَا: أَخْبِرِينَا بِأَقْرَبِنَا شَبَهًا بِصَاحِبِ هَذَا الْمَقَامِ، قَالَتْ: إِنْ جَرَرْتُمْ كِسَاءً عَلَى هَذِهِ السَّهْلَةِ، ثُمَّ مَشَيْتُمْ عَلَيْهَا أَنْبَأَتْكُمْ، فَفَعَلُوا، فَأَبْصَرَتْ أَثَرَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: هَذَا أَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِهِ، فَمَكَثُوا بَعْدَ ذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، ثُمَّ بُعِثَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ2.
وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْعَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَمْشِيَانِ، فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ ثُمَّ قَالَ:
بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ ... لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيِّ
وَعَلِيٌّ يَتَبَسَّمُ3.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرأس، والحسين أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كان أسفل من ذلك4.
__________
1 تقدم.
2 إسناده ضعيف: رواية سماك عن عكرمة ضعيفة كما في "التقريب" "2624".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3750" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ولفظه "وعلي يضحك".
4 ضعيف: أخرجه الترمذي "3804" في كتاب المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين -رضي الله عنهما- والبيهقي في "الدلائل" "1/ 307"، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "789": ضعيف.(1/301)
بَابُ: قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" 2.
وَقَالَ "خ م": مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا3.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، لَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ ينتهك من محارم الله، فينتقم لله4. م.
وَقَالَ أَنَسٌ: خَدَمْتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟ 5
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا6. أَخْرَجَهُ م.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْمَلَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ7. مُتَّفَقٌ عليه.
__________
1 سورة القلم: 4.
2 صحيح: أخرجه أبو داود "4682" في كتاب السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي "1165" في كتاب الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3560" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلم "2327" في كتاب الفضائل، باب: مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام.
4 صحيح: أخرجه مسلم "3560/ 78" في المصدر السابق.
5 صحيح: أخرجه البخاري "6038" في كتاب الأدب، باب: حسن الخلق، ومسلم "2309" في كتاب الفضائل، باب: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن الناس خلقًا.
6 صحيح: أخرجه مسلم "3150" في كتاب الأدب، باب: جواز تكنية من لم يولد له.
7 صحيح: أخرجه البخاري "2908" في كتاب الجهاد، باب: الحمائل، ومسلم "2307/ 48" في كتاب الفضائل، باب: في شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم.(1/302)
وَقَالَ فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبَّابًا وَلَا فَاحِشًا، وَلَا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عَنْدَ الْمَعْتِبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جبينه1. أخرجه خ.
وقال الأعمش، عن شفيق، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا" 2. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو داود: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ3.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ" 5.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذًا شَدِيدًا، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِهِ قَدْ أَثَّرَتْ بها حاشية البرد، ثمّ قال: يا
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "6031" في كتاب الأدب، باب: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاحشًا ولا متفاحشًا.
2 صحيح: أخرجه البخاري "6029" في المصدر السابق، ومسلم "2321" في كتاب الفضائل، باب: كثرة حيائه -صلى الله عليه وسلم.
3 أخرجه الطيالسي في "مسنده" "1520".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3562" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم "2320" في كتاب الفضائل، باب: كثرة حيائه -صلى الله عليه وسلم، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 316".
5 صحيح: أخرجه البخاري "24" في كتاب الإيمان، باب: الحياء من الإيمان، ومسلم "36" في كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان.(1/303)
مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَأْمَنُهُ، وَأَنَّهُ عَقَدَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَقْدًا، فَأَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ فَصَرَعَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَاهُ مَلَكَانِ يَعُودَانِهِ، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّ فُلَانًا عَقَدَ لَهُ عَقْدًا، وَهِيَ فِي بِئْرِ فُلَانٍ، وَلَقَدِ اصْفَرَّ الْمَاءُ مِنْ شِدَّةِ عَقْدِهِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَخْرَجَ الْعَقْدَ، فَوَجَدَ الْمَاءَ قَدِ اصْفَرَّ، فَحَلَّ الْعَقْدَ، وَنَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُهُ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى مَاتَ2.
وَقَالَ أبو نعيم: حدثنا عِمْرَانُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو يَحْيَى الْمُلائِيُّ، حَدَّثَنِي زَيْدٌ الْعَمِيُّ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا صَافَحَهُ الرَّجُلُ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ، وَإِنِ اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهِهِ، لَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْصَرِفُ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ3. أَخْرَجَهُمَا الْفَسَوِيُّ عَنْهُمَا فِي تَارِيخِهِ.
وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُنَحِّي رَأْسَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَتَرَكَ يَدَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ4. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا، حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يتبسم5، متّفق عليه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "6088" في كتاب الأدب، باب: التبسم والضحك، ومسلم "1057" في كتاب الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم.
2 أخرجه أحمد "4/ 367".
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 320"، وزيد العمي ضعيف كما في "التقريب" "2131".
4 صحيح: أخرجه أبو داود "4794" في كتاب الأدب، باب: في حسن العشرة، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 320-321"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
5 صحيح: أخرجه البخاري "6092" في كتاب الأدب، باب: التبسم والضحك، ومسلم "16/ 899" في كتاب الاستسقاء، باب: التعوذ عند رؤية الريح والغيم.(1/304)
وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ خَارِجَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ نَفَرًا دَخَلُوا عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بَيْتَهُ فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنْ بَعْضِ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ بَعَثَ إِلَيَّ فَآتِيهِ، فَأَكْتُبُ الْوَحْيَ، وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الْآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا2.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، اتَّقَيْنَا الْمُشْرِكِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بَأْسًا، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ3.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: لَمْ يُسْأَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: "لَا"4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ5. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَسَأَلَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِغَنَمٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ من لا يخاف الفاقة6. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2322" في كتاب الفضائل، باب: تبسمه -صلى الله عليه وسلم.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 324".
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 324"، وأبو إسحاق مدلس، وقد عنعنه.
4 صحيح: أخرجه البخاري "6034" في كتاب الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم "2311" في كتاب الفضائل، باب: رقم "14".
5 صحيح: أخرجه البخاري "3554" في كتاب المناقب، باب: صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم "2308" في كتاب الفضائل، باب: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس.
6 صحيح: أخرجه مسلم "2312" في كتاب الفضائل، باب: رقم "14".(1/305)
وقال مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويخيط ثوبه، وعمل فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ1.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ2.
وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ الْأَعْوَرُ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ، سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْكَبُ الحمار، ويليس الصُّوفَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ، خِطَامُهُ مِنْ لِيفٍ3.
وَقَالَ مروان بن محمد الطّاطريّ: أنبأنا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ غَزِيَّةَ، عَنْ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ مَعَ صبيّ4.
وفي الصحيح أنّ النّبيّ صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النّغير"5.
وقال حمّاد بن سلمة: أنبأنا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: "يَا أُمَّ فلان، انظري أيّ طرق شِئْتِ قُومِي فِيهِ، حَتَّى أَقُومَ مَعَكِ"، فَخَلَا مَعَهَا يُنَاجِيهَا، حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا6. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
__________
1 أخرجه أحمد "6/ 121، 137، 260".
2 صحيح: أخرجه الترمذي في "الشمائل" "341"، وقال الألباني في "مختصر الشمائل": صحيح.
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 330".
4 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 331"، وابن لهيعة ضعيف الحفظ.
5 صحيح: أخرجه البخاري "6129" في كتاب الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، من حديث أنس -رضي الله عنه.
6 صحيح: أخرجه مسلم "2326" في كتاب الفضائل، باب: قربه -صلى الله عليه وسلم- من الناس، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 332".(1/306)
بَابُ: هَيْبَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَلَالِهِ وحبّه وشجاعته وقوّته وفصاحته
قال جيري بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: إِنِّي لَأَضْرِبُ غُلَامًا لِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، قَالَ: فَجَعَلْتُ لَا أَلْتَفِتُ إِلَيْهِ مِنَ الْغَضَبِ، حَتَّى غَشِيَنِي، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَقَعَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ، فَقَالَ لِي: "وَاللَّهِ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا"، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا أَضْرِبُ غُلَامًا لِي أَبَدًا1. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} 3. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ: لَا نُكَلِّمُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 5.
وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "نُصرت بِالرُّعْبِ، يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيَّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ" 6.
وقال زهير بن معاوية، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عن علي
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "1659/ 34" في كتاب الإيمان، باب: صحبة المماليك.
2 صحيح: أخرجه البخاري "13" في كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم "44" في كتاب الإيمان، باب: وجوب محبة رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 سُورَةَ الحجرات: 2.
4 سورة النور: 63.
5 سورة التوبة: 73.
6 صحيح: أخرجه البخاري "438" في كتاب الصلاة، باب: رقم "56"، ومسلم "521/ 3" في أول كتاب المساجد، والنسائي "1/ 209-211" في كتاب الغسل، باب: التيمم بالصعيد، وأحمد "3/ 304" من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما.(1/307)
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ القومُ القومَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ1، وَقَدْ ثَبُتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، كَمَا أَتَى فِي غَزَوَاتِهِ.
قَالَ زُهَيْرٌ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، عَنْ يَوْمِ حُنَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَقِيَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِلِجَامِهَا، فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ2.
وَقَدْ أَتَى ذَلِكَ مُطَوَّلًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْمَلَ الناس وجهًا، وأجودهم كفًّا، وأشجعهم قلبًا، خرج وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُراعوا، لَنْ تُراعوا3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ حَاتِمُ بن اللّيث الجوهريّ: حدثنا حمّاد بن أبي حمزة السّكريّ، أنا عليّ بن الحسين بن واقد، حدثنا أبي، عن عبد الله بن بريد، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لك أَفْصَحُنَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا؟ قَالَ: "كَانَتْ لُغَةُ إِسْمَاعِيلَ قَدْ دَرَسَتْ، فَجَاءَ بِهَا جِبْرِيلُ فَحَفَّظَنِيهَا". هَذَا مِنْ جُزْءِ الْغِطْرِيفِ.
وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَفْصَحَكَ، مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَعْرَبُ مِنْكَ، قَالَ: "حُقَّ لِي، وإنّما أُنزل القرآن بلسان عربيّ مبين"4.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 324-325"، وأبو إسحاق مدلس، وقد عنعنه.
2 صحيح: أخرجه البخاري "2930" في كتاب الجهاد، باب: من صف أصحابه عند الهزيمة، ومسلم "1776/ 80" في كتاب الجهاد، باب: في غزوة حنين.
3 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
4 مرسل إسناده ضعيف: موسى بن محمد بن منكر الحديث كما في "التقريب" "7006".(1/308)
وَقَالَ هُشَيْمٌ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ"، قُلْنَا: عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ1.
__________
1 إسناده ضعيف: عبد الرحمن بن إسحاق قال في "التقريب" "3799": ضعيف.(1/309)
بَابُ: زُهْدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِذَلِكَ يُوزن الزُّهْدُ وَبِهِ يُحدّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1.
قَالَ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلَكًا نَبِيًّا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا" قَالَ: فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا حَتَّى لَقِيَ رَبَّهُ تَعَالَى2.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خِزَانَتِهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَجَلَسَ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، فَقَلَّبْتُ عَيْنِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا غَيْرُ قَبْضَتَيْنِ أَوْ قَالَ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ، وَقَبْضَةً مِنْ قُرْظٍ، نَحْوَ الصَّاعَيْنِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ أَوْ أَفِيقَانِ، قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يبكيك يابن الْخَطَّابِ"؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لِيَ لَا أَبْكِي وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ! وَكِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ هَكَذَا، فَقَالَ: "يَابْنَ الْخَطَّابِ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا"؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَاحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى" 3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد الله بْن أَبِي ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ فِي البيت شيئًا يردّ البصر إلاّ
__________
1 سورة طه: 131.
2 إسناده ضعيف: وبقية مدلس، وقد عنعنه.
3 صحيح: أخرجه مسلم "1479/ 30" في كتاب الطلاق، باب: في الإيلاء.(1/310)
أُهُبٌ ثَلَاثَةٌ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسٍ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: "أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". فَقُلْتُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى1. اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَدَّلِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، أَخْبَرَكُمُ الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ، أَنَّ شَهْدَةَ بِنْتَ أَبِي نَصْرٍ أَخْبَرَتْهُمْ، أنا أَبُو غَالِبٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، أنا أَبُو سهل بن زياد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا مسلم بن إبراهيم، نا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ مَرْمُولٍ بِشَرِيطٍ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاعْوَجَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْوِجَاجَةً، فَرَأَى عُمَرُ أَثَرَ الشَّرِيطِ فِي جَنْبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُبْكِيكَ"؟ فَقَالَ: كِسْرَى وَقَيْصَرُ يَعِيثَانِ فِيمَا يَعِيثَانِ فِيهِ، وَأَنْتَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ! فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ"؟ قَالَ: بلى، فقال: "فهو الله كَذَلِكَ". إِسْنَادُهُ حَسَنٌ2.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا لي وللدنيا، إنّما أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" 3. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ قَرِيبٌ مِنَ الصِّحَّةِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا يَسُرُّنِي أَنْ تَأْتِيَ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ، إلا شيء أرصده لديني" 4. أخرجه البخاريّ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5191" في كتاب النكاح، باب: موعطة الرجل ابنته لحال زوجها، ومسلم "1479/ 34" في المصدر السابق.
2 قلت: الحسن مدلس، وقد عنعنه، ومبارك بن فضالة مثله مدلس، وقد عنعنه.
3 صحيح بنحوه: أخرجه الترمذي "2384" في كتاب الزهد، باب: رقم "44"، وابن ماجه "4109" في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
4 صحيح: أخرجه البخاري "6445" في كتاب الرقاق، باب: رقم "14"، والبيهقي في الدلائل "1/ 338".(1/311)
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "اللهم اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا" 1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى تُوُفِّيَ2. أخرجه مسلم.
وقال الثّوريّ: حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نُخْرِجُ الْكُرَاعَ3 بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ فَنَأْكُلُهُ، فَقُلْتُ: وَلِمَ تَفْعَلُونَ؟ فَضَحِكَتْ وَقَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ خُبْزٍ مَأْدُومٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: كُنَّا يَمُرُّ بِنَا الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ، وَالْهِلَالُ، مَا نُوقِدُ بِنَارٍ لِطَعَامٍ، إِلَّا أَنَّهُ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَنَا أَهْلَ دُورٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَيَبْعَثُونَ بِغَزِيرَةِ الشَّاءِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ذلك اللّبن5. متّفق عليه.
وقال همّام: حدثنا قَتَادَةُ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، فَقَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رغيفًا مرفقًا، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ6. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى خُوَانٍ، وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ وَلَا خُبِزَ له مرقّق، فَقُلْتُ لِأَنَسٍ: عَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السّفر7. أخرجه البخاريّ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "6460" في كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومسلم "1055" في كتاب الزكاة، باب: في الكفاف والقناعة.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2970" في أول كتاب الزهد، وأحمد "6/ 42".
3 الكراع: مستدق الساق العاري من اللحم.
4 صحيح: أخرجه البخاري "5423" في كتاب الأطعمة، باب: ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام، وأحمد "6/ 128".
5 صحيح: أخرجه البخاري "6458" في كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومسلم "2972" في أول كتاب الزهد.
6 صحيح: أخرجه البخاري "6457" في المصدر السابق.
7 صحيح: أخرجه البخاري "5386" في كتاب الأطعمة، باب: الخبز المرقق.(1/312)
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرحمن بن يزيد يُحَدِّثُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى قُبِضَ1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ2 سَنِخَةٍ3. وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، فَأَخَذَ لِأَهْلِهِ شَعِيرًا، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ يَقُولُ: مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ تَمْرٍ وَلَا صَاعُ حَبٍّ، وَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ أَبْيَاتٍ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ فِرَاشُ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ5. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أَخْبَرَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ، كِتَابَةً، أَنَّ عَبْدَ الْمُنْعِمِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ كُلَيْبٍ أَجَازَ لَهُمْ، قَالَ: أنا عَلِيُّ بْنُ بَنَانٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا أَبُو عليّ الصّفّار سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً، فَانْطَلَقَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ الصُّوفُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ"? قُلْتُ: فُلَانَةٌ رَأَتْ فِرَاشَكَ، فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا، فَقَالَ: "رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ"، قَالَتْ: فَلَمْ أَرُدَّهُ، وَأَعْجَبَنِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِي، حَتَّى قَالَ ذلك ثلاث مرات، قَالَتْ: فَقَالَ: "رُدِّيهِ فَوَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" 6. أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "الزُّهْدِ"، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ -وَهُوَ ثِقَةٌ- عَنْ مجالد، وليس بالقويّ.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2970/ 22" في أول كتاب الزهد، والترمذي "2364" في كتاب الزهد، باب: رقم "38"، وفي "الشمائل" "142، 148".
2 الإهالة: الشحم.
3 سمنة: منتنة الريح.
4 صحيح: أخرجه البخاري "2069" في كتاب البيوع، باب: شراء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنسيئة.
5 صحيح: أخرجه البخاري "6456" في كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومسلم "2082" في كتاب اللباس، باب: التواضع في اللباس.
6 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد في "الزهد" "ص20"، ومجالد ضعيف كما تقدم.(1/313)
وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْكَاتِبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ.
وَقَالَ زَائِدَةُ: نا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ سَاهِمُ الْوَجْهِ، حَسِبْتُ ذَلِكَ من وجع، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لِي أَرَاكَ سَاهِمَ الْوَجْهِ؟ فَقَالَ: "مِنْ أَجْلِ الدَّنَانِيرِ السَّبْعَةِ الَّتِي أَتَتْنَا أَمْسِ، وَأَمْسَيْنَا وَلَمْ نُنْفِقْهُنَّ، فَكُنَّ فِي خَمْلِ الْفِرَاشِ" 1. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَقَالَ بَكْرِ بْنُ مُضَرَ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أَنَا وَعُرْوَةُ، فَقَالَتْ: لَوْ رَأَيْتُمَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضٍ لَهُ، وَكَانَتْ عِنْدِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَوْ سَبَعَةٌ، فَأَمَرَنِي أَنْ أُفَرِّقَهَا، فَشَغَلَنِي وَجَعُهُ حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا، ثُمَّ دَعَا بِهَا فَوَضَعَهَا فِي كَفِّهِ فَقَالَ: "مَا ظَنُّ نَبِيِّ اللَّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ عِنْدَهُ" 2.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ3.
وَقَالَ بَكَّارُ بْنُ مُحَمَّدِ السِّيرِينِيُّ: نا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى بِلَالٍ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ صُبَرًا4 مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا بِلَالُ"؟ فَقَالَ: تَمْرٌ أَدَّخِرُهُ، قَالَ: "وَيْحَكَ يَا بِلَالُ، أَوَمَا تَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَكَ بُخَارٌ فِي النَّارِ، أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا"5. بَكَّارٌ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَبُو عَامِرٍ الْهَوْزَنِيُّ قَالَ: لَقِيتُ بِلَالًا مُؤَذِّنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَلَبٍ، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي
__________
1 أخرجه أحمد "9/ 314".
2 أخرجه أحمد "6/ 104".
3 أخرجه الترمذي في "الشمائل" "190".
4 الصبرة: الكومة.
5 إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في "الكبير" "1024" وبكار بن محمد ضعيف كما في "الميزان" "1263"، وقد أخرجه الترمذي "1025" من طريق آخر عن محمد بن سيرين.(1/314)
كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَلِي ذَلِكَ مِنْهُ، مُنْذُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ، فَرَآهُ عَارِيًا يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِي الْبُرْدَةَ وَالشَّيْءَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حَتَّى اعْتَرَضَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ إِنَّ عِنْدِي سَعَةً فَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مِنِّي، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَ ذات يوم، توضأت، ثمّ قمت لئؤذّن بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا الْمُشْرِكُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ التُّجَّارِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا حَبَشِيُّ، قُلْتُ يَا لَبَّيْهِ، فَتَجَهَّمَنِي، وَقَالَ قَوْلًا غَلِيظًا، فَقَالَ: أَتَدْرِي كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟ قُلْتُ: قَرِيبٌ. قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُ لَيَالٍ، فَآخُذُكَ بِالَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَمْ أُعْطِكَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ مِنْ كَرَامَتِكَ، وَلَا مِنْ كَرَامَةِ صَاحِبِكَ، وَلَكِنْ أَعْطَيْتُكَ لِتَصِيرَ لِي عَبْدًا، فَأَرُدَّكَ تَرْعَى الْغَنَمَ، كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذَنِي فِي نَفْسِي مَا يَأْخُذُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، فَانْطَلَقْتُ ثُمَّ أَذَّنْتُ بِالصَّلَاةِ، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَتْمَةَ رَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنَّ الْمُشْرِكَ قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ مَا تَقْضِي عَنِّي، وَلَا عِنْدِي، وَهُوَ فَاضِحِي، فَأْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا، حَتَّى يَرْزُقَ اللَّهُ رَسُولَهُ مَا يَقْضِي عَنِّي، فَخَرَجْتُ، حَتَّى أَتَيْتُ مَنْزِلِي، فَجَعَلْتُ سَيْفِي وَجِرَابِي وَرُمْحِي وَنَعْلِي عِنْدَ رَأْسِي، وَاسْتَقْبَلْتُ بِوَجْهِي الْأُفُقَ، فَكُلَّمَا نِمْتُ انْتَبَهْتُ، فَإِذَا رَأَيْتُ عَلَيَّ لَيْلًا نِمْتُ، حَتَّى انْشَقَّ عَمُودُ الصُّبْحِ الْأَوَّلِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَسْعَى، يَدْعُو: يَا بِلَالُ أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنْتُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرْ، فَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِقَضَائِكَ"، فَحَمِدْتُ اللَّهَ، قَالَ: "أَلَمْ تَمُرَّ عَلَى الرَّكَائِبِ الْمُنَاخَاتِ الْأَرْبَعِ"؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّ لَكَ رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ"، فَإِذَا عَلَيْهِنَّ كِسْوَةٌ وَطَعَامٌ أَهْدَاهُنَّ لَهُ عَظِيمُ فَدَكٍ، فَحَطَطْتُ عَنْهُنَّ، ثُمَّ عَقَلْتُهُنَّ، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى تَأْذِينِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجْتُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَجَعَلْتُ إِصْبَعِي فِي أُذُنِي، وَنَادَيْتُ وَقُلْتُ: مَنْ كَانَ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَيْنًا فَلْيَحْضُرْ، فَمَا زِلْتُ أَبِيعُ وَأَقْضِي حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَيْنٌ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى فَضَلَ عِنْدِي أُوقِيَّتَانِ، أَوْ أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامَّةُ النَّهَارِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ، فَسَلَّمْتُ(1/315)
عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: "مَا فَعَلَ مَا قِبَلُكَ"؟ قُلْتُ: قَدْ قَضَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، فَقَالَ: "فَضَلَ شَيْءٌ" ? قُلْتُ: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: "انْظُرْ أَنْ تُرِيحَنِي مِنْهُمَا، فَلَسْتُ بِدَاخِلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِي حَتَّى تُرِيحَنِي مِنْهُمَا". فَلَمْ يَأْتِنَا أَحَدٌ، فَبَاتَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَظَلَّ فِي الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ الثَّانِي، حَتَّى كَانَ فِي آخِرِ النَّهَارِ جَاءَ رَاكِبَانِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِمَا، فَكَسَوْتُهُمَا وَأَطْعَمْتُهُمَا، حَتَّى إِذَا صَلَّى الْعَتْمَةَ دَعَانِي، فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلُكَ"؟ قُلْتُ: قَدْ أَرَاحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ شَفَقًا مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ، وَعِنْدَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ، حَتَّى جَاءَ أَزْوَاجَهُ، فسلّم على امْرَأَةٍ، حَتَّى أَتَى مَبِيتَهُ1. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ تَوْبَةَ الْحَلَبِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ أَبُو داود الطّيالسيّ: حدثنا أبو هاشم الزّعفرانيّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا هَذِهِ"؟ قَالَتْ: قُرْصٌ خَبَزْتُهُ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" 2.
وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي طَلِيقٍ قَالَتْ: حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ جَزْءٍ أَبُو بَحْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَشُدُّ صُلْبَهُ بِالْحَجَرِ مِنَ الْغَرَثِ3.
وَقَالَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ: نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا عَائِشَةُ تُحَدِّثُنِي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ بَكَتْ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: مَا مَلَأْتُ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ فَشِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ إِلَّا بَكَيْتُ أَذْكُرُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ4. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ خداش: حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "وَاللَّهِ مَا أمسى في آل
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "3055" في كتاب الخراج، باب: في الإمام يقبل هدايا المشركين، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 193".
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 193".
4 إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 194" ومجالد ضعيف.(1/316)
مُحَمَّدٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، وَإِنَّهُنَّ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ"، وَاللَّهِ مَا قَالَهَا اسْتِقْلَالًا لِرِزْقِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ تَتَأَسَّى بِهِ أُمَّتُهُ1. رَوَى الْأَرْبَعَةُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ أَبَانٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ2.
وَقَالَ أَنَسٌ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمْرٌ، فَرَأَيْتُهُ يَأْكُلُ منه مقيعًا3 مِنَ الْجُوعِ4.
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عند يهوديّ على شعير5.
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 194".
2 أخرجه أحمد "3/ 210-211".
3 الإقعاء: الجلوس على الإليتين ونصب الساقين والفخذين.
4 صحيح بنحوه: أخرجه مسلم "2044/ 148" في كتاب الأشرب، باب: استحباب تواضع الآكل، بنحوه.
5 صحيح: أخرجه أحمد "6/ 453"، وفي الباب عن عائشة، أخرجه البخاري "2916" في كتاب الجهاد، باب: ما قيل في درع النبي -صلى الله عليه وسلم.(1/317)
فَصْلٌ مِنْ شَمَائِلِهِ وَأَفْعَالِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ثَبُتَ عَنْهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ" 1.
وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ2 وَاللَّحْمَ، وَلَا سِيَّمَا الذِّرَاعَ3. وَكَانَ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَيَصُومُ، وَيُفْطِرُ، وَيَنَامُ، وَيَتَطَيَّبُ إِذَا أَحْرَمَ وَإِذَا حَلَّ، وَإِذَا أتى الجمعة، وغير ذلك، ويقبل الهديّة، ويثيب عَلَيْهَا وَيَأْمُرُ بِهَا، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ، وَيَأْكُلُ مَا وَجَدَ، وَيَلْبَسُ مَا وَجَدَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِقَصْدِ ذَا وَلَا ذَا، وَيَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ4، وَالْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ5، وَإِذَا رَكِبَ أَرْدَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّغِيرَ أَوْ يُرْدِفُ وَرَاءَهُ عَبْدَهُ أَوْ مَنِ اتَّفَقَ، وَيَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَلْبَسُ الْبُرُودَ الحبرة، وكانت أَحَبَّ اللِّبَاسِ إِلَيْهِ، وَهِيَ بُرُودٌ يَمَنِيَّةٌ فِيهَا حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ، وَيَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ بِخَاتَمِ فِضَّةٍ نقشه "محمد رسول الله"6 وربّما تختّم في يساره7.
__________
1 حسن: أخرجه ابن ماجه "3354" في كتاب الأطعمة، باب: التعوذ من الجوع، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، وقال الألباني "في صحيح سنن ابن ماجه" "2707": حسن.
2 صحيح: أخرجه البخاري "5599"، في كتاب الأشربة، باب: الباذق من حديث عائشة -رضي الله عنها.
3 صحيح: أخرجه أبو داود "3781" في كتاب الأطعمة، باب: في أكل اللحم، عن ابن مسعود قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجبه الذراع"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
4 صحيح: أخرجه البخاري "5440" في كتاب الأطعمة، باب: القثاء بالرطب، ومسلم "2043" في كتاب الأشربة، باب: أكل القثاء بالرطب، من حديث عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه.
5 صحيح: أخرجه أبو داود "3836" في كتاب الأطعمة، باب: الجمع بين لونين في الأكل، والترمذي "1850" في كتاب الأطعمة، باب: ما جاء في أكل البطيخ بالرطب، وفي "الشمائل" "197"، وأبو نعيم في "الحلية" "11094" من حديث عائشة وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "9/ 486": سنده صحيح، وصححه أيضًا الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
6 صحيح: أخرجه مسلم "2091/ 55" في كتاب اللباس، باب: لبس النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من حديث أنس -رضي الله عنه.
7 شاذ: أخرجه أبو داود "4227" في كتاب الخاتم، باب: ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "908" شاذ والمحفوظ "في يمينه".
قلت: وقد أخرجه أبو داود "4228" في المصدر السابق، موقوفًا على ابن عمر، وصححه الألباني.(1/318)
وَكَانَ يُوَاصِلُ فِي صَوْمِهِ، وَيَبْقَى أَيَّامًا لَا يَأْكُلُ، وَيَنْهَى عَنِ الْوِصَالِ، وَيَقُولُ: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" 1.
وَكَانَ يَعْصِبُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُوعِ2، وَقَدْ أُتي بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا3، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَاخْتَارَ الْآخِرَةَ عَلَيْهَا، وَكَانَ كَثِيرَ التَّبَسُّمِ، يُحِبُّ الرَّوَائِحَ الطَّيِّبَةَ. وَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ4، يَرْضَى لِرِضَاهُ، وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ.
وَكَانَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَلَا مُعَلِّمَ لَهُ مِنَ الْبَشَرِ، نشأ فِي بِلَادٍ جَاهِلِيَّةٍ، وَعِبَادَةِ وَثَنٍ، لَيْسُوا بِأَصْحَابِ عِلْمٍ وَلَا كُتُبٍ، فَآتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 5.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَطْرَافِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَصِحَاحٌ مَشْهُورَةٌ.
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" 6.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1962" في كتاب الصوم، باب: الوصال، ومسلم "1002" في كتاب الصيام، باب: النهي عن الوصال، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4101" في كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق، وأحمد "3/ 300"، والبيهقي في "الدلائل" "3/ 415-417" من حديث جابر الطويل في حفر الخندق.
3 صحيح: أخرجه البخاري "1344" في كتاب الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه.
4 قالته عائشة -رضي الله عنها- فيما أخرجه مسلم "746/ 139" في كتاب صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل.
5 سورة النجم: 3-4.
6 صحيح: أخرجه النسائي "7/ 61" في كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء، وأحمد "3/ 128، 199، 285"، وصححه الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 55"، والحافظ العراقي في تخريج "الإحياء" "2/ 35"، والحافظ ابن حجر في "الفتح" "3/ 20، 467"، والألباني في "صحيح الجامع" "3124".(1/319)
وَقَالَ أَنَسٌ: طَافَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- على نسائه في صحوة بِغُسْلٍ وَاحِدٍ1.
وَكَانَ يُحِبُّ مِنَ النِّسَاءِ عَائِشَةَ، وَمِنَ الرِّجَالِ أَبَاهَا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا2، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَابْنَهُ أُسَامَةَ، وَيَقُولُ: "آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ" 3.
وَيُحِبُّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سِبْطَيْهِ، وَيَقُولُ: "هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا" 4 وَيُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ5، وَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي تَرَجُّلِهِ وتنعّله، وفي شأنه كلّه6.
وكان يقول: "إنّ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي" 7.
وَقَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا" 8.
__________
1 صحيح بنحوه: أخرجه البخاري "5215" في كتاب النكاح، باب: من طاف على نسائه في غسل واحد، بلفظ "في الليلة الواحدة".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4358" في كتاب المغازي، باب: غزوة ذات السلاسل، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه.
3 صحيح: أخرجه البخاري "17" في كتاب الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم "74" في كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي -رضي الله عنه- من الإيمان، من حديث أنس -رضي الله عنه.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3753" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين -رضي الله عنهما- من حديث ابن عمر -رضي الله عنه.
5 صحيح: أخرجه ابن ماجه "977" في كتاب الإقامة، باب: من يستحب أن يلي الإمام، من حديث أنس، وقال البوصيري: رجال إسناده ثقات. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": صحيح.
6 صحيح: أخرجه البخاري "168" في كتاب الوضوء، باب: التيمن في الوضوء، ومسلم "268" في كتاب الطهارة، باب: التيمن في الطهور، من حديث عائشة.
7 صحيح: أخرجه مسلم "1108" في كتاب الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة. ومن حديث عمر بن أبي سلمة.
8 صحيح: أخرجه البخاري "6485" في كتاب الرقاق، باب: رقم "27" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.(1/320)
وَقَالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا" 1.
وَكُلُّ هَذَا فِي الصّحاح2.
__________
1 صحيح: أخرجه الطبراني في "الكبير" "7/ 287" من حديث عقبة بن عامر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" "3720". وأخرجه الترمذي "3308" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، وفي "الشمائل" "41"، وأبو نعيم في "الحلية" "5964" من حديث أبي بكر الصديق بنحوه، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
2 كذا قال والأخير منهم لم أجده في أحد الصحيحين، ولعله يقصد كل ما أطلق عليه "صحيح" كصحيح ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وغير ذلك.(1/321)
بَابٌ: مِنَ اجْتِهَادِهِ وَعِبَادَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى تورّمت قدماه، فقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَ عمل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَطِيعُ؟ 2 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، حدثنا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ". قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَاكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ" 3.
وَفِي الصَّحِيحِ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ، بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هريرة، قال رسول الله
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4836" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، ومسلم "2819/ 80" في كتاب صفة القيامة، باب: إكثار الأعمال.
2 صحيح: أخرجه البخاري "1987" في كتاب الصوم، باب: هل يخص شيئًا من الأيام؟
3 صحيح: أخرجه البخاري "1966" في كتاب الصوم، باب: التنكيل لمن أكثر الوصال، ومسلم "1103" في كتاب الصيام، باب: النهي عن الوصال.(1/321)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إنّي لأستغفر الله وأتوب فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ" 1. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عن مطرّف بن عبد الله بن الشّيخر، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي، وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرجل من البكاء"2.
وقال أبو كريب: حدثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال أبو بكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرَاكَ شِبْتَ، قَالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" 3.
وَأَمَّا تَهَجُّدُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَتَسْبِيحُهُ وَذِكْرُهُ وَصَوْمُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ وَخَوْفُهُ وَبُكَاؤُهُ وَتَوَاضُعُهُ وَرِقَّتُهُ، وَرَحْمَتُهُ لِلْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، وَصِلَتُهُ لِلرَّحِمِ، وَتَبْلِيغُهُ الرِّسَالَةَ، وَنُصْحُهُ الْأُمَّةَ، فَمَسْطُورٌ فِي السُّنَنِ عَلَى أَبْوَابِ الْعِلْمِ.
بَابٌ فِي مُزَاحِهِ وَدَمَاثَةِ أَخْلَاقِهِ الزَّكِيَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قال
__________
1 حسن صحيح: أخرجه ابن ماجه "3815" في كتاب الأدب، باب: الاستغفار، وقال البوصيري، في "الزوائد": إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3076": حسن صحيح.
وأخرجه مسلم "2702" في كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار، من حديث الأغر المزني.
2 صحيح: أخرجه أبو داود "904" في كتاب الصلاة، باب: البكاء في الصلاة، والترمذي في "الشمائل" "321"، والنسائي "3/ 13" في كتاب السهو، باب: البكاء في الصلاة، وأحمد "4/ 25"، وابن حبان "753"، وأبو نعيم في "الحلية" "2083"، وقال الإمام النووي في "رياض الصالحين" "ص141": إسناده صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "2/ 242": إسناده قوي. وقال الألباني في "صحيح سنن النسائي" "1156": صحيح.
3 صحيح: أخرجه الترمذي "3308" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، وفي "الشمائل" "41"، وأبو نعيم في "الحلية" "5964"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".(1/322)
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَمْزَحُ، وَمَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا" 1. إِسْنَادُهُ قَرِيبٌ مِنَ الْحَسَنِ.
وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بن الحسين، ثنا آدم بن أبي غياس، ثنا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: "إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا" 2. تَابَعَهُ أَبُو مَعْشَرَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، وَهُوَ صحيح.
وقال الزّبير بن بكّار: حدّثني بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا مَزَحَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَعْضُ دُعَابَاتِ هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي كنانة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ بَعْضُ مَزْحِنَا هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ"3. حَمْزَةُ لَا أَعْرِفُهُ، وَالْمَتْنُ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ4. تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَضَعْفُهُ مَعْرُوفٌ.
وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ مَعَ صَبِيٍّ5.
وَقَالَ أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ أَبِي طِيبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَثَقُلَ عَلَى الْقَوْمِ بَعْضُ مَتَاعِهِمْ، فَجَعَلُوا يَطْرَحُونَهُ عَلَيَّ، فَمَرَّ بِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "أَنْتَ زَامِلَةٌ" 6.
وقال خشرج بْنُ نُبَاتَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ: سَمِعْتُ سفينة يقول: ثقل
__________
1 صحيح: في إسناده ضعف، مبارك بن فضالة مدلس، وقد عنعنه، ولكنه قد ورد من حديث أبي هريرة فانظر الآتي.
2 صحيح: أخرجه الترمذي "1997" في كتاب البر والصلة، باب: في المزاح، وفي "الشمائل" "له "236"، وقال الألباني في "صحيح الجامع" "2509": صحيح.
3 لم أجده.
4 إسناده ضعيف: وابن لهيعة ضعيف الحفظ.
5 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 331".
6 لم أجده.(1/323)
عَلَى الْقَوْمِ مَتَاعُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابْسُطْ كِسَاءَكَ"، فَجَعَلُوا فِيهِ متاعهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْمِلْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ سَفِينَةٌ"، قَالَ: فَلَوْ حَمَلْتُ مِنْ يَوْمِئِذٍ وِقْرَ بَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةً مَا ثَقُلَ عَلَيَّ1. وَهَذَا يَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بن عاصم، وخالد بن عبد الله: حدثنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَحْمَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَنَا أَحْمِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ"، فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بولد ناقة يا رسول الله؟ فَقَالَ: "وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ إِلَّا النُّوقَ" ?2 صَحِيحٌ غريب.
وقال الأنصاريّ: حدثنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ، يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُمَازِحُهُ الْحَدِيثَ3.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ له: "يا ذَا الْأُذُنَيْنِ" 4.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَزِيرَةٍ5 طَبَخْتُهَا، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنِي وَبَيْنَهَا: كُلِي، فَأَبَتْ، فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِي أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ، فَأَبَتْ، فَوَضَعْتُ يَدِي فِيهَا فَلَطَّخْتُهَا وَطَلَيْتُ وَجْهَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ عُمَرُ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَظَنَّ النّبيّ صلى الله عليه سلم أَنَّهُ سَيَدْخُلُ، فَقَالَ: "قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا". فَمَا زِلْتُ أَهَابُ عُمَرَ لِهَيْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ6.
__________
1 أخرجه أحمد "5/ 221"، وأبو نعيم في "الحلية" "1280".
2 صحيح: أخرجه أبو داود "4998" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في المزاح، والترمذي "1999" في كتاب البر والصلة، باب: في المزاح، وفي "الشمائل" "237"، وصححه الألباني في "سنن الترمذي".
3 صحيح: وقد تقدم.
4 صحيح: أخرجه أبو داود "5002" في المصدر السابق، والترمذي "1998" في المصدر السابق، وفي "الشمائل" "234"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
5 الخزيرة: لحم منضوج مع الدقيق.
6 لم أجده.(1/324)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَدْ رَشَّ فِنَاءَ أُطْمِهِ1، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ سِمَاطَيْنِ2، وَجَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا سِيرِينُ، مَعَهَا مِزْهَرُهَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ السِّمَاطَيْنِ تُغَنِّيهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْمُرْهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ، وَهِيَ تقول في غنائها:
هل عليّ ريحكم ... إِنْ لَهَوْتُ مِنْ حَرَجٍ
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: "لَا حَرَجَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"3.
حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ هَذَا مَدَنِيٌّ، تَرَكَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتِ الْحَبَشَةُ الْمَسْجِدَ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: "تَعَالَيْ"، فَقَامَ بِالْبَابِ، وَجِئْتُ فَوَضَعْتُ ذَقْنِي عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ، قَالَتْ: وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ "وَأَبُو الْقَاسِمِ طَيِّبٌ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَسْبُكِ". قُلْتُ: لَا تَعْجَلْ يا رسول الله، قال: وَمَا بِيَ حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ4.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْحَبَشَةُ فِي الْمَسْجِدِ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ وَيَزْفِنُونَ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثنا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة قالت: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسمعنا لغطًا وصوت
__________
1 الأطم: الحصن.
2 السماط: الصف.
3 إسناده ضعيف: حسين بن عبد الله ضعيف كما في "الميزان" "2012".
4 صحيح: أخرجه البخاري "950" في كتاب العيدين، باب: الحراب والدرق يوم العيد، ومسلم "892/ 18" في كتاب صلاة العيدين، والرخصة في اللعب.(1/325)
الصِّبْيَانِ، فَقَامَ، فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَرْقُصُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي"، فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ ذقني على منكبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، فَقَالَ: "مَا شَبِعْتِ"؟ فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَا، لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ، إِذْ طَلَعَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَارْفَضَّ1 النَّاسُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ فَرِقُوا مِنْ عُمَرَ" 2.
خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ "س": هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَابَقَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَبَقْتُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا رَهَقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: "هَذِهِ بِتِلْكَ" 3. صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا، وَقِيلَ فِي إِسْنَادِهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -وَغَيْرُ خَالِدٍ أَسْقَطَ مِنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُدْلِعُ لِسَانَهُ4 لِلْحُسَيْنِ، فَيَرَى الصَّبِيُّ حُمْرَةَ لِسَانِهِ فَيَهَشُّ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ: أَلَا أَرَاكَ تَصْنَعُ هَذَا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَيَكُونُ لِي الْوَلَدُ قَدْ خَرَجَ وَجْهُهُ مَا قَبَّلْتُهُ قَطُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَا يَرحم لَا يُرحم" 5.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَهُوَ يَقُولُ: "تَرَقَّ عَيْنَ بَقَّهْ" فَيَضَعُ الْغُلَامُ قَدَمَهُ عَلَى قَدَمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْفَعُهُ إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ فَاهُ وَقَالَ: "اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه" 6.
__________
1 ارفض: تفرق.
2 أخرجه الترمذي "3711" في كتاب المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
3 صحيح: أخرجه أبو داود "2578" في كتاب الجهاد، باب: في السبق على الرجل، وابن ماجه "1979" في كتاب النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، وأحمد "5/ 39، 129، 182، 261، 264، 280"، وأبو نعيم في "الحلية" "10010"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
4 يدلع لسانه: يخرجه.
5 عزاه العراقي لأبي يعلى مختصرًا، وقال: بسند جيد. "إتحاف السادة المتقين" "7/ 501".
6 أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" "421".(1/326)
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُسْتَلْقٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى ظَهْرِهِ1.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ الْحَسَنُ فَأَقْبَلَ يَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقَدَّمَ قَمِيصِهِ، فَقَبَّلَ زَبِيبَتَهُ2.
وقال أبو أحمد الزّبيريّ: حدثنا زُمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله بن وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى بُصْرَى قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَامٍ أَوْ عَامَيْنِ، وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَهُمَا بَدْرِيَّانِ، وَكَانَ سُوَيْبِطُ عَلَى زَادِهِمْ، فَجَاءَ نُعَيْمَانُ فَقَالَ: أَطْعِمْنِي، فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ نُعَيْمَانُ مَزَّاحًا، فَقَالَ: لَأَبِيعَنَّكَ، ثُمَّ قَالَ لِأُنَاسٍ: ابْتَاعُوا مِنِّي غُلَامًا، وَهُوَ رَجُلٌ ذُو لِسَانٍ، وَلَعَلَّهُ يَقُولُ: أَنَا حُرٌّ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَارِكِيهِ إِذَا قَالَ ذَلِكَ، فَدَعُونِي وَلَا تُفْسِدُوا عَلَيَّ غُلَامِي، قَالُوا: لَا، بَلْ نَبْتَاعُهُ. فَبَاعَهُ بِعَشْرِ قَلَائِصَ3، ثُمَّ جَاءَهُمْ فَقَالَ: هُوَ هَذَا، فَقَالَ سُوَيْبِطُ: هُوَ كَاذِبٌ، وَأَنَا رَجُلٌ حُرٌّ، قَالُوا: قَدْ أُخْبِرْنَا بِخَبَرِكَ. وَطَرَحُوا الْحَبْلَ وَالْعِمَامَةَ فِي رَقَبَتِهِ، وَذَهَبُوا بِهِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ، فَذَهَبَ وَأَصْحَابٌ لَهُ فَرَدُّوا الْقَلائِصَ، وَأَخَذُوهُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ4. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وقال الأسود بن عامر: حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْنَى أَبَا عَمْرَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أُمَّ عَمْرَةَ"، فَضَرَبَ الرَّجُلُ بِيَدِهِ إِلَى مَذَاكِيرِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْ"، قَالَ: وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ إِلَّا أَنِّي امْرَأَةٌ لَمَّا قُلْتَ لِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أنا بشر مثلكم أمازحك"5. حديث مرسل.
__________
1 إسناده ضعيف: الحسن مدلس، وقد عنعنه.
2 عمران قال في "التقريب"، مقبول. أي إذا توبع وإلا فلين.
3 القلائص: الإبل الفتية.
4 ضعيف: أخرجه ابن ماجه "3719" في كتاب الأدب، باب: المزاح، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
5 معضل.(1/327)
وقال عبد الرزّق: نا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهر، فَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: "إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرَتُهُ". وَكَانَ دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ وَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ: "لَكِنَّ أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ" 1. صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَدَّثُ، وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَيَضْحَكُونَ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خَاصِرَتِهِ، فَقَالَ: اصْبِرْ لِي، قَالَ: "أَصْطَبِرْ"، قَالَ: لِأَنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ. فَرَفَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَمِيصَهُ، فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ الله2. رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم3.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي في "الشمائل" "238"، وأحمد "3/ 161" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 511": إسناده رجاله كلهم ثقات على شرط الشيخين. وقال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" "1/ 542" حديث صحيح.
2 صحيح: أخرجه أبو داود "5224" في كتاب الأدب، باب: في قبلة الجسد، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3035" في كتاب الجهاد، باب: من لا يثبت على الخيل، ومسلم "2475" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل جرير بْن عَبْد اللَّه -رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.(1/328)
باب: في ملابسه -صلى الله عليه وسلم
قال خالد بن يزيد: حدثنا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ الْبِيضَ وَالْمُزَرْوَرَاتِ، وَذَوَاتِ الْآذَانِ1. عَاصِمٌ هَذَا بَصْرِيُّ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ.
وَعَنْ جَابِرٍ: كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ يَلْبَسُهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَيُرْخِيهَا خَلْفَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْغَسِيلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- خطب النّاس وعليه عصابة دَسْمَاءُ2. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ رُكَانَةَ أَنَّهُ صَارَعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمَ عَلَى الْقَلَانِسِ"3. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُمَّةٌ4 بَيْضَاءُ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ5 رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
قُلْتُ: لَعَلَّ تَحْتَ الْخَوْذَةِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ6.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِإِسْنَادٍ وَاهٍ: كَانَتْ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- عمامة تسمّى السّحاب، يلبس تحتها القلانس اللَّاطِئَةَ7، وَيَرْتَدِي.
وَقَالَ مُسَاوِرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، وَعَلَيْهِ، عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ كتفيه8.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: عاصم بن سليمان متروك يضع الحديث كما في "الميزان" "4047".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3800" في كتاب مناقب الأنصار، باب: رقم "11"، والترمذي في "الشمائل" "117".
وقوله: "دسماء: أي سوداء".
3 ضعيف: أخرجه أبو داود "4078" في كتاب اللباس، باب: في العمائم، والترمذي "1791" في كتاب اللباس، باب: العمائم على القلانس، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "300": ضعيف.
4 الكمة: القلنسوة الصغيرة.
5 صحيح: أخرجه مسلم "1358" في كتاب الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.
6 صحيح: أخرجه البخاري "1846" في كتاب جزاء الصيد، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ومسلم "1357" في المصدر السابق.
7 اللاطئة: الملتصقة بالرأس.
8 صحيح: أخرجه مسلم "1359/ 453" في المصدر السابق.(1/329)
وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَتْ رَايَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَوْدَاءَ1، تُسَمَّى الْعُقَابَ، وَعِمَامَتُهُ سَوْدَاءَ، وَكَانَ إِذَا اعْتَمَّ يُرْخِي عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ2. مُرْسَلٌ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا اعْتَمَّ يُسْدِلُ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: رَأَيْتُ الْقَاسِمَ وَسَالِمًا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ3.
وَقَالَ عُرْوَةُ: أُهدي لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِمَامَةٌ مُعَلَّمَةٌ، فَقَطَعَ عَلَمَهَا وَلَبِسَهَا4. مُرْسَلٌ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ5.
وَقَالَ: لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ6.
وَيُرْوَى عَنْ أَنَسٍ: كَانَ قَمِيصُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُطْنًا، قَصِيرَ الطُّولِ، قَصِيرَ الْكُمَّيْنِ7.
وَعَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: كَانَ كُمُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الرسغ8.
__________
1 حسن: أخرجه الترمذي "2687" في كتاب الجهاد، باب: في الروايات، وابن ماجه "2818"، في كتاب الجهاد، باب: الرايات والألوية، من حديث ابن عباس -رضي الله عنه، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2274": حسن.
2 مرسل: وقد تقدم بعضه موصولًا، وأخرج بعضه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 222".
3 صحيح: أخرجه الترمذي "1742" في كتاب اللباس، باب: في سدل العمامة بين الكتفين، وفي "الشمائل" "116"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
4 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 223".
5 صحيح: أخرجه مسلم "274/ 81" في كتاب الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة.
6 صحيح: أخرجه البخاري "5798" في كتاب اللباس، باب: من لبس جبة ضيقة الكمين، ومسلم "274/ 77" في المصدر السابق.
7 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 224".
8 إسناده ضعيف: شهر سيئ الحفظ، وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 224" عن بديل من قوله.(1/330)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُ قَمِيصًا قَصِيرَ الْيَدَيْنِ وَالطُّولِ1.
وَعَنْ عُرْوَةَ وَهُوَ مُرْسَلٌ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ طُولُ ردائه أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر2.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةِ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ3. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ بُرْدَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ طُولَ سِتَّةِ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَشِبْرٍ، وَإِزَارُهُ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ، طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ فِي ذراعين وشبر، وكان يَلْبَسُهُمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ثُمَّ يُطْوَيَانِ4. حَدِيثٌ مُعْضِلٌ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ ثَوْبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ إِلَى الْوَفْدِ رِدَاءٌ حَضْرَمِيٌّ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَانِ وَشِبْرٌ، فَهُوَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ قَدْ خَلِقَ، فَطَوَوْهُ بِثَوْبٍ، يَلْبَسُونَهُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ5. رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وَقَالَ مَعْنُ بن عيسى: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بُرْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حِبَرَةٍ لَهُ حَاشِيَتَانِ6.
قُلْتُ: هَذَا الْبُرْدُ غَيْرُ بُرْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، ذَاكَ الْبُرْدُ اشْتَرَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ بثلاثمائة دينار من صاحب أيلة7.
__________
1 ضعيف: أخرجه ابن ماجه "3577" في كتاب اللباس، باب: كم القميص كم يكون؟ وابن سعد في "الطبقات" "1/ 224" وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
2 مرسل: إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 224"، وفي إسناده ابن لهيعة، ضعيف الحفظ.
3 صحيح: أخرجه مسلم "2081" في كتاب اللباس، باب: التواضع في اللباس، وأبو داود "4032" في كتاب اللباس، باب: في لبس الصوف والشعر، والترمذي "2822" في كتاب الأدب، باب: في الثوب الأسود، وفي "الشمائل" "70".
4 الواقدي متروك كما تقدم.
5 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 224".
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 223".
7 أيلة: مدينة بين الفسطاط ومكة.(1/331)
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ بُرْدٌ كَسَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصَاحِبِ أَيْلَةَ. وَاللَّهُ أعلم.
وقال حميد الطّويل: حدثنا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَخَلَّفْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ أَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِهَا، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْنَا، وَفِي لَفْظٍ: وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، وَفِي لَفْظٍ: وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ1.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ إِزَارٌ يَتَقَعْقَعُ2.
عَنْ عِكْرِمَةَ: رَأَيْتُ ابنَ عَبَّاسٍ، إِذَا ائْتَزَرَ أَرْخَى مُقَدَّمَ إِزَارِهِ حَتَّى تَقَعَ حَاشِيَتَاهُ عَلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَيَرْفَعَ الْإِزَارَ مِمَّا وَرَاءَهُ، وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتَزِرُ هَذِهِ الْإِزْرَةَ3.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتَزِرُ تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَتَبْدُو سُرَّتُهُ4، وَرَأَيْتُ عُمَرَ يَأْتَزِرُ فَوْقَ سُرَّتِهِ، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ" 5.
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اشْتَرَى حُلَّةً بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً6.
__________
1 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
2 صحيح: أخرجه أحمد "2/ 141، 147"، وقال الألباني في "الصحيحة" "1568": إسناده صحيح على شرط الشيخين.
3 صحيح: أخرجه أبو داود "4096" في كتاب اللباس، باب: في قدر موضع الإزار، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 224" بإسناد فيه رجل مجهول.
5 صحيح: أخرجه أبو داود "4093" في كتاب اللباس، باب: في قدر موضع الإزار، وابن ماجه "3573" في كتاب اللباس، باب: موضع الإزار أين هو؟ من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه، وقال الإمام النووي في "رياض الصالحين" "ص312": إسناده صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "10/ 268": رجاله رجال مسلم. وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2875".
6 مرسل إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 225" وفي إسناده علي بن زيد وهو سيئ الحفظ.(1/332)
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اشْتَرَى حُلَّةً بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ ناقة1.
وهذان ضعيفان لإرسالهما.
وقال "د"2: حدثنا عمرو بن عون، أنا عمارة بن زاذان، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ مَلِكَ ذِي يَزَنَ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُلَّةً أَخَذَهَا بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فَقَبِلَهَا3.
وَقَالَ الْحَمَّادَانِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ مِنَ الثِّيَابِ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" 4. زَادَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ: فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ5.
وَرَوَى مِثْلَهُ الثَّوْرِيُّ، وَالْمَسْعُودِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونَ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ الْمَسْعُودِيُّ مَرَّةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: "الْبَسُوا الثِّيَابَ الْبِيضَ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" 6.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، فَأَرْسَلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رواد: حدثنا ابن سالم، حدثنا صفوان
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 225".
2 رمز لأبي داود.
3 ضعيف: أخرجه أبو داود "4034" في كتاب اللباس، باب: في لبس الصوف والشعر، وأحمد "3/ 221"، وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "781": ضعيف.
4 صحيح: أخرجه النسائي "8/ 205" في كتاب الزينة، باب: الأمر بلبس البياض من الثياب، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 219"، وأبو نعيم في "الحلية" "6067"، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي".
5 صحيح: أخرجه النسائي "8/ 205" في الموضع السابق، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي".
6 صحيح: أخرجه أبو داود "3878" في كتاب الطب، باب: في الأمر بالكحل، والترمذي "996" في كتاب الجنائز، باب: ما يستحب من الأكفان، وفي "الشمائل" "68"، وابن ماجه "1472" في كتاب الجنائز، باب: ما يستحب من الكفن، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 219" وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "2/ 210": هذا حديث جيد الإسناد رجاله على شرط مسلم. وقال الألباني في "صحيح الجامع" "1236": صحيح.(1/333)
بْنُ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خَيْرَ مَا زُرْتُمُ اللَّهَ بِهِ فِي مُصَلَّاكُمْ وَقُبُورِكُمُ الْبَيَاضُ"1 رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَفِي لَفْظٍ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَيْهِ حُلَّةً حَمْرَاءَ فذكره.
عبد الله بن صالح: حدثنا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَبَّ رَجُلٍ إِلَيَّ، فَلَمَّا نُبِّئَ وَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، شَهِدَ حَكِيمٌ الْمَوْسِمَ، فَوَجَدَ حُلَّةً لِذِي يَزَنَ فَاشْتَرَاهَا، ثُمَّ قَدِمَ بِهَا لِيُهْدِيَهَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لا نَقْبَلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا، وَلَكِنْ بِالثَّمَنِ، قَالَ: فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا حِينَ أَبَى الْهَدِيَّةَ، فَلَبِسَهَا، فَرَأَيْتُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ فِيهَا، ثُمَّ أَعْطَاهَا أُسَامَةَ، فَرَآهَا حَكِيمٌ عَلَى أُسَامَةَ فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ أَتَلْبَسُ حُلَّةَ ذِي يَزَنَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ لأَنَّا خَيْرٌ مِنْ ذِي يَزَنَ، وَلأَبِي خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى مَكَّةَ فَأَعْجَبْتُهُمْ بِقَوْلِ أُسَامَةَ3.
وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْأَبْطَحِ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَرِيقِ سَاقَيْهِ4. صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ5. رَوَاهُ هُشَيْمٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَأَرْسَلَهُ.
__________
1 ضعيف أخرجه ابن ماجه "3568" في كتاب اللباس، باب: البياض من الثياب، ولفظه: "إن أحسن ... " إلخ، وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده ضعيف، وكذلك ضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
2 صحيح: أخرجه البخاري "5848" في كتاب اللباس، باب: الثوب الأحمر. وفي الباب عن جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" "680".
3 صحيح أخرجه أحمد "3/ 402، 403" وصححه الألباني في "الصحيحة" "1707".
4 أخرجه أحمد "4/ 308-309" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 220".
5 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 220".(1/334)
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ1. إِسْنَادُهُ صحيح.
باب منه:
وقال وكيع: أنبأنا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَتَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعْنَا لَهُ غُسْلًا فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ، فَاشْتَمَلَ بِهَا، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ أَثَرَ الْوَرْسِ عَلَى عُكَنِهِ2.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ قَمِيصَهُ وَرِدَاءَهُ وَعِمَامَتَهُ3. مُرْسَلٌ.
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يُخْبِرُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِ رِدَاءٌ وَعِمَامَةٌ مَصْبُوغَيْنِ بِالْعَبِيرِ. قَالَ مصعب: العبير عندنا: الزّعفران4. مصعب فيه لبن5.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: رُبَّمَا صُبِغَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَمِيصُهُ وَرِدَاؤُهُ بِزَعْفَرَانٍ وَوَرْسٍ6. أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "4206" في كتاب الترجل، باب: في الخضاب، والترمذي "2821" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في الثوب الأخضر، وفي "الشمائل" "43، 45"، والنسائي "3/ 185" في كتاب العيدين، باب: الزينة للخطبة للعيدين، وأحمد "2/ 227-228"، وابن سعد "1/ 221"، وأبو نعيم في "الحلية" "13022"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 237"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
2 إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 220"، وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن، ضعيف الحفظ.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 221" وفيه: "عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 221".
5 قلت: والراجح أنه حسن الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب". صدوق وانظر "الميزان" "8564".
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 220".(1/335)
عَنْ رُكَيْحِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُمْعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ عَجِيبٌ مُدَنِّي.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْبُغُ ثِيَابَهُ حَتَّى الْعِمَامَةَ بِالزَّعْفَرَانِ1.
وَهَذِهِ الْمَرَاسِيلُ لَا تُقَاوِمُ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ التَّزَعْفُرِ2، وَفِي لَفْظٍ: "نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ"3 وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَهْدَى مَلِكُ الرُّومِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَقَةً4 مِنْ سُنْدُسٍ5، فَلَبِسَهَا، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَدَيْهَا تَذَبْذَبَانِ مِنْ طُولِهِمَا، فَجَعَلَ القوم يقولون: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَزَلَتْ عَلَيْكَ مِنَ السَّمَاءِ! فَقَالَ: "وَمَا تَعْجَبُونَ مِنْهَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مِنْدِيلًا مِنْ مَنَادِيلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا"، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَبِسَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبِسَهَا"، قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: "ابْعَثْ بِهَا إِلَى أَخِيكَ النَّجَاشِيِّ"6.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أُهدي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرُّوجٌ7 -يَعْنِي قِبَاءَ حَرِيرٍ- فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثمّ قال: "لا ينبغي هذا للمتّقين" 8.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 221".
2 صحيح: أخرجه مسلم "1201/ 77" في كتاب اللباس، باب: نهي الرجل عن التزعفر.
3 صحيح: انظر التخريج السابق.
4 المستقة: فرو طويل الكمين.
5 سندس: نوع من الحرير.
6 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "3/ 251"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 223"، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف الحفظ.
7 الفروج: القباء وقد يكون فيه شق من الخلف.
8 صحيح: أخرجه البخاري "375" في كتاب الصلاة، باب: من صلى في فروج حرير، ومسلم "2075" في كتاب اللباس، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 223".(1/336)
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَهْدَى أَبُو الْجَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمِيصَةً شَامِيَّةً لَهَا عَلَمٌ، فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلَاةَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "رُدُّوا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ عَلَى أَبِي جَهْمٍ، فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا في الصّلاة فكاد يَفْتِنَنِي" 1.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي بيت أمّ سلمة مشتملًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ2.
وَصَحَّ مِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَّقِي بِفَضُولِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا3.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ مُؤْتَزِرًا بِهِ، لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ4.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ5. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- كان يَلْبَسُ الصُّوفَ6.
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الْمُلَبَّدَةِ7. فَأَقْسَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُبِضَ فِيهِمَا8. أَخْرَجَهُ مسلم.
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 223".
2 صحيح: أخرجه البخاري "354" في كتاب الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الواحد.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 226".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 227".
5 ضعيف: أخرجه أبو داود "659" في كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "131".
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 222".
7 المبلدة: المرقعة.
8 صحيح: أخرجه مسلم "2080" في كتاب اللباس، باب: التواضع في اللباس.(1/337)
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قال: كَانَ ضِجَاعُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أُدُمٍ مَحْشُوًّا لِيفًا"1.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي زُهْدِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" 2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ "عَلَى عَاتِقَيْهِ" 3.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةً طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً لَهَا لِبْنَةُ4 دِيبَاجٍ وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ يَسْتَشْفِي بِهَا5. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" وَفِيهِ: جُبَّةٌ طَيَالِسَةٌ عَلَيْهَا لِبْنَةُ شِبْرٍ مِنْ دِيبَاجٍ كِسْرَوَانِيٍّ6.
__________
1 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4151" في كتاب الزهد، باب: ضجاع آل محمد -صلى الله عليه وسلم، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 227"، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3348": صحيح.
2 صحيح: أخرجه البخاري "359" في كتاب الصلاة، باب: إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، ومسلم "516" في كتاب الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد، ولفظهما "على عاتيقه".
3 صحيح: انظر التخريج السابق.
4 اللبنة: رقعة في جيب القميص.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2069" في كتاب اللباس، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة.
6 أخرجه أحمد "6/ 348".(1/338)
بَابُ: خَوَاتِيمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَغَيْرُهُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَنَزَعَهُ وَرَمَى بِهِ وَقَالَ: "وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا". فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ1. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مُرْسَلَيْنِ. وَكَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ2.
وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قَيْصَرَ وَلَمْ يَخْتِمْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ كِتَابَكَ لَا يُقْرَأُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَنَقَشَهُ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يد رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3، وَكَانَ مِنْ فِضَّةٍ4، وَنَهَى أَنْ يَنْقُشَ النَّاسُ عَلَى خَوَاتِيمِهِمْ نَقْشَتَهُ5، وَقَالَ: "كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، فَصُّهُ مِنْهُ"6.
وَصَحَّ عَنْهُ قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَصُّهُ حَبَشِيٌّ، وَنَقْشُهُ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"7.
وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، فَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ، حَتَّى وَقَعَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، نَقْشُهُ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله"8.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5866" في كتاب اللباس، باب: خاتم الفضة.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2078" في كتاب اللباس، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، من حديث علي -رضي الله عنه- وأخرجه البخاري "5863" في كتاب اللباس، باب: خواتيم الذهب، من حديث البراء بن عازب. وأخرجه "5864" في المصدر السابق، من حديث أبي هريرة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "5872" في كتاب اللباس، باب: نقش الخاتم، ومسلم "2092/ 56" في كتاب اللباس، باب: في اتخاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا.
4 صحيح: انظر التخريج السابق.
5 صحيح: أخرحه البخاري "5784" في كتاب اللباس، باب: الخاتم في الخنصر، ومسلم "2092" في المصدر السابق.
6 صحيح: أخرجه البخاري "5870" في كتاب اللباس، باب: فص الخاتم.
7 صحيح: أخرجه مسلم "2094" في كتاب اللباس، باب: في خاتم الورق فصه حبشي، من حديث أنس -رضي الله عنه.
8 صحيح: أخرجه البخاري "5873" في كتاب اللباس، باب: نقش الخاتم، ومسلم "2091/ 54" في كتاب اللباس، باب: لبس النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ ورق.(1/339)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ1.
وَعَنْ مَكْحُولٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ من ووجهين عَنْهُمَا أَنَّ خَاتَمَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ حَدِيدًا مَلْوِيًّا عَلَيْهِ فِضَّةٌ2.
وَرَوَى مِثْلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ3، وَلَمْ يُدْرِكْ سَعِيدٌ خالدًا.
وقال أحمد بن محمد الأزرقيّ: حدثنا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ جدّه قال: دخل عمرو ين سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا هَذَا الْخَاتَمُ فِي يَدِكَ يَا عَمْرُو"؟ قَالَ: هَذِهِ حَلْقَةٌ، قَالَ: "فَمَا نَقْشُهَا"؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فتختّمه، فَبَيْنَا هُوَ يَحْفِرُ بِئْرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا بِئْرُ أَرِيسٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى شَفَتِهَا، يَأْمُرُ بِحَفْرِهَا، سَقَطَ الْخَاتَمُ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُخْرِجُ خَاتَمَهُ مِنْ يَدِهِ كَثِيرًا، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ4.
وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ نَقْشُ خاتم النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: "مُحَمَّدٌ" سَطْرٌ، وَ"رَسُولٌ" سَطْرٌ، وَ"اللَّهُ" سَطْرٌ5.
قَالَ: فَكَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ، فَكُنَّا مَعَهُ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَهُوَ يُحَوِّلُ الْخَاتَمَ فِي يَدِهِ، فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ، فَطَلَبْنَاهُ مَعَ عُثْمَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ6.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَخَتَّمُ في يمينه7.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2091/ 55" في المصدر السابق.
2 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 231-232"، وفي إسناد رواية إبراهيم فرقد، وهو ضعيف.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 232".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 232".
5 صحيح: أخرجه البخاري "5878" في كتاب اللباس، باب: هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر.
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 223" وتقدم عن ابن عمر بنحوه.
7 صحيح: وقد تقدم.(1/340)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَسَارِهِ1. عن ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ.
وَصَحَّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كان يتختّم في يساره2.
__________
1 شاذ: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 234" وقد تقدم عن ابن عمر.
2 شاذ: وقد تقدم.(1/341)
بَابُ: نَعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخفه
...
باب: نعله النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخُفِّهِ
قَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ لِنَعْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِبَالَانِ1 صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَتْ نعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَهَا زِمَامَانِ شِرَاكُهُمَا مَثْنِيٌّ فِي الْعَقْدِ2.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: رَأَيْتُ نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخَصَّرَةً3 مُعَقَّبَةً4 مُلَسَّنَةً لَهَا قِبَالَانِ5.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، سَأَلْتُ أَنَسًا: أَكَانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ6. وَرَوَى مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَعَامَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "5857" في كتاب اللباس، باب: قبالان في نعل.
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 234".
وأخرجه الترمذي في "الشمائل" "75"، وابن ماجه "3614" في كتاب اللباس، باب: صفة النعال، وأبو نعيم في "الحلية" "12757" عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ عباس بلفظ "كَانَ لِنَعْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبالان، مثنى شراكهما".
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "10/ 325": سنده قوي. وقال الوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح رجاله ثقات، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2911".
3 مخصرة: قطع خصراها.
4 معقبة: لها عقب.
5 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 234".
6 صحيح: أخرجه البخاري "5850" في كتاب اللباس، باب: النعال السبتية، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 235".(1/341)
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي إِذْ وَضَعَ نَعْلَهُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَلْقَى النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ"؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ فَأَلْقَيْنَا، فَقَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا أَوْ أَذًى فَمَنْ رأى ذلك فليمسحهما، ثمّ يصلّي فِيهِمَا" 1.
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَرَاكَ تَسْتَحِبُّ هَذِهِ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُهَا وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا2.
السِّبْتُ: بِالْكَسْرِ، جُلُودُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغَةِ بِالْقَرَظِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة أنّ النّجاشيّ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خفّين أسودين ساذجين، فلبسهما ومسح عليهما3.
__________
1 أخرجه أبو داود "650" في كتاب الصلاة، باب: الصلاة في النعل، والدارمي "1378"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 235"، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
2 صحيح: أخرجه البخاري "5851" في كتاب اللباس، باب: النعال السبتية.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 236".(1/342)
بَابُ: مُشْطِهِ وَمِكْحَلَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِرْآتِهِ وَقَدَحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حدثنا مَنْدَلٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَافِرُ بِالْمُشْطِ، وَالْمِرْآةِ، وَالْمُدْهُنِ، وَالسِّوَاكِ، وَالْكُحْلِ1. مُرْسَلٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِكْحَلَةُ يَكْتَحِلُ بِهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ2.
وَقَالَ حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ3 وَهُوَ صائم4. إسناده ليّن.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 237".
2 ضعيف: أخرجه الترمذي "1763" في كتاب اللباس، باب: ما جاء في الاكتحال، وفي "الشمائل" "50-51"، وابن ماجه "3499" في كتاب الطب، باب: الكحل بالإثمد، وأحمد "1/ 354"، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي".
3 الإثمد: حجر يكتحل به.
4 إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 237"، ومحمد بن عبد الله وحبان بن علي كلاهما ضعيف.(1/342)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدَحَ زُجَاجٍ كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ1.
وَقَالَ حُمَيْدٌ: رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ أَنَسٍ، فِيهِ فِضَّةٌ قَدْ شَدَّهُ بِهَا2. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ: رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ أَنَسٍ، وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ، فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ3.
قَالَ عَاصِمٌ: وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ4، فَقَالَ أَنَسٌ: قَدْ سَقَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هذا القدح أكثر من كذا وكذ5ا، قال: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلَقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا أَنَسٌ حَلْقَةً مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَرَكَهُ6. أَخْرَجَهُ البخاري.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 227".
2 صحيح: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 237".
3 أخرجه البخاري "5638" في كتاب الأشربة، باب: الشربة من قدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وآنيته.
4 صحيح: انظر التخريج السابق.
5 صحيح: انظر التخريج السابق.
6 صحيح: انظر التخريج السابق.(1/343)
بَابُ: سِلَاحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَوَابِّهِ وَعُدَّتِهِ
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ قِرَاءَةً، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ محمد الحافظ، أنا سليمان إِبْرَاهِيمَ الْحَافِظُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النِّيلِيُّ قَالَا: أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ الْمُقْرِي، أنا أبو الحسين أحمد بن فارس اللُّغَوِيُّ قَالَ: كَانَ سِلَاحُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَا الْفَقَارِ، وَكَانَ سَيْفًا أَصَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَانَ لَهُ سَيْفٌ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ. وَأَعْطَاهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سَيْفًا يُقَالُ لَهُ الْعَضْبُ1. وَأَصَابَ مِنْ سِلَاحِ بَنِي قينقاع سيفًا قلعيًّا2، وفي رواية
__________
1 العضب: القاطع.
2 قلعيًّا: منسوب إلى مرج القلعة.(1/343)
يُقَالُ لَهُ الْبَتَّارُ1 وَالْحَتْفُ، وَكَانَ لَهُ الْمِخْذَمُ2، وَالرَّسُوبُ3، وَكَانَتْ ثَمَانِيَةَ أَسْيَافٍ4.
وَقَالَ شَيْخُنَا شَرَفُ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ: أَوَّلُ سَيْفٍ مَلَكَهُ يُقَالُ لَهُ: الْمَأْثُورُ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجِنِّ، وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَقَدِمَ بِهِ فِي هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِسَيْفٍ يُدْعَى "الْعَضْبُ" حِينَ سَارَ إِلَى بَدْرٍ.
وَكَانَ لَهُ ذُو الْفَقَارِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَسَطِهِ مِثْلُ فِقَرَاتِ الظَّهْرِ، صَارَ إِلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ لِلْعَاصِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي نُبَيْهِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرٍ السَّهْمِيِّ -قُتِلَ الْعَاصُ، وَأَبُوهُ، وَعَمُّهُ كُفَّارًا يَوْمَ بَدْرٍ- وَكَانَتْ قَبِيعَتُهُ، وَقَائِمَتُهُ وَحَلَقَتُهُ، وَذُؤَابَتُهُ، وَبَكَرَاتُهُ، وَنَصْلُهُ، مِنْ فِضَّةٍ، وَالْقَائِمَةُ هِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُمْسَكُ بِهَا، وَهِيَ الْقَبْضَةُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ هُودِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَزِيدَةَ، عَنْ جَدِّهِ مَزِيدَةَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ5. وَهُوَ ذُو الْفَقَارِ بِالْكَسْرِ، جَمْعُ فِقْرَةٍ وَبِالْفَتْحِ، جَمْعُ فَقَارَةٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِفِقْرَاتٍ كَانَتْ فِيهِ، وَهِيَ حُفَرٌ كَانَتْ فِي مَتْنِهِ حَسَنَةٌ.
وَيُقَالُ: كَانَ أَصْلُهُ مِنْ حَدِيدَةٍ وُجِدَتْ مَدْفُونَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ مِنْ دَفْنِ جُرْهُمٍ، فَصُنِعَ مِنْهَا ذُو الْفَقَارِ وَصَمْصَامَةُ6 عَمْرِو بْنِ معديكرب الزُّبَيْدِيِّ، الَّتِي وَهَبَهَا لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
وَأَخَذَ مِنْ سِلَاحِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ: سَيْفًا قَلَعِيًّا، مَنْسُوبٌ إِلَى مَرْجِ الْقَلْعَةِ بالفتح موضع بالبادية، والبتّار، والحنيف، وَكَانَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الرَّسُوبُ مِنْ رَسَبَ فِي الْمَاءِ إِذَا سَفُلَ وَالْمِخْذَمُ، وَهُوَ الْقَاطِعُ، أَصَابَهُمَا مِنَ الْفُلْسِ: صَنَمٌ كَانَ لِطَيْءٍ، وَسَيْفٌ يُقَالُ لَهُ الْقَضِيبُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، والقضب: القطع.
__________
1 البتار: القاطع.
2 المخذم: السريع القطع.
3 الرسوب: الذي تغوص ضربته في المضروب.
4 معضل: أحمد بن فارس من علماء القرن الرابع: تأتي ترجمته "3679".
5 ضعيف: أخرجه الترمذي "1696" في كتاب الجهاد، باب: ما جاء في السيوف وحليتها، وفي "الشمائل" "106" وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "284": ضعيف.
6 الصمصامة: السيف القاطع الذي لا ينثني.(1/344)
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: صَنَعْتُ سَيْفِي عَلَى سَيْفِ سَمُرَةَ، وَزَعَمَ سَمُرَةُ أَنَّهُ صَنَعَهُ عَلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حَنَفِيًّا1.
رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ2، وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قَبِيعَةَ سَيْفِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ مِنْ فِضَّةٍ3.
وَالْحَنْفُ: الِاعْوِجَاجُ.
قَالَ شَيْخُنَا4: وَكَانَتْ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِرْعٌ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ الْفُضُولِ، لِطُولِهَا، أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ سَعْدُ بن عبادة حين سار إلى بدر.
وذات الْوِشَاحِ وَهِيَ الْمُوَشَّحَةُ، وَ"ذَاتُ الْحَوَاشِي"، وَدِرْعَانِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُمَا "السُّغْدِيَّةُ" وَ"فِضَّةٌ"5، وَكَانَتِ السُّغْدِيَّةُ دِرْعَ عُكْيَرٍ الْقَيْنُقَاعِيِّ، وَهِيَ دِرْعُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّتِي لَبِسَهَا حِينَ قَتَلَ جَالُوتَ.
وَدِرْعٌ يُقَالُ لَهَا الْبَتْرَاءُ، وَدِرْعٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرْنَقُ، وَالْخَرْنَقُ وَلَدُ الْأَرْنَبِ. وَلَبِسَ يَوْمَ أحد درعين ذات الفضول وفضّة. وَكَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ خَيْبَرَ: "ذَاتُ الْفُضُولِ" وَ"السُّغْدِيَّةُ".
وَقَدْ تُوُفِّيَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَخَذَهَا قوتًا لأهله6.
__________
1 ضعيف: أخرجه الترمذي "1689" في كتاب الجهاد، باب: ما جاء في صفة سَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي "الشمائل" "107-108" وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "283": ضعيف.
2 وهو عثمان بن سعد الكاتب، لين الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": ضعيف، وانظر "الميزان" "5511".
3 صحيح: أخرجه أبو داود "2583 و2585" في كتاب الجهاد، باب: في السيف يحلى، والترمذي "1697" في كتاب الجهاد، باب: ما جاء في السيوف وحليتها، وفي "الشمائل" "104"، والنسائي "8/ 219" في كتاب الزينة، باب: حلية السيف، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 238" من طريق عثمان بن سعد وقتادة عن أنس -رضي الله عنه- وقال الحافظ ابن حجر في "التخليص" "1/ 52": إسناده صحيح. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
4 يقصد شرف الدين الدمياطي.
5 إسناده ضعيف جدًّا. أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 239"، وفي إسناده أبو بكر بن أبي سبرة والواقدي وكلاهما متروك.
6 صحيح: وقد تقدم تخريجه.(1/345)
وقال عبيس بن مرحوم العطّار: حدثنا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ فِي دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَلَقَتَانِ مِنْ فِضَّةٍ فِي مَوْضِعِ الصَّدْرِ، وَحَلَقَتَانِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَلَبِسْتُهَا فَجَعَلْتُ أَخُطُّهَا فِي الْأَرْضِ1.
قَالَ شَيْخُنَا: وَكَانَ لَهُ خَمْسُ أَقْوَاسٍ: ثَلَاثٌ مِنْ سِلَاحِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَقَوْسٌ تُدْعَى "الزَّوْرَاءَ"، وَقَوْسٌ تُدْعَى "الْكَتُومَ"، وَكَانَتْ جَعْبَتُهُ تُدْعَى "الْكَافُورَ".
وَكَانَتْ لَهُ مِنْطَقَةٌ2 مِنْ أَدِيمٍ مَبْشُورٍ3، فِيهَا ثَلَاثُ حِلَقٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَتُرْسٌ يُقَالُ لَهُ "الزَّلُوقُ"، يَزْلَقُ عَنْهُ السِّلَاحُ، وَتُرْسٌ يُقَالُ لَهُ "الْعُنُقُ"، وَأُهْدِيَ لَهُ تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ عُقَابٍ أَوْ كَبْشٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ التِّمْثَالَ4.
وَأَصَابَ ثَلَاثَةَ أَرْمَاحٍ مِنْ سِلَاحِ بَنِي قَيْنُقَاعَ5. وَكَانَ لَهُ رُمْحٌ يُقَالُ لَهُ "الْمُثْوِي"، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ "الْمُتَثَنِّي"، وَحَرْبَةٌ اسْمُهَا "الْبَيْضَاءُ"6، وَأُخْرَى صَغِيرَةٌ كَالْعُكَّازِ.
وَكَانَ لَهُ مِغْفَرٌ7 مِنْ سِلَاحِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ "السَّبُوغُ".
وَكَانَتْ لَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ مُرَبَّعَةٌ مِنْ نَمِرَةٍ مُخْمَلَةٍ8، تُدْعَى "الْعُقَابَ"9.
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 239" من طريق آخر عن حاتم بن إسماعيل.
2 المنقطة: ما يشد به الوسط.
3 الأديم المبشور: الجلد المقشور.
4 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 239" عن مكحول مرسلًا.
5 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 240" عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وفي إسناده أبو بكر بن أبي سبرة، والواقدي، وكلاهما متروك.
6 إسناده ضعيف جدًّا: انظر التخريج السابق.
7 تقدم بنحوه.
8 صحيح دون قول "مربعة ... ": أخرجه أبو داود "2591" في كتاب الجهاد، باب: في الرايات والألوية، والترمذي "1686" في كتاب الجهاد، باب: ما جاء في الرايات، من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- دون قوله: "مخملة"، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "282": صحيح دون قوله "مربعة".
9 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 238" عن علقمة بن أبي علقمة، وأخرجه "1/ 222" عن الحسن مرسلًا.(1/346)
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، عَنْ آخَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَفْرَاءَ1، وَكَانَتْ أَلْوِيَتُهُ بِيضًا2.
وَرُبَّمَا جَعَلَ فِيهَا الْأَسْوَدَ، وَرُبَّمَا كَانَتْ مِنْ خُمُرِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ.
وَكَانَ فُسْطَاطُهُ يُسَمَّى "الْكِنَّ".
وَكَانَ لَهُ مِحْجَنٌ3 قَدْرَ ذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ، يَمْشِي وَيَرْكَبُ بِهِ، وَيُعَلِّقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَعِيرِهِ.
وَكَانَتْ لَهُ مِخْصَرَةٌ4 تُسَمَّى "الْعُرْجُونَ"، وَقَضِيبٌ يُسَمَّى "الْمَمْشُوقَ".
وَاسْمُ قَدَحِهِ "الرَّيَّانُ". وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مُضَبَّبٌ غَيْرُ "الرَّيَّانِ"، يُقَدَّرُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْمُدِّ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْكَسَرَ، وَاتَّخَذَ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ5. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ زُجَاجٍ6، وَتَوْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، يَتَوَضَّأُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَمِخْضَبٌ مِنْ شِبْهٍ7.
وَرَكْوَةٌ8 تُسَمَّى "الصَّادِرَةَ"، وَمِغْسَلٌ مِنْ صُفْرٍ9، وربعة أهداها له
__________
1 ضعيف: أخرجه أبو داود "2593" في كتاب الجهاد، باب: في الرايات والألوية، وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "557": ضعيف.
2 حسن: أخرجه الترمذي "1687" في كتاب الجهاد، باب: ما جاء في الرايات، وابن ماجه "2818" في كتاب الجهاد، باب: في الرايات والألوية، من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2274": حسن.
3 المحجن: العود معوج الرأس.
4 المخصرة: العصا ونحوها.
5 صحيح: أخرجه البخاري "5638" في كتاب الأشربة، باب: الشرب من قدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وآنيته، من طريق عاصم الأحول عن أنس.
6 مرسل: أخرجه ابن سعد في الطبقات "1/ 2387" عَن عُبَيْد الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة مرسلًا.
7 الشبه: النحاس.
8 الركوة: الإناء الصغير.
9 الصفر: النحاس.(1/347)
الْمُقَوْقِسُ، يَجْعَلُ فِيهَا الْمِرْآةَ وَمُشْطًا مِنْ عَاجٍ1، وَالْمِكْحَلَةَ، وَالْمِقَصَّ، وَالسِّوَاكَ.
وَكَانَتْ لَهُ نَعْلَانِ سِبْتِيَّتَانِ2، وَقَصْعَةٌ، وَسَرِيرٌ، وَقَطِيفَةٌ. وَكَانَ يَتَبَخَّرُ بِالْعُودِ وَالْكَافُورِ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ بِإِسْنَادِي الْمَاضِي إِلَيْهِ: يُقَالُ تَرَكَ يَوْمَ تُوُفِّيَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبَيْ حِبَرَةٍ3، وَإِزَارًا عُمَانِيًّا، وَثَوْبَيْنِ صُحَارِيَّيْنِ4، وَقَمِيصًا صُحَارِيًا وَقَمِيصًا سَحُولِيًا5، وَجُبَّةً يَمَنِيَّةً، وَخَمِيصَةً6، وَكِسَاءً أَبْيَضَ، وَقَلَانِسَ صِغَارًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، وَإِزَارًا طُولُهُ خَمْسَةُ أَشْبَارٍ، وَمِلْحَفَةً يَمَنِيَّةً مُوَرَّسَةً.
وَأَكْثَرُ هَذَا الْبَابِ كَمَا تَرَى بِلَا إِسْنَادٍ، نَقَلَهُ هَكَذَا ابْنُ فَارِسٍ، وَشَيْخُنَا الدِّمْيَاطِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ .
وَأَمَّا دَوَابُّهُ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللَّحِيفُ7.
وَرَوَى عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -وَهُوَ ضَعِيفٌ-8 عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ، يَعْلِفُهُنَّ عند أبي سعد بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ. فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يسمّيهنّ: "اللزاز"، "والظّرب"، و"اللّحيف"9. رواه الواقدي عنه. وزاد في الحديث بالسّنن: فَأَمَّا "اللِّزَازُ" فَأَهْدَاهُ لَهُ الْمُقَوْقِسُ، وَأَمَّا اللَّحِيفُ فَأَهْدَاهُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي الْبَرَاءِ، فَأَثَابَهُ عَلَيْهِ فَرَائِضَ مِنْ نَعَمِ بَنِي كِلَابٍ، وَأَمَّا الظَّرِبُ فَأَهْدَاهُ لَهُ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الْجُذَامِيُّ10.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 237" عن ابن جريج مرسلًا.
2 صحيح: وقد تقدم من حديث ابن عمر.
3 الحبرة: نوع من الثياب اليمنية.
4 صحاريين: نسبة إلى صحار، وهي قرية في اليمن.
5 نسبة إلى سحول، قرية باليمن.
6 الخميصة: ثوب خز معلم.
7 صحيح: أخرجه البخاري "2855" في كتاب الجهاد، باب: اسم الفرس والحمار.
8 وكذلك ضعفه ابن حجر في "التقريب"، وانظر "الميزان" "5279".
9 إسناه ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 240" وفي إسناده الواقدي، وهو متروك، وفي النسخة عندي "أبي بن عباس بن سهل" وهو ضعيف أيضًا.
10 إسناده ضعيف جدًّا: انظر التخريج السابق.(1/348)
وَ"اللِّزَازُ" مِنْ قَوْلِهِمْ: لَازَزْتُهُ أَيْ لَاصَقْتُهُ، وَالْمُلَزَّزُ: الْمُجْتَمِعُ الْخَلْقِ.
وَ"الظَّرِبُ": وَاحِدُ الظِّرَابِ، وَهِيَ الرَّوَابِي الصِّغَارُ، سُمِّيَ بِهِ لِكِبَرِهِ وَسِمْنِهِ، وَقِيلَ لِقُوَّتِهِ، وَقَالَهُ الْوَاقِدِيُّ بِطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقَالَ: سُمِّيَ الطَّرِبَ لِتَشَوُّفِهِ أَوْ لِحُسْنِ صَهِيلِهِ.
وَ"اللَّحِيفُ": بِمَعْنَى لَاحِفٍ، كَأَنَّهُ يَلْحَفُ الْأَرْضَ بِذَنَبِهِ لِطُولِهِ، وَقِيلَ: اللُّحَيْفُ، مُصَغَّرٌ.
وَأَوَّلُ فَرَسٍ مَلَكَهُ: "السَّكْبُ"، وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الْأَعْرَابِيِّ: "الضَّرِسَ"، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَشْرِ أَوَاقِي، أَوَّلُ مَا غَزَا عَلَيْهِ أحد، لَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُهُ، وَفَرَسٌ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ1. وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ يُدْعَى: "الْمُرْتَجِزَ"2، سُمِّيَ بِهِ لِحُسْنِ صَهِيلِهِ، وَكَانَ أَبْيَضَ. وَالْفَرَسُ إِذَا كَانَ خَفِيفَ الْجَرْيِ فَهُوَ سَكْبٌ وَفَيِّضٌ كَانْسِكَابِ الْمَاءِ.
وَأَهْدَى لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَرَسًا يُدْعَى الْوَرْدَ، فَأَعْطَاهُ عُمَرَ3.
وَالْوَرْدُ: بَيْنَ الْكُمَيْتِ وَالْأَشْقَرِ.
وَكَانَتْ لَهُ فَرَسٌ تُدْعَى "سَبْحَةً"4، مِنْ قَوْلِهِمْ: طِرْفٌ سَابِحٌ، إِذَا كَانَ حَسَنَ مَدِّ الْيَدَيْنِ فِي الْجَرْيِ.
قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَفْرَاسٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ بَعْدَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَرَسًا مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَقَالَ: قَدْ شَرَحْنَاهَا فِي "كِتَابِ الْخَيْلِ".
قَالَ: وَكَانَ سَرْجُهُ دَفَّتَاهُ مِنْ لِيفٍ.
وَكَانَتْ لَهُ بَغْلَةٌ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ، شهباء يقال لها: "دلّدل". مع حمار
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 240" عن سهل بن أبي حثمة، وفي إسناده الواقدي، متروك كما تقدم.
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 240" عن ابن عباس، وفي إسناده الواقدي.
3 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 240" عن سهل بن سعد، وفي إسناده أبي بن عباس وهو ضعيف، والواقدي وهو متروك.
4 كذا في المطبوعة، وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 240" عن أنس، ولفظه "سيحة".(1/349)
يُقَالُ لَهُ: "عُفَيْرٌ"1، وَبَغْلَةٌ يُقَالُ لَهَا: "فِضَّةٌ"، أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ الْجُذَامِيُّ، مَعَ حِمَارٍ يُقَالَ لَهُ "يَعْفُورُ"، فَوَهَبَ الْبَغْلَةَ لِأَبِي بَكْرٍ2، وَبَغْلَةً أُخْرَى.
قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: غَزَوْنَا تَبُوكَ، فَجَاءَ رَسُولُ ابْنِ الْعَلْمَاءِ صَاحِبِ أَيْلَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْدَى لَهُ بُرْدَةً، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ3، وَالْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ.
وقال ابن سعد: وبعث صَاحِبُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَغْلَةٍ وَجُبَّةِ سُنْدُسٍ4. وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونَ الْقَدَّاحُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ5.
وَيُقَالُ إِنَّ كِسْرَى أَهْدَى لَهُ بَغْلَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ -لَعَنَهُ اللَّهُ- مَزَّقَ كِتَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَتْ لَهُ النَّاقَةُ الَّتِي هَاجَرَ عَلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ، تُسَمَّى "القصواء"، و"العضباء" و"الجدعاء"6، وَكَانَتْ شَهْبَاءَ.
وَقَالَ أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ، لَا ضَرْبَ وَطَرْدَ، وَلَا إِلَيْكَ إليك7. حديث حسن.
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدا: أخرجه البخاري ابن سعد في "الطبقات" "1/ 241" مرسلا، وفي إسناده الواقدي.
2 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 241" عن زامل بن عمرو، وفي إسناده أبو بكر بن أبي سبرة والواقدي، وكلاهما متروك.
3 صحيح: أخرجه البخاري "1481" في كتاب الزكاة باب: خرص التمر، ومسلم "1392" في كتاب الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وأحمد "4/ 424، 425".
4 تقدم بنحوه من حديث أنس.
5 قلت: وهو متروك، وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": منكر الحديث متروك.
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 241" مرسلا، وفي إسناده الواقدي متروك، وبعض هذه الأسماء ورد في الصحيح، أما العضباء فأخرجه البخاري "2871" في كتاب الجهاد، باب: ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم، من حديث أنس -رضي الله عنه.
وأما القصواء فأخرجه البخاري "2731، 2732" في كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، في قصة الحديبية.
7 صحيح: أخرجه النسائي "5/ 270" في كتاب الحج، باب: الركوب إلى الجمار، وابن ماجه "3035" في كتاب المناسك، باب: رمي الجمار راكبا، وأحمد "3/ 413"، والدارمي "1901"، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2461": صحيح، وأخرجه الترمذي "904" في كتاب الحج، باب: كراهية طرد الناس عند رمي الجمار، دون قوله "صهباء".(1/350)
الصَّهْبَاءُ: الشَّقْرَاءُ.
وَكَانَتْ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَاحٌ1 أَغَارَتْ عَلَيْهَا غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَاسْتَنْقَذَهَا سَلَمَةُ ابْنُ الْأَكْوَعِ وَجَاءَ بِهَا يَسُوقُهَا2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَهُوَ مِنَ الثُّلَاثِيَّاتِ.
وَجَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهْدَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَلًا فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، كَانَ غَنِمَهُ مِنْ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أَهْدَاهُ لِيَغِيظَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَأَوْهُ، وَكَانَ مَهْرِيًّا3 يَغْزُو عَلَيْهِ وَيَضْرِبُ فِي لِقَاحِهِ4.
وَقِيلَ: كَانَ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرُونَ لِقْحَةً بالغابة، يراح إليه منها كلّ ليلة يقربتين مِنْ لَبَنٍ5.
وَكَانَتْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ لِقْحَةً، يَرْعَاهَا يَسَارُ مَوْلَاهُ الَّذِي قَتَلَهُ الْعَرْنِيُّونَ وَاسْتَاقُوا اللِّقَاحَ، فَجِيءَ بِهِمْ فَسَمَلَهُمْ6.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْغَنَمِ مِائَةُ شَاةٍ، لَا يُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ، كُلَّمَا وَلَّدَ الرَّاعِي بُهْمَةً7 ذَبَحَ مَكَانَهَا شَاةً.
__________
1 اللقاح: النوق ذوات الألبان.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3041" في كتاب الجهاد، باب: من رأي العدو فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه، ومسلم "1806" في كتاب الجهاد، باب: غزوة ذي قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه.
3 مهريا: من كرائم الإبل.
4 حسن: أخرجه أبو داود "1749" في كتاب الحج، باب: في الهدي، وابن إسحاق في "السيرة" "2/ 209"، وأبو نعيم في "الحلية" "9815" من حديث ابن عباس، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
5 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 242" عن معاوية بن عبد الله بن عبيد الله معضلا، وفي إسناده الواقدي متروك.
6 أصل القصة عند البخاري "233" في كتاب الوضوء، باب: أبوال الإبل، ومسلم "1671" في كتاب القسامة، باب: حكم المحاربين، من حديث أنس -رضي الله عنه، دون ذكر عدد اللقاح واسم الراعي.
7 البهمة: ولد الضأن.(1/351)
وَقَدْ سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شواء
...
وَقَدْ سُحِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسُمَّ فِي شِوَاءٍ:
قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَصْنَعُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَصْنَعْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ رَأَيْتُهُ يَدْعُو، فَقَالَ: "أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ: أَتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ الْآخَرُ: مَطْبُوبٌ 1، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، قَالَ: فِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ 2 وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ 3، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي ذِي أَرْوَانَ"، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ عَائِشَةَ فَقَالَ: "كَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرِجْهُ لِلنَّاسِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا" 4.
فِي لَفْظٍ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ5.
رَوَى عُمَرُ مَوْلَى عَفْرَةَ -وَهُوَ تَابِعِيٌّ- أَنَّ لَبِيدَ بْنَ أَعْصَمَ سَحَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى الْتَبَسَ بَصَرُهُ وَعَادَهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَخْبَرَاهُ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعْتَرَفَ، فَاسْتَخْرَجَ السِّحْرَ مِنَ الْجُبِّ، ثُمَّ نَزَعَهُ فَحَلَّهُ، فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَفَا عَنْهُ6.
وَرَوَى يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فِي سَاحِرِ أَهْلِ الْعَهْدِ: لا يقتل، وقد سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَهُودِيٌّ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ7.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَفَا عَنْهُ8.
__________
1 مطبوب: مسحور.
2 مشاطة: في رواية "مشاقة" وصوبها الحافظ ابن حجر في "الفتح" "10/ 242" والمشاطة: ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، قاله ابن قتيبة.
3 جف طلعة ذكر: في رواية "جف طلعة نخلة ذكر"، وهو الغشاء الذي يكون على الطلع.
4 صحيح: أخرجه البخاري "5863" في كتاب الطب، باب: السحر، ومسلم "2189" في كتاب السلام، باب: السحر.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2189/ 43" في المصدر السابق.
6 مرسل: إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 348" وفي إسناده ابن لهيعة، ضعيف الحفظ.
7 إسناده حسن إلى الزهري: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 349، 350" وفي رواية يونس عن الزهري مقال لا ينزل حديثه عن الحسن، وهو إلى الصحة أقرب، وفي إسناده عتاب بن زياد صدوق.
8 مرسل إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 350" وفي إسناده الواقدي، متروك.(1/352)
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِمَّنْ رَوَى أنّه قتله1.
وقال أبو معاوية: حدثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْيَهُودَ سَمَّتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَمَّتْ أَبَا بَكْرٍ2.
وَفِي "الصَّحِيحِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاةً مَسْمُومَةً3.
وَعَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَاطْمَأَنَّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَهِيَ بِنْتُ أَخِي مَرْحَبٍ وَامْرَأَةُ سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ سُمًّا قَاتِلًا فِي عَنْزٍ لَهَا ذَبَحَتْهَا وَصَلَتْهَا4، وَأَكْثَرَتِ السُّمَّ فِي الذِّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفِ، فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَغْرِبَ انْصَرَفَ وَهِيَ جَالِسَةٌ عِنْدَ رَحْلِهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ هَدِيَّةٌ أَهْدَيْتُهَا لَكَ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُخِذَتْ مِنْهَا، ثُمَّ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَصْحَابُهُ حُضُورٌ، مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَتَنَاوَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَانْتَهَشَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَتَنَاوَلَ بِشْرٌ عَظْمًا آخَرَ، فَانْتَهَشَ مِنْهُ، وَأَكَلَ الْقَوْمُ مِنْهَا. فَلَمَّا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لُقْمَةً قَالَ: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّ هَذِهِ الذِّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ" فَقَالَ بِشْرٌ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، لَقَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ مِنْ أَكْلَتِي، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَلْفُظَهَا إِلَّا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُبْغِضَ إِلَيْكَ طَعَامَكَ، فَلَمَّا أَكَلْتَ مَا فِي فِيكَ لَمْ أَرْغَبْ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِكَ، وَرَجَوْتُ أَنْ لَا تَكُونَ ازْدَرَدْتَهَا وَفِيهَا بَغْيٌ، فَلَمْ يَقُمْ بِشْرٌ حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ سَنَةً وَمَاتَ5.
__________
1 نقله في "الطبقات" "1/ 350".
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 350".
3 صحيح: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 350"، وأخرجه البخاري "2617" في كتاب الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم "2190" في كتاب السلام، باب: السم، من حديث أنس.
4 صلتها: شوتها.
5 صحيح بنحوه: أخرجه أبو داود "4512" في كتاب الديات، باب: فيمن سقى رجلا سما، الدارمي "69" من حديث أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
وأما رواية جابر فأخرجها أبو داود "4510" في المصدر السابق، والدارمي "68" وضعفها الحافظ العراقي في تخريج "الإحياء" "1/ 368" بالانقطاع، وكذلك ضعفها الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 569"، والألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "973".(1/353)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَرِمْ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: "مَا حَمَلَكِ"؟ قَالَتْ: نِلْتَ مِنْ قَوْمِي، وَقَتَلْتَ أَبِي وَعَمِّي وَزَوْجِي، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَتُخْبِرُهُ الذِّرَاعُ، وَإِنْ كان ملكًا أسرحنا مِنْهُ، فَدَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ بِشْرٍ يَقْتُلُونَهَا1. وَهُوَ الثَّبْتُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ يَعْرِضْ لَهَا وَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى كَاهِلِهِ. حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِقَرْنٍ وَشَفْرَةٍ2، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ.
وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَقُولُ: "مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُهَا بِخَيْبَرَ، وَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي"، وَفِي لَفْظٍ: "مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ يُعَاوِدُنِي أَلَمُ سُمِّهَا" وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ3 -وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي "الصَّحِيحِ".
وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ تِسْعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُتِلَ قَتْلًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً، يَعْنِي أَنَّهُ مَاتَ مَوْتًا، وَذَلِكَ فإنّ الله اتّخذه نبيًّا وجعله شهيدًا4.
__________
1 أخرجه أبو داود "4512، 4514" في المصدر السابق عن أبي هريرة وكعب بن مالك -رضي الله عنهما، دون قوله "قَالَتْ: نِلْتَ مِنْ قَوْمِي، وَقَتَلْتَ أَبِي وَعَمِّي وزوجي"، وصحح كلا الحديثين الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
وأما هذه الزيادة فقد أخرجها ابن سعد في "الطبقات" "1/ 351" من حديث ابن عباس، وإسنادها ضعيف جدا.
2 ضعيف: أخرجه أبو داود "4510" في المصدر السابق، من حديث جابر، وضعفه الألباني وغيره كما تقدم، ولو صح لكان المثبت لقتلها مقدم على النافي.
3 ذكره ابن سعد في "الطبقات" "1/ 351" عقب حديث ابن عباس.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 172".(1/354)
بَابُ: مَا وُجِدَ مِنْ صُورَةِ نَبِيِّنَا وَصُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالشَّامِ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ الرَّبْعِيُّ وهو ضعيف بمرّة1: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عُثْمَانَ عَمَّتِي، عَنْ أَبِيهَا سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِمَكَّةَ، خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا كُنْتُ بِبُصْرَى أَتَتْنِي جَمَاعَةٌ مِنَ النَّصَارَى فَقَالُوا لِي: أَمِنَ الْحَرَمِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالُوا: فَتَعْرِفُ هَذَا الَّذِي تَنَبَّأَ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فأدخلوني ديرًا لهم فيه صور فقالوا: انظر هَلْ تَرَى صُورَتَهُ؟ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ صُورَتَهُ، قُلْتُ: لَا أَرَى صُورَتَهُ، فَأَدْخَلُونِي دَيْرًا أَكْبَرَ مِنْ ذَاكَ فَنَظَرْتُ، وَإِذَا بِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصُورَتِهِ وَبِصِفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصُورَتِهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِعَقِبِ2 رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا لِي: هَلْ ترى صورته؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالُوا: هُوَ هَذَا؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنَّهُ هُوَ، قَالُوا، أَتَعْرِفُ هَذَا الَّذِي أَخَذَ بِعَقِبِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا صَاحِبُكُمْ وَأَنَّ هَذَا الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ3.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "تَارِيخِهِ"، عَنْ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ مَنْسُوبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، أَخْصَرَ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ إِدْرِيسَ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى هِرَقْلَ نَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَنَزَلْنَا عَلَى جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيِّ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ عَلَى سرير له، فأرسل إلينا برسول نُكَلِّمُهُ، فَقُلْنَا: وَاللَّهِ لَا نُكَلِّمُ رَسُولًا، إِنَّمَا بعثنا إلى الملك، فأذن لنا وقال:
__________
1 تقدم أنه ضعيف جدًّا.
2 العقب: عظم مؤخر القدم.
3 إسناده ضعيف جدًّا: عبد الله بن شبيب ضعيف جدًّا كما تقدم.(1/355)
تَكَلَّمُوا، فَكَلَّمْتُهُ وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِذَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ سَوَادٌ، قُلْنَا: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: لَبِسْتُهَا وَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَنْزَعِهَا حَتَّى أُخْرِجَكُمْ مِنَ الشَّامِ، قُلْنَا: وَمَجْلِسُكَ هَذَا، فَوَاللَّهِ لَنَأْخُذَنَّهُ مِنْكَ، وَلَنَأْخُذَنَّ مِنْكَ الْمُلْكَ الْأَعْظَمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا، قَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَصُومُونَ بِالنَّهَارِ فَكَيْفَ صَوْمُكُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَمَلَأَ وَجْهَهُ سَوَادًا وَقَالَ: قُومُوا، وَبَعَثَ مَعَنَا رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ الَّذِي مَعَنَا: إِنَّ دوابّكم هذه لَا تَدْخُلُ مَدِينَةَ الْمَلِكِ، فَإِنْ شِئْتُمْ حَمَلْنَاكُمْ عَلَى بَرَاذِينَ1 وَبِغَالٍ؟ قُلْنَا: وَاللَّهِ لَا نَدْخُلُ إِلَّا عَلَيْهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ، فدخلنا على رَوَاحِلَنَا مُتَقَلِّدِينَ سُيُوفَنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى غُرْفَةٍ له، فأنحنا فِي أَصْلِهَا، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْنَا، فَقُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ لَقَدْ تَنَقَّضَتِ الْغُرْفَةُ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا عَذْقٌ تُصَفِّقُهُ الرِّيَاحُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا: لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا عَلَيْنَا بِدِينِكُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا أَنِ ادْخُلُوا، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى فِرَاشٍ لَهُ، عِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ مِنَ الرُّومِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي مَجْلِسِهِ أَحْمَرُ، وَمَا حَوْلَهُ حُمْرَةٌ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مِنَ الْحُمْرَةِ، فَدَنَوْنَا مِنْهُ، فَضَحِكَ وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيْكُمْ لَوْ حَيَّيْتُمُونِي بِتَحِيَّتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ فَصِيحٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، كَثِيرُ الْكَلَامِ، فَقُلْنَا: إِنَّ تَحِيَّتَنَا فِيمَا بَيْنَنَا لَا تَحِلُّ لَكَ، وَتَحِيَّتُكَ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُحَيِّيكَ بِهَا، قَالَ: كَيْفَ تَحِيَّتُكُمْ فِيمَا بينكم؟ قلنا: السلام عليك، قال: فيم تُحَيُّونَ مَلِكَكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَا أَعْظَمَ كَلامَكُمْ؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَلَمَّا تَكَلَّمْنَا بِهَا قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ لَقَدْ تَنَقَّضَتِ2 الْغُرْفَةُ، حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْنَا فَقَالَ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي قُلْتُمُوهَا حَيْثُ تَنَقَّضَتِ الْغُرْفَةُ كُلَّمَا قُلْتُمُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ تَنْقَضُّ بُيُوتُكُمْ عَلَيْكُمْ؟ قُلْنَا: لَا، مَا رَأَيْنَاهَا فَعَلَتْ هَذَا قَطُّ إِلَّا عِنْدَكَ، قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ كُلَّمَا قُلْتُمْ يَنْقُضُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي، قُلْنَا: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَيْسَرَ لِشَأْنِهَا، وَأَجْدَرَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ حِيَلِ النَّاسِ.
ثُمَّ سَأَلَنَا عَمَّا أَرَادَ، فَأَخْبَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا، فقمنا، فَأَمَرَ بِنَا بِمَنْزِلٍ حَسَنٍ وَنُزُلٍ كَثِيرٍ، فَأَقَمْنَا ثلاثًا، فأرسل إلينا
__________
1 جمع برذون: يطلق على غير العربي من الخيل والبغال.
2 تنقضب: تهدمت.(1/356)
لَيْلًا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَاسْتَعَادَ قَوْلَنَا، ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الرَّبْعَةِ1 الْعَظِيمَةِ، مُذَهَّبَةً فِيهَا بُيُوتٌ صِغَارٌ، عَلَيْهَا أَبْوَابٌ، فَفَتَحَ بَيْتًا وَقُفْلًا، وَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُ الْإِلْيَتَيْنِ، لَمْ أَرَ مِثْلَ طُولِ عُنُقِهِ، وَإِذَا لَيْسَتْ له لحية، وإذا ضَفِيرَتَانِ أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ لَنَا بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، وَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين ضَخْمُ الْهَامَةِ حَسَنُ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، وَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ صَلْتُ الْجَبِينِ2، طَوِيلُ الْخَدَّيْنِ أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ يَتَبَسَّمُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا وَاللَّهِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَكَيْنَا، قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَامَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَهُوَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ إِنَّهُ لَهُوَ، كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَأَمْسَكَ سَاعَةً يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ، وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لَكُمْ لِأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ أَدْمَاءُ3 سَحْمَاءُ4 وَإِذَا رَجُلٌ جَعْدٌ قَطَطٌ5، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، حَدِيدُ النَّظَرِ، عَابِسٌ، مُتَرَاكِبُ الْأَسْنَانِ، مُقَلَّصُ الشَّفَةِ، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَى جَنْبِهِ صُورَةٌ تُشْبِهُهُ، إِلَّا أَنَّهُ مُدْهَانُّ الرَّأْسِ، عَرِيضُ الْجَبِينِ، فِي عَيْنِهِ قَبَلٌ6، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ. هَذَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ آدَمَ سَبْطٍ رَبْعَةٍ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا لُوطٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فَإِذَا فيها
__________
1 الربعة: المتوسطة.
2 الصلت: الشديد.
3 أدماء: سمراء شديدة السمرة.
4 سحماء: سوداء.
5 القطط: المقطوع.
6 قبل: إقبال سوادها على الأنف.(1/357)
صُورَةُ رَجُلٍ أَبْيَضَ مُشْرَبٍ حُمْرَةً، أَقْنَى، خَفِيفِ الْعَارِضَيْنِ، حَسَنِ الْوَجْهِ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِسْحَاقُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ تُشْبِهُ إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى شَفَتِهِ السُّفْلَى خَالٍ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً سَوْدَاءَ، فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ أَبْيَضَ حَسَنِ الْوَجْهِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، حَسَنِ الْقَامَةِ، يَعْلُو وَجْهَهُ نُورٌ، يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْخُشُوعُ، يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لا، قال: هَذَا إِسْمَاعِيلُ جَدُّ نَبِيِّكُمْ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فِيهَا صُورَةٌ كَأَنَّهَا صُورَةُ آدَمَ، كَأَنَّ وَجْهَهُ الشَّمْسُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ أَحْمَرَ، حَمْشِ السَّاقَيْنِ1، أَخْفَشَ2 الْعَيْنَيْنِ، ضَخْمِ الْبَطْنِ، مُتَقَلِّدٍ سَيْفًا، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ، فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ ضخم الإليتين، طويل الرّجلين، راكب فرس، فَقَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فَتَحَ بَابًا آخَرَ، فَاسْتَخْرَجَ صُورَةً، وَإِذَا شَابٌّ أَبْيَضُ، شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ، كَثِيرُ الشَّعْرِ، حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ، حَسَنُ الْوَجْهِ، فَقَالَ: هَذَا عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فقلنا: من أين لك هذه الصّور؟ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَى مَا صُوِّرَتْ، لِأَنَّا رَأَيْنَا نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصُورَتَهُ مثل، فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ وَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُوَرَهُمْ، وَكَانَتْ فِي خِزَانَةِ آدَمَ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَدَفَعَهَا إِلَى دَانْيَالَ، يَعْنِي فَصَوَّرَهَا دَانْيَالُ فِي خِرَقٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَهَذِهِ بِأَعْيَانِهَا الَّتِي صَوَّرَهَا دَانْيَالُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ نَفْسِي طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي، وَأَنِّي كُنْتُ عَبْدًا لِشَرِّكُمْ مِلْكَةً حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ أَجَازَنَا بِأَحْسَنِ جَائِزَةٍ وَسَرَّحَنَا.
فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثْنَاهُ بِمَا رَأَيْنَاهُ، وَمَا قال لنا، فبكى أبو بكر وَقَالَ: مِسْكِينٌ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّهم واليهود يَجِدُونَ نَعْتَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندهم.
__________
1 حمش الساقين: دقيق الساقين.
2 الخفش: ضعف الإبصار.(1/358)
رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَعْقُوبَ. وَرَوَاهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الْبَلَدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ كَمَا ذَكَرْتُ مِنَ السّند، وعند ابن منده قال: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شُرَحْبِيلَ، وَهُوَ سَنَدٌ غَرِيبٌ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ رَوَاهَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ مُصْعَبٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ لندعوه إلى الإسلام، فخرجنا عَلَى رَوَاحِلِنَا حَتَّى قَدِمْنَا دِمَشْقَ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ رَوَاهُ بِطُولِهِ: عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ فقال: حدثنا دلّهم بن يزيد، حدثنا القاسم بن سويد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى قَالَ: كَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ يُحَدِّثُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
أَنْبَأَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ عبد الرحمن بن أبي عمر وَجَمَاعَةٌ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَلِيٍّ الصُّوفِيِّ، أنبأ فاطمة بنت أبي حكيم الخبري، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَضْلِ الْكَاتِبُ قال: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْكَاتِبُ مِنْ لَفْظِهِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْجَوْهَرِيُّ، ثنا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثنا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ لِأَدْعُوَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَخَرَجْنَا نَسِيرُ عَلَى رَوَاحِلِنَا حَتَّى قَدِمْنَا دِمَشْقَ، فَإِذَا عَلَى الشَّامِ لِهِرَقْلَ جَبَلَةُ، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْنَا كَرِهَ مَكَانَنَا وَأَمَرَ بِنَا فَأُجْلِسْنَا نَاحِيَةً، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى فُرُشٍ لَهُ مَعَ السُّقُفِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا يُكَلِّمُنَا وَيُبَلِّغُهُ عَنَّا، فَقُلْنَا: وَاللَّهِ لَا نُكَلِّمُهُ بِرَسُولٍ أَبَدًا، فَانْطَلِقْ فَأَعْلِمْهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَ عَنْ تِلْكَ الْفُرُشِ إِلَى فُرُشٍ دُونَهَا، فَأَذِنَ لَنَا فَدَنَوْنَا مِنْهُ، فَدَعَوْنَاهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى خَيْرٍ، وَإِذَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الْمُسُوحُ1؟ قَالَ: لَبِسْتُهَا نَذْرًا لَا أَنْزَعُهَا حَتَّى أُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِي، قَالَ: قُلْنَا له: تيدك2 لا تعجل، أتمنع
__________
1 المسوح: جمع مسح، وهو كساء من شعر.
2 تيدك: بمعنى رفقًا.(1/359)
مِنَّا مَجْلِسَكَ هَذَا! فَوَاللَّهِ لَنَأْخُذَنَّهُ وَمُلْكَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، خَبَّرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَنْتُمْ إِذًا السَّمْرَاءُ، قُلْنَا: وَمَا السَّمْرَاءُ؟ قَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ، قُلْنَا: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَقُومُونَ اللَّيْلَ وَيَصُومُونَ النَّهَارَ، قُلْنَا: فَنَحْنُ وَاللَّهِ نَصُومُ النَّهَارَ وَنَقُومُ اللَّيْلَ، قَالَ: فَكَيْفَ صَلَاتُكُمْ؟ فَوَصَفْنَاهَا لَهُ، قَالَ: فَكَيْفَ صَوْمُكُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ بِهِ.
وَسَأَلَنَا عَنْ أَشْيَاءَ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَيَعْلَمُ اللَّهُ لَعَلَا وَجْهَهُ سَوَادٌ حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْحٌ أَسْوَدُ، فَانْتَهَرَنَا وَقَالَ لَنَا: قُومُوا، فَخَرَجْنَا وَبَعَثَ مَعَنَا أَدِلَّاءَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَسِرْنَا، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ قَالَتِ الرُّسُلُ الَّذِينَ مَعَنَا: إِنَّ دَوَابَّكُمْ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ مَدِينَةَ الْمَلِكِ، فَأَقِيمُوا حَتَّى نَأْتِيَكُمْ بِبِغَالٍ وَبَرَاذِينَ، قُلْنَا: وَاللَّهِ لا ندخل إلا على دوابّنا، فأرسلوا إليه يُعْلِمُونَهُ، فَأَرْسَلَ: أَنْ خَلُّوا عَنْهُمْ، فَتَقَلَّدْنَا سُيُوفَنَا وَرَكِبْنَا رَوَاحِلَنَا، فَاسْتَشْرَفَ أَهْلُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ لَنَا وَتَعَجَّبُوا، فَلَمَّا دَنَوْنَا إِذَا الْمَلِكُ فِي غُرْفَةٍ لَهُ، وَمَعَهُ بَطَارِقَةُ الرُّومِ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى أَصْلِ الْغُرْفَةِ أَنَخْنَا وَنَزَلْنَا وَقُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَعْلَمُ اللَّهُ تَنَقَّضَتِ الْغُرْفَةُ حتى كأنّها عذق تُصَفِّقُهَا الرِّيَاحُ، فَإِذَا رَسُولٌ يَسْعَى إِلَيْنَا يَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا بِدِينِكُمْ عَلَى بَابِي، فَصعِدْنَا فَإِذَا رَجُلٌ شَابُّ قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَإِذَا هُوَ فَصِيحٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ حُمْرٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَيْتِ أَحْمَرُ، فَدَخَلْنَا وَلَمْ نُسَلِّمْ، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِكُمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكُمْ، قَالَ: فَكَيْفَ هِيَ؟ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَمَا تُحَيُّونَ بِهِ مَلِكَكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تُحَيُّونَ بِهِ نَبِيَّكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَاذَا كَانَ يُحَيِّيكُمْ بِهِ؟ قُلْنَا: كَذَلِكَ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ يَرِثُ مِنْكُمْ شَيْئًا؟ قُلْنَا: لَا، يَمُوتُ الرَّجُلُ فَيَدَعُ وَارِثًا أَوْ قَرِيبًا فَيَرِثُهُ الْقَرِيبُ، وَأَمَّا نَبِيُّنَا فَلَمْ يَكُنْ يَرِثْ مِنَّا شَيْئًا، قَالَ: فَكَذَلِكَ مَلِكُكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا أَعْظَمُ كَلَامِكُمْ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَانْتَفَضَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي قُلْتُمُوهَا فَنَقَّضَتْ لَهَا الْغُرْفَةُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتُمُوهَا فِي بِلَادِكُمْ نَقَّضَتْ لَهَا سُقُوفُكُمْ؟ قُلْنَا: لَا، وَمَا رَأَيْنَاهَا صَنَعَتْ هَذَا قَطُّ، وَمَا هُوَ إِلَّا شَيْءٌ وُعِظْتَ بِهِ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ الصِّدْقَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي وَأَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَهَا عَلَى شيء إلا نقض لها، قلنا: ولِمَ ذاك؟ قَالَ: ذَلِكَ أَيْسَرُ لِشَأْنِهَا وَأَحْرَى أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ حِيلَةِ النّاس.(1/360)
ثُمَّ قَالَ لَنَا: فَمَا كَلَامُكُمُ الَّذِي تَقُولُونَهُ حِينَ تَفْتَتِحُونَ الْمَدَائِنَ؟ قُلْنَا: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ"؛ قَالَ: تَقُولُونَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" لَيْسَ مَعَهُ شَرِيكٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَتَقُولُونَ "اللَّهُ أَكْبَرُ" أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، لَيْسَ فِي الْعَرْضِ وَالطُّولِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَسَأَلَنَا عَنْ أَشْيَاءَ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَأَمَرَ لَنَا بِنُزُلٍ كَثِيرٍ وَمَنْزِلٍ، فَقُمْنَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا بَعْدَ ثَلَاثٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَأَتَيْنَاهُ، وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا، فَاسْتَعَادَنَا كَلَامَنَا، فَأَعَدْنَاهُ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الرّبعة العظيمة مُذَهَّبَةً، فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا بُيُوتٌ مُقْفَلَةٌ، فَفَتَحَ بَيْتًا مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَخْرَجَ خرقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ: فَاسْتَخْرَجَ صُورَةً بَيْضَاءَ، وَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ حَيًّا، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: هَذِهِ صُورَةُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهَ بِدِينِكُمْ إِنَّهُ لَهُوَ هُوَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، اللَّهَ بِدِينِنَا إِنَّهُ لَهُوَ هُوَ، فَوَثَبَ قَائِمًا، فَلَبِثَ مَلِيًّا قَائِمًا، ثُمَّ جَلَسَ مُطْرِقًا طَوِيلًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ فِي آخِرِ الْبُيُوتِ، وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لِأُخْبِرَكُمْ وَأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، ثُمَّ فَتَحَ بَيْتًا، فَاسْتَخْرَجَ خِرْقَةً مِنْ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ سَوْدَاءُ شَدِيدَةُ السَّوَادِ، وَإِذَا رَجُلٌ جَعْدٌ قَطَطٌ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُقَلَّصُ الشَّفَتَيْنِ، مُخْتَلِفُ الْأَسْنَانِ، حَدِيدُ النَّظَرِ كَالْغَضْبَانِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذِهِ صُورَةُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَذَكَرَ الصُّوَرَ، إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْنَا: أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الصُّوَرِ، قَالَ: إِنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ أَنْبِيَاءَ وَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صُوَرَهُمْ، فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ خِزَانَةِ آدَمَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَصَوَّرَهَا دَانْيَالُ فِي خِرَقِ الْحَرِيرِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَوَارَثُهَا مَلِكٌ بَعْدَ مَلِكٍ، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَيَّ، فَهَذِهِ هِيَ بِعَيْنِهَا.
فَدَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ نَفْسِي سَخَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي وَاتِّبَاعِكُمْ، وَأَنِّي مَمْلُوكٌ لِأَسْوَأِ رَجُلٍ مِنْكُمْ خَلْقًا وَأَشَدِّهِ مِلْكَةً، وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَسْخُو بِذَلِكَ. فَوَصَلَنَا وَأَجَازَنَا، وَانْصَرَفْنَا1.
__________
1 إسناده ضعيف: عبد الله بن مصعب ضعيف كما في "الميزان" "4609".(1/361)
بَابٌ: فِي خَصَائِصِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَحْدِيثِهِ أُمَّتَهُ بِهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 1.
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، أَخْبَرَكُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بِبَغْدَادَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْقَسِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّيْبُلِيُّ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ مَنْ مَرَّ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فأنا اللّبنة، وأنا خاتم النبيّين" 2. خ.
عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيَّ" 3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ" 4. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عن مرّة الهمداني، عن عبد الله
__________
1 سورة الضحى: 11.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3535" في كتاب المناقب، باب: خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- ومسلم "2286" في كتاب المناقب، باب: ذكر كونه -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين.
3 صحيح: أخرجه البخاري "2977" في كتاب الجهاد، باب: رقم "122"، ومسلم "6/ 523" في أول كتاب المساجد، والنسائي "6/ 3-4" في كتاب الجهاد، باب: وجوب الجهاد، وأحمد "2/ 214، 264، 396، 455، 501".
4 صحيح: أخرجه مسلم "523/ 5" في المصدر السابق.(1/362)
قال: لمّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَانْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى أُعْطِيَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ الْمُقْحِمَاتِ1. تُقْحِمُ: أَيْ تُلْقِي فِي النَّارِ. والحديث صحيح.
وقال أبو عوانة: حدثنا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَأُوتِيتُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ" 2 صَحِيحٌ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ" 3.
اسْمُ أَبِي عَمَّارٍ: شَدَّادٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَحْمٍ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعَ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا، فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّانِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ" -فَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ بِطُولِهِ4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطِيتُ لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ" -وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي الشفاعة5.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "173" في كتاب الإيمان، باب: في ذكر سدرة المنتهى.
2 صحيح: أخرجه مسلم "522" في أول كتاب المساجد، وأحمد "5/ 373".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2278" في كتاب الفضائل، باب: تفضيل نبينا -صلى الله عليه وسلم- على جميع الخلائق، من طريق آخر عن الأوزاعي.
4 صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم "194/ 327" في كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
5 صحيح: أخرجه الترمذي "3159" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وابن ماجه "4308" في كتاب الزهد، باب: ذكر الشفاعة، وأحمد "3/ 2" من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3477": صحيح.(1/363)
وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاتِهِ فَقَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 1.
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُرِيتُ أَنِّي أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَضَرَبَ الْمَلَكُ بِيَدِهِ فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ" 2.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وأيلة، وفيه من الْأَبَارِيقُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ" 3.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أبي حبيب: حدثنا أبو الْخَيْرُ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: "إِنِّي لَكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أُرِيتُ أَنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَأَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا" 4.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ، كَأَنَّ الْأَبَارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ" 5.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عن النّبيّ
__________
1 سورة الحجر: 72.
2 صحيح: أخرجه البخاري "6581" في كتاب الرقاق، باب: في الحوض.
3 صحيح: أخرجه البخاري "6580" في المصدر السابق، ومسلم "2303" في كتاب الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم.
4 صحيح: أخرجه البخاري "6590" في المصدر السابق، ومسلم "2296" في المصدر السابق.
5 صحيح: أخرجه البخاري "6589" في المصدر السابق، ومسلم "2289"، في المصدر السابق، دون قوله "وإن بعد ... " إلخ.(1/364)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا سِعَةُ حَوْضِكَ؟ قَالَ: "مَا بَيْنَ عَدَنٍ وَعَمَّانَ وَأَوْسَعُ، وَفِيهِ مِثْعَبَانِ مِنْ ذَهَبٍ وفضة، شرابه أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَلَنْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ أَبَدًا" 1. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ -وَهُوَ ضَعِيفٌ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لِي حَوْضٌ طُولُهُ مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، وَإِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءَ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ الذَّهَبُ، مَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ" 3.
وَثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ4. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ5.
وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أُعْطِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئُهُ دُرٌّ مُجَوَّفٌ6.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ الْكَوْثَرِ فليضع إصبعيه في أذنيه7.
__________
1 عزاه الحافظ ابن كثير في "البداية" "8/ 244" لأبي بكر بن أبي عاصم بنحوه:
2 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4301" في كتاب الزهد، باب: ذكر الحوض، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3470": صحيح.
3 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4334" في كتاب الزهد، باب: صفة الجنة، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "11/ 478": سنده صحيح. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3498": صحيح.
4 صحيح: أخرجه البخاري "4966" في كتاب التفسير، باب: سورة "إن أعطيناك الكوثر".
5 صحيح: انظر التخريج السابق.
6 صحيح: أخرجه البخاري "4965" في المصدر السابق.
7 إسناده منقطع: أخرجه ابن جرير في "تفسيره" "30/ 207" من طريق ابن أبي نجيح عن عائشة، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "4/ 557": منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة.
قلت: وفيه كذلك أبو جعفر الرازي ضعيف الحفظ.(1/365)
وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءَ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَشْفَعُ" 1.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَكَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ قَالَ: أُمَّتِي عَلَى الْأُمَمِ بِأَرْبَعٍ: أَرْسَلَنِي إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلَ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةَ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيَّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ يُقْذَفُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي، وَأُحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ" 3.
إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَسَيَّارٌ صَدُوقٌ4. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ: بِالشَّجَاعَةِ، والسّماحة، وكثرة الجماع، وشدّة البطش"5.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "196" في كتاب الإيمان، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع يوم القيامة".
2 صحيح: وقد تقدم.
3 أخرجه أحمد "5/ 248"، وأخرجه الترمذي "1558" مختصرا، في كتاب السير، باب: ما جاء في الغنيمة.
4 هو سيار بن سلامة الرياحي، وثقه ابن معين والنسائي والعجلي وابن حبان وابن سعد، وقال أبو حاتم صدوق صالح الحديث. ومثل هذا يقال فيه ثقة، والله أعلم.
5 إسناده ضعيف: أخرجه، وسعيد بن بشير فيه ضعف كما في "التهذيب" "2/ 8، 9".(1/366)
بَابُ: مَرَضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: نَبَّهَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ هَذَا الْبَقِيعِ"، فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا الْبَقِيعَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: "لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهِ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ آخِرَهَا أَوَّلُهَا، لَلْآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الْأُولَى، يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةِ، فَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي وَالْجَنَّةِ"، فَقُلْتُ: يَا رسول الله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ"، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْتُدِئَ بِوَجَعِهِ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ1.
رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَعُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى الحكم بن أبي العاص.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَبْقَى حَتَّى أَرَى مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِي وَبَيْنَ التَّعْجِيلِ، فَاخْتَرْتُ التَّعْجِيلَ"2.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ تُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي مَا تُخْطِئُ مِشْيَتُهَا مِشْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِابْنَتِي"، فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ، فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ، فَبَكَتْ، ثُمَّ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسِّرَارِ وَتَبْكِينَ! فَلَمَّا أَنْ قَامَ قُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي بِمَا سَارَّكِ،
__________
1 أخرجه أحمد "3/ 488، 489"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 162، 163".
2 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 163" وقال: هذا مرسل، وهو شاهد لحديث أبي مويهبة.(1/367)
قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ لَهَا: أَسْأَلُكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لِمَا أَخْبَرْتِينِي، قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ، سَارَّنِي فَقَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ إِلَّا اقْتِرَابَ أَجَلِي، فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ"، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ" يَعْنِي فَضَحِكْتُ1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى نَحْوَهُ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ أَنَّهَا ضَحِكَتْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهَا أَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ يَتْبَعُهُ2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 3 دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاطِمَةَ فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي"، فَبَكَتْ ثُمَّ ضَحِكَتْ، قَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ نُعِيَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ لِي: "اصْبِرِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقًا بِي"، فَضَحِكْتُ4.
وَقَالَ سليمان بْن بلال، عَنْ يحيى بْن سعيد، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَاكَ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ"، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَاهُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ: "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ لَقَدْ هَمَمْتُ -أَوْ أَرَدْتُ- أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يقول القائلون أو يتمنّى المتمنّون، ثم قلت يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ" 5. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بن عتبة، عن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "6285" في كتاب الاستئذان، باب: من ناجى بين يدي الناس، ومسلم "2450/ 99" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل فاطمة -رضي الله عنها.
2 صحيح: انظر التخريج السابق.
3 سورة النصر: 1.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 167".
5 صحيح: أخرجه البخاري "5666" في كتاب المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، وأبو نعيم في "الحلية" "1974"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 168".(1/368)
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصْدَعُ وَأَنَا أَشْتَكِي رَأْسِي، فَقُلْتُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ: "بَلْ أَنَا وَاللَّهِ وَارَأْسَاهُ، وَمَا عَلَيْكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَوَلِيتُ أَمْرَكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَوَارَيْتُكِ"، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ، لَقَدْ خلوت ببعض نسائك إلى بَيْتِي فِي آخِرِ النَّهَارِ فَأَعْرَسْتَ بِهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تمادى به وجعه، فاستعزّ1 بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاجْتَمَعَ، إِلَيْهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنَّا لَنَرَى بِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ الْجَنْبِ2 فَهَلُمُّوا فَلْنَلُدَّهُ، فَلَدُّوهُ3، وَأَفَاقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَنْ فَعَلَ هَذَا"؟ قَالُوا: عَمُّكَ الْعَبَّاسُ، تَخَوَّفَ أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُسَلِّطَهُ عَلَيَّ، لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لَدَدْتُمُوهُ إِلَّا عَمِّيَ الْعَبَّاسَ"، فَلُدَّ أَهْلُ الْبَيْتِ كُلُّهُمْ، حَتَّى مَيْمُونَةُ، وَإِنَّهَا لَصَائِمَةٌ يَوْمَئِذٍ، وَذَلِكَ بِعَيْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِي، وَهُوَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ، تَخُطُّ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّهِ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ -رَضِيَ الله عنه4.
وقال "خ" قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ لَمْ أَزَلْ أَجِدُ أَلَمَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" 5.
وَقَالَ اللَّيْثُ: عَنْ عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عُبَيْد الله بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي
__________
1 استعز: اشتد به المرض.
2 ذات الجنب: التهاب في الغشاء المحيط بالرئة.
3 لدوه: جعلوا الدواء في أحد جانبي الفم.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 168، 169" وهو عند البخاري "4458" في كتاب المغازي، بَابُ: مَرَضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووفاته، مختصرا.
5 علقه البخاري "4428" في المصدر السابق، ووصله البيهقي في "الدلائل" "7/ 172".
وقد أخرجه أبو داود "4512" في كتاب الديات، باب: فيمن سقى رجلا سما، والدارمي "69" من حديث أبي هريرة بنحوه، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".(1/369)
بَيْتِ عَائِشَةَ، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، قَالَتْ: لَمَّا أُدْخِلَ بَيْتِي اشْتَدَّ وَجَعُهُ فَقَالَ: "أَهْرِقْنَ عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ 1 لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ"، فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ، فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ خَطَبَهُمْ2. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَالِمُ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ، فَكَانَ الْمُخَيَّرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ، فَقَالَ: "لَا تَبْكِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صحبته وماله أبو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتَهُ، لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ" 3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْمُعَلَّى، عَنْ أَبِيهِ أَحَدِ الْأَنْصَارِ، فَذَكَرَ قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَبْلَهُ4.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ: سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حُكَيْمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بكر
__________
1 أوكيتهن: جمع وكاء، وهو ما يشد به فم القربة.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4442" في المصدر السابق، ومسلم "418/ 90" في كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 173، 174".
3 صحيح: أخرجه البخاري "466" في كتاب الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، ومسلم "2382" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه.
4 أخرجه الترمذي "3679" في كتاب المناقب، باب: مناقب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 175"، وروايته ضعفها الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "753".(1/370)
خَلِيلًا، وَلَكِنَّ خِلَّةَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ" 1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يُتَوَفَّى بِخَمْسٍ يَقُولُ: "قَدْ كَانَ لِي مِنْكُمْ إِخْوَةٌ وَأَصْدِقَاءُ وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَإِنَّ رَبِّي اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَإِنَّ قَوْمًا مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَكُمْ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ" 2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
مُؤَمِّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَضَهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ فَلَأَكْتُبُ لَهُ لَا يَطْمَعُ طَامِعٌ فِي أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ"، ثُمَّ قَالَ: يَأْبَى اللَّهُ ذلك والمؤمنونؤ"ثَلَاثًا" قَالَتْ: فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أبي3.
قال أبو حاتم: حدثنا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنْ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ مُلْتَحِفًا بِمِلْحَفَةٍ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَوْصَى بِالْأَنْصَارِ، فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ4. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ودسماء: سوداء.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "467" في كتاب الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 176".
2 صحيح: أخرجه مسلم "532" في كتاب المساجد، باب: النهي عن بناء المسجد على القبور، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 176، 177".
3 صحيح بنحوه: أخرجه مسلم "2387" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 343" من طريق عروة عن عائشة بنحوه.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3800" في كتاب مناقب الأنصار، باب: قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ: "اقبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهم"، والترمذي في "الشمائل" "117"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 177".(1/371)
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ يَذْكُرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ: وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعُهُ فَقَالَ: "ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا"، قَالَ: فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ! اسْتَفْهِمُوهُ، قَالَ: فَذَهَبُوا يُعِيدُونَ عَلَيْهِ، قَالَ: "دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ"، قَالَ: وَأَوْصَاهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ فَقَالَ: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ"، قَالَ: وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلُمَّ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا"، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا". فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ2. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ التَّخْفِيفَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ رَآهُ شَدِيدَ الْوَجَعِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْمَلَ دِينَنَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَاجِبًا لَكَتَبَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عليه وسلم، وَلَمَا أَخَلَّ بِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعُهُ قَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فليصلّ بالنّاس"، فقالت عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ،
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4431" في كتاب المغازي، باب: مرضه -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، ومسلم "1637" في كتاب الوصية، باب: ترك الوصية.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4432" في المصدر السابق، ومسلم "1637/ 22" في المصدر السابق.(1/372)
فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، فَعَاوَدَتْهُ مِثْلَ مَقَالَتِهَا فَقَالَ: "أَنْتُنَّ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفُ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ" 1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَاصِبٌ رَأْسَهُ فِي مَرَضِهِ، وَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ، فَمَا صَلَّى بَعْدَهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، يَعْنِي فَمَا صَلَّى بَعْدَهَا بِالنَّاسِ2. وإسناده حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَفْظُهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ، ثُمَّ مَا صَلَّى لنا بعدها3. "خ".
وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ قَالَتْ: ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ"؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ" 4، فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ"؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ ينتظرونك يا رسول الله فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ"؟ فَقُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ5 فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي، قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- أن لا يتأخّر، وقال
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "713" في كتاب الأذان، باب: الرجل يأتم بالإمام، ومسلم "418/ 94" في كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 186".
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 189، 190" وانظر الآتي.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4429" في كتاب المغازي، باب: مرضه -رضي الله عنه- ووفاته، ومسلم "462" في كتاب الصلاة، باب: القراءة في الصبح.
4 المخضب: إناء لغسل الثياب.
5 عكوف: مقيمون بالمكان.(1/373)
لَهُمَا: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ. فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قائم بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَعَرَضْتُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ حَرْفًا1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعُرْوَةُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2.
وَكَذَلِكَ رَوَى الْأَرْقَمُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ رَوَى غَيْرُهُمْ. وَأَمَّا صَلَاتُهُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا3.
وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ4.
وَرَوَى هُشَيْمٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَاللَّفْظُ لِهُشَيْمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ فِي بُرْدَةٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ5.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ ثَابِتٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ برد، مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَالَ: "ادْعُوا لِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، فَجَاءَ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى نَحْرِهِ، فَكَانَتْ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا6. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ بِزِيَادَةِ ثابت البناني فيه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "687" في كتاب الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ومسلم "418/ 90" في كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، وأحمد "6/ 251" والبيهقي في "الدلائل" "7/ 186، 190، 191".
2 صحيح: أخرجه البخاري "683" في كتاب الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة.
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 191".
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 192".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 192".
6 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 192".(1/374)
وَفِي هَذَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَتِ الصُّبْحَ، فَإِنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا، وَهِيَ الَّتِي دَعَا أُسَامَةَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، فَأَوْصَاهُ فِي مَسِيرِهِ بِمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي. وَهَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي ائْتَمَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ بِهِ، وَتِلْكَ كَانَتْ صَلَاةَ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ أَوْ يَوْمِ الْأَحَدِ. وَعَلَى هَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحَبْرُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: اشْتَكَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَفَرٍ، فَوُعِكَ أَشَدَّ الْوَعْكِ؛ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاؤُهُ يُمَرِّضْنَهُ أَيَّامًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَنْحَازُ إِلَى الصَّلَوَاتِ حَتَّى غُلِبَ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَنَهَضَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنَ الضَّعْفِ، فَقَالَ لِلْمُؤَذِّنِ: "اذْهَبْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَمُرْهُ فَلْيُصَلِّ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، وَإِنَّهُ إِنْ قَامَ مَقَامَكَ بَكَى، فَأْمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ"، فَأَعَادَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ"، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَتَّى كَانَ لَيْلَةُ الْإِثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقْلَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَعْكُ وَأَصْبَحَ مُفِيقًا، فَغَدَا إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْفَضْلِ وَغُلَامٍ لَهُ يُدْعَى ثَوْبَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا، وَقَدْ سَجَدَ النَّاسُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي الْأُخْرَى، فَتَخَلَّصَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصُّفُوفَ يُفَرِّجُونَ لَهُ، حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَوْبِهِ فَقَدَّمَهُ فِي مُصَلَّاهُ فَصَفَّا جَمِيعًا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ يَقْرَأُ، فَلَمَّا قَضَى قِرَاءَتَهُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَكَعَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ جلس أبو بكر يتشهّد والنّاس معه، فلمّا سلّم أتّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرَّكْعَةَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ يَوْمَئِذٍ سَقْفُهُ مِنْ جَرِيدٍ وَخُوصٍ، لَيْسَ عَلَى السَّقْفِ كَثِيرُ طِينٍ، إِذَا كَانَ الْمَطَرُ امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ طِينًا، إِنَّمَا هُوَ كَهَيْئَةِ الْعَرِيشِ، وَكَانَ أُسَامَةُ قَدْ تَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ1.
بَابُ حَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا احْتَضَرَ:
قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَائِشَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 198-200" عن موسى بن عقبة.(1/375)
وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِمِصْرَ، أنا عُمَرُ بْنُ كَرْمٍ بِبَغْدَادَ، أنا عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى، أنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَحْمَدَ الثَّقَفِيُّ مِنْ لَفْظِهِ سَنَةَ سبعين وأربعمائة، حدثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ السُّلَمِيُّ إِمْلَاءً، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: "أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 2. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنَ الْعَوَالِي.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"، حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ3. كَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ.
وَقَالَ همّام: حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ سَفِينَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي مَرَضِهِ: "اللَّهَ اللَّهَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" قَالَتْ: فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَمَا يَكَادُ يَفِيضُ4. وَهَذَا أَصَحُّ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَرْجِسَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "425، 436" في كتاب الصلاة، باب: رقم "55"، ومسلم "531/ 22" في كتاب المساجد، باب: النهي عن بناء المسجد على القبور، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 203".
2 صحيح: أخرجه مسلم "2877" في كتاب الجنة، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت.
3 صحيح: أخرجه ابن ماجه "2697" في كتاب الوصايا، باب: هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، وأحمد "3/ 117"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 205"، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "2183": صحيح.
4 صحيح: أخرجه ابن ماجه "1625" في كتاب الجنائز، باب: ما جاء في ذكر مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 205"، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "5/ 427": سنده جيد. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": صحيح.(1/376)
يَدَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكْرَةِ الْمَوْتِ"1.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ عُرِضَتْ لَهُ بُحَّةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} 2 فظننا أنّه كان يُخَيَّرُ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَفِيهِ زِيَادَةٌ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرفيق الأعلى" 4. خ.
وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: "وَاكَرْبَاهُ" قَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكَ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا لِمُوَافَاةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ" 5. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَيُرْسِلُهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- لَمَّا ثَقُلَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ يَعْنِي الْكَرْبَ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: "وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بعد اليوم" 6. أخرجه البخاري.
__________
1 ضعيف: أخرجه الترمذي "980" في كتاب الجنائز، باب: ما جاء في التشديد عند الموت، وفي "الشمائل" "7/ 207"، وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "164": ضعيف:
2 سورة النساء: 69.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4435" في كتاب المغازي: باب: مرضه -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، ومسلم "2444/ 86" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة -رضي الله عنها.
4 صحيح: أخرجه البخاري "4436" في المصدر السابق.
5 صحيح بنحوه: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 211، 212"، من هذا الطريق، وأخرجه ابن ماجه "1629"، في كتاب الجنائز، باب: ذكر وفاته -صلى الله عليه وسلم- بنحوه، وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": حسن صحيح.
6 صحيح: أخرجه البخاري "4462"، في كتاب المغازي، باب: مرضه -صلى الله عليه وسلم- ووفاته.(1/377)
بَابُ: وَفَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ أَيُّوبُ: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِي وَيَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَكَانَ جِبْرِيلُ يُعَوِّذُهُ بِدُعَاءٍ إِذَا مَرِضَ، فَذَهَبْتُ أَدْعُو بِهِ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" وَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهِ جَرِيدَةٌ رِطْبَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ بِهَا حَاجَةً، فَأَخَذْتُهَا فَنَفَضْتُهَا وَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَنَّ بِهَا أَحْسَنَ مَا كَانَ مُسْتَنًّا، ثُمَّ ذَهَبَ يُنَاوِلُنِيهَا، فَسَقَطَتْ مِنْ يَدِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا1. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا.
لَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، مِنْ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ قَالَ: عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، دَخَلَ عَلَيَّ أَخِي بِسِوَاكٍ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى صَدْرِي، فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ السِّوَاكُ وَيَأْلَفُهُ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ لَهُ، فَأَمَرَّهُ عَلَى فِيهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ -أو علبة- فيها مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ إِصْبَعَهُ الْيُمْنَى فَجَعَلَ يَقُولُ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وقال حمّاد بن يزيد، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي تبكي:
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4450" في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 206".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4449"، في المصدر السابق، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 206، 207".(1/378)
يَا أَبَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ ... يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ
يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ ... يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ
قَالَ: وَقَالَتْ: يَا أَنَسُ، كَيْفَ طَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- التراب؟ 1 "خ".
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بين سحري ونحري، وفي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ فِي حِجْرِي، فَأَخَذْتُ وِسَادَةً فَوَسَّدْتُهَا رَأْسَهُ وَوَضَعْتُهُ مِنْ حِجْرِي، ثُمَّ قُمْتُ مَعَ النِّسَاءِ أَبْكِي وَأَلْتَدِمُ2. الِالْتِدَامُ: اللَّطْمُ.
وَقَالَ مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ العطّار: حدثنا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا مَرَّ بِحُجْرَتِي أَلْقَى إِلَيَّ الْكَلِمَةَ يُقِرُّ بِهَا عَيْنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَعَصَبْتُ رَأْسِي وَنِمْتُ عَلَى فِرَاشِي، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "ما لك"؟ قُلْتُ: رَأْسِي، فَقَالَ: "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ، أَنَا الَّذِي أَشْتَكِي رَأْسِي"، وَذَلِكَ حِينَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ، فَلَبِثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِيءَ بِهِ يُحْمَلُ فِي كِسَاءٍ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، فَأُدْخِلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَرْسِلِي إِلَى النِّسْوَةِ"، فَلَمَّا جِئْنَ قَالَ: "إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَخْتَلِفَ بَيْنَكُنَّ، فأذنَّ لِي فَأَكُونُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ"، قُلْنَ: نَعَمْ، فَرَأَيْتُهُ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ وَيَعْرَقُ، وَلَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ مَيِّتًا قَطُّ، فَقَالَ: "أَقْعِدِينِي"، فَأَسْنَدْتُهُ إِلَيَّ، وَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقَلَّبَ رَأْسَهُ، فَرَفَعْتُ يَدِي، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ مِنْ رَأْسِي، فَوَقَعَتْ مِنْ فِيهِ نُقْطَةٌ بَارِدَةٌ عَلَى تُرْقُوَتِي أَوْ صَدْرِي، ثُمَّ مَالَ فَسَقَطَ عَلَى الْفِرَاشِ، فَسَجَّيْتُهُ بِثَوْبٍ، وَلَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ مَيِّتًا قَطُّ، فَأَعْرِفُ الْمَوْتَ بِغَيْرِهِ، فَجَاءَ عُمَرُ يَسْتَأْذِنُ، وَمَعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَذِنْتُ لَهُمَا، وَمَدَدْتُ الْحِجَابَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَائِشَةَ مَا لِنَبِيِّ اللَّهِ؟ قُلْتُ: غُشِيَ عَلَيْهِ مُنْذُ سَاعَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: وَاغَمَّاهُ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الغمّ، ثمّ غطّاه، ولم يتكلّم
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4462" في المصدر السابق.
2 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "2/ 482"، وعنه أحمد "6/ 274"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 213".(1/379)
الْمُغِيرَةُ، فَلَمَّا بَلَغَ عَتَبَةَ الْبَابِ، قَالَ الْمُغِيرَةُ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا عُمَرُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَأْمُرَ بِقِتَالِ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ أَنْتَ تَحُوشُكَ فِتْنَةٌ.
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا لِرَسُولِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: غُشي عَلَيْهِ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَوَضَعَ فَمَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صِدْغَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَانَبِيَّاهُ وَاصَفِيَّاهُ وَاخَلِيلَاهُ، صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 2، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 3، ثُمَّ غَطَّاهُ وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ عَهْدٌ مِنْ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: لَا، قَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الآيات.
فَقَالَ عُمَرُ: أَفِي كِتَابِ اللَّهِ هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أبو بَكْرٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَارِ، وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فَبَايِعُوهُ، فَحِينَئِذٍ بَايَعُوهُ4.
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ عَنْهُ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" بِطُولِهِ عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، أنا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أنّ أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بِالسُّنْحِ5 حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ، فَتَيَمَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُغَشًّى بِبُرْدٍ حِبْرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ
__________
1 سورة الزمر: 30.
2 سورة الأنبياء: 34.
3 سورة آل عمران: 185.
4 أخرجه أحمد "6/ 219، 220"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 213-215".
5 السنح: من محال المدينة، وبه مسكن زوجة أبي بكر.(1/380)
اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1 الآية، فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النّاس إلا يتلوها. وأخبرني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَفَرِقْتُ، أَوْ قَالَ فَعَقَرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلايَ، وَحَتَّى إِنِّي أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، وَعَرَفْتُ حِينَ تَلَاهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مَاتَ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ حَاقِنَتِي3 وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأحد أبدًا، بعد ما رأيت من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ تَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ وَخَرَجَ ثَقَلُهُ إِلَى الْجُرْفِ5 فَأَقَامَ تِلْكَ الْأَيَّامَ لِوَجَعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ أَمَّرَهُ عَلَى جَيْشٍ عَامَّتُهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَفِيهِمْ عُمَرُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغير عَلَى أَهْلِ مُؤْتَةَ، وَعَلَى جَانِبِ فِلِسْطِينَ، حَيْثُ أُصِيبَ أَبُوهُ زَيْدٌ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِذْعٍ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي صَبِيحَةَ الْإِثْنَيْنِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، فَدَعَا أُسَامَةَ فَقَالَ: "اغْدُ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَالنَّصْرِ وَالْعَافِيَةِ"، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَصْبَحْتَ مُفِيقًا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ شَفَاكَ، فَأْذَنْ لِي أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى يَشْفِيَكَ اللَّهُ فَإِنْ أَنَا خَرَجْتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ خَرَجْتُ وَفِي قَلْبِي قُرْحَةٌ مِنْ شَأْنِكَ، وَأَكْرَهُ أَنْ أسأل عنك النّاس، فسكت رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فلم يُرَاجِعْهُ، وَقَامَ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ، وَهُوَ يَوْمُهَا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ، فَقَالَ: قد أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُفِيقًا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ شَفَاهُ، ثم ركب أبو بكر فلحق بِأَهْلِهِ بِالسُّنْحِ، وَهُنَالِكَ امْرَأَتُهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَانْقَلَبَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بيتها، وذلك يوم الاثنين.
__________
1 سورة آل عمران: 144.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4453، 4454" في كتاب المغازي، باب: مرضه -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 215، 216".
3 الحاقنة: قيل هو المطمئن من الترقوة والحلق، وقيل: ما دون الترقوة.
4 صحيح: أخرجه البخاري "4446" في المصدر السابق.
5 الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة جهة الشام.(1/381)
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَيْتِ عَائِشَةَ وُعِكَ أَشَدَّ الْوَعْكِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاؤُهُ، واشتد وجعه، فلم يزل حَتَّى زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يُغْشَى عَلَيّهِ، ثُمَّ شَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَقُولُ: "نَعَمْ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى"، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ إِلَى عُمَرَ، وَأَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى عَلِيٍّ، فَلَمْ يَجْتَمِعُوا حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى صَدْرِ عَائِشَةَ، وَفِي يَوْمِهَا يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ، وَجَزِعَ النَّاسُ، وَظَنَّ عَامَّتُهُمُ أَنَّهُ غَيْرُ مَيِّتٍ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كيف يكون علينا شهيدًا وَنَحْنُ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، فَيَمُوتُ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ رُفِعَ كَمَا فُعِلَ بِعِيسَى بن مَرْيَمَ، فَأَوْعَدُوا مَنْ سَمِعُوا يَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَنَادَوْا عَلَى الْبَابِ "لَا تَدْفِنُوهُ فَإِنَّهُ حَيٌّ"، وَقَامَ عُمَرُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيُوعِدُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَتَوَعَّدَ الْمُنَافِقِينَ، وَالنَّاسُ قَدْ مَلَئُوا الْمَسْجِدَ يَبْكُونَ وَيَمُوجُونَ، حَتَّى أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ السُّنْحِ1.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: وَضَعْتُ يَدِي عَلَى صَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ مَاتَ، فَمَرَّ بِي جُمَعٌ آكُلُ وَأَتَوَضَّأُ، مَا يَذْهَبُ رِيحُ الْمِسْكِ مِنْ يَدِي2.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ هُوَ التَّيْمِيُّ عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ دَعَا بِطَسْتٍ لِيَبُولَ فِيهَا، وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، فَانْحَنَثَ فَمَاتَ، وَلَمْ أَشْعُرْ فِيمَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ إِنَّهُ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تَارِيخُ وَفَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: أَيُّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، قَالَ: إِنِّي أرجو أن أموت فيه، فمات فيه4.
__________
1 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 217-219"، وأوله أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 200" عن موسى بن عقبة، وقد تقدم.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 219".
3 صحيح: أخرجه البخاري "4459" في كتاب المغازي، باب: مرضه -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، ومسلم "1636" في كتاب الوصية، باب: ترك الوصية.
4 أخرجه البخاري "1387"، في كتاب الجنائز، باب: موت الاثنين، من طريق آخر عن هشام.(1/382)
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الإثنين، ونبئ يوم الإثنين، وخرج من مكة يوم الإثنين، وفتح مكة يوم الإثنين، ونزلت سُورَةُ الْمَائِدَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1. وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ2.
قَدْ خُولِفَ فِي بَعْضِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَتْ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يَوْمَ عَرَفَةَ، يَوْمَ جُمُعَةٍ3.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ لِهِلَالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ4.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ مَرَضِهِ، وَذَلِكَ يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول5. رواه معتمر، عن أبيه.
وقال الواقديّ: حدثنا أَبُو مَعْشَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: اشْتَكَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة6.
وذكر الطّبريّ، عن ابن الكلبيّ، وأبي محنف وَفَاتَهُ فِي ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا، فَاسْتَكْمَلَ فِي هِجْرَتِهِ عَشْرَ سِنِينَ كَوَامِلَ7.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عن جدّه
__________
1 سورة المائدة: 3.
2 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 277"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 233"، واللفظ له، وابن لهيعة ضعيف الحفظ.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4606" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} .
4 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 234" عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب به.
5 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 234".
6 مرسل إسناده ضعيف جدا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 234، 235"، والواقدي متروك.
7 معضل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 235".(1/383)
قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ، وتوفّي يوم الاثنين لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ1. وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا فِي وَفَاتِهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ صَحَّ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ سَعِيدُ بْنُ عفير، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْكَاتِبُ، وَغَيْرُهُمَا.
أَخْبَرَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ، أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْبُنِّ، أنا جَدِّي، أنا عَلِيُّ بْنُ محمد الفقيه، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، أنا عَلِيُّ بن أبي العقب، أنا أحمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن عائذ، ثنا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي النُّعْمَانُ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَأُوحِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَهَاجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً وَأَشْهُرٍ، وَكَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَاسْتَخْفَى عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَكَثَ يُقَاتِلُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَكَانَ الْوَحْيُ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً وَنِصْفًا، وَتُوُفِّيَ، فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُدْفَنُ، يَدْخُلُ النَّاسُ عَلَيْهِ رَسَلًا رَسَلًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَالنِّسَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَطَهَّرَهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ يُنَاوِلُهُمُ الْعَبَّاسُ الْمَاءَ، وَكُفِّنَ في ثلاثة رياط2 بِيضٍ يَمَانِيَّةٍ، فَلَمَّا طُهِّرَ وَكُفِّنَ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ عُصَبًا عُصَبًا، تَدْخُلُ الْعُصْبَةُ فَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُونَ، لا يُصَفُّونَ وَلَا يُصَلِّي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُصَلٍّ، حَتَّى فَرَغَ مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ، ثُمَّ دُفِنَ، فَأَنْزَلَهُ فِي الْقَبْرِ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَالْفَضْلُ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَشْرِكُونَا فِي مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ قَدْ أَشْرَكَنَا فِي حَيَاتِهِ، فَنَزَلَ مَعَهُمْ فِي الْقَبْرِ وَوَلِيَ ذَلِكَ مَعَهُمْ3.
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ، عَنِ النُّعْمَانِ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيِّ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ حِينَ زاغت الشمس، ودفن يوم الأربعاء4.
__________
1 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 385".
2 الرياط: مع ريطة، وهي الملاءة تكون قطعة واحدة.
3 مرسل.
4 معضل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 386" وفي إسناده ابن سعد الواقدي، وهو متروك.(1/384)
وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَدُفِنَ مِنْ آخِرِ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ1.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ مَوْتُهُ فِي شَهْرِ أَيْلُولَ2.
قُلْتُ: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ كُلَّ دَوْرٍ فِي ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً كَانَ فِي سِتُّمِائَةٍ وَسِتِّينَ عَامًا عِشْرُونَ دَوْرًا، فَإِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسُبْعُمِائَةٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دَوْرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَ وُقُوعُ تِشْرِينَ الْأَوَّلِ وَبَعْضِ أَيْلُولَ فِي صَفَرٍ، وَكَانَ آبُ فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ أَكْثَرُ تَمُّوزَ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَحَجَّةُ الْوَدَاعِ كَانَتْ فِي تَمُّوزَ.
وَقَالَ أَبُو الْيَمَنِ بْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَّا يَوْمَ ثَانِي الشَّهْرِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا يَتَهَيَّأُ أَنْ يَكُونَ ثَانِي عَشَرَ الشَّهْرِ لِلْإِجْمَاعِ أَنَّ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَالْمُحَرَّمُ بِيَقِينٍ أَوَّلُهُ الْجُمُعَةُ أَوِ السَّبْتُ، وَصَفَرُ أَوَّلُهُ عَلَى هَذَا السَّبْتُ أَوِ الْأَحَدُ أَوِ الْاثْنَيْنِ، فَدَخَلَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ الْأَحَدَ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ إِذْ يَنْدُرُ وُقُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ نَواقِصَ، فَتَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ الْإِثْنَيْنِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الثُّلَاثَاءَ، فَإِنْ كَانَ اسْتَهَلَّ الْإِثْنَيْنِ فَهُوَ مَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ مِنْ وَفَاتِهِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِثْنَيْنِ الثَّانِي مِنْهُ ثَامِنَهُ، وَإِنْ جَوَّزْنَا أَنَّ أَوَّلَهُ الثُّلَاثَاءُ فَيَوْمُ الْإِثْنَيْنِ سَابِعُهُ أَوْ رَابِعَ عَشْرَهُ، وَلَكِنْ بَقِيَ بَحْثٌ آخَرُ: كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مَثَلًا أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَيُبْنَى عَلَى حِسَابِ ذَلِكَ.
وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ3.
بَابُ: عُمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخُلْفِ فِيهِ
قَالَ رَبِيعَةُ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَتُوُفِّيَ على رأس ستّين سنة4. "خ. م".
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زَائِدَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عدّي، عن أنس قال: قبض النّبيّ
__________
1 مرسل.
2 مرسل.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 386".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3547" في كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم "2347" في كتاب الفضائل، باب: فِي صِفَةِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/385)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُبِضَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، عَلَى سَبِيلِ حَذْفِ الْكُسُورِ الْقَلِيلَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيرِ، وَمِثْلُهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً2.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حمزة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ هشيم قال: حدثنا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً4.
فَعَلِيٌّ ضَعِيفٌ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ خالفه غيره.
وقد قال شبابة: أبنأنا شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ5.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَكِنْ تُقَوِّيهِ رِوَايَةُ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عن الحسن، عن دعفل بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- قبض وهو ابن خمس وستّين6.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2348" في كتاب الفضائل، باب: كم سن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم قبض.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3536" في كتاب المناقب، باب: وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم "2349" في المصدر السابق.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3903" في كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم "2351" في كتاب الفضائل، باب: كم أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة والمدينة، وأحمد "1/ 371".
4 أخرجه مسلم "2353/ 122" في المصدر السابق، وأحمد "1/ 359".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 240".
6 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 241"، والحسن مدلس، وقد عنعنه.(1/386)
وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ دَغْفَلٍ بَلْ قَالَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ أَشْعَثُ عَنْهُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْهُ: تُوُفِّيَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً.
بَابُ: غُسْلِهِ وَكَفَنِهِ وَدَفْنِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: لَمَّا أَرَادُوا غُسْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: أَنِ اغْسِلُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيَدْلُكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ إِلَّا نِسَاؤُهُ2. صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو داود.
وقال أبو معاوية: حدثنا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَخَذُوا فِي غُسْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ الدَّاخِلِ "لَا تُخرجوا عَنْ رَسُولِ الله قميصه"3.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2352" في كتاب الفضائل، باب: كم أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة والمدينة، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 239".
2 صحيح: أخرجه أبو داود "3141" في كتاب الجنائز، باب: في ستر الميت عند غسله، وقال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "764": إسناده حسن. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 243".(1/387)
وَقَالَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: غسْل رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيٌّ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، وَعَلَى يَدِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خِرْقَةٌ يُغَسِّلُهُ بِهَا، فَأَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَغَسَّلَهُ وَالْقَمِيصُ عَلَيْهِ1. فِيهِ ضَعْفٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَسَّلَهُ عَلِيٌّ، وَأُسَامَةُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَأَدْخَلُوهُ قَبْرَهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ وَهُوَ يُغَسِّلُهُ: بِأَبِي وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا2. مُرْسلٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الواحد بن زياد: حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قال: قَالَ عَلِيٌّ: غَسَّلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَكَانَ طَيِّبًا حَيًّا وميّتًا3.
وولي دفنه وإجنابه دُونَ النَّاسِ أَرْبَعَةٌ: عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَالْفَضْلُ، وَصَالِحٌ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلُحِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَحْدًا، وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا4.
وَقَالَ عَبْدُ الصّمد بن النّعمان: حدثنا أَبُو عُمَرَ كَيْسَانُ، عَنْ مَوْلَاهُ يَزِيدَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: أَوْصَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لَا يُغَسِّلَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَإِنَّهُ "لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ" قَالَ عَلِيٌّ: فَكَانَ الْعَبَّاسُ، وَأُسَامَةُ، يُنَاوِلَانِي الْمَاءَ، وَرَاءَ السِّتْرِ، وَمَا تَنَاوَلْتُ عُضْوًا إِلَّا كَأَنَّمَا يُقَلِّبُهُ مَعِي ثَلَاثُونَ رَجُلًا، حَتَّى فَرَغْتُ مِنْ غُسْلِهِ5.
كَيْسَانُ الْقَصَّارُ يَرْوِي عَنْهُ أَيْضًا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَسْبَاطٌ، وَمَوْلَاهُ كَأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِي غَسَّلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَا كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نَرْفَعَ منه عضوًا
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 243" ويزيد بن أبي زياد ضعيف الحفظ.
2 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 243".
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 243-244".
4 انظر المصدر السابق.
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 244".(1/388)
لِنُغَسِّلَهُ إِلَّا رُفِعَ لَنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى عَوْرَتِهِ فَسَمِعْنَا مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ صَوْتًا: "لَا تَكْشِفُوا عَنْ عَوْرَةِ نَبِيِّكُمْ"1. مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: غُسِّلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثًا بِالسِّدْرِ، وَغُسِّلَ مِنْ بِئْرٍ بِقُبَاءٍ كَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا2.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ فِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ: سَحُولِيَّةٌ مِنْ كُرْسُفٍ4.
فَأَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا أَنَّهَا اشْتُرِيَتْ لَهُ حُلَّةٌ لِيُكَفَّنَ فِيهَا، فَتُرِكَتِ الْحُلَّةُ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: لَأَحْبِسَنَّهَا لِنَفْسِي حَتَّى أُكَفَّنَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ لَكَفَّنَهُ فِيهَا، فَبَاعَهَا وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا5. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُدْرِجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حُلَّةٍ يَمَانِيَّةٍ، ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ، وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ6.
وَرَوَى نَحْوَهُ الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ.
وَأَمَّا مَا رَوَى شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَحَدُهَا بُرْدٌ حِبَرَةٌ7.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَا عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَعَلَّهُ قَدِ اشْتُبِهَ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُدْرِجَ فِي حُلَّةٍ يَمَانِيَّةٍ، ثُمَّ نُزِعَتْ عنه8.
__________
1 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 244".
2 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 245".
3 صحيح: أخرجه البخاري "1264" في كتاب الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن، ومسلم "941" في كتاب الجنائز، باب: في كفن الميت.
4 صحيح: وهي زيادة للبخاري أيضًا، انظر التخريج السابق.
5 صحيح: أخرجه مسلم "941/ 45" في المصدر السابق.
6 صحيح: أخرجه مسلم "941/ 46" في المصدر السابق.
7 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 248".
8 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 392" بنحوه.(1/389)
وَقَالَ زَكَرِيَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سَحُولِيَّةٍ بُرُودٍ يَمَنِيَّةٍ غِلَاظٍ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلِفَافَةٌ1.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِسْكٌ فَأَوْصَى أَنْ يُحَنَّطَ بِهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ فَضْلُ حَنُوطِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2.
ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُدْخِلَ الرِّجَالُ فَصَلُّوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِمَامٍ أَرْسَالًا حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ أُدْخِلَ النِّسَاءُ فَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ الصِّبْيَانُ فَصَلُّوا عَلَيْهِ ثُمَّ أُدْخِلَ الْعَبِيدُ، لَمْ يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ3.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي قَالَ: لَمَّا كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَنَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَفُّوا صُفُوفًا لَا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَهُمَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغَ مَا أُنزل إِلَيْهِ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ، وَأُومِنَ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَاجْعَلْنَا إِلَهَنَا مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَتَّى تُعَرِّفَهُ بِنَا وَتُعَرِّفَنَا بِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا، لَا نَبْغِي بِالْإِيمَانِ بَدَلًا، وَلَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا أَبَدًا، فَيَقُولُ النَّاسُ: آمِينَ آمِينَ، فَيَخْرُجُونَ وَيَدْخُلُ آخَرُونَ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ: الرِّجَالُ، ثُمَّ النِّسَاءُ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ4. مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ حَسَنُ المتن.
__________
1 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 249".
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 249".
3 ضعيف: أخرجه ابن ماجه "1628" في كتاب الجنائز، باب: ذكر وفاته -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "1/ 292"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 250" وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه".
4 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 394" والواقدي متروك.(1/390)
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ، عَنْ أبيه، عن سالم بن عبيد وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ قَالَ: قَالُوا: هَلْ نَدْفِنُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْنَ يُدْفَنُ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَيْثُ قَبَضَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَمَا قَالَ1.
زَادَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ سَلَمَةَ نُعَيْمَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَضْرَحُ2 لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَلْحَدُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ الْعَبَّاسُ خَلْفَهُمَا رَجُلَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ، أَيُّهُمَا جَاءَ حَفَرَ لَهُ، فَجَاءَ أَبُو طَلْحَةَ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم3.
وقال الواقديّ: حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: فِي الْبَقِيعِ، فَقَدْ كَانَ يُكْثِرُ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ. وَقَالَ قَائِلٌ: عِنْدَ مِنْبَرِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: فِي مُصَلَّاهُ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا خَبَرًا وَعِلْمًا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ تُوُفِّيَ"4.
وَقَالَ ابن عيينة، عَنْ يحيى بْن سعيد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: عَرَضَتْ عَائِشَةُ عَلَى أَبِيهَا رُؤْيَا وَكَانَ مِنْ أَعْبَرِ النَّاسِ قَالَتْ: رَأَيْتُ: ثَلَاثَةَ أَقْمَارٍ وَقَعْنَ فِي حُجْرَتِي، فَقَالَ: إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ دُفِنَ فِي بَيْتِكَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةٌ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: يَا عَائِشَةُ هذا خير أقمارك5.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 259".
2 أي يحفر القبر.
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 252"، والحسين بن عبد الله ضعيف كما في "التقريب" 1326".
4 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 261" والواقدي متروك.
5 إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 262" ورواية سعيد بن المسيب عن أبي بكر منقطعة كما في "التهذيب" "2/ 43".(1/391)
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوْضُوعًا على سريره من حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يُصَلِّي النَّاسُ عَلَيْهِ، وَسَرِيرُهُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُقْبِرُوهُ، نَحَّوُا السَّرِيرَ قِبَلَ رِجْلَيْهِ، فَأُدْخِلَ مِنْ هُنَاكَ، وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ، وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسَ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَشُقْرَانُ1.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ نَزَلُوا الْقَبْرَ، فَذَكَرَهُمْ سِوَى الْعَبَّاسِ، وَقَدْ كَانَ شُقْرَانُ حِينَ وُضِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حُفْرَتِهِ أَخَذَ قَطِيفَةً قَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُهَا وَيَفْتَرِشُهَا، فَدَفَنَهَا مَعَهُ فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ، فَدُفِنَتْ مَعَهُ2.
وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تُوُفِّيَ أُلْقِيَ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ3. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، حدّثني أَبُو مَرْحَبٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ4.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: لَمَّا فَرَغُوا مِنْ غُسْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَكْفِينِهِ، صَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ، وَدُفنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ5.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَبِثَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ6.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 253-254"، وابن أبي سبرة والواقدي كلاهما متروك.
2 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 254"، والحسين بن عبد الله ضعيف كما تقدم.
3 صحيح: أخرجه مسلم "967" في كتاب الجنائز، باب: جعل القطيفة في القبر، والترمذي "1050" في كتاب الجنائر، باب: في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر، والنسائي "4/ 81" في كتاب الجنائز، باب: وضع الثوب في اللحد، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 399"، وأبو نعيم في "الحلية" "10344" والبيهقي في "الدلائل" "7/ 254".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 399"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 255".
5 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 255-256".
6 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 256".(1/392)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَاتَ فِي الضُّحَى يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ. وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ فِي الضُّحَى1. هَذَا قول شاذّ. وإسناده صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي2 فِي جَوْفِ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ3.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَدَّعِي "أَنَّهُ أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" قَالَ: أَخَذْتُ خَاتَمِي فَأَلْقَيْتُهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلْتُ حِينَ خَرَجَ الْقَوْمُ: إِنَّ خَاتَمِي قَدْ سَقَطَ فِي الْقَبْرِ، وَإِنَّمَا طَرَحْتُهُ عَمْدًا لِأَمُسَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَكُونَ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِهِ4. هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" أنا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: لَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَتِ التَّعْزِيَةُ، وَسَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: "إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ"5.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" لِأَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَزَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الْحِسّ، وَلَا يَرَوْنَ الشَّخْصِ6، فَذَكَرَهُ نَحْوَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ صَلَاتُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ أَحَدٌ وَاللَّهُ تعالى أعلم.
__________
1 معضل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 256".
2 المساحي، جمع مسحاة، وهي المجرفة.
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 256".
4 إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 257" وهو منقطع بين ابن إسحاق والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنه.
5 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه الشافعي في "مسنده" "ص361"، وإسناده ضعيف جدًّا، القاسم متروك كما في "التقريب" "5468".
6 إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "4391"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 269" وضعف إسناده.(1/393)
صِفَةُ قَبْرِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةَ1 وَلَا لَاطِئَةَ2، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرَصَةِ3 الْحَمْرَاءِ4. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ هَكَذَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسَنَّمًا5. أَخْرَجَهُ البخاريّ.
وقال الواقديّ: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جُعِلَ قَبْرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسْطُوحًا. هَذَا ضَعِيفٌ.
وَقَالَ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَافَ أَوْ خيف أنّه يتّخذ مسجدًا6. أخرجه البخاريّ.
__________
1 مشرفة: مرتفعة.
2 لاطئة: لاصقة بالأرض.
3 العرضة: الساحة.
4 ضعيف: أخرجه أبو داود "3220" في كتاب الجنائز، باب: في تسوية القبر، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 263" وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "705".
5 صحيح: أخرجه البخاري "1390" في كتاب الجنائز، باب: ما جاء فِي قَبْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والبيهقي في "الدلائل" "7/ 264".
6 صحيح: أخرجه البخاري "1390" في المصدر السابق، والنسائي "4/ 95" في كتاب الجنائز، باب: اتخاذ القبور مساجد، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 264".(1/394)
بَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَلَمْ يُوصِ إِلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ بَلْ نَبَّهَ عَلَى الْخِلَافَةِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ
قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَالَ: رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ. قَالُوا: اسْتَخْلِفْ، فَقَالَ: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْكُمُ الْكَفَافُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتُخْلِفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَعْهَدْ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ الْإِمَارَةِ شَيْئًا حَتَّى رَأَيْنَا مِنَ الرَّأْيِ أَنْ نَسْتَخْلِفَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَقَامَ وَاسْتَقَامَ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَأَى مِنَ الرَّأْيِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عُمَرَ، فَأَقَامَ وَاسْتَقَامَ حَتَّى ضَرَبَ الدِّينُ بِجِرَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ أَقْوَامًا طَلَبُوا الدُّنْيَا فَكَانَتْ أُمُورٌ يَقْضِي اللَّهُ فِيهَا2. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ": حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بكر القرشي، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: ائْتِنِي بِكَتِفٍ أَوْ لَوْحٍ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا ذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَقُومَ قَالَ: أَبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أن يختلف عليك يا أبا بكر3.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "7218" في كتاب الأحكام، باب: الاستخلاف، ومسلم "1823" في كتاب الإمارة، باب: الاستخلاف وتركه، وأبو نعيم في "الحلية" "104"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 221-222".
2 أخرجه أحمد "1/ 114"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 223" واللفظ له.
3 أخرجه أحمد "6/ 47".(1/395)
وَيُرْوَى عَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ.
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ مَيْمُونَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ أَلَا تَسْتَخْلِفُ1 عَلَيْنَا؟ قَالَ: مَا اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْتَخْلِفَ. تَفَرَّدَ بِهِ شُعَيْبٌ، وَلَهُ مَنَاكِيرُ.
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَوْفَ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا، إِنِّي أَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ، فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا كَلَّمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا، قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أسألها رسول الله2 -صلى الله عليه وسلم. أخرجه الْبُخَارِيُّ. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي أَكَادُ أَعْرِفُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَوْتَ، فَانْطَلِقْ بِنَا نَسْأَلْهُ، فَإِنْ يَسْتَخْلِفْ مِنَّا فَذَاكَ، وَإِلَّا أَوْصَى بِنَا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ كَلِمَةً فِيهَا جَفَاءٌ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم قَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: ابْسُطْ يَدَكَ فَلْنُبَايِعْكَ، قَالَ: فقبض يده، قال الشّعبيّ: لو أنّ عليًّا أَطَاعَ الْعَبَّاسَ فِي أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ كَانَ خَيْرًا مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ الْعَبَّاسَ شَهِدَ بَدْرًا مَا فَضَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رأيًا ولا عقلًا3.
وقال أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عليه وسلم- ولم يوص4.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 223" وشعيب بن ميمون كما في "الميزان" "3728".
2 صحيح: أخرجه البخاري "6266" في كتاب الاستئذان، باب: المعانقة، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 234-234".
3 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 225".
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 226-227" مطولًا.(1/396)
وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَلِمَ أَمَرَ بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ طَلْحَةُ: قَالَ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: أَبُو بَكْرٍ يَتَأَمَّرُ عَلَى وَصِيِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَّ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ وَجَدَ عَهْدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَزَمَ أَنْفَهُ بِخِزَامٍ1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ إِنَّ عَلِيًّا قَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ إِلَّا مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. الْحَدِيثُ2.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالزَّكَاةُ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا3، فَهُوَ مَوْضُوعٌ، تَفَرَّدَ بِهِ حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ يَكْذِبُ عَنِ السَّرِيِّ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ آبَائِهِ، وَعِنْدَ الرَّافِضَةِ أَبَاطِيلُ فِي أَنَّ عَلِيًّا عُهِدَ إِلَيْهِ4.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمْ يُوصِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا بِثَلَاثٍ: أَوْصَى لِلرَّهَاوِيِّينَ بِجَادِّ مِائَةِ وَسْقٍ، وَلِلدَّارِيِّينَ بِجَادِّ مائة وسق، وللشيبيين بجادّ مائة وسق، وللأشعريّين بِجَادِّ مِائَةِ وَسْقٍ مِنْ خَيْبَرَ، وَأَوْصَى بِتَنْفِيذِ بَعْثِ أُسَامَةَ، وَأَوْصَى أَنْ لَا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ5. مُرْسَلٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ بِالْيَمَنِ فَلَقِيتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ذَا كَلَاعٍ وَذَا عَمْرٍو، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَا لِي: إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا مَضَى صَاحِبُكَ عَلَى أَجَلِهِ مُنْذُ ثَلَاثٍ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ وَأَقْبَلَا مَعِي، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ رُفِعَ لَنَا رَكْبٌ مِنْ
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "2740" في كتاب الوصايا، باب: الوصايا، ومسلم "1633" في كتاب الوصية، باب: ترك الوصية، وابن ماجه "2696" في كتاب الوصية، باب: هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وأبو نعيم في "الحلية" "6178"، والبيهقي في "الدلائل: " "7/ 227"، ورواية الشيخين دون قوله "قال طلحة ... " إلخ.
2 صحيح: أخرجه البخاري "1870" في كتاب فضل المدينة، باب: حرم المدينة، ومسلم "1370" في كتاب الحج، باب: فضل المدينة.
3 إسناده موضوع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 229-230".
4 موضوع: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 229" وقال: وهو حديث موضوع.
5 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 230".(1/397)
قِبَلِ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلْنَاهُمْ فَقَالُوا: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ صَالِحُونَ، فَقَالَا لِي: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّا قَدْ جِئْنَا وَلَعَلَّنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ سَنَعُودُ، وَرَجَعَا إِلَى الْيَمَنِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
بَابُ: تَرِكَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيِّ أَخِي جُوَيْرِيَةَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ3. "مُسْلِمٌ".
وَقَالَ مِسْعَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: تَسْأَلُونِي عَنْ مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا وَلِيدَةً4.
وَقَالَ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا فِي بَيْتِي إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى ضَجِرْتُ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ، وَلَيْتَنِي لَمْ أَكِلْهُ5. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ6. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَمَّا الْبُرْدُ الَّذِي عِنْدَ الْخُلَفَاءِ آلِ الْعَبَّاسِ، فَقَدْ قَالَ يُونُسُ بن بكير، عن ابن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4359" في كتاب المغازي، باب: ذهاب جرير إلى اليمن، وأحمد "4/ 363-364" والبيهقي في "الدلائل" "7/ 270".
2 صحيح: أخرجه البخاري "2739" في كتاب الدلائل "7/ 270".
3 صحيح: أخرجه مسلم "1635/ 18" في كتاب الوصية، باب: ترك الوصية.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 274".
5 صحيح: أخرجه البخاري "6451" في كتاب الرقاق، باب: فضل الفقر، ومسلم "2973" في أول كتاب الزهد، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 274".
6 صحيح: وقد تقدم.(1/398)
إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَى أَهْلَ أَيْلَةَ بُرْدَهُ مَعَ كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَ لَهُمْ أَمَانًا لَهُمْ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ يَعْنِي السَّفَّاحَ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُبِضَ وَلَهُ برذان في الحفّ يعملان1. هذان مرسلان، والحفّ هِيَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يَلُفُّ عَلَيْهَا الْحَائِكُ وَتُسَمَّى الْمِطْوَاةَ.
وَقَالَ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَهُ جُبَّةُ صُوفٍ فِي الْحِيَاكَةِ2. إِسْنَادُهُ صَالِحٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَفَاطِمَةُ حِينَئِذٍ تَطْلُبُ صَدَقَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ -يَعْنِي مَالَ اللَّهِ- لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى الْمَأْكَلِ"، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ3. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْمُلَبَّدَةَ، فَأَقْسَمَتْ بِاللَّهِ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أنّهم حين قدموا المدينة مقتل الحسين
__________
1 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 279".
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 279".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3092، 3093، 3094" في كتاب فرض الخمس، باب: رقم "1"، ومسلم "1759" في كتاب الجهاد، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة".
4 صحيح: وقد تقدم.(1/399)
لَقِيَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَقَالَ لَهُ: هَلْ لك ليّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هل أنت معطيّ سَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَبْلُغَ نَفْسِي1. اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ2 لَهُمَا قِبَالَانِ، فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
عَدَدُ أَزْوَاجِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَدَخَلَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَقُبِضَ عَنْ تِسْعٍ.
فَأَمَّا اللَّتَانِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ فَأَفْسَدَتْهُمَا النِّسَاءُ فَطَلَّقَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِإِحْدَاهُمَا: إِذَا دَنَا مِنْكِ فَتَمَنَّعِي، فَتَمَنَّعَتْ، فَطَلَّقَهَا، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ قَالَتْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا مَاتَ ابْنُهُ، فَطَلَّقَهَا.
وَخَمْسٌ مِنْهُنَّ مِنْ قُرَيْشٍ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ.
وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيَّةُ. قُبِضَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَؤُلَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ4.
رَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَ قُتَيْلَةَ أُخْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهَا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ منه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3110" في كتاب فرض الخمس، باب: ما ذكر في درع النبي -صلى الله عليه وسلم- "2449/ 95" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة -رضي الله عنها.
2 جرداوين: أي لا شعر عليهما.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3107" في كتاب فرض الخمس، باب: ما ذكر في درع النبي -صلى الله عليه وسلم- والترمذي في "الشمائل" "76".
4 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 289".(1/400)
وقال إبراهيم بن الفضل: حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ تَزَوَّجَ قُتَيْلَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَعْرِضْ لَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَارْتَدَّتْ مَعَ أَخِيهَا فَبَرِئَتْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ1.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَرَوَى عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ: هَلْ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُتَيْلَةَ أُخْتَ الْأَشْعَثِ؟ فَقَالَ: مَا تَزَوَّجَهَا قَطُّ، وَلَا تَزَوَّجَ كِنْدِيَّةً إِلَّا أُخْتَ بَنِي الْجَوْنِ، فَلَمَّا أَتَى بِهَا وَقَدِمَتِ الْمَدِينَةَ نَظَرَ إِلَيْهَا فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا2.
وَيُقَالُ إِنَّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ، اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَطَلَّقَهَا، فَكَانَتْ تَلْقُطُ الْبَعْرَ وَتَقُولُ: أَنَا الشَّقِيَّةُ. تَزَوَّجَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتِّينَ3.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْمَاءَ بِنْتَ كَعْبٍ الْجَوْنِيَّةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا.
وَتَزَوَّجَ عَمْرَةَ بِنْتَ يَزِيدَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
كَذَا قَالَ، وَهَذَا شَيْءٌ مُنْكَرٌ. فَإِنَّ الْفَضْلَ يَصْغُرُ عَنْ ذَلِكَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَمَنِ أَسْمَاءَ بِنْتَ النُّعْمَانِ الْجَوْنِيَّةَ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا دَعَاهَا، فَقَالَتْ: تَعَالَ أَنْتَ، فَطَلَّقَهَا4.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: اسْتَعَاذَتِ الْجَوْنِيَّةُ مِنْهُ، وَقِيلَ لَهَا: "هُوَ أَحْظَى لَكِ
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 320" عن داود بن أبي هند معضلًا.
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 320" بنحوه، والواقدي متروك.
3 إسناده ضعيف جدًّا.
4 مرسل.(1/401)
عِنْدَهُ" وَإِنَّمَا خُدِعَتْ لِمَا رُوِيَ مِنْ جَمَالِهَا وَهَيْئَتِهَا، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَا قَالَتْ لَهُ، فقال: "إِنَّهُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ". وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ1.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اسْتَعَاذَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مُغْضَبًا، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: لَا يَسُوءُكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا أُزَوِّجُكَ مَنْ لَيْسَ دُونَهَا فِي الْجَمَالِ وَالْحَسَبِ؟ فَقَالَ: "مَنْ"? قَالَ: أُخْتِي قُتَيْلَةُ، قَالَ: "قَدْ تَزَوَّجْتُهَا"، فَانْصَرَفَ الْأَشْعَثُ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ثُمَّ حَمَلَهَا، فَبَلَغَهُ وَفَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهَا وَارْتَدَّتْ مَعَهُ2.
وَيُرْوَى عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَ سَنَاءَ بِنْتَ الصَّلْتِ السَّلَمِيَّةَ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا3.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَصِحُّ قَالَ: كَانَ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَنَاءُ بِنْتُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيَّةُ4.
وَبَعَثَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ يَخْطُبُ عَلَيْهِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي عَامِرٍ، يُقَالُ لَهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ، فَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا بَيَاضًا فَطَلَّقَهَا5.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَ مُلَيْكَةَ بِنْتَ كَعْبٍ، وَكَانَتْ تُذْكَرُ بِجَمَالٍ بَارِعٍ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِينَ أَنْ تَنْكِحِي قَاتِلَ أَبِيكِ، فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ، فَطَلَّقَهَا، فجاء قومها فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّهَا صَغِيرَةٌ، وَلَا رَأْيَ لَهَا، وَإِنَّهَا خُدِعَتْ فَارْتَجِعْهَا، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَاسْتَأْذَنُوهُ أَنْ يُزَوِّجُوهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ. وَأَبُوهَا قَتَلَهُ خَالِدٌ يَوْمَ الْفَتْحِ6. وَهَذَا حديث ساقط كالذي
__________
1 مرسل: إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 318".
2 إسناده ضيعف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 320"، وأبو صالح ضعيف، وهشام وأبوه كلاهما متروك.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 321" عن رجل من رهط عبد الله بن خازم السلمي، وفي إسناده هشام الكلبي، وهو متروك.
4 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 317".
5 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 317".
6 معضل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 320".(1/402)
قَبْلَهُ. وَأَوْهَى مِنْهُمَا مَا رَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُنْدَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءٍ الْجُنْدَعِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُلَيْكَةَ بِنْتَ كَعْبٍ اللَّيْثِيِّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَدَخَلَ بِهَا، فَمَاتَتْ عِنْدَهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ1.
وَقَالَ عُقَيْلٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي كِلَابٍ، ثُمَّ فَارَقَهَا2. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: هِيَ الْعَالِيَةُ بِنْتُ ظَبْيَانَ فِيمَا بَلَغَنِي.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: تَزَوَّجَ بِالْعَالِيَةِ بِنْتِ ظَبْيَانَ، فَمَكَثَتْ عِنْدَهُ دَهْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، حَدَّثَنِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ.
رَوَى الْمُفَضَّلُ الْغَلابِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَكَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَوْلَةَ بِنْتَ هُذَيْلٍ الثَّعْلَبِيَّةَ، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ، فَمَاتَتْ فِي الطَّرِيقِ، فَنَكَحَ خَالَتَهَا شَرَافَ بِنْتَ فَضَالَةَ، فَمَاتَتْ فِي الطَّرِيقِ أَيْضًا3.
وَيُرْوَى عَنْ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَدَخَلَ بِهَا، فَرَأَى بِهَا بَيَاضًا مِنْ بَرَصٍ، فَقَالَ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَأَكْمَلَ لَهَا صَدَاقَهَا4.
هَذَا وَنَحْوُهُ إِنَّمَا أَوْرَدْتُهُ لِلتَّعَجُّبِ لَا لِلتَّقْرِيرِ.
وَمِنْ سَرَارِيِّهِ: مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَتْ رَيْحَانَةُ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَكَانَتْ تَحْتَجِبُ فِي أَهْلِهَا، وَتَقُولُ: لَا يَرَانِي أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدَنَا وَكَانَ زَوْجَ رَيْحَانَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَكَمُ. وَهِيَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَحَدَّثَهَا عَاصِمُ بْنُ عبد الله بن
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 320".
2 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "7/ 286" بنحوه.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 326" عن الشرقي بن القطامي بنحوه، وفي إسناده هشام الكلبي، وهو متروك.
4 أخرجه أحمد "3/ 493" من حديث كعب بن زيد أبو زيد بن كعب بنحوه، وإسناده ضعيف. وأما حديث سهل بن سعد فأصله عند البخاري "5256-5257" في كتاب الطلاق، باب: من طلق، دون قول "فرأى بها بياضًا من برص".
5 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في"الطبقات" "4/ 311".(1/403)
الْحَكَمِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَيْحَانَةَ بنت زيد بن عمرو بن خناقة، وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ، قَالَتْ: فَتَزَوَّجَنِي وَأَصْدَقَنِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا1 وَأَعْرَسَ بِي وَقَسَمَ لِي. وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا، تُوُفِّيَتْ مَرْجِعَهُ مِنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ تَزْوِيجُهُ بِهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ2.
وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَتْ رَيْحَانَةُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَسَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَمَاتَتْ عِنْدَهُ3.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَسَرَّ رَيْحَانَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَلَحِقَتْ بِأَهْلِهَا4. قُلْتُ: هَذَا أَشْبَهُ وَأَصَحُّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعُ وَلَائِدَ: مَارِيَةُ، وَرَيْحَانَةُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَجَمِيلَةُ فَكَادَهَا نِسَاؤُهُ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ نَفِيسَةٌ وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} 5 قَالَ: كَانَ نِسَاءٌ وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ وَأَرْجَى بَعْضَهُنَّ، فَلَمْ يُنْكَحْنَ بَعْدَهُ، مِنْهُنَّ أُمُّ شَرِيكٍ، يَعْنِي الدَّوْسِيَّةَ6.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ كَانَتْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً7.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَتْ لَيْلَى بِنْتُ الْخَطِيمِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، قال: قد فعلت، فرجعت
__________
1 النش: نصف الأوقية، والأوقية أربعون درهمًا، فالنش عشرون درهمًا.
2 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 310".
3 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 310".
4 مرسل.
5 سورة الأحزاب: 51.
6 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 323".
7 مرسل.(1/404)
إِلَى قَوْمِهَا فَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: أَنْتِ امْرَأَةٌ غَيْرَى تَغَارِينَ مِنْ نِسَائِهِ فَيَدْعُو عَلَيْكِ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: أَقِلْنِي، قَالَ: "قَدْ أَقَلْتُكِ"1.
وَقَدْ خَطَبَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ، وَضُبَاعَةَ بِنْتَ عَامِرٍ، وَصَفِيَّةَ بِنْتَ بَشَامَةَ وَلَمْ يُقْضَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 321"، وأبو صالح هو باذام ضعيف، وهشام وأبوه كلاهما متروك.(1/405)
محتوى الجزء الأول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من تاريخ الإسلام:
الموضوع:
3 مقدمة المحقق.
7 ترجمة الإمام الذهبي.
13 ثناء أهل العلم عليه.
14 ذكر ما أخذ عليه.
15 ابتلاؤه بفقد بصره.
16 وفاته -رحمه الله.
17 رثائه.
18 منهج التحقيق.
السيرة النبوية:
19 ذكر نسب سيد البشر.
23 مولده المبارك -صلى الله عليه وسلم.
28 أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنتيه.
32 ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ سَطِيحٍ وَخُمُودِ النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان
36 باب منه.
44 ذكر وفاة والده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عبد المطلب.
47 وقد رعى الغنم.
47 سفره مع عمه -إن صح وخبر بحيرى الراهب.(1/407)
51 حرب الفجار.
51 شأن جديجة.
53 حَدِيثُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الحجر الأسود.
61 ومما عصم الله به محمدًا من أمر الجاهلية.
65 ذكر مبعثه -صلى الله عليه وسلم.
72 فَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عنها.
73 ومن معجزاته -صلى الله عليه وسلم.
79 إسلام السابقين الأولين.
84 فَصْلٌ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشِيرَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ مِنْ قومه.
97 شعر أبي طالب في معاداة خصومة.
99 إسلام أبي ذر -رضي الله عنه.
103 إسلام حمزة.
103 إسلام عمر -رضي الله عنه.
111 الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية.
121 إسلام ضماد.
121 إسلام الجن.
125 فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ وَأَقْوَالِ الكهان.
129 انشقاق القمر.(1/408)
132 باب ويسألونك عن الروح.
135 ذِكْرُ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وللمسلمين.
139 ذكر شعب أبي طالب والصحيفة.
142 باب {إنا كفيناك المستهزئين} .
142 دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قريش بالسنة.
144 ذكر الروم.
146 ثُمَّ تُوُفِّيَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ.
154 ذِكْرُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- إلى المسجد الأقصى.
162 ذِكْرُ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى السماء.
181 زَوَاجُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَائِشَةَ وَسَوْدَةَ أمي المؤمنين.
183 عَرْضُ نَفْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى القبائل.
186 حديث سويد بن الصامت.
187 حديث يوم بعاث.
188 ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى.
194 العقبة الثانية.
200 تسمية من شهد العقبة.
203 ذكر أول من هاجر إلى المدينة.
208 سِيَاقُ خُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة مهاجرًا.
225 فَصْلٌ فِي مُعْجِزَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سوى ما مضى في غضون المغازي.(1/409)
233 فَصْلٌ فِي تَسْبِيحِ الْحَصَى فِي يَدِهِ -صَلَّى الله عليه وسلم.
249 بَابٌ مِنْ أَخْبَارِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالكوائن بعد فوقعت كما أخبر.
270 باب جامع منه دلائل النبوة.
272 باب آخر سورة نزلت.
273 باب في النسخ والمحو من الصدور.
274 ذكر صفة النبي -صلى الله عليه وسلم.
288 خاتم النبوة.
290 بَابٌ جَامِعٌ مِنْ صِفَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
292 حَدِيثُ أُمِّ مَعْبَدٍ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
302 بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
307 باب هيبته وجلاله وحبه وشجاته وقوته وفصاحته.
310 بَابُ زُهْدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِذَلِكَ يوزن الزهد وبه يحد.
318 فَصْلٌ مِنْ شَمَائِلِهِ وَأَفْعَالِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
321 بَابٌ مِنَ اجْتِهَادِهِ وَعِبَادَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
322 باب من مُزَاحِهِ وَدَمَاثَةِ أَخْلَاقِهِ الزَّكِيَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
328 باب في ملابسه -صلى الله عليه وسلم.
338 بَابُ خَوَاتِيمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
341 بَابُ نَعْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخفه.
342 بَابُ مُشْطِهِ وَمِكْحَلَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومرآته وقدحه وغير ذلك.(1/410)
343 بَابُ سِلَاحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودوابه وعدته.
351 وَقَدْ سُحِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسم في شواء.
355 بَابُ مَا وُجِدَ مِنْ صُورَةِ نَبِيِّنَا وَصُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بالشام.
362 بَابٌ فِي خَصَائِصِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحديثه أمته بها امتثالًا لأمر الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} .
367 بَابُ مَرَضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
407 فهرس الجزء الأول.(1/411)
المجلد الثاني
أحداث السنة الأولى من الهجرة
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم:
أحداث السَّنَةُ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ:
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ سَمِعُوا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانُوا يَغْدُونَ إِلَى الْحَرَّةِ يَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا، فَأَوْفَى يَهُودِيٌّ عَلَى أُطُمٍ1 فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ الزُّبَيْرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأبا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ. قَالَ: فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ صَاحَ، يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ.
فَتَلَقَّوْهُ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ فَطَفِقَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرِفَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَبِثَ فِي بَنِي عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مَسْجِدَهُمْ. ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَسَارَ حَوْلَهُ النَّاسُ يَمْشُونَ، حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ2. فَدَعَاهُمَا فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَكَانَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ مَعَهُمْ3 وَيَقُولُ:
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ4 خَيْبَرْ ... هذا أبر ربنا وأطهر
__________
1 أطم: بضم أوله وثانيه هو الحصن.
2 مربدا: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وسهل وسهيل: هما ابنا عمرو كانا يتيمين.
3 اللبن: الطوب المعمول من الطين الذي لم يحرق.
4 في "فتح الباري" "7/ 290": هذا حمال -بالحاء: أي المحمول من اللبن.(2/3)
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ1
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ حَدِيثَ الْهِجْرَةِ بِطُولِهِ.
وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ أَنَّ أَنَسَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ. وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَابُّ لَا يُعْرَفُ، فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ, فَيَقُولُ: رَجُلٌ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي طَرِيقَ الْخَيْرِ2.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَانِبَ الْحَرَّةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْأَنْصَارِ، فَجَاءُوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فسلموا عَلَيْهِمَا، وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ. فَرَكِبَا، وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلَاحِ. فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ إِلَى جَانِبِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَيْنَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلةً خَلَت من ربيع الأوّل، فأقام فِي الْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ إِسْحَاقَ: فَقَدِمَ ضُحَى يَوْمِ الإِثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ؛ فِيمَا قِيلَ؛ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ، ثُمَّ ظَعَنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا بِمَنْ مَعَهُ. وَكَانَ مَكَانُ الْمَسْجِدِ؛ فِيمَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ الْمِرْبَدُ لِسَهْلٍ وَسُهيَلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَكَانَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ.
وَغَلَطَ ابْنُ مَنْدَهْ فَقَالَ: كَانَ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ، وَإِنَّمَا ابنا بيضاء من المهاجرين.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "3906" في كتاب: "مناقب الأنصار".
2 وهذا من باب التورية.(2/4)
وَأَسَّسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إِقَامَتِهِ بِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَصَلَّى الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمٍ فِي بَطْنِ الْوَادِي. فَخَرَجَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ: وَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُمْ وَيُقِيمَ فِيهِمْ، فَقَالَ: "خَلُّوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ". وَسَارَ وَالْأَنْصَارُ حَوْلَهُ حَتَّى أَتَى بَنِي بَيَاضَةَ1، فَتَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ فِيهِمْ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ". فَأَتَى دُورَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ؛ وَهُمْ أَخْوَالُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَتَلَقَّاهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَرِجَالٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ وَالْبَقَاءِ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ". وَمَشَى حَتَّى أَتَى دُورَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَبَرَكَتِ النَّاقَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مِرْبَدُ تَمْرٍ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ. وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ وَخِرَبٌ، وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ ظَهْرِهَا، فَقَامَتْ وَمَشَتْ قَلِيلًا، وَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُهَيِّجُهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ فَكَرَّتْ إِلَى مَكَانِهَا وَبَرَكتْ فِيهِ، فَنَزَلَ عَنْهَا. فَأَخَذَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَحْلَهَا فَحَمَلَهُ إِلَى دَارِهِ. وَنَزَلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ. فَلَمْ يَزَلْ سَاكِنًا عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وحُجَرَهُ فِي الْمِرْبَدِ. وَكَانَ قَدْ طَلَبَ شِرَاءَهُ فَأَبَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنْ بَيْعِهِ، وَبَذَلُوهُ لِلَّهِ وَعَوَّضُوا الْيَتِيمَيْنِ. فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ. وَبَنَى عِضَادَتَيْهِ بِالْحِجَارَةِ، وَجَعَلَ سَوَارِيهِ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَسَقَفَهُ بِالْجَرِيدِ. وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حِسْبَةً.
فَمَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِالذُّبَحَةِ. وَكَانَ مِنْ سَادَةِ الْأَنْصَارِ وَمِنْ نُقَبَائِهِمُ الْأَبْرَارِ. وَوَجَدَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجْدًا لِمَوْتِهِ2، وَكَانَ قَدْ كَوَاهُ. وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ بَعْدَهُ نَقِيبًا وَقَالَ: "أَنَا نَقِيبُكُمْ". فَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ.
وَكَانَتْ يَثْرِبُ لَمْ تُمَصَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرًى مُفَرَّقَةً: بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَةٍ، وَهِيَ مِثْلُ الْمَحِلَّةِ، وَهِيَ دَارُ بَنِي فُلَانٍ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ" 3.
وَكَانَ بَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ لَهُمْ دَارٌ، وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كذَلَكِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ، وَسَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" 4.
وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ تُبْنَى الْمَسَاجِدُ فِي الدُّورِ. فَالدَّارُ -كَمَا قُلْنَا- هِيَ الْقَرْيَةُ. وَدَارُ بَنِي عَوْفٍ هِيَ قُبَاءٌ. فَوَقَعَ بِنَاءُ مَسْجِدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً.
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا.
وَآخَى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. ثُمَّ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ. وَأَسْلَمَ الْحَبْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ5، وَأُنَاسٌ مِنَ اليهود، وكفر سائر اليهود.
__________
1 بنو بياضة: بطن من الخزرج من الأزد من القحطانية وهم بنو بياضة بن عامر بن زريق بن عبد الحارثة بن مالك بن غضب من جشم بن الخزرج. "معجم قبائل العرب" "1/ 112".
2 وجد: حزن.
3 أخرجه البخاري في "مناقب الأنصار" "3791".
4 السابق.
5 من كبار علماء اليهود، أسلم وحسن إسلامه، وأنزل الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] .(2/5)
قِصَّةُ إِسْلَامِ ابْنِ سَلامٍ:
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. وَلَقَدْ عَلِمَتْ يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي أَسْلَمْتُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَتَوْا، فَقَالَ لَهُمْ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَيْلَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَأَسْلِمُوا". قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، فَأَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: "فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ"؟ قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: "أَفَرَأَيْتُمْ إن أسلم"؟ قالوا: حاش الله، ما كان ليسلم. قال: "يا بن سَلَّامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ". فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، قَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِأَطْوَلَ مِنْهُ1.
وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ بِقُدُومِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي أَرْضٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 530، 531"، كما أخرجه البخاري بأطول منه كما قال "المصنف" في كتاب "الأنبياء" "3329".(2/6)
يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَّنَةِ؟ وَمَا يَنْزَعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا". قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] . "أمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ, وَأَمَّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حُوتٍ, وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَ إِلَى أُمِّهِ". فَتَشَهَّدَ وَقَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي. فَجَاءُوا، فَقَالَ: "أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ"؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ"؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ. قَالَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَقَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ1، قَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَجِئْتُ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَّنَّةَ بِسَلَامٍ". صَحِيحٌ2.
وَرَوَى أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] ؛ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِالْيَهُودِ فَيُؤْذُونَهُمْ. وَكَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ، فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ الْعَرَبَ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إسرائيل.
__________
1 انجفل الناس؛ أي: أسرعوا ومضوا كلهم.
2 "صحيح": رواه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" "611".
__________
1 انجفل الناس؛ أي: أسرعوا ومضوا كلهم.
2 "صحيح": رواه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" "611".(2/7)
قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ:
قَالَ أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَلَإِ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا فَقَالَ: "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا". قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ فِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَاكَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُمْ، وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ: فَطَفِقَ1 هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَنْقِلُونَ اللَّبِنَ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ مَعَهُمْ:
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَه ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ2
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتَمَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ فِي الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ غير هذه الأبيات. ذكره الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ3.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: ثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ. فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا. وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا. وَغَيَّرَهُ عُثْمَانُ، فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَبِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: ابْنِ بهذا المسجد وزينه، إلى متى
__________
1 طفق: أخذ.
2 تقدم تخريجه قبل قليل.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "3906". قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 291": "وفي الحديث: جواز قول الشعر وأنواعه -يعني: الحسن منه- خصوصا الرجز في الحرب. والتعاون على سائر الأعمال الشاقة، لما فيه من تحريك الهمم وتشجيع النفوس". ا. هـ.(2/8)